فصل: فصل: في الصلاة على القبور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الصلاة على القبور:

1733- نقول أولاً: إذا صلى على الميت طائفة، وسقط فرضُ الكفاية بهم، فيجوز أن يصلّي عليه جيل آخر عندنا، والأصل فيه ما روي أن مسكينةً كانت تقمّ المسجد، فمرضت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتت فآذنوني»، فاتفق أنها ماتت ليلاً، فصلى عليها قوم، ودفنوها ليلاً، ولم يُحبّوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم، صلّى على قبرها.
ولا يؤثر للرجل، إذا صلى على ميت مرة، أن يصلي عليه مرة أخرى، اتفق الأئمة عليه، وقالوا: لا يستحب التطوّع بصلاة الجنازة.
فإن قيل: فإذا سقط الفرضُ بصلاة طائفة، فصلاة الطائفة الثانية مستغنى عَنها، فتقع تطوعاً، قلنا: نحن نقدّر كأن الآخرين صلوا مع الأولين، ولو صلى جمع على ميت، صحت صلاة جميعهم، وإن كان يقع الاكتفاء ببعضهم.
ثم الذي يظهر من كلام الأئمة أن من صلى مرَّةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً يصلون، فلا يؤثر له أن يصلي لإدراك الجماعة، بخلاف ما قدمناه في الصلوات المفروضة.
ثم ظاهر كلام الأئمة أن من صلى مرة، ثم صلى ثانية، فلا نقضي ببطلان صلاته، ولفظ الصيدلاني: "إنا لا نحب أن يصلي مرة أخرى".
والحكم ببطلان صلاة من صلى مرة فيه احتمال عندي.
1734- ثم إذا دُفن الميت، فالصلاة على القبر جائزة عندنا، والشاهد فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة.
ثم اختلف أئمتنا في أنا إلى متى نجوّز الصلاة على القبر؟ فقال قائلون: نجوّزها إلى أن ينمحق في الأرض، ويبلَى، ولا يبقى له أثر.
وقال صاحب التلخيص: "تجوز إلى شهر، ولا تجوز بعده". ولا ندري لما ذكره ثَبَت توقيفي. وتكلّف بعضُ الناس لها وجهاً، فقال: لعله أخذه من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ فإنه قد قيل: بين الحبشة والمدينة مسيرة شهر.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم علم موته يوم مات، وصلى عليه يوم موته.
وذكر الشيخُ أبو علي في الشرح وجهاً آخر، وهو أن الصلاة على القبر تجوز إلى ثلاثة أعوام، ولا تجوز بعدها. وهذا غريب غيرُ معتدٍّ به.
وفي بعض التصانيف وجه رابع: إنها تصحّ أبداً من غير اختصاص بأمد، وهذا في نهاية البعد، وهو خارج عن الضبط بالكلية.
والذي عليه التعويل من هذه الوجوه تجْوِيز الصلاة إلى البلى والامِّحاق.
1735- ثم قال الشيخ أبو زيد: إنما يصلي على القبر من كان من أهل الصلاة يوم الموت، فلو دفن وتمادى الزمان، ولكن كانت التربة حُرّة، لا يبلى دفينها إلا في الأمد الطويل، فلو كان الإنسان إذ ذاك طفلاً غير مميز، أو لم يكن، فوُلد وشبّ، وبلغ، لا يصلي على قبر ذلك الميت. وإن كان من أهل الصلاة يوم الموت، فيصلي على القبر ما لم يبل، كما تقدم. وهذا حسن.
ومن أئمتنا من لم يساعده على هذا التفصيل، وجوّز الصلاة في الحالتين جميعاً. ثم من جرى على التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو زيد اختلفوا فيمن كان صبياً مميزاً يومئذ، ثم بلغ: فمنهم من قال: هذا يصلي على القبر؛ لأنه يوم الموت كان من أهل الصلاة، ومنهم من قال: لا يصلي بعد البلوغ، وهو اختيار الصيدلاني؛ لأنه يومَ الموت، لم يكن من أهل فرضية الصلاة، ولا اعتبارَ بكونه من أهل الصلاة على الجملة، إذا لم يكن من أهل الفرضية.
ومن كان كافراً يوم الموت، ثم أسلم، فالذي أراه أنه يصلي؛ فإنه كان متمكناً من الصلاة بأن يُسْلم، ويصلي، كالمحدث، والمرأة إذا كانت حائضاً يوم الموت، ثم طهرت، فالحيض ينافي صحةَ الصلاة ووجوبَها، ولكن هي على الجملة ممن يخاطَب بالصلاة فالذي أراه أنها تصلي، إذا طهرت، عن ذلك.
ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا راعينا البلى، فإن تحققنا بقاء الميت، أو بلاه، فلا يخفى حكمه، وإن لم ندر، وترددنا، فقد يخطر للناظر بناء الأمر على بقاء الميت، وهو الأصل. ويجوز أن يقال: الصلاة تستدعي يقين البقاء في القبر.
1736- ومما نذكره في ذلك الصلاة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب المنعُ منها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تتخذوا قبري مسجداً» وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ويخرّج هذا المنعُ على عللٍ منها: أن من افتتح الصلاة الآن ولم يكن مولوداً ولا موجوداً يوم توفي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في الطريقة المرضية أن هذا يُمنع من إقامة الصلاة على القبر.
وذكر الشيخ أبو علي للمنع معنى آخر مأخوذاً، من الحديث: وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث»، وروي أكثر من يومين. وإذا كان كذلك، فلا معنى للصلاة على قبره.
ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب أنه تجوز الصلاة على قبره صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ونحن وإن جوّزنا ذلك، فلا يجوز أن يصلَّى عليه جماعة، بل يُصلّى عليه أفراداً، وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة. وتنزيل القبر في ذلك منزلة المساجد المهيأة للجماعات. والعلم عند الله تعالى.
1737- ومما يتعلق بالقول في الصلاة على القبر أنا وإن جوزنا الصلاةَ بعد الدفن، وقلنا أيضاً: إنه لو دفن ميت، ولم يصلّ عليه، لم ينبش، بل يصلى عليه مدفوناً، فلا يجوز مع هذا كلِّه تأخيرُ الصلاة إلى ما بعد الدفن. ولو فُعل ذلك قصداً حَرِج به أهلُ الناحية، وإن وقعت الصلاة موقعها بعد الدفن. وهذا بيّن لا شك فيه.
فصل:
1738- قد ذكرنا أن فرض الصلاة على الميت يسقط بواحد يصلي أو جمع، وأظهرنا الخلافَ في أقله، وقد تردد الأئمة في أن الفرض هل يسقط بصلاة النسوة المجردات.
وغرضنا الآن أنه إذا صلى على الميت جمعٌ كثير يقع الاكتفاء ببعضهم، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحدٍ تقع فريضة؛ إذ ليس بعضُهم بأن توصف صلاته بالفرضية أولَى من بعض، فإذا عسر التمييز والتخصيص، فالوجه القضاء بالفرضية في حق الكافة.
ويحتمل أن يقال: هو بمثابة ما لو أوصل المتوضىء الماء إلى جميع رأسه دفعةً واحدة، وقد تردد الأئمة في أن الكل يوصف بالفرضية، أم الفرض مقدار الاسم على الإبهام من الرأس، فليخرّج الأمر في الجمع على ذلك.
ولكن قد يتخيل الفطن في ذلك فرقاً؛ ويقول: مرتبة الفريضة تزيد على مرتبة السنة، وكل مصل في الجمع الكثير لا ينبغي أن يُحرَم رتبة الفرضية، وقد قام بما نُدب إليه. وهذا لطيفٌ، ثم لا يتحقق مثله في مسح الرأس أيضاً؛ فإن التطوّع بالزيادة على مقدار الفرض في مسح الرأس مشروع، والتطوّع بصلاة الجنازة ممنوع.
ثم قال الأئمة: إذا صلى قومٌ على الميت، وسقط الفرض بهم، فيجوز أن يصلِّي عليه آخرون، وإذا صلَّوا كانوا بمثابة ما لو كانوا مع الأولين في جماعة واحدة، وهذا وإن كان يتميز عن الصورة الأولى؛ من جهة ما جرى من التمييز في الترتيب، فوجهه مع ما فيه من الاحتمال الظاهر أن التطوع بصلاة الجنازة غيرُ مشروع، فإذا صح في الأخبار والآثار ترتيبُ الجماعة في إقامة الصلاة على الميت، فالوجه تنزيل المرتبين منزلة المجتمعين في جماعة واحدة.
فصل:
"ولا يُدخل الميتَ قبرَه إلا الرجالُ... إلى آخره"
1739- إن كان الميت رجلاً، فلا شك في ذلك، وإن كان امرأة، فالأمر أيضاًً كذلك، ولكن قال الشافعي فيما نقله الصيدلاني: يتولى ذلك زوجها، ومحارمها، وإن لم يكونوا، فعبيدها، فإن لم يكونوا، فخصيان، فإن لم يكونوا، فأرحام، فإن لم يكونوا، فالأجانب.
فأما تقديمه الزوج والأرحام الذين هم محارم، فهو حتمٌ قياساً على الغُسل، وأما ذكره الأرحام، الذين ليسوا محارم، فما أراه محتوماً؛ فإنهم في وجوب الاحتجاب عنهم في الحياة كالأجانب، وفي العبيد-وقد انقطع ملكها عنهم بالموت- احتمالٌ ظاهر. وقد ذكرنا تردداً في غُسل الأمة مولاها. وفي الخصيان احتمالٌ بيّن سيأتي ذكره، في أول كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا من يحلّ له النظر، ومن لا يحل.
1740- وغرض الفصل أن النسوة لا يتولَّيْن دفنَ امرأةٍ، والسبب فيه أنهن يضعفن عن مثل ذلك، وقد يؤدي تعاطيهن لهذا إلى انهتاك في الميّتة، وأيضاًً فإنهن ينكشفن في تعاطي ذلك، ورعاية الستر فيهن أوْلى من رعايته في المتوفاة، فإن لم يوجد غيرهن، فإذ ذاك يفعلن عن اضطرار.
ثم ينبغي ألا يتعاطى الدفنَ أقلُّ من ثلاثة، كما تقدم ذكره، فإن زادوا، فقد قيل ينبغي أن يكون عددهم وتراً، ولاستحباب ذلك نظائر في الشريعة، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى دفنه علي، والفضل، وأسامة، وقد قيل: ممن تولى ذلك عبد الرحمن بن عوف، فإن صح، حُمل تركُ رعاية الإيتار على الجواز.
1741- ثم ذكر الشافعي أن الميت يُسلّ من قِبل رأسه، وبيان ذلك أن الجِنازة توضع ورأسها عند مؤخرة القبر ثم يدخل القبرَ من يتعاطى هذا ويسلُّون الميت، فيأخذون مقاديمه، ورأسه، ويدخلونه القبر كذلك، سلاً رفيقاً.
وأبو حنيفة يقول: توضع الجنازة على طول القبر في جهة القبلة، ثم يأخذه الرجال عرضاً ويردّونه القهقرى، إلى قبره. وروي عن إبراهيم النَّخَعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك.
قال الشافعي: هذا من أقبح ما يغلط به، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ملصق بالجدار، ولحده تحت الجدار، ولا موضع للجنازة وراء القبر أصلاً.
ثم عقد الشافعي باباً فيما يقال إذا أدخل الميت قبره، والدعوات مسطورة، فلتتأمل.

.باب: التعزية وما يهيّأ لأهل الميت:

1742- التعزية سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عزى مصاباً، فله مثل أجره»، ثم ذكر الشافعي أن من شهد الجنازة، فينبغي أن يؤخر التعزية إلى ما بعد الدفن؛ فإن أولياء الميت لا يتفرغون إلى الإصغاء إلى التعزية، وهم مدفوعون إلى تجهيز الميت. وغرض التعزية الحمل على الصبر بوعد الأجر والتحذير من الوزر في إفراط الجزع، وتذكير المصاب رجوعَ الأمر كلِّه إلى الله.
ولا بأس بتعزية أهل الذّمة، ولكن لا يدعى لميتهم الكافر، بل يقال: جبر الله مصيبتك وألهمك الصبر، وما أشبه ذلك.
1743- وذكر صاحب التلخيص في كتابه: أنه لا أمد للتعزية تقطع عنده، بل لا بأس بها وإن طال الزمان. فمن أصحابنا من ساعده على ذلك، فإنه لم يَثبت في ذلك توقيف وثبت.
ومنهم من قال: لا تؤثر التعزية بعد الثلاث، فإن فيها تجديدَ ذكر المصيبة، وفي الحديث ما يشهد لهذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا الزوجة فإنها تحد على زوجها» ولا يبعد أن تشبه التعزية بالحزن على الميت.
1744- ثم قال الشافعي: حسن أن يصنع الجيران لأهل الميت طعاماً؛ فإنهم قد لا يتفرغون لذلك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد نعيُ جعفر: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً».

.باب: البكاء على الميت:

1745- أهل المحتَضَر لو بكَوْا عليه قبل أن تقبض نفسُ الميت، فلا بأس، وإن أمكنهم أن ينكفوا إذا قضى نحبه، فهو الأولى؛ إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجب، فلا تبكين باكية»، وإن غُلبوا، فلا كراهية في البكاء على الجملة، مع توقِّي النياحة، وشق الجيب، وضرب الخدود، وقد ورد الحديث بالنهي عن النُّدبة، ومعناها أن يُذكر من يُبكى له بمناقب، فيقال: واسيداه واكهفاه، وما أشبه ذلك. وقد روي أن خالد بن الوليد لما وقع في الموت، وكان يُغشى عليه ويُفيق والذين بحضرته يندبون، ويقولون: واكهفاه، واجبلاه، فأفاق من غشيته، وقال: إني خُوِّفتُ بما ندبتموني به، وقيل إنه كهفهم وجبلهم.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع حافداً له من أولاد بعض البنات في حجره وهو يجود بنَفْسه، ونَفْسُه تتقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها رحمة وإن الله يرحم من عباده الرحماء».
وحديث بكائه على ابنه إبراهيم معروف وقد قيل له في ذلك فقال: إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: أحدهما عند الفرح والآخر عند الحزن.
1746- ومما يجب التثبت فيه أن النياحة محرّمة، والأخبار في تغليظ الأمر على النائحة مشهورة، والبكاء ليس بمحرم، والقول الضابط في ذلك أن كلّ قول يتضمن إظهار جزع يناقض الانقياد والاستسلام لقضاء الله، فهو محرم، وشق الجيب، وضرب الرأس والخد، أفعالٌ مشعرة بالخروج عن الانقياد لحكم الله.
والذي ظهر في الأخبار ومذاهب الأئمة تحريمُ ذلك، وعندي أن في الاقتصار على الحكم بالكراهية مجال، والتحريم يختص بالقول الذي يخالف الرضا بمجاري القضاء. والعلم عند الله تعالى.
والظاهر ما قاله الأئمة، فالمعتمد فيما يحرم ما ذكرناه، ورفع الأصواتِ على إفراطٍ في معنى شق الجيوب.
1747- ومما اعتنى الشافعي بالكلام عليه، ما روي أنه مات بعض آل عمر وكان النساء يبكين وابن عباس وابن عمر جالسان على باب حجرة عائشة، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن، فقد سمعتُ أباك عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه»، فسمعت عائشة ذلك، فقالت:
رحم الله عمر: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولكنه قال: «إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله». ثم قالت: حسبكم القرآن قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ثم فيما ذكرته إشكال أيضاً؛ فإن الزيادة في عذاب الكافر لمكان بكاءٍ يصدر من غيره مشكل، قال المزني: بلغني أن الكفار كانوا يوصون بأن يندَبوا ويُبكَوْا؛ فإنهم يعذبون على وصاياهم. والرواية الصحيحة عن عائشة في ذلك أنها قالت: رحم الله عمر ما كذب، ولكنه أخطأ أو نسي، إنما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديّةٍ ماتت ابنتها، وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنهم يبكون، وإنها تعذب في قبرها» وهذه الرواية لا تُحوج إلى تأويل أصلاً؛ إذ ليس فيها أنها تعذب بسبب بكائهم. والله أعلم.

.كتاب الزكاة:

.باب: فرض الإبل السائمة:

1748- الأصل في الزكاة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» الحديث، وروى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جارت الولاة، قحَطت السماء، وإذا مُنعت الزكاة، هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا، ظهر الفقر، وإذا أخفر أهلُ الذمة، أدِيل للكفار». وقال صلى الله عليه وسلم: «ما خالطت الزكاة مالاً إلا أهلكته» وقال صلى الله عليه وسلم: «مانع الزكاة في النار» إلى غير ذلك.
وأجمع المسلمون على أن الزكاة من أركان الإسلام.
1749- والزكاة هي النماء: من قولهم "زكا الشيء" إذا نما. وإخراج الزكاة وإن كان حطّاً من مقدار المال، ولكن يُمْنُ إخراجِه ينمّي المال. قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مالٌ من صدقة». وقال عزّ من قائل: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].
1750- ثم الزكاة تنقسم إلى ما يتعلق بالذمة، ولا يختص بمال، وإنما المرعيّ فيه الإمكان، وهو زكاة الفطر، وإلى ما يتعلق بمالٍ، وهو منقسم إلى ما يتعلق بالأعيان، وإلى ما يتعلق بالقيم.
فأما ما يتعلق بالقيم، فزكاة التجارة، وأما ما يتعلق بالأعيان، فالأعيان التي تتعلق بها الزكاة: حيوان، وجوهر، ونبات.
فأما الحيوان، فالنَّعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
والجوهر: الدراهمُ، والدنانيُر.
والنباتُ: في الزروع، والثمار كلُّ مقتات.
1751- ثم بدأ الشافعي من زكاة النَّعم بزكاة الإبل، واعتمد في نُصُبها وأوقاصها ما رواه بإسناده عن أنس بن مالك وهو مشهور مذكور في ظاهر المختصر. وفي أوله: "هذه الصدقة. بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أمر الله بها".
فقوله أولاً: "هذه الصدقة" ترجمة، وعنوانُ الكتاب "الصدقة"، كما يُثبت الكاتب في أول كتاب: "هذا كتاب الصدقات". ثم ابتدأ الكتابَ بعد أن عَنْوَنَه فقال: "بسم الله" وأراد بالفرض التقديرَ: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، معناه قدّرها، وتقديره إياها إبانتُه لها، ثم اشتمل الحديث على بيان النُّصب، والأوْقَاص.
ونحن نستاق ذكرها من أولها إلى آخرها، ونجري على ترتيب الحديث فيها، حتى يأنسَ الناظر بأصول المذهب في النُّصب والأوقاص، ثم ننعطف على استيعاب خفايا المذهب في كل نوع وفن منها.
1752- فنقول: أول نصاب الإبل خمس، فليس فيما دون خمسٍ من الإبل شيء، وفي خمس شاة، وفي عشرٍ شاتان، وفي خمسَ عشرةَ ثلاثُ شياه، وفي عشرين أربعُ شياه.
فإذا بلغت خمساً وعشرين، وجبت فيها الزكاة من جنسها، ففيها ابنةُ مخاض، وهي التي استكملت سنة، وطعنت في الثانية، فإن لم يكن في ماله ابنةُ مخاض، فابن لبون ذكر، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستاً وثلاثين، فإذا بلغتها، ففيها بنتُ لبون؛ وهي التي تزيد على التي قبلها بسنة، ثم لا شيء إلى ست وأربعين، وفيها حِقّة، وفى إحدى وستين جذعة.
وهذا منتهى الترقِّي في الأسنان.
ثم في ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى يبلغ المال مائةً وعشرين، فإذا بلغها وزاد بعيراً واحداً، فيجب في هذا المبلغ ثلاثُ بنات لبون، ثم يستقر الحساب في الأوقاص والنُّصب على عشرٍ عشرٍ، من غير تفاوت، في كل خمسين حِقة، وفي كل أربعين بنت لبون، ففي المائة والعشرين والواحدة ثلاثُ بنات لبون؛ فإنها ثلاث أربعينات.
وسنذكر التفصيل في الواحد الزائد.
ثم كلما كملت عشر تبدل بنتُ لبون بحقة.
هذا ما يقتضيه الحساب، حتى تتمخض الحِقاق، ففي مائة وثلاثين حقة، وابنتا لبون، فإنها خمسون وأربعينان. وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون. وفي مائة وخمسين ثلاثُ حقاق. فإذا زادت عشراً، انتقلنا من الحِقاق إلى بنات اللبون، وزدنا في العدد.
ففي مائةٍ وستين أربعُ بنات لبون. وفي مائة وسبعين حِقة، وثلاثُ بنات لبون.
وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون. وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون. وإذا بلغ المال مائتين، فيجتمع فيها حسابُ الحقاق وبنات اللبون؛ فإن المائتين خمسُ أربعينات، وأربع خمسينات؛ ففي المبلغ بحساب الخمسين أربع حقاق، وفيه بحساب الأربعين خمسُ بنات لبون.
وسيأتي في ذلك فصلٌ مفرد إن شاء الله تعالى، فهذا بيان النُّصب المرسلة.
ونحن ننعطف على الأول، ونأتي في كل مقامٍ بفصلٍ نستوعب ما فيه إن شاء الله تعالى.
فصل:
1753- فيما دون خمس وعشرين من الإبل الشاء.
والمعنى الضابط فيه أن الإبل قد بلغ دون الخمس والعشرين مبلغاً يحتمل المواساة، ولم ير الشارع أن يوجب فيما دون الخمس والعشرين بعيراً، فيكون إجحافاً برب المال، ولم يرَ أن يوجب شقصاً من بعير؛ لما في التشقيص من التعذر، ونقصان القيمة؛ فعدل عن جنس الإبل إلى الغنم، فأوجب في خمس شاةً، وفي عشرين أربعَ شياه، كما تقدم.
1754- ثم الكلام في هذا يتعلق بأمرين:
أحدهما- في إخراج بعيرٍ يُجزىء عن الخمس والعشرين، والآخر في صفة الشاة التي يخرجها، فأما إذا أخرج بنتَ مخاض ومالُه خمس الإبل، فالذي قطع به أئمتنا أن ذلك يجزئه، وتعليله أنها تجزىء في الخمس والعشرين، فلأن تجزىء في الخمس، أوْلى، فهذا متلقى من جهة الفحوى، قريب من استفادة تحريم الضرب، من النهي عن التأفيف، في قوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].
ثم لو أخرج بعيراً يجزىء عن الخمس والعشرين، ولكن كان لا يساوي شاةً لعزة الغنم، ورخص جنس الإبل في ذلك القطر، فالذي قطع به الأئمة أنه يجزىء لإجزائه عن الخمس والعشرين. وفي بعض التصانيف عن القفال أنه لا يجزىء، حتى تبلغ قيمته شاةً، وقد ذكره شيخي أيضاً مطلقاً، ولم يَعْزُهُ إلى القفال.
واعتبار القيمة بعيدٌ على رأي الشافعي، ولكن المتبع في الباب ما ذكرناه من طريق الفحوى، في الإجزاء في الكثير، وإشعار هذا بأنه يجزىء في القليل، ولا التفات إلى القيمة، وإن علمنا أن سبب العدول إلى جنس الغنم الترفيه والتخفيف.
ولكن إن اتفق على ندور عزةُ الغنم، فالأصل المرعيُّ لا يختلف.
1755- ثم إذا وضح أن البعير المجزىء عن خمسٍ وعشرين يجزىء عما دون ذلك، فإذا أخرج بعيراً عن خَمسٍ، فقد ذكر الأئمة خلافاً في أن البعير بجملته يقع فرضاً، أم الفرض منه الخُمس، والباقي متطوَّعاً به تبرعاً؟ فقالوا: في المسألة وجهان.
وذكر العراقيون أن هذا يناظر ما لو لزمته التضحية بشاة، فلو ضحى ببدنةٍ، أو بقرة، فالبدنة تقع فرضاً، أم الفرض مقدار السُّبُع، والباقي تطوع؟
وهذا التشبيه زلل، والوجه القطع بأن الزيادة على السُّبُع تطوعٌ في الضحايا؛ فإن من أراد الاقتصار على سُبُع بدنة بدلاً عن شاة، جاز له ذلك، فالستة الأسباع الباقية زيادة منفصلة عن السُّبع الكافي، ولكن يخرج ما ذكروه من الخلاف في الهدايا على ما تقدم ذكره في أن من استوعب الرأس بالمسح، فهل يقع الكل فرضاً أم لا؟ والأصح أن الفرض قدرُ الاسم؛ إذ يجوز الاقتصار عليه.
فهذا قولنا فيما استشهد به العراقيون في الهدايا.
فأما ما فيه كلامنا، فهو على مقتضىً آخر؛ من جهة أنا لا نعرف خلافاً في أنه لو أخرج خُمسَ بعير، بدلاً عن الشاة التي أوجبها الشارع، لم يَجْزِه ولم يكفهِ؛ فليست هذه المسألةُ مناظِرةً لما وقع الاستشهاد به، فخروج الخلاف فيها أَوْجَه.
ومن يقول: الفرض مقدار الخُمس، فمعناه أنه مقدار الخمس على شرط التبرع بالبقية، حتى يزول عيبُ التشقيص.
فليفهم الناظر ذلك.
فلو ملك عشراً من الإبل، فأخرج بعيراً واحداً، فقد ذكر الأصحاب أن هذا يخرج على الخلاف المتقدم، فإن قلنا: يقع جميعُ البعير في الخَمس فرضاً، ويقوم مقام شاةٍ؛ فلا يقع الاكتفاء في العَشر ببعيرٍ واحد، بل لابد من بعيرٍ وشاةٍ، أو بعيرين.
وإن قلنا: المفروض من البعير في الخَمس مقدار خُمسه، فيجزىء البعير عن العَشر، والمفروض منه مقدار الخُمسين، والباقي متطوَّع به، كما تقدم تفصيل ذلك.
وهذا غير سديد عندي، وخارج عن القاعدة المرضية؛ فالوجه القطع بإجزاء البعير الواحد في العشر لإجزائه في الخمس والعشرين، ومن حاد عن اعتبار الأوْلى من طريق الفحوى، فقد ضل عن سواء طريقه ضلالاً بعيداً، واختبط في أمورٍ خارجة عن الضبط.
وإذا وضح هذا في العشر؛ فتفريعه في الخمسةَ عشرَ، وفي العشرين على هذا النحو فالوجه المعتبر أن ما يجزىء عن الكثير يجزىء عن القليل لا محالة.
وسنوضح اطّراد ذلك في تفاصيل المذهب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فهذا قولنا في هذا الطرف، وهو إذا أخرج بعيراً عن خمس من الإبل، وأقامه مقام شاة.
1756- ثم ذكر بعض الأصحاب تردداً، في أن البعير المخرجَ عن خمسٍ من الإبل أصل، أم بدل عن الشاة؟ وهذا بعيد؛ فإن إثبات البدل لا يناسب مذهب الشافعي، وإن غلط من ظن ذلك من قول بعض الأصحاب: إن قيمة البعير ينبغي ألا تنقصَ عن قيمة شاة مجزئة.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنه لو ملك خمسةُ نفر خمساً وعشرين من الإبل، فكان لكل واحد منهم خُمُسها شائعاً، فإذا أخرجوا بنت مخاضٍ، فيقع خُمسُها عن نصيب كل خليط، ولكن المُلاَّك في الخلطة كالمالك الواحد- على ما سيأتي تمهيدُ القول في الخلطة إن شاء الله تعالى.
1757- فأما الكلام في جنس الشاة التي يُخرجها عن الخَمس من الإبل فزائداً، إلى الخمس والعشرين، فنقول: أولاً إذا ملك الغنمَ الزكاتيَّ، فلا شك أنه يُخرج من جنس غنمه، أو أفضلَ منه؛ فإن من ملك من المعز أربعين، أجزأته ثنية من المعز.
وإن ملك أربعين من الضأن، لم يجزئه إلا ضائنة كما سيأتي، ولا نظر إلى الغنم الغالبة في البلد.
وإذا كان يخرج شاةً من خمس من الإبل، فليس المخرَج من جنس مال الزكاة.
فالذي ذكره العراقيون: أنه يخرج الشاة من الشاء الغالبة في البلد، وقالوا في استتمام الكلام: من عليه العُشر وزكاةُ الفطر، فيعتبر في العُشر جنس المعشَّر، وفي زكاة الفطر القوتُ الغالب في البلد، فكذلك إذا كان يخرج شاةً من غنمه الزكاتي، فالاعتبار بنوع غنمه، وإن كان يخرج شاةً من خمسٍ من الإبل، فالاعتبار بالغنم الغالبة في البلد.
وذكر صاحب التقريب نصّاً عن الشافعي موافقاً لما ذكره العراقيون، ونسب نقله إلى المزني، وغلَّطه في النقل، ونقل نصوصاً مخالفةً لذلك، متضمنها أنه يُخرج شاة من أي نوعٍ كان: جذعةً من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا نظر إلى غنم البلد، والذي ذكره صاحب التقريب في نهاية الحسن، وتوجيهُه ما ذكره: وهو أن الشاة أُوجبت مطلقةً في الذمة، فاعتبر اسم الشاة، والشاة الشرعيةُ جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا يتخصص لفظ الشارع بالعُرف على مذهب المحققين في الأصول، وشبَّه لفظ الشاة في ذلك بلفظ الشاة في الضحية؛ فإنها تجزىء، ولا يعتبر ما يغلب في البلدة، حتى لو كان غالب غنم البلدة الضأن، فضحى بثنيةٍ من المعز، أجزأت.
والذي ذكره العراقيون توجيهه-على البعد- تنزيلُ المطلق على العُرف في كل زمان. وسيأتي تفصيل المذهب في زكاة الفطر وأنَّ المعتبر فيها القوتُ الغالبُ في ظاهر المذهب، فقد يتمسك بهذا العراقيون.
وعلى الجملة ليست زكاة الفطر ممَّا نحن فيه؛ فإن الشارع ذكر فيها أجناساً مختلفة، ثم لم يحمل الأمر فيها على التخيير في ظاهر المذهب؛ فانبنى الأمر فيها على الالتفات إلى الأقوات، والتقديرُ: صاعاً من بُر إن كان قوتاً غالباً، أو صاعاً من شعير إن كان غالباً، وذِكْرُ الشاةِ مفردٌ فيما نحن فيه، واردٌ على الذمة؛ فكان إطلاقها كإطلاق الرقبة في الكفارة، أو كإطلاق الشاة في الضحية، وفي هَدْي المناسك، والتفصيل العويص في الإبل المذكور في الدِّية، وذلك يأتي إن شاء الله تعالى في الديات.
وبالجملة تشبيه الشاة فيما نحن فيه بشاة الضحية قريب جداً.
فإن قيل: فلتجزىء على طريقة صاحب التقريب شاة معيبة، قلنا: ما وجب لغرض المالية، فهو مقيّدٌ بالسلامة، ولذلك يقيّد إيجاب الغرّة بالسلامة، والضحية تقيّدت بالسلامة عما يقدح في مقصودها، والرقبة في الكفارة متقيدة بما يليق بالمقصود من الإعتاق.
فإن قيل: فهلاّ خرج فيما نحن فيه وجهٌ أنه يُخرج الشاة من نوع غنمه إذا كان يملك غنماً؟ قلنا: لا نرى له خروجاً، وإن ذكره بعضُ الضعفة اعتباراً بإبل العاقلة؛ فإنا في طريقةٍ لنا نقول: يُخرج كلُّ غارمٍ من العاقلة من إبله إذا كان يملك إبلاً، والسبب فيه أنه لو كلف تحصيلَ ما ليس له، كان ذلك تكليفَ مشقة مضمومة إلى ما طوقناه من الغُرم من غير جناية، ولا يتبين ذلك إلا في كتاب الديات، والقدر المقنع هاهنا أن اعتبارَ مالِه-وليست الشاة واجبة فيه- بعيدٌ عن قياس الزكاة، فالوجه اعتبارُ مطلق الاسم، مع غرض المالية.
فهذا تمام القول في ذلك.
1758- فالظاهر إذن اعتبار الاسم والمالية، كالضحية مع مقصودها. ويليه على بُعدٍ ما ذكره العراقيون من الرجوع إلى الغالب في البلد، فأما النظر إلى نوع مال المزكي، فقد غلط بالمصير إليه صائرون، ولا يعد هذا من المذهب، بل هو هفوة لا مبالاة بها.
ومما يتعلق بذلك أن الجذعة أو الثنية هي المجزئة في هذا المقام، وهل يجزىء الذكر؛ حتى يقبل جذع من الضأن أو ثَنِيّ من المعز؟ فيه وجهان، وسأعيدهما إذا عقدت فصلاً جامعاً-إن شاء الله تعالى- في أن الذكر متى يجزىء في المواشي المخرجة في الزكاة.
فهذا نَجاز القول في ذلك.
فصل:
1759- في الخمس والعشرين من الإبل بنت مخاض، وهي التي استكملت سنة وطعنت في الثانية، والمخاض اسم للناقة الحامل، والناقة تحمل سنة، وتُحيل سنة، فإذا استكمل ولدُها سنة، وحملت في السنة الثانية، يقال لولدها بنتُ مخاض، أو ابن مخاض.
فإذا ولدت الأم الولدَ الثاني، ودرّ لبنُها، فهي لبون، وولدها الأول قد استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، وهو ابن لبون، أو بنت لبون.
فأما الحِقّة، فهي التي استكملت ثلاثَ سنين، وطعنت في الرابعة، وقد اختلف في اشتقاق هذا الاسم، فقيل: سميت حِقة لأنها على هذا السن تستحق أن يُحمل عليها، وقيل: استحقت الإطراقَ عليها، وأمكن العلوق منها.
والجذعة هي الطاعنة في الخامسة.
وهذا منتهى أسنان الزكاة.
1760- فنعود إلى غرض الفصل، فنقول: إذا ملك خمساً وعشرين من الإبل، وكان في ماله بنتُ مخاض مجزئةٌ، فهي واجبُ ماله، وإن لم يكن في ماله بنت مخاض، وكان فيه ابن لبون، أجزأ ابن لبون، وهذا منصوص عليه في الحديث، وهو متفق عليه.
ثم الأنوثة في الزكاة مبغيّةٌ مطلوبة، والذكورة ملحقة بالعيوب، وإن لم تكن بمثابتها في كل الوجوه، فكأن الشارع رقى في السن، وقبل الذكورة؛ فكان ابنُ لبون بمثابة بنت المخاض، ولكنه يترتب عليه، فلا يُقبل ابنُ اللبون مع وجود بنت المخاض في المال، فإن لم توجد بنتُ المخاض، أجزأ ابنُ اللبون، إذا كان موجوداً في المال، وإن كان شراء بنت المخاض ممكناً.
هذا مقتضى النص، وهو مجمع عليه، فلو لم يكن في ماله بنتُ مخاض، ولا ابن لبون، وكان يحتاج إلى تحصيل أحدهما لأجل الزكاة، فالذي نقله الأئمة عن نص الشافعي أنه بالخيار: إن شاء اشترى بنت مخاض وإن شاء، اشترى ابن لبون، قال صاحب التقريب: الوجه أنه يلزمه شراء ابنة المخاض، ووجه قوله أنهما إذا فقدا في ماله، فقد استوى الأمر في بنت المخاض وابن اللبون، وإمكان التحصيل شامل لهما جميعاً، فصار الاستواء في حالة الفقد بمثابة ما لو وجدا جميعاً في مالهِ، ولو كان كذلك، لتعيّن إخراج بنت المخاض، ووجه النص أن الأصل استواء بنت المخاض وابن اللبون؛ فإنهما متعادلان: في أحدهما نقصان السن وزيادةٌ في الصفة، وفي الثاني زيادة السن ونقص الذكورة، وحكم ذلك الاعتدالُ، وإنما يتعين عند الوجود إخراج بنت المخاض لأجل النص، ثم ابن اللبون ليس على حقائق الأبدال، بدليل أنه إذا وجد في ماله ابن اللبون أجزأ، وإن كان تحصيل بنت المخاض ممكناً، فإذاً قُدِّمت بنت المخاض لمكان النص في صورة الوجود.
1761- ومما يتفرع على ذلك أنه لو كان في ماله بنت مخاض معيبة لا تجزىء وابن لبونٍ ذكر صحيح مجزىء، أجزأ ابنُ اللبون، ووجود تلك المعيبة وعدمها بمثابة واحدة. ولو كان في ماله بنتُ مخاض كريمة لا يؤخذ مثلُها لكرمها إلا أن يتبرع بها، وكان في ماله ابن اللبون، فهل يقبل منه ابن اللبون، أم نكلفه تحصيلَ بنت مخاض؟ اختلف أئمتنا: والذي مال إليه جواب أصحاب القفال أنه لا يؤخذ منه ابن اللبون؛ فإن بنت المخاض موجودة، وهي مجزئة لو تبرع ببذلها؛ فلا يُؤخذ منه ابن اللبون، وليس كما لو كانت معيبة؛ فإن المعيبة لا تجزىء أصلاً فهي كالمعدومة.
وذكر العراقيون أن الكريمة كالمعدومة، وهي بمثابة المعيبة؛ فإنها إذا لم تكن مأخوذة، فكأنها معدومة، وهذا متجه لا بأس به. وظاهر المذهب غيره.
وهذه الترددات سببها خروج ابن اللبون عن قياس الأبدال، مع أنه يترتب على بنت المخاض من وجه، والأئمة تارة يتمسكون بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة يتشوفون إلى طرفٍ من المعنى.
ومما ذكره صاحب التقريب متصلاً بذلك أن بنت اللبون هي فريضة الست والثلاثين، فلو عدمها المالك، ووجد في ماله حِقّاً ذكراً، فهل يجزىء الحِقُّ بدلاً عن بنت اللبون، كما يجزىء ابن اللبون، بدلاً عن بنت المخاض؟ تردد في هذا جوابه، وما ذكره من طريق الاحتمال متجه، ولكن الأليق بمذهب الشافعي اتباعُ النص، وتخصيص ما ذكره الشارع من إقامة ابن اللبون مقام بنت المخاض بمحله.
1762- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "فإن لم يكن في ماله بنت مخاض، فابن لبون ذكر"، وقد اختلف في فائدة تقييد كلامه بالذكر، فقال المحصلون: جرى ذلك تأكيداً للذكورة، ومثل هذا كثير، وقال بعض الضعفة: فائدته أن الخنثى لا تجزىء. وهذا هَوَس؛ فإنه إن كان ذكراً، فهو ابن لبون، وإن كان أنثى، فبنت اللبون خير من ابن اللبون. ومن منع هذا قال؛ هذا تشويه في الخلقة يمنع صفة الأنوثة وخاصيّتها وصفةَ الذكورة، فكان عيباً مانعاً.