فصل: كتاب صلاة الخسوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب صلاة الخسوف:

1606- ذكر الشافعي في صدر الكتاب أن الخسوف مهما وقع أُمرنا بالصلاة، وإن كان في وقت الاستواء، أو بعد العصر، وقصد به الرد على أبي حنيفة، وقد سبق في هذا باب، وذكرنا أن الصلوات التي لها أسباب، لا تكره إقامتها في الأوقات المكروهة، ونقول بعد ذلك: صح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله صلاةُ الخسوف، ولما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، خَسَفت الشمسُ، فذكر بعض الناس أنها خَسَفت بموت إبراهيم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة". واستفاض النقل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون على صلاة الخسوف.
1607- ونحن نذكر الآن الأقل في صلاة الخسوف، ثم نذكر الأكمل.
فأما الأقل، فركعتان، في كل ركعة ركوعان وقيامان، فيتحرّم ويقرأ الفاتحة ويركع، ثم يرفع، ويقرأ الفاتحة، ثم يركع مرة أخرى، ثم يرفع، ولا يمكث إلا قدرَ الطمأنينة، كما تقدم القول فيها، ثم يأتي بالركعة الثانية على نحو الركعة الأولى، ويتشهد ويسلّم.
وتعيين الصلاة في النية لا شك في اشتراطه. فهذا بيان الأقل. ومجموعها ركعتان فيهما أربع قومات، وقراءة الفاتحة أربع مرات، والركوع أربع مرات، على الترتيب الذي ذكرناه. ولا يجوز أن يركع في ركعة مرة، وفي ركعة ثلاثة، بل هو كما سبق وصفه، فهذا بيان الأقل.
1608- فأما الأكمل، فهذه الصلاة أطول الصلوات المشروعة، وقد قال الشافعي، في صلاة الخسوف أربع قومات، يقرأ في القومة الأولى بعد دعاء الاستفتاح والفاتحة سورةَ البقرة أو مقدارَها، ويقرأ في القومة الثانية بعد الفاتحة آلَ عمران أو مقدارها، ويقرأ في القومة الثالثة بعد الفاتحة النساءَ أو مقدارَها، ويقرأ في الرابعة المائدةَ أو مقدارَها، فهذا بيان القومات.
فأما الركوع فالذي عليه التعويل أنه يسبح في الركوع الأول بمقدار مائة آية مقتصدة، ثم الركوع الثاني يلي في الطول الركوعَ الأول، ويكون أقصر منه قليلاً، قال الشافعي: يسبح في الركوع الثالث بمقدار سبعين آية، وفي الرابع بمقدار خمسين آية، نص الشافعي على ذلك، في الثالث والرابع.
وقد نقل الربيع عن الشافعي أنه يسبح في الركوع الأول بمقدار مائة آية، ويسبح في الركوع الثاني بمقدار ثلثي الركوع الأول، وهذا تصحيف منه باتفاق الأئمة؛ فإن ثلثي المائة أقل من سبعين، وقد نص الشافعي في الركوع الثالث على السبعين، فهذا تحريف، فلعله رأى في كتاب أن الركوع الثاني يلي الأول كما نقله المزني، فحسبه ثلثي الأول، قال صاحب التقريب: يكون الثاني بقدر ثمانين آية تقريباًً.
فأما السجدات، فلم يتعرض المزني لتطويلها، ونقل البويطي عن الشافعي أن كل سجودٍ على قدر الركوع الذي قبله.
وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في ذلك:
أحدهما: أنه لا يطوّل السجدتين، بل يأتي بهما على حسب السجود في كل صلاةٍ، من غير تطويل، قال: وهذا ظاهر المذهب؛ فإنه لم يصح فيهما نقلُ التطويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ومن أئمتنا من قال هما على قدر الركوعين في الركعة، وهذا ما كان يقطع به شيخي.
والغرض يتم بفرعٍ نرسمه.
1609- قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: قاعدةُ الأمر على أن الخسوف إن طال زمانه، طُوّلت الصلاة، وإن قصر زمانه خُففَت الصلاة، فهذا ما نذكره.
فلو تمادى الخسوف، فهل يزيد ركوعاً ثالثاً ورابعاً في الركعة، حتى ينجلي الخسوف؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يزيد، وهو المشهور؛ فإن الزيادة على أركان الصلاة ممتنعة في الشرع، وفي تجويز زيادة الركوع ما يخالف هذا.
والوجه الثاني- له أن يزيد؛ إذ قد ورد في بعض الروايات.
وقد ذهب الإمام أحمد في أصل صلاة الخسوف أن كل ركعة تشتمل على الركوع ثلاث مرات، وصار إلى ذلك بخبر بلغه فيه، ولا محمل له إلا فرضُ الأمر فيه إذا تمادى زمان الخسوف، ولولا ما ذكرنا من الخبر، وإلا لم يكن للزيادة على الركوع وجه، ولكن يقال: إن أراد تطويلاً، فمدُّ المقدار المشروع ممكنٌ، من غير زيادة في صورة الأركان.
1610- ومما فرّعه الأصحاب في ذلك أن المصلي إذا كان في القيام الأول مثلاً من الركعة الأولى، فانجلى الخسوف، لم تبطل الصلاة، ولم تنقطع بما طرأ، ولكن لو أراد أن يتجوّزَ في صلاته، ويقتصر على ركوع واحد وقَوْمةٍ واحدة في كل ركعة، فهل له ذلك؟ قالوا: هذا ينبني على الزيادة عند فرض امتداد زمان الخسوف، فإن جوّزنا الزيادة، جوزنا النقصان والاقتصار، وإن منعنا الزيادة، منعنا النقصان من عدد الركوع.
1611- ولو كان المرء يصلي، فلما تحلل صادف الخسوف قائماً، فهل يعود إلى الصلاة مرة أخرى ويستفتح صلاة الخسوف؟ المذهب أنه يقتصر على الصلاة الأولى.
ومن أئمتنا من قال: له أن يعود ويبتدىء صلاةَ خسوف، وهذا خرجه هؤلاء على جواز الزيادة في عدد الركوع، والأصح منع الزيادة، ومنع ابتداء صلاة أخرى بعد صحة الأولى.
فرع:
1612- المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع نُظر، فإن أدركه في الركوع الأول، صار مدركاً لكمال الركعة بإدراك ركوعين، وقومة بينهما، فإن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة، فالذي نقله البويطي عن الشافعي أنه لا يصير مدركاً لهذه الركعة أصلاً؛ فإن الركوعين في كل ركعة واحدة من هذه الصلاة بمثابة ركوع واحد من الركعة في سائر الصلوات، والتغليب لمنع الإدراك؛ فإن الحكم بكون المسبوق مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، في حكم رخصة نادرة، فلا يعدل بها عن موضعها.
وقال صاحب التقريب: إذا أدرك الركوعَ الثاني، فإنا نجعله مدركاً لقومة الإمام قبله، فيقوم عند التدارك، ويصلي ركعةً بقومة وركوع، وإذا جعله مدركاً بإدراك الركوع الثاني للقومة التي قبله، فلا شك أنه يجعله مدركاً للسجدتين بعد الركوع، ويحتسبهما له؛ فإنه أتى بهما مع الإمام بعد ركوع محسوب، وإذا أثر إدراك الركوع في الحكم بإدراك ما قبله من القيام، فلا شك أنه يصير مدركاً لما بعده، وإذا صار مدركاً للسجدتين، فلا يأتي بهما مرة أخرى، ولكن يأتي بقيامٍ وركوع فحسب.
ووجه التفصيل فيه أنه لو أدرك الركوعَ الثاني من الركعة الأولى مثلاً، فإن صاحب التقريب يقول: أما الركعة الثانية؛ فإنه أتى بها مع الإمام بكمالها، فحسبت له، وحسب له من الركعة الأولى الركوع، والقيام المتقدم عليه، والقراءة فيه، والسجدتان، فإذا تحلل الإمام، قام المسبوق وقرأ في قومةٍ، وركع، ثم يعتدل عن قيامه، ويجلس ويتشهد ويتحلل.
1613- وهذا الذي ذكره غيرُ مرضي؛ فإنه لو صار مدركاً بإدراك الركوع الثاني، لصار مدركاً للركعة بكمالها، حتى لا يقضي منها شيئاًً، فإذا لم يكن الأمر كذلك، فينبغي أن لا يصير مدركاً لشيء منها، والدليل عليه أن الأصل الركوعُ الأول، والثاني في حكم التابع له، فإذا فات الأول، فقد فاتت الركعة.
ثم يلزم من مساق ما قاله صاحب التقريب أن يأتي بقيام وركوع من غير سجود، وهذا مخالف لنظمِ كل صلاة؛ فالوجه ما نقله البويطي.
ثم مذهب صاحب التقريب أنه في الاستدراك يركع، ويعتدل، ثم يجلس عن اعتدال؛ فإن الركوع لا يتم ما لم يعقبه اعتدال تامّ عنه، وهذا فيه شيء يعسر به جريان مذهب صاحب التقريب؛ فإنه جعله مدركاً بإدراك الركوع الثاني للقومة، ثم إنه يأمره بالاعتدال، وهو بعضٌ من القومة التي جعله مدركاً لها، ثم أمره بالعود إليها، ولو قال: يركع في الاستدراك، ثم يجلس عن ركوع من غير اعتدالٍ، لكان هذا مخالفاً لقاعدة المذهب، ولست على تحقق وثقة في أنه هل يأمر بالاعتدال عن الركوع، أم يجوّز الجلوس عن هيئة الركوع من غير اعتدال؟ والظاهر أنه يأمر بالاعتدال، ثم بالجلوس عنه. والعلم عند الله فيه.
فهذا بيان كيفية الصلاة.
1614- ثم السجدتان في صلاة الخسوف، وإن شابهتا الركوعين في استحباب التطويل في وجه، فالجلسة بين السجدتين لا تطويل فيها، ولكنها بمثابة الجلسة بين كل سجدتين، وذلك أن القومة بين الركوعين ليست معينة للفصل بين الركوعين فحسب، ولكنها قومة مقصودة في نفسها، والقراءة ركن فيها، والجلسة بين السجدتين لا تراد إلا للفصل فحسب.
فصل:
قال: "وإذا اجتمع خسوف وعيد واستسقاء... إلى آخره".
1615- صور الشافعي اجتماع العيد والخسوف، فاعترض عليه في ذلك، وقيل: أراد كسوفَ الشمس؛ فإنه الذي يقع نهاراً في وقت صلاة العيد، وهذا محال؛ فإن كسوف الشمس يقع في الثامن والعشرين، أو في التاسع والعشرين، فكيف قدّر الشافعيُّ اجتماع الخسوف والعيد؟ فقال أئمتنا: هذا الذي ذكره السائل مذهب أصحاب الهيئات والمنجمين، وقد روى الزبير بن بكار في كتاب الأنساب أن ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم توفي في العاشر من ربيع الأول، وقيل: في الثالث عشر، فَخَسَفت الشمسُ، فقال الناس: خَسَفت لموت إبراهيم، وإنما قالوا ذلك، فإنهم رأوا شيئاًً بدعاً على خلاف المعتاد.
وقال قائلون: قد يقدر الفقيه أمراً لا يتوقع وقوعُ مثلِه، ويبني عليه مساق الفقه لتشحيذ القريحة والتدرب في مجال الأقيسة والمعاني.
فنعود إلى الترتيب ونقدر وقوعَ ما صوره الشافعي، فنقول: الفصل مبناه أولاً على العلم بالأوكد. وقد قدمنا فيما تقدم من الأبواب أن صلاة العيد آكد من جميع النوافل، وأن صلاة الخسوف دونها.
فنقول: إن ضاق وقت صلاة العيد، وفُرض الكسوفُ، فصلاة العيد تقدم لتأكدها، وهي وصلاة الخسوف متساويتان في خشية الفوات، فقدمت المؤكدة، وإن اتسع الوقتُ لصلاة العيد وصلاة الخسوف، فإن في صلاة الخسوف خشية الفوات لا محالة؛ فإنا لا ندري متى يكون الانجلاء، ولا تعويل على قول المنجمين؛ فقد ذكر طوائف من الأئمة منهم الصيدلاني قولين:
أحدهما: أن صلاة الخسوف تقدم؛ فإنا نخشى فواتَها، ووقت صلاة العيد متسع فيما صورنا، وهذا ما كان يقطع به شيخي.
والقول الثاني- أن صلاة العيد تقدم لتأكدها، فإن قيل: وقتها متسع؟ قيل: فالعوائق غير مأمونة، والاحتياط الابتدارُ إلى الآكد من الصلوات.
ومما نذكره في ذلك أنه لو فرض مع ما ذكرناه شهود جنازة، فصلاة الجنازة مقدّمة على الجميع؛ فإنها فريضة على الكفاية، ويتوقع أيضاً طريان تغايير على الميت بسبب الانفجار، وقد أُمرنا بأن نحذر ذلك جهدنا، وتوقع ذلك يزيد على خشية فوات صلاة غير مفروضة، وقد ورد النهي في الشرع عن تأخير صلاة الجنازة إذا حضرت.
ومما يتصل بذلك: أنه لو شُهدت جنازة في يوم جمعة، فإذا اتسع الوقت، اتفق الأئمة على تقديم صلاة الجنازة، فإن فرض متكلف ضِيقَ وقت الجمعة، وخفنا فواتها، وحضرت جنازة، وكان تغير الميت، متوقعاً، فالذي قطع به شيخي أن صلاة الجنازة تقدّم؛ فإن صلاة الجمعة إن فاتت خلفها صلاة الظهر مقضية، والذي نحاذره لو وقع من الميت، لم يجبره شيء.
وتصوير هذا تكلف؛ فإنّ مقدار صلاة الجنازة، لا يكاد يحس له أثر في التفويت.
وإذا اجتمع خسوف وجمعة، وخفنا فوات الجمعة، فلا شك أنا نقدِّمها، وإن اتسع وقت الجمعة، ففي تقديم صلاة الخسوف ما قدمناه من القولين.
خطبة الكسوف
1616- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا نرى أن يخطب الإمام عقيب صلاة الخسوف خطبتين، كما نرى ذلك في صلاة العيد، فلو اجتمعت الصلاتان في يوم واحد، فإن ضاق الوقت، ورأينا أن نقدِّم صلاة العيد، فنصليها، ونبتدر بعدها صلاة الخسوف، إن لم ينجل، ثم إذا فرغ منها، خطب الخطبتين للصلاتين جميعاًً، ويأتي فيهما بشعار العيد، ويذكر الخسوف، وتقع الخطبتان على الاشتراك عنهما، ولا يضر ذلك؛ فإن الخطبة ليست مفروضة في الصلاتين جميعاًً، ولو كانت شرطاً، لما تأخرت عن الصلاة، ولوجب تقديمها، كخطبة الجمعة.
ثم لو زالت الشمس ووقعت الخطبتان بعد الزوال، فلا بأس؛ فإنهما إن لم يكونا شرطاً، فلا يضر وقوعهما وراء الوقت في ضيق الزمان، وإن كنا لا نؤثر ذلك في اتساع الوقت.
1617- وقال الشافعي: إذا اتفق الخسوف في يوم جمعة؛ فإنه يخطب للجمعة، ويذكر فيها الخسوف.
وذكَرَ في العيد والخسوف أنه يخطب لهما خطبة واحدة، والسبب فيه أن الخطبة ليست شرطاً في الصلاتين، فإن وقعت مشتركة، لم يضر، والخطبة شرط الجمعة، فلا معنى لتقدير الشركة فيها، بل ينبغي أن تقع للجمعة، ثم يجري فيها ذكر الخسوف.
1618- ومما يتعلق بتمام الغرض في الفصل أنه لو اتسع الوقت في جمعةٍ، ورأينا تقديمَ صلاة الخسوف، فلا يستحب إفرادُها بخطبتين؛ فإن الموالاة بين أربع خطب لا سبيل إليها، بل ينبغي أن يقع الاكتفاء بخطبتين للجمعة، وفيهما ذكر الخسوف.
ولو فرضنا ذلك في يوم عيد، ورأينا تقديم صلاة الخسوف في اتساع الوقت، فإذا تنجزت الصلاة، فينبغي أن يبتدر صلاة العيد، ثم تقع الخطبتان على الاشتراك عنهما؛ فإن الجمع بين أربع خطب غير متجه.
وهذه الصورة تفارق صورة الجمعة؛ فإن الخطب تقع فيها وِلاءً، وهاهنا صلى للخسوف أولاً، فلو خطب، فيقع بعدها صلاة العيد، ثم الخطبة للعيد، ولكن لم أر أحداً من الأئمة يأمر بأربع خطب.
فصل:
قال: "ولو خَسَف القمرُ، كان هكذا... إلى آخره".
1619- الصلاة عند خسوف القمر، كالصلاة عند كسوف الشمس في كل ترتيب، غير أنا نأمر بالجهر في خسوف القمر؛ فإنها صلاةٌ ليلية، ولا نؤثر الجهر في صلاة خسوف الشمس؛ فإنها تقع نهارية، ولكن لا يبعد من طريق النظر قياسها على صلاة الجمعة، في الجهر بالقراءة، وكذلك صلاةُ العيد، ولكن لم يصح عند الشافعي جهرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة فيها.
1620- ثم الجماعة مشروعة فيها كالعيد والجمعة، حتى ذكر شيخنا الصيدلاني أن من أئمتنا من خرج في صلاة الخسوفين وجهاً أن الجماعة شرط فيها كالجمعة، وقد مضى في صلاة العيد قولٌ على هذا الوجه.
وأبو حنيفة لا يستحب الجماعة في صلاة خسوف القمر، ويرى الاستخلاء بها أولى.
ثم تستحب الخطبة ليلاً في خسوف القمر، كما ذكرناه في خسوف الشمس، وأبو حنيفة لا يرى الخطبة في الخسوفين جميعاًً.
فصل:
1621- إذا خَسَفت الشمسُ، فلم تتفق الصلاة حتى انجلت، فقد فاتت الصلاة، فلا تُقضَى، وكذلك لو غابت الشمس كاسفةً، فلا صلاة أصلاً باتفاق الأصحاب.
فأما القمر إذا خسف، ثم انجلى، فلا صلاة بعد الانجلاء كما ذكرناه في الشمس، ثم القمر يختص بما نذكره، فنقول:
1622- إن بقي الخسوف في القمر حتى طلعت الشمس، فلا صلاة، وإن كان جِرم القمر بادياً، فلا حكم له مع طلوع الشمس. ولو بقي الخسوف حتى طلع الفجر، وكان جِرم القمر بادياً، فالمنصوص عليه في القديم: أنه قد فاتت صلاة خسوف القمر؛ لأن ابتداء النهار قد دخل، فكان هذا كطلوع الشمس، والمنصوص عليه في الجديد على ما حكاه الصيدلاني أن الصلاة لا تفوت ما لم تطلع الشمس؛ فإن آثار الظلمة لا تنقطع، ما لم تطلع الشمس، وسلطان القمر يبقى ما بقيت الظلمة.
ولو غاب القمر، فالذي رأيت اتفاقَ الأئمة فيه أن غيبوبة القمر لا أثر لها، ولكن إن غاب بعد طلوع الشمس، فلا صلاة؛ إذ لو بقي جِرمه، فلا صلاة أيضاً، فإن غاب خاسفاً في الليل، صلينا ولا أثر لمغيبه، وإنما النظر إلى بقاء الليل، وإن غاب خاسفاً بعد طلوع الفجر، ففيه القولان المذكوران.
فخرج مما ذكرناه أن الانجلاء في الشمس والقمر يفوت الصلاة، وغروب الشمس كانجلائها، وطلوع الشمس يؤثر في تفويت صلاة خسوف القمر وفاقاً، وفي طلوع الفجر القولان، ولا أثر لغيبوبة القمر من غير انجلاء، فإنما النظر إلى بقاء الليل، والسبب فيه، أن الليل لا يرتبط دوامُه وزوالُه به، فتَواريه بمغيبه خاسفاً بمثابة ما لو جلل الشمس سَحاب، فإنا نصلي لخسوف الشمس والقمر وإن كنا نجوّز الانجلاءَ- بناء على أن الأصل بقاءَ الخسوف، وغروب الشمس يؤثر في فوات الصلاة؛ فإن النهار ينقضي بغروبها.
فهذا تمام الغرض في ذلك.
1623- ثم قال الشافعي: "يصلي الإمام بهم في الجامع ولا يبرز؛ فإنه قد يحصل الانجلاء قبل اتفاق البروز وتفوت الصلاة".
ثم ذكر الشافعي أنه لا يُؤْثر الصلاةُ في شيء من الآيات التي تظهر-سوى الخسوف- كالزلازل وما في معناها. والأمر على ما ذكره.

.باب: صلاة الاستسقاء:

1624- إذا أصاب الناسَ جدب، وانقطع المطر في وقت ظهور مسيس الحاجة إليه، أو غارت العيون في ناحية، أو انقطع وادٍ عِدّ، فيُستحب بروز الناس للاستسقاء.
ثم الأوْلى أن يبرزوا إلى الصحراء، كما رأيناه في صلاة العيد، وهكذا النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويؤثر للوالي والرجل المطاع في الناس أن يأمرهم بأن يقدموا صيامَ ثلاثة أيام، ويتوبوا، ويخرجوا عن المظالم، ويستحلّ بعضهم من بعض، ويبعث إلى القرى القريبة، حتى يحضروا، ويكثر الجمع، وإذا كان كذلك، فالغالب أن الجمع لا يحتملهم غيرُ الصحراء، ثم ينبغي أن يخرج الصبيان، وفي إخراج البهائم قصداً تردُّد في النص، فمن أصحابنا من لا يُعلّق بإخراجها أمراً، ومنهم من يستحب إخراجها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا صبيان رضع، وبهائمُ رتّع، ومشايخ ركّع، لصب عليهم العذاب صباً».
1625- وأما أهل الذمة، فلو خرجوا، ووقفوا ناحيةً، غيرَ مختلطين بالمسلمين، لم نمنعهم، ولو اختلطوا، أو اتصلوا بالمسلمين، مُنعوا. ثم صاحب الأمر يخرج بالناس في اليوم المعتن. وينبغي أن يخرجوا في ثياب بِذْلة وتخشّع، لا في ثياب زينة.
1626- ثم كما خرج صاحب الأمر ينادَى: "الصلاة جامعة" ويصلي بالناس ركعتين كصلاة العيد في كلّ ذكرٍ وهيئة.
وقد روى ابنُ عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء متواضعاً متخشعاً، وصلى بالناس ركعتين، كصلاة العيد".
ثم قال الشافعي في الكبير: يقرأ في الركعتين بسورة "ق"، واقتربت، كما مضى في صلاة العيد، قال الصيدلاني: قال الأصحاب: ينبغي أن يقرأ في إحدى الركعتين سورة {إِنَّا أَرْسَلْنَا} [نوح: 1] لاشتمالها على قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 11] الآيات.
1627- ثم صلاة الاستسقاء في كل المعاني كصلاة العيد، وقال الشيخ أبو علي في الشرح: يدخل وقتُها بطلوع الشمس وينقضي بزوالها، كما ذكرناه في صلاة العيد، وهذا وإن كان وفاءً بالتشبيه على الكمال، ولكني لم أره لغيره من الأئمة، ثم صلاة العيد إذا فاتت، ففي قضائها كلام مفصّل تقدم، ولا يفرض مثل ذلك في صلاة الاستسقاء؛ فإنه لا يتعين بالشرع فيها يوم، وإنما التعيين عند وقوع الجدب إلى الوالي، فإذا لم تتفق إقامة الصلاة في ذلك اليوم؛ فإنهم يقيمونها في غيره أداء، ثم إن سُقي الناس يوم خروجهم، فذاك، وإن لم يُسقَوْا، خرجوا مرة أخرى، وصلّوا، وليس في هذا ضبط ما استمر الجدب. ولكن الوالي صاحب الأمر يرعى في ذلك مقدارَ الضرروة، ويلتفت على ما ينال الناس من المشقة في اجتماعهم، ويجري على ما يليق بالمصلحة في ذلك.
وقد قال الشافعي: إن بلغنا أن طائفةً من المسلمين في جدب، فحسن أن نخرج ونستسقي لهم، وإن لم نَبْتلِ بما ابتلُوا به؛ فإن المسلمين كنفسٍ واحدة.
1628- ولو سُقي المسلمون قبل اليوم المذكور لموعد الخروج، فقد سمعت شيخي أنهم يخرجون شاكرين، ويصلون ويقيمون ما ورد الشرع به، ويستديمون نعمةَ الله تعالى، ورأيت في الصلاة تردداً عن بعض الأصحاب، فأما استحباب الخروج، وذكر موعظة، فلا شك فيه، وسبب التردد أن الصلاة مخصوصة بالاستسقاء، وقد كُفي الناس.
وفي كلام الصيدلاني تردد ظاهر في صورة أخرى، تداني هذه، وهي أن الناس لو لم يُبْلَوْا بالجدب، ولكنهم أرادوا الخروج للاستزادة في النعمة، وأرادوا أن يصلوا صلاة الاستسقاء، فهل لهم أن يقيموا الصلاة؟ فعلى تردد حكاه.
1629- ثم إذا فرغ الناس من الصلاة حيث نراها، فيتقدم الإمامُ ويخطب خطبتين كما يفعل في العيد، غيرَ أن الأوْلى أن يُكثر الاستغفار في الخطبتين، كما يُكثرُ التكبيرَ في يوم العيد، وسبب الأمر به قوله تعالى في سورة نوح: 10، 11 {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}.
ثم حكى الصيدلاني عن النص في (الكبير) أن كل واحدٍ من الحاضرين يُستحب له أن يُخطر بباله ما جرى له في عمره من قُربة رآها خالصة لله تعالى، ويسأل الله السقيا عند ذكرها، وذِكْر الحديث المعروف في الذين انسد عليهم فمُ الغار، فتذكروا مثلَ ذلك في الحديث، فنجاهم الله، ثم يكون هذا سراً من غير إظهار؛ فإن ذلك في الجمع الكبير عسير، لا يفي الوقت به تناوباً، وإن ذكروا معاً، لم يُفد ذلك إلا لغطاً، والإسرار أجمل.
والمعتمد في الخطبتين ما رواه أبو هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مستسقياً، وصلى، وخطب خطبتين». ثم الإمام يخطب خطبةً مستقبلاً للناس، ويجلس، ويبتدىء الخطبة الثانية، ثم يُلْحِف في الدعاء، ويحمل الناسَ عليه، ويستقبل القبلة ويستدبر الناسَ الحاضرين، ويدعو سراً وجهراً، هكذا رواه عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان.
ثم في الرواية أنه كما تحوّل صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، يحول رداءه، كما سنصفه، ورأى العلماء أن ذلك كان تفاؤلاً، في تحويل الحال من الجدب إلى الخصب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل.
ثم الذي نص عليه الشافعي في الجديد أنه يقلب أسفل الرداء إلى الأعلى، والأعلى إلى الأسفل، ويقلب ما كان من جانب اليمين إلى جانب اليسار، وما كان من جانب اليسار إلى جانب اليمين، وهو في ذلك يقلب ما كان يلي البدن إلى الظاهر، وما كان ظاهراً إلى ما يلي ثياب البدن، فيحصل ثلاثة أوجه من القلب والتحويل.
ونص في القديم على أنه يكتفَى بنقل ما على الكتف الأيسر إلى الأيمن، ونَقْل ما كان على الأيمن إلى الأيسر، فيحصل نوعان من القلب:
أحدهما: من الكتف إلى الكتف، والآخر- قلب الظاهر إلى الباطن، ولعل الشافعي اعتمد في ترك قلب الأسفل إلى الأعلى ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذلك»، ولكن الشافعي في الجديد ذكر سببه، فقال: كانت عليه خميصة، فثقلت عليه لما حاول قلبها من الأعلى إلى الأسفل، فترك ذلك واقتصر على القلب من المنكب إلى المنكب فإذا صح أنه هم به صلى الله عليه وسلم، وتركه بسببٍ، فإتيان ما هم به أولى وأقرب.
فرع:
1630- لو نذر رجلٌ أن يصلي صلاة الاستسقاء، وكان الوقت وقت جَدْب، لزمه الوفاء بالنذر، نص عليه في (الكبير)، واتفق الأئمة عليه.
وهذا يترتب عليه أمرٌ عظيم في النذر: وهو أنه لو نذر إقامة السنن الراتبة، أو نذر إقامةَ صلاة العيد، فكيف سبيل نذره؟ وسيأتي ذلك مستقصىً في النذور، ونحن إن شاء الله تعالى نذكر في النذور ما يضبط قواعدَه؛ فإنها تكاد تخرج عن الضبط.
والقدر الذي هو مقصود الفرع الآن أن النذر يجب الوفاء به، ثم تردد أئمتنا في أنه لو نذر صلاة الاستسقاء لأهل ناحية بُلوا بالجدب، وما كان الناذر فيهم، بل كان في موضع خصب، فهل يلزم الوفاء بالنذر على هذا الوجه أم لا؟ فيه تردد في كلام الأئمة.
وكذا لو نذرَ صلاة الاستسقاء لمزيد السقيا، ولم يكن جدب، فقد ذكرنا استحباب هذا من غير نذر. ثم النذر ينبني على أصل الندب فيه.
ولو نذر أن يخرج بالناس، فإن لم يكن مطاعاً فيهم، لم يلزمه السعيُ في إخراجهم، وإن كان مطاعاً، لزمه الوفاء.
وفي هذا الفرع غوائل من أحكام النذور لا سبيل إلى ذكرها الآن، ولكنا في كتاب النذور نعيد هذا الفرع، ونعلّق به ما يتعلق به إن شاء الله عز وجل.