فصل: باب: كتابة النصراني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: كتابة النصراني:

12605- الذمي والحربي إذا كاتب عبده على شرط الإسلام، فإذا أدّى، حصل العتق، ولكن لو قهر الحربيُّ مكاتَبه الكافرَ، انقلب رقيقاً، فلا يقع الحكم بلزوم الكتابة في حقه، وإذا كان يرِقّ الحرُّ الكافرُ بالقهر، فعُلْقة العتاقة في المكاتب تزول بالقهر.
وإن كانت الكتابة فاسدة على موجب الشرع: مثل أن تُفرض بخمر أو خنزير، فإن حصل قبض العوض بكماله في الشرك، نفذ العتقُ، ولا مراجعةَ بعد الإسلام، وانقطعت الطلبة.
ولو جرى الإقباض في معظم العوض، واتصلت الكتابة بالإسلام، أو بالتزام الأحكام، والنزول على حكم حكام الإسلام، فإذا جرى القبضُ في البقية بعد ذلك، رجع المولى على العبد بقيمته، ولا حكم لما جرى القبضُ فيه من قبل، ولا نوزِّع القيمةَ على المقبوض قبل الإسلام والالتزام وعلى ما جرى الإقباضُ فيه في الإسلام؛ حتى يسقط ما يقابل المقبوض في الشرك، نظراً إلى ما لو جرى قبض الكل في الشرك.
والسبب فيه أن النجوم في الكتابة لا تثبت لها حقيقة العوضية إلا عند التمام؛ إذ لو فُرض عجزٌ في المكاتبة الصحيحة، بأن أن ما قبض من قبلُ لم يكن عوضاً؛ وإنما كان كسبَ رِقٍّ مستَحَقٍّ لمالك الرق، فإذا تم القبضُ عَتَق الكلُّ من غير تبعيض عوض، فلم يقبل التقسيط، والأعواض إجراؤها على حكم العوضية في المعاوضات، فانتظم فيها التوزيع. وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح وغيره.
12606- ثم قال: "فإن أسلم العبد... إلى آخره".
إذا أسلم العبدُ الكافرُ تحت يد الذمي، حملناه على بيعه، فإن أبى، بعناه عليه، فإن كاتبه، فهل تسقط الطَّلِبةُ بالكتابة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تسقط، وتفسخ الكتابة، ويباعُ العبدُ؛ فإن الفسخ ممكن بخلاف أمية الولد، والثاني: ننكف عنه؛ فإن الكتابة توجب استقلالَ المكاتب، وانقطاعَ سلطان المالك، وهي أجدى على العبد من حيث تُفضي إلى عتقه.
ولو كاتب الكافر عبدَه الكافرَ، فأسلم المكاتَب، فهذا يُبنى على ما قدمناه: فإن قلنا: الكتابةُ بعد الإسلام تقطع الاعتراض على المولى، وتوجب الاكتفاء بها، فالإسلام إذا طرأ على المكاتَب، لم يؤثر. وإن قلنا: لا يُكتفَى في العبد المسلم بأن كاتبه مالكه. فإذا طرأ الإسلام على المكاتب، فهل تنفسخ الكتابة، ونبيعه؟ أم نديم الكتابة؟ فعلى وجهين، والفرق قوة الدوام.
ولو أسلم عبدُ الكافر، فطالبناه بالبيع؛ فدبّره، لم نكتف بذلك؛ فإن سلطانه باقٍ.
وإن دبر عبدَه الكافر، فأسلم، فهل نبيعه، أم نستبقي التدبير؟ ونضرب الحيلولة بينه وبين مولاه، كما نفعل ذلك في المستولدة، فعلى وجهين: أصحهما-على القياس- أنه يباع؛ فإن المدبر رقيق في جميع أحكامه. والذي يقتضيه القياس أن يباع على الكافر ما يصح بيعه. والله أعلم.

.باب: كتابة الحربي:

12607- المعاهد أو الذمي إذا كاتب عبداً، ثم نقض العهد، ورام الالتحاقَ بدار الحرب، فللمكاتب أن يمتنع عن الخروج معه؛ لأن عقد الكتابة يقتضي هذا، ومما يجب التنبه له أن هذا العبد وإن كان كافراً، فله الامتناع، لأنه تعلق بذمة دار الإسلام، فنقره على موجَب الإسلام، ونجعل السيد معه، وإن جمعهما الكفر، بمثابة السيد المسلم إذا أراد المسافرة بمكاتبه، ورام المكاتَب التخلفَ عنه.
ثم ذكر الشافعي حكمَ المعاهد يُودِع عندنا، ويلتحق بدار الحرب فيموت، أو يسبى ويرِق، فكيف سبيل أمواله؟ وقد استقصينا هذا على أبلغ وجه وأحسنه، في كتاب السير.
1608- ثم عقد بابا في كتابة المرتد، وكتابتُه خارجة على أقوال الملك، وهي بمثابة تصرفاته، وقد ذكرناها، وذُكر الحجر عليه على قول بقاء ملكه، فلا خفاء بشيء من مضمونه.

.باب: جناية المكاتب على سيده:

12609- ذكر المزني أحكام جناية المكاتب وأحكام الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعَها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكنا نتيمن بالجريان على مراسمه.
أما إذا جنى على سيده جنايةَ قصاص، وجب القصاص، وإن جنى عليه، أو على ماله، فهو مطالب بالأرش، كما لو جنى على أجنبي، وغَمْرةُ هذه الأبواب التعرضُ لاجتماع النجم، وديون المعاملة، وأروش الجناية للسيد والأجانب، وقد استقصينا هذا.
ومما نزيده أن المكاتب إذا جنى على سيده، أو على أجنبي، فبكم يطالب إذا كان أرشُ الجناية أكثرَ من قيمته؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يطالَب بتمام الأرش؛ فإنه فيما يطالب به-ما دامت الكتابة- كالحرّ، والأرش لا يتعلق برقبته ما استمرت الكتابة.
والقول الثاني- أنه لا يطالب إلا بمقدار قيمة رقبته إذا زاد الأرش عليها؛ لأنه يملك تعجيز نفسه، وإذا فعل، فلا مرجع إلا إلى رقبته. هذا فيه إذا كان هو الجاني.
فأما إذا جنى عبدٌ من عبيده، فأراد أن يفديه، وكان الأرش أكثر من قيمته، فليس له أن يفديه بالأرش-وإن قلنا: الحر يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ-والسبب فيه أن الحر لا يلزمه الفداء. نعم، لو أراد الفداء، فأحد القولين أنه يفديه بالأرش التام، وإن أبى سلّمه للبيع.
فنقول: للمكاتب: ليس لك أن تفديه إذا قلنا: الفداء بالأرش التام، بل سلِّمه ليباع؛ فإنّ بذل الزيادة تبرعٌ، وهو ممنوع منه.
ولو قال: أبذل مقدار القيمة، فاتركوه، ولا تبيعوه-والتفريع على أن الفداء بالأرش- لم يُجَب إلى ما يبغيه.
12610- ولو جنى المكاتَب على سيده جناية توجب مالاً، فأعتقه السيد، نُظر: فإن لم يكن في يده شيء، فقد قال الأصحاب: سقط الأرش؛ فإن السيد هو الذي أزال ملك الرقبة، وكانت متعلَّقاً للأرش؛ إذ لا مال غيرُ الرقبة، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ أخذاً من استقلال المكاتَب ما دامت الكتابة والأرش متعلق بالذمة، والمملوك القن لو جنى على مولاه، فأعتقه، فلا خلاف أنه لا يستحق عليه شيئاً؛ فإن المولى لا يستحق في ذمة العبد شيئاً إذا كان قناً، حتى يفرض اتباعه به، بخلاف المكاتب؛ فإنا أوضحنا فيه احتمالاً على بعد.
ولو أعتق السيد المكاتبَ الجانيَ عليه وفي يده شيء، فهل يتعلق أرش الجناية بما في يده؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يتعلق؛ فإن الأرش لا يتعلق إلا بالرقبة عند ارتفاع الكتابة. والوجه الثاني- أنه يتعلق بما في يده، وفوات الرقبة بالعتق كفواتها بالموت، ولو مات المكاتب بعد ما جنى على سيده، وخلف وفاء، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك.
ولو جنى المكاتب على أجنبي، ثم عَتَق بأداء النجوم، فلا يلتزم السيد فداءه بسبب حصول العتق؛ فإن الكتابة تقدمت على الجناية، والأداء حصل. مترتباً على الكتابة السابقة، ولو أعتق السيدُ المكاتبَ بعد الجناية أو أبرأه، فيصيرُ ملتزماً للجناية، فإن هذا اختيار منه لإزالة الرق بعد الجناية، فصار كما لو جنى رقيقه فأعتقه؛ فإنه يصير بالإعتاق ملتزماً لأقل الأمرين.
12611- ولو جنى ابن المكاتب، لم يفده؛ فإنه إنما يفدي من يملك شراءه، والفداء بمنزلة الشراء، ولا يملك شراء من يعتق عليه؛ لأنه لا يملك بيعَه إذا ملكه.
ولو جنى ابنُه على عبده، فهل يملك بيعَه؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه لا يملك بيعَه، وهو الصحيح؛ فإنه لا يثبت في رقبته مالٌ؛ لأنه عبده، والأصل منع بيع الابن.
والثاني: أنه يملك بيعه إذا كان الأرش على قدر الرقبة؛ لأن عبد المكاتب إذا قتل عبده، لم يتعلق بالعبد القاتل شيء، إلا القصاص على ما سنصفه؛ فإنه كان قبل الجناية يملك بيعه واقتناءه، وهو على ما كان عليه. والابن كان لا يباع قبل الجناية، فيجوز أن تفيد الجنايةُ بيعَه.
12612- ولو قتَل عبدٌ للمكاتب عبداً آخر قَتْلَ قصاص أو قتل عبدٌ لأجنبي عبداً للمكاتب قَتْل قصاص فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت للمكاتَب حق الاقتصاص، وإن كان فيه إسقاطُ المالية.
وخرّج الربيع قولاً، أنه لا قصاص للمكاتَب، إذا لم يُرد السيد ذلك، بل عليه أخذ الأرش؛ رعايةً لحق المولى في استبقاء المالية، وهذا مردود متروك عليه، وقد أجرى الربيع قوله هذا في قتل عبد المكاتب عبداً آخر، وفي قتل عبد لأجنبي عَبْده، وفي بعض التصانيف تخصيص هذا التخريج بما إذا قتل عبد لأجنبي عَبْده. وهذا التخصيص لا أصل له، والأئمة نقلوا التخريج على العموم.
12613- ولو جنى السيد على يد مكاتبه، فأبانها، وقلنا: يجوز طلب الأرش قبل الاندمال-وفيه قولان ذكرناهما في الديات- فإذا كان ذلك الأرش على مقدار النجم، وكان من جنسه، وفرّعنا على وقوع التقاص من غير تراضٍ مثلاً، أو شرطنا التراضي، وتراضيا، حصل العتق، فلو سرت الجراحة، وأدت إلى الهلاك، وجب على السيد الجاني الديةُ الكاملة.
فإن قيل: الدية إبل، ولا يجري التقاص بين الإبل والدراهم، وقد بأن آخراً أن الواجب الإبل، فكيف حكمتم بالعتق، وهلاّ تبينتم أن لا عتق لبطلان التقاص؟
قلنا: إذا أوجبنا الأرش، أجرينا الملك فيه، فإذا بان آخراً وجوب الدية، نقضنا الملك بعد ثبوته، ولا نتبيّن أنه لم يقع الملك في الأرش المبني على الرق ودوامه.
وهذا بمثابة ما لو أبق العبد المغصوب وغَرم الغاصب للمغصوب منه قيمته، ثم عاد العبد فالغاصب يرده، ويسترد القيمة، ويكون ذلك نقضاً للملك في القيمة، لا رفعاً له من أصله، فالتقاص يبتني على هذه القاعدة، ويترتب العتق عليه، ثم إذا وجبت الدية، فلا مردّ للعتق.
ثم أعاد الأصحاب فصولاً في الجنايات، لم أرَ ذكر شيء منها. وقد أتيت على كل ما رأيت فيه فائدة من أبواب الجنايات.
ثم ذكر المزني أبواباً في إعتاق السيد المكاتب في مرض موته. وفي إنشاء المريض الكتابة، وفي وصيته بالكتابة، وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل تترى، " وعند الصباح يحمد القوم السرى".
ثم ذكر باباً في موت سيد المكاتب، ولست أرى فيه مزيداً.

.باب: عجز المكاتب:

12614- قال الأئمة: الكتابة جائزة من جانب المكاتب، مهما أراد فسخها، سواء كان قادراً على أداء النجوم أو عجز عنها.
وذكر العراقيون طريقةَ تخالف طريقةَ المراوزة، فقالوا: لا ينشىء المكاتَب فسخَ الكتابة، ولكن له الامتناع عن أداء النجوم مع القدرة، ثم إذا امتنع، فللسيد الفسخ، إذا لم تصل يده إلى النجوم، وهذا كرّروه مراراً، وصرحوا به.
وهذا بعيد؛ فإن الامتناع عن أداء النجوم مع أنه لا يملك الفسخ كيف يسوغ؟ وما ذكروه على الحقيقة عكسُ الصواب؛ فإنهم ألزموا الكتابة في جانبه، وجوزوا له ألا يفي بها. وهذا كلام متناقض، والذي به العمل والفتوى أن المكاتب يفسخ الكتابة متى شاء، وما ذكروه يداني مذهب أبي حنيفة.
فأما السيد، فالكتابة في جانبه لازمة لا يملك فسخها، إلا إذا حل النجم، وعجز المكاتب، أو امتنع، فيثبت له حقُّ الفسخ، ويتصف العقد بالجواز في هذه الحالة من الجانبين.
فلو حلّ النجم، فاستنظر المكاتبُ، لم يَلْزمه إنظارُه إلا ريثما يخرج النجم من مخزن، أو دكان، ولو كان ماله غائباً، عجّزه المولى، ولم يَلْزمْه الإنظار.
فأما إذا كان المكاتب غائباً بنفسه، وحل النجم، فالمذهب أن للسيد أن يعجِّزه بنفسه، ولا حاجة لرفع ذلك إلى حاكم، وذكر العراقيون هذا وصححوه، وحكَوْا وجهاً آخر- أنه يجب رفع الواقعة إلى مجلس الحاكم؛ فإنه نائب عن كل غائب، ثم مهما رفع السيد الأمر إلى القاضي واستدعى منه أن ينشىء الفسخَ، فالقاضي لا يجيبه، ما لم يتحقق عنده الأمر من حلول النجم، وظهورِ الامتناع، أو العجزِ، ولو فسخ السيد بنفسه، لكفاه ذلك.
وليس هذا حقاً ثابتاً على الفور، فلو أخره أياماً، ثم فسخ، جاز له الفسخ، ولو أنظره ثم بدا له، جاز له الفسخ.
12615- ومما يجب التنبه له أن المكاتب لو امتنع عن أداء النجوم، وقدر السيد على رفعه واستيداء النجم منه، ولكن آثر الفسخ لما امتنع المكاتب، فكيف الوجه؟ وهذا غمرة الباب، والغرض منه يبين بذكر أصلٍ بيّن، وهو أن من عليه الدين إذا امتنع وقدر المرتهن على استيفاء الدين منه، فليس له مبادرة بيع الرهن، وإن لم يكن له رهن، فليس له أخذُ غير جنس حقه، نعم إذا تحقق التعذر، ففيه الكلام.
رجعنا إلى غرضنا، فإن ما قدمناه قد قررناه في موضعه، فنقول: لا يجب على العبد أداءُ النجم، فلا يتأتى توجيهُ الطّلبة عليه، وهذا واضح على طريق العراقيين، وهو على طريقنا بيّن؛ فإنَّ طلب الجائز حملاً على تحصيل المطلوب محال، ولهذا لا يطالَب المشتري بالثمن في زمان الخيار، وإذا كان كذلك، فلا يتوقف الفسخ على تعذر الاستيفاء، بل إذا لم يوفِّ المكاتَب، فسخَ السيد.
ولو حل النجم، فجاء المكاتَب، فأنظره المولى، وخرج المكاتبُ بإذنه، فلو أراد الفسخَ كما بدا له، لم يكن له ذلك. نعم، يُعلمه أنه ندم على ما قدم، ثم على المكاتب أن يسرع الكرة، فإن أخر بحيث يقال: قصّر، فللسيد الفسخ حينئذ. وهذا الطرف يضاهي عَوْد الشفيع على قول الفور للطلب، كما قدرناه في موضعه.
12616- فلو جن المكاتب، وقلنا لا تنفسخ الكتابة على الرأي الظاهر، فإن عرف السلطان له مالاً-وقد حلّ النجم- أداه عنه.
وهذا فيه تأمل على الفطن؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما كان يفسخ، أو لا يؤثر الأداء.
ولو لم يصادف القاضي له مالاً، فإن فسخ السيد بنفسه، فلا كلام، وإن أفاق، وأقام بينة على أنه كان قد أدى، حكمنا ببيّنته، وتبيّنا فساد التعجيز.
ولو أفاق، وعرفنا أنه كان له مال؛ إذ عجّزه السيد، نُظر: فإن كان له مال في يد السيد، فالتعجيز مردود، وإن كان له مال لا يعرفه السيد، فالتعجيز نافذ بناء على قاعدة الباب، والسر الذي كشفناه في مأخذ الكلام في التعجيز.
ولو حل النجم، وفي يد المكاتب عَرْضٌ، والنجم من نقد البلد، فإن تأتى بيع العَرْض على الفور، لم يكن للسيد أن يفسخ. وإن كان ذلك العرض كاسداً، ولا يتأتى بيعه إلا بعد زمان، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك، لما مهدته من أن المكاتب إذا لم يأت بالنجم، فهو المقصر، ويثبت للسيد عنده سلطان التعجيز، وقيمة العرض غائبة، فيتجه أن نجعلها كمالٍ غائب. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12617- المولى إذا استسخر المكاتب مدةً، فموجب الواقعة أن يغرم له أجرة مثله في تلك المدة، فإذا حل النجم، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يعجزه إن لم يكن معه وفاء؛ فإن المدة التي استخدمه فيها عَوَّضه عنها، وقيمةُ المتلفِ تخلُف المتلفَ. وهذا هو القياس. والقول الثاني- أنه يلزمه أن يُنظره في مثل تلك المدة؛ فإنه ربما كان يتفق له في مدة الاستسخار تحصيلُ النجم، ولا يمكن سد باب التعجيز، فأقصى الإمكان أن يمهل مثلَ تلك المدة؛ فإنه لم يفته إلا ظنٌّ فيعوّضه عنه فسحةً للظن، تضاهي الفسحة الأولى.
ثم إذا أمهله على هذا القول، لم يستردَّ الأجرة؛ فإن الأجرة بدلُ متلف، وهذه الفسحة لمقابلة ظن بظن. وما دامت الكتابة قائمة، فليست المنافع للسيد، حتى يقال: هذا جمعُ عوضين عليه، أحدهما: الأجرة والثاني: الإمهال. والأقيس القول الأول.
وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب النكاح إذا استخدم السيد العبد، وامتنع عليه الاكتسابُ للمهر والنفقة، وهذا تشابه في المأخذ.
ثم تفريع كل أصل على حسب ما يليق به.
ولو حبس غاصبٌ المكاتَبَ، وقلنا: إن حبسه المولى، لأمهله، فهل يمهله المولى؛ ذكر العراقيون على هذا القول وجهين. ومساق هذا يلزمهم أن يقولوا: لو مَرض لجرى هذا الخلاف أيضاً، وهذا بُعدٌ عظيم عن سَنَنِ المذهب، يجر خبالاً لا يرتضيه المحصل، ولكل أصل مأخذ، والفقيه من يحوّم عليه.
وقد ذكرنا مأخذَ التعجيز ومقتضاه مصرِّح ببطلان ما قالوه، وقد يلزمهم أن يقولوا: إذا كسد عملُ المكاتب، ولم يكن منه تقصير، أو لم تتفق الصدقات، فإنه يمهل وهذا خُرْقٌ لا ينتهى إلى ارتكابه فقيه. والله أعلم.

.باب: الوصية بالمكاتَب والوصية له:

قال: "وإذا أوصى به لرجل وعَجَز قبل الموت... إلى آخره".
12618- إذا أوصى برقبة المكاتب لإنسان، وأطلق الوصية، ولم يقيدها بعجز المكاتب وانقلابه إلى الرق، فالوصية باطلة، حتى لو عجز المكاتب ورَقَّ قبل موت الموصي، فلا ننفذها عند موته، كما لو أوصى بعبد إنسان، ولم يعلق الوصية بدخولها في ملكه؛ فإن الوصية تبطل.
ولو قال: إن ملكت هذا العبدَ، فقد أوصيت به لفلان، أو قال: إن عجز مكاتبي هذا، فقد أوصيت به لفلان، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أقيسها- بطلان الوصية اعتباراً بحالة التعليق، وقياساً على ما لو قال إن ملكت هذا العبد، فهو حر، وإن نكحت هذه المرأة، فهي طالق. والوجه الثاني- أن الوصية تصح؛ فإنها تقبل ما لا يقبل غيرُها، ووقت نفوذها وقت زوال ملك الموصي، يعني أنها تنفذ عند موت الموصي، وهو وقت انقطاع الملك.
والوجه الثالث: أن الوصية تصح في المكاتب، إذا تقيدت بعجزه وَرِقِّه؛ من جهة أنها تعتمد في الحال ملكاً، ولا تصح الوصيةُ المضافة إلى ملك الغير، وإن تقيدت بتقدير ملك الموصي؛ فإنها لم تعتمد ملكاً في الحال. ولا فقه في هذا الوجه.
وكل هذا مما أجرينا ذكره في تعليق الطلاق قبل الملك، ولم يخل كتاب الوصايا عنه أيضاً.
فصل:
قال: "ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه... إلى آخره".
12619- الوصية بنجوم الكتابة جائزة إذا خرجت من الثلث، فإذا صحت الوصية، وأداها إلى الموصى له عَتَق. وإن خرج بعضها من الثلث أدى ذلك القدر إلى الموصى له، وأدى الزيادة إلى الورثة، ويعتِق.
فإن عجز، فقال الموصى له: أُنظره حتى يجدَ، وقال الوارث أعجّزه، ثم في تعجيزه رده إلى الرق، وسقوط جميع النجوم، فللوارث أن يعجزه، وإن أدى تعجيزه إياه إلى بطلان الوصية، وتعليل ذلك بيّنٌ، وليس إلى الموصى له تعجيزه في هذا المقام إذا لم يعجِّزه الوارث.
ولو كان أوصى برقبة المكاتب على تقدير عجزه، وصححنا الوصية، ثم إنه عجز بعد موت السيد، فقال الوارث: أُنظره، لم يكن له ذلك، بل يُعجَّز وتُسلّم رقبته إلى الموصى له، وإنما يتعاطى ذلك القاضي إذا تحققت الواقعة في مجلسه.
ولو قال: ضعوا عن هذا المكاتب أكثرَ ما بقي عليه، ووفى الثلثُ واتسع، فالورثة يضعون عنه أكثر من نصف النجوم، ولو بزيادة حبة؛ فإن هذا أكثر ما عليه.
والمسألة فيه إذا لم يكن أدى شيئاً، وعلة ما ذكرناه أن الوصايا تنزل على أقل موجب اللفظ، والنصف وأدنى زيادة ينطلق عليه اسم الأكثر، وإن زاد الورثة على ما ذكرناه وبلّغوا الزيادة دراهم فصاعداً، فقد قال الصيدلاني: كل ما يضعونه محمول على الوصية. ولا يكون ذلك منهم ابتداءَ تبرع؛ فإن اسم الأكثر، كما يمكن تنزيله على النصف وأدنى زيادة، فهو محتمل لما يزيد على هذا المبلغ، فإلى الورثة أن يحملوا اللفظ على محتملاته، ولهم تنزيلُه على أقل معانيه.
وهذا الذي ذكره مأخوذ عليه؛ فما يزيد على الأقل المجزىء، فهو تفضل من الورثة على الابتداء، إذ لو اقتصروا على الأقل المجزىء، لقيل: لم ينقصوا من الوصية شيئاً، وإن كان الثلث متسعاً لأضعاف الوصية، وليس إلى الورثة تكثير الوصية وتقليلها، وإنما المستحق بها ما يجوز الاقتصار عليه، وهذا الذي ذكرناه يجري في كل وصية مرسلة لا تتقدر لفظاً بمقدار.
ولو قال: ضعوا عن المكاتب أكثر مما عليه، فمقتضى هذا اللفظ أن يوضع عنه الكل وزيادة. ولفظ الزيادة لغو، فوضعنا الكل، وألغينا الزيادة.
ولو قال: ضعوا عن مكاتبي ما شاء من الكتابة، فشاء الكل؛ لم نضعه، بل نبقي شيئاً وإن قلّ، لأنه قال: "من الكتابة"، وهذا يقتضي التبعيض.
ولو قال: ضعوا عنه ما شاء، ولم يقل من الكتابة، فشاء الكل، والثلث متسع، فهل نضع الكل عنه؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنا نضع عنه؛ فإنه لا تبعيض في اللفظ.
والثاني: لابد من تبقية شيء؛ فإنه لو أراد الكل، لقال: ضعوا عنه الكل إذا شاء.
فرع:
12620- إذا حل النجم على المكاتب، فجاء متبرع وأدى النجم عن مكاتَبه، فالسيد لا يلزمه قبوله؛ قياساً على مثل ذلك في جميع الديون، ولو قبله السيد، فهل يقع عن المكاتَب إذا كان ذلك بغير إذن المكاتب؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين أحدهما- أنه لا يقع عن المكاتب، وليس كالرجل يتطوع بأداء دين غيره بغير إذن من عليه؛ وذلك أن الكتابة الصحيحة-وإن كانت على حكم المعاوضة، وغلبت المعاوضة فيها- فلابد من رعاية طرف من الاختصاص، والتعلّق بحكم التعليق، ولا تعلّق للعبد بهذا الأجنبي، ولم يرتبط به أيضاً إذن من المكاتب، فلا أثر لأدائه إذا كانت الحالة هذه.
والوجه الثاني-وهو القياس- أن العتق يحصل إذا قبل السيد؛ اعتباراً بجميع الديون. وإذا حكمنا بالعتق عند الإبراء عن النجوم-وإن كان معلقاً على أدائها- لم نبق للتعليق أثراً أصلاً.
فرع:
12621- إذا جُن المكاتب، وحل النجم، وعجَّزه السيدُ، وكان ينفق عليه بعد التعجيز إنفاقَه على المماليك، فأفاق المجنون، وأقام البينة على أنه كان أدى النجم، فهل يرجع بما أنفقه؟ قال العراقيون: لا يرجع بما أنفقه؛ فإنه في حكم المتبرع.
ولو ادعى أنه جهل الأداء أو نسيه، وأنفق على تقدير الرق-فالذي قاله ممكن- فهل يملك الرجوع بما أنفق-والحالة هذه-؟ فعلى وجهين، والذي قطع به أئمتنا أنه لا يرجع؛ فإن إنفاقه عليه مطلقاً فمَحْمَلُه الظاهرُ التبرعُ لا غير.
من عقود العتاقة التي تردد فيها الأصحاب
12622- ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص ما يشكل من عقود العتاقة، ويتعلق به تردد الأصحاب.
فمما ذكره أن السيد إذا قال لعبده: بعتك من نفسك بألف درهم، فقال: قبلت، فالمذهب الصحيح أن العقد يصح، ويَعتِق العبدُ بالقبول، والألف يقع في ذمته، وخرّج الربيع قولاً أن ذلك لا يصح ويلغو، ولا يترتب عليه عتق، ولا حكم له أصلاً؛ فإنه لا يعامل رقيقه بالبيع المحقق، وهذا وإن كان له وجه في القياس، فهو مزيف مردود، غير معدود من متن المذهب.
فإذا فرعنا على الأصح-وهو الصحة- فإذا ابتاع نفسه، فالوجهُ تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتِق عليه حتى يخرَّجَ الكلامُ، فإن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يصح فيه شرط الخيار؟ وقد ذكرنا هذا في شراء الإنسان قريبه.
وحكى الشيخ أن الأصحاب خرّجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً، ثم أعتقه في زمان الخيار. وهذا ذكره ما دام في المجلس، وهو تفريع منه على أضعف الوجهين في شراء الرجل من يعتِق عليه، وهو منسوب إلى أبي بكر الأُودَني، فإنه أثبت خيار المجلس في شراء الرجل مَنْ يعتق عليه.
وبالجملة شراء العبد نفسه أقرب إلى مقصود العَتاقة من شراء الرجل من يعتِق عليه.
12623- ولو قال السيد لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال العبد: قبلته، صح ذلك، ونفذ العتق في الحال، وهو بماثبة ما لو قال الزوج لزوجته: أنت طالق على ألف، فقبلته.
فأما إذا قال لعبده: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، أو إن أديت ألفاً، فأنت حر، فإذا أحضر ألفاً، فهذا-أولاً- فيه غموض؛ من جهة أنه لا يأتي بألف هو له؛ إذ لا ملك للعبد، ويقع هذا فيما إذا قال الرجل لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأتت بألف مغصوب. ولكن نفرع على العتق، ونقول بعده: ما سبيل هذه المعاملة وكيف تنزيلها؟
ذكر الشيخ ثلاثه أوجه: أحدها: أن حكمه حكم الكتابة الفاسدة في التراجع: رداً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب.
والوجه الثاني- أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن نغرمه قيمتَه.
والوجه الثالث: أنه لا نغرمه قيمتَه أيضاً.
وفي وضع هذا الكلام اضطراب لابد من كشفه، ونحن نقول: الكسب والولد الحاصلان قبل هذا التعليق لا يتبعان بلا خلاف، وإنما هذا التردد فيما حصل بعد التعليق من كسبٍ أو ولد، وكأن حاصل الكلام فيه يرجع إلى أن هذا اللفظ من السيد هل يكون كتابة فاسدة؛ فإن جعلناه كتابة فاسدة، يقع ما بعده من كسب وولد كما ذكرناه من كتابة فاسدة.
ومن الأصحاب من لم يجعله كتابة فاسدة، ثم هؤلاء اختلفوا: فقال بعضهم: تعليق محضٌ، لا يتضمن الرجوع بالقيمة أيضاً. وقال آخرون- لابد من ثبوت الرجوع عليه بالقيمة، كما لو قال الزوج لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأعطته مغصوباً؛ فإنه يرجع عليها عند وقوع الطلاق، والقائل الأول يقول: كانت المرأة من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف العبد القن، فحُملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض.
وقد نجزت مسائل السواد في الكتاب. واتفق أن ابن الحداد بعد نجاز ترتيب الكتب ذكر مسائل من مولَّداته أشتاتاً، وعطفها على الكتب من غير ترتيب، ولو أوردها في مواضعها، لكان ذلك أولى، ولكن إذا لم يتفق، فنحن نأتي بما نعلم أنه لم يَسبق له ذكرٌ أو تردُّدٌ فيه، فإن اتفقت إعادة، لم تضر، وهي أولى من الإخلال.
مسائل مشتتة لابن الحداد
فروع في البيع:
12624- منها- إذا اشترى جاريةً مزوّجة، وشرط أن تكون بكراً، فلو خرجت ثيباً، ففي ثبوت الخيار له وجهان:
أحدهما: أنه لا خيار له؛ فإن بُضع الجارية مستحَقٌّ للزوج، لا حظ للمشتري فيه، فلا يتخلف عنه بالثيابة غرض، والوجه الثاني- أنه يثبت له الخيار؛ فإن الثيابة نقصٌ بالإضافة إلى البكارة، وقد يتوقع موت الزوج أو تطليقه إياها قبل الافتضاض.
فرع:
12625- إذا اشترى الرجل جاريةً، وكانت وضعت قبل البيع ولداً، ووضعت بعد البيع ولداً، لأقل من ستة أشهر من انفصال الولد الأول، فنعلم أنهما حمل واحد، فظاهر نص الشافعي أن الولد من البائع، وهذا خلاف القياس؛ فإن الجارية وإن ولدت في يد البائع أحد التوأمين، فالثاني مجتن حالة البيع متصل، فينبغي أن يتناولَه العقدُ، ولا أثر في هذا المقام لكونهما توأمين.
قال الشيخ أبو علي: كان الشيخ الخِضري يحكي قولين في المسألة، أحدهما- ما نسبناه إلى النص.
والثاني: ما رأيناه الصواب الذي لا يسوغ غيره، ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع، فيجب أن نحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب، كما لو باع جارية حاملاً بولد منه و كما لو باع جاريةً حاملاً فاستثنى.
فرع:
12626- إذا اشترى الرجل جارية، فأتت الجارية بولد فقال المشتري: ولدت هذا الولد بعد الشراء، وقال البائع: بل ولدته قبل البيع، فهذه المسألة كتبها الحليمي إلى الشيخ أبي زبد يستفتيه فيها، فأجاب بأن القول قول البائع؛ فإن الأصل ثبوت ملكه في الحمل، والأصل عدم البيع في وقت الولادة، هكذا حكاه الشيخ أبو علي، ولم يزد عليه.
فرع:
12627- إذا باع رجل عبداً بثوب، ثم إن من أخذ الثوب فصّله وقطعه، فوجد الثاني بالعبد عيباً قديماً، فله ردُّه بالعيب، ثم إذا ردّه، فقد حكى الشيخ وجهين:
أحدهما: أنه يسترد الثوب مقطوعاً، ويسترد أرش النقص، وهذا هو القياس؛ فإن الثوب لو تلف في يد آخذه، ثم رد عليه عبده بالعيب، لكان يغرم تمام القيمة عند تلف الثوب، فكذلك يجب أن يغرم أرش النقص مع رد الثوب، وليس هذا كما لو تعيّب المبيع في يد البائع؛ فإنا نقول للمشتري: إما أن تفسخ البيع، أو ترضى به معيباً، وليس لك طلب الأرش، وذلك لأن المبيع غير مضمون على البائع بالقيمة. ولو تلف المبيع قبل القبض، لم يغرم قيمته؛ فلما لم يكن المبيع مضموناً عليه بالقيمة لو تلف، لم يكن بعضه مضموناً عليه بالأرش.
والوجه الثاني- أنه إذا رد العبدَ، وصادف الثوب مقطوعاً معيباً، فهو بالخيار: إن شاء رضي بالثوب معيباً، واسترده من غير أرش، وإن شاء ترك الثوبَ، ورجع بقيمته غيرَ معيب؛ فإن اختار الثوب، فلا أرش له.
قال الشيخ رضي الله عنه: اشتهر من كلام الأصحاب أن المتبايعين إذا تحالفا، وكان عاب المعقود عليه في يد أحدهما، فإنهما يترادان، ويُرجَع على من نقص العوض في يده بأرش النقص عند التفاسخ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين مسألة العبد والثوب. فإن طرد صاحبُ الوجه الثاني مذهبَه في مسألة التحالف، كان ذلك قُرْباً من خرق الإجماع، وإن سلّمه، بطل هذا الوجه في المعيب أيضاً، وشبب الشيخ أبو علي بإجراء الخلاف في مسألة التحالف.
فروع في الوكالة
12628- أحدها: إذا وكّل إنساناً ببيع متاعه مطلقاً، فباعه وشرط الخيارَ للمشتري وحده، أو لنفسه، وللمشتري، فالبيع باطل؛ فإن الوكيل المطلق لا يبيع عندنا بأجلٍ؛ لما فيه من تأخر الطلب، والخيار شرّ من الأجل؛ فإنه يمنع الملكَ، أو لزومَ الملك.
ولو باع وشرط الخيار لنفسه، ففي صحة البيع وجهان:
أحدهما: يصح؛ فإن الخيار للبائع مزيدُ حق، وليس يقتضي جوازاً في جانب المشتري. والوجه الثاني- أنه لا يصح؛ لأن الوكيل أثبت مزيداً لا يقتضيه مطلقُ البيع، ولو صح الشرط، لثبت للوكيل الخيار، وهذا حق أثبته لنفسه من غير إذن موكله.
ولو وكّله بشراء عبد، فاشتراه بثمن مثله مؤجلاً، وكان ذلك المبلغ بحيث لو قدر نقداً، لما كان المشتري مغبوناً؛ ففي صحة الشراء عن الموكِّل خلاف، والأصح الصحة؛ فإن الأجل في هذه الصورة زيادةٌ محضة. ومن منع انصراف الشراء إلى الموكل، احتج بأن التوكيل المطلق بالبيع والشراء يجب تنزيله على ما ينزل العقد عليه إذا كان مطلقاً، والعقد المطلق لا يقتضي أجلاً.
فرع:
12629- إذا وكل رجلاً ببيع شيء، ولم يصرح بتوكيله بقبض الثمن، فهل له قبضُ الثمن بمطلق الوكالة؟ فعلى وجهين مشهورين، وليس للوكيل تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فلو سلم المشتري الثمنَ إلى الموكل، فالوكيل يسلم المبيعَ لا محالة، ولفظ التسليم مستعار في هذه الصورة؛ فإن المشتري إذا وفر الثمن، فله الاستقلال بأخذ المبيع من غير تسليمٍ من البائع.
فرع:
12630- إذا قال لرجل: وكِّل فلاناًً بأن يبيع ثوبي، فهذا المخاطَب موكّل بالتوكيل، وليس له أن يبيع؛ فإنه لم يفوِّض إليه البيعَ، فإذا وكل المأمورُ وكيلاً، فالوكيل بالبيع وكيل الموكِّل الأول، وليس وكيلاً للوكيل؛ حتى لو أراد عزله، لم يملكه، وإنما يعزله الموكِّل الأول، والسبب فيه أنه وكّل الأول بأن يوكل، وقد وكل، وتم ما فُوِّض إليه وانقضى تصرفه. فمآله العزل.
وهو كما لو وكل رجلاً ببيع متاع، فإذا باعه، لم يكن له بعد البيع نقضُ البيع، وبمثله لو وكل رجلاً، وجوز له أن يستنيب ويوكل في البيع المفوض إليه، فإذا فعل ذلك، فالوكيل الثاني وكيل صاحب المتاع أم هو وكيل الوكيل الأول؟ فعلى وجهين، وفائدة ذلك أن الوكيل الأول-على أحد الوجهين- يعزل الوكيل الثاني، وكأنا نجعل الثاني فرعاً للأول، والفرق بين هذه الصورة والأولى؛ أن الوكيل الأول إذا كان موكلاً بالبيع، فوكل من يبيع، فسلطان الوكيل الأول باقٍ في البيع لو أراده، فما انقضى تصرفه، بخلاف المسألة الأولى.
مسألة في الإقرار بالنسب
12631- قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن من مات، فأقر بعضُ ورثته المناسبين بوارث، لم يثبت النسب، حتى يتفق الورثة. وذلك بيّن ممهّدٌ في موضعه.
فلو أقر الكافة إلا زوجاً، أو زوجة، فالمذهب الأصح أن النسب لا يثبت حتى يوافق الزوج، أو الزوجة، فإنهما من الورثة، وجملة الورثة ينزلون منزلةَ الموروث؛ فإقرار جميعهم بمثابة إقرار الموروث في حقوقه.
وحكى الشيخ وجهاً ثانياً أن النسب يثبت وإن أنكره أحد الزوجين، لأنهما ليسا من أهل النسب، وإن كانا من جملة الورثة، والأصح الأول.
ولو مات رجل، وخلف بنتاً، فأقرت بابن لموروثها، لم يثبت نسبه؛ فإن البنت ليست مستغرقة للميراث، بل نصف الميراث لها، والباقي مصروف إلى المسلمين.
فلو أقرت بنسب ابنٍ وساعدها على الإقرار الإمامُ، فقد ذكر الشيخ وجهين:
أحدهما: أن النسب يثبت بموافقة الإمام، وهو لسان أهل الإسلام، فكأنهم أقروا مع البنت. والوجه الثاني-وهو الذي لا يجوز غيره- أن النسب لا يثبت؛ فإن الإمام في حكم النائب، وإقرار النائب في هذا المقام لا ينفع؛ فإن من خلف ولدين أحدُهما طفل، فاعترف البالغ منهما بنسب ابن ثالث، وساعده قيّم الطفل، لم يثبت النسب حتى يبلغ الطفل، فينظر: أيساعِد في الإقرار، أم يخالِف، فإذا خلف بنتاً في ظاهر الحال- فلو جاء ابن وادعى أنه للمتوفى، فإقرار البنت لا يكفي؛ لأنها ليست مستغرِقة، ولو فرضنا إنكارها، فقد قال الشيخ: إذا أنكرت، لم تحلّف؛ فإنا لو حلّفناها ونكلت، ورددنا اليمين، فلا حكم لما يجري من ذلك.
وعندنا أن يمين الرد لو جعلناها بمثابة البينة، فيتجه تحليفها رجاء أن تنكُل، فترد اليمين، ويتنزل حلف المردود عليه منزلة بينة تقوم على النسب، وهذا ضعيف؛ من قِبل أن القضاء بالنسب لا يقع على البنت، وإنما يقع على الميت، وقد ذكرنا أن يمين الرد لا تنزل منزلة البينة في حق غير المستحلف.
مسائل في المواريث
12632- إحداها- إذا مات رجل وخلّف ابني عم، أحدهما أخ لأم؛ فالمذهب المشهور للشافعي أنا نفرض سدس المال للذي هو أخ لأم، والباقي نقسم بينهم للعصوبة.
وقال عمرُ، وابنُ مسعود: يدفع تمام المال إلى الذي هو أخ لأم، ويقوى تعصيبه بزيادة القرابة، قياساً على الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب.
قال الشيخ رضي الله عنه: من أصحابنا من خرج للشافعي قولاً مثل مذهب عمر وابن مسعود، وهذا غريب غيرُ معتد به.
ولو كان للمعتِق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللشافعي قولان- هكذا قال الشيخ:
أحدهما: أن أخوة الأم تَسقُط، ولا يبقى لها أثر، وإذا سقطت بقي ابنا عم المعتق، فالميراث نصفان بينهما. والقول الثاني- أن ابن العم الذي هو أخ من الأم أولى بالميراث ويسقط الآخر. وهذا القول مذكور في عصبات الولاء.
قال ابن الحداد: لو خلف المتوفى بنتاً وابني عم، أحدهما أخ لأم: فللبنت النصف. وباقي المال للذي هو أخ لأم. قال: وليس هذا تفريعاً على مذهب ابن مسعود. وهذا جواب ابن الحداد.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك. فقال قائلون: للبنت النصف والباقي بين ابني العم، لأن أخوة الأم صارت محجوبةً بالبنت، وصارت كأنها لم تكن، فقُسم باقي المال بينهما، ومن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله ابن الحداد؛ فإن أخوة الأم لم يمكن التوريث بها مع البنت، فلما تعذر استعمالها في التوريث بها وحدها، أعملناها في الترجيح، وتقوية العصوبة.
وهذا الخلاف بعينه هو الذي ذكرناه في ابني عم المعتق إذا كان أحدهما أخاً لأم.
والجامع أن الأخوة محققة في المسألتين، وامتنع إعمالها في الولاء وحدها لاستحالة التوريث بها، والبنت في المسألة التي كنا فيها حجبت أخوة الأم، فأنتظم قولان في الصورتين.
مسألة:
12633- إذا اجتمع في الشخص قرابتان، يحل في الإسلام التسبب المؤدي إلى جمعهما، فيجوز التوريث بهما جميعاً، وذلك مثل أن يكون ابن العم أخاً من أم.
فأما إذا اجتمع في الشخص قرابتان لا يحل التسبب المفضي إليهما في الإسلام، وإنما يجتمعان بسبب شبهة وغلط في الإسلام، ويتصور اجتماعهما على خلاف الملة، كما يقدّر بين المجوسيين؛ فإذا اجتمعت قرابتان كذلك، فيقع التوريث عند الشافعي رضي الله عنه بأقربهما، ويسقط أضعفهما، ولا يقع التوريث بهما جميعاً.
وذهب ابن سريج إلى التوريث بالقرابتين في بعض الصور، على ما سنصفه في أثناء الكلام.
فلو وطىء المجوسي ابنته، فولدت بنتاً، فهذه البنت الصغرى بنت الكبرى وأختها من أبيها، فإنها ولد أبيها. فلو ماتت الكبرى، ولم تخلّف سوى بنتها التي هي أختها من أبيها، فقد اجتمع فيها البنوة والأخوة، فمذهب الشافعي أنها ترث بالبنوة، ولا ترث بالأخوة أصلاً. فلها نصف الميراث بالبنوة.
وقال ابن سريج-في هذه الصورة- إنها ترث بالقرابتين، فلها النصف بكونها بنتاً، والباقي لها بكونها أختا.
وحقيقة أصله: أنه إذا اجتمع قرابتان، كل واحدة منهما لو انفردت، لاقتضت فرضاً مقدراً، فإذا اجتمعتا، لم يقع التوريث إلا بإحداهما، وهي أقواهما، ولا سبيل إلى الجمع بين فرضين. وإن كانت إحدى القرابتين بحيث تقتضي فرضاً والأخرى تعصيباً، فيثبت التوريث بالفرض والتعصيب جميعاً، فعلى هذا لو ماتت الصغرى في الصورة التي قدمناها، ولم تخلف إلا أمها وهي أختها من الأب أيضاً، فلا نورثها إلا بكونها أماً؛ فإن الأمومة أقوى، ولا ترث بالأخوة؛ لأنها لو ورثت بها، لاجتمع لها فرضان.
12634- فإذا تمهد ما ذكرناه، فنذكر صوراً لابن الحداد في ذلك:
فإذا وطىء المجوسي بنته، فولدت بنتاً، ثم هو بعينه وطىء البنت الصغرى، فولدت ابناً، فماتت البنت الصغرى أم الغلام، ثم مات الابن، فنقول: لما ماتت البنت، فقد خلفت أبوين وابناً، فللأبوين السدسان، والباقي للابن. فلما مات الابن، فقد خلف أباً وجدة: هي أم الأم، وهي أيضاً بعينها أخت الابن المتوفى، فللجدة السدس، والباقي للأب، ولا ترث الجدة بكونها أختاً؛ فإن الأب يسقط الأخت، فورثت بالجدودة المحضة.
ولو كانت الصورة كما ذكرناها، ولكن مات الأب أولاً، ثم مات الابن، وبقيت البنتان: فأما الأب لما مات، فقد خلف ابناً وبنتين، فالمال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا توريث إلا بهذه الجهة. فلما مات الابن، فقد خلف أما هي أخت-وهي الصغرى- وجدة-وهي أخت أيضاً- وهي الكبرى؛ فأما الأم، فترث بالأمومة الثلث، ولا ترث بالأخوة، وأما الجدة، فلا ترث بالجدودة؛ فإن الأم تُسقط أمَّ الأم، ولكنها ترث بالأخوة، فللأم الثلث، وللجدة بالأخوة النصف، والباقي لبيت المال، هذا جواب ابن الحداد، وافقه الأئمة فيه.
وبمثله، لو مات الأب أولاً، ثم ماتت البنت الصغرى-أم الغلام- ثم مات الغلام، فنذكر ميراث الغلام-فهو المقصود- ونقول: قد خلّف الغلام جدة، هي أخت من الأب، قال الشيخ: ذكر ابن اللبان في هذه المسألة وجهين:
أحدهما: أنا نورثها بالأخوة، فتأخذ نصف الميراث؛ فإن نصيبها بالأخوة أكثر.
والثاني: أنا نورثها بالجدودة سدساً، وهو الصحيح، لأن الجدودة أقوى بدليل أن الجدة أم الأم لا يحجبها الأب، ولا أحد من الأولاد، والأخ يسقطه هؤلاء، فلا نعتبر الكثرة، وإنما نعتبر القوة.
مسألة في قسم الصدقات
12635- إذا دفع من عليه الزكاةُ شيئاً من سهم ابن السبيل إلى إنسان ليسافر، ولم تكن له أُهبة، فورث مالاً، أو اتهبه، أو أُوصي له به، فقبله قبل أن يسافر، فالذي أخذه يردُّه؛ فإنه أخذه لحاجته وقد زالت. والسفر أمر متوقّع في ثاني الحال.
ولو دَفَع إلى فقيرٍ أو مسكين شيئاً من الصدقة، فاستغنى بعد ذلك بمالٍ أصابه، فلا يرد ما أخذه؛ فإنه استحقه بوصف قائمٍ متحقَّق، فزواله لا يوجب الرد، وابن السبيل استحق لاْمر سيكون منه في الثاني، ولو أخذ ليسافر، ثم بدا له، فعليه ردُّ ما أخذه مذهباً واحداً.
وما ذكرناه في ابن السبيل يجري في الغازي، فلو أخذ ليخرج غازياً، فلم يخرج، ردّ ما أخذ.
قال الشيخ: لو سلمنا إلى ابن السبيل شيئاً، فخرج وعاد، وقد فضلت فضلة مما أخذه مع انقضاء وطره في سفره، فيلزمه ردُّ الفاضل، والغازي لو خرج وعاد مع فضلة، فلا يردها، هكذا قال الشيخ؛ فإن خروجه يرجع إلى مصلحة المسلمين، فكأنه كالمستأجر في خَرْجَته، وهذا لا يتحقق في ابن السبيل.
ولو دفع شيئاً إلى الغارم، فأبرأه مستحق الدين، فهل يستردُّ منه ما دفعه إليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسترد كما يسترد من ابن السبيل.
والثاني: لا يسترد، كما لا يسترد من الفقير إذا استغنى بعد الأخذ.
وعلى حسب ذلك اختلفوا في أنا إذا سلمنا إلى المكاتب شيئاً من سهم الرقاب، فأعتقه سيده، فهل نسترد منه ما أخذه من الصدقة؛ فعلى وجهين.
ومما ذكره الشيخ أنه لو كان الدين مؤجلاً على الغارم أو المكاتب، فهل يجوز صرف الصدقة إليهما، فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز؛ فإنهما غير مطالَبَيْن.
والثاني: يجوز لثبوت الدين؛ فإن عين المطالبة لا تشترط؛ إذ الفقير لا يطالب بالدين. والثالث: أنه يصرف إلى الغارم، دون المكاتب؛ فإن المكاتب مهما شاء عجّز نفسه، وهذا الوجه الثالث بالعكس أولى، فإن ما ذكرناه يتحقق في النجم الحالّ أيضاً؛ فالوجه أن نقول: المؤجل في حق المكاتب كالحالّ؛ فإنه لو جاء بالنجم قبل حلوله لأجبر السيد على قبوله، مذهباً واحداً.
مسألة من النكاح
12636- إذا ادعى الرجل على أبِ بنتٍ أنه زوّج منه بنته، فلا تخلو البنت: إما أن تكون ثيباً وقت الدعوى أو بكراً، فإن كانت بكراً، لم يخل إما أن تكون صغيرة أو كبيرة، فإن كانت صغيرة بكراً، فلا يخلو الأب المدعى عليه إما أن يقر بأنه زوجها أو ينكر، فإن أقر للمدّعي، فيقبل إقراره، ويثبت النكاح؛ فإنه لو أنشأ تزويجها، لنفذ، فإذا تصور منه الإنشاء، قُبل منه الإقرار.
ولو أنكر، وقال: ما زوّجتها أصلاً، فتتوجه عليه اليمين، فإن حلف، انتفى النكاح، وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإن حلف، ثبت النكاح.
12637- ثم فرعّ الشيخ على ذلك. وقال: لو ادعى أجنبي على الأب: أنك بعت مني هذا العبدَ من مال طفلك، فإن أقرّ به، قُبل إقراره اعتباراً بالإنشاء، فإذا ثبت أنه يصح منه الإنشاء، يصح منه الإقرار.
فلو أنكر البيعَ، قال الشيخ: يحلّفه المدعي، كما ذكرناه في النكاح، ويجري حكم الرد والنكول على القياس المتقدم.
ثم قال الشيخ: كان يجري بيني وبين الشيخ القفال كلام، فقال: الأب لا يحلّف في هذه الصورة إذا تعلقت الخصومة بمال الطفل، ولكن يوقف الأمر حتى يبلغ الطفل ويحلف أو ينكل؛ فإن اليمين لا تدخلها النيابة؛ وهذه اليمين متعلقة بحق الطفل، قال الشيخ: الوجه عندي القطع بأنه يحلف اعتباراً بالإقرار، فيتخذ قبول الإقرار أصلاً في جواز التحليف عند الإنكار؛ وقياس ما ذكره القفال أن لا يحلّف الأب في التزويج أيضاً؛ إذ لا فرق. وهذا فيه بُعْد.
ولو اختلف الأب ومن اشترى منه شيئاً من مال الطفل في مقدار الثمن، تحالفا عند الشيخ، وقياس ما ذكره القفال أن لا يتحالفا.
هذا كله إذا كانت البنت صغيرة بكراً.
12638- فأما إذا كانت بالغة بكراً، فادعى على الأب تزويجها منه، فإن أقر بتزويجها، قبل إقراره عليها-وإن أنكرت هي- فإنه يملك إجبارها، فيملك الإقرار بها.
ولو أنكر الأب، فهل يحلّفه المدعي؟ قال الشيخ: اختلف أصحابنا في ذلك:
منهم من قال: إنه يحلّف الأب، كما يحففه لو كانت صغيرة بكراً؛ إذ الإجبار والإقرار يجريان في الصورتين، والتحليف مأخوذ من قبول الإقرار. وهذا ما أجاب به ابن الحداد.
فعلى هذا: إذا حلف الأب، لم يخفَ حكمه، ولو نكل وحلف هو يمين الرد، ثبت النكاح.
ولو حلف الأب، فله أن يدعي على البنت بعد سقوط الدعوى عن الأب بالحلف؛ فإن أقرت، قُبل إقرارها على الصحيح، وإن أنكرت، حلّفها، فإن نكلت، حلف يمين الرد، وثبت النكاح، وإن كان حلف الأب، فلا يقدح ذلك في يمينه المبنية على نكولها، ولو حلفت، سقط حقه حينئذ لاجتماع حلف الأب والبنت.
والوجه الثاني- في الأصل أنه ليس للمدعي تحليف الأب، وإن كان يُقبل إقراره؛ فإنه قادر على تحليف المرأة البالغة، فهي باليمين أولى.
هذا كله إذا كانت المرأة بكراً.
فأما إذا كانت ثيباً، فادعى على الأب تزويجها، فليس له تحليف الأب؛ فإنه لو أقر، لم يُقبل إقراره، إذ لو أنشأ تزويجها في صغرها ثيباً، لم ينفذ، والإقرار معتبر بالإنشاء.
مسائل في الجراح
12639- منها- مسألة نقول في مقدمتها: من قطع طرف رجل، فطلب المجني عليه الأرش، ففيه اختلاف النصوص، والأقوال، وطرق الأصحاب.
ولو طلب القصاص، فالمذهب أن له ذلك.
وحكى الشيخ أن من أصحابنا من جعل في القصاص قولين، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً.
ومما نذكره في المقدمة: أن الرجل لو قطع يدي رجل، فمات المظلومُ، ثم قطع وليُّه يدي الجاني، فاندمل، فأرادوا طلب المال في النفس، فليس لهم ذلك؛ فإنهم قد استَوْفَوْا ما يقابل ديةَ النفس، وهذا معلوم في أصول المذهب.
ولو قطعت امرأة يدي رجل، فمات المظلوم، فقطع الولي يديها، ثم أراد المطالبة بمال، قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجب شيء من المال؛ فإن يديها في مقابلة نفسها، ولو ماتت، لكان نفسها بنفسه، فكذلك يداها تقعان في مقابلة دية الرجل، فلا مطالبة بالمال بعد قطع يديها.
والوجه الثاني- أنه يجب عليها نصفُ دية الرجل؛ فإن الولي استوفى ما يقابل نصف دية الرجل، فتبقى الطلبة في نصف الدية.
رجعنا بعد ذلك إلى مسألة ابن الحداد، قال: لو قطع رجل يدي رجل، فاندملت الجراحة ظاهراً، فقطع المجني عليه إحدى يدي الظالم قصاصاً، وأخذ أرشَ الأخرى، ثم انتقضت جراحة المظلوم، وسرت إلى نفسه، والظالم باقٍ، فليس لورثة المظلوم طلبةٌ على الجاني في قصاص ولا دية، أما سقوط القصاص في النفس، فسببه أن في إتلاف النفس إتلاف الطرف، وقد عفا عنه؛ إذ أخذ الأرش، ولا دية أيضاً؛ فإنه قد استوفى ما يقابل ديةً كاملة. وهو القصاص في يدٍ والأرش في الأخرى.
12640- ثم ذكر ابن الحداد صورة أخرى، فقال: لو قطع يدي رجل ظلماً، فاندملت جراحةُ المظلوم حقيقةً، ثم إنه قطع إحدى يدي الظالم قصاصاًً، وأخذ أرش اليد الأخرى، ثم سرت يد الظالم إلى نفسه ومات، قال: لا يسترد ورثة الظالم من المظلوم أرش اليد الذي أخذه أصلاً.
قال الشيخ: هذا يخرّج على قولين مبنيين على أن الطرف إذا فات بسراية القصاص، فالسراية في الأطراف هل يقع بها القصاص؟ فعلى قولين سبق ذكرهما في الأصول:
أحدهما: أن السراية في الأطراف لا يقع بها القصاص، كما لا يجب بها الدية
والثاني: يقع بها القصاص.
فإن قلنا: لا يقع بها القصاص، فالجواب ما قاله ابن الحداد؛ فإن المظلوم اقتص عن يد واحدة، ثم سرى القصاص إلى النفس، وفي موت النفس ضياع الطرف، ولا مبالاة به. وإن قلنا: السراية في الطرف يقع بها القصاص، فنقول: قد استوفى طرفاً وسرى إلى الطرف الآخر، فإنه لما مات، فقد فات ذلك الطرف، فوقع القصاص في الطرفين قطعاً وسراية، فعليه حينئذ أن يرد ما أخذه من الأرش. والصحيح من القولين ما فرعّ عليه ابن الحداد.
مسألة أخرى من الجراح
12641- إذا قطع عبد يد عبد، واستوجب القصاص، ثم إن المظلوم عَتَق، وسرت الجراحة إلى نفسه، فعلى العبد الظالم القصاص في النفس والطرف، وحق القصاص في الطرف يثبت للسيد؛ فإنّ قطعَ اليد اتفق في ملكه، وحقُّ القصاص في النفس يثبت لورثته الأحرار؛ فإنه هلك حراً. فلو أن السيد استوفى القصاص من طرف العبد الظالم، فمات الظالم منه، فقد وقع النفس بالنفس؛ فإن الظالم مات بعد موت المظلوم بالقصاص. وهذا حسن.
وقد يخطر للفقيه فيه إشكال؛ من جهة أن السيد المقتص من الطرف لا حقَّ له في قصاص النفس، ومن له الحق في النفس، لم يستوف القصاص في الطرف. ولكن لا وجه إلا ما ذكرناه؛ فإن النفس فاتت بطريق القصاص، وكأن السيد وإن لم يملك القصاص في النفس، ملك ما هو استيفاء للنفس، ونحن قد نصرف إليه من دية هذا الذي مات حراً جزءاً، وإن كان مالك الرق لا يستحق بدل الحرية، وهذا حسن بالغ، لا وجه غيره.
ولو أن ورثته الأحرار عفَوْا عن القصاص في النفس، قبل أن يستوفي السيد القصاص في الطرف، قال الشيخ: سألت القفال عنه. فقال: ينبغي أن يسقط القصاص في الطرف أيضاً؛ فإن ورثته الأحرار، ثبت لهم إتلافُ الأطراف باستيفاء النفس، فلهم من هذا الوجه شركة في الطرف، فإذا عَفَوْا عن النفس، وجب أن يسقط القصاص في الطرف.
قال الشيخ: القياس عندي أن السيد له حق الاقتصاص في الطرف؛ فإن ذلك ثبت له مقصوداً، ولا خلاف أنه لو أراد استيفاء الطرف، لم يحتج إلى استئمار ورثته الأحرار، ولو كانت لهم شركة معتبرة، لوجب استئذانهم.
مسألة من الحدود
12642- قال رضي الله عنه: العبرة في الحدود وصفتُها ومبالغُها بوقت الوجوب، وبيانه أن الحر الذمي إذا زنى، ورضي بحكمنا، فحكمنا عليه بالرجم؛ إذ كان محصناً، فلو أفلت، ونقض العهد، ولحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأَرَقَّه الإمام، فإنا نرجمه رقيقاً بالزنا السابق، وهذا على أن الحد لا يسقط بالهرب؛ فمانَّ نقض العهد زائد على الهرب.
ولو قذف ذمِّيٌّ مسلماً محصناً، واستوجب بقذفه ثمانين جلدة، ثم نقض العهد، واستُرِق؛ فإنا نحده ثمانين جلدة، وإن كان حدُّ الرقيق أربعين جلدة.
مسائل من السير
12643- منها: إذا أسر الإمام رجالاً من الكفار، فأسلم بعضُهم، فالأصح أنه يبقى له الخيار فيمن أسلم بين المن، والفداء، والاسترقاق، ولا شك في سقوط القتل.
ومن أصحابنا من قال: من أسلم، فقد رَقَّ، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي رضي الله عنه قال: "لو أسلموا بعد الإسار رَقّوا" وقد أوضحنا هذا في الأصول.
فلو قبل أسيرٌ الجزيةَ بعد الإسار، وكان كتابياً، ففي تحريم قتله وجهان مشهوران: فإن قلنا: لا يحرم قتله، تخير الإمام بين خمسة أشياء: إن شاء منّ، أو فادى، وإن شاء قتل، أو استرق، أو قبل الجزية.
وإن قلنا: يحرم قتله بقبول الجزية، فقد قال الشيخ: إن حكمنا بأن من أسلم رَق، فهذا هل يرق بقبول الجزية؛ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يرِق، كما لو أسلم، وهذا ضعيف، لا اتجاه له.
مسألة أخرى من السير
12644- إذا نكح المسلم حربية، فهل تسبى زوجته؟ فعلى وجهين مشهورين.
تقدم ذكرهما: فلو نكح مسلم حربية، وقلنا: إنها تسترق، فسُبيت واسترقت، فلا يخلو، إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون، فإن لم تكن مدخولاً بها، فكما رقت، ارتفع النكاح لمعنيين:
أحدهما: أنه ارتفع ملكها عن نفسها، فلأن يرتفع حق الزوج عنها أولى، وأيضاً، فإنها صارت أمةً كتابية، فلا يدوم النكاح عليها.
ولو كانت مدخولاً بها، فَرَقَّت لما سبيت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: ارتفع النكاح، وانبت من غير توقف، حتى لو عَتَقَت بعد ذلك، والعدة باقية، أو أسلمت، فلا حكم لشيء من ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إذا اتفق العتق والإسلام قبل انقضاء العدة، فالنكاح قائم، كما لو ارتد أحد الزوجين بعد الدخول، فعلى هذا إذا عَتَقَت وأسلمت في العدة، دام النكاح؛ فإنها عادت حرة مسلمة.
وإن عتقت في العدة، ولم تُسلم، فكذلك؛ فإنها حرة كتابية، والتصوير فيه إذا كانت يهودية أو نصرانية لا محالة.
ولو أسلمت في العدة، وثبتت رقيقة، فإن كان الزوج ممن يحل له نكاح الإماء، دام نكاحه عليها، وإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فهل يحل له استدامة النكاح على الأمة المسلمة؛ ذكر الشيخ وجهين في هذا المنتهى:
أحدهما: ليس له ذلك، والثاني: له الاستدامة، وهو الصحيح إذا فرّعنا على هذا الوجه.
وقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، انبت النكاح، حتى لو أعتقها في زمان العدة، لم نتبين دوامَ النكاح. وما ذكره الشيخ من الاختلاف في تغير حال المسبيّة قد يُطرِّق احتمالا إلى شراء الزوجة، ولكن لا سبيل إلى مخالفة ما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: لا معنى لهذه المسألة؛ فإن الزوجة إذا ملكا الزوج، فلا عدة، قلنا: العدة ثابتة، لو فرض تزويجها من الغير.
12645- ثم أجرى الشيخ في أثناء الكلام أن الحربية إذا وطئها مسلم، وعلقت منه بولد مسلم، فإذا سبيت، وجرى الرق عليها، فلا يجري الرق على حملها، ثم لا تباع ما دامت حاملاً بالولد الحر على القياس المعلوم، وإذا وَضَعت، جاز بيعها، ولا يكون ذلك تفريقاً بين الأم والولد؛ فإن قولي التفريق فيه إذا كان الولد رقيقاً، بحيث يتصور بيعه مع الأم، فإذا بيعت الأم وحدها، كان على قولين، فأما إذا كان الولد حراً، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى منع بيع الأم حتى يستقل الولد.
ومما جرى في أثناء الكلام زلل وقع لابن الحداد؛ فإنه قال: لو أن المسلم سُبي ولده الصغير، فالحكم كذا وكذا، وهذا غلط؛ فإن المسلم ولده الصغير مسلم، فلا يتصور أن يغنم.
مسألة أخرى من السير
12646- نقول في مقدمتها: ما يغنمه المسلم بالقتال مخموس، وأهل الذمة إذا قاتلوا أهل الحرب منفردين، لا مسلم معهم، فما يغنمونه لا يخمس، بل ينفردون به، وحكى الشيخ وفاق الأصحاب فيه، وسببه أن الخمس يصرف إلى تدارك خلاّتٍ عامة في المسلمين، على ما لا يخفى مَصرِف الخُمس، وذلك من الجهات الغالبة، والذمي لا يكلَّف القيامَ بسدّ خلات المسلمين في الجهة العامة، ولذلك لا تضرب الزكاة عليه، وإن كانت الكفارة قد تجب عليه.
فإذا ثبت هذا، فلو خرج مسلم وذمي، وغنما، فهل يخمس المغنوم بجملته، أم يخمّس نصيب المسلم دون نصيب الذمي؟ فعلى وجهين، ذكرهما الشيخ.
وهذا فيه اختلاط، والكشف فيه أن يقال: ما ذكره مأخوذ من أصل مضى تمهيده في قَسْم الفيء والغنيمة، وهو أن الذمي حقُّه الرضخ، وهو دون السهم، ثم الرضخ في حقه، وفي حق صبيان المسلمين من أي موضع يؤخذ؟ فيه اختلاف أوضحته في موضعه: من أصحابنا من قال: الرضخ من سهم المصالح، فعلى هذا: لا حق لصاحب رضخٍ في مغنم، حتى لو كان في الجند مسلم واحد، والباقون أهل ذمة، فلا حظ لهم في شيء من المغنم، وإنما المغنم للمسلم وجهة الخمس. وهذا الوجه مائل عن القاعدة وإن كان مشهوراً.
والصحيح أن أصحاب الرضخ يستحقون من المغنم.
ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فمنهم من قال: يؤخذ الرضخ من رأس المغنم قبل التخميس، وكأنه كالمؤنة تلحق المغنمَ، بمثابة نقل المغانم إلى المكان الذي تتأتَى القسمة فيه.
ومنهم من قال: يخرج الخمس من جملة المغنم، ثم يزدحم أصحاب الرضح وأصحاب السهام في الأربعة الأخماس.
فما ذكره الشيخ من أن نصيب الذمي هل يخمس؟ هو بعينه الاختلاف الذي ذكرناه في أن التخميس بعد الرضخ أو قبله.
ولو غنم طائفة من الصبيان بالقتال، فلا خلاف أنه مخموس، فإنا إذا كنا نوجب الزكاة في أموالهم، فلا يبعد أن يُخَمَّس ما يغنمون.
مسألة أخرى من السير
12647- نقول في مقدمتها: إذا قهر أهل الحرب بعضهم بعضاً، فالمقهور يصير مملوكاً للقاهر، ولو كان للحربي عبد، فقهر العبدُ مولاه، عتَقَ العبد، وصار السيد رقيقاً له، ولا يكفي في ذلك قصدُ القهر، بل لابد من صورة القهر، ثم لابد من قص الاستعباد.
ثم لو قهر حربي رجلاً حربياً، مَلَكه، والمسلم لو أسر حربياً لم يُجرِ الرقَّ عليه، حتى يَرِقَّه الإمام أو نائبه، وسبب ذلك أن في أسير الكفار اجتهاداً في خصال، ولا يتحقق مؤاخذة الحربي بها، فتعين قهره للرق.
ثم قال الأصحاب: إذا قهر حربي حربياً، لم يُشترط قصدُ الإرقاق، بل يكفي صورة القهر. وهذا فيه نظر عندي؛ فإن القهر قد يجري استخداماً، فلا يتميز قهر الرق إلا بقصد الارقاق.
رجعنا إلى مقصود المسألة، فنقول: إذا باع الحربي زوجته من مسلم، فإن لم يقهرها، لم يصح البيع؛ فإن التملك إنما يجري بالقهر، وإلا فبيع الحرة باطل، والتراضي لا يصححه.
وكذلك لو قهر ابنه، وباعه من مسلم، فهل يصح ذلك، أم لا؛ إن لم يكن قهرٌ، فلا. وإن قهره، فهل نقول: إنه يعتق عليه، فلا يستقر له عليه ملك؛ فعلى وجهين:
أحدهما:وبه أجاب الشيخ أبو زيد- أنه يصح منه بيعُ ولده إن قهره، ولا يعتِق عليه؛ لأن القهر سبب الملك، وإذا دام القهر، فقد دام السبب، فإن تخيلنا عتقاً على الأب، فالقهر يزيل العتق، بل دوامه يمنع حصولَه.
والوجه الثاني- أنه لا يجوز له بيع ولده، ولا يبقى له عليه ملك، وهذا اختيار ابن الحداد.
والمسألة من المسائل التي أرسلها الحَليمي إلى الشيغ أبي زيد يستفتيه فيها.
وإن فرعنا على ما اختاره ابن الحداد، فيتجه أن نقول: لا يملك الأب ابنه بالقهر، لاقتران السبب المقتضي للعتق بالقهر. فلو قال قائل: فامنعوا شراء الأب ابنه، لما ذكرتموه! قلنا: إنما جاز ذلك ذريعةً إلى تخليصه من الرق، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من امتناع جريان الرق بالقهر.
وكل ما ذكرناه في الأب إذا قهر ابنَه، يجري في الابن إذا قهر أباه.
مسألة أخرى من السير
12648- إذا وقع طائفة من رجال الكفار في الأسر، فقد ذكرنا أن صاحب الأمر يتخير فيهم بين القتل، والمن، والفداء، والإرقاق.
فلو لم يُمضِ فيهم رأيه، فابتدر مسلم، وقتل واحداً منهم، فقد أساء، وللإمام تعزيره، ولا يستوجب شيئاً؛ فإنه قتل كافراً لا أمان له، ولم يجر الرق عليه، ولا يلتزم بمنع الرق ضماناً، بخلاف ولد الغرور؛ فإن الرق يجري لولا الغرور، والرق لا يتعين في الأسير.
ولو أسلم واحد منهم، فقتله مسلم حر، فإن قلنا: من أسلم رَق، فلا قصاص على الحر، وإن قلنا: لا يرِق بالإسلام، فيجب القصاص على قاتله؛ فإنه قتل حراً مسلماً.
وفي هذا أدنى نظر؛ من جهة أنه يجوز إرقاقه، فكأنه مستحق الإرقاق، ولكن لا التفات إلى هذا؛ فإن القتل يخرجه عن إمكان ذلك، والاعتبار بصفته حالة القتل.
مسألة أخرى
12649- قد ذكرنا في القواعد من كتاب السير أن المعاهد إذا أودع عندنا أموالاً، ثم التحق بدار الحرب، فيبقى على تفصيل عُلقة الأمان في ماله، ثم قال الأصحاب: له أن يعود ليأخذ مالَه من غير أن نجدد له أماناً.
قال الشيخ: الذي أراه أنه لا يفعل ذلك، ولو فعله، اغتلناه في نفسه؛ لأن أمانه في نفسه قد انتقض، فلابد من تجديد ذلك.
وإنما رسمت هذه المسألة لحكاية هذا، وإلا فالمسألة مستقصاة بجوانبها.
ثم قال الشيخ: لا أعرف خلافاً أن المسلم لو دخل دار الحرب، فسلم إليه حربي بضاعةً، ثم أراد الحربي أن يبيع البضاعة، ويدخل دار الإسلام من غير أمان، لم يكن له ذلك، ولو فعل اغتيل في نفسه. هكذا قال.
وفي المسألة احتمال على طريقة الأصحاب.
وقد نجزت المسائل المشتتة التي ذكرها ابن الحداد في آخر المولَّدات، وقد أعدت فيها أشياء كثيرة، ولم أُخلها عن زوائد وفوائد.
فصل:
12650- وأنا أذكر الآن فصلاً ذكره صاحب التلخيص، وجمع فيه مسائل يفترق فيها الحر والعبد، وأنا أذكر منها ما أرى فيه مزيداً.
فمما ذكره أن العبد إذا نذر لله حجاً، فهل يُلزمه النذرُ شيئاً؟ تردد فيه، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: لا يلزمه بالنذر شيء في الحال، ولا في المآل إذا عتق، وليس كنذر الصوم والصلاة؛ فإنه يُتَصَوَّر الوفاء بهما في الرق.
والمذهبُ صحةُ النذر في الحج، فعلى هذا، لو وفى بنذره في رقه، فهل يبرأ، أم لا يبرأ ما لم يعتق؟ فعلى أوجهٍ: أحدها: أنه يبرأ؛ لأن الأداء لا يمتنع وقوعه في وقت الالتزام؛ فإذا لم ينافِ الرقُّ الالتزامَ، لم يناف الأداء. والوجه الثاني- أن أداءه لا يصح في الرق، كما لا يصح منه حجةُ الإسلام في الرق. والوجه الثالث:وهو الذي ذكره صاحب التلخيص ولم يذكر غيره- أنه إن حج بذن مولاه، برئت ذمته، فإن حج دون إذنه، لم تبرأ ذمته، وهذا ساقط لا أصل له.
12651- ومما ذكره في أحكام العبد؛ أن العبد لا يجوز أن يكون وكيلاً في التزويج للولي. وفيه وجه ذكرناه في النكاح أنه يجوز.
وهل يصح أن يكون وكيلاً في قبول نكاح الغير؟ إن كان بإذن السيد جاز؛ فإنه من أهل التزوج لنفسه، فلا يمتنع وكالته في هذا الشق.
وإن قبل النكاح بغير إذن السيد، فقد قال أبو زيد: يجوز ذلك؛ إذ لا عهدة فيه، وقال القفال: لا يصح منه هذا دون إذن السيد، كما لا يصح منه قبول النكاح لنفسه.
ولا خلاف أنه يجوز أن يكون وكيلاً في تطليق زوجة الغير، وهذا بسبب جواز انفراده بتطليق زوجته من غير مراجعة المولى.
12652- ومما ذكره في أحكام العبد ضمانُه، فنقول: إذا ضمن مالاً، لم يخلُ: إما أن يضمن بإذن السيد، أو بغير إذنه، فإن ضمن بغير إذنه، لم يصح ضمانه على المذهب المشهور. وفيه وجه آخر، ذكره ابن سُريج أنه يصح الضمان منه، ويتعلق المضمون بذمته يُتبع به إذا عَتَق، والأصح فساد الضمان، وأنه لا يلتزم شيئاً في الحال ولا في المآل.
ولو ضمن بإذن السيد، صح، ثم ننظر، فإن لم يكن مأذوناً له في التجارة، صح ضمانه، وبماذا يتعلق المضمون؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يتعلق بكسبه، وهو الأصح، كما لو نكح بإذن سيده؛ فإن المهر والمؤن تتعلق بكسبه.
ومنهم من قال: يتعلق المضمون بذمته-وإن كان الضمان بإذن السيد- يتبع إذا عتق؛ إذ لا مال له في الرق، وليس الضمان من حاجاته، بخلاف النكاح.
وذكر الشيخ وجهاً ثالثاً: أن دَيْن الضمان يتعلق برقبته، وهذا مزيف، ولولا تصريحه به لما حكيته.
هذا إذا لم يكن مأذوناً، فإن كان مأذوناً، وفي يده شيء، فلا يخلو إما أن يكون عليه دين، وإما ألا يكون، فإن لم يكن دين؛ فيصح الضمان، وفي وجهٍ يتعلق بذمته، ومعناه معلوم، وفي وجه بعيد يتعلق برقبته، وفي وجه يتعلق بكسبه، فعلى هذا: يتعلق بما سيكسبه من ربح، وهل يتعلق بما في يده من المال؟ فعلى وجهين ذكرناهما في النكاح.
وإن كان عليه دين، نُظر؛ فإن كان مستغرِقاً، فيصح الضمان، ويتعلق بالذمة في وجه، وبالرقبة في وجه، وبالكسب في وجه، والدين السابق هل يقدم على دين الضمان؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ:
أحدهما: يقدم الدين المتقدم. والثاني- أنهما سواء، كديني معاملة أحدهما متقدم والثاني متأخر. وكل ذلك قبل الحجر عليه.
12653- ومما ذكره في أحكام العبيد: قبول الهبة. فلو قبل العبد هبةً بغير إذن المولى، ففي صحته وجهان مشهوران: فإن قلنا: يصح، دخل الموهوب في ملك السيد قهراً، وهل للسيد رده بعد ما قبله العبد؟ فعلى وجهين ذكرهما:
أحدهما: له رده، فإن قلنا بذلك، فنقول: انقطع ملك السيد من وقت رده، أو يتبين لنا أنه لم يدخل في ملكه؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التلخيص.
ويظهر أثرهما فيه إذا كان الموهوب عبداً، وقد أهلّ هلال شوال بين قبول العبد ورد السيد، ففي وجوب زكاة الفطر على الذي ردّه الخلاف. ووجه التبيين في التحقيق يكاد يكون على وقف الهبة على إذنه، ولكن من جوّز الرد، لم يشترط القبول.
12654- ومما ذكره: أنه لو وكل السيد عبده حتى يؤاجر نفسه، صح، ولو وكله حتى يبيع نفسه، المذهب أنه يصح.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، ولا وجه له.
ولو وكّله أجنبي بأن يشتري نفسه من سيده، فالأصح الجواز. ومن أصحابنا من منعه.
فهذا ما رأيت ذكره من كلام صاحب التلخيص.
وكنت وعدت أن أجمع أحكام مَنْ بعضه رقيق وبعضه حر. ثم بدا لي، ولم أر الإطالة بالتكرير؛ فإن أحكامه جرت على الاستقصاء في الكتب. والله الموفّق للصواب.