فصل: باب: البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار:

قال الشافعي: "ولو باع بيعاً صحيحاً على أنه بالخيار... إلى آخره".
2149- إذا جرى البيع في مال زكاتي بشرط الخيار، أو فرضنا الكلامَ في خيار المجلس، فاختلاف القول في أن الملك في زمان الخيار لمن؟ مذكور في كتاب البيع، ولا نَضْمن استقصاءَه هاهنا.
فنفرض البيع قبل وجوب الزكاة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فتم الحول في زمان الخيار، وجبت الزكاة، ثم يتفرع ما تقدّم، وهو البيع هل يبطل في قدر الزكاة؟ وإن بطل، فهل يتداعى إلى الباقي؟ هذا قد تقدم مشروحاً، مبيّناً على تعلق الزكاة بالعين، أو بالذمة، وعلى تفريق الصفقة، فلا نعيد ما مضى.
وإن حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فيبتدىء عقدُ الحول في حقه من وقت الشراء، والأولى فرض هذه المسائل في زكاة الثمار، حتى نفرض بدوّ الزهو في مدة الخيار، ونقول بحسبه: إن يُقدّر ذلك في الخيار، وقلنا: الملك للمشتري، وجبت الزكاة عليه. هذا ما قطع به الأئمة إلا صاحبَ التقريب؛ فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يُخرّج على قولين، لمكان ضعف ملكه، والعقد عرضة الفسخ، ثم قال: إذا كنا نخرج المسألة في المغصوب على قولين مع قرار الملك، لتعذر التصرف، فالتصرف يتعذر في زمان الخيار، والملك ضعيف، وقد مضت مسائل في ضعف الأملاك، وأوردنا فيما انتهينا إليه ما يليق به.
ونحن الآن نذكر كلاماً جامعاً في الأملاك إن شاء الله تعالى.
2150- من اشترى نصاباً زكاتياً، ولم يقبضه حتى انقضى الحول، فقد قدمنا فيه طرقاً للأصحاب، في أول الكتاب، عند ذكر المجحود والمغصوب: فمن الأصحاب من قطع بوجوب الزكاة، ومنهم من خرّجه على المغصوب لتعذر التصرف، قبل القبض، ومن قطع بالوجوب فصَّل بأن المشتري قادر على التوصّل إلى التصرف بأن يوفّي الثمن، أو يقبض دون التوفية، وحكى بعضُ الأصحاب القطع بأن لا زكاة؛ لأن المبيع ليس من ضمان المشتري، فهذه مرتبة في الملك.
ومما يلي هذا الكلامُ في الكراء العاجل، وقد تكلمنا عليه، فإن جرينا على الأصح، وهو أن الملك ثابت في الجميع، فإن طرأ انفساخ، انقطع من غير تبيّن، فالكراء المقبوض أولى بالزكاة من البيع؛ فإن التصرف نافذ فيه، وإنما فيه توقع الانفساخ. وإن قلنا: الملك في الأجرة موقوف، فالمبيع أولى بوجوب الزكاة؛ فإن الملك فيه متحقق، وهو عِمادُ الزكاة، والتصرف المجرد مع التوقف في الملك لا يؤكد الزكاة ووجوبَها.
2151- ومما يتعلق بالملك ملكُ المشتري في زمان الخيار، فالذي ذهب إليه الأئمة أنا إذا حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فهو ملك الزكاة، وإن كان يمتنع عليه معظم التصرفات، وإنما قالوا ذلك لأن الملك مصيره إلى اللزوم، والعقد معقود له، فكان الجواز في أوله محتملاً. وذكر صاحب التقريب في ذلك تردداً؛ من جهة امتناع التصرف أخذاً من المجحود والمغصوب.
وهذا منقاس. ولم يذكره غيره، ثم تردد فيه إذا كان الخيار مشروطاً لهما جميعاًً، أو للبائع. فأما إذا كان الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له، فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ فإن الملك ثابت، والتصرف نافذ، وتمكنه من رد الملك لا يوجب توهيناً، وكذلك إذا قلنا: الملك للبائع، وكان الخيار ثابتاً له، فملكه ملك الزكاة؛ فإن تصرفاته فسخ، وهو منفرد بالفسخ.
2152- ومن الأملاك التي يتعلق الكلام بها ملك الغانمين قبل القسمة، فإن قلنا: إنهم لا يملكون، فلا يثبت حكمُ الزكاة، وإن قلنا: إنهم يملكون، ففيه التفصيل الذي قدمناه، والأصح أن لا زكاة، والسبب فيه أن الملك في المغنم غير مقصود، وإنما يتحقق القصد عند القسمة، والغرض من الجهاد إعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله، ولما كان كذلك، انحط ملك الغانم قبل القسمة، عن ملك المشتري في زمان الخيار.
وينحط عن هذا الملك ما نصوّره: إذا أوصى رجل بثمار لإنسان، ومات الموصي، فأزهت الثمارُ بعد موته، وقبل قبول الموصى له، ففي أصحابنا من قال: الملك يكون للورثة إلى القبول، فإذا حصل الزهو، ثم القبول بعده، فالأصح الذي لا يسوغ غيره أن ملك الورثة لا يكون ملك الزكاة، ولا يلزمهم العشر، ولا زكاة فطر العبد الموصى به، في مثل هذه الصورة؛ فإن هذا الملك تقدير، اضطررنا إليه، لما لم نجد مالكاً متعيّناً في هذا الزمان، فلا حاصل لهم في هذا الملك، وهذا الذي ذكرته فيه إذا قدرنا هذا الملك، ثم قبل الموصى له الوصية، فأما إذا ردّ الوصيةَ، فيظهر وجوب الزكاة على الورثة، إذا كان الزهو بين موت الموصي وبين القبول؛ فإن الملك قد رُدّ، ثم تحقق، وفيه الخلاف الذي تكرر أمثاله في الأملاك الضعيفة، التي لا يثبت التصرف فيها.
2153- فهذه رتب في الأملاك: أعلاها المبيع قبل القبض، والقول في الأجرة منقسم، كما ذكرته، والصحيح أنها مملوكة، وهي أولى بالزكاة من المبيع، لأنها محل التصرف، ثم ينحط عنهما ملك المشتري في زمان الخيار، ثم يليه ملك الغانم قبل القسمة، ويتأخر عن الجميع الملك المقدر كما فرضناه.
2154- ثم من اشترى زوجته، وقلنا: إنه يملكها، فينفسخ النكاح بهذا الملك، وإن كان ضعيفاً وفاقاً؛ فإن سبب ارتفاع النكاح ما بين النكاح وملك اليمين من المضادة في وضع الشرع، وإن كان كذلك، فالمضادة تثبت مع الملك الضعيف، ولو قدرنا للوارث ملكاً في زوجته الأمة، وكانت موصى بها لإنسان، فهل ينفسخ النكاح بالملك المقدر؟ فيه وجهان.
فليتأمل الناظر منازل الأحكام.
والظاهر أنا إذا أثبتنا الملك للغانم، في زوجته قبل القسمة، حكمنا بانفساخ النكاح، وفيه خلاف ظاهر.
2155- ومن ملك من يعتِقُ عليه ملكاً ثابتاً عَتَق عليه، وإن اشتراه، وقلنا: الملك له في زمان الخيار-ففي عتقه عليه خلاف- إن قلنا: يجوز شرط الخيار في شراء من يعتق على المشتري. وفي حصول العتق في ملك الغنيمة كلامٌ وخلاف، ويبعد العتق ْفي الملك المقدّر كما صورناه، وفيه شيء.
فلينظر الناظر إلى هذه الأحكام في هذه المراتب، فأولاها بالنفوذ ما يبتنى على المضادة، كانفساخ النكاح، ويليه العتق لسلطانه، ويتأخر عنه أمر الزكاة التي نحن فيها.
2156- ومما يتصل بتمام الغرض أنا وإن ترددنا في أن الزكاة هل تجب بملك المشتري في زمان الخيار، فإذا فرّعنا على هذا القول، فينقطع لا محالة حول البائع؛ فإن زوال الملك إذا تحقق، قطع الحولَ، وإن لم يكن متأكداً.
فهذا منتهى الغرض في الأملاك، وما يتعلق بها في غرضنا.
فرع لابن الحداد:
2157- إذا مات رجل، وخلف نخيلاً مثمرة، وديوناً مستغرقة للتركة، ثم أزهت الثمارُ قبل صرف التركة إلى الديون، فمن أصحابنا من قال: الدين يمنع ثبوت الملك للورثة، فعلى هذا لا عشر عليهم، ولا يجب أيضاًً على الميت؛ فإنه لا يتعبد بعبادة بعد انقطاع التكليف عنه بالموت، ولا شك أنها لا تجب على الغرماء.
وإن جرينا على المذهب، وحكمنا بأن الملك يثبت للورثة في التركة، وإن كانت الديون مستغرِقةً لها، وقلنا: لا يمنع الدينُ الزكاةَ، فالتركة كالمرهون، وفيه الخلاف المقدم.
فإن قلنا: بوجوب الزكاة في المرهون، فمن أئمتنا من قال: إن حكمنا بأن الزكاة تتعلق بالعين، فهي مقدمة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فعلى ثلاثة أقوال: قال الشيخ أبو علي: الصحيح تقدم الزكاة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فإن لها تعلقاً على حالٍ بالعين، أقوى من تعلق الدين بالرهن. والدليل عليه أن من وجبت الزكاة في ماله، فتلف قبل الإمكان، سقطت الزكاة، ولو تلف الرهن، لم يسقط الدين، والدين يتعلق بالتركة أيضاًً تعلق استيثاق، فلا وجه لتقديم الزكاة؛ فإنها لا اختصاص لها بالعين، فالوجه التسوية عندي.
ثم الأقوال الثلاثة لا تخفى.
فإن لم يجد الوارث ما يخرج منه العشر، أخرج العشر لا محالة من ثمار التركة، ثم إذا وجد الوارث بعد هذا ما يفي بمقدار الزكاة، فهل يلزمه أن يغرم للغرماء ذلك القدرَ؟ ذكر وجهين:
أحدهما: أنه يجب ذلك؛ فإن العشر إنما وجب على الوارث، وهو المخاطب بها، والتركة مستحقة للغرماء. قال: هذا هو الأصح.
ومن أئمتنا من قال: لا يجب على الوارث أن يجبر ذلك؛ فإنه لم يفرط فيه، وإنما وجبت الزكاة بإيجاب الله تعالى، ثم أُخذت من المال، فكانت بمثابة المؤنة في المال، ولا خلاف أن نفقة التركة من وَسَطها، إلى أن يتفق صرفُها إلى الغرماء، فإن كانت النفقة تجب على المالك، فلتكن الزكاة كذلك.
ومن قال بالوجه الأول الذي صححه الشيخ، انفصل عن النفقة بأن قال: الزكاة عبادة مقصودة، وجبت فيه، وخُوطِبَ الوارث بها، والنفقة ليس لها تعلق بالذمة على التحقيق، فأخذت من التركة، وهذا إذا كان الوارث لا يجد ما يؤدي العشرَ منه، فأما إذا وجد ما يُخرج العشرَ منه، فإن قلنا: لو لم يجد الوارث شيئاً، ثم وجد، جبر ما أخرج من التركة، فإذا كان واجداً، لزمه الإخراج منه، وتخليص التركة. وإن قلنا: لا يجب الجبران في الصورة الأولى، فلا تجب تأدية الزكاة في هذه الصورة على الوارث، وإن كان غنيّاً كالنفقة.
فرع آخر لابن الحداد:
2158- إذا اشترى رجل شقصاً فيه الشفعة على نية التجارة بعشرين ديناراً، ثم لم يتفق أخذه بالشفعة، حتى مضى حولٌ، وبلغت قيمة الدار مائةً، قال ابن الحداد: يؤدي المشتري الزكاةَ عن مائةِ دينارٍ، والشفيع يأخذ الدار بعشرين ديناراً، والسبب فيه أن ملكه استمر سنة، وأمر الزكاة منقطع عن أمر الشفعة، فجرى كل حكم على مقتضاه.
والقياس ما قاله الشيخ أبو علي: من أئمتنا من خرج قولاً في نفي الزكاة لتعرض ملك المشتري للزوال والقطع، ولو تصرف في الدار، فتصرّفه بصدد النقض من جهة الشفيع، وليس كالصداق؛ فإن تصرفات المرأة لا تُنْقَضُ في شيء من الصداق، إذا طلقت قبل المسيس، وقد كانت وهبت وسلَّمت، أو باعت.
وهذا الذي ذكره إن كان يتجه تفريعه، فالوجه أن يستثنى منه مقدار عشرين ديناراً؛ فإن ملكه إن كان يعترض عليه، فيُبذل له في مقابلته عشرون، وعين المال غيرُ مقصودٍ في زكاة التجارة، وإنما المقصود المالية، والمالية دائمة في مقدار العشرين.
وقد يجوز أن يقال في العشرين: إنها وإن كانت قائمة، فتحكُّم المالك مختل فيها أيضاً. وإنما تتحقق التجارة من متحكم مختار، أما الدار، فتصرفه فيها منقوض، والعشرون لا يملك التصرف فيه، قبل قبضه من الشفيع، وهذا تكلُّفٌ، والوجه ما ذكرته من إبقاء الزكاة في العشرين؛ لتحقق المالية على الاستمرار في ذلك المقدار.
ثم ذكر الشيخ في التفريع على ما ذكره ابن الحداد وجهاً، وذلك أن المشتري يقول: قد وجبت الزكاة في مالية الدار، فتَخرج الزكاة منها، ثم يكون ذلك بمثابة نقصان في صفة الشقص المبيع، فالشفيع يأخذه إن أراد بعد الزكاة، بتمام العشرين كما لو نقص الشقص بآفة سماوية، وهذا خرجه على الأصل الذي ذكرناه في الفرع المتقدم على هذا، وهو أن العشر إذا أُخرج من التركة، فالوارث لا يجبره، وتكون الزكاة كالمؤنة والنفقة.
وهذا الوجه في هذه المسألة ضعيف عندي؛ فإنه إن اتجه في تلك المسألة ما تقدم؛ من جهة أن الورثة لم ينتسبوا إلى شيء لأجله وجب العشر في الثمار، والمشتري لما قصد التجارة، فسبب وجوب الزكاة قصدُه، فحَسْبُ نقصان الزكاة التي وجبت بسبب قصده على الشفيع بعيدٌ، وقد نجز غرض الفرع.
فرع:
قال في الكبير: "لو باع ثمرةً قبل بدو الصلاح... إلى آخره".
2159- نقل الصيدلاني هذا النص عن الكبير، ونحن نصوّر موضعَ النص أولاً، ثم نستوعب تفصيل المذهب فيه.
إذا أثمرت نخيلُ إنسانٍ، فباع الثمار قبل بدوّ الصلاح، مطلقاً؛ من غير شرط القطع، فالبيع باطل عندنا، والثمار باقية على ملك البائع، فإذا بدا الصلاح في يد المشتري، فيده ليست يد استحقاق، والعشر يتعلق بعين الثمار-على ما تقدم تفصيل التعلق- والبائع متعبد؛ فإنه المالك، والبيع فاسد، فلو أتلف المشتري الثمارَ، ثم أفلس البائع، وحجر عليه، وأحاطت الديون به، فقد تقدم في باب الثمار اختلافُ القول في أن الخرص حيث يجري- عبرةٌ أو تضمين، ثم ذكرنا أنا إذا جعلناه عبرة، فإذا أتلف الثمارَ، فحق المساكين في الرطب، وإن جعلناه تضميناً، فحقهم بعد الخرص في التمر. وإن بدا الصلاح ودخل وقت الخرص، ولم يتفق الخرص فأتلفت الثمار-والتفريع على قول التضمين- ففيما يجب وجهان:
أحدهما: على المتلف المالك التمر الجاف، ودخول وقت الخرص كالخرص.
والثاني: أنه لا يجب التمر ما لم يجر الخرص، ونص الشافعي في الكبير يدل على أن وقت الخرص بمثابة الخرص، في إيجاب العشر.
2160- ثم إذا تجدد العهدُ بمواضع الخلاف في ذلك، فنقول: إذا أفلس البائع والديون عليه، والزكاة من جملة الحقوق الواجبة عليه، فإن قلنا: الواجب عشر الثمر رطباً، فيغرم الرطب، أم قيمته نقداً؟ هذا ما تقدم ذكره، تخريجاً على أن الرطب من ذوات الأمثال أم لا، والجريان على أنه مضمون بالقيمة، فقيمة العشر ثابتة في ديونه، ثم يخرج الآن ما قدمناه، من أنه إذا اجتمع دين الله، وديون الآدميين، فما المقدم؟ ففي قولٍ يقدم حقُّ الله تعالى، وفي قولٍ يقدم حق الآدمي، وفي قولٍ لا تقديم، ولا تأخير، وتثبت الديون فوضى على التضارب في ماله، وإن ضاق المال أخذ كلٌّ ما يخصه، ومسألة الشافعي في الكبير مفروضة فيه إذا أتلف المشتري الثمار في البيع الفاسد، فالقيمة المأخوذة منه تتعلق بها الزكاة، حسب تعلقها بالعين في بقاء العين، والتفريع على الأصح: وهو أن من وجبت عليه الزكاة، فمات، وخلف ذلك المال، وأحاطت الديون، فالوجه تقديم الزكاة، كما نُقدِّم ديناً متعلِّقاً بالرهن على الديون المرسلة في مرتبةٍ واحدة. ثم قال الشافعي في الصورة التي ذكرناها: إذا ْأفلس البائع، وقد كان أتلف المشتري الثمار-على حكم الفساد- فتؤخذ القيمةُ من المشتري المتلِف، وهي مائة درهم مثلاً، ثم يصرف عُشرها-وهو عشرة- إلى مستحقي الزكاة يقدَّمون بها، وكان قيمة نصيب المساكين تمراً يساوي عشرين، قال: فهم مقدّمون بالعشرة التي تقدمت، ويضاربون الغرماء بعشرةٍ أخرى إلى تمام قيمة العُشر تمراً، وهذا فرَّعه على أن الخرص تضمين، ثم فرعه على أن دخول وقت الخرص يفيد ما يفيده جريان الخرص على حقيقته، ولهذا أوجب التمرَ، واعتبر قيمته، ولم يعتبر قيمة الرطب، ثم وجد العُشر من قيمة الرطب متعلِّقاً بالقيمة التي غرمها المشتري، والباقي إلى تمام قيمة التمر يُصادف الذمة، فتضارب سائرَ الديون.
هذا نص الشافعي، والذي ذكره منقاسٌ على قول الخرص.
2161- وتمام البيان: أنا إن قدمنا حق الله تعالى، وإن كان مرسلاً، فنقدم العشرين، وإن رأينا تقديم الزكاة لكونها متعلقة بالعين، فإذا غلَّبنا تعلق الزكاة بالذمة، فهو وجه بعيد، فعلى هذا تقع المضاربة بالجميع، من غير تقديم في شيء. وقد يخرج عليه تقديم حقوق الآدميين، تفريعاً على تقديم ديونهم. وإن قدمنا ما نراه متعلّقاً بالعين، فقد يتجه فيه أن ثمن التمر بكماله متعلِّق بقيمة الرطب، كما تتعلق الشاة بخمسٍ من الإبل، وإن اختلف الجنس، ولا وجه إلا ما ذكره الشافعي؛ لم يحد عن القياس الظاهر، إلا أن القول قد يعتدل بين مذهب العِبرة والتضمين، ثم على قول العِبرة لا يجب إلا عشرة، وهي مقدّمة على قياس النص، وعلى قول التضمين التقديم بعُشر قيمة الرطب، وإن كان الضمان في قيمة التمر، وهذا لطيفٌ في مأخذه جداً.
فصل:
قال الشافعي: "ولو اشتراها قبل بدو الصلاح على أن يجُدَّها... إلى آخره".
2162- هذه الصورة مصوّرة في بيع يصح، وبيانها أن يشتري الثمارَ قبل بدوّ الصلاح، على شرط القطع، فيصح البيع، فلو لم يتفق القطع وفاء بالشرط، حتى بدا الصلاح، فالزكاة تجب لا محالة، وإن وجبت، فالقطع يُبطل حق المساكين من الثمر المتوقع، ثم إذا أبقينا الثمار، كان ذلك خروجاً عن الشرط المستحق في العقد، فيعسرُ الأمرُ في ذلك قطعاً وإبقاء.
2163- فأول ما نصفه في ذلك اختلاف القول في أن الفسخ هل يثبت أم لا؟ فعلى قولين:
أحدهما: أن الفسخ يثبت؛ فإن العقد تعذر إمضاؤه لما تقّدم، وكل عقد يتعذر إمضاؤه، فيثبت فيه الفسخ.
والثاني: لا يفسخ؛ لأن سبب التعذر طارىء فيه، بعد لزوم العقد، وتسليم الثمن إلى المشتري.
فإن قلنا يثبت الفسخ، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن العقد ينفسخ كما بدا الزهو، من غير حاجةٍ إلى إنشاء فسخ؛ فإن هذا سبب التعذر، فنفسه يوجب الانفساخ، وهذا القول سيأتي في كتاب البيع، في أن من اشترى حنطة، فانثالت على حنطة أخرى قبل التسليم، فنقول: في قولٍ نفسُ هذا يوجب انفساخ البيع، والأصح أن العقد لا ينفسخ، ولكن للبائع حق الفسخ فيه، فإن اختاره، نفذ، وإلا ْبقي العقد، ثم إن حكمنا بالفسخ، أو الانفساخ، فالتفريع: إن قلنا بالانفساخ، نفذ الفسخ، وارتفع العقد، سواء رضي المتعاقدان بتبقية الثمار، أو طلب البائع الوفاء بالقطع؛ فإن الانفساخ متعلق بصورة الحال، لا يتوقف على تراضيهما، واختلافهما، وإن أثبتنا حق الفسخ، فنقول: إن طلب البائع، فحق الفسخ يثبت لتعارض حق المساكين وحق الوفاء بالشرط، وإن رضي البائع والمشتري بالتبقية، بقّينا الثمار إلى الجِداد، ولا يفسخ البائع ولا المشتري، وإن رضي البائع بالتبقية، وأبى المشتري إلا الوفاء بالشرط، ففي المسألة قولان. أصحهما- أن لا فسخ، وتبقى الثمار؛ فإن الحق في تخلية الأشجار والوفاء بالقطع للبائع، فإذا ترك حقَّ نفسه، كفى ذلك، ولم يكن للمشتري عذر في طلب القطع.
والقول الثاني- أن طلبه ثابت؛ فإنه يقول قد استحقت القطع شرطاً، فلا أقبل من البائع تركَ الثمار، وربما يكون للمشتري غرض ظاهر في القطع، والوفاءِ بشرطه الذي جرى في طلب القطع.
ثم إن حكمنا بالانفساخ أو أثبتنا للبائع حقَّ الفسخ، ففسخ، فالزكاة في الثمار على من؟ فعلى قولين: أقيسهما- أن الزكاة تجب على المشتري؛ فإن بَدْوَ الزهو كان في ملكه، والفسخ لا يرفع العقدَ من أصله تبيناً وإسناداً إلى ما تقدم، ولكنه يقطع العقد في الحال.
والقول الثاني- أن العشر يجب على البائع؛ فإن ملكه وإن زال، فسبب العَوْد إليه إنما يمتنع من قطع الثمار، لما فيه من إبطال حق المساكين. ولو قلنا: يفسخ، فالزكاة في الثمار باقيةٌ، فلزم منه أن تبقى الثمار بسبب الزكاة، بعد الفسخ، وكل ما أثبت حقَّ الفسخ من جهة التعذر، فينبغي أن يرتفع بسبب الفسخ، فكأن الملك لم يزل، فرفعناه رفعاً على هذا التقدير، وأوجبنا العشر على البائع، وجعلنا كأنه لم يبع، وقد بدا الصلاح في ملكه، وهذه المسألة لا تبين إلا عند النَّجاز منها؛ فإن الأصل فيها والتفريع عليه يلتف أحدهما بالآخر التفافاً يعسر فيه التفصيل.
وهذا منتهى غرضنا الآن، في أنه يتطرق الفسخ إلى العقد.
2164- وفي المسألة قول آخر أن: لا فسخَ، ولا انفساخَ، ولكن إن طلب البائع القطعَ، قطعت الثمار، وإن قيل: هذا يؤدي إلى أن تنقص حقوق المساكين، قلنا في جوابه: الثمرةُ إذا مُلكت على قضية الشرط، فحق المساكين يثبت فيها على جريان القطع؛ إذْ شرطُ القطع متقدم على وجوب الزكاة، ثم الشرط ثبت على الصحة، ثبوتاً شرعياً، ونحن قد نقطع الثمار بعد وجوب العشر لحاجةٍ داعيةٍ إليه، مثل أن يخاف أن يضرّ بالنخيل إذا قل الماء، فإن قلنا: يقطع الثمار، فقد نقول: لا يُخرِج حق المساكين من عين الثمار؛ فإن قسمة الرطب ممتنعة، وقد تقدم نظيرُ هذا في قطع الثمار، بسبب عطش الأشجار، فعلى هذا يُخرج عشر قيمة هذه الثمار إذا قطعها، وإن جوزنا قسمة الثمار، فيسلم عشر الثمار التي قطعها إلى المساكين، ثم نقول عند ذلك: إذا قلنا: الخرص عِبرة، أو الخرص إذا جرى تضمين، فلا يجب ضمان التمر قبل جريانه، فالجواب ما ذكرناه.
وإن قلنا على قول التضمين: نفسُ بدو الصلاح يضمّنه التمر، فالذي يظهر في هذه الصورة أنه لا يضمن التَّمْرَ، وإن فرعنا على الوجه الذي ذكرناه، والسبب فيه أن عين بدو الصلاح إنما يُضَمِّن التَّمْرَ إذا كان إبقاءُ الثمر ممكناً. فأما إذا أوجبنا القطعَ على القول الذي فرعنا عليه، فيبعد أن يضمَّن التَّمرَ، ثم نمنعه من تصييره تمراً، فليتأمل الناظر ما يمر به.
2165- ومن بقية الكلام في المسألة: أنا إذا قلنا: ينفسخ العقد أو يفسخ، وجرينا على الأقيس: أن الزكاة تجب على المشتري، فلا نقول: نكلِّف المشتري القطعَ بعد الفسخ، ونُلزمه ما ذكرناه من بذل عشر الثمار، أو عشر قيمتها؛ فإنا لو كنا نسلك هذا المسلك، لأوجبنا الوفاء بشرط القطع، ولم نفسخ العقد، والوجه أن تَبَقِّي الثمار وتبقيةَ عشرها محال؛ فإن الأمر في ذلك قد لا ينقسم، والجملة في ذلك أنا لا نكلف المشتري بعد الفسخ قطعَ جميع الثمار؛ إذ لو كنا نكلفه ذلك، لكلفناه القطعَ وفاءً بالشرط حتى لا يحتاج إلى الفسخ، فإذا فسخنا، فينبغي ألا نعتقد جريان الأمر على حكم القطع في الجميع، ولكن القول في ذلك يخرج على أن الثمار هل تقسَّم، فإن قلنا: لا تقسم، فلابد من تبقية جميع الثمار، وإن قلنا: إنها تقبل القسمة لو كانت موضوعة على الأرض، فهل نجري القسمة فيها بالخرص؟ فعلى وجهين ذكرناهما فيما تقدم، فلو منعنا القسمة، وهو الأصح، فلو قيل لنا: سبب ثبوت الفسخ إذاً ماذا؟ وأي فائدة في تنفيذه، والثمار تبقى قهراً، وإن لم يرض تبقيتَها البائع؟ قلنا: أما الفائدة، فرجوع تسعة الأعشار إلى ملكه، حتى يزيد في ملكه زيادةً ظاهرة، فكأنا لما تعذر الوفاء بالشرط، لم نرض أن تزيد الثمار للمشتري بسبب التبقية.
ثم نقول: إن أخرج المشتري حقّ المساكين من موضع آخر، والتفريع على أن المساكين لا يستحقون شِركاً من الثمار فيرتدّ جميع الثمار إلى البائع، وإن أخذ الساعي العشرَ من عين الثمار، فلا شك أن البائع يرجع بمقدار الزكاة على المشتري؛ فإن الزكاة وجبت عليه دون البائع.
فهذا كله على قول منع القسمة، وتبقية الجميع، فإن جوّزنا القسمةَ خَرْصاً سلّطنا البائع على مراده في تسعة الأعشار، وبقَّينا حقَّ المساكين في العشر، ثم يأتي في حق المساكين الخرص والتسليط بسببه على التصرف، إن جعلنا الخرصَ تضميناً، كما قدّمناه في الثمار المملوكة، التي لا تتعلق تبقيتُها بمناقضة شرط.
2166- ومن لطيف القول في ذلك: أنا إذا حكمنا بالانفساخ، فهذا يقع من غير نظر إلى التراضي من المتعاقدين وإلى الاختلاف بينهما، وإن أثبتنا الفسخَ، فلو رضي المتعاقدان، بقيت الثمار، ولو أبى البائع، أثبتنا الفسخ ولو رضي البائع وأبى المشتري، فقولان مضى ذكرهما.
وإن جرينا على الصحيح وهو أن البائع إذا رضي، لم يكن للمشتري حق الفسخ، فلو رضي البائع، ثم بدا له أن يطالب بالقطع، فإن فرّعنا على أن المشتري يكلف القطعَ، ولا يثبت الفسخ، فإذا رضي بالتبقية، ثم رجع، فله أن يكلفه القطع، ويكون هذا بمثابة ما لو رضيت المرأة بالمقام تحت زوجها المَوْلى، ثم بدا لها، فلها المطالبة مهما أرادت.
فأما إذا قلنا: لا يكلف المشتري القطعَ، ولكن يثبت حق الفسخ للبائع، فهذا سببه أن القطعَ متعذر، فإذا رضي بالتبقية، فلو قيل: هذا إسقاط منه لخياره في الفسخ، فلا يعود حقه، كمن اشترى شيئاً لم يره، ثم رآه ورضي به، فلا يعود خياره، وإن لم يرض بعيب. ويجوز أن يقال: سبب خياره ثبوت حق القطع ساعة فساعة، مع تعذر الوفاء به، وهذا يتجدد، فلا يسقط الخيار بالكليّة.
2167- وهذا تمام المسألة، ولن يقف الناظر على حقيقتها، ما لم يُحط بجميع أطرافها، فهذا تمام القول في هذا، وقد مهدنا فيه ما يرشد إلى بيان ما نورده متصلاً به. إن شاء الله عز وجل
فصل:
قال: "ولو باع المصدّق شيئاً، فعليه أن يأتي بمثله... إلى آخره".
2168- مقصود الفصل أن الساعي إذا جمع الزكوات، فليس له أن يبيع أعيان ما أخذ، بل يوصلها إلى مستحقيها. والقاعدة المعتمدة في ذلك أن المالك لا يُخرج أبدال المنصوصات، بل يتيعن عليه المنصوص، وهذا التعبد يجب اتباعه، وهذا المعنى يتحقق في حق الساعي، فإذا لم نُجِز للمالك أن يُخرج ورِقاً عن ذهب في الأموال الباطنة، فهذا مرعي في حق الساعي، ولو ظهرت حاجةٌ في حق الساعي، مثل أن علم المؤنة ستثقل عليه في سَوْق ما جمعه من النَّعم، فله البيع، وكذلك لو لم تكن الطرق آهلة، فيبيع.
ولو لم تظهر حاجة من الجهة التي ذكرناها، ولكن كانت الغبطة في البيع، وظهرت غبطة، يجوز للقيم بيعُ عقار الطفل بمثلها، فليس للساعي البيعُ بسبب الغبطة، كما ليس للمالك أن يرعى غبطة المساكين، ويصرف إليهم الأبدال عن المنصوصات، لمكان الغبطة، حتى لو صرفَ إليهم خمسةَ دنانير، بدل خمسة دراهم، لم يجز ذلك، ولو علق الإنسان نظره، بأن الإمامَ لو رضي بذلك، ورآه رأياً، فهذا من اتباع اجتهاده.
وإذا رأى الإمام الجريان على مذهب أبي حنيفة في مجتهدٍ فيه، فحكمه متبع، وليس هذا من غرضنا في المسألة.
2169- ولو وجبت الزكاة، وقلنا: المالك يتولّى تفرقة الزكاة، فعدِمَ المستحِقَّ في موضعه، وقلنا: عليه والحالة هذه أن ينقل الصدقة إلى بلدة فيها مستحقون، فإن كانت المسافة بعيدةً، واحتاج إلى مؤنةٍ في سوق النَّعَم، أو كان في الطريق خطر، فإن ركب الخطرَ، فتلف ما أخرجه، فهو عليه؛ فإن المخرج لا يصير زكاةً ما لم يصل إلى المستحقين، وليس له أن يُنفق على ما يسوقه، ثم يحسبه من الزكاة. والساعي قد يجوز له أن ينفق على الزكاة المأخوذة على حسب الحاجة من عين الزكاة. والسبب فيه أن ما انتهى إلى يد الساعي، فهو زكاة، وما يفرّقه من المال ليس بزكاة ما دام في يده.
والغرض من هذا أنه إذا كان المالك يحتاج إلى بذل مؤنة في النقل، أو ركوبِ غرر، ولو أخرج بدلاً، لم يكن واحد منهما، ففي إخراج البدل تردد في مثل هذه الصورة، قد تمهد أصله في إخراج الأبدال.
والقول فيما ينقله ويلتزمه من المؤنة يأتي مستقصىً في نقل الصدقات. إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "وأكره للرجل شراء صدقته... إلى آخره".
2170- إذا تصدق الرجل بشيء مؤدياً فرضاً، أو متبرعاً، ثم رأى ذلك الرجل أن يبيع ذلك الشيء، فيكره للرجل المتصدّق أن يشتريه؛ لأن آخذه قد يسامح المتصدّق، فيكون في حكم الراجع في شيءٍ من صدقته. ولو اشترى، صحَّ. وكان عمر رضي الله عنه حمل رجلاً على فرسٍ في سبيل الله، فرآه يبيعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تعد في صدقتك». ولو وكل وكيلاً حتى يشتريه، فإن كان يعلم أن الوكيل نائبه، فالجواب في كراهيته كما تقدم، وإن كان وكيله مجهولاً، فالكراهية أخف، ولكن لا يؤثر ذلك، ويمكن أن يقال: هذا القسم لا يلتحق بالكراهية، بل هو من باب الأولى.