فصل: باب: صدقة الوَرِق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: صدقة الوَرِق:

قال: "روى أبو سعيد الخُدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة... إلى آخره".
2062- روى أبو سعيدٍ الخُدري هذا الحديث. والأوقيةُ أربعون درهماً، وخمسُ أواق مائتا درهم، والاعتبار بوزن مكة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الميزان ميزان مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة». ثم نتكلم بعد ذلك في تحقق الوزن، وفي الدراهم المغشوشة.
2063- فأما تحقيق الوزن، فنقول: لو نقصت من المائتين جبة، فلا زكاة إذا تحقق النقصان، ردّاً على مالك؛ فإنه قال: إذا نقص نقصاناً تجوّزنا معه بالمائتين في المعاملة، ولم يكن ذلك النقصان مما يُحْتَفل به، فالزكاة واجبةٌ. وهذا مردود عليه، من جهة أن النصاب تقديرٌ شرعي، والزكاة متعلقة بالعين، وقد تحقق النقصان.
2064- ثم ذكر الصيدلاني في كتابه لفظاً مشكلاً، وأنا ناقله، قال بعد الرد على مالك، فيما ذكرناه: "فأما التفاوت بين الميزان، فلا حكم له؛ فإذا خرج بأحد الميزانين مائتا درهم، وجبت الزكاة". هذا لفظه في الكتاب.
وأنا أقول: إن أراد بهذا أن ينقص بميزان ويخرج بميزان آخر مائتين، وهذا لفظه، فليس على ما يقدره؛ فإنا لا نأمن أن يكون الميزان الذي وفى به مختلاً، والميزان الذي نقص به كان قويماً، فإيجاب الزكاة تعويلاً على الوزن الوافي إيجابٌ على تردد، والأصل براءة الذمة عن الزكاة، فلا نشغلها إلا بيقين.
وإن أراد بذكر الميزانين تكرير الوزن، فإن المقدار قد يتفق نقصانه في الظن، في وَزْنةٍ، ثم يتأنَّق الوازن، فَيَفي في كرةٍ أخرى. وهذا الذي يقوله الفقهاء: "النقصان بين الكيلين لا حكم له". وكذلك ما يقع بين الوزنين.
وهذا إن أراده، فهو غير متابَع عليه، فإن الوزن حاضر، فإن التبس أمرٌ في كرة، أمكن أن يتثبت في الوزن مراراً حتى يَبين أن ذلك النقصان عن سوء فعل الوازن، ويتوصل في هذا إلى اليقين، الذي لا مراء فيه، فالاكتفاء بالوزن الوافي من غير تثبت مع القدرة عليه لا معنى له.
وبالجملة النصاب مقدر، ودرك اليقين ممكن، وإيجاب الزكاة بالشك لا سبيل إليه.
2065- ومما يتعلق بالغرض في هذا أن النصاب نُقْرة خالصة. ولو كانت الدراهم مغشوشة، فإن بلغت النُّقرة التي فيها خمسَ أواق، وجبت الزكاة، وإلا فلا وأبو حنيفة قال: إن غلبت النُّقرة، وجبت الزكاة، وهذا زلل بيّن؛ فإن الزكاة أوجبها الشرع في خمس أواقٍ من الورق، والنحاس ليس من الورق.
ولو كان معه مائتا درهم نُقرة، ولكن كان بعض ما معه جيداً، وبعضه رديئاً- ونعني بالجودة أن يكون ما نَصِفه بكونه جيداً ليناً تحت المطارق، والرديء فيه تشتتٌ وتفتت لآفةٍ معدنية، أو سبب آخر، والنقرتان جميعاً خالصتان لا يشوبهما غش.
فينبغي أن يُخرج من كل نوع حصةً، على القياس الذي مهدناه فيه، إذا كان معه تمرٌ رديء، وتمرٌ جيد، وهذا لائح. فإن أخرج الواجب من النوع الجيد، فقد أحسن، وإن أدّى من كل نوع حصةً، فقد أتى بالواجب.
وإن أخرج الجميع من الرديء، فقد قال الصيدلاني: إن أخرج الكل من الرديء، جاز مع كراهيةٍ؛ لأن كل واحدٍ فضةٌ خالصة، وهذا عندي خطأ صريح، إذا تحقق التفاوت في القيمة. ولو جاز هذا، لقلنا: من ملك أنواعاً من الإبل، فأخرج الفريضة من أردئها، جاز.
ثم قال الشافعي: "وأكره الورِق المغشوش". هذا لا تعلق له بالزكاة.
2066- فنقول: الدراهم المغشوشة إن كان مقدار نُقرتها معلوماً، وكان العيار مضبوطاً، فالمعاملة بها جائزة، إشارة إليها وتعييناً، والتزاماً في الذمة. وإن كان مقدار النقرة مجهولاً، ولكن كانت الدراهم رائجةً، فقد اختلف أئمتنا في جواز التصرف بها: فمنهم من منعه، وصار إلى أن المقصود المطلوب مجهول، والجهالة مانعة من التصرف، وليس ذلك بمثابة الإشارة إلى الدراهم الخالصة؛ فإن إحاطة النظر بالمشار إليه إعلامٌ، ولا يُحصي اللَّحظُ ما في الدراهم المغشوشة من النُّقرة.
ومن الأئمة من جوّز التصرف بها، فإنها رائجة جارية لمكان السكة، والمقصود من النُّقرة جريانُها.
2067- ولا خلاف أن بيع الغالية والمعجونات جائزة، وإن كانت أخلاطها مجهولة الأقدار، وإن أردنا في ذلك فرقا، قلنا: المعجونات لو لم تكن عتيدة، أدَّى فقدها إلى ضررٍ. ومواطأةُ الناس في أقدار أخلاطها غيرُ ممكن، وضبط العيار والمقدار ممكن معتاد في كل ناحية.
فهذا منتهى القول في هذا. والله الموفق للصواب.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانت له فضة، خلطها بذهب... إلى آخره".
2068- إذا كان معه فضةٌ مخلوطة بذهب، وكان مقدار كل واحد منهما مجهولاً، وكان علم أن وزن الجميع ألفٌ، ولم يدر أن الذهب منه ستمائة، والفضة أربعمائة، أو على العكس من ذلك، فإن ميّز أحدهما عن الثاني بالنار، وأخرج الزكاة بحسبه، فذاك. وإن لم يفعل هذا، فالذي ذكره الأئمة أن طلب اليقين محتوم في الخروج عن واجب الزكاة، وسبيله أن يأخذ بالأكثر في كلِّ واحدٍ، فيخرج زكاةَ ستمائة من الذهب، وزكاة ستمائة من الفضة؛ فإن الزيادة التي يخرجها من أحد التبرين لا تُجزىء عن الآخر؛ فإن الأبدال غير مجزئةٍ في الزكوات. فهذا ما ذكره أئمتنا.
ثم ذكروا هندسةً في الاطلاع على مقدار الذهب والفضة، من ذلك المختلط، وهي معروفة، وأهون منها أن يُسبك مقدارٌ نزرٌ من المختلط، ويقاس به الباقي، فإن عسر ذلك، فالوجه ما ذكرناه.
وقال العراقيون: إن غلب على ظنه مقدارُ كلِّ تبرٍ، نُظر: فإن كان يُخرج الزكاة بنفسه، فله أن يبني على ظنه، ولا نكلفه طلب اليقين، وإن كان يسلِّم الزكاة إلى الساعي، فإنه لا يعتمد ظنَّه في ذلك، ويقول: خذ بالأكثر، واطلب اليقين، أو ميز أحدَهما عن الثاني. هذا طريقهم.
والذي قطع به أئمتنا أنه لا يجوز اعتماد الظن في ذلك. وقياسنا لائح.
ووجه الإشكال فيما ذكروه أنا إذا أوجبنا الأكثر، فقد زدنا قطعاً، وإيجاب الزكاة من غير ثَبَت مشكل أيضاًً. ولكن إن أخرج المستيقن من كل تبر، فيُخرج زكاة أربعمائة من الورق، وأربعمائة من الذهب، فيبقى عليه زكاةٌ على قطعٍ، وإسقاط حق المساكين لا سبيل إليه، هذا مقطوع به.
وكذلك إذا أخذ ستمائة نُقْرة، وأربعمائة ذهباً، فيجوز أن يكون مصيباً، ولكن إذا لم ينضم إليه ظن، فلا يبرأ به في ظاهر الحكم، وهذا متفق عليه. والكلام فيه إذا ظن، وبنى على ظنه.
2069- وهذه المسألة ملتبسة جداً في القياس، ويحتمل من طريق النظر أن يقال: إذا أخرج الزكاة على تقديرٍ في التبرين، من غير ظنٍّ غالب؛ فإنه يَخرج عما عليه غالباً، وليس هذا كما لو شك في أعداد ركعات الصلاة، فإنا في ظاهر المذهب نُوجب عليه الأخذَ بالمستيقن، ولا نُجَوِّزُ التعويلَ على ظنٍّ إن كان، وسببُه أنه استيقن وجوبَ أربع ركعات عليه، فيلزمه أن يؤدي على يقين، وفي المسألة التي نحن فيها لم يستيقن الزكاة على وجه، حتى يلزمه الخروج عما عليه، ومن علم أن عليه دَيْناً لإنسان، ولم يعلم مبلغه، فيلزمه أن يؤدِّي مبلغاً يستيقن معه أنه خرج عما لزمه.
ولكن ما ذكرناه قياسه أنه وإن لم يظن، فإذا أخرج ما يجوز أن يكون هو الواجب، كفاه. وبقي عليه بابُ الورع والاحتياط.
ومما يُشكل في المسألة فرقُهم بين أن يفرق بنفسه، وبين أن يسلمه إلى السلطان، وهو مشكل؛ من جهة أنه لا يَدَ للسلطان في زكاة التبرين، فإذا سلمت إليه، لم يبعد أن يعوّل على ما يخبر عنه من ظنه، إن كان للعمل بالظن في ذلك مساغ، وإنما يحسنُ النظر في هذه المسألة إذا عسر السبك، والزكاة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها، مع وجود المستحقين. فإن تيسر السبكُ، وجب ذلك، أو الأخذ باليقين، كما صوره المراوزة. فهذا هو الممكن، وبالجملة ما ذكره العراقيون متنفَّس للفكر، وتطريق لوجوه الاحتمال.
فصل:
قال: "ولو كانت له فضة ملطوخةٌ على لجام... إلى آخره".
2070- القول فيه أن كل ما يجتمع لو رُدَّ إلى النار، فهو محسوب على المالك في الزكاة، وأما ما لا يجتمع، فمستهلك، لا حكم له.
2071- ثم ذكر الشافعي من مذهبه أن نصاب أحد النقدين لا يكمل بالثاني، فلو ملك مائةَ درهمٍ وعشرة دنانير، أو ملك مائتي درهم إلا دانق، وملك عشرين ديناراً إلا حبة، فلا زكاة عليه فيهما، وخالف فيه أبو حنيفة على تفصيلٍ لأصحابه في كيفية الضم.
فصل:
قال: "وإن كان في يده أقل من خمسٍ... إلى آخره".
2072- المذهب أن من كان له دين على مليء وفيٍّ، فالزكاة فيه كالزكاة في النقد الحاضر، وسيأتي تفصيل ذلك في الديون- إن شاء الله.
وغرضنا الآن البناء على وجوب الزكاة في الديون، ثم إن كان الدين على معسر، فهو بمثابة المال المغصوب، وإن كان على جاحد، فكمثلٍ، ثم قد ذكرنا أنّا إذا أوجبنا الزكاة في المجحود والمتعذّر، فلا نوجب إخراج الزكاة في الحالِ منه.
2073- وإن كان الدين مؤجلاً على مليء وفي، فهو فيما نحن فيه الآن بمثابة المال الغائب، مع أمن الطريق، فتجب الزكاة فيه بحلول الحول. ولكن إذا حال الحول وهو غائبٌ، أو مؤجل، ففي إيجاب إخراج الزكاة في الحال عن الغائب والمؤجل قولان، سيأتي ذكرهما، وليس كالمتعذر؛ فإنه لا يجب إخراج الزكاة عنه، قولاً واحداً، وإنما الخلاف في الوجوب.
2074- ولو ملك مائةَ درهم نقداً، وكان له مائةٌ مؤجلة، تجب الزكاة فيها، فإذا حال الحولُ على النقد والدين، وجبت الزكاة، فإن قلنا: يجب الإخراج عن المؤجل، فيخرج زكاة النقد والدين، ناجزاً عاجلاً. وإن قلنا: لا يجب إخراج الزكاة عن المؤجل، وفرضنا في مائة مجحودةٍ، والتفريع على وجوب الزكاة، ولكن لا يجب إخراجها، فهل يجب إخراج الزكاة عن المائة النقد؟ ذكر شيخنا وجهين:
أحدهما: لا يجب؛ فإنها ناقصة عن النصاب، فإذا لم يجب إخراجُ تمام زكاة النصاب، لم يجب إخراج شيء.
والثاني-وهو المذهب الذي لا يتجه غيره- أنه يُخرج زكاة النقد؛ لتمكنه منه، وإنما يعتبر التكميل في وجوب الزكاة، فإذا وقع التفريع في وجوب الزكاة، فالوجه أن يخرج الزكاة عما يتمكن منه.
2075- ثم قال الشافعي: "وما زاد ولو بقِيراط، فبحسابه". فإذا ملك نصاباً من أحد التبرين، وزيادة، فلا شك في وجوب الصدقة في النصاب، ومذهب الشافعي أنه ليس بعد النصاب في زكاة النقد والتجارة وَقصٌ، ولكن ما زاد ولو قَيراط، فيجب فيه بحسابه، وهو ربع العشر، والأوقاص إنما تثبت في النَّعم توقِّياً من إيجاب الأشقاص في الحيوانات، ولا تعذر في تبعيض الحساب، في القليل والكثير من النقود.
2075/م- ثم عقد باباً في زكاة الذهب، ونصابُه عشرون مثقالاً، وواجبُه ربع العشر، كواجب الوَرِق، ثم تعرض لاشتراط بقاء النصاب في تمام الحول، وقد مضى هذا مستقصًى فيما تقدم.

.باب: زكاة الحلي:

2076- ظهر اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي، فذهب عمرُ، وابنُ مسعود، وعبدُ الله بن عمرو بن العاص، إلى إيجاب الزكاة فيها، وعن ابن عمرَ وعائشةَ وجابر: "لا زكاة فيه"، ففي المسألة إذن قولان مشهوران.
واستقصاء توجيههما في الخلاف.
ثم قال الأئمة: إنما القولان في الحلي المباح، فأما الحلي المحظور، فتجب فيه الزكاة قولاً واحداً. وهذا في الأصل متفق عليه.
2077- ونحن نذكر أولاً تفصيل المذهب في الحلي المباح والمحظور، ثم نرجع إلى غرضنا من الزكاة، فنذكر حكم الرجال، ثم نذكر حكم النساء.
فأما الرجال، فيحرم عليهم استعمال الذهب في جميع الوجوه من غير تفصيل، إلا أن يُجدعَ أنفُه، وتمس حاجته إلى اتخاذ أنفٍ من ذهب، فله ذلك-وإن كان اتخاذه من الفضة ممكناً- فإن الذهب لا يصدأ، وقد صح هذا بعينه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى رجلاً مجدوعاً كان اتخذ أنفاً من فضة، فقال: "اتخذه من ذهب؛ فإن الذهب لا يصدأ".
فأما التحلي بالفضة، فلا يختلف العلماء في جواز تحلية السيف والمناطق، وآلات الحرب للرجال.
وما يليق بتزيين البدن: كالخلاخل والأَسْوِرَة، ونحوها مما يختص به النساء في العرف الغالب، فاستعماله حوام على الرجال.
ولعل السبب في إباحة استعمال الحِلية في السيوف، والمناطق، وغيرها، أن المحذور في الرجال الانحلال والتبذل، وما يُشعر بالتخنث، وإذا استعملوا الحلية في السلاح، لم يتحقق ما أشرنا إليه. ويستثنى مما أصَّلْناه الخاتم، فللرجل التحلِّي بخاتمِ الفضة، وقد دَرَج عليه الأولون، فهو مستثنىً بالإجماع، ويحرم على الرجال اتخاذ خاتمٍ من ذهب، وكذلك يحرم عليه تحلية السلاح بالذهب، والمتبع فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج يوماً وعلى إحدى يديه قطعةُ ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، فقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم".
2078- وكان شيخي يقول: إن طُوّق خاتم الرجل بشيء من الذهب، وكان يجتمع بالنار لو رد إليها، يحرم ذلك وإن قل؛ طرداً لتحريم استعمال الذهب على الرجال.
قال الشيخ الإمام: وفي تمويه حلية السيف بالذهب، بحيث لا يجتمع شيء لو رد إلى النار احتمال، تشبيهاً بالأواني المتخذة من النحاس، إذا مُوّهت بالذهب، كما تقدم في الطهارة، ولو شبه مشبهٌ القليلَ من الذهب في تطويق الخاتم وغيره، بالضَّبة الصغيرة من الذهب، في الأواني، لم يكن مبعداً.
ويشهد لذلك أن الرجل وإن حرم عليه لبسُ الحرير، فقد يحل له ثوبٌ طُرِّز بالحرير من غير إفحاش. وأنا أخرج على ذلك طُرُزَ الذهب، فإن كانت لا تجتمع لو رُدّت إلى النار؛ فإني أراها كالتمويه، وإن كان الذهب يجتمع كطُرز بغداد ومصر، فالكثير منه يحرم، والصغير خارج على ما ذكرته في أسنان الخاتَم.
واختلف الأئمة في جواز تحلية السرج واللجام بالفضة: فمنهم من حرم، ومنهم من أجازه تشبهاً بالسيف والمِنطقة؛ من جهة أن الفرس من آلات الرجال في القتال وغيره.
وأما تحلية الدواة، فقد وجدتُ الطرقَ متفقةً على منع الرجال منها، وخروجه عن الضبط الذي ذكرناه ظاهر.
2079- فأما النسوة فكل ما يليق بزينة النفس والتزين للأزواج، فهن غيرُ ممنوعات منه، كالخلاخل والسُّور والقِرَطة وخواتيم الذهب، والمخانق، وغيرها.
والذهب في حقوقهن كالفضة. ولو استعملن الحلية في السيوف والمناطق، وآلات الحرب، فهن ممنوعات من ذلك؛ إذ لا يجوز لهن التشبّه بالرجال في ذلك، كما لا يجوز للرجال التشبه بهن في زينة البدن. وإذا امتنع ما ذكرناه، فتحلية السرج واللجام أولى بالمنع.
وأما سكاكين المهنة التي لا تراد للحرب، فإذا كانت محلاة، فهل يحرم على الرجال استعمالها؟ ذهب المحققون إلى أنه يحرم على الرجال، وتردد بعض الأئمة فيه، وهو موضع التردد.
وعندي أن هذا التردد يُبين اختلافاً في النساء، فإن رأينا في حق الرجال أن نلحقها بآلات الحرب، منعنا النسوة، وإن قطعناها عن آلات الحرب في حق الرجال، ففيه احتمال في حق النساء.
2080- فأما تحلية المصاحف بالذهب والفضة، فلأصحابنا فيه طريقان: قال الصيدلاني: أما التحلية بالفضة، فجائزة للرجال والنساء جميعاً، وأما التحلية بالذهب، فجائزة للنساء، وفي جوازها للرجال وجهان:
أحدهما: المنع؛ طرداً لمنع استعمال الذهب في حق الرجال.
والثاني: يجوز؛ فإنه ليس تحلياً من الرجل، وإنما هو تعظيم لكتاب الله تعالى.
فهذه طريقة.
وذهب بعض أصحابنا إلى مسلكٍ آخر، فقال: في جواز تحلية المصحف بالفضة والذهب جميعاًً في حق الرجال والنساء خلاف، فلا يختص بالخلاف أحد التبرين، ولا أحد الجنسين. فمن منعه لم يره مما يجوز للرجال في آلات الحرب، ولم يره زينةً للنساء، ومن جوزه حمل على تعظيم كتاب الله وتكريمه، فعلى هذا يستوي فيه التبران، والرجل والمرأة.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً- فقال: من أصحابنا من جوز تحلية المصحف، ولم يجوّز تحلية غلافه المتصل بالمصحف، وخصص الخلاف بجلد المصحف، ثم زيف هذا الوجه، ومال إلى أنه لا فرق. فإذاً في غلاف المصحف إذا لم يكن متصلاً به تردد عندي، أخذاً من اختلاف الأصحاب في أن المُحْدِث هل يمس غلاف المصحف؟ والله أعلم.
2081- ثم قال العراقيون: منع أبو إسحاق المروزي تحلية الكعبة والمساجد بخلاف تحلية المصاحف.
هذه صيغةُ كلامهم، ولم يذكروا في منع ذلك خلافاً، ولم أعثر على خلافٍ فيه أنقله. وليس يخفى وجه الاحتمال. وكذلك نقلوا عنه تحريم تعليق قناديل الذهب والفضة في المساجد، على ما ذكرناه.
وأما تحلية سائر الكتب قد منعها الأصحاب، نصوا عليه.
قال الشيخ الإمام: من فصل بين الرجال والنساء في المصاحف، يتطرق إليه أن يجوّز لهن تحليةَ كتبٍ يتعاطينها، لاعتقاد ذلك حلية في حقهن، وهذا بعيدٌ، لم يقل به أحد. وبه يتبيّن أن الأولى رفعُ الفرق بين الرجال والنساء، في تحلية المصاحف.
وردد صاحب التقريب قولَه في جواز استعمال مكحلةٍ من فضة للرجال، وكذلك ملعقة فضة للغالية، وغيرها، لا للأكل به، على شرط الصغر، والأمر محتمل، كما قال.
2082- ثم قال الإمام: كل حلية أبحناها، فالإباحة جارية إذا لم يكن سَرف، وإن كان فيها سرف، فوجهان، كالمرأة تتخذ خلخالاً من مائتين، وكذلك القول فيما يضاهيه. فإذا جوزنا للرجل تحليةَ سيفه ومنطقته، فليس الحلال منه على حدّ الضبة الصغيرة، في الأواني، حتى يراعى ما سبق، وحتى تعتبر الحاجة أيضاًً، كما تقدم اعتبارها في ضبة الإناء. بل تحلية هذه الآلات من الرجال، كتحلِّي النسوة فيما يجوز لهن. والله أعلم.
فهذا ما حضرنا ذكره من القول، فيما يحرم ويحل، من التحلِّي.
2083- وحظ الزكاة من هذا الفصل: أنا إذا أوجبنا الزكاة في الحلي من غير تفصيل، لم نحتج إلى شيءٍ من هذه التفاصيل في الزكاة.
فإن قلنا: لا زكاة في الحلي المباح، وتجب الزكاة في المحظور، فهذا موقفٌ يتعين على الناظر إجالةُ الفكر فيه، بعد الاستعانة بالله.
فالذي يعتمده من ينفي الزكاة عن الحلي أنه مصروف عن جهة النماء، وكأنه يعتقد أن الحليَّ عَرْضٌ من العروض، ويعتضد المعنى بأن النقد ليس نامياً في نفسه، وإنما يلتحق بالناميات، من جهة تهيُّئه للتصرف، فإذا اتُّخِذَ منها حلي، زال هذا المعنى، وسياق هذا يقتضي أن يقال: كل حُلي لا يُكسَر على صاحبه، لا زكاة فيه، فإن كان يستعمله على وجه محرم، فالتحريم يرجع إلى فعله في الحلي، لا إلى نفس الحلي، نعم. إذا قلنا: تكسر أواني الذهب والفضة على ملاكها، فتجب الزكاة فيها؛ لأن تلك الصنعة مستحقةُ الإزالة شرعاً، فالأواني في حكم الشرع متبرة، وكذلك لو اتخذ من التبر صوراً وآلاتِ ملاهٍ.
وهذا الذي ذكرتُه إشكال ابتديتُه، وليس قاعدةً للمذهب، فحق من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقلُه، ويستعملَ فكره في تعليله جهدَه، حتى يكون نظرُه تبعاً لمنقوله. فأما أن يستتبع المذهبَ، فهذا قصدٌ لوضع مذهب. نعم يحسن بعد النقل إبداء الإشكال، وذكْر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه.
فننقل ما ذكروه الآن في ذلك.
2084- قالوا: إذا اتخذ الرجل حُليَّ النساء، وقصد أن يتحلى هو به، لم تسقط الزكاة، وكذلك المرأةُ إذا اتخذت مناطقَ محلاةٍ وسيوفاً، وقصدت أن تستعملها، فعليها الزكاة. وما ذكرناه من الجانبين هو الذي عناه الأئمة بالحلي المحظور، ولو اتخذ الرجل حُليَّ النساء ليُلبسَها نساءه وإماءه، وليعيرها من النساء، فلا زكاة على القول الذي نفرع عليه. وكذلك لو اتخذت المرأة ما يليق بالرجال لتُلبسَها بنيها، وغلامَها، فلا زكاة.
2085- فإن قيل: فما تعليل المذهب، والحليُّ في نفسه محترمُ الصنعة، غيرُ مكسر على الملاَّك، وعلى كاسره الضمان وإن فسدت القصود؟
قلنا: ضبطُ المذهب في ذلك عندي: أن الزكاة تجب في النقد لعينه، وعينُه لا تنقلب، بأن يتخذ منه الحلي، ولا يشترط في جريان الورق في الحول أن يكون مطبوعاً مسكوكاً أصلاً؛ إذ تجب الزكاة في السبائك، والتبر، والحليُّ في معناهما، وإنما يتميز عنها بالاستعمال، فلا يلتحق الحُلي بالعُروض-وهو عين الورِق- إلا بقصد ينضم إليه، وهذا يناظر-على العكس- الثيابَ وغيرَها من السلع؛ فإنها ليست أموال الزكاة في أعيانها، فمن اشترى شيئاً منها، ولم يقصد التجارة، لم يثبت حكمُ الزكاة، ولم يجر الحول، فإذا انضم قصدُ التجارة إلى صور الشراء، ثبت حكم الزكاة، فكما أن العُروض لا تدخل في الزكاة إلا بقصد، كذلك الورِق والذهب بنفس الصنعة لا يلتحقان بالعروض.
فهذا قاعدة الكلام. والذي يوضح هذا: أن أئمة العراق، وغيرَهم قالوا: لو اتخذت المرأة حُلياً مباحاً للاستعمال، ثم نوت بعد ذلك أن تكسر الحلي، ولا تستعملَه، فإنه يجري في الحول.
فإن كنا نفرع على أن الحُليّ لا زكاة فيه، وهذا قطب الفصل ولبابه، فنتخذه معتبر الفصل، ويشهد لهذا ما ذكره الصيدلاني وغيرُه، من أن الزكاة تجب في أواني الذهب والفضة، على قولنا: لا زكاة في الحلي. فإن قلنا: لا حرمة لصنعة الأواني، فهي في الشرع كالتبر، وإن قلنا: لصنعتها حرمة، فلا يجوز استعمالها، فهي من حيث إنها لا تستعمل كالمكنوز من الحلي، فوضح بما ذكرناه أن الحلي لا تسقط الزكاة عنه بصنعته، وانصرافِه عن التهيّؤ للتصرف، ولابد من قصد الاستعمال.
فإذا تقرر ذلك، قلنا: سقوط الزكاة مع قيام التبر في عينه في حكم الرخصة، والرخص لا تناط بالمعاصي، فإذا قصد استعمالاً محرماً، بطل قصدُه، وإذا بطل قصد الاستعمال-وقد ثبت أن عين صنعة الحلي لا تُسقط الزكاة- تعيّن إيجاب الزكاة.
فهذا بيان قاعدة المذهب.
2086- ولو اتخذ الإنسان حلياً، ولم يقصد استعمالَه، لا في وجهٍ محظور، ولا في وجه مباح، ولم يقصد الكنز، فهذا فيه احتمال لائح، وفي كلام الأئمة إشارة إليه.
وقد جرى في أثناء كلام صاحب التقريب-ما يدل على أن الحليَّ المباح- على قول إسقاط الزكاة، لا يعود إلى الحول، ما لم يقصد صاحبُه ردَّه إلى التبر، حتى لو قصد إمساكه حلياً من غير كسر، فلا زكاة.
ومجموع ما قيل يوضحه صور نأتي بها، ونذكر في كل صورة ما قيل فيها.
فلو اتخذ حلياً، وقصد عند الاتخاذ، أو بعده استعمالاً مباحاً، فهذا هو الذي لا زكاة فيه، في القول الذي نفرع عليه. وإن قصد استعمالاً محظوراً، وجبت الزكاة. وإن قصد أن يكنزه، فالمذهب وجوبُ الزكاة، وما أشرنا إليه من خلافٍ فيه غيرُ معتد به.
وإن اتخذ حُلياً، ولم يقصد شيئاً، لا الكنزَ، ولا الاستعمال، فهذا فيه خلاف وتردد ظاهر، فيجوز أن يغلّب حكم جوهره، ويجوز أن يقال: هو مصروف عن جهة النماء، ولم ينضم إليه ما يُلحقه بالتبر، والجاري على القاعدة وجوبُ الزكاة، إذا لم تكن نية وقصد.
2087- ومن حقيقة هذا الفصل أن من قصد عند الاتخاذ قصداً فاسداً، ثم غير قصده إلى وجهٍ صحيح، فالوجه سقوط الزكاة. فإذا أعاد القصدَ الفاسد، عاد إلى حول الزكاة، فيتبع القصد.
ومما يتصل بهذا أن من اشترى شيئاً على قصد التجارة، ثم نوى القِنية، سقطت الزكاة، فلو عاد إلى نية التجارة، لم يعد حول الزكاة بمجرد النية. وأحكام الحلي فيما ذكرناه تتبدل بالقصود والنيات، من السقوط إلى الثبوت. والسبب فيه أن القِنية لا معنى لها إلا الإمساك، فإذا انضمَّت النية إليه، كفت. أما التجارة فتصرفٌ، والنية لا تحصِّلها، وأما الحلي فإنه في نفسه معدول في صُنْعه وصُوره عن جهة النماء، ولكن ينبغي ألا يُضمَّ إليه نية فاسدة وقصد في ترك الاستعمال، ومن هاهنا ظهر الاحتمال فيه إذا لم يكن له قصد أصلاً.
وبالجملة لست أرى لاقتران النية بابتداء الاتخاذ أثراً، والطارىء يعمل عمل المقارن، فإن اقتضى ما يطرأُ وجوبَ الزكاة، فسببه الجوهر، وإن اقتضى ما يطرأ السقوطَ، فسببه صورةُ الانصراف عن التصرف، ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصحَّ في القياس إيجاب الزكاة في الحليّ.
ثم ما ذكرناه من القصد وتأثيره، لا يشترط فيه تحقيق القصد بالفعل، ولو قصد الاستعمالَ، كفى ذلك، وإن لم يستعمله.
فهذا ما أردناه.
فصل:
قال الشافعي: "وإن انكسر حليها، فلا زكاة فيه... إلى آخره".
2088- إذا فرعنا على نفي الزكاة عن الحلي، فلو انكسر الحلي، نُظر، فإن اختل اختلالاً لا يمتنع به استعمال الحلي، فلا حكم له، وإن انكسر وترضَّضَ، وخرج عن صنعته خروجاً لا يقبل الإصلاح، وإن أريد استعمالُه، فلابد من سبكه، وإعادة صنعته، فإن كان كذلك، فكما انتهى إلى هذه الحالة، جرى في الحول، وتهيّأ للزكاة في أوانها.
فأما إذا كان الانكسار بحيث يمتنع الاستعمال معه، ولكنه يقبل الإصلاح، فما حكمه؟ قال الأئمة: إن قصد مالكُه ردَّه تبراً، أو دراهم، وقد انكسر كما وصفناه، فيجري في الحول بلا خلاف، وإن كان المالك مصمماً على إصلاحه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجري في الحول، وحكمه حكم الحُلي، ثم لا يجري في الحول، ولا تتعلق به الزكاة-وإن تمادت الأحوال- فإنه قابل للإصلاح، غيرُ ملتحقٍ بالتبر، وقد انضم إليه القصد في الإصلاح.
والوجه الثاني- أنه كما انكسر على ما وصفناه، يجري في الحول، وإن قصد المالك إصلاحه؛ فإنه خرج عن كونه حلياً؛ إذ لا يتأتى استعماله حلياً.
ولو انكسر كما ذكرناه، ولم يقصد إصلاحه، ولم يقصد أيضاًً رده تبراً، أو دراهم، ففي المسألة وجهان، مرتبان على الوجهين في الصورة التي قبل هذه، وهاهنا أولى أن يجري في الحول، من حيث لا ينضم إلى الانكسار قصدُ الإصلاح، بخلاف الصورة التي تقدمت على هذه، وينتظم فيه إذا قصد الإصلاح، أو لم يقصد شيئاً، ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجري في الحول مطلقاً.
والثاني: لا يجري ما لم يقصد ردَّه تبراً.
والثالث: إن قصد الإصلاح، فهو حلي، وإن لم يوجد هذا القصد، جرى في الحول.
2089- وتمام البيان فيما ذكرناه: أنا إذا قلنا: لو قصد الإصلاحَ، فهو حُلي، وإن لم يقصد، فإنه يجري في الحول، فعلى هذا لو انكسر، ولم يشعر المالك حتى يُفرض منه قصدُ الإصلاح، وكما عرف قَصَدَ الإصلاح، فهذا فيه تردد من جهة الاحتمال، ولا نقلَ عندي فيه.
فنقول: إن لم يشعر حتى مضى حول، ثم كما بلغه الانكسار، قصد الإصلاح، فيجوز أن يقال: على وجه رعاية قصد الإصلاح إذا كان سبب استئخار قصدِه عدمَ معرفته، فإذا قصد، قلنا: يتبين بالأَخَرة أنه مُقَر على حكم الحال، فلا نوجب الزكاة تبيُّناً.
ويجوز أن يقال: إذا مضى حولٌ ولا قَصْدَ، وجبت الزكاة، لعدم القصد، ثم لا مردَّ لما وجب، وإن قلنا بهذا الاحتمال الأخير، فقد وجبت الزكاة للسنة المنقضية.
فإذا قصد الإصلاح، فينقدح وجهان من الاحتمال:
أحدهما: أنه ينقلب في المستقبل إلى حكم الحلي؛ فإنه قصد الآن.
والثاني: أنه لا ينفع القصد في الاستقبال بعدما اتفق وجوب. الزكاة؛ فإن الزكاة إذا وجبت، التحق المنكسر بالتبر حكماً، فلا يثبت بعد ذلك حكمُ الحلي ما لم يُعِد الصنعة.
ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تفريعُ صورةٍ أخرى تَشَذّ عما ذكرناه.