فصل: فصل: في تأخُّر المأموم عن الإمام، وفي تقدمه عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في تأخُّر المأموم عن الإمام، وفي تقدمه عليه:

1213- فنقول: أما تكبيرة العقد، فيجب أن يتقدم الإمام بها، ويقع ابتداء تكبيرة المأموم بعد فراغ الإمام من التكبير، فلو ساوقه المأموم، لم يجز أصلاً، وجوز أبو حنيفة ذلك.
فأما ما عداها من الأركان، فيقتضي أدب الشرع فيها أن يتقدم الإمام بالركن، ثم يتلوه المقتدي قبل أن يفارق ذلك الركن، فإذا ركع، ركع بعده، بحيث يدركه في الركوع، فلو ساوقه، وجاراه في سائر الأركان، جاز ذلك، والأولى ما قدمناه. ولو ساوقه في التسليم، جاز قياساً على سائر الأركان، وكان شيخي قال مرة: التسليم كالتحريم، فلا تجوز المساوقة فيه، وهذا زلل، غير معدود من المذهب.
فإذا وضح ذلك فيه، فنذكر تقدم الإمام، ثم نذكر تقدم المأموم.
1214- فإذا تقدم الإمام على المأموم من غير عذرٍ بركنٍ، فالذي أطلقه الأصحاب اختلافٌ في ذلك، فقالوا: من أصحابنا من قال: إن تقدم بركنين، ولابس الثالث، بطلت القدوة والصلاة، وإن تقدم بركن واحد ولابس الثاني، لم يضر.
ومنهم من عدّ التقدم بركنٍ واحد وملابسة الثاني مبطلاً، وإنما يتم هذا بفرض القول في الركوع مثلاً.
فنقول: إذا ركع الإمام، وتخلّف المأموم قائماً من غير عذر، حتى رفع الإمام رأسه، واعتدل، ثم هوى، فسجد، فكما لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان صلاة المأموم؛ فإن الإمام قد سبق بالركوع، والاعتدال، وهو قائم، ولابس الركن الثالث، ولا يتوقف بطلانُ الصلاة على أن يرفع رأسه من السجود، والمأموم بعدُ قائم وفاقاً.
ولو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم بعدُ قائم، فهل تبطل بهذا المقدار صلاة المقتدي؟ فعلى وجهين مشهورين.
ثم ذهب بعض الأصحاب إلى أخذ هذا الخلاف من التردد في أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصودٌ أم لا؟ فإن قلنا: إنه ركن مقصود، فقد فارق الإمامُ ركناً، ولابس آخر مقصوداً، فتبطل صلاة المتخلف، وإن لم نجعل الاعتدال ركناً مقصوداً، توقف الحكم بالبطلان على ملابسة السجود.
1215- وهذه الطريقة وإن كانت مشهورة، فلست أرضاها؛ فإن الاعتدال من الأركان التي لابد منها، ولو لم يكن مقصوداً وكان الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، للزم منه أن يقال: إذا فارق حدَّ الراكعين في انتصابه كفى، وإن لم يعتدل قائماً؛ لحصول الفصل، فلا تعويل على هذا عندي.
والوجه رد الخلاف إلى شيء آخر، وهو أن من أصحابنا من يقول: لا تبطل الصلاة ما لم يسبق بركنين، والمأموم بعدُ في قيامه، ومنهم من يقول: إذا اعتدل، فقد تحقق السبق بركن تام وهو الركوع، فكفى ذلك في الحكم بإبطال الصلاة، فإن اسم المسبوق قد حصل، فإذا تقدم الإمام، فركع، فتلاه المأموم، وأدركه في الركوع، فما سبق الإمام بركنٍ، بل سبق إلى الركن، وتابعه المقتدي. وهو صورة المتابعة. وإذا بقي قائماً حتى يرفع الإمام، فقد سبقه بركن على التحقيق.
1216- ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا شرطنا سبقَ الإمام بركنين، فإذا رفع الإمام رأسه وهوى، ولم ينته بعدُ إلى السجود، فيظهر عندي أن نحكم ببطلان القدوة، وإن لم يلابس السجود، وإن كنا نشترط التقدّم بركنين؛ فإن التقدم يحصل بمفارقة الاعتدال، ولا يرفع ذلك ظن من يظن أن الاعتدال غيرُ مقصود، فلْيلابس السجودَ، فإن ذلك باطل، كما تقدم، وأيضاً: فالإمام إذا لابس ركناً، لا يكون سابقاً به ما لم يفارقه، فلو صح ذلك، للزم ألا تنقطع القدوة، حتى يرفع الإمام رأسه من السجدة، والمقتدي بعدُ قائم.
فهذا تمام البيان في ذلك.
1217- ولو فرض السبق في السجود ابتداء، لانتظم ما ذكرناه، فلو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم معه، فسجد الإمام ورفع، والمأموم في اعتداله، فهو كما لو بقي في القيام حتى ركع ورفع الإمام، وملابسة السجدة الثانية كملابسة السجدة الأولى، والتفريع كالتفريع. غير أن من أصحابنا من يقول: الجلوس بين السجدتين من الأركان الطويلة؛ فيجعلها مقصودة، ومنهم من يجعلها قصيرة، فهي كالاعتدال من الركوع.
1218- ومما يليق بتمام البيان في ذلك أن المأموم لو لم ينتسب إلى تقصير في تخلفه، ولكن الإمام أفرط في السرعة، وخالف عادته، فسبق بركن أو بركنين، فمن أئمتنا من يحكم ببطلان صلاة المقتدي، لوجود صورة السبق، ومنهم من قال: لا تبطل صلاة المقتدي لتمهد عذره.
وسيأتي شرح هذا في مسألة الزحام.
فهذا كله إذا سبق الإمامُ، وتخلف المأموم.
1219- وأما إذا تقدم المقتدي، فركع قبل الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فالذي صار إليه الأئمة أن تقدُّمه مقيسٌ على تقدم الإمام عليه في الوفاق والخلاف حرفاً حرفاً.
1220- وكان شيخي يقول: تقدم المأموم قصداً يُبطل صلاتَه. حتى إذا ركع والإمام قائم، بطلت صلاتُه، وإن أدركه الإمام في الركوع. وكان يوجّه هذا بأن التخلف صورةُ المتابعة. فإن وجد فيه سرفٌ، ففيه خلاف، فأما التقدم على الإمام فمناقض لصورة الاقتداء، فكما وقع أبطل، وكان يمثل بموقف الإمام والمأموم، ويقول: تقدمُ المقتدي على الإمام في موقفه بأقل القليل يُبطل القدوة، وتأخره بالمسافة الكثيرة قد لا يبطل صلاته، وتعلق بأخبار فيها وعيد، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار»وما ذكره وإن كان يتجه، فإني لم أره لغيره، فلا أراه من المذهب، والوجه ما قطع به الأئمة.

.باب: موقف صلاة الإمام والمأموم:

1221- الباب يشتمل على نوعين:
أحدهما: الكلام في رعاية أفضل المواقف وذكر الأَوْلى، والثاني: ما يجب رعايتُه في المواقف في الأماكن المختلفة.
فأما الأول فنقول فيه: إذا كان يصلي الإمام مع رجل واحد، فينبغي أن يقف ذلك الرجل عن يمينه، ولا يقف عن يساره، ولا وراءه، ولو وقف خلفه أو وراءه، صح. والأصل فيه حديثُ ابن عباس: "فإنه ذكر أنه اقتدى برسول الله وحده في بيت خالته ميمونة، فوقف عن يساره فاقتدى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرّه من ورائه حتى أوقفه على يمينه"، فدلّ ذلك على الأولى، والصبي الواحد كالرجل في هذا، فكان ابن عباس صبياً إذ ذاك.
ولو كان يصلي مع الرجل امرأة واحدة، فتقف وراء الإمام وتتستر به.
ولو كان يصلي مع خنثى وحده، فهو كالمرأة فيما ذكرناه.
ولو كان يصلّي مع الإمام رجلان، أو صبي ورجل، فإنهما يقفان ويصطفان وراءه.
وروي عن علقمة: "أنه دخل على ابن مسعود مع صاحب له، فدخل وقت الصلاة، فأقام أحدهما عن يمينه، والثاني عن شماله، وصلى بهما، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والشافعي رأى هذا منسوخاً، واعتمد في الباب ما روى أنس أنه قال: "وقفت أنا ويتيم كان في البيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فرأى الشافعي هذا ناسخاً لحديث ابن مسعود، وثبت عنده تأخر هذا الفعل، والله أعلم.
وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس بأنه كان بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، فرأى روايته أثبت، وما رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثنين، وهذا أسلم من دعوى النسخ.
1222- وإن كان يصلي برجل وامرأة، فليقف الرجل عن يمينه، وتقف المرأة خلف الرجل المقتدي، فتكون مستترة به عن الإمام، بعيدة عن المقتدي والتفاته.
وإن كان رجل وخنثى مع الإمام، فهو كالرجل والمرأة.
وإذا كان رجل وخنثى وامرأة، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى وراءه، والمرأة وراء الخنثى، وتعليل ذلك بين. وروى الشافعي بإسناده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً وعجوزاً منفردة خلف أنس"، وإن كان مع الإمام خنثى وامرأة، وقف الخنثى وراء الإمام، والمرأة خلف الخنثى، فهذا بيان ما يرعى في فضيلة الموقف.
1223- ولو دخل المأموم المسجد، فلا ينبغي أن يقف وحده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلو وقف وحده، صحت الصلاة مع الكراهية، والأولى لمن لا يجد موقفاً في الصف أن يجرّ أحداً من الصف، والأولى لذلك الواحد المجرور أن يساعده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فهذا مما يتعلق بغرضنا في هذا النوع.
1224- فأما النوع الثاني، فنصدّره بأن نقول: المنصوص عليه في الجديد أن موقف المأموم إذا تقدم على موقف الإمام، لم يصح اقتداؤه.
وقال مالك: يصح اقتداؤه إذا كان يَشعر بصلاة الإمام. وهذا قولٌ للشافعي في القديم.
ولو كان موقف المأموم مساوياً لموقف الإمام، ولم يكن متقدماً ولا متأخّراً، جازَ، والأدب أن يتأخر عن موقف الإمام قليلاً. ثم الاعتبار في الموقف بموقف العقبين من الأرض، فإن شخص المقتدي قد يكون أطول فيتقدم موقع رأسه، وإن تأخر ساوى موقع قدمه. وذكرتُ العقب؛ فإنّ قدمَ أحدهما قد يكون أكبر من قدم الثاني، فالعبرة بما ذكرته بلا خلاف.
ومما يتعلق بهذا أن الناس يصلون في المسجد الحرام مستديرين حول الكعبة، والإمام الراتب وراء مقام إبراهيم في جهة الباب، فالذين يستديرون من وراء البيت وجوههم إلى وجه الإمام، وتصح الصلاة بلا خلاف، هكذا عُهد الناسُ في العُصُر الخالية، حتى كأن الكعبة هي الإمام، ولعل الحاجة أحوجت إلى تسويغ ذلك؛ فإن الناس يكثرون في المواسم، ولو كلفوا الوقوف في جهة واحدة، لتعذّر ذلك.
وقال الأئمة: إذا دخل الناس البيت، فالجهات كلها قبلة، فلا يمتنع أن يقف الإمام والمأموم متقابلين، كما ذكرناه في الاستدارة حول الكعبة.
1225- واختلف أئمتنا في صورة وهي أنه إذا كان بين الإمام في جهة وقوفه، وبين الكعبة عشرةُ أذرع، وكان موقفُ المأمومين في جهة أخرى من البيت أقربُ إلى البيت من هذا، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجوز كما لو تقدم واحد في جهته، وكان أقرب إلى البيت.
والثاني: يجوز؛ فإن الجهة إذا اختلفت، فلا معنى لاعتبار المقايسة في المسافة؛ فإن اختلاف الجهة أعظم في الاختلاف من الاختلاف في القرب والبعد، فإذا لم نمنع القدوة مع الاختلاف في الجهة والوقوف على هيئة التقابل، فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد. وأما إذا اتّحدت الجهة، فيظهر أثر التقدم والتأخر.
فهذا بيان ذلك.
1226- ثم نتكلم بعد هذا في المواقف في الأمكنة المختلفة: والوجه في الترتيب أن نذكر أفرادها والاجتماع فيها، أي في أفرادها، ثم نذكر وقوف القوم في أماكن مختلفة منها.
فأما القول في أفرادها، فيتعلق بالمسجد، والملك، والمواضع المشتركة.
1227- فأما المسجد، فإذا تقدم الإمام وتأخر المقتدي، لم يضر بُعد المسافة-وإن أفرط- إذا كان المسجد واحداً. وكذلك لا يضر اختلافُ المواقف ارتفاعاً وانخفاضاً، حتى لو وقف الإمام في المحراب والمقتدي على منارةٍ من المسجد، أو بئر، وكان لا يخفى عليه انتقالات الإمام، فالقدوة صحيحة؛ وذلك أن المكان مبنيٌّ لجمع الجماعات، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الصلاة، فلا يؤثر البعد في المسافة. وهذا متفق عليه.
ولو كان مسجدان باب أحدهما لافظٌ في الثاني كالجوامع، فإن كانت الأبواب مفتوحة، فهما كالمسجد الواحد، ولا أثر لانفصال أحد المسجدين عن الثاني بالجدار، وإن كان الباب مردوداً، وكان صوت المترجم يبلغ في المسجد الثاني، وهما معدودان كالمسجد الواحد، فالمذهب الظاهر صحة الاقتداء، فإنهما كالمسجد الواحد.
وأبعد بعض أصحابنا، فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذٌ؛ لأن أحدهما يعدّ عند رد الأبواب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدّان مجتمعين عرفاً.
ثم من منع الاقتداء والباب مردود قالوا: لو كان الجدار الحائل بين المسجدين المانع من الاستطراق مشبكاً، لا يمنع من رؤية مَن هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، فعلى الوجه البعيد وجهان.
وما ذكر من رد الأبواب فالمراد إغلاقها، فأما إذا لم تكن مغلقة الأبواب، فهي كالمفتوحة قطعاً، والذي أرى القطعَ به جوازُ القدوة، وإن كانت الأبواب مغلقة، والجدارُ غيرَ نافذ إذا كان المسجدان في حكم المسجد الواحد، وباب أحدهما لافظٌ في الثاني، وهو المذهب، ولست أعد غيره من متن المذهب.
1228- فأما إذا كان الاقتداء في مواتٍ مشترك في الصحراء، فقد قال الشافعي: "إذا كان بين موقف الإمام وبين موقف المأموم مائتا ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، فيجوز الاقتداء، وإن زاد، لم يجز".
والذي يجب ضبطه قبل الخوض في التفاصيل، أن الشافعي لم يكتف في جواز الاقتداء بأن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، وقد نَقَلَ عن عطاء أنه اكتفى بهذا في الأماكن كلها. وبُلِّغت عن مالك أنه صار إلى ذلك، ولم يفصل بين بقعة وبقعة، وهذا قياس بيّن، ليس يخفى على المتأمل.
ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حالات الإمام أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة، وقال: من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة.
1229- ولا يعد من الجماعة أن يقف الإنسان في منزله المملوك، وهو يسمع أصوات المترجمين في المسجد، ويصلي بصلاة الإمام، ثم معتمد الشافعي في الشعائر المتعلقة بالصلاة رعاية الاتباع؛ فإن مبنى العبادات عليها وهذا حسن.
1230- فإذا تبين ذلك، فالمسجد إن كان جامعاً للإمام والمقتدي، لم يضر إفراط البعد؛ فإن المسجد لهذا الشأن، فيحمل الأمر على أن المجتمعين فيه للصلاة متواصلان، فأما الصحراء الموات، فمحطوط عن المسجد، من جهة أنه ليس مكاناً مهيّأً لجمع الجماعات، وهي مشابهة من وجهٍ للمسجد؛ فإن الناس مشتركون فيه اشتراكهم في المسجد، فقال رضي الله عنه: لذلك: "لا يشترط في الموقف اتصال الصفوف"، ثم ضبَطَ القربَ المعتبر بثلاثمائة ذراع. والأصح أن هذا تقريب منه، وليس بتحديد، وكيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على عُلالة؟
وقد قيل: اعتبر الشافعي في ذلك المسافة التي تنحى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفةٍ من أصحابه عن موضع القتال. وقد قيل: إنها كانت قريبةً مما ذكرناه، فإنه تباعد تباعداً لا ينال المصلي فيه سهمُ الأعداء غلوة. ونبال العرب لا تنتهي إلى مثل هذه المسافة، وإنما تعلق الشافعي بذلك؛ لأن في بعض الروايات أن الذين كانوا في الصف في بعض الأحوال كانوا على حكم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية وإن كانت في صلاة ذات الرقاع، ولا يختار الشافعي العملَ بها، فهي صحيحة، وإذا عدمنا في محاولة الضبط تقريباً، اكتفينا بمثل هذا، وعددنا هذا نوعاً من التواصل.
1231- وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يُرعى في التواصل مسافةٌ يبلغ فيها صوتُ الإمام المقتدي، لو رفع صوتَه قاصداً تبليغاً على الحد المعهود في مثله، وهذا قريب مما ذكره الشافعي، وهو نوع من تواصل الجماعات في الصلاة، ولما لم ير الشافعي الاكتفاء بالاطلاع على حالات الإمام وانتقالاته، ولم يجد توقيفاً شرعياً يقف عنده، أخذ يتمسك بالتقريب، فجز ذلك اختلافاً في بعض الصور على الأصحاب.
1232- ومما يتصل على القرب بما نحن فيه أن الأمام لو كان وحده، والمأموم بعيدٌ عن الحد الذي راعيناه في التقريب، فالكلام على ما مضى.
ولو قرب من الإمام صف أو واحد، فقُرْب هذا الثاني يقاس بالمقتدي بالإمام لا بالإمام، وإنما يرعى ثلاثمائة ذراع بينه، وبين آخر واقف في الصف الذي صح اقتداؤهم.
1233- وفي بعض التصانيف أنا نرعى المسافة بين المأموم البعيد وبين الإمام، وهذا مزيف لا تعويل عليه، ولكن لابد من ذكر معناه مع بعده، لأني وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق.
فأقول في بيانه: إن تواصلت الصفوف على المعهود من تواصلها، فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل، أو أكثر، والقدوة صحيحة، والتواصل ثابت، فأما إذا لم يحصل التواصل المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صفٌ، وبعُد الواقف الذي نتكلم فيه، فالمذهب المبتوت المقطوع به، أنا نرعى المسافة بينه وبين آخر واقف صح اقتداؤه في جهته.
وذكر بعض من لا يعتمد نقله وجهاً أن الصفوف إذا لم تكن متصلة على الاعتياد، فالذي بعُد موقفه، يراعى قربه من الإمام، وهو غير مقتد؛ إذ ليس الصف على القرب المعتاد منه. فهذا بيان هذا الوجه، وتصويره وإن لم يكن معدوداً من المذهب.
1234- ولو كان بين المقتدي في الصحراء وبين الإمام نهر جار، فإن كان يُخيض الخائض فيه من غير احتياج إلى سباحة، فلا أثر له، وليس بحائل. وإن كان لا يخيض، فهو يمنع القدوة به. وذكر أئمتنا فيه خلافاً.
ثم قال المحققون: المذهب صحة القدوة، وإن عسر من المقتدي التوصّل إلى الإمام، إذا كانت المسافة على النحو الذي ذكرناه؛ فإنه لا حاجة في قضية الصلاة إلى وصول المأموم إلى الإمام.
ومن منع، تمسك بأن مثل هذا النهر يعدّ حائلاً، ولا يعد الإمام والمأموم مجتمعين في بقعة جامعة لهما، وظاهر نص الشافعي يشير إلى الجواز؛ فإنه قال: لو اقتدى رجل في سفينة بإمام في سفينة أخرى، صح، كما سنذكر ذلك، وإن كان بين السفينتين قطعة من البحر. وقد ينقدح في ذلك فصل في البعد؛ فإن وصولَ السفينة إلى السفينة ممكن؛ فالبحر في حق السفن كأرض ممتدة، في حق أقدام المشاة عليه، والله أعلم.
ولو كان على النهر الكبير جسر ممدود، فالتواصل حاصل وفاقاً.
ولو كان بين الواقف والإمام شارع، فظاهر المذهب أن ذلك غير ضائر، وذكر بعض الأصحاب أنه قاطع، وهذا مزيف لا أرى له وجهاً، إلا أن الصائر إليه-فيما أظن- اعتقد أن الشارع قد يطرقه رفاق في أثناء الصلاة، وينتهي الأمر إلى حالةٍ يعسرُ فيها-لوقوع الحيلولة- الاطّلاع على أحوال الإمام، فتهيؤ الشارع المطروق لهذا ينتهض حائلاً. وهذا لا أصل له. ثم إن لم يكن من ذكر ذلك بد على بعده وضعفه، فهو في شارع يغلب طروقه.
1235- ومما يتصل بما نحن فيه أن الإمام والمأموم لو وقفا على ساحةٍ مملوكة هي على صورة الصحراء الموات، فظاهر المذهب أنها كالموات؛ لأنها على صورته في العِيان وإمكان الاطلاع.
وذكر شيخي وغيرُه: أنا نراعي فيها اتصال الصفوف، كما سنصفه بعدُ إن شاء الله تعالى؛ فإنّ الموات في حكم الاشتراك مضاه مساوٍ للمساجد، وهذا لا يتحقق في الأملاك.
ثم إن جرينا على الصحيح، ونزلناه منزلة الموات في القدوة، فلو وقف الإمام في ملك زيد، ووقف المأموم في ملك عمرو، والموقفان في العِيان على امتداد ساحة واحدة، فقد ذكر الصيدلاني فيه وجهين:
أحدهما: المنع وإن قربت المسافة المعتبرة، وهذا ضعيف جداً، ولست أرى له وجهاً يناسب ما عليه بناء الباب.
ولا خلاف أنه لو كان في مسجدٍ نهر عظيم، فلا أثر له في قطع القدوة.
فهذا حكم المسجد والموات إذا أفرد كل واحد منهما في التفريع.
1236- فأما الوقوف في الأملاك على تصوير التفريد بأن يقف الإمام والمأموم جميعاًً في الملك، فنقول: إن لم تكن فيه أبنيةٌ، ولكن كان أرضاً ممتدة، فقد تقدم التفصيل فيه، وكذلك إذا اجتمعا في عَرْصة فيحاء من دارٍ.
فأما إذا وقفا في دارٍ وفيها أبنية مختلفة، فنقول: إن اجتمع الإمام والمأموم في بناء واحد، فهو كاجتماعهما في عَرْصة الدار كما سبق، فإن اتصلت الصفوف، قطعنا بالصحة، وأما إن لم تتواصل، فالمذهب تنزيله تنزيل الموات، وعندي أن هذا أقرب إلى اقتضاء التصحيح من الساحة المملوكة الممتدة؛ فإن البناء الواحد-وإن اتسعت خِطتُه- يُعد مجلساً جامعاً في العرف.
وإن وقف الإمام في بناء، ووقف المأموم في غيره، مثل أن يقف الإمام في صدر صُفّة والمقتدي في العرصة، أو في بناء آخر، فقد أجمع أئمتنا على اعتبار اتصال الصفوف في أبنية الأملاك، واختلاف الأبنية غير معتبر في المسجد وفاقاً؛ فإن الإمام لو وقف في المقصورة، ووقف المقتدي خارجاً منها، فلا أثر لاختلاف الأبنية في المسجد قطعاً؛ فإنه بقعة واحدة مهيأة لجمع الجماعة، ثم إذا اعتبرنا في الدار-عند اختلاف الأبنية- اتصالَ الصفوف، فليعلم الطالب أنا نطلق الاتصال في الصف على صورتين: إحداهما- اتصال الصف طولاً على معنى تواصل المناكب، وهذا يعد صفاً واحداً.
والثانية- أن يقف صفٌ، ويقف وراءه صف آخر قريبٌ منه بحيث يكون ما بين الصفين قريباً من ثلاثة أذرع، وهي مكانُ متوسعٍ في سجوده وانتقالاته، فهذا اتصال الصفوف المتعدّدة. فأما إذا أطلقنا اتصال الصفوف عنينا هذه الصورة الأخيرة، وإذا قلنا اتصل صف واحد عنينا تواصلَ المناكب.
فنقول الآن: إذا كان الإمام في صُفَّة والمأموم الذي نتكلم فيه في بيت، على جانبٍ من الصفة، بابه لافظٌ في الصُّفة، فإذا دخل صف من الصفة البيتَ، وتواصلت المناكب، فمن يقف في الصف الذي وصفناه، فصلاته صحيحة؛ فإن هذا نهاية الاتصال، ولا يبقى مع هذا لاختلاف الأبنية وقعٌ وأثر أصلاً.
1237- ثم قال الأئمة: الواقفُ في هذا الصف تصح قدوته.
ولو كان بين آخرِ واقف في الصف المحاذي لباب البيت وبين الواقف في البيت موقف رجل، فالصف غير متصل، وقدوة من في البيت باطلة، لاختلاف الأبنية وعدم الاتصال، والبقعة غير مبنية لجمع الجماعات، وكل كائن في بناءٍ من الدار يعد منقطعاً عن الواقف في غيره، فإذا لم يفرض اتصالٌ تام محسوس، فلا اجتماع ولا قدوة.
وإن كان بين آخر واقف في الصف المسامت للباب فرجة تسع واقفاً، فقد ذكروا في ذلك وجهين، وخرّجوا على ذلك العتبة إذا كانت خالية عن واقف، فقالوا: إن اتسعت لواقف، فلا يصح اقتداء من في البيت، وإن كانت أقل من موقف، والذي في البيت اتصل موقفه بالعتبة- ففيه الخلاف.
وعندي أن هذا التدقيق مجاوزةُ حد، ولا ينتهي الأمر في أمثال ما نحن فيه إليه؛ فإنه ليس معنا توقيفٌ شرعي في المواقف، وإنما نبني تفريعات الباب على أمر مرسل في التواصل.
1238- وإذا دخل صف البيتَ طولاً بحيث يعد ذلك صفاً واحداً عرفاً، فلا يضر خلوّ موقف واقف واحدٍ إذا عد ذلك صفاً. ثم هذا التدقيق فيه إذا خلا موقفُ واقفٍ حسّاً، فأما إذا كان لا يتبين في الصف موقفٌ بين واقفين، ولكن كان الصف بحيث لو تكلف الواقفون فيه تضامّاً، لتهيأ موقفٌ، وكان لا يبين في الصف فرجة محسوسة، فهذا الذي ذكرناه محتمل سائغ؛ فإن ذلك يعدُّ اتصالاً عرفاً، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه لو وقف في الصّفة على باب البيت واقف، واتصل به موقفُ من في البيت، كفى هذا، ولا حاجة إلى فرض سوى الواحد الواقف على باب البيت وإذا كان كذلك، فالاتصال مرعي بين هذا الواحد على الباب، وبين من يقف في البيت.
قال الأئمة: إذا دخل صف في البيت، واتصل بواحد من الصفة كما قدمناه، فصلاةُ من في هذا الصف في البيت صحيحة، ومن يقف وراء هذا الصف في هذا البيت، فصلاته صحيحة على قياس صلاة الواقفين في الصف، ولو تقدم متقدم على هذا الصف، لم تصح صلاته مقتدياً، وهذا الصف كالإمام، فمن وراءه متصل به، ومن تقدم، فلا يثبت له اتصالٌ بالإمام، ولا بالصف الذي وراءه؛ فإن الاتصال له صورتان: أقربهما- التواصل في صف واحد طولاً، والثاني: وقوف صف وراء صف.
فهذا إذا كان البيت على جانب من الصفة.
1239- فأما إذا كان الإمام واقفاً في الصفة، والمأموم في العَرْصة، أو في بناءٍ وارء الصفة، فالذي ذكره الأئمة أنه إن اتصلت الصفوف على ما قدمنا تفسيره، ففي صحة اقتداء هؤلاء الذين وقفوا في بناء آخر وجهان: أصحهما- الصحة لاتصال الصفوف، قياساً على اتصال صفٍّ واحد طولاً، مع تواصل المناكب، إذا دخل في بيت على أحد جانبي الصفة كما سبق.
والثاني: لا يصح؛ لاختلاف الأبنية، وعدم تواصل المناكب. وهذا القائل يقول: ما يسمى اتصال الصفوف ليس باتصالٍ حقيقي، وكلُّ بناء مجلس على حياله، والبقعة ما بنيت لتجمع الجماعات، ولم يوجد التواصل بين المناكب، ولو لم يكن بين الواقف في البناء الواقع وراء الصف وبين من في الصفة تواصل الصفوف على قدر ثلاثة أذرع، بل زاد الانفصال على ذلك زيادة بيّنة في الحس، فصلاة من في البناء الواقع وراء الصفة باطلة؛ فإن البناء مختلف والصفوف غير متصلة.
1240- والضبط فيه أنه إذا اتحد البناء، واتصلت فيه الصفوف، صحت القدوة، وإن اختلف البناء، ولم يكن اتصالُ صفوف، لم تصح قدوة من في بناء غير البناء الذي فيه الإمام. وإن اتصلت الصفوف، واختلف البناء، فإن اتصل صف واحد طولاً، صح. وإن كان اتصل الصفوف وراء الإمام، فوجهان.
وإن اتحد بناء، ولم تتصل الصفوف، على الحد الذي ذكرناه، بل وقف الإمام في صدر الصفة، والمأموم على عشرة أذرع مثلاً، فقد ذكر الأئمة فيه الخلافَ المقدم في الملك إذا امتد في العرصة والساحة. والذي أراه القطع بالصحة عند اتحاد البناء؛ فإن البناء جامع. وهذا أجمع من ساحة منبسطة لا تُعدُّ مجلساً واحداً.
1241- ومما يبقى في النفس أنا ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف البناء وراء الصفة، واتصلت الصفوف عرضاً على قدر ثلاثة أذرع.
فلو قال قائل: لو كان البيت على جانب من الصفة، ووقف واقفٌ ممن في الصفة على باب البيت، ووقف واقف في البيت على قدر ثلاثة أذرع من الواقف على الباب، فهلا خرجتم ذلك على الخلاف المذكور في تواصل الصفوف عرضاً، مع اختلاف الأبنية؛ فإن المسافة في الطول كالمسافة في العرض؟ قلنا: لم يختلف الأصحاب في منع ذلك طولاً؛ فإن ذلك لا يعد اتصالاً في الصفوف. ووقوف الصف وراء الصف يعد اتصالاً، فأما الطول، فالاتصال فيه بتواصل المناكب.
1242- ومما يتصل بحكم الدور في المواقف أن صفاً لو وقفوا على مرتفع من الأرض، فهل يعدّون متصلين بالواقفين دونهم؟ قال شيخي: إن كان الواقف المنخفض بحيث ينال رأسُه ركبةَ الواقف المستعلي، فهذا اتصال.
وقال صاحب التقريب إن كان رأسه يلاقي قدمَ من علا موقفُه، كان ذلك اتصالاً.
وهذا هو المقطوع به.
ولست أرى لذكر الركبة وجهاً. والمرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاًً من بدن العالي، وهذا قريب في الارتفاع والانخفاض من المسافة بين الصفين، ولو كان الواقف أسفل صبياً لا ينال رأسه مسامتة العالي، لقصر قامته، فلعل ذلك مما يتساهل فيه، وكذلك لو فرض ذلك بين الصفين، فلا يعتد بعدِّ الثلاثة الأذرع، فإن زاد شيء لا يبين في الحس ما لم يذرع، فهو أيضاً غير محتفَلٍ به.
1243- ثم الرباطات والمدارس، إذا لم تكن مساجد-في المواقف- كالدور المملوكة بلا خلاف، والسبب فيه أن الدور المملوكة إنما ضاق فيها أمر المواقف، من جهة أنها ما بنيت لإقامة الجماعات فيها، وهذا المعنى يتحقق في المدارس والرباطات والدور الموقوفة.
وقد تنجَّز القول في المواقف في المواضع الفردة.
1244- ونحن نذكر الآن ما لو اختلف موقف الإمام والمأموم في البقاع التي ذكرنا تباين حكم المواقف فيها.
فلو كان موقف الإمام في المسجد، وموقف المقتدي في مِلكٍ، فهو كما لو كان موقفهما في بناءين مملوكين؛ فإن كان البيت المملوك على جانب المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كما لو كان الإمام في الصفة والمأموم في بيتٍ بابه نافذ في أحد جانبي الصفة، فيعود كل ما ذكرناه في اتصال الصف طولاً.
وإن كان البيت المملوك الذي هو موقف المقتدي وراء المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كبيت وراء صفة فيها موقف الإمام، فيقع التفصيل في اتصال الصفوف عرضاً، ولا أثر لكون أحد الموقفين مسجداً؛ فإن ذلك لا يغير الحكم، ولا يرفع الاختلاف، وما ذكرناه من أن المملوك غير مبني للصلاة، وجمع الجماعات.
1245- فأما إذا كان الإمام في مسجد والمقتدي في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة، فهذا يخرج على القاعدة التي نبهنا عليها الآن، فالأصل أن نجعل كأن الإمام والمأموم في موات، كما قدمنا في الملك والمسجد، حيث قلنا: هو كما لو كانا في ملكين، ولا نقول: نجعل كما لو كانا في المسجد، نظراً إلى كون أحدهما في المسجد، فالحكم يجري على موجب البقعة التي يقتضي الشرعُ فيها ضرباً من التضييق، لا على المسجد الذي يتسع فيه أمر المواقف.
فإذا تمهد ذلك، قلنا: إذا كان الإمام في مسجد والمأموم في مواتٍ أو الشارع، فالقرب المرعي ثلاثمائة ذراع أولا، ثم إذا كان الموقف وراء المسجد، فيعتبر أول هذه المسافة في حق أول واقف في الموات من أي موضع في المسجد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يعتبر من آخر الصف في المسجد، والثاني: أنه يعتبر من آخر جزء من المسجد، في الجهة التي تلاقي المقتدي، حتى كأنَ جِرْمَ المسجد إمامُه.
والصحيح النظر إلى الواقفين في المسجد، كما ذكرناه أولاً.
وإذا قلنا بالوجه الثاني، فكأنا جعلنا لكون الإمام والجماعة في المسجد مزيدَ أثرٍ في توسيع أمر المواقف؛ فإنه ربما يكون بين آخر صفٍ، وبين آخر المسجد ألفُ ذراع، فلا تعتبر تلك المسافة، ويعتبر ابتداءُ الثلاثمائة من آخر المسجد في صوب المقتدي.
ثم تمام البيان في ذلك، أن المقتدي لو كان وراء المسجد على محاذاة جدار المسجد، ولم يكن على باب في جهة المقتدي، بل كان الجدار حاجزاً بينه وبين الصفوف، فمن أصحابنا من جعل الجدار قاطعا مانعاً من الاقتداء، إذا كان ذلك الجدار الحائل مانعاً من الاستطراق، وهذا الذي صححه العراقيون.
والثاني يصح، وهذا يخرج بناء على قولنا: إن إمامَ المقتدي الواقف خارجَ المسجد جِرمُ المسجد.
ثم قال العراقيون: إذا منعنا القدوة والجدار مانعٌ من الاستطراف والنظر، فلو كان الجدارُ مشبكاً، غيرَ مانع من النظر وإن منع الاستطراق، فعلى هذا الوجه وجهان: من جهة أن نفوذ النظر ضربٌ من الاتصال، وهذا كله في موقف المقتدي وراء المسجد.
فأما إذا كان وقوفه في أحد جانبي المسجد، فهو كما مضى، فيعتبر القرب والبعد، كما تقدم في الصحاري، ثم لا فرق بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً، وبين أن يكون مغلقاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، وهذا يطرد في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهذا قريب مما صححه العراقيون، من كون الجدار حائلاً مانعاً. والصحيح عندنا: أن الجدارَ المانع من الاستطراق، وبابَ المسجد المغلق، لا أثر له.
ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب في تفريع الوجه المحكي عنه أنه قال: إذا كان الباب مفتوحاً، فينبغي أن يقف صف بحذاء الباب، ثم يقف من يقف وراء الصف على حدّ القرب المعتبر في الصحاري، حتى لو وقف واقف قدام الصف المحاذي للباب المفتوح، لم يجز. وهذا حكاه الأصحاب عنه، ولم أره في كتابه.
أما اعتبار فتح الباب، فمنصوص له.
هذا بيان اختلاف الأماكن في المواقف.
1246- ولو كان الإمام في مواتٍ، والمأموم في مسجد، لم يختلف شيء من التفاصيل المقدمة.
ثم إن كان الإمام متقدماً عن المسجد، والمقتدي واقفاً في آخر المسجد، فهل يعتبر ما بين مقدمة المسجد في جهة الإمام، وما بين موقف المقتدي من طول المسجد في الثلاثمائة الذراع، أم لا نعتبر مسافة المسجد ونرفعها من البين؟ فعلى الخلاف المقدم فيه إذا كان الإمام في المسجد، حيث قلنا: نعتبر ابتداء المسافة من آخر واقف في جهة المقتدي الخارج، أم نعتبر أولَ المسافة من آخر جزء من المسجد في جهة الواقف؟ وهذا بيّن.
ولو وقف المقتدي الواقف في ملك في سطحِ داره، متصلاً بسطح المسجد، فهذا الآن يضاهي اتصال ملكِ منبسطِ لا بناء فيه بالمسجد، أو بأرضٍ مباحة، ثم اعتمد الشافعي أثراً عن عائشة، وهو لعمري معتصم عند ضيق القياس، وهو ما روي: "أن نسوة في حجرة عائشة، أردن أن يصلين فيها، مقتديات بالإمام في المسجد، فنهتهن عائشة، وقالت: إنكن دون الإمام في حجاب".
فرع:
1247- إذا وقف الإمام والمأموم في سفينة واحدة، والسفينة مكشوفة، فالذي قطع به أئمتنا: أن النظر إلى البحر الذي عليه السفينة، فنُجريه مجرى الأرض المباحة في المواقف، والسفينة تحت الأقدام كصفائح منصوبة في الصحراء، وقد وقف عليها القوم، فلا أثر لتلك الصفائح.
ولو كانت السفينة مسقفة، والركاب تحت السقف، فنجعل السفينة الآن بمثابة دار مملوكة، وقد تقدم التفصيل فيه.
ولو كان الإمام في سفينة أخرى، والسفينتان مكشوفتان، فالذي صار إليه أئمة المذهب جواز الاقتداء، واعتبار القرب والبعد المذكور في الصحاري.
وقال أبو صعيد الإصطخري: إن كانت سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام، بحيث نأمن أنها لا تتقدم على سفينة الإمام، فالقدوة صحيحة على قرب الصحاري، وإن كانتا مطلقتين، قال: لا يصح الاقتداء؛ فإنا لا نأمن أن تتقدم السفينة التي فيها المقتدي في أثناء الصلاة، على السفينة التي فيها الإمام. وهذا متروك على أبي صعيد. والوجه تصحيح القدوة، وعدم المبالاة بما يتوقع من تقدّم، على أن تقدّم السفينة المتأخرة على السفينة المتقدمة بعيد.
ثم قال شيخنا أبو بكر: وما ذكرناه في سفينتين مكشوفتين، فأما إذا كانتا مسقفتين، وكان الإمام والمأموم تحت السقوف، فالقدوة فاسدة، فإنَّ كلَّ واحدٍ منفردٌ عن الثاني ببيت على حياله، فهو كما لو فرض بيتٌ في بنيان في الصحراء، والإمام في أحدهما، والمقتدي في الثاني.
فهذا تمام ما عندنا في المواقف. والله المستعان.