فصل: باب: زكاة مال القراض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: زكاة مال القراض:

2131- عامل القراض إذا ربح في مال القراض، فقد ظهر اختلاف القول في أن العامل هل يملك حصتَه المسماةَ له من الربح؟ وسنذكر القولين وحقيقتَهما في كتاب القراض، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: لا يملك العاملُ شيئاً من الربح إلا عند المقاسمة، فقد قال الأئمةُ: تجب زكاة رأس المال والربحِ على المالك، ثم إذا أخرج الزكاة، فقد اختلف أئمتنا في أن الزكاة كيف سبيلُها إذا أخرجها من عين مال القراض؟ فقال بعضهم: الزكاةُ بمثابة المؤن: كأجرة الدلاّل والكيّال، فعلى هذا الزكاة محسوبة من الربح.
ومن أئمتنا من قال: ما أخرجه من الزكاة بمثابة طائفة من المال يستردّها المالك، وإذا استرد صاحب المال طائفة من المال، فالمسترد محسوبٌ من رأس المال، والربحُ جميعاً مفضوضٌ عليهما، وعلى ما تقتضيه القسمة والتوزيع، وسيأتي شرحُ ذلك في كتاب القراض.
2132- وذكر بعض الأئمة ترتيباً في هذا الخلاف، فقال: هذا ينبني على أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة، فإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهي كالمؤن وجهاً واحداً. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فإذا أخرجها من عين مال القراض، فهي مؤنة، أو استرداد طائفةٍ من المال؟ فعلى الوجهين المقدّمين.
وهذا الترتيب ليس بالمرضي؛ فلا يمتنع تخريج الخلاف على قول زكاة العين أيضاًً، من جهة شيوع تعلق الزكاة في الجميع، ثم المشكل في ذلك أن الأئمة قطعوا بإيجاب الزكاة في جميع المال للأصل والربح، وهذا بيّنٌ في رأس المال وحصّةِ المالك من الربح، فأما حصةُ العامل، فالاحتمال فيها لائح، وذلك أنا وإن لم نملِّك العاملَ، فملك المالك في حصة العامل ضعيفٌ. وقد قدّمنا اختلافَ القول في زكاة المجحود، والمغصوب، والمتعذّر، وحقُّ العامل متأكد في حصته، ولو أراد المالك إبطال حقه من حصته، لم يجد إليه سبيلاً.
وإن قلنا: يملك العاملُ حصته بالظهور قبل المقاسمة، فقد ذكر بعض الأصحاب في حصته ثلاثَ طرق: إحداها- تخرج الزكاةُ في حصته على قولين على أصل المغصوب، والمجحود، ووجهُ ذلك: أن العامل لا يتمكن من التصرف في حصته قبل المقاسمة.
ومن أصحابنا من أوجب الزكاة على العامل؛ فإنه وإن كان لا يتصرف فيه لنفسه ما دام مختلطاً، فهو قادرٌ على الوصول إليه، بأن يستقسم ويفاصل، فإذا ثبت الملك، والتمكن من الوصول إلى التصرف، فالوجه القطع بوجوب الزكاة.
وذكر بعض الأصحاب طريقةً أخرى عن القفال: أن الزكاة لا تجب على المقارض قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه يملك حصته؛ وذلك أن الملك وإن ثبت، فهو ضعيف، فكان كملك المكاتب. وهذا ضعيف.
والذي قطع به الصيدلاني وجوبُ الزكاة.
ثم إن قلنا: ملكه متعلَّق الزكاة، فإن كان نصاباً، وجبت الزكاة، وإن لم يكن نصاباً أخرج على الخلطة، وقد مضى التفصيل في الخلطة، فلا نعيده.
ثم إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فإن أخرج الزكاة من مالٍ آخر، فلا كلام، وإن أراد الإخراج من مال القراض، فقد اختلف الأئمة فيه، فقال بعضهم: لا يجوز للعامل الإخراج منه، فإنا وإن ملكناه، فلا نسلطه على التصرف بنفسه، فلا يُخرج الزكاة منه، ما لم يأذن المالك.
والوجه الثاني- ذكر العراقيون أن له أن يُخرج الزكاة من مال القراض، وهذا يمكن تخريجه على ما ذكرناه، من أن الزكاة مؤنةٌ أم استرداد طائفةٍ؟ فإن قلنا: إنه مؤنة، فلا يمتنع أن يخرجها من عين المال، وإن قلنا: الزكاةُ كإخراج طائفةٍ، فيمتنع عليه إخراجُ الزكاة دون الإذن، كما يمتنع عليه التصرف في نصيب نفسه قبل المقاسمة.
2133- ومما يتم به التفريع أنا إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فابتداء حوله من أي وقتٍ يحتسب؟ اختلف أئمتنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أن ابتداء الحول من ظهور الربح، بارتفاع السعر، ووجه ذلك بيّن.
وذهب بعضهم إلى أن الحولَ يحسب من حول رأس المال؛ فإنه الأصل، ووجهه استفادة الربح للمالك والعامل على وتيرة، فإذا كان حول نصيب المالك من يوم ما ملك رأس المال، فكذلك نصيبُ العامل يجب أن يحتسب حولُه من حول رأس المال.
2134- ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا إذا قلنا: يجب على العامل زكاةُ نصيبه، فالمالك يُخرج زكاة المال، وزكاةَ نصيبه، والظاهر على هذا القول أنه يكون ما يخرجه من المال بمثابة استرداد طائفة؛ فإن العاملَ اختص بالتزام ما اختصه، والمالك كذلك؛ فبعُد تقدير المؤنة فيه، وإنما يتجه الوجهان على قولنا: لا يملك العامل، ويخرج المالكُ زكاة جميع المال، فكأنَّا في وجهٍ نقول: لا نشترط تمام الملك، فيما شرط للعامل، بل نوجب الزكاة، كما نوجب المؤن، فأما إذا تخصص كلُّ واحد بالتزام ما عليه، فيبعدُ تقدير المؤنة، وقد أشار إلى ما ذكرناه من الفرق بين القولين الصيدلاني، وهو فقيه حسن، ولم يتعرض لتخصيص الوجهين بأحد القولين أحد غيره.
وبالجملة القطع بإيجاب الزكاة في جميع الربح على المالك على أحد القولين مشكل، والوجه تخريجه على المغصوب والمجحود والأملاك الضعيفة.

.باب: الدين مع الصدقة:

2135- اختلف قولُ الشافعي في أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين؟ فقال في أحد القولين: "إنه يمنع وجوب الزكاة"، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال في القول الثاني: "لا يمنع".
وتوجيه القولين يتعلق بمسائل الخلاف، ولكنا نذكر ما يتعلق بربط التفريع ونظم المذهب.
فمن قال بوجوب الزكاة، فمتعلقه تمامُ الملك، وآيتُه نفوذُ تصرف المالك بما شاء، بما في يده.
ومن قال: لا تجب، استدل بمعنيين:
أحدهما: ادعاء ضعف الملك؛ من جهة أنه مأمور بصرف ما في يده إلى دينه، وقد يتسلط مستحق الدين على أخذه عند تعذر استيفاء الدين.
والثاني: أن الزكاة تجب في الدين، وسبب وجوبها المال الذي في يد من عليه الدين، فلو أوجبنا الزكاة فيما في يده، لكان مالُه سببَ الزكاتين.
2136- وإذا وضح هذا، فرّعنا عليه، وقلنا: إن حكمنا بأن الدَّين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فلو انضم إليه انقطاعُ تصرف المالك، وذلك يُفرض من وجوهٍ نذكرها، منها: أنه لو أحاط به الدين، فحجر القاضي عليه لمكان الديون، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك يمنع الزكاة. وإن كان الدين لا يمنع التصرفَ، فلا يتضمن تضعيف الملك، وإذا حجر عليه انْسدَّ طريق التصرف، ولم يستمر ادّعاء الملك التام، فإن لم نجعل الحجرَ مانعاً، فلو مضت سنةٌ، والحجر مستمر، ولم يتفق صرفُ ماله إلى جهة الديون، فتجب الزكاة. وإن جعلنا الحجرَ مانعاً، فلا تجب الزكاة. وإذا جرى الحجر في أثناء الحول، فينقطع الحول بطريان الحجر.
ومن الصور في منع التصرف أن من كان عليه دين فرهنَ به النصابَ الزكاتي الذي في يده، فتم الحول، والتفريع على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان، كما قدمناه في المحجور، ومأخذ الخلاف في ذلك انسداد التصرف.
فهذا إذا قلنا: مجرد الدين لا يمنع تعلق الزكاة.
فأما إذا قلنا: الدين يمَنع تعلق الزكاة بالعين، فلو ملك الرجل أربعين من الغنم السائمة، وكان عليه أربعون من الغنم ديناً في ذمته عن جهة السلم، فهل يمنع هذا الدينُ تعلقَ الزكاة بالغنم السائمة؟ فعلى وجهين مأخوذين من المعنيين اللذين ذكرناهما في توجيه هذا القول، فإن قلنا: المانع تعرُّضُ ماله للصرف إلى دينه، فلا تجب الزكاة. وإن قلنا: المانعُ أداءُ ذلك إلى إيجاب زكاتين بسبب مالٍ واحد، فتجب الزكاة في هذه الصورة؛ فإن مستحق الدين لا يستوجب الزكاة؛ فإن الغنم إذا كانت ديناً، لم تكن متصفة بالسوم، والزكاة لا تجب إلا في السائمة، وسبب ذلك أن الشارع خصص الزكاة بالمال النامي، والدين لا ينمو، وإذا كانت الدراهم ديناً، فهي في معنى النقد؛ من جهة أن سبب الزكاة في النقد تهيؤه للتصرف، وهذا متحقق في الدين على المليء الوفيّ.
2137- ومما يتفرع على هذا أن من ملك مائتي درهمٍ، وكان عليه مائة درهم ديناً، والتفريع على أن الدين مانع، ففي هذه الصورة وجهان، مأخوذان من المعينين، من جهة أن المئة التي هي دين لا تتعلق الزكاة بها، لكونها ناقصة عن النصاب.
وكذلك الخلاف لو كان مستحق الدين كافراً أو مكاتباً.
ولو ملك الرجل نصاباً زكاتياً، وكان عليه دين، وكان يملك من العقار وغيره من صنوف الأموال، ما يؤدي به الدين، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أن الدين لا يمنع تعلّق الزكاة في هذه الصورة.
ومذهب أبي حنيفة أن الزكاة لا تجب في هذه الصورة، وقد ذكر شيخي تردداً في هذه الصورة؛ أخذاً مما ذكرناه؛ فإن مستحق الدين يجب عليه الزكاة، بسبب المال الزكاتي، فلو وجبت الزكاة على مالك المال، لأدّى إلى إثبات زكاتين بسبب مالي واحد.
وهذا بعيد لا أعدّه من المذهب.
2138- ومما يتفرع على هذا القول أن الدين إذا لم يكن من جنس المال الزكاتي، مثل أن يكون المال نصاباً من النعم، والدين دراهم، أو كان المال دنانير، والدين دراهم، فالأصح المنع.
2139- ومما ذكره بعض المصنفين أن الشافعي نص في القديم على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة بالأموال الظاهرة، ويمنع تعلقها بالأموال الباطنة، وقال: من أصحابنا من جعل هذا قولاً ثالثاً، وهذا لا اتجاه له.
والصحيح عندنا، أن المراد بهذا أن من ادّعى أن عليه ديناَّ-وإنما ذكر هذا لتسقط الزكاة- فالإمام لا يصدّقه في زكوات الأموال الظاهرة، وأما الأموال الباطنة، فالإمام لا يتولّى، أخذَها، فإذا علم الإنسان أن عليه ديناً، وقلنا: الدين يمنع تعلق الزكاة بالعين، فلا يلزمه إخراج الزكاة.
وهذا فيه نظر. فإن قلنا: إن الدين يمنع تعلق الزكاة، واعترف صاحب المال بدين، فالظاهر عندي تصديقه، كما يصدق في ادعاء انقطاع الحول، أو غيره، مما سبق تقريره، فإن المالك مؤتمن فيما يدّعيه من الممكنات، وهذا في الدين أظهر؛ فإن إقراره بالدين ثابت، وهو مطالب بموجبه.
فرع:
2140- إذا ملك نصاباً زكاتياً، وانعقد الحول عليه، فقال قبل انقضاء الحول: لله عليّ أن أتصدق بهذا، ثم حال الحول، ففي وجوب الزكاة فيه طريقان: من أئمتنا من قطع بأن الزكاة لا تجب قولاً واحداً، لأنه صار المال مستحقاً قبل دخول وقت الوجوب.
ومنهم من خرج الزكاة على القولين، وهذا يقرب مأخذه من مال المحجور عليه المفلس، من حيث إن من جعل ماله صدقة، انحسم التصرف عليه فيه.
والظاهر أن لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة، لا يبقى فيه حقيقة ملكه.
وكذلك لو كان يملك خَمساً من الإبل، فقال: جعلتها هدايا، ففي وجوب الزكاة التردد الذي ذكرناه، والظاهر أن لا وجوب. وقد ينقدح فرق بين أن يقول جعلته صدقة، وبين أن يقول: لله عليّ أن أتصدق به، فإذا عيّن، ولم يذكر عبارة في الالتزام، فهذه الصورة أولى، بأن يمتنع فيها وجوب الزكاة عند انقضاء الحول.
ولو كان له نصاب زكاتي، فقال مطلقاً: لله عليّ التصدق بأربعين شاة، وكان في ملكه أربعون، فحال الحول، وما كان عين المال في نذره، فإن قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فتجب الزكاة. وإن قلنا: الدين يمنع تعلقَ الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان: أصحهما- أن الزكاة تجب؛ فإن الوجوب بالنذر ضعيف، وهو مشابه للتبرعات، والناذر بالخيار في نذره، والزكاة وظيفة لله تعالى على عباده، فلا يؤثّر النذر فيما يجب شرعا وظيفةً للمساكين.
2141- ومما يتعلق بهذا أنه لو وجب الحج على إنسان، فوجوب الحج هل يكون ديناً مانعاً من وجوب الزكاة على قولنا الدين يمنع وجوبَ الزكاة؟ فيه وجهان، وسبب خروجهما أن دين الحج لا يتضيّق، ودين الزكاة لا يقبل التأخير، والمال ليس مقصودَ الحج، ثم دين الحج، ودين النذر يعتدلان عندي؛ إذ أحدهما يجب من غير اختيارٍ، ولكن ليس المال مقصوداً، والمنذور مقصودٌ في المالية، ولكنه يُدخله الناذر على نفسه متطوعاً.
فرع:
2142- إذا قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة، فإذا وجبت الزكاةُ، فمات قبل أدائها، واجتمعت الزكاة ودين الآدمي، فمن أئمتنا من قال: في تقديم الدين أو الزكاة ثلاثة أقوالٍ ستأتي مشروحة في الوصايا:
أحدها: أن دين الله أحق بالتقديم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دين الله أحق بالقضاء».
والثاني: أن دين الآدمي أحق بالتقديم اعتباراً باجتماع القصاص، وحق قطع السرقة؛ فإن القصاص مقدمٌ.
والثالث: أنهما يستويان؛ فإن الحق المالي الذي يضاف إلى الله، عائدته وفائدته ترجع إلى الآدميين أيضاًً، وهم يأخذونها وينتفعون بها. فيجب أن يستويا، وليس كالحد والقصاص؛ فإن الحد عقوبة مبناها على الدفع، والاندراء، ومن أصحابنا من قطع بتقديم الزكاة؛ فإنها متعلقة بالعين؛ فلتقدّم على الدين المطلق الذي لم يتعلّق بالعين في حياة من عليه الدين.
وكان شيخي يقطع بهذا ويخُصّ إجراءَ الأقوال بالكفارات الماليّة-التي لا تتعلق بالأموال-مع الديون المطلقة، ومن أجرى الأقوال في الزكاة بنى ما قاله على أن الغالب في الزكاة التعلُّق بالذمة.
فصل: مقصود هذا الفصل وجوب الزكاة في الديون
2143- فإذا ملك رجل ديناً بالغاً نصاباً على مليّ وفيّ، وكان الدين حالاًّ، فالوجه القطع بوجوب الزكاة إذا حال الحول، ويجب إخراج الزكاة عاجلاً، وقد حكى الزعفراني قولاً في القديم عن الشافعي أن الزكاة في الديون لا تجب أصلاً، وهذا بعيد في حكم المرجوع عنه.
والمقطوع به في الجديد وجوب الزكاة: ثم إن كان الدين مجحوداً وعليه بيّنة، فلا حكم للجحد، وإن كان من عليه الدين معسراً، فهو كالمال المغصوب، فأما الدين المؤجل، ففي بعض الطرق أنه غير مملوك عند بعض الأصحاب، فإذاً لا زكاة فيه.
وهذا وإن كان يُلفى مذكوراً في نقل المذهب، فهو مزيّف غير معتدّ به. وإن قلنا: هو مملوك، فقد اختلف الأئمة فيه: فقال بعضهم: هو بمثابة المال الغائب الذي يسهل إحضاره، ومنهم من جعله كالمجحود والمغصوب، من حيث إنه لا يتوصل إلى التصرف في المؤجل اختياراً. فإن قلنا: ليس كالمجحود، فهل يجب إخراج الزكاة عنه في الحال إذا وجبت؟
فعلى وجهين: والأصح عندي أنه لا يجب إخراج الزكاة؛ فإنه لو أخرج خمسة نقداً وماله مؤجل، لكان ذلك إجحافاً به، وما يساوي خمسةً نقداً يساوي ستةً نسيئة، ويستحيل أن نقنع بأربعة مثلاً، فالواجب في توقيف الشرع خمسة.
2144- ولا شك أنه لو أراد أن يُبرىء فقيراً عن دينٍ له عليه، فلا يقع ذلك عن الزكاة؛ فإن تأدية الزكاة من ضرورتها أن تتضمن تمليكاً محققاً.
فصل:
2145- من التقط لُقَطَة فكانت نصاباً، فإنه يعرّفها سنة، ثم له أن يتملكها في السنة الثانية، وإذا تملكها، كان بمثابة القرض، وفي ملك القرض قولان:
أحدهما: أن المستقرض يملك بنفس الإقراض.
والثاني: أنه إذا تصرف تصرفاً يستدعي الملك، فيتبيّن حصول الملك قُبيل التصرف.
فإذا مضت سنتان من وقت الضياع، ولم يتفق من الملتقط التملك في السنة الثانية، فعثر عليها المالك، ففي وجوب الزكاة عليه في السنة الأولى قولان تقدم ذكرهما، وهما القولان في الضال، والمغصوب، وفي وجوب الزكاة في السنة الثانية قولان مرتبان على القولين في السنة الأولى، وهذه السنة أولى بسقوط الزكاة من السنة الأولى؛ فإن الملك في هذه السنة معرضٌ للزوال؛ فإنه يتصور من الملتقط أن يتملك، ويده قاصرة عن ذلك في السنة الأولى.
وإن تملك الملتقط اللقطة في السنة الثانية، وقلنا: يملكها قبل التصرف، فإذا مضى حول كامل، فلا زكاة على صاحب اللقطة في اللقطة، فإن الملك قد زال، وهل تجب الزكاة على الملتقط المتملّك؟ هذا يخرج على أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين، أم لا؟ وقد مضى تفصيل ذلك على ما شرحناه، ثم صاحب اللقطة يستحق قيمتَها على الملتقط المتملك، ولكنها في حقه ملكٌ ضالٌّ إذا لم يكن عالماً بالملتقط، وقد سبق التفصيل في إيجاب الزكاة في الملك الضال.
فصل:
قال: "ولو أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً... إلى آخره".
2146- إذا أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً، وسلّم الدارَ وكانت الأجرة حالّة، فإذا مضت سنة، فالذي نقله المزني أنه لا يجب إلا إخراج زكاة ربع الأجرة.
والمسألة من أولها إلى آخرها مفروضة فيه، إذا كانت أُجَرُ السنين لا تتفاوت. فإذا مضت السنة الثانية، وجبت زكاة نصف الأجرة لسنتين، ويحط ما أدّاه في السنة الأولى، وهو زكاة رَيْع السنة. ويجب في السنة الثانية ثلاثةُ أرباع الأجرة لثلاث سنين، ونحط عنه زكاة النصف لسنتين، ونوجب الباقي. ويجب في انقضاء السنة الرابعة زكاة المائة والستين لأربع سنين، ونحط ما مضى من تأدية زكاة ثلاثة الأرباع لثلاث سنين. هذا ما نقله المزني.
ونقل غيره عن الشافعي إيجابَ الزكاة في تمام المائة والستين عقيب السنة الأولى، وهذا قياس المذهب.
وحقيقة الفصل يُتلقَّى من القول في ملك الأجرة، فظاهر المذهب أن المكري يملك الأجرة التامة بنفس العقد، ثم إن فُرض انفساخ العقد بسبب انهدام الدار، فينتقض الملك بعد ثبوته، وهذا التقدير لا يمنع ثبوت الزكاة.
ثم من سلك هذا المسلك وجّه القولين بما نصفه، فقال: إن قلنا: تجب زكاة المائة والستين، فوجهه ظاهر؛ فإن الملك ثابت، فإن فُرض فسخ، زال وانقطع، ولا يتبين أن الملك لم يكن ثابتاً قبلُ، فأشبه الصداق قبل المسيس، فإذا قَبضت الصداقَ، ومضى حَوْل، وجبت عليها الزكاة، في جميع الصداق، وإن كان ملكُها في الصداق عرضةً للتشطر، لو قدر طلاق الزوج.
ومن قال بما ذكره المزني نقلاً، حاول الفرقَ بين الصداق والأجرة، بأن الصداق إنما يتشطر بتصرفٍ من الزوج في ملكه، وليس ذلك رفعاً للعوض- تبعاً للعقد الموجِب للعوض- بالفسخ، وما يفرض من انفساخٍ، فهو معترض على أصل العقد.
2147- ومن أئمتنا من قال: القولان في تأدية الزكاة مأخوذان من الملك: فإن قلنا: تجب الزكاة في الكل دفعةً واحدة، عقيب السنة الأولى، فهذا جواب على أن الملك يحصل في الأجرة دفعة واحدة مع العقد، وهذا قاعدةُ المذهب والقياش.
والقول الثاني- أنه يؤدي الزكاة على التدريج الذي ذكره المزني، وهذا يبتنى على أنا لا نحكم بالملك في الأجرة دفعة واحدةً، ولكن نقف الأمر، فإن مضت المدة سالمةً عن اعتراض ما يوجب الانفساخ، تبيّنا بالأخرة أن الأجرة مُلكت عند العقد، وإن طرأ الانفساخُ بعد مضي ربع المدة، تبيّنا أنه لم يجر الملك إلا في ربع الأجرة، فقد حصل طريقان في الملك، فمن الأئمة من حصَّل الملك قولاً واحداً، وخرّج قول المزني على ضعف الملك، من حيث يتعرض للانفساخ.
ومنهم من قال: قول المزني خارج عن ابتناء أمر الأجرة على التبيّن عند طريان فاسخٍ أو استمرار سلامةٍ، وقد ذكر الصيدلاني الطريقين جميعاًً في الملك.
فرع:
2148- قال: "فإن غنموا، فلم يقسمه... إلى آخره".
القول في أن الغانمين إذا أحرزوا الغنائم، هل يملكون ما غنموه قبل القسمة، يأتي في كتاب السير، ولكن القدر الذي تَمَسُّ الحاجة إلى ذكره الآن: أن من أئمتنا من قال: لا يملكون، ولكنهم ملكوا أن يملكوا.
ومنهم من قال: ملكوا ملكاً ضعيفاً، ومن أعرض منهم عن حقه، سقط حقُّه، كما سيأتي.
وحظّ الزكاة من هذا الفصل: أنهم إذا غنموا أنصُباً زكاتية، فإن قلنا: لا يملكون قبل القسمة، فلو حال حول قبل القسمة، فلا زكاة فيها.
وإن قلنا: إنهم مالكون، فحاصل ما قاله الأئمة ثلاثةُ أوجه: أصحها-وهو المذهب- أن لا زكاة؛ فإن الملك إن ثبت، فهو في نهاية الضعف والوَهاء.
والثاني: أنه تجب الزكاة.
والثالث: إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي، ونحن نقدر أن يقع الزكاتيُّ خُمساً، ولا زكاة في الخمس، فلا زكاة أصلاً؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأجناس، على شرط التعديل، فيوقع الزكاتي في الخمس، وإن كان ذلك ممكناً مُقدّراً، فلا زكاة لضعف الملك، وانضمامِ هذا التقدير إلى ضعف الملك.
والذي قطع به أئمة المذهمب نفيُ الزكاة، وقد يمتزج بهذا الذي ذكرناه تفاصيلُ القول في الخلطة وهي بينة.