فصل: باب: الولاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الولاء:

12424- من عَتَق في ملكه مملوك فولاء ذلك العتيق لمن حصل العتق في ملكه، ولا فرق بين أن يحصل الملك اختياراً، وبين أن يقع شرعاً ضرورة من غير اختيار.
فإذا أعتق الرجل مملوكه، أو اشترى من يعتِق عليه، فَعَتَقَ، فالولاء يثبت له، وكذلك إذا ورث من يعتق عليه وعَتَق، يثبت الولاء.
والأصل في الولاء السنة والإجماع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولاء لحمة كلحمة النسب». وفي بعض الروايات: «لا يباع، ولا يورث، ولا يوهب».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق».
والولاء أثر نعمة أنعمها المعتِق على المعتَق، فكأنَّ حقيقته ترجع إلى انتساب المنعَم عليه إلى المنعِم، ثم ذلك الانتساب يثبت أحكاماً، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله في تفاصيل الباب.
ومما يعهد في الشريعة أن اجتماع أحكام قد يعبر عنها بعبارة تجمعها كالبيع؛ فإنه عبارة عن اجتماع قضايا وأحكام، وليس العقد في التحقيق زائداً عليها. ثم يسمى ثبوتها عقداً، ويسمى رفعها فسخاً، كذلك الولاء في الحقيقة انتسابٌ لازم، سببه نعمةُ العتق، ثم تعلق بذلك الانتساب أحكامٌ، والعبارة عن مجموعها الولاء.
وليس الولاء حقاً مملوكاً؛ إذ لو كان كذلك، لأمكن حطُّه وإسقاطُه كسائر الحقوق الثابتة للآدمي، وإنما هو كالنسب الذي لا يتصور إسقاطه، وقد دل قول الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في ذلك؛ إذ قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب» معناه أنه انتساب كالنسب. وقال: «مولى القوم منهم». وقال: «سلمان منا أهل البيت».
وقد قال كثير من أئمتنا من أوصى لبني فلان بشيء دخل الموالي فيهم، وقالوا: الصدقة كما تحرم على بني هاشم وبني المطلب، تحرم على مواليهم.
وعلى هذا الأصل امتنع نفي الولاء بالشرط. فمن أعتق عبداً وشرط ألا يكون له ولاء، لم ينتف كما لا تنتفي الأنساب بعد ثبوتها.
12425- ثم الكلام في الباب يتعلق بأصلين:
أحدهما: في الجهات التي يثبت الولاء بها.
والثاني: في أحكام الولاء.
فليقع البداية بجهات الولاء، ويجب أن يكون للناظر فضل اعتناء بهذا الباب؛ فإنه مزلة الأقدام، وقد كثر فيه غلطاتُ الكبار، ونحن لا نألوا في الكشف والبيان جهدنا-إن شاء الله عز وجل- وهو ولي التأييد بمنّه ولطفه. فنقول:
الولاء يثبت بمباشرة العتق، وهو أقوى الجهات. ويثبت بغيره أيضاً.
فأما ولاء المباشرة: فهو الثابت لمن حصل العتق في ملكه.
فأما غيرُه من الجهات، فمن استحق ولاءَ شخص بالإعتاق، أو حصولِ العتق فيه، فلو أعتق ذلك العتيق عبداً، فلا شك أنه أولى بولائه، فإن ولاءه عليه بالمباشرة.
ولكن لو مات المعتِق، فيثبت للمعتِق الأول ولاءُ معتَقِ معتَقه. على ترتيبِ سيأتي وصفه-إن شاء الله عز وجل- عند ذكر أحكام الولاء. فمعتَق المعتَق منتسب إليه بولاء المباشرة. وهو منتسب إلى المعتِق الأول بانتسابه إلى معتِقه. فهذه جهة.
والجهة الأخرى الولادة، فولد المعتَق عليه حكم الولاء لمعتِق الوالد.
فخرج مما ذكرناه أن الولاء يثبت حكمه بجهتين أخريين. إحداهما: معتَق المعتَق، والثانية: ولد المعتَق.
ثم لا يختص بولد صلبه، بل يطّرد ويجري على أحفاده، كما سنوضح ذلك بالتفصيل-ولا يتأتى الهجوم على المشكلات إلا قليلاً قليلاً- ثم كما يثبت الولاء على ولد المعتَق يثبت الولاء على ولد المعتَقة، وثبوته على ولد المعتَقة أقرب إلى درك الفهم من ثبوته على ولد المعتَق؛ فإن ولادة المعتَقة محسوسة، والانتساب إلى المعتَق حكمٌ غير محسوس ولا مستيقن.
12426- وينشأ من هذا المنتهى الكلامُ في جر الولاء، ونحن بعون الله نوضح ما فيه. فنقول:
إذا نكح معتَقٌ معتقَةً، فأتت بولدٍ، فهو متردد بين أبويه ولادةً وانتساباً، والولاء يثبت على الولد. واتفق العلماء على أن الولاء على الولد بين المعتَق والمعتَقة لموالي المعتَق، ولا يثبت الولاء لموالي الأم، وهذا يؤكد ما ذكرناه في قاعدة الباب من أن الولاء انتساب؛ فإن النسب إلى الآباء، فكان انتساب الولاء إلى الأب أولى، ثم ينتسب إلى معتَق الأب منه، ولم يصر أحد إلى كون الولاء مشتركاً بين مولى الأب ومولى الأم.
ثم نخوض من هذا الموضع في تفصيل جر الولاء، فنقول: إذا نكح مملوكٌ معتَقةً، فأتت بولد، فهو حر بمثابة الأم، ويثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولا يثبت الولاء لمالك الأب؛ فإنه لا ولاء له عليه، فكيف يثبت له الولاء على ولده؟ وإنما قلنا كذلك، لأن الولاء انتساب إلى المنعِم بالعتق، ولم يتحقق ذلك في جانب الأب، ثم لو أعتق السيد العبدَ، ثبت له ولاءُ المباشرة عليه، وانجرّ الولاء على ولده إلى معتِق الأب من معتِق الأم، وهذا أصدق في تقوية جانب الأب في انتساب الولاء؛ فإن الولاء الثابت المحكوم بثبوته لمولى الأم ينقطع عنه، ويثبت لمعتِق الأب.
ومما يجب الإحاطة به في هذا المقام أن الولد لو مات والأب رقيق بعدُ، فورثه مولى الأم، ثم عَتَقَ الأبُ، فذلك الميراث المحكوم به لا ينتقض، بل هو مقر على ما جرى الحكم، والسرّ فيه أن الولاء إذا انجرّ، فليس المعنيّ بانجراره أنا نتبين من طريق الاستناد أن الولاء لم يزل في جانب الأب؛ ولكن المراد به أنه ينقطع من وقت عتق الأب عن مولى الأم، وينجز إلى مولى الأب.
ولو نكح معتَق معتَقة، فأتت بولد، فنفاه المعتَق باللعان، فإن انتفى نسبه، فلا ولاء عليه لمولى الزوج؛ فإن الولاء يتبع النسب، فلو مات ذلك الولد، صرفنا ميراثه إلى مولى الأم.
ولو كذب الزوج نفسه، واستلحق النسبَ الذي كان نفاه باللعان، لحقه النسب، ثم ينقطع الميراث عن مولى الأم؛ فإن هذا بابه الإسناد والتبيّن، وهذا واضح لا خفاء به، فوضح أن سبب الجر يقطع ولاء الولد عن موالي الأم، ولا يستند ذلك إلى متقدم سابق.
ومما نذكره في أصل الجر أن المعتَق لو نكح أمة، فأولاده منها أرقاء، فلو أعتقهم مالكهم، ثبت له الولاء بمباشرة العتق، وولاء المباشرة لا يثبت لغير المعتِق، ولا ينجر إلى جانب الأم أصلاً، وإنما ينجر ولاءٌ ثبت عن تعدي الولاء من الأم إلى الولد. وهذا متفق عليه.
ولو نكح معتَقٌ حرة أصلية، لا ولاء عليها، فأتت بولد، فالمذهب الذي يجب القطع به أن الولاء يثبت عليه لموالي الأب نظراً إلى الأب، وهو معتَق. والدليل عليه أن الأب لو كان رقيقاً، والأم معتَقة، ثبت الولاء بسبب كون الأم معتقة، وإن لم يكن في جانب الأب الرقيق ولاء، فكذلك إذا كان على الأب ولاء، ثبت الولاء على الأب. وإن كانت الأم حرة، لا ولاء عليها، نظراً إلى الانتساب.
والذي يوضح ذلك أن ولد المعتَق من معتَقة يثبت الولاء عليه، وإن لم يمسّه رق قط؛ نظراً إلى الولاء على الأب.
ولو نكح حر لا ولاء عليه معتقةً، وأتت منه بولد، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أن الولاء لا يثبت؛ فإن جانب الأب لا ولاء فيه، وهو حر مستقل، والنسب إليه؛ فينبغي أن يكون بمثابة أبيه في انتفاء الولاء عنه، وليس كما لو كان رقيقاًً؛ فإنه يتصور الولاء عليه إذا أعتق. والوجه الثاني أن الولاء يثبت على الولد لمولى الأم؛ فإنها معتقة، وقد امتنع إثبات الولاء في جانب الأب. والوجه الثالث: أنه ينظر إلى الزوج، فإن كان حراً ظاهراً وباطناً-وهو الذي لا يتمارى في حريته- فلا ولاء على الولد، وإن كان ظاهر الحرية لا اطلاع على باطن أمره، كالذي يحكم له بالحرية لظاهر الدار، أو للبناء على أن الأصل في الناس الحرية، فالولاء يثبت على الولد لمولى الأم لضعف الحرية في الأب.
وقد ذكر شيخي أبو محمد في المعتَق إذا نكح حرة لا ولاء عليها أن الولد لا ولاء عليه عند بعض أصحابنا. وهذا ليس بشيء ولست أعتد به، ولذلك ذكرته آخراً وأخرته عن ترتيب المذهب.
12427- ومما يتعلق بقاعدة الكلام في الجرّ أن العبد إذا نكح معتقة، وولدت منه ولداً، فهو حر، يثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولو اشترى هذا الولدُ-لما استقل- أباه المملوك، وعتق عليه، فالذي يقتضيه قياس الجرّ أن ينجر ولاؤه إلى جانب الأب؛ فإنه قد عَتَق. ولكن ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا ينجرّ الولاء في هذه الصورة عن مولى الأم؛ فإنه لو انجر، لثبت لمعتِق الأب. ومعتِق الأب هو الابن. فيلزم منه أن ينجر إليه ولاؤه، فيصير مولى نفسه، أو ينجر ويزول وكلاهما بعيد، فإن الولاء لا يزال بعد ثبوته أصلاً.
وقال ابن سريج ينجرّ الولاء عن موالي الأم، فينقطع ويصير الولد بمثابة من لا ولاء عليه أصلاً. وهذا بعيد لا تفريع عليه.
12428- ومن الأسرار التي بالغفلة عنها يستبهم الباب على طالبه أنا إذا كنا نجرّ الولاء إلى جانب الأب، فلسنا نعني بذلك أن الولاء يثبت للأب، ثم يثبت منه لمولاه ومعتِقه، ولكن لا يثبت الولاء على الولد إلا للأب، ولا نقول: المعتَق إذا كان له ولد، فله ولاؤه، وليس كالمعتِق إذا أعتق عبداً؛ فإن ولاءه لمعتِقه، ثم بعده لمعتِق المعتَق، والدليل على ذلك أن الابن من المعتَقة إذا اشترى أباه المملوك، فالولاء لا ينجر عن مولى الأم على الظاهر، ولا نقول ينجر إلى الوالد ولا ينجر منه إلى الولد. ولا يستغني الناظر في مسائل هذه عن تفكر وردٍّ إلى النظر والتدبر.
12429- ومما ذكره الأئمة في أصول الجر أن المملوك لو نكح معتقة، وولدت، وقلنا: الولاء لمولى الأم لا محالة، والزوج عبد، فلو كان أبوه الذي هو جد المولود عبداً أيضاً، فلو اشترى إنسان جده وأعتقه، فهل ينجرّ الولاء إلى معتِق الجد؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: ينجر إليه؛ فإن الجد أصل المولود من قبل أبيه، وقد حصل العتق فيه.
والثاني: أنه لا ينجر الولاء بإعتاق الجد؛ فإن الأب باق رقيق، والعتق فيه ممكن، فلو قلنا: لو أُعتق الأب، انجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهذا ولاء مجرور غير مستقر، وهو بعيد، وإن قلنا: لا ينجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهو بعيد، فالوجه أن نقول: لا ينجر إلى معتِق الجد أصلاً. والأصح الوجه الأول. وهو أنه ينجر إلى معتق الجد، ثم ينجر منه إلى معتق الأب.
والذي تحققتُه من مذهب الأئمة أن الأب لو مات رقيقاًً، فأعتق معتق الجدَّ أبَ الأب، فينجر الولاء من مولى الأم إلى معتِق الجد وجهاً واحداً؛ فإنه يستقر، ولا يتوقع فيه بعد ذلك انجرار.
12430- فهذه قاعدة المذهب في جر الولاء، ومنشؤها من قولنا: جانب الأب أولى من جانب الأم، وقد تقرر بمجموع ما ذكرناه أن الولاء يثبت لمعتِق المعتَق، ويثبت على ولد المعتَق والمعتَقة، ثم تفصيل الجر على ما تمهد.
ومما يليق بتمام القول فيه أن ولد المعتَق إذا صرفنا ولاءه إلى مولى الأب، فلو أعتق هذا الولدُ عبداً، فله ولاء المباشرة عليه، فلو مات هذا الولد، ولم يخلف عصبة سوى معتِق أبيه، ثم مات معتَقه، فميراثه لمعتِق الأب.
وفائدة ذلك أن معتَق المعتَق قد ينتهي انتسابه إلى المعتِق الأول، كذلك معتَق ولد المعتَق ينتهي إلى معتِق الأب الذي أثبتنا له ولد الولد، فيلتف النسب بالولاء في جهة الانتماء والولاء بالنسب إذا افتتحنا الكلام في الأحكام. وإنما غرضنا الآن إيضاح جهات الولاء وإحكام قواعدها ثم إنها تتهذب بالفروع وإكثار الصور المعقَّدة.
والله ولي الإعانة بمنّه ولطفه.
فرع في جر الولاء:
12431- إذا تزوج عبد بأمة، فما يحصل من الأولاد رقيق، فلو وُلد ولا رقيق، فاعتقه مالكه، وهو مالك الأم، فيثبت له عليه ولاء المباشرة، وهذا لا يتصور انجراره، كما قدمنا ذكره وتمهيدَه، ولا يثبت عليه ولاء السراية، والمراد به أنه لا يثبت مع ولاء المباشرة ولاء بسبب ولاء الأم أو بسبب ولاء الأب عند جريان العتق عليهما أو على أحدهما، بل لا يتصور فيه-وقد مسّه الرق والعتق- أن يثبت عليه ولاء من غير جهة المباشرة، ولا يتصور أن نبين غوامض الباب إلا عند نجازه بجميع مسائله.
فإذا أُعتق الأم والأب، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت عتقهما، فالولاء لمعتق الأم، لأنا نتيقن أنه علق رقيقاً، ثم عَتَق بإعتاق الأم، فولاؤه ولاء المباشرة، لا ينجرّ أصلاً، فإن من ثبت عليه ولاء المباشرة، لم يلحقه ولاء السراية.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من عتقها، نُظر: فإن كان الزوج يفترشها، فالولاء عليه لمولى الأب، والأمر محمول على أن العلوق حصل بعد عتق الأم، فقد خلق حراً، وما مسه الرق، فثبت عليه ولاء السراية على الترتيب المقدم.
فإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم عتق الأم، ولأقل من أربع سنين، وكان الزوج لا يفترشها، ففي المسألة قولان، بناء على أنه لو أوصى لحمل عَمْرةَ من زيد بشيءٍ، فإن أتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، استحق الوصية؛ فإنا تحققنا كونه موجوداً يوم الوصية، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فيستحق أيضاً؛ فإنه ولد عمرةَ من زيد، ولا يضر أن يوجد بعد الوصية، وإن كان لا يفترشها، وقد زادت المدة على ستة أشهر، فالصحيح أنه يستحق؛ لأن النسب ملتحق، فهو ولد عمرة من زيد.
وذكر الربيع قولاً أنه لا يستحق، لأنا لم نتحقق كونه من زيد، والنسب لا يبنى إلا على التحقق.
والمسألة تصور على وجه آخر.
وهو أنه لو أوصى للحمل الموجود، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر، صحت الوصية له، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فلا تثبت الوصية، لأنا نحيل العلوق على الافتراش الواقع بعد الوصية، ولو كان الزوج لا يفترشها، فأتت بولد، ففي استحقاق الوصية قولان. وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في كتاب الوصايا، عند ذكرنا الوصية للحمل، والوصية بالحمل.
وقدر غرضنا الآن بناء الصورة التي ذكرناها في الجر على هذه القاعدة، وإن كان في نفس الفقيه بقية مما ذكرنا، فليصبر إلى نجاز الباب؛ فإن انحل الإشكال الذي يخطر له، فذاك، وإلا فالأغلب أنه من تساهله في تأمل ما نرسمه في الباب، فليرجع وليتأمل. والله وليّ توفيق الطالبين بمنه وكرمه.
وقد حان الآن أن نذكر أحكام الولاء في فصل.
فصل:
12432- يتعلق بالولاء ثلاثة أحكام: الميراث، والولاية في التزويج، وضرْب العقل، وإذا نحن أوضحنا الميراث، كفى وظهر منه غيره.
فنقول: إذا مات المعتَق، نُظر: فإن خلف عصبة نسيباً، فلا يخلص الميراث إلى الولاء أصلاً، وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، وكان في ورثته أصحاب فرائض تستغرق الميراث، فلا ينتهي الميراث إلى عصبة النسب، فما الظن بالولاء؟
وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، ولا فرائض، أو أفضلت الفرائض شيئاً، فهو للمعتِق المباشر للعتق كما قدمنا، فإن كان المعتِق قد مات قبل موت المعتَق، فالميراث مصروف إلى عصبات المعتِق، وقد مضى ترتيب القول في عصبات المعتِق في الفرائض، ولكنا نعيده لنتمكن من الكشف في الأطراف التي لم ينته إليها الشرح في الفرائض.
ونصدِّر ما نريد الخوضَ فيه بتمهيد أصلٍ، وهو أن عصبة المعتِق لا يرثون الولاء كما يرثون الأملاكَ وحقوقها، وإنما يرثون بالولاء بانتسابهم إلى المعتِق بجهةٍ تقتضي العصوبة المحضة، توجب توريثهم.
والدليل على أنهم لا يرثون الولاء، أن الولاء لو كان موروثاً، لاقتضى القياس أن يستوي في استحقاقه بالإرث الرجال والنساء كسائر الحقوق، ومن الدليل عليه أن المعتِق لو مات مسلماً، وخلف ابنا مسلماً، وابنا نصرانياً، ثم أسلم النصراني ومات المعتَق، فالابنان يستويان في ميراث المعتَق؛ لأنهما حالة موته من أهل استحقاق الميراث، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يقال: لما مات المعتِق المسلم، وخلف ابنين أحدهما كافر = إنه يختص بإرث الولاء المسلمُ منهما، ثم كان يجب أن يقال: إسلام الكافر بعد الموت لا يرد استحقاقه؛ فإن من لم يكن وارثاً حالة الموت لكفره، لم يصر وارثاً بعد إسلامه.
ومن الدليل على ذلك أن المعتِق لو مات، وخلف ابنين، ثم مات أحد الابنين عن ابن، ثم مات المعتَق بعد ذلك، فالميراث لابن المعتِق، وليس لابن الابن منه شيء، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يُرَدَّ نصيب أحد الابنين لما مات إلى ابنه، وهذا يوجب توريثه من المعتَق مع عمه. وليس الأمر كذلك؛ فإنه يختص بالإرث العمُّ.
وهو المعنيّ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «الولاء للكُبْر».
وسيزداد هذا الفصل وضوحاً بالتفصيل.
1433- فإذا ثبت ذلك، خضنا في ترتيب عصبات المعتِق.
فإذا مات المعتَق، ولا عصبةَ له من جهة النسب، ولا صاحبَ فرض، وكان المعتِق قد مات قبله، فلا نصرف إلى الذين هم أصحاب فرائض المعتِق شيئاً، وكذلك لا نصرف إلى الذين لا تتمحض العصوبة فيهم شيئاً. وهم الذين يصيرون عصبة بغيرهم.
فإذا وجدنا ابنَ المعتِق وبنتَه، فميراث المعتَق بجملته لابن المعتِق، وليس لبنت المعتِق شيء، وإن كانت البنت عصبة مع الابن في التوريث بالنسب، وهذا متفق عليه.
وإذا كان في المسألة ابنُ المعتِق وأبوه، اختص بالميراث الابن؛ فإن الأب صاحب فرض مع الابن، وكذلك ابنُ الابن مع الأب: الميراث لابن الابن دون الأب.
وإن لم يكن ابن ولا ابن ابن، فالميراث لأب المعتِق، ثم تترتب العصبات حسب ترتبهم في الميراث بالنسب.
ويخالف ترتيبُ العصبات في الولاء ترتيبَهم في النسب في أمور: منها: أن الجدّ يقاسم الإخوة في النسب؛ وفي الجد مع الإخوة في التوريث بالولاء قولان ذكرناهما، فلا نعيدهما.
ومنها أن الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب إذا اجتمعا مع الجدّ، فمذهب زيد في النسب المعادّة، ولا تجري المعادّة في الولاء أصلاً، بل يسقط الأخ من الأب؛ وذلك لأنا في المعادّة قد نعتبر فرضاً، ولا يتصور اعتباره في الولاء بحال.
فإن لم نجد عصبةً نسيباً للمعتِق، فالميراث لمعتِق المعتِق، فإن لم يكن، فلعصبات معتِق المعتِق، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق، ثم هكذا إلى حيث ينتهى.
12434- فإن قيل: هلا تورثون معتِق عصبةَ المعتِق؟ قلنا: لا ميراث لمعتق عصبات المعتِق، إلا أن تكون العصبة أباً، فمعتِقه يرث المعتَقَ؛ وهذا بعينه هو الذي مهدناه عند ذكرنا سراية الولاية.
ونوضح هذا بالمثال، فنقول: زيد أعتق سالماً، فوُلد لسالمٍ ولد اسمه عبد الله، فأعتق عبدُ الله عبداً، ثم مات المعتِق عبد الله، ومات أبوه سالم، وبقي معتِق أبيه زيد، ثم مات المعتَق، ورثه زيد؛ لأنه لما ثبتت له النعمة على سالم: أبِ المعتِق، ورث بولائه، وقد ذكرنا أن الولاء يسري إلى ولد المعتَق، وعبّر الأئمة بعبارة جامعة عمن يرث من عصبات المعتِق، وأجرَوْا عليه المسائل، فقالوا:"يرث المعتَق بولاء المعتِق ذكرٌ يكون عصبة للمعتِق، لو مات المعتِق يوم موت المعتَق على البدل"، وعلى هذا تخرج المسائل التي لا يبتدرها فهم المبتدىء.
فلو مات المعتِق، وخلف أباً وابناً، ثم مات المعتَق، ورثه الابن دون الأب؛ لأن المعتَق لو كان هو الميت الآن، لكان العصبة ابنه دون الأب.
وكذلك يخرّج الابن والبنت؛ فإن البنت ليست عصبة ذكراً، وليست عصوبتها بنفسها. ولو مات المعتِق عن ابنين مسلم وكافر، فأسلم الكافر، ثم مات المعتَق، ورثاه، أعني المسلم والذي أسلم بعد موت الأب؛ لأن الأب المعتِق لو مات يوم موت المعتَق، لكان الابنان جميعاً يرثانه بالعصوبة المحضة.
ولو اشترى أخ وأخت أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم الأب اشترى عبداً وأعتقه، فمات الأب، ثم مات المعتَق، ورثه الأخ دون الأخت، وليس يرثه الأخ بالولاء، وإنما يرثه بعصوبة المعتِق بالنسب، وهو يخرج على العبارة الضابطة، لأن المعتِق لو مات في هذه الحالة، لكان عصبته الابن دون البنت.
فإن قيل: أليس الابن والبنت اشتركا في شراء الأب، وثبت لهما الولاء عليه معاً؟ قلنا: نعم، ولكن الابن عصبة بالنسب، وقد ذكرنا أن عصوبة النسب مقدمة على عصوبة الولاء، وما دمنا نجد للمعتَق عصبة نسيباً، لا نصرف إلى معتِقه شيئاً، قيل: هذه المسألة غلط فيها أربعمائة قاضٍ، فضلاً عن غيرهم، وهي واضحة.
ومن غلط، قال: الميراث بين الأخ والأخت، لأنهما مشتركان في ولاء الأب.
وإذا ماتت امرأة عن ابنٍ، وأخٍ، وزوج، ولها معتَق، فمات المعتَق، ورثه الابن لا غير؛ لأنها لو ماتت الآن، كان هو العصبة.
ولو مات رجل عن ثلاثة بنين، وله معتَق، فمات أحدهم عن ابنٍ، والثاني عن أربعة بنين، والثالث عن خمسة بنين، ثم مات المعتَق ورثوه كلهم اعتباراً بالتسوية؛ فإن المعتِق لو مات الآن، لكانوا جميعاً عصبة له يقسمون ماله أعشاراً.
12435- ومما يخرّج على هذا الأصل أنه إذا كان لرجل ثلاثة من البنين، اثنان من امرأة وواحدٌ من أخرى، فمات، ثم اشترى أحد الأخوين من أب وأم-وأولاد الأب والأم يسمّون الأعيان، وأولاد الأب يسمَّوْن العلات- فإذا اشترى أحد العينين عبداً وأعتقه، فمات، ورثه أخوه العَيْن، وصار قائماً بالولاء، فلو مات عن أخيه العَلّة، وعن ابن، فماله لابنه، والولاء لأخيه العَلّة.
فإن قال الابن: أنا قد أحرزت مال أبي، فأُحرز الولاءَ أيضاً، قلنا: لا، فإن الولاء لا يورث، بل يورث به، فالعَلَّة يتقدم على ابن العين.
ولو مات المعتِق-أحد العينين- وخلف ابن عَيْن وعَلَّة- وهو أخوه من أب، فهو العصبة دون ابن العين.
وهذه المسألة بعينها وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه: كان لهشام بن أبي العاص ثلاثة من البنين: اثنان من امرأة، وواحدة من أخرى، فاشترى أحد العينين عبداً، وأعتقه، ومات، وأخذ مالهَ أخوه العين، ثم مات عن ابن، فتنازع هو وأخ العلة في الولاء، فقضى به عثمان للعلَّة. وقيل هذا هو المعني بما ورد:"أن الولاء للكُبْر"، وليس المراد كبر السن وإنما هو كبر الدرجة، ومن هو أقرب وأولى بالعصوبة.
12436- ومما ذكره أبو حامد المروزي في عصبات الولاء أنه إذا كان للمعتَق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فإن سبيل التوريث في النسب أن نقول: للذي هو أخ لأم سدس المال. والباقي بينهما. قال أبو حامد: إذا وقعا في الولاء، فابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ جميع المال.
وهذا لم يُر إلا له، وهو غلط عند المحققين؛ فإن أخوة الأم لا توجب قوةً في عصوبة النسب، فكيف توجب قوةً في الولاء، والوجه الذي لا يجوز غيره استواء ابني العم، وسقوط أثر أخوة الأم.
والمذهب الصحيح أن الأخ من الأب والأم في الولاء مقدم على الأخ من الأب، كما أنه مقدم عليه في التوريث بالنسب. وقال بعض الأصحاب: هما سواء؛ فإن أخوة الأم لو انفردت، لم يعلق بها استحقاق بالولاء، فينبغي ألا تكون مؤثرة في تقوية العصوبة. وهذا وإن كان منقاساً، فهو بعيد في الحكاية، والأصح تقديم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في عصوبة الولاء، وإنما اشتهر القولان في اجتماع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب في ولاية التزويج.
هذا ترتيب المذهب في عصبات الولاء، أعدنا منه ما رأينا إعادته.
12437- ووراء ذلك أمر يجب الاعتناء به، وهو أن المعتَق لو مات، وخلف معتِق أب مُعتِقه-وهو الذي صورناه في أثناء المسألة- فلو انفرد هذا، لاستحق ميراث المعتَق؛ فإنه لما أعتق أبَ المعتِق، ثبت له الولاء على المعتِق بالسراية، لا بالمباشرة، فلما أعتق ذلك الابن عبداً، انتسب المعتَق إليه، وانتسب هو إلى أبيه، والأب معتَق المعتِق الأول، وقد ذكرنا أن الولاء انتساب، فقد ينتظم الانتساب من الولاء المحض، كمعتِق المعتَق ومعتِق معتِق المعتَق.
وإن نظمنا الكلام من الطرف الآخر، قلنا: معتِق معتِق المعتَق ابن المعتِق، وقد ينتظم من الولاء والنسب مثل معتِق أب المعتِق وإن عكست، قلت: معتَق ابن المعتَق. والولاء ينتظم مع من هو ابن المعتِق كما ينتظم مع المعتِق. وكل هذا مما مهدناه من قبل.
وبالجملة للولاء حكم السراية في جهتين، في جهة الأولاد وفي جهة معتِق المعتِق ثم يتركب مُعتِق ابن وابنُ معتِق، وإذا فُهم ذلك، لم يبق وراءه إلا النظر في التقديم والتأخير. فلو مات المعتَق وله معتِق أب المعتِق ومعتِق المعتِق، فلا شك أن معتق معتقه أولى به؛ فإنه يستحق ولاء معتَقه بالمباشرة ومعتِق أبيه يستحق حكم ولاية السراية التي تقدم شرحها، ومن انتهى إلى هذا الموضع لم يخف عليه قوة ولاء المباشرة واستئخار ولاية السراية عنه؛ ولهذا لم ينجرّ ولاء المباشرة وانجر ولاء السراية.
12438- فلو كان في المسألة معتِق أب المعتِق ومعتِق معتِق المعتِق، فهذا موضع التأمل؛ فإن المعتق البعيد العالي ليس له على المعتِق الأخير ولاء مباشرة. وإنما انتظم الأمر بينهما بجهات من الولاء، لم يصدر العتق فيها عن المعتق العالي، فقد يقول ذو الفطنة: معتِق أب المعتِق أقرب، وهو يتوصل إليه بالسراية الوِلادية، ومعتق معتق المعتق يتوصل إلى المعتق الأخير بالسراية المستفادة من جهة تعاقب جهات الولاء.
فيجب أن ينظر إلى الأقرب، ومعتق أب المعتق أقرب من المعتق العالي البعيد.
وهذا غلط ذكرناه تنبيهاً، ووجهه أن المعتِق الأخير شخص واحد، فرضنا اتصال معتقين به، أحدهما- معتِق أبيه.
والثاني: معتق معتِق معتِقه، وإذا كان كذلك فقد مسّ المعتِق الأخير رق، ثم عتق، وثبت عليه ولاء مباشرة، وإذا كان عليه ولاء مباشرة، فلا يتصور أن ينجرّ ولاؤه إلى معتق أبيه، فلا نظر-والحالة هذه- إلى البعد والقرب.
ومعظم مسائل الولاء تعقيدات يحلّها الفكر القويمُ وإحكامُ الأصول، وهي شبيهة بمعاياة الفرائض، وقد يستهين المحقق بمعاياة الفرائض لوضوح أصولها، وتكثير مسائل الولاء حتمٌ، فبها التدرّب، وبتكريرها طرداً من الأعلى إلى الأسفل، وعكساً من الأسفل إلى الأعلى يحصل الإلف بوضع ألباب؛ وإلا فلم يبق من الباب قولٌ في جهة الولاء، ولا في حكمه، ولا فيمن يقدم ويؤخر.
نعم، بقي طرف يسمى سهمَ الدور، وأنا أرى أن نذكر من هذا المنتهى إلى افتتاح القول في الدور مسائلَ متوسطة، ثم بعدها سهمَ الدور، وينتجز الباب عليه.
مسألة:
قال:"ولا ترث النساء الولاء، ولا يرثن بالولاء إلا من أعتقن... إلى آخره".
12439- قوله:"لا ترث النساء الولاءَ " يوهم أن الرجال يرثونه، وليس كذلك، فالولاء لا يورث، بل يورث به، وغرض المسألة أن المرأة لا تكون عصبةً للمعتَق عن نسب بينها وبينه عصوبة يستحق به الإرث بالولاء؛ فإنها إن كانت عصبةً، فبغيرها، والعصوبة إذا كانت مستفادة من الغير، لم يتعلق بها توريث بالولاء.
فأما إذا أعتقت المرأةُ عبداً، أو أمة، كانت بمثابة الرجل إذا أعتق، فترث عتيقها حيث يرثه الرجل المعتِق، وكذلك معتَق معتَقها كمعتَق معتَق الرجل، وكذلك ولدُ معتَقها منها كولد معتَق الرجل منه؛ فقد ساوت المرأة الرجلَ في ولاء المباشرة، وفي جهتي ولاء السراية.
ولو أعتقت امرأةٌ عبداً، وأعتق رجل أمة، ونكح المعتَق المعتَقة، فأتت بولد، فولاؤه لمعتِقَةِ الزوج لا لمعتِق الزوجة.
ثم ينعقد من هذا مسألة فيها تثبت، وهي أن ابن المعتَق عليه ولاء السراية، وكذلك ابن ابنه وإن تسفّل إذا كان الإدلاء بمحض الذكور.
ولو كان للمعتَق أحفاد إناث، فلا يبتدرنّ الفقيهُ الجوابَ؛ فإن البنت الأولى منتسبة إلى المعتَق، فلا فرق بينها وبين الابن، إذ الذكر والأنثى أبوهما المعتَق، وأما بنت البنت، فإنها تنتسب إلى البنت العالية بالولادة ونسبها الحقيقي إلى أبيها، فانظر مَنْ أبوها وأخرجه من الأصول، فإن كان أبوها معتَقاً لشخص، فهي بين معتَقة ومعتَق، فولاؤها لموالي أبيها، وإن كان أبوها مملوكاً، فولاؤها ينتظم إلى المعتَق الذي هو جدها، وإن كان أبوها حرّ الأصل، فوجهان:
أحدهما: لا ولاء عليها، والثاني: أن الولاء عليها لموالي الأم كما قدمنا.
وليس في هذه المسألة زيادة، ولكن لابد منها؛ إذ بها الدربة وتهذيب الأصول.
مسألة: 12440- إذا اشترت المرأة أباها، عَتَقَ الأب عليها، وثبت لها الولاء على أبيها، على وجه المباشرة، فلو أن الأب بعد ما عَتَقَ اشترى عبداً وأعتقه، فقد ثبت له ولاء المباشرة على معتَقه، وللبنت حقُّ سراية الولاء على معتَقه، ولكن صاحب المباشرة مقدمٌ ما بقي، فلو مات الأب، وخلف مالاً وترك البنت وابن عم أو غيره من عصبات النسب، فللبنت نصف ميراث أبيها والباقي للعصبة؛ فإن عصوبة النسب مقدمة على جهة الولاء، ولو لم يخلف الأب سوى البنت، أخذت نصف المال بالنسب ونصفه بالولاء.
ولو مات أبوها وخلّف عمّاً والبنت، فقد بان ميراثه.
فلو مات معتَقه، ولم يخلف من خواص ورثته أحداً، وإنما خلف عمَّ معتِقه وابنتَه التي أعتقته، فالميراث كله لعم المعتِق، فإن عصبة المعتِق أولى من معتِق المعتَق.
ومما يتعلق بهذه المسألة أن ابناً وبنتاً لو اشتركا، فاشتريا أباهما نصفين، عتق عليهما، وثبت لكل واحد عليه نصف الولاء، فلو اشترى الأب عبداً وأعتقه، ثم مات الأب، فميراثه بيّن، فلو مات معتَقُه ولم يخلف سوى ابن المعتِق وابنته، فهما مشتركان في الولاء، ولكن الميراث لابن المعتِق، لا لأجل الولاء، ولكن لأنه عصبةُ المعتِق من جهة النسب.
فإذا أخذ الابنُ ميراثه كما ذكرناه، فلو مات الابن وخلف أخته، فلها نصف ميراثه بالأخوة، ولها من الباقي نصفه؛ فإنها لما اشترت نصف أبيها، عتق عليها نصفه، وثبت لها ولاء السراية على نصف ابنه، وكذلك الابن ثبت له ولاء السراية على نصف أخته. فلما مات الابن في مسألتنا، أخذت نصف ميراثه بالأخوة، وأخذت من النصف الباقي نصفه. فيخلص لها ثلاثة أرباع الميراث، ويصرف الباقي إلى بيت المال.
ولو مات الأب، ثم مات الابن، ثم مات معتَق الأب ولم يخلف سوى بنت المعتق، فلها نصف ميراثه بثبوت الولاء على نصف الأب، ولها من النصف الآخر نصفه لثبوت ولاء السراية على نصف الأخ؛ وكان يستحق لو كان باقياً، فيسلّم لها ثلاثة الأرباع. وهذا هيّن.
مسألة: 12441- إذا اشترى الرجل جاريتين كانتا أجنبيتين من المشتري، ولكنهما كانتا أختين لأب وأم، فلما اشتراهما أعتقهما، فقد ثبت له الولاء عليهما لمباشرة الإعتاق فيهما، فلو اشترتا أباهما، وعتق عليهما، فلكل واحدة الولاء على نصف أبيها، ولا يثبت لواحدة منهما الولاء على صاحبتها بسبب ثبوت الولاء على الأب؛ لأن الولاء قد ثبت عليهما للأجنبي بمباشرة الإعتاق، والولاء الثابت بهذه الجهة لا يتحوّل، فإذا مات أبوهما، فلهما ثلثا ميراثه بالنسب، والباقي بالولاء الثابت لهما عليه؛ إذ لا عصبة للأب غيرهما.
فلو ماتت إحداهما بعد ذلك، فللأخت نصف ميراثها بالأخوة، والنصف الباقي لمعتِقها، إذا لم يكن لها عصبةٌ بنسب.
ولو كانتا ولدي معتقه من أب رقيق، ثم اشترتا أباهما، فيثبت لهما الولاء على الأب، ويثبت لكل واحدة الولاءُ على نصف أختها؛ فإن الولاء إذا ثبت على الأب، ثبت على أولاده، وانجر من جانب الأم إذا لم يكن الولاء على الأولاد بمباشرة الإعتاق. ثم لا يخفى بيان التوريث بعد ذلك.
مسألة: 12442- أختان حرتان لم تعتقا مباشرة، كان أبواهما رقيقين-وتصوير ذلك هيّن بغرور- إذا اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما، فقد ثبت لكل واحدة منهما ولاء المباشرة على من اشترت، ويثبت الجرّ من أحد الجانبين، فولاء التي اشترت أمها ينجر إلى التي اشترت أباها؛ فإن من ثبت له الولاء على الأب، انجر إليه ولاء أولاده من موالي الأم. فأما التي اشترت الأم، فالمنصوص أن ولاء صاحبتها، وهي التي اشترت الأب للتي اشترت الأم؛ لأن التي اشترت الأب جرّت ولاء أختها بسبب إعتاقها الأب. فلو جرت ولاء نفسها على القياس، لكانت مولاة نفسها، أو لانقطع الولاء، وكلاهما محال؛ فتعذّر الجر. وإذا تعذر، بقي ولاؤها لموالي الأم، وأختها مولاة الأم؛ فصارت كل واحدة من الأختين مولاة الأخرى.
وقد يتصور شخصان كل واحد منهما مولى صاحبه من أعلى ومن أسفل، وسنذكر لذلك أمثلة.
وقال ابن سريج في مسألة الأختين: ولاء مشترية الأب لا يكون لمشترية الأم، بل تجر ولاء نفسها، ويرتفع الولاء عنها، وتصير بمثابة مَنْ لا ولاء عليه لأحد. وقد قدمنا هذا بعينه في تمهيد أصول الولاء.
فإذا وضح أمر الولاء، هان ترتيب الإرث، فنقول: إذا مات الأب، فميراثه مقسوم بينهما، فلهما الثلثان- أعني البنتين، وباقي ميراثه للتي اشترته بالولاء، وإذا ماتت الأم فثلثا الميراث لهما. وباقي ميراثها للتي اشترتها.
ثم إذا ماتت إحداهما بعد ذلك، نُظر: فإن ماتت التي اشترت الأم، فنصف ميراثها للأخت بالأخوة، وباقي الميراث مصروف إليها بالولاء؛ فإنها جرت ولاءها بإعتاق الأب.
وإن ماتت التي اشترت الأب، فنصف ميراثها لأختها بالأخوة، والنص أن الباقي يصرف إليها بالولاء لتعذر الجر. هذا هو النص. وابن سريج يزعم أنه لا يصرف إليها الباقي؛ فإنه لا ولاء على التي اشترت أباها، فيصرف الباقي إلى بيت المال.
مسألة: 12443- رجل حر، وأبواه حران ما مسّ أحداً منهم الرق، وأَبَوَا أبيه مملوكان، وأبو أمه مملوك، وأم أمه معتقَة، فالولاء ثابت لمولى أم الأم، وهذا بيّن من مقتضى الأصول؛ فإن جدته معتقة عليها ولاء مباشرة، وبنتها عليها ولاء السراية، والرجل الذي فيه الكلام ابنها. وهذا يجري إذا قلنا: إذا تزوج حر بمعتقة، ثبت الولاء على الأولاد لموالي الأم، فليقع التفريع على هذا الوجه.
فإذا أُعتق أبو الأم-فإنا صورناه مملوكاً- انجر الولاء إلى مواليه، فإذا أُعتقت أم الأب، انجر الولاء إلى مولاها، فإذا أعتق أبو الأب، انجر الولاء إلى مولاه، ويستقر حينئذ.
فأما الجر الأول فبين؛ فإن الولاء كان ثبت لمولى الأم على ابنتها، فإذا أُعتق أبو البنت، انجر الولاء إلى جانب الأب، وكل ذلك تردّدٌ في ولاء أم الرجل الذي نتكلم فيه: كان لموالي أمها، ثم صار لموالي أبي الأم، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل- وقد كان ولاء الرجل لموالي أمه، ثم انجر إلى موالي أبي أمه، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل- ثبت الولاء على أبي الرجل بالسراية، فكان ولاء الرجل الذي فيه الكلام بجانب أبيه أولى، فإذا أُعتق أبو أبي الرجل، كان الولاء بجانب أبي الرجل أولى، فتردد الولاء كذلك، وهذا واضح أخذاً من الأصول.
مسألة: 12444- أب وابن اشتريا عبداً وأعتقاه، فمات المعتَق، فالميراث بينهما نصفان، فلو مات الأب عن ابن آخر سوى الابن المشتري، ثم مات المعتَق، كان نصف المال للابن المشتري بولاء المباشرة، والنصف الباقي بينهما لأنهما عصبات الأب وهو مستحق نصف الولاء.
فلو مات الابن المشتري عن ابنٍ، وكان الأب مات عن ابنٍ، ثم مات المعتَق، كان للابن الذي هو ابن المشتري نصف المال بولاء أبيه، ولغيره النصف الثاني بولاء أبيه. ولا شيء لهذا الحافد بولاء جده؛ لأن الابن يتقدم على ابن الابن، وعلى هذا فقِس.
مسألة: 12445- ابنة اشترت أباها، فمات الأب، ورثت نصف المال بالنسب، والباقي بالولاء.
ولو اشترت بنتان أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم مات، فلهما الثلثان، والباقي بالولاء. فإذا اشترى الأب عبداً، وأعتقه، ومات الأب، ثم مات المعتَق ورثتاه، لأنه عتيق عتيقهما.
ولو اشترت إحدى البنتين مع أبيها أخاها من الأب، والأب معسر عَتَق عليه النصف، فلو أعتقت هي النصف الآخر، ثم مات الأب، كان المال بين الأولاد وهم بنتان وابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو مات الأخ بعد ذلك، أخذتا الثلثين بالنسب، وللمعتقة نصف الباقي بولاء ثبت لها، والباقي لبيت المال، إلا أن يصادف عصبة.
مسألة: 12446- وهي غمرة الولاء، وفيها الدَّوْرُ. وصورتها: أختان اشترتا أمّهما، وعتقت الأم عليهما، ثم إن الأم بعد ما عتقت، شاركت أجنبياً، واشتريا أبا الأختين، وأعتقاه، فيثبت الولاء لهما نصفين على الأب، ثم يثبت لهما ولاء الأختين نصفين؛ فإن من ثبت له الولاء على شخص، ثبت له الولاء على أولاده. وولاء الأب، يجر ولاء الأولاد من الأم، فيثبت للأجنبي نصف ولاء كل واحدة من الأختين، وكذلك يثبت للأم نصف الولاء على كل واحدة منهما.
هذا قاعدة التصوير.
12447- ثم شعّب ابن الحداد في التقديم والتأخير في تصوير الموت مما ذكرناه أربع صور:
إحداها: أن تموت الأم، ثم الأب، ثم إحدى الأختين. فنقول: أما الأم لما ماتت، فلبنتيها الثلثان، من مالها بالنسب، ولهما بقية مالها بالولاء؛ فإنهما اشترتاها، وعتقت عليهما.
ثم لما مات الأب، فترثان الثلثين من مال الأب بالنسب، وما بقي فنصفه للأجنبي الذي شارك الأم في شراء الأب، لأن له نصف ولائه، والنصف من الباقي للبنتين؛ فإن نصف الولاء لأمهما، وهما استحقتا ولاء أمهما، فإذا لم تكن حية ورثتا ولاء معتَقها، إذالم يكن لها عصبة نسب.
فخرج منه أن الأب لما مات، فالثلثان للبنتين، والباقي بين الأجنبي وبينهما، نصفه للأجنبي ونصفه لهما.
ثم لما ماتت إحداهما بعد موت الأب، فللأخت من ميراثها النصف بالأخوة، فبقي النصف. فنقول: نصفه الباقي للأجنبي؛ لأنه لما ثبت له الولاء على نصف الأب، ثبت له الولاء على نصف ولده، فله نصف ما بقي إذاً، وأما الباقي- وهو الربع فلو كانت الأم باقية، لأخذته؛ فإن لها نصف ولاء كل بنت، كما للأجنبي ذلك، فإذا كانت ماتت، فيأخذ ذلك في القياس من يستحق ولاء الأم، وولاء الأم ثابت للأخت الحية والميتة نصفين، فنقول: نصف الربع الباقي للأخت الحية بالولاء، والباقي- وهو الثمن- للميتة لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فالقياس أن يكون ذلك لمن يرجع ولاء الميتة إليه، وولاء الميتة يرجع إلى الأجنبي والأم، ثم قدر ولاء الأم يرجع إلى الحية والميتة، ثم قدر ولاء الميتة من الأم يرجع إلى الأجنبي والأم، فيدور سهم لا ينقطع، ولا ينفصل أثره.
فاختلف أصحابنا في هذا السهم، فالذي اختاره ابن الحداد بأنه يوضع في بيت المال، ويكون ميراثاً للمسلمين. فإنه عَسُر صرفه إلى جهة الولاء بسبب الدور، فكأنْ لا ولاء له في ذلك القدر.
وهذا مزيّف؛ فإن الولاء ثابت، ونسبة الدور معلومة، فيجب تنزيل الدائر على تلك النسبة.
ثم الكلام يقع بعد ذلك في سهم الدور ثم في النسبة التي يقسّم سهم الدور عليها.
فإن قيل: ما قدر سهم الدور في كل مسألة يتفق فيها الدور؟ قلنا: ما أمكن صرفه إلى الأحياء، فلا دَوْرَ فيه، وما يرجع استحقاقه إلى ميت، ثم يدور منه إلى حي، وذلك الميت، فإذا انتهى الأمر إلى سهم ذلك الميت الذي لو قسم، لرجع سهمٌ إليه، فهو سهم الدّور فإن قيل: كم سهم الدور في المسألة التي نحن فيها؟ قلنا: هو ثُمن جميع المال مع إدخال نصف الأخت في الحساب. هذا سهم الدور.
فإن قيل: فما النسبة التي يقسمون سهم الدور عليها؟ قال الشيخ أبو علي: يقسم كل الميراث بين الأخت الحية، وبين الأجنبي على سبعة أسهم. للأخت منها خمسة، وللأجنبي سهمان.
قال: وطريقة معرفة ذلك أنه لما وقع في المسألة ثُمن، قدرنا المسألة ابتداء من ثمانية، وصرفنا إلى الأخت أربعة بحق النصف. ثم صرفنا من الباقي سهمين إلى الأجنبي، وسهما إلى الأخت الحية، فحصل للأخت خمسة، وللأجنبي سهمان.
وبقي سهم هو سهم الدور، فنفضُّه على السهام السبعة.
وهذا خطأ صريح؛ فإن ضَم ما تستحقه الأخت بالنسب إلى حساب الولاء، لا وجه له، وفضّ ما يؤخذ بالولاء على ما يؤخذ بالنسب غير مستقيم. وليس هذا مما يخفى بأوائل الفكر، فالوجه أن نفرد النصف، فلا ندخله في حساب الولاء، ولا نعطف عليه شيئاً من حساب الولاء، وننظر في الباقي، فنجد نصف الباقي مصروفاًً إلى الأجنبي، والنصف الآخر من الباقي مصروفاً إلى الأم، ثم منها إلى البنتين، ثم سهم واحدة-وهو مبتدأ الدور- يرجع نصفه إلى الأجنبي ونصفه إلى الأم.
فنستبين من هذه الإدارة أن المال بين الأجنبي وبين الأخت الحية أثلاثاً، هكذا تجري نسبة القسمة. فنحتاج إلى عدد له نصف، ولنصفه ثلث، وهو ستة، فنصرف إلى الأخت ثلاثة بالأخوة، وسهماً مما بقي، ونصرف سهمين إلى الأجنبي، فيحصل للأخت أربعة من ستة، وللأجنبي سهمان.
12448- الصورة الثانية: أن تموت-في المسألة التي صورناها- إحدى الأختين، والأبوان حيّان، ثم تموت الأم. فنقول: البنت لما ماتت، صرف ميراثها إلى أبويها، للأم الثلث والباقي للأب؛ والأخت محجوبة. ثم لما ماتت الأم، فنصف ميراثها للبنت بالنسب، والنصف من الباقي لها أيضاً، فإن ولاء الأم ثبت للبنتين، لكل واحدة نصفه. فأما الباقي فللأب؛ فإن نصف الولاء للبنت الميتة، والأب عصبة للميتة، ولا دور في هذه المسألة، ولا نصوّر فيها زوجية بين الأب والأم.
12449- الصورة الثالثة- أن يموت الأب أولاً، ثم إحدى البنتين، ثم الأم، فنقول: لما مات الأب، فالثلثان للبنتين، والباقي للأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأب لها.
ولما توفيت إحدى الأختين فقد خلفت أختا وأما، فللأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي بين الأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأخت الميتة ثبت لها بثبوت الولاء على أبيها.
فلما ماتت الأم وخلفت بنتاً، فلها النصف بالميراث، ولها أيضاً نصف ما بقي؛ فإن نصف ولاء الأم لها. والنصف الثاني من الولاء حق البنت الأخرى لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فيرجع إلى من ولاء الميتة له، وولاء الميتة للأجنبي والأم الميتة، فأما الأجنبي فيأخذ مما بقي نصفَه، فيبقى الثُمن من الجملة إذا حُسب، وهذا في التقدير حق الأم الميتة، وهو سهم الدور، فتخرج المسألة فيه على الترتيب الذي ذكرناه.
وقد ذكر ابن الحداد في هذه الصورة شيئاً غلط فيه، فقال: للبنت الحية إذا ماتت الأم النصف، ولها نصف ما بقي. وللأجنبي نصف ما بقي-وهو الثُمن. ثم قال: وللبنت الحية النصف من هذا الثُمن الباقي مرة أخرى، ثم يوضع الباقي في بيت المال. قال القفال: هذا غلط؛ فإن سهم الدور هو الثمن الذي آل إلى استحقاق الأم الميتة- فلو جاز أن تعطى البنت للحية منهما نصف الثمن، فينبغي أن يدفع إلى الأجنبي مرة أخرى، وليست مرة أخرى أَولى من مرتين، ثم هذا على فساده خلاف ما ذكر في المسألة الأولى؛ فإنه لم يقطع في تلك المسألة إلا سهم الدور.
12450- والصورة الرابعة--والمسألة كما وصفناها- تموت البنتان وأبواهما حيان، فميراثهما مصروف إليهما كما ذكرنا، فلو مات الأب بعدهما، فميراثه مصروف إلى الأجنبي والأم نصفين؛ إذ قد ثبت لهما الولاء عليه كذلك؛ فلما ماتت الأم، فنصف ميراثها للأجنبي؛ فإنه قد ثبت للأجنبي نصف ولاء بنتيها. وقد ثبت لبنتيها عليها الولاء، ويوضع الباقي في بيت المال.
وقد نجز الكلام في الولاء تأصيلاً وحكماً وتفصيلاً وضبطاً وتدريباً بالمسائل. والله المشكور.