فصل: باب: الدعوى على كتاب أبي حنيفة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الدعوى على كتاب أبي حنيفة:

قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار... إلى آخره".
12278- مضمون الباب مسائل أخذها الشافعي من كتب أصحاب أبي حنيفة، وخرّجها على قياس مذهبه، فأودعها المزني هذا الباب.
والمسألة الأولى منها صورتها: أن يأتي خارجيان، وتداعيا داراً في يد إنسان، وأقام كل واحد منهما بينة أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد، ونقد له الثمن، ووفّاه إياه كَمَلاً، مثل أن يقول أحدهما: اشتريت هذه الدار منك بمائة، فسقتها إليك، وقال الآخر: اشتريتها منك بمائتين، ووفّيتك الثمن، وأقام كل واحد منهما بينةً على وفق دعواه.
قال الأئمة: إن كانت البينتان مؤرّختين، واشتملت إحداهما على تقدمٍ في التاريخ، فالحكمُ بها، لأنه إذا صح الشراء المتقدم، وثبت في الزمان السابق، فالشراء الثاني بعده مردود؛ فإن الشراء الأول يثبت بالبينة على صاحب الدار في زمانٍ لا معارضة فيه لتلك البينة، وقد ذكرنا أن الشراء من الخصم إذا ثبت متقدماً، جرى الحكم به، ولسنا نفرعّ هذه المسائل إلا على هذا الأصل.
وإن كانت البينتان مؤرَّختين بتاريخٍ واحد، مصرِّحتين بالتنصيص على وقتٍ واحد، فهما متعارضتان فتتساقطتان على قول التهاتر، فكأَنْ لا بينة، ويحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما سنصف ذلك، إن شاء الله. وهما مستعملتان على القول الثاني.
ثم في كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة: أحدها: قول القرعة. ومعناها أن من خرجت له القرعة من الخصمين، سُلِّمت الدار إليه، وقد ثبت توفيره الثمن، والثاني يستردّ الثمن؛ فإن بينته شهدت له بالشراء والتوفير، ثم جرت القرعة في محل التنازع، وهو ملك الدار، فلزم استعمال البينة في توفير الثمن.
وأما قول الوقف- فمعناه إخراج الدار من يد المدعى عليه، ووقفها بين المدعيين إلى أن يصطلحا، ومن حُكْم الوقف أن يُسترد منه الثمنان، ويعدّلا على يد إنسان حتى ينفصل الأمر.
وأما قول القسمة- فمعناه أن الدار تقسم بين المدعيين نصفين، ويرجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت بينته على توفيته وتوفيره، هذا معنى القسمة.
ثم يتفرع عليه أنه يثبت الخيار لكل واحد منهما؛ من جهة أنه لم يسلم له تمام المبيع، وتبعُّضُ المعقود عليه يُثبت الخيارَ.
12279- هذا كلام على الجملة، وقد فصله القاضي، فقال: إذا صرفنا النصف إلى أحد المشتريين، فرضي به، ولم يفسخ، ورجع بنصف الثمن، ثم لما عرضنا النصف على الثاني أراد الفسخ، فله ذلك، ويطالِب بتمام الثمن.
فلو قال الأول: كنتم لا تسلمون إليّ النصف الثاني لمكان صاحبي، الآن قد فسخ، سلّموا إليّ ذلك النصف أيضاً، وأردّ ما استرددته من الثمن، قال القاضي: لا يُجاب إلى ذلك، فإنه رضي بالنصف، وجرى القضاء به، فلا نُغيِّر ما مضى.
ثم قال: لو عرضنا النصف على أحدهما، فاتفق أن الذي بدأنا به فَسخَ، فقال الثاني: ادفعوا إليّ الدار بتمامها، فهل يُجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يجاب إليه لزوال المنازع في رقبة الدار، وإنما كنا نقسم لاستوائهما في الطلب، والتمسك بالحجة، والآن قد انقطع حق أحدهما، فيجب تسليم الدار إلى الثاني. والوجه الثاني- أنا لا نسلّم إليه إلا النصف؛ فإن مقتضى قول القسمة هذا، فلا مزيد على مقتضى القسمة.
والذي أراه أن الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من فاتحناه، سلمنا الدار إلى الثاني وجهاً واحداً، لأن القسمة ليست معنيّة بعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب والحجة، وقيام النزاع، فإذا زال، وجب التسليم إلى المُطالِب، فإن رضي أول من فاتحناه بالنصف، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الأول وجهان؛ فإن الأول رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال، فطلبه قائم. ثم لا يخفى أن الفاسخ يرجع بتمام الثمن، والذي يسلم له كل الدار، فهو مستوفٍ كمالَ حقه، ومن سُلّم له النصف، فهو راجع إلى نصف الثمن.
وحكى العراقيون قولاً عن الربيع أنا إذا لم نُسقط البينتين، حكمنا بانفساخ العقدين في حق المدَّعِيين؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، والدار تبقى في يد المدعى عليه، ونُلزمه رد الثمنين، وهذا أثر استعمال البينتين، ثم قال العراقيون: هذا من تخريجه، وهو مزيف لا أصل له؛ فإنا إذا استعملنا البينتين، فلا معنى لرفع حكمهما فيما هو المقصود بهما.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين بتاريخ واحد.
12280- فأما إذا كانت البينتان مطلقتين في الشراء، والتفريعُ على قول التهاتر إذا تحقق التناقض، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فمنهم من قال: لا نحكم بالتهاتر؛ فإن صدق البينتين ممكن. فلعل أحدهما اشترى، ثم عادت الدار إلى ملك المدعى عليه، فاشتراها الثاني، فعلى هذا يمكن تقدير الصدق في البينتين، والثاني: أنهما تتهاتران لتعذر تقديم إحداهما على الأخرى، فلا ينفع تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما، وصاحب قول التهاتر يرى القرعةَ، والقسمةَ، والوقفَ متعلقةً بموجب البينتين جميعاً، فإن قلنا بالتهاتر، فتسقط البينتان وكأنْ لا بينة.
وإن لم نحكم بالتهاتر، فعلى هذا الوجه وجهان:
أحدهما: أنا لا نُجري الأقوال الثلاثة التي يُجريها من يقول باستعمال البينتين. والوجه الثاني- أنا نلزم المدعى عليه رد الثمنين؛ فإن هذا لا تناقض فيه بين البينتين، ونسقط البينتين في رقبة الدار. وهذا على التحقيق تهاتر من وجه، واستعمالٌ من وجه، وهو فقيهٌ، لا ينقدح عند المحصلين غيره.
ومما نذكره في هذه الصورة-وهي إذا كانت البينتان مطلقتين- أنا إذا فرعنا على أقولاً الاستعمال، فقد أجرى الأصحاب الأقوالَ الثلاثة على ما فصّلناها.
وكان شيخي يقول: لا أجري قولَ القرعة؛ فإنّ صدق البينتين ممكن، وإنما نُجري قول القرعة لتمييز الكاذبة من الصادقة، فإذا أمكن صدقهما، فلا معنى للقرعة.
وهذا وهمٌ وزلل؛ لأن القرعة لا تميز الصادقة من الكاذبة، بل قد تخرج بفوز الكاذب، وإنما إجراء القرعة لتمييز شخصين مستويين ظاهراً في سبب الاستحقاق.
والله يتولى السرائر.
فصل:
قال: "وإذا أقام بينة أنه اشترى هذا الثوب من فلان... إلى آخره".
12281- صورة المسألة أن نقول: دارٌ في يد ثالث، فجاء رجلان، وادعى أحدهما أن الدار له، وزعم أنه اشتراها من زيد، وكانت ملكَه إلى أن باع، وادعى الآخر الدار لنفسه، وزعم أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، وأقام كلُّ واحد منهما بينة على حسب دعواه، فالبينتان متعارضتان، ولا يخفى التفصيل والتفريع، وغرض هذا الفصل أنهما إذا ربطا دعوى الملك بالشراء من شخصين، فلابد وأن يُثبتا ملكَ البائع منهما حالة العقد؛ فإن صورة الشراء لا توجب الملك ما لم يكن صَدَرُها من مالك.
ولو ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال: بعتَها مني، فلا يشترط أن يقول: بعتَها وأنت تملكها؛ فإن بيعه يقطع سلطانه، وهو مؤاخذ بحكمه وموجبه، فلا حاجة إلى إثبات ملكه، فأما إذا كان المدعي يسند ملكه إلى شخص آخر غير صاحب اليد، فلابد وأن يثبت ملكه المتقدم على البيع. وهذا مقبول منه. وإن لم يكن مستناباً من جهة البائع في إثبات ملكه؛ لأنه يبغي بهذا تصحيح الشراء، فكان كالذي يريد إثبات ملك نفسه.
ولو أقام بينة على الشراء من الشخص الذي عيّنه، ولم يتعرض للملك، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع، قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين وبين أن تشهد بينتان عليهما، وهذا صحيح؛ فإن البينة الشاهدة على ملك البائع. وإن لم تتعرض للشراء، فالغرض به تصحيح الشراء، فلا فرق بين أن تتعدد البينة وبين أن تتّحد.
فصل:
قال: "ولو كان الثوب في يد رجل، فأقام رجلان كل واحد منهما البينةَ أنه ثوبُه، باعه... إلى آخره".
12282- صورة المسألة: ثوب في يد واحد، ادعى رجلان- كل واحد منهما أنه باع منه ذلك الثوب الذي في يده بألف درهم، وعليه ثمنه، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه.
هذه صورة المسألة، ومقصودها يؤول إلى دعوى الثمن، والعين مسلّمة إلى صاحب اليد، فنقول: إذا كانت البينتان مطلقتين، فقال معظم الأصحاب: لا تتهاتر البينتان، قولاً واحداً، ولكل واحد منهما تمامُ الثمن الذي ادعاه؛ فإنَّ صدق البينتين ممكن؛ بتقدير عقدين يتخللهما انتقال الملك إلى الثاني من المدعيين، ثم يُفرض بعد ذلك البيع منه. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من حكم بتهاتر البينتين.
وقد ذكرنا قبل ذلك ادعاء الخارجيين في الشراء، وهذه المسألة مفروضة في البيع، وتقدير التصحيح في العقدين ممكن في الصورتين. ولكن الأصحاب أجرَوْا طريقين في مسألة ادّعاء الشراء كما مضى. وميلُهم الأظهر في مسألة البيع-وهي التي نحن فيها- استعمالُ البينتين. وإن كان من الأصحاب من يُجري قول التهاتر.
وفرّق المحققون بين المسألتين بأن قالوا: المطلوب في هذه المسألة الأخيرة الثمن المتعلق بالذمة، والذمة متسعةٌ للثمنين، وإن أمكن ثبوتهما، ثبتا، والنزاع في مسألة الشراء متعلق بالبيع، وهو عين لا تتسع لتحصيل غرضيهما وتحقيق دعوييهما.
ومن أجرى قول التهاتر في المسألة التي نحن فيها؛ احتج بأنهما ما ادعيا دَيْنين في الذمة مطلقاً، وإنما أسنداه إلى عقدٍ، وذلك العقد مرتبط بعين واحدة.
والتفريع على الأصح، وهو الاستعمال، وهذا فيه دقيقة، وهي أنا إن طرَّقْنا قول التهاتر إلى الواقعة، فموجب التهاتر سقوط البينتين، حتى كأنهما لم تكونا، وإن لم نُجر التهاتر أصلاً، فليس ينقدح إلا إثبات الثمنين، وإن أجرينا التهاتر، وأردنا أن نفرعّ على قول الاستعمال؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نثبت الثمنين، ولا تخرج الأقوال الثلاثة، فينتظم قولان:
أحدهما: سقوط الثمنين، حتى كأنْ لا بينة، والثاني: ثبوت الثمنين.
والوجه الثاني- أنا نُجري الأقوالَ الثلاثة على قول الاستعمال: أحدها: القرعة، فيفوز بالثمن من تخرج قرعته، ويخيب الثاني، والثاني: نقف الخصومة. والثالث: نَقْسم؛ فنصرف إلى كل واحد نصف الثمن الذي يدعيه. وهذه الطريقة-وإن ذكرها الأئمة- ليست بالمرضية، والوجهُ القطع بإثبات الثمنين لا غير، إذا كانت البينتان مطلقتين.
12283- وتكلف أصحابنا تصوير وقوع البينتين على وجه التناقض، فصوروا وقوع مخبر البينتين متعلقاً بوقت واحد، بحيث نعلم أن ذلك التعيين يضيق عن وقوع واقعين، فإذا تأرخت البينتان بتأريخ واحد-على أقصى ما يمكن فرضه من تحقيق التضييق- فالبينتان متكافئتان، مثل أن تتعرض كل واحدة لتأقيت لفظ الشراء عند بدوّ أول قرصة الشمس، ثم أجروا في هذه الحالة قولي التهاتر والاستعمال، وتفريع الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال. ثم ذكروا اعتراضَ المزني في البينتين المطلقتين في هذه الصورة، ومصيرَه إلى ثبوت الثمنين. فلم يعتذروا عنه لتوجهه إلا بأن قالوا: صورةُ قولي التهاتر والاستعمال في تأريخ البينتين بتأريخ واحد.
وهذا وإن أمكن ذكره فتصويره واقعة يفتى فيها عسيرٌ عندي؛ فإنّ رد الأمر إلى وقت، لا يتصور فيه ترتب كلمتين ممّا لا يدخل دَرْكُه تحتَ القوة البشرية.
نعم، يمكن ذكره، كما يقال: فعلٌ واحد، ووقت واحد لا ينقسم، وجوهر فرد لا يتجزأ، كل ذلك لا يمتنع فيها الذكر والنفي والإثبات، ولكن لا يُحَسّ في مطّرد العادة قط.
ولو تُصوّر هذا، لتصوّر أن يقال: إذا قامت بينةٌ على رجل بإقرارٍ مضافٍ إلى وقتٍ معين على أقصى ما يمكن التصوير فيه، فمِنْ دَفْع هذه البينة أن يقول المشهود عليه: كنتُ أُسبّح في الوقت الذي عيّنته بينةُ الإقرار، ولا يجتمع قولان في وقت، فيقيم البينةَ على ذلك، فيكون قادحاً في بينة الإقرار. نعم، لأصحابنا تردد في شيء نشير إليه، وهو أنهم قالوا: إذا شهدت بينةٌ على قول أو فعل، وعينت للمخبر عنه وقتاً معيناً، وشهدت بينة أخرى في ذلك الوقت بعينه على عدم ذلك الفعل وانتفاء ذلك القول، فهذه شهادة على النفي، ولكنْ هي على وجه يمكن تقدير العلم فيها بالنفي.
وقد اختلف أصحابنا في قبول مثلِ ذلك. فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة مردودة لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات.
ومنهم من سمع مثلَ هذه إذا أمكن إسنادها إلى علم. وقد يعضد هذا القائل ما صار إليه بربط الشهادة بما يناقض القول والفعل، بأن يقول الشاهد: كان ساكناً في ذلك الوقت عن الفعل، أو ساكتاً عن القول، والسكون والسكوت يضادان الفعل والقول.
12284- فإذا تبين ما ذكرناه، رجعنا بعده إلى تأرخ البينتين بتأريخ واحد في مسألة الشراء. فنقول: الوقت الواحد لا يتعين، فإن تلقي الأصحاب التناقض من العلم بانتفاء أحد القولين، كما حكينا خلاف الأصحاب فيه، فهذا مما يتصور وقوعه، ثم تربط كلُّ بينة شهادتَها بإثبات ما تذكر ونفي ما عداه في ذلك الوقت؛ فإن القولين يتضادان كما يتضاد السكوت والقول، ومراقبة الإنسان ليعلم أنه ليس قائلاً داخلٌ في الإمكان، سيما إذا كان القول المدعى مُظهَراً متعلقاً بمخاطَب يحضر. ودرك حضوره كدرك غيبته. فهذا وجه تصوير التناقض.
فصل:
قال: "ولو أقام رجل بينةً أنه اشترى منه هذا العبد... إلى آخره".
إذا كان في يد إنسان عبد، فجاء رجل، وادعى أن المولى باع ذلك العبدَ منه، وادعى العبدُ أن مولاه أعتقه، وأقام كل واحد بينة على وفق دعواه، فإن تأرخت البينتان، وتعرضت كل واحدة منهما لذكر تاريخ، نُظر، فإن تقدم أحد التاريخين وتأخر الثاني، نفذ ما تأرخ بالتاريخ المتقدم.
وإن عيّنت البينتان وقتاً واحداً-وإمكان تصويره على ما ذكرناه على القرب- فالبينتان متعارضتان، فإن حكمنا بتساقطهما، فكأنْ لا بينة، والقول قول صاحب اليد في العبد مع يمينه، ولا يخفى حكم الحلف، والنكول، والرد، وإن حكمنا بالاستعمال، جرت الأقوال الثلاثة: القرعة، وقد اممدها صاحب التقريب، لاشتمال الواقعة على العتق-وهو مورد الخبر في القرعة- والوقفُ جارٍ، ولا يخفى تصويره، والقسمة جارية أيضاً، فيحكم لمن يدعي الابتياع بالملك في نصفه، ويحكم بالحرية في نصف العبد.
ثم الذي ذهب إليه الأصحاب أن المحكوم عليه بالعتق صاحب اليد، فإذا نفذ الحكم عليه بالعتق في نصف العبد، وكان موسراً، لم نقض بسريان العتق إلى النصف الآخر المحكوم به لمدعي الشراء؛ لأن هذا عتق ثابت قهراً، وإنما يسري العتق إذا اقترن باختيار المعتِق.
وذكر العراقيون في ذلك قولين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أن العتق يسري إذا كان صاحب اليد موسراً، فيكمل العتق في العبد، ويغرم صاحب اليد لمدعي الشراء قيمةَ النصف. ووجه هذا القول أن البينة كما شهدت بإعتاق هذا العبد، شهدت باختياره في الإعتاق؛ فيجب الحكم عليه بموجب الاختيار، وهذا متجه، والمسألة محتملة.
ثم اعترض المزني وقال يجب تقديم بينة العتق؛ لأن العبد ادعى العتقَ، وهو في يد نفسه، فكان مع من يدعي شراءه بمثابة متداعيين وأحدهما صاحب اليد، فالعبد إذاً كالداخل ومدعي الشراء كالخارج.
وهذا الذي ذكره مزيف؛ فإن العبد في يد مولاه، ولا يد له على نفسه، وإنما تثبت له اليد على نفسه إذا عَتَق، فكأنه في التحقيق يدعي يداً والخصم ينكره.
12285- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين على التضييق في التعيين، فأما إذا كانتا مطلقتين، فقد أجراهما الأصحاب على التهاتر والاستعمال؛ فإن العتق ينافي نفوذُه نفوذَ الشراء، والشراء لو ثبت- نافى نفوذَ العتق، ولو صور مصوّرٌ تقدم الشراء وعَوْد الملك، ثم توجيه العتق، فهذا تكلف لا فائدة فيه؛ فإن من يدعي الشراء يدّعي دوام ملكه، وما ذكرناه من التصوير ينافي ذلك، وهذا بيّن.
ومن أصحابنا من قال: إذا أردنا إجراء قول التهاتر، فيجب التعرض لاشتمال البينتين على تاريخ واحد، كما ذكرنا ذلك في النظائر السابقة. وإذا نبهنا على مثل ذلك، كفى، وقد تكرر مثله في نظائره.
فصل:
قال: "ولا أقبل أن هذه الجارية بنت أمته... إلى آخره".
12286- هذا الفصل قد تخبط الأصحاب فيه، واشتهر كلامهم في الطرق، وحاد معظمهم عن المسلك الحق حَيْداً يُلحق ما قالوا بالوهم والزلل الذي لا يجوز عدّ مثله من المذهب، ولكن لو تركنا ما اشتهر ذكره نقلاً، لكان ذلك إخلالاً بالنقل، فالوجه أن نأتي بما ذكروه على وجهه، ثم نطرد بعد نجازه الحقّ الذي لا يجوز غيره.
فنقول: إذا كان في يد إنسان جارية، فجاء مدعٍ، وأقام بيّنةً على أن هذه الجارية بنتُ أمته، ولدتْها في ملكه، أو علقت بها في ملكه، قالوا: نحكم للمدعي بملك هذه الجارية.
وإن أقام بينةً على أنها بنتُ أمته، واقتصرت البينة على ذلك، لم تسمع البينة في الجديد.
وخرّج الأصحاب فيه قولاً أن البينة مسموعة، والملكُ يثبت للمدعي في الجارية المدّعاة، وهذا خرّجوه من القول القديم فيه إذا أقام المدعي بينة على أن ما يدّعيه كان ملكاً له بالأمس؛ لأن قوله: "هذه بنت أمتي " يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت؛ فقيل لهؤلاء: الجارية قد تلد ولداً ليس ملكاً لرب الجارية، فلم يزيدوا في الجواب على أن قالوا: الظاهر أن البنت إذا كانت مملوكة، فهو ملك مالك الأم، ونحن نكتفي بالظواهر في الأملاك.
وكل ما ذكرناه تخليط لا حاصل له، ولا اعتماد عليه.
12287- والمسلك الحق أن نقول: إذا كان في يد رجل وصيف أو وصيفة، فجاء مدعٍ، وقال: هذا ولد أمتي. واقتصر على ذلك، فلا نقبل دعواه، ولا نسمع بينة على هذا المقدار؛ فإنه لم يدّع ملكاً وحقاً، إذ قد تلد أمتُه في غير ملكه، وفي غير يده، على معنى أن أمتي ولدته قبل أن ملكتُ أمتي، وقبل أن تثبت يدي عليها.
ولو قال: ولدته أمتي في ملكي، فقوله " في ملكي " محتمل، فإن أراد به ولدته والولد في ملكي؛ فقد ادعى ملكَ الولد، ولكن لم يدّع ملكَ الولد الآن، وإنما ادعى ملكَه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال، فهذا يخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق.
وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسّر ذلك بكون الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، والولد لغيره، ويتصور ذلك في الوصية، وقد يكون الولد حراً، فليس فيما ذكره دعوى ملك في الولد، ولكنه ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدأ في زمان سابق، فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة كما جريا في الملك.
وقد يخطُر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمها، أو هو ثابت له بلا نزاع، فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جاريةً حاملاً، فإنه يكون مدعياً بحملها أيضاً، وهذا فقيه، ولكن ذكرنا فيه احتمالاَّ، وهذه الصورة تتميز عن تيك من جهة أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة. وفي التي تقدمت وجّه الدعوى على الأم، فتبع الولد. ثم ليس تخلو المسألة عن ادعاء الملك فيما مضى، وإن ادعى الملك في الحال أغنانا عن كل هذا التفصيل، واعتمدنا دعواه في الملك الناجز.
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. ومن اطلع عليه لم يسترب في أن ما عداه وهم.
فصل:
قال: "ولو كان في يديه صبي صغير يقول هو عبدي، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم... إلى آخره".
12288- إذا كان في يد الإنسان شخصٌ بالغ، وكان يصرِّفه كما يشاء، ويستصغره استصغار العبيد، على وجهٍ يغلِّب على الظن أن الأحرار لا يُستصغرون كذلك، فإذا قال: هو ملكي، وقال ذلك الشخص: أنا حر أصلي، فالقول قول ذلك الشخص، لم يختلف الأصحاب فيه، وإن تداولته الأيدي، وجرى عليه البيع والشراء؛ لأن ظاهر الدار الحرية، والأصل في الناس الحرية، ومن يدعيها، فهو مستمسك بالأصل والظاهر.
فإن قيل: أليس تصرف المُلاّك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك؟ وقد اجتمعا في هذه المسألة.
قلنا: إنما تدلّ اليد والتصرف على تعيين المالك، مع كون الشيء مملوكاً، فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف، وعدمِ النكير عليه تعيّنُه من بين الناس، وليس ْمع من يدّعي الملك فيه أصل يعتضد به. فأما أصل الملك، فلا يثبت بظاهر التصرف، وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الظاهر والأصل، فالتعويل على الأصل، فلئن قيل: الحر لا يصرّف كذلك، قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد؛ فلا تعويل على ذلك. فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه وإن لم يُبد ذلك الشخص إقراراً بالرق؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى.
ونحن نذكر في ذلك أصلاً، فنقول: لا يشترط في نفوذ التصرف فيما الأصل فيه الملك المقدارُ الذي يدل على الملك؛ فإن دلالة الملك لا تثبت إلا بدوام اليد وتصرفاتٍ، مع فرض انتشارٍ وعدم إنكار، وقد يشترط مع ذلك شيوعُ تفاوض الناس بنسبته إلى ملكه. وهذا لا يشترط في الحكم بنفوذ تصرف المتصرف ظاهراً؛ فإن من فاجأناه يبيع شيئاً من يده، نفذنا بيعه، وكأنّ المكتفى به في تنفيذ البيع يدُ الداخل في الدعاوى، ومن صادفنا شيئاً في يده حالة الدعوى عليه، جعلنا القول قوله مع يمينه.
فإذا تبيّن ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فنقول: يد الدعوى لا ثبات لها إذا كان الشخص يدعي الحرية الأصلية، فلو تصرف، فلا مستند لتصرفه؛ وعن هذا شرط شارطون إقرار ذلك الشخص بالرق.
ومن أصحابنا من لم يشترط، وإن كان لو أظهر الحرية ودعواها، لكان القول قوله. وكل ذلك في شخص لم نعهده صغيراً في يد إنسان.
12289- فأما إذا رأينا صغيراً في يد إنسان، وكان يدعي رقه ويستعبده، فقوله مقبول إذا لم يكن للصبي نطق، فالحكم بالرق نافذ في الظاهر، واليد ثابتة، وهذا فيه إذا كان لا يعقل عَقْلَ مثله، فإن بلغ مبلغ التمييز، وعقل عَقْلَ مثله، وادعى أنه حر، ذكر أصحابنا وجهين في قبول قوله:
أحدهما: أنه لا يقبل؛ إذ لا حكم لقول الصبي، والثاني: يقبل؛ لأنه قال ما قال عن فهم، وهو خير كله ليس فيه توقع ضرار، وأصل الناس على الحرية، وهو ظاهر الدار.
قال القفال: الوجهان مأخوذان من إسلام الصبي؛ من جهة أن الحرية لا ضرر فيها في أصل الوضع، وإن كان يتعلق بها التزامات، فكان ادعاؤه الحرية بمثابة إخباره عن الإسلام، ثم جرى الوجهان مأخوذين من قول الشافعي؛ فأنه قال: "فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " فمن أصحابنا من قال: أراد إذا لم يدّع الحرية. ومنهم من قال: أراد أنه كالثوب من جهة أنه لا كلام له شرعاً، كما أن الثوب لا كلام له حساًَ.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: "لا يقبلُ قولُه"، وكان لا يعقل عقل مثله، فبلغ، وادعى أنه حر الأصل، فهل يقبل قوله الآن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا بالرق وثبوت الملك، فلا ننقض حكمَنا السابق.
والثاني: يقبل، وهو القياس.
وبنى الأصحاب هذا على ما إذا حكمنا بإسلام الصبي تبعاً للسابي، أو الدار، أو الإسلام الطارىء من أحد الأبوين، فإذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مسلم ارتد، أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ذكرناهما على أبلغ وجه في البيان في كتاب اللقيط.
ومما يليق بتمام البيان فيه أنه إذا كان يصرِّف الصغيرَ، ولا يدّعي رقَّه، ولم يتصرف فيه تصرفاً يستدعي الملك: فمن أصحابنا من قال: لا يُحكم برقه، والحالة هذه.
حتى إذا بلغ وادعى الحرية قُبل مذهباً واحداً، وهذا متجه. ومنهم من قال: هذا بمثابة ما لو ادعى الرق، أو تصرف تصرفاً يستدعي الملك.
فصل:
قال: "وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها... إلى آخره".
12290- إذا كان في يد رجل دار، فجاء إنسان وادعى أن نصف تلك الدار له، وجاء آخر وادعى أن كلّ الدار له، وصاحب اليد ساكت، وأقام كل واحد من المدعيين بينة على وفق دعواه، فبينة صاحب الكل في النصف لا معارِض لها، فقد نُطلق ونقول: يثبت له النصف، والبينتان متعارضتان في النصف الثاني، فإن قلنا: بالتساقط، سقطت بينة صاحب الكل في النصف، وهل تثبت في النصف الثاني، فعلى قولين مبنيين على أن الشهادة إذا رُدّ بعضها، فهل يُردّ باقيها؟ إذا كان الباقي بحيث لو انفرد بالذكر، لقبلت البينة فيه، وفي ذلك قولان أجرينا ذكرهما.
فإن قلنا: لا تتبعض البينة، وإذا بطل بعضها، بطل كلها، فتسقط بينة صاحب الكل في الكل.
وإن قلنا بالتبعيض، سقطت بينته في النصف، وسقطت بينة صاحبه، وخلص لصاحب الكل النصفُ.
وإن قلنا باستعمال البينتين، خرجت الأقوال. فإن قلنا بالقرعة، أقرع بينهما، فإن خرجت القرعة لصاحب النصف، قضي له بالنصف وقضي لصاحب الكل بالنصف. وإن خرجت قرعة صاحب الكل، قضي له بجملة الدار.
وإن قلنا بالوقف، سلم النصف لصاحب الكل، ووقف النصف إلى أن يصطلحا.
وإن قلنا بالقسمة، سُلم النصف كما ذكرنا، وقُسم النصف الآخر بينهما، فيحصل لصاحب الكل ثلاثة أرباع الدار، وفي يد صاحب النصف ربع الدار.
فرع:
12291- إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة، فأقر المدعى عليه لأحدهما بعد قيام البينتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: فمنهم من قال: لا حكم لإقراره؛ فإن يده تناهى ضعفها، فلا حكم لإقراره بعد استحقاق إزالتها. ومنهم من قال: تترجح بينة المقر له، وهذا تفريع على استعمال البينتين؛ فإنا إذا قلنا بالتهاتر والتساقط، فلا بينة في الواقعة، واليد قائمة والإقرار صادر عن يد ثابتة، فجرى الحكم بها، فأما إذا قلنا بالاستعمال، فمن أصحابنا من يجعل الإقرار ترجيحاً، فيصير المقَرّ له بمثابة. صاحب يد. ومنهم من يقول: سقط سلطان المدعى عليه بعد قيام البينتين، واستحق انتزاع الدار من يده على حكم الوقف، أو القرعة، أو القسمة، فلا تُغيّر هذه الأحكام بإقراره.
فأما إذا ادعيا، فأقر لأحدهما قبل أن يقيمَ البينة، فقد صار المقر له صاحبَ يد، وانصرفت الخصومة إليه، وهذا بعينه هو الذي تقدم ذكره إذا أقر المدعى عليه لحاضر فصدّقه المقر له.
فصل:
قال: "وإذا كانت الدار في يد ثلاثة، وادعى أحدهما النصف... إلى آخره".
12292- إذا صادفنا داراً في أيدي ثلاثة، فادعى واحد نصفها، وواحد ثلثها، وواحد سدسها، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه، أما صاحب الثلث، فيقضى له بالثلث، فإنه ادعى المقدار الذي تثبت يده عليه، وأما صاحب السدس، فيثبت له السدس لا شك فيه؛ فإنه أقل مما تثبت يده عليه، وأما صاحب النصف، فيسلم له الثلث لا محالة لاجتماع يده وبينته، ويبقى الكلام في سدس هو يتفرد بدعواه.
فإن أقر الذي يدعي السدس أن السدس الآخر الذي في يده لصاحب النصف، فيخلص له النصف، وإن أنكر صاحب السدس ذلك، وزعم أنه لغائب في يده مثلاً، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك السدس يسلّم لمدعي النصف؛ فإنه قد أقام البينة عليه، وما عارضت بينته في ذلك بينة.
والوجه الثاني- أنه يأخذ نصف السدس؛ فإنه ادعى سدساً مشاعاً في الدار، وليس يدعي على صاحب السدس جميع ذلك السدس، وإنما يدعيه على صاحب الثلث والسدس، ودعواه فيما هو في يد صاحب الثلث مردودة، فإن فيه البينة واليد، فيبقى نصف السدس الآخر، وهو في يد صاحب السدس لا يدعيه لنفسه، فيسلِّم للمدعي نصفَ السدس، وهذا حسن. ذكره صاحب التقريب والعراقيون.
فرع:
12293- إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وقال كل واحد منهما: غصبتَ هذه الدار مني، فلو أقر المدعى عليه لأحدهما وعيّنه، فقد مضى القول في هذا مستقصىً.
وغرض الفرع أن صاحب اليد إذا قال: الدار لأحدكما، ولا أدري ممن غصبتها منكما، فأول ما نذكره في ذلك أن الدار تخرج من يده، وبمثله لو قال: الدار في يدي لواحد من الناس، غصبتها منه، ولم يعين أحداً، فهل يُخرج القاضي الدارَ من يده أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يُخرجها من يده ويحفظها كما يحفظ كلَّ مال ضائع.
والثاني: لا يخرج الدار من يده، ولا حكم لإقراره على هذا الوجه.
فعلى هذا؛ لو أقر وأبهم، ثم قال: غلطت! فهل يقبل رجوعه؟ فعلى وجهين-مأخوذين من الخلاف في إزالة يده- فإن لم نر إزالة يده، فلا حكم لإقراره، ولا أثر لرجوعه، وكأنه لم يقر، وإن قلنا: تزال يده، فلا يقبل رجوعه، فالرجوع إذاً بين أن يلغو من حيث لا حاجة إليه، وبين أن لا يقبل لتأكد الإقرار.
وإذا قال المدعى عليه في مسألتنا: غصبتُ الدار من أحدكما، ثم رام رجوعاً عن أصل الإقرار، لم يقبل منه ذلك، والفرق أن المقر له منحصر، والطلب متوجه منهما، وإذا طالباه، فقد طالبه من أقر له، فلا يتصور والحالة هذه الرجوع.
وقد ذكرنا أن الدار تخرج من يده وجهاً واحداً، ثم تتوجه الدعوى منهما عليه، وكل واحد يخاصمه وحده، ويقول: غصبت مني، ويطالبه باليمين، وهي على البتّ أم على نفي العلم؟ ذكر الشيخ أبو علي في ذلك قولين مبنيين على أنه لو نكل عن اليمين في حقهما، فهل يغرم لكل واحد منهما نصفَ القيمة، وفيه القولان المشهوران. فإن قلنا: إنه يغرَم، فيحلف على البت؛ فإنه يمين ينفي بها فعل نفسه، والنكول عنها يثبت مالاً عليه، فيطالبه كل واحد بأن يحلف: ما غصبت منك قطعاً، فإن نكل، رُدَّت اليمين على خصمه.
وإن قلنا: إنه وإن نكل عن اليمين وحلفا، لا يلتزم شيئاً، فلا يطالب بيمين البتّ، بل يحلف على نفي العلم، كما لو كان في يد الرجل وديعة، فقال: لست أدري أنها وديعة لزيد أو لعمرو، فيحلف على نفي العلم، وقد ذكرتُ مسألة الوديعة في كتابها، والجامعُ أن الغاصب ليس يغرَم على وجهٍ كما لا يغرم المودَع، ثم المودَع لا يحلف على البت، فكذلك الغاصب في مسألتنا. هذه طريقة.
ويتجه عندنا أن يطالَب بالقطع في اليمين، ثم لو نكل، لم يلزمه شيء، لأنه يحلف على فعل نفسه، فلتكن يمينه على البتّ.
وإذا كان النكول لا يُلزمه شيئاً، ولا يثبت عليه مرجعاً، فلا ينبغي أن يترك قياس الأيمان من غير غرض.
12294- ولكن يدخل في هذا شيء سننبه عليه في آخر الفرع.
فلو عُرضت اليمين عليه، فحلف في حقهما جميعاًعلى البت، وقد سبق منه الإقرار لأحدهما مجملاً، فَحَلِفُه على البت في حقهما لا يبطل إقرارَه الأول، وتكون الدار موقوفة للمدعيَيْن. وهذا مشكل؛ فإنه لو حلف على البتّ في حق الأول، يجب أن يكون هذا تعييناً منه للثاني؛ وهذا لا يتجه فيه جواب؛ فإن من أبهم، ثم عيّن، قُبل التعيين منه، وكان تعيينه بعد الإبهام غير منافٍ لما تقدم، والمتردّد إذا تثبت، لم يبعد ذلك، فالوجه القطع بما ذكرناه.
فإن قال قائل: إذا كنا نلزمه الغرم لو لم يحلف على البت، فهو مدفوع إلى الحلف، قلنا: هذا أغمض من الأول، فإنا إذا حملناه على البتّ، فقد أمرناه بأن يحلف كاذباً، وتكليف اليمين الفاجرة لا وجه له.
ثم إذا كان يرى أني أحلف حتى لا أغرم، أو كنا نعرض عليه، ونبين له ذلك، فهذا في حكم التواضع والتواطؤ على صورة اليمين، وليس ذلك على الصيغ المعلومة في الأيمان، فالوجه أن نفرعّ على أنه يحلف على نفي العلم، ثم نقول: إذا حلف كذلك، فالدار موقوفة بين الخصمين.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقف؛ فمنهم من قال: موقوفة إلى أن يصطلحا على تراضٍ، ولا تقسم الدار بينهما نصفين، بخلاف ما لو تنازعا داراً-والدار في أيديهما- وتحالفا، فيثبت لكل واحد منهما نصفُ الدار في يده، والفرق أن كل واحد منهما مستمسك بيده في نصف الدار، وهاهنا لم تثبت اليد لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: الدار بينهما بمثابة الدار في يدي رجلين إذا تداعياها وتحالفا؛ فإن الحق لا يعدوهما، فهو كما لو كانت الدار في أيديهما، ثم لا فرق بين أن يحلف المدعى عليه وبين أن ينكُل ويحلفا أو ينكلا.
ومهما استوت الخصومة، وهما متساويان، فما ذكرناه من التردد قائم في كيفية الوقف، وإذا قامت بينتان متضادتان على عين، إذا رأينا استعمالَهما، ففي كيفية الاستعمال الأقوال: أحدها: القرعة. فلم يُجْر أحد من الأصحاب القرعة في التحالف في الدار، ولا فيما نحن فيه، مع عموم القرعة وجريانها في كل خصومة، والسبب فيه أن القرعة إنما أجراها من رآها عند التمسك بنهاية الحجة، وليس وراء البينة حجة تُرقب، فإذا عسُر فصل الخصومة معها، اتجهت القرعة، واليمين ليست نهاية الحجة، إذ نَرقُب البينةَ بعدها.
وهذا الذي ذكرناه خيالٌ؛ فإن أصل القول بالقرعة باطل، والقول الثاني في الاستعمال القسمةُ، والثالث الوقفُ.
وعندي أن ما ذكرناه من التردد في أن هذا بينهما على حكم القسمة، أو على حكم الوقف إلى الاصطلاح، هو القولان القسمة والوقف، فكأنّ التحالف في المال المتنازع يخرج فيه قولُ القسمة والوقف، ولا يخرج فيه قول القرعة.
وإذا تنازعا والدار في أيديهما، فليس ما ذكرناه قسمة، ولكن قررنا كلَّ واحد على ما في يده. هذا ما أردناه.
فرع:
12295- إذا ادعى رجل على رجل جاريةً في يده، وأنكر المدعى عليه، فحلفناه، فنكل، فرددنا اليمين على المدعي، فحلف يمينَ الرد، وسلمنا الجارية إليه، فوطئها وأحبلها وأتت منه بولد، ولحقه الولد في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: قد كذبت في دعواي ويميني، والجارية ليست لي!
قال الأصحاب: لا سبيل إلى رد الجارية على المدعى عليه؛ فإنه قد ثبت ظاهراً كونها مستولدة، وثبت أيضاً حرية الولد، فلا يقبل قوله في إبطال الاستيلاد، وإبطال حرية الولد، ولكن يغرم للمدعى عليه قيمةَ الجارية وقيمةَ الولد؛ فإنه فوّت الرد فيهما بسببٍ لا مُستدرك له ويحرم عليه وطء هذه وقِربانها على حكم الاستيلاد، ويلتزم مهر مثلها أيضاً. قال الشيخ: هذا إذا ادعت الجارية ثبوت الاستيلاد، أو لم تدّعه، ولم تنفه.
فأما إذا كذّب المدعي نفسه، كما ذكرناه، ووافقته الجارية، وقالت: إنما أنا ملك المدعى عليه، ولم يثبت الاستيلاد فيّ، فهل تُردُّ الجاريةُ على المدعَى عليه؟ ذكر الشيخ فيه وجهين:
أحدهما: نردها؛ فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية وقد أقر، وهذا لا أصل له. والوجه الثاني-وهو الذي يجب القطع به- أن الاستيلاد لا يزول؛ من جهة أنه لزم وتأكدت عُلقة الحرية، فلا سبيل لهما إلى إبطالها، وأما الولد، فالحرية فيه لا ترتد وفاقاً.
فرع:
12296- قال الشيخ: من اشترى داراً، وقبضها، فجاء إنسان وادعاها، وأقام البينةَ عليها، وانتزع الدار من يد المشتري، لما ثبت استحقاقُه، فهل يرجع المشتري بالثمن على البائع؟ نُظر: فإن لم يقل المشتري الدار لي، وكانت لمن باعها مني، ولكنه ردد قولَه، ولم يصرح بذلك، فإذا ثبت الاستحقاقُ، رجع إلى البائع، ولو قال صريحاً: هذه الدار لي، ملكتُها، فهذا إقرار منه للبائع بالملك، فإذا قامت عليه البينة، فهل يرجع بالثمن؟ ذكر وجهين:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنه يؤاخذ بإقراره، وكان يمكنه أن لا يصرح بادعاء الملك، والثاني: أنه يرجع، فإنه أقر لظاهر الحال، فلما قامت البينة جُعل كأن الإقرار لم يكن.
وكان شيخي يقطع بهذا، وإليه ميل المفتين.
12297- ثم قال الشيخ: لو اشترى جاريةً بالغة، فادعت في يده أنها حرة الأصل، ولم يثبت عليها الرق بإقرارها، ولا ببينة تشهد، ولم تُعهد مسترقَّة في الصغر، فالقول قولها. وهذا مما مهدناه.
فإذا ادعت الحريةَ وصدقناها مع يمينها، فالمشتري هل يرجع بقيمتها على البائع؟ نظر؛ فإن لم يصرح بكونها مملوكة عند التفاوض في الخصومة، فيرجع بثمنها على البائع، وإن قال في الخصومة: أنت مملوكة، ثم حلفتْ، قال: فلا يرجع على البائع لإقراره بالملك، وقطع القول به.
ولا فرق عندنا بين هذه المسألة وبين مسألة المشتري؛ والفرق إن أمكن، فوجهه أن من اشترى داراً من يد إنسان، فالظاهر الملك، والإقرار بالملك مبني على هذا الظاهر، وصاحبه مقر بالملك بناء على الظاهر، فعُذِر إذا بأن خلاف الظاهر، وقُبل منه قوله: إنما أقررت لأني ظننت أن البائع مالك بحكم يده وتصرفه، فأما في الجارية، فلا ظاهر يعتمد في ثبوت رقها، فإذا قال المشتري: إنها رقيقة حُمل ذلك على تثبت منه، لا على الظاهر.
ولا بأس بهذا الفرق، والأولى إجراء الخلاف في المسألتين.
فصل:
12298- ذكر الشيخ في شرح الفروع مسائل، سبق بعضها في الوصايا، ولكنا نعيدها للزوائد فيها.
فمنها: أن رجلاً لو مات وخفف ابناً لا وارث له سواه، وخلف عبداً قيمته ألف، لم يخلف سواه، فجاء إنسان وادعى أن أباه أوصى له بثلث ماله، وجاء آخر، وادعى أن له على أبيه ألف درهم، فصدّقهما معاً، ولم يقدّم أحدهما في التصديق على الثاني.
قال ابن الحداد ومعظم الأئمة في هذه المسألة: صاحب الدَّيْن يضرب في العبد بألف درهم، وصاحب الوصية يضرب فيه بثُلث الألف، فنزيد على الألف ثُلثَه عولاً، فيصير الثلث ربعاً، ويقسم العبد بين الوصية والدين أرباعاً.
فإن قيل: أليس الدينُ مقدماً على الوصية؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن الدين ثبت بإقرار الوارث، والوصية ثبتت بإقراره، والمسألة مفروضة فيه إذا كان صاحب الوصية يكذّب مدعي الدين ومستحق الدين يكذّب مدّعي الوصية.
وحكى الشيخ وجهاً غريباً، أنه إذا صدقهما جميعاً، فيصرف تمام العبد إلى الدين وتسقط الوصية. وهذا غريب. والمذهب ما قدمناه؛ إذ لا خلاف أنه لو أقر بالوصية أولاً، ثم أقر بالدين بعد ذلك، وتكاذب صاحب الوصية والدين فالوصية بكمالها تثبت للمقر له، لما ذكرناه، من أن جهة ثبوت الوصية والدين الإقرارُ، والإقرار السابق يتضمن ثبوت الوصية بكمالها، وصاحب الوصية مكذِّب لصاحب الدين، فقدِّمت الوصية، ثم يصرف الثلثان إلى الدين.
ولو أقر بالدين أولاً، ثم أقر بالوصية، فالوصية مردودة، والدين متقدم؛ لأنه مقدم شرعاً، وقد قدّمه المقر ذكراً، وإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا أقر بهما معاً من غير فرض تقدم وتأخر، هذا ما ذكره الأصحاب.
ثم في المسألة بقيةٌ، وذلك أنا نقول: إذا قدم الإقرارَ بالوصية، ثم أقر بالدين، فقد ذكرنا أن الثلث بكماله يصرف إلى الوصية، فإذا أقر بالدين صرف الثلثان إلى الدين لمكان تأخر الإقرار به عن الإقرار بالوصية. ثم صاحب الدين يقول له: لو أقررت لي بالدين أولاً، لكنت أستحق تمام الألف، وإن أخرت الإقرار لي، وقدّمت عليّ الوصية صرتَ بتأخير إقراري مفوّتاً عليّ ثلث الألف، فاغرم لي ما انتقص من حقِّي.
هذا يخرج-فيما ذكره الشيخ أبو علي- على القولين المكررين في أن الإقرار إذا تضمن إيقاعَ حيلولة بين إنسان وبين حقه، فهل يجب على المقِر المنتسب إلى إيقاع الحيلولة ضمان؟ فيه القولان. ولو أراد التخلص منه، فينبغي أن يقدم ما يجب تقديمه، وهو الدين. وكذلك لو أقر بهما معاً، فيخرج القولان، ويلتزم على أحدهما لصاحب الدين تتمة الألف؛ من جهة أنه لو أقر بالدين أولاً، لوصل مستحِق الدين إلى كمال حقه، وليس لصاحب الوصية أن يطالب الوارث، ويقول: كان من حقك أن تقدم الإقرار بحقي، وإنما قلنا: لا يغرم للوصية شيئاً إذا أخر ذكر الوصية؛ فقد وضعها حيث وضعها الشرع، فلا يلزمه شيء، وإنما التزم لصاحب الدين على أحد الوجهين لتأخيره الإقرار، وكان حقه أن يقدمه، ويسعى في تنزيل الدين منزلته.
12299- ومما ذكره ابن الحداد من هذا القبيل أنه لو مات وخلف ابناً وارثاً دون غيره، فجاء عبد، وقال: أعتقني أبوك في مرضه، وهو ثلث ماله فصدّقه، فجاء عبد آخر وزعم أنه أعتقه في مرضه أيضاً، وقيمته مقدار الثلث، كما تقدم، فصدقه الوارث.
قال: أما العبد الأول فيعتَق على كل حال، ولكن يقرع بينه وبين العبد الثاني.
فإن خرجت القرعة لمن جاء أولاً، ثبت عتقه ورقَّ الثاني، وإن خرجت القرعة على الثاني، عُتقا جميعاً، فيعتق الأول بحكم الإقرار ويعتق الثاني بحكم القرعة، هكذا قال، وقطع به الشيخ في الشرح.
وحقيقة الجواب أنه لو ثبت العتق في العبدين جميعاً معاً، لكنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، عَتَق، إذا كان كل واحد منهما مقدار الثلث، فالقرعة إذاً توجب هذا المعنى، فإذا خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق بحكم القرعة، ولا مرد لعتق العبد الأول؛ فإن الوارث جرد الإقرار فيه، فلا يقبل منه مسلك يتضمن نفيَ ذلك العتق، هذا تعليل ما ذكره ابن الحداد.
ولو جاء العبدان، فادعى كل واحد منهما إعتاق السيد إياهما فأقر الوارث لهما معاً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فلا يعتِق إلا مقدارُ الثلث، والمذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عَتَق، ورق الثاني.
ومن أصحابنا من قال: يَعْتِق من كل واحد منهما نصفُه. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن من أعتق عبيداً في مرض موته لا مال له غيرهم، وجب الإقراع بينهم، فإقرار الوارث ينبغي أن ينزل منزلة إنشاء العتق.
والوجه الثاني- أنا نعتق من كل عبد نصفه؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
وحكم الإقرار اللزوم. فقد لزم لكل واحد حق العتق؟ فلا معنى لإخراج أحدهما عن الاستحقاق. وهذا يوجب فضَّ العتق عليهما إلى استيعاب الثلث، ولهذا قلنا: إذا قدم الإقرار لأحدهما، ثم أقر للثاني يقدم المقر له بالاستحقاق، ولم يقبل الإقرار للثاني على وجه يوجب التسوية بينه وبين الأول.
12300- ومما ذكره أنه لو ادعى رجل أن أباه أوصى له بثلث ماله، فصدقه هذا الوارث، فجاء آخر وادعى أنه أوصى له بالثلث، فصدّقه، وكان كل واحد منهما ينكر وصية صاحبه، فيسلّم الثلث كَمَلاً إلى الأول؛ جرياً على القياس الذي مهدناه؛ لأنه أقر له أولاً. وقد ذكرنا أنه لو قدم الإقرار بالوصية، وأخر الإقرار بالدين، أكملت الوصية لتأخر الإقرار بالدين عن الوصية. وهذا أولى من وصية تقدم على وصية.
12301- ولو خلَّف المتوفى عبداً قيمته ألف، فقال العبد: أعتقني أبوك في صحته، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم دين، فصدقهما معاً، فالذي صار إليه الأئمة أنه يعتِق نصفُه، ويصرف نصفه إلى الدين إذا وقع الإقرار بهما معاً.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه يعتق كله، ويسقط الدين؛ فإنه إذا ثبت العتق في الصحة، فهو مقدم على الدين، فينفذ العتق، ويسقط الدين.
وهذا ليس بشيء؛ فإن هذه المسألة فيه إذا كان صاحب الدين يكذّب دعوى العتق، فأما إذا اعترف به وبجريانه في حالة الصحة، فلا إشكال في المسألة.
12302- ولو خلف ابناً وألف درهم، فجاء رجل وادعى دين ألف، فصدّقه الابن، ثم جاء آخر وادعى دين ألف، وأقام على ذلك بينة، وكذّب الأول في دعواه، فالتركة بجملتها تسلّم إلى الثاني وليس للأول منها شيء؛ فإن البينة في حق الثاني مقدمة على الإقرار في حق الأول، والمسألة مفروضة فيه إذا أنكر الثاني دين الأول.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاء واحد، وادعى وصية له بالثلث، فصدّقه الوارث، ثم جاء آخر، وادعى الوصية بالثلث، وأقام على ذلك بينة، وأنكر الوصية الأولى، فيسلم إلى الثاني الثلث بكماله، ثم إذا سُلّم الثلث، فالأول يقول للوارث: قد أقررت لي بثلث جميع المال، وهذا الآخر أخذ الثلث بشهادة زور، وأنت معترف بكونه مبطلاً، والمسألة مفروضة هاهنا، فاصرف إليّ ثلث الثلثين، وقدِّر ما أخذه من ادعى الوصية تالفاً من التركة، فالوارث يجيبه إلى ما قاله؛ فإنه أقر له بثلث شائع في جميع المال، وقد فات ثلثه من التركة، فله ثلث الباقي.
فرع:
12303- إذا كان الرجل قيّماً في مال يتيم، أو وصياً بنصب أبيه، ثم هذا القيم نصبه الإمام قاضي البلد، وهو على الوصاية، فظهر مالٌ لأب الطفل، وشهد عند القاضي شاهدان أن لأب الطفل مالاً معلوماً عند فلان، قال ابن الحداد: لا يقضي به القاضي؛ فإنه خصم لليتيم مطالب بماله، فيبعد أن يكون مخاصماً عنه قاضياً له. وهذا كما أنه لما كان خصماً في حق نفسه، فلا يتصور منه أن يقضي لنفسه أصلاً، فإذا لم يمكنه أن يقضي لليتيم، رفع الأمر إلى الإمام، وادعى هو بنفسه لليتيم. وأقام البينة ليقضي بها الإمام.
وإن رفع الأمر إلى بعض من استخلفه من الحكام، ففي جواز ذلك وجهان، وكذلك القول فيما يرفعه من شُغل نفسه إلى من استخلفه. وهذا الخلاف في مستخلف القاضي.
فأما الإمام لو عنّ له شُغل، فلابد من الارتفاع إلى من استخلفه؛ فإنه لا طريق غيره، وقد صح أن علياً ارتفع إلى مجلس شريح في قصص معروفة، قضى في بعضها له، وفي بعضها عليه.
قال الشيخ أبو علي: قال شيخي-يعني القفال- الوصي إذا نُصب قاضياً، فله أن يقضي لليتيم؛ فإن القاضي يلي أموال اليتامى، ثم لا يمنعه ذلك من القضاء لهم، فكذلك في هذه الصورة، وهذا كما أنه يقضي لسائر الأيتام الذين هم في حياطته وولايته، والذي قاله القفال متجه في القياس.