فصل: باب: في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث:

قال:"ولو أعتق رجل ستة مملوكين... إلى آخره".
12365- إنما فرض الشافعي الكلام في ستة مملوكين تيمناً بفرض المسألة في مورد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عِمران بن حُصين في الحديث المشهور.
وغرض الباب أن من أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرُهم؛ وردَّ الورثةُ ما يزيد على الثلث، فمذهب الشافعي أنا نُقرع بين العبيد، ونُعْتِق مقدارَ الثلث منهم، مع طلب التكميل جهدَنا، حتى إذا أَعتق ثلاثةَ أعبد لا مال له غيرُهم، وكانت قِيَمُهم متساوية، فنُعِتق بالقرعة واحداً، ونرد اثنين، كما سنذكر كيفيةَ الإقراع.
وهذا مائل عن مقتضى القياس؛ فإن المريض لما أعتق العبيد، فقد أثبت لكل واحد منهم حقاً في العَتاقة نصاً، وإرقاقُ اثنين حرمانٌ لهما، والعتقُ من أعظم حقوق المعتَق، فإنه يملّكه نفسه، ويخلّصه من أسر الرق، والذي يقتضيه القياس أن نُعتق من كل واحد منهم ثُلثَه، ولكن قدم الشافعيُّ النصَّ الصريح على القياس؛ فإن عمران بنَ حصين روى أن رجلاً أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم، فَجرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة.
فمعتمد المذهب الخبرُ إذاً، وكأنا نفهم من غرض الشرع طلبَ تكميل الحرية.
ولو قال المريض-والعبيد ثلاثة كما وصفناهم في استواء القيم- واحد منكم حر، فَنُعتِق واحداً، على ما سيأتي تفصيل ذلك.
12366- ولو قال: الثلث من كل واحد منكم حر، فهذا تنصيص على قصد التبعيض، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على وجهين، فقال قائلون: إذا صرح على هذا الوجه بقصد التبعيض، وجب اتباعه، وتنزيل العتق على حسب لفظه. وقال آخرون: هذا بمثابة ما لو قال: أعتقتكم، فإن العبيد كانوا خُلَّصاً له، ومن ملك عبداً خالصاً، فأعتق جزءاً منه، عَتَقَ كلُّه، ولا تعويل على لفظه في التبعيض، مع تنزيل الشرع ذكرَ الأشقاص في العبيد الخُلَّص منزلةَ ذكر الأشخاص.
ولو قال لعبيده: ثُلثكم حر، فقد أطلق الأصحاب القول بالإقراع في هذه الصورة؛ من حيث لم يصرح بقصد التبعيض.
وقد ينتظم قول من يقول: الواحد ثُلث الثلاثة، وهذا إذا لم يفسِّر هذا اللفظَ بإعتاق الثلث من كل عبد؛ فإن فسّره به، فهو كما لو صرح، وقد مضى الخلاف فيه، وإن بقي اللفظ مبهماً، فالقرعة مقطوع بها، فقد تبين وضع الباب.
وأما أبو حنيفة، فإنه قال: إذا أعتق العبيد الثلاثة، عتق من كل واحد منهم ثلثه، ويستسعى في قيمة ثلثين، ولا قرعة بحال. وقدم القياس الذي نبهنا عليه على الخبر الناص على رأيه في المسائل المشتملة على الخبر وطرفٍ من النظر. ثم لم يستمسك بالقياس أيضاً، بل قال: لو قال المريض لعبيدٍ: أحدكم حر، يَعْتِقُ من كل واحد ثلثُه، ويُسْتَسْعى من البقيه، فلا هو تمسك بالخبر، ولا وفّى القياس حقه.
فإذا تمهد ما ذكرناه فكيفية الإقراع ذكره الشافعي في باب مفرد.

.باب: كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم:

قال الشافعي:"أحب القرعة إليّ وأبعدُها من الحَيْف... إلى آخره".
12367- أصل القرعة واجب عند الشافعي إذا أعتق المريض عبيداً، ولا يقوم غيرُ القرعة مقامَها، حتى لو فرض مراجعةُ شخصٍ لا غرض له في تعيين عبد لإرقاق أو إعتاق، فأطلق من يعتِق أو يرِق، فلا أثر لهذا، ولو فرض تعليقُ الأمرِ بنوعٍ من أنواع الغرر سوى القرعة، كتوقُّعِ طائرٍ لا يتصور الإحاطة به، أو ما جرى هذا المَجْرَى من أنواع الخطر، فلا حكم لذلك، والمتبع الإقراعُ الذي نص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم الغرض تحكيم القرعة، على وجه لا يبقى فيه خيال المواطأة، والتسبب، ولسنا نضبط وجهاً من القرعة، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب:"أحب القرعة عندي وأبعدها عن الحيف رقاعٌ صغار... إلى آخره".
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنَّوى، وروي: أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر.
12368- ثم مقصود الباب وإن كان لا يزيد على ما ذكرناه، ففيه أصول منقسمة: بعضها احتياط، وبعضُها واجب، فلا ينبغي أن يستهان بها، ونحن نذكر ما نرى ذِكْرَه، وغرضُنا مقصورٌ على تمييز الاحتياط عما يجب.
فأول ما نذكره أنه إذا تهيأ تجزئةُ العبيد ثلاثةَ أجزاء- ففي الإقراع مسلكان:
أحدهما: أن تُكتَب أسامي العبيد في الرقاع: سالم، وغانم، ومبشر، ثم يقال: أخرج على الحرية اسماً، فإذا أخرج اسمُ عبد عَتَقَ ورَقَّ الباقيان.
والمسلك الثاني- أن يكتب الرق والحرية على عدد الأجزاء: الحرية في واحدة، والرق في اثنتين، ثم يقال: أخرج على اسم فلان، فإن خرجت الحرية عَتَقَ ورَقَّ الآخران، وإن خرج الرق عليه رَقَّ، وأخرجنا أخرى، فإن خرج الرق أيضاً، تعين الثالث للحرية، ورق الأولان، وإن خرجت الحرية، عَتَقَ هذا، ورَقَّ الأول والثالث.
وكِتبةُ الأسامي هاهنا أصوب؛ لأنها أقرب إلى فصل الأمر وأيسر؛ لأنا إذا كتبنا أسامي العبيد، نتخلص بالقرعة الأولى إذا كانوا ثلاثة، وإذا كتبنا الرق والحرية، فربما نحتاج في بعض الصور إلى الإقراع مرتين، وقد ذكرنا هذا في باب القسام، وذكرنا تردد الأصحاب، ثم أوضحنا الاتفاق على تجويز الأمرين، ورددنا الكلام إلى الأَوْلى، فقد ثبت في هذا المقام أنا لا نوجب أحد المسلكين.
12369- والذي يتعلق بما يجب أنا إذا كنا نُعتِق عبداً ونُرق عبدين، ورأينا كِتبة الرق والحرية، فقد قال الأصحاب: الرق ضعف العتق، فيجب أن تكون الرقاع على هذه النسبة، فنكتبُ للحرية رقعةَّ وَللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على نسبة المطلوب في الكثرة والقلة؛ فإن ما يكثر، فهو حَرِيٌّ بأن يسبق إلى اليد، وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك.
ومنهم من يقول هذا استصواب، وإلا فتكفي رقعة في الحرية، وأخرى في الرق، ثم يقال: أخرج إحداهما على هذا، فإن خرجت الحرية، انفصل الأمر.
ولكن إن خرج الرق احتجنا إلى إدراج الرقعة في البندقة مرة أخرى، والأَوْجَه أن هذا احتياط، ولابد في الوجهين-كُتِبَت أسماء العبيد، أو الرق والحرية- من تحكُّمٍ ممن يُرجع إليه، فإنه يقول: أخرج على هذا.
فلو قال الآخرون: ينبغي أن يخرج على أسمائنا، فإن الذي يبدأ به فقد عُرّض للحرية، وكذلك إن كتبت الأسماء، فقال من إليه الرجوع: أخرج اسماً على الحرية، فهذا تحكُّم، فهلا قال: أخرج اسماً على الرق.
فلو نازع فيه الورثة، وطلبوا الإخراج على الرق، وطلب العبد الإخراج على الحرية، فهذا مما لم يتعرض له الأصحاب، وفيه غائلة، فلا يمتنع أن يقال-لقطع الميل، وحَسْم التحكم إن كتب الرق. والحرية- أَقْرع أولاً بين العبيد، حتى يتعين من يُعرض على الرق والحرية، ثم إذا تعين واحد، أخرج على اسمه الرق أو الحرية.
فهذا وجه.
والآخر أن يكتب للرق رقعتان وللحرية رقعة، ثم يلقي إنسان لم يكن في الأمر إلى كل عبد رقعة، فهذا تحكيم القرعة في حقه.
فأما إذا قيل: أخرج باسم هذا، فقد قدّم، والتنافس في التقديم والتأخير تميز في القرعة، فهذا ما أردنا التنبيه عليه.
والأصحاب لم يذكروا هذا لا في وجوبٍ ولا في استصوابٍ.
12370- ومما يتعلق بما نحن فيه أن العبيد إذا أمكن تجزئتهم ثلاثةَ أجزاء والغرض تمييز الثلث عن الثلثين، فلا معدل عن هذا الضرب من التجزئة.
وإن كانوا على عدد وتفاوت في القيمة، بحيث لا يتأتى تجزئتُهم ثلاثةَ أجزاء، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يجوز تجزئتهم على غير التثليث، فيجزؤون على ما يسهل ويقرب، كما سنصف، فإن كانوا سبعة، وكان الأيسر أن نجزئهم سبعة أجزاء، فعلنا، وفي الثمانية نفعل الأيسر ونجزّئهم ثمانية أجزاء، ونكتب ثماني رقاع، وإن سهل تجزئتهم أربعة أجزاء، فعلنا وجمعنا في كل جزء اسمَ عبدين. ثم إذا خَرَجَت قرعةُ عبدين للحرية، أُعتقا، وأعدنا القرعة بين الباقين على ما يتيسر حتى نستوظف الثلث.
والقول الثاني- أنه لا يجوز إلا التثليث، أو مقاربةُ التثليث، على أقصى الإمكان؛ لأن القصد إعتاق الثلث، ففي السبعة نجعل اثنين جزءاً، واثنين جزءاً، وثلاثة جزءاً، إذا كان هذا أقرب. وفي الثمانية نجعل ثلاثةً في قرعة، وثلاثةً في قرعة، واثنين في قرعة، ونعوّل في هذا التقريب تعديلَ القِيَم، فقد يقتضي الحال جعلَ عبدين في قرعة وعبيد في قرعة.
ثم على القول الأول إن جعلنا الثمانية أرباعاً، فعَتِق اثنان، أعدنا القرعة بين الستة، وجعلنا كل اثنين في قرعة، فإذا خرج اسم اثنين، فنعيد القرعة بينهما إذا كانت القيم متساوية، فمن خرجت عليه قرعة الحرية منهما عَتَق منه تكملةُ الثلث، وهو ثلثاه.
ثم ما ذكره القاضي أن هذا الاختلاف في الاستصواب، وما ذكره الصيدلاني أن القولين في استحقاق هذا، ثم التقريب من الثلث مجوّز على القولين.
فأما التجزئة على الأيسر من غير مراعاة التقريب من التثليث ففيه القولان، والوجه عندنا القطع بأن هذا تردُّدٌ في الأصوب، لا في الاستحقاق.
ولو أعتق عبدين لا مال له غيرُهما، فلا وجه إلا أن نجعلهما سهمين، فمن خرج عليه سهمُ الحرية، عَتَقَ منه مقدار ثلث التركة، وهذا باب يتبرم بالتطويل فيه كل محقق، وغرض الباب ما نبهنا عليه.
12371- ثم قال:"وإن كان عليه دين يحيط ببعض رقيقه... إلى آخره".
إذا كان في التركة دينٌ وعِتقٌ، فالمطلوب ثلاثة أشياء: الدينُ، والعتقُ، وحقُّ الورثة، والكلام مفروض فيه إذا لم يكن الدين مستغرقاً، فإنه إذا استغرق، بطل به العتق، وحق الورثة.
ثم قال الأئمة: إذا لم يكن الدَّيْن مستغرقاً، أقرعنا بين الدَّيْن والتركة أولاً، فنميز الدين ما يخرج عليه القرعة، والدين وإن كان مقدماً على حق الورثة، فالقرعة إذا ميّزت شيئاً للتركة-وفيها العتق وحق الورثة- فمن ضرورتها أن تميز الدين، فإن أحد السهمين إذا تعين لجهة، تعين الآخر للجهة الأخرى إذا تعينت جهتان.
فإن قيل: هلا قدمتم الدين تحكماً؟ قلنا: لا غرض في هذا، ولا سبيل إلى إبطال العتق من غير غرض.
ثم لو كان الدين ثلثاً مثلاً، والعتق مقداراً يخرج من الثلث بعد الدين، فأردنا أن نثُبتَ ثلاثَ رقاع: واحدة للدين، وواحدة للعتق، وواحدة للورثة، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: أنه يجوز؛ فإنه لا ينتقص بما نفعله حقٌّ. والثاني-وهو الأصح- أنه لا يجوز؛ لأن قرعة العتق ربما تخرج أولاً، فإن لم نحكم بها، فقرعة باطلة، وإن حكمنا بها، فقد نفذنا الوصية، والدينُ بعدُ قائم، وهذا لا وجه له.
ثم الذي نراه في ذلك أنا إذا فرّعنا على الوجه الصحيح بين الدَّين والتركة، فخرجت قرعة الدين على عبدٍ، وكان فيه غُنية، فلا ينبغي أن نُقرع للعتق ما لم نؤدِّ الدين؛ فإن الدين لا يزول بتعين مالٍ له؛ بدليل أن ما يُعيَّن له لو تلف قبل التسليم، انعكس الدين على ما بقي من التركة، فلا وصية ولا ميراث ما بقي من الدين درهم.
ولو قيل: نُخرج القرعةَ على الحرية، ثم لا يقع الحكم على البت إلى تأدية الدين، فهذا فيه نظر؛ فإنها قرعة لا نفاذ لها، ووضع القرعة ألا تنشأ إلا في وقت ينفصل بها الأمر.
وهذا التردد في مضمون هذا الفصل دائر على الوجوب، لا على الاستصواب. وهذا سر الباب. وهو تمييز الاحتياط عن الاشتراط.
12372- ثم قال:"فإن ظهر عليه دين بعد ذلك... إلى آخره".
إذا أعتقنا واحداً بالقرعة، ولم ندر أن في التركة ديناً، ثم ظهر دين فإن كان مستغرقاً، فالعتق مردود، وإن لم يكن مستغرقاً، وكان تأدية الدين ممكناً مع تنفيذ العتق، فهل تُنْقَضُ القرعة؟ وهل تُردُّ الحرية؟ في المسألة قولان، وهذا بعينه هو الذي مهدناه في باب القسام، إذا قلنا: إذا جرت قسمةٌ ثم ظهر دين، فالقسمة هل يتبين انتقاضها؟ أم يمكن تقريرها؟ وقد سبق تمهيد هذا، وسيأتي في فروع ابن الحداد كلام جامعٌ فيما يَنْفُذ من التصرفات في التركة مع الدين، وفيما يمتنع نفوذه.
12373- ثم قال:"فإن أعتقت ثلثاً وأوقفت ثلثين بالقرعة، ثم ظهر له مال... إلى آخره".
إذا أعتق عبيداً، وكنا نحسب أنه لا مال له غيرهم، فأعتقنا واحداً وأرققنا اثنين على ما يقتضيه التثليث، وقيمة كل عبد مائة، فلو ظهر له مائة درهم، أعدنا القرعة بين اللذين أرققناهما، وقد مضى العتق فيمن أعتقناه، فمن خرجت عليه القرعة مِن العبدين، حكمنا بعتق ثلثه، وإن ظهر له مائتا درهم، أعتقنا من أحد العبدين ثلثيه، وإن ظهر له ثلاثمائة درهم، أعتقنا كله مع ما أعتقنا أولاً، ولا يخفى هذا.
ثم اندفع الأصحاب في مسائل دورية تتعلق بالكسب، وزيادة القيمة ونقصانها، وقد جمعنا في كتاب الوصايا ما لا يُحْوِجُ إلى الإعادة، وجمعنا ما يتعلق بالحساب من مسائل الفقه في موضع واحد، فليتأملها من يريدها. والله أعلم.
فصل:
12374- إذا أعتق عبداً لا مال له سواه في مرض موته، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، فهذا مما ذكرته في أثناء دَوْر الوصايا، ولكني أعيده لمزيدٍ فقهيّ، فأقول: حاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنا نحكم بأنه مات حراً كله، لأنه ليس يبقى هاهنا شيء، ولو كان على الرق، لما كان موروثاً؛ إذ مات قبل موت المورِّث، لأن حق الوراثة إنما يثبت فيما يخلّفه المتوفى.
والوجه الثاني- أنه مات رقيقاً كله، لأنه إنما يخرج بالوصية مثل نصف ما يبقى للورثة، والعتق في المرض وصية، وإذا كان لا يبقى للورثة شيء لا ينفذ من العتق شيء.
وقال القفال: يموت ثلثه حراً، وثلثاه رقيقاً؛ لأنه لو عاش، عاش على الرق والحرية، فإذا مات مات عليهما.
وإذا أعتق في المرض عبداً، وله مال سواه، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، قال جماهير الأصحاب: لا يحسب ذلك العتق من الثلث، حتى يزاحم أرباب الوصايا، بل نجعل كأن ذلك العبد لم يكن؛ لأن الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم يبق إلى الموت، لم يدخل في حساب، وهذا مذهب من يقول في المسألة الأولى إذا أعتق عبداً لا مال له سواه ومات قبل مولاه، فهو حر كله، أو رقيق كله، فأما على طريقة الشيخ فحكمه بعد ما مات كحكمه لو بقي حياً، فعلى هذا يُحسب من الثلث، ويُزاحِم أرباب الوصايا.
ولو وهب عبداً، وأقبضه، فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، ولم يكن للواهب مال غيره، فتلفه في يده بمثابة ما لو أعتقه ومات قبل موت المولى؛ فإن الهبة تبرع كالعتق، ولو وهبه وسلّمه وله مال غيره، فتلف في يد المتهب، فهو كما لو أعتقه، وله مال غيره، فتلف، فالتلف بعد تمام الهبة في الصورتين، حيث لا مالٌ غيُر الموهوب، وحيث يثبت مالٌ غيرُه بمثابة الإعتاق.
ولو وهب العبدَ وسلمه، فأتلفه الموهوب، فهو كما لو كان باقياً، حتى إن كان سواه مال، حسب الموهوب من الثلث، وإن لم تخرج قيمته من الثلث يجب عليه أن يغرم للورثة ما يزيد على الثلث.
فإن قيل: هلا جعلتم التلف في يده بمثابة إتلافه؟
قلنا: إذا تلف في يده، فقد تلف لا على جهة الضمان، فإن الهبة ليست مضمّنة، والإتلاف مضمِّن على كل حال.
وهذا فيه نظر للمفكر؛ فإنا إذا كنا على وجه نحسب المعتَق الذي مات قبل موت المولى من الثلث، يجب طرد ذلك الموهوب الذي مات في يد الموهوب له قبل موت المَوْلى، ثم إذا حسبنا من الثلث، فمعناه أن الثلث لو ضاق عن احتماله، فالزائد على الثلث يكون باقياً في يده لغيره، وإن كان على حكم الهبة، فهو بمثابة ما لو وهب الغاصب العينَ المغصوبةَ وقبضها الموهوب له على ظن أن الواهب مالك، فإذا تبين بخلاف ذلك، فقد نقول-على قول صحيح- يستقر الضمان على الموهوب له، ثم إن قطع تبعة الضمان في التلف، جاز ذلك في الإتلاف.
الدليل عليه أن الواهب في حياته لا يطالب الموهوب منه، سواء تلف في يده، أو أتلفه، فقد تبين وجه التردد في المسألة.
12375- ولو أعتق ثلاثةَ أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، فمات واحد منهم قبل موت المعتِق، فالذي أطلقه الفقهاء والدَّوريّون أنا ندرج الميت في القرعة؛ حتى لو خرجت القرعة على الميت، بان أنه مات حراً.
وهذه المسألة تناقض المسألة الأولى؛ فإنا بنينا كلامنا فيما تقدم على أن الميت كالفائت؛ من حيث إنه لا يبقى للورثة لو قُدّر رقيقاً؛ فالذي يقتضيه القياس أن نقول: إذا مات واحد من العبيد الذين أعتقهم، أخرجناه من البَيْن على قياسنا في العبد الواحد، وجعلنا كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، أو له مال غيرهما، ومن رام فرقاً في ذلك لم يجده. نعم، لو أعتق عبيداً، ثم نقصت قيمة واحد منهم، فلا شك أنا ندرجه في القرعة، فلو خرجت القرعة عليه، فالمقطوع به للأصحاب أن ذلك النقصان غير محتفل به؛ فإن القرعة إذا اقتضت حرية في شخص، فالحر لا تنتقص قيمته، وهذا مما استقصينا القول فيه في قاعدة الدور، والمسألة من غمراته.
ولو أعتق ثلاثة أعبد وجرينا على ما ذكره الأصحاب في إدخال الميت في القرعة، وقد مات منهم عبد قبل موت المولى، فالحكم ما قدمنا.
وإن قتل، فخرجت القرعة على المقتول، فعلى القاتل الدية لورثته، فإنا تبيّنا أن القتل صادف حراً، وإن خرجت قرعة الحرية على أحد الحيين عَتَقَ، وعلى قاتل العبد القيمة، والقيمة تركة.
12376- ومما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق ثلاثة أعبد كما ذكرناه، لا مال له غيرهم ومات المريض، ثم مات أحد العبيد بعد موته- قال الأصحاب: إن حصل الموت ويد الوارث غيرُ واصلة إلى التركة، وكان مَحُولاً دون العبيد، لم يحسب الميت عليه، حتى إذا وقعت القرعة على أحد الحيين عتق ثلثاه؛ فإنه لم يَسْلَم للورثة ما فات، فإن خرجت القرعة على الذي مات، فهو الحر، والعبدان الباقيان الثلثان.
فإن قتل أحد العبيد بعد موت المعتق، فقيمته معتبرة قائمة مقام العبد، فإن خرجت القرعة على الميت، حكم بعتقه، وعلى القاتل الدية.
فإن مات واحد منهم كما ذكرناه، والتركة في يد الوارث، فقد ذكر الأصحاب وجهين:
أحدهما: أنه غير محسوب على الوارث، كما إذا تلف والتركة خارجة عن يد الوارث، حتى إذا خرجت القرعة على أحد الحيّين، عَتَق ثلثاه فحسب، وذلك لأن الحيلولة الشرعية واقعة من حيث إنه ممنوع من التصرف فيهم قبل تفصيل الأمر وإخراج سهم العتق.
والوجه الثاني- أن الميت محسوب على الورثة، لأنه تلف في أيديهم، وهذه المسألة مما يجب الاعتناء بأطرافها والاستمداد فيها بما ذكرناه في صور الدَّوْر عند فرض النقصان في قيمة العبد. ولم نغادر نحن شيئاً من البيان والتنبيه. ولكن الأمر على ما وصفناه.
فصل:
قال:"ولو قال في مرضه: سالم حر، وغانم حر... إلى آخره".
12377- التبرعات المنجزة في مرض الموت يقدم الأسبق منها، فالأسبق، حتى إذا أعتق عبيداً على الترتيب، كلُّ واحدٍ ثُلثُ ماله، عَتَقَ الأول منهم، وَرَقَّ الباقيان، ولا قرعة، وإنما تجرى القرعة إذا أعتقهم جمعاً.
ثم ما ذكرناه جارٍ في جميع التبرعات إذا انتهت نهاياتها.
فلو أعتق، ثم حابَى، فالعتق مقدم، ولو حابى، ثم أعتق، فالمحاباة مقدمة، ولو وهب وسلم، ثم أعتق، فالهبة مقدمة؛ طرداً للقياس في جميع التبرعات.
ولو وهب ولم يسلم، ثم حابى، فالمحاباة مقدمة، ولا اعتبار بالهبة من غير إقباض، ولأبي حنيفة تفصيل في المحاباة والعتق، لسنا له بعد ما أوضحنا مذهبنا.
ثم قد أجرينا في مسائل الطلاق وغيرها أموراً متفرعة على هذه القاعدة. فلو قال: سالم حر، وغانم حر، فقد قدم سالماً في إيقاع العتق به، ولا نظر إلى أن الواو لا تُرتّب، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق؛ فإنه لا تلحقها إلا الطلقة الأولى.
ولو أوصى بإعتاق سالم بعد موته، ثم أوصى بعد ذلك بإعتاق غانم، وجرت إحدى الوصيتين بعد الأخرى من طريق الزمان؛ فإذا ضاق الثلث، أدخلنا جميع العبيد في القرعة، ولا حكم للتقدم والتأخر في الوصايا، والسبب فيه أن الموت يجمع الوصايا، وإنما تنفذ عند الموت، فلا حكم لترتيب ذكرها والموت جامعها إلا أن يصرح باعتبار التقديم في بعضها، كما مهدنا ذلك في الوصايا.
واختلف أصحابنا في صورةٍ، وهي أنه لو دبّر عبداً، وأوصى بإنشاء عتق عبد آخر بعد موته، فالتدبير يقتضي وقوعَ العتق في المدبر بالموت من غير إيقاع، والعتق الموصى بإنشائه يستأخر وقوعه عن الموت لا محالة، فهل يقدم عتقُ المدبر على العتق الموصى به؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين:
أحدهما: أنا نقدم عتق المدبر فيما نبهنا عليه، ولعل الأصح أن لا تقديمَ؛ فإن العتق الموصَى به يصير مستحقاً بالموت، فليقع التعويل على الاستحقاق، لا على الإنشاء.
وليت شعري ماذا يقول صاحب الوجه الأول فيه إذا قال: أعتقوا يوم موتي عبداً، وأعتقوا بعد موتي بشهر عبداً، والعلم عند الله.
فصل:
قال:"ولو قال لعشرة أعبد: أحدكم حر... إلى آخره".
12378- إجمال العتق بين عبيد بمثابة إجمال الطلاق بين نسوة، وقد قدمنا مسائل إبهام الطلاق في بابٍ من كتاب الطلاق، وأتينا فيه بما يجب، ولكنا نظن أن ذكر إبهام العتق لا يضرّ، والتزام الإعادة لتوقع مزيد إفادةٍ أولى.
فنقول: إذا أعتق عبداً من عبيد، فقال: أحدكم حرْ، لم يخلُ إما أن يُطلق ولا ينوي أحدَهم بالقلب، أو ينوي بالقلب واحداً منهم، فإن نوى واحداً منهم عَتَقَ ما نواه، وكان المعيّن بالنية كالمعين لفظاً، ثم ننظر.
فإن أبهم، ثم عيّن، وزعم أن من عينه ذكراً، هو الذي نواه عقداً، فإن صدقه العبيد، فلا كلام، وإن كذّبوه، فالقول قوله مع يمينه؛ فإن النية عاملةٌ وفاقاً، والرجوع في تفصيل النية إلى الناوي، وهذا أصل ممهد.
وإن نكل عن اليمين، حلف من يدعي أنه عناه، وعَتَق الأول بإقراره، والثاني بنكوله وردِّ اليمين، ولسنا نتعدى هذا الحد، فنقع في المعادات قطعاً.
12379- ولو أبهم العتقَ، وجب عليه البيان؛ حتى إذا امتنع منه، حُمل عليه بالحبس، وهذا عندي فيه إذا لم يعيِّن بقلبه أحداً، وكان تعيينه موكولاً إلى مشيئته، فإذا امتنع، صار كالذي يسلمُ على نسوة زائدات على العدد الإسلامي؛ فإنه مجبر على أن يعين عددَ الإسلام.
ولو قال: عيَّنت بقلبي واحداً من العبيد، وهو على ذُكري، فهو مجبر أيضاً، وإن قال: عينت بقلبي، ثم أُنسيت من عينته حالةَ اللفظ، فهل يحبس والحالة هذه؟ هذا فيه احتمال. والذي أطلقه الأصحاب الحبس. وعندي أني ذكرت ذلك في مسائل إبهام الطلاق.
ولو أبهم العتق بين جاريتين، ثم وطىء إحداهما، فإن كان عيّن بقلبه واحدة منهما، فلا يكون الوطء بياناً؛ لأن المعتقة معلومة له، فلا أثر للوطء في التعيين، فإن زعم أن الموطوءة هي التي لم أردها بالعتق، صُدّق لقوله لا للوطء، فإن قال: عنيت بالعتق التي وطئتها، فقد وطىء حرة، ولا يخفى الحكم.
وإذا نوى بالقلب كما ذكرناه، فالوارث يقوم مقامه في البيان، كما ذكرنا بناء على سماعه منه، وهذا فيه إذا عين بقلبه، ولو قال الورثة: لا نعلم، وقد سمعناه يقول: عيّنْت بقلبي، فليس إلا الوقف إلى البيان.
ولو لم يعين بقلبه أحداً، بل أطلق إبهام العتق، فإليه التعيين، ثم التعيين إلى إرادته، وليس هذا من البيان في شيء، ولو عين واحداً، لم يكن للباقين منازعته، والدعوى عليه، وهذا واضح.
12380- ثم إذا عيّن واحداً وكان الإعتاق مطلقاً، لا نية معه، فالعتق يقع يومَ اللفظ أو يوم التعيين؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يقع يومَ اللفظ؛ فإن العتق يستدعي لفظاً يقع به؛ بدليل أنه لو أطلق ولم يعين بقلبه، ثم عين من بعدُ بقلبه، لم يؤثر تعيين القلب إذا تأخر عن اللفظ، فدلّ أن اللفظ لابد منه.
والوجه الثاني- يقع العتق يوم اللفظ ويتبيّن المحلّ يومَ التعيين. وعبر الأئمة عن الوجهين، فقالوا: نقول في وجهٍ، العَتاق واقع في عين، ونقول في وجهٍ، هو ملتزم في الذمة مستحَقُّ الإيقاع في واحد من هؤلاء، فعلى هذا يقع يومَ التعيين.
ولو أبهم العتقَ بين عبدين، ولم يعين بقلبه، فإذا مات أحدهما، فهل له تعيين العتق في الميت؟ فهذا يخرج على الوجهين: إن قلنا: العتق يقع يوم التعيين، فلا سبيل إلى ذلك؛ لأن الميت لا يقبل العتق، فعلى هذا يتعين له من بقي، ولا حاجة إلى لفظه.
وإن قلنا: العتق وقع باللفظ، فتعيين الميت له جائز؛ فإنه مستند إلى ما قبل الموت، والتعيين بيان.
12381- وإذا أبهم العتقَ بين جاريتين من غير نية بالقلب، ثم وطىء إحداهما، فهل يحصل بالوطء التعيين؟ فعلى وجهين: وهما جاريان في إبهام الطلاق من غير تعيين بالقلب، وأبو حنيفة يفصل بين إبهام العتاق وإبهام الطلاق، فيجعل الوطء تعييناً للطلاق، ولا يجعله تعييناً للعَتاق، ولا فصل عندنا في إجراء الوجهين.
ثم إن جعلنا الوطء تعييناً، فلو استمتع فيما دون الفرج، أو قبّل، أو لمس بالشهوة، فهل يقع التعيين بهذه الجهات من الاستمتاعات؟ فعلى وجهين مرتبين على الوطء. ثم إن جعلنا هذه الضروب تعييناً، فهل نجعل الاستخدام تعييناً للملوكة؟ فعلى وجهين مرتبين على الاستمتاع. هكذا ذكره القاضي. وهذا يوجب لا محالة طردَ الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة في زمان الخيار، وكان قَرَعَ مسامعي هذا التردد من الخلافيين، حتى وجدته مصرَّحاً به للقاضي.
12382- وإذا كان العتق المبهم مطلقاً، لم يقترن به تعيين القلب، فلو مات المبهِم قبل البيان، فالورثة هل يقومون مقامه؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنهم يخلفونه في البيان والتعيين؛ لأن ذلك كان من حق المبهِم في حياته، وهو متعلق بالأموال، فيخلفه الوارث فيه. والقول الثاني- أن الوارث لا يقوم مقامه؛ فإن التعيين في حكم تكميل اللفظ، فينبغي أن يصدر من المتلفظ بالعتق لا غير، والقولان يقربان مما ذكرناه في أن التعيين إيقاعٌ أو بيان مستبد، فإن جعلناه إيقاعاً، فقد قال القاضي: يقوم الوارث فيه مقام الموروث، فإنه يوقع العتق عن الموروث بأمره أو بتأدية كفارة عنه.
وإن قلنا: هو التزام، والتعيين ليس إيقاعاً، فالوارث لا يقوم مقامه.
وهذا عندنا بالعكس أولى؛ فإنا إن جعلناه إيقاعاً، فهو تتمة اللفظ، ولا يجوز أن ينقسم لفظ في الإيقاع بين شخصين، ولا حاجة عندي إلى هذا البناء. ولو قيل: يجري القولان على المسلكين، لم يبعد، وهما مستقلان بالتوجيه من غير بناء.
ثم إن أقمنا الورثة مقامه في التعيين، فلا كلام، وإن لم نُقمهم مقامه، فلا طريق إلا الإقراع، فمن خرجت عليه قرعة الحرية نزلت القرعة منزلة التعيين.