فصل: باب: مكيلة زكاة الفطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: مكيلة زكاة الفطر:

قال: "وأي قوتٍ كان الأغلب... إلى آخره".
2255- مضمون الباب يحصره فصلان:
أحدهما: في الجنس المخرج في الفطرة، فالرجوع فيه إلى الخبر، وقد استوعب الخبر معظم الأجناس، فإن شذ شيء، فهو في معنى المنصوص عليه.
والضابط أن المجزىء ثمرٌ وحَب، أما الثمر، فالتمر، والزبيب. والحبّ كل مستنبت مقتات في الرفاهية، وقد ضبطت ذلك على أبلغ وجه في باب المعشَّرات، وإن أحببنا قلنا: يجزىء في الفطرة كل معشَّر. هذا هو المذهب.
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أو صاعاً من أَقِط»، وليست هذه الرواية على الحد المرتضى في الصحة عند الشافعي، وليست على حد التزييف عنده، وإذا اتفق ذلك، تردد قوله، فهذا منشأ اختلاف القول، ثم ألحق الأئمة بالأقِط الجبنَ واللبنَ نفسَه؛ فإنه أولى معتبر فيما يعتمد للاقتيات وأما السمن، فلا؛ فإنه ليس قوتاً، وكذلك المَصْل، وإنما القوت اللبن، أو ما ينعقد منه، من غير تفصيل، فالمصل مخيض، والسمن أحد جزئي اللبن، والاقتيات يحصل عند اجتماعهما خلقة.
وذكر العراقيون قولين في اللحم، وهذا فيه بعدٌ؛ فإن الإلحاق بالأقِط فيما قدمناه يقرب من إلحاق الشيء بالشيء إذا كان في معناه، أو يتصل بالتشبيه الظاهر، واللحم بعيد، ولكن كأنهم اعتقدوا الأقِط أصلاً للنص فيه، وترقَّوْا منه إلى اللبن؛ لأنه يقوت، ثم قالوا: إنما يقوت من حيث إنه عصارة اللحم؛ فارتقَوْا منه إلى اللحم.
فهذا إجمال القول الكلي فيما يجري في الأجناس.
2256- والكلام بعد ذلك في الأشخاص والبلاد:
أولاً- ذكر بعضُ أصحابنا قولاً مطلقاً: إنه يجزىء الصاع من كل جنس من هذه الأجناس، من كل شخص في كل حالٍ، وهؤلاء تمسكوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «صاعاً من تمر أو صاعاً من بر أو صاعاً من شعير»، وأظهر معاني (أو) التخيير، وهذا غير سديد؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُورده مخيراً، وإنما أراد الإشارة إلى معظم الأجناس في أحوالٍ مختلفة، وهذا يضاهي قولَه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: 33].
فلا عود إلى هذا القول.
والمذهب المبتوت أن القول في إجزاء هذه الأجناس يختلف باختلاف الأحوال.
ثم اختلف أئمتنا فيما حكاه العراقيون من المعتبر في ذلك، فقال بعضهم:
المعتبر القوت الغالب في البلد، حتى لو عم البرُّ لم يجزه غيرُه. وإن كان في البلد من يليق به اقتيات الشعير. وإن عم الشعير أجزأه، عن الكافة، وإن كان يليق بالأغنياء أن يقتاتوا البر، فهو أوجه.
ومن أصحابنا من قال: يُخرج كل واحد ما يليق بمنصبه في الاقتيات، فعلى هذا لا نظر إلى ما يعم في البلد، وإنما النظر إلى ما يليق بحال كل شخص.
2257- التوجيه: من اعتبر حالَ كل شخص، فوجهه أن عموم أمر لا يليق بحال الشخص لا يغير منصبه، وكما يعتبر وِجدانه وفِقدانُه الفاضل مِن القوت، فينبغي أن يُعتبر ما يختص بحاله.
ومن اعتبر القوت الغالب رأى النظر في تفاصيل أحوال الناس بعيداً، والأحوال تحول، ومراتب الناس تتبدل وتزول، فالوجه أن يلحق هذا بقاعدةٍ كلية جسيمة، لا يُعرَّج فيها على التفاصيل، ولا يعدَم الناظر أمثلة ذلك.
التفريع:
2258- إذا أوجبنا جنساً وأخرج جنساً أعلى منه، قُبل، لا شك فيه.
وإن أخرج جنساً أدنى مما وظفناه عليه، لم نقبله منه. وكان شيخي يرى البرّ أعلى الأجناس، ويقول: إن اكتفينا بالرز في موضع، أجزأ البر فيه، وإن كانت قيمة الرز أكثر، فلا نظر إلى القيم، وإنما النظر إلى شرف القوت، وقد تغلو قيمةُ الشعير بسببٍ، ولا يقوم مقام البر، وإن كانت قيمةُ البر دون قيمته. والبر أعلى من التمر والزبيب، والتمر والزبيب كان يتردد فيهما، ولعل الأشبه تقديمُ التمر. والتمر والزبيب إذا أضيفا إلى الشعير، فالأمر فيه متردد، أما التمر فكان يقدمه على الشعير، ويتردد في الزبيب والشعير.
فإن فرض استواء قوتين، والتفريع على اتباع القوت الغالب في البلد، تعيّن الغالب؛ لاختصاصه بما هو المعتبر في الباب.
ولو اعتبرنا كل شخص بنفسه، وكان يليق بمنصب الواجد، البرُّ، غير أنه كان يجتزىء بالشعير، لم يجزئه إلا البر. ولو كان يليق به الشعير، غير أنه كان لا يجتزىء بالشعير ويتنعم باقتيات البر، فأراد أن يخرج الشعير، فهل يجزئه ذلك؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يجزئه؛ نظراً إلى ما يعتاده، ولعل الأصح أنه يجزئه الشعير؛ فإن المتعة المعتبرةَ بحال الزوج وغناه، لا تعتبر بتخرّقه في السخاء، وإنما يعتبر ما يليق بحاله وبماله.
ولو أخرج نصف صاع من شعير، حيث يجزىء الشعير، ونصفَ صاع من بُر، فالمذهب أنه لا يجزئه؛ فإن النصوص متبعة، والتبعيض في الجنس يخالفها. فلو قال قائل: لو أخرجت البقية شعيراً، قبلتموه، فاقبلوا أعلى الجنسين. قلنا: لا مبالاة بهذا مع بناء المذهب على الاتباع، ومصيرِنا إلى أن ديناراً لا يقوم مقام درهم. وأبعد بعضُ الأصحاب، فحكم بالإجزاء، وهذا غير معدود من المذهب.
ولو استوى جنسان، امتنع التبعيض، بلا خلاف، وإنما الخيال الذي قدمته فيه إذا كان يجزىء الأدنى، ويقبل الأعلى، فإذا جرى التبعيض بينهما، ففيه ما قدمناه. ثم لا مَدْخل للأبدال كما تمهد في أصول الزكوات.
2259- ولا يُجزىء مُسوّس معيب، وإذا حكمنا بإجزاء الأَقِط، فلا يجزىء المملّح الذي يظهر الملح عليه، لأن الملح غيرُ مجزىء، وهو ينقص من مكيلة الأقِط، فإن أخرج مقداراً زائداً، وكانت الزيادة تقابل مقدارَ الملح، فلا يجزىء أيضاًً؛ لأن جوهر الأقِط قد فسد بالملح، وإن كان التمليح غير مفسد، فالأقِط مجزىء، على شرط مراعاة القدر في مكيلة الأقِط. والرجوع في ذلك إلى أهله.
ولا يجزىء الدقيق، وهو في حكم البدل، وذكر بعضُ أصحابنا في الدقيق قولينْ، أخذاً من الأقِط المضاف إلى اللبن، حكاه العراقيون، وهذا مزيف، لا أصل له.
هذا قولنا في الأجناس.
2260- فأما المقدار، فصاع من كل جنس، والصاع أربعة أمداد، والمُدّ رطل وثلث بالبغدادي.
فرع:
2261- إذا كان بين رجلين عبد، فعليهما إخراج الفطرة عنه، فإن قُلنا الرجوع إلى القوت الغالب في البلد، فالمخرج من جنسه، ولا يختلف باختلاف أحوال الشريكين، وإن اعتبرنا كلَّ إنسان بنفسه، وكان قوت أحدهما شعيراً وقوت الآخر برّاً، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن كل واحد منهما يُخرج نصف صاع من قوته، ولا يضر الاختلاف، فيُخرج هذا نصف صاع من شعير، وهذا نصف صاع من بر، وهو اختيار ابن الحداد، وأبي إسحاق المروزي، ووجهه أن كل واحد في نصفه بمثابة مالك عبد تام؛ فاعتبر حال كل واحد، ومن أصحابنا من منع هذا، وهو اختيار ابن سريج، نظراً لاتحاد العبد.
وإنما كان يتجه اعتبار كل واحد لو كان مُخرَجه صاعاً كاملاً، فإذا لم يكن كذلك؛ فيجب أن ننزلهما منزلة شخص واحد، فإن جوزنا التبعيض، فلا كلام، وإن منعناه، لم نقل لمن قوته البر أن يخرج الشعير موافقةً لمن قوته الشعير، بل على من قوته الشعير أن يخرج نصف صاع من بر، ولا وجه له غيره، وإن كان يجر إجحافاً، وبهذا يتجه ما اختاره ابن الحداد.
2262- ثم ذكر الشيخ في الشرح مسألتين في أحكام التبعيض: إحداهما- أنه قال: إذا ملك الرجل أربعين من الغنم: عشرون منها معزاً، وعشرون، ضأناً، فلا يجزىء نصف ماعز، ونصف ضأن، وفاقاً. والتفصيل فيه مذكور في صدقة النَّعم. ولو خلط رجل عشرين من المعز، بعشرين من الضأن لآخر، وثبتت الخلطة على شرطها، فالذي ذهب إليه الأصحاب، أنهما يُخرجان من الأربعين ما يخرجه مالك هذه الأربعين لو انفرد.
وحكى الشيخ وجهاً غريباً أن لمالك المعز أن يخرج نصفاً من ماعز، ومالك الضأن يخرج نصفاً من ضأن، لمكان تميز المِلكين، وهذا في نهاية الضعف، وهو مفسدٌ لقاعدة الخلطة.
ومما ذكره في أحكام التبعيض أن طائفةً من المُحْرمين إذا اشتركوا في قتل ظبية، وسنبين أن كفارتها على التخيير، فلو أخرج بعضُهم جزءاً من حيوان، وبعضهم الطعامَ، وصام بعضهم نسبة حصته، قال: ذلك مجزىء. ويجعل كأن كل واحد منهم انفرد بإتلاف بعضٍ من الظبية. ولو كان كذلك، لتخير بين الخلال الثلاثة.
ولو انفرد محرمٌ بقتل ظبية، فهو بالخيار بين الخلال الثلاث، فلو بعّض الأمر، فأخرج للبعض قسطاً من حيوان، وللبعض طعاماً، وصام عن البعض ففي إجزاء ذلك وجهان، ذكرهما الشيخ.
ولا خلاف أن من لزمته كفارةُ اليمين، فأراد أن يعتق قسطاً من رقبة، ويطعمَ ثلاثة ويكسوَ آخرين، على نسبة تتلفّق من الخلال الثلاث، فلا يجزىء ذلك، وإنما اتجه الخلاف في فدية الصيد؛ من جهة أن حكم الغرامة غالب عليه، ولا يمتنع في حكمها التبعيض، إذا ثبت التخير في الأصل.
فصل:
2263- ومصرف صدقة الفطر، مصرف زكوات الأموال، فلابد من صرفها إلى الأصناف الثمانية، وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أن الفطرة يُنحى بها نحو الكفارة، والإطعامِ فيها.
والمد في الشرع طعام شخصٍ، فيبعد تقديرُ صرفه إلى أشخاص، وواجب الفطرة صاعٌ، فيبعد تنزيله منزلة الكفارة. ثم المتبع النص، والصدقات مضافة إلى الأصناف، والفطرة زكاة، وطعام الكفارة مضاف إلى المساكين. والله أعلم.

.باب: الاختيار في صدقة التطوع:

2264- مقصود الباب الكلامُ على خبرين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» وهذا يشير إلى أن الفقير لا يُرى له التصدق بالنزر الحاصل في يده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في خبر آخر، لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: «جَهد المُقِلّ» قال الأئمة: الخبران منزلان على أحوال الناس: فمن رسخ دينُه، ولاح يقينه، وظهرت ثقته بربه، فلا ينبغي له أن يدّخر شيئاً لغدٍ، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت بلال، ورأى فيه كسرة خبز، تمعرت وجنتاه، وقال: «أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً» وإن استشعر الرجل ضعفاً في نيته، فلا نؤثر له وهذه حالتُه أن يتصدق بالقليل الذي معه، ويبقى بعد التصدق جزوعاً، سيء الظن.

.كتاب الصيام:

2265- الأصل في وجوب الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] قيل: أراد بها أيامَ رمضان، فذكرها على صفةِ التقليل، تهويناً، وتقريباً، وجرى قوله شهر رمضان تفسيراً لها وبياناً، وقيل: المراد بالمعدودات أيامٌ من كل شهر، وعن معاذٍ رضي الله عنه، أنه قال: "فُرض صوم يوم عاشوراء، ثم نسخ وجوبه، وفُرض صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وهي الأيام البيض، ثم نسخت فرضيتُها بصوم رمضان". فعلى هذا الأيام المعدودات هي الأيام الثلاثة، وصوم رمضان ناسخٌ لها.
فصل:
قال: "ولا يجزئ لأحدٍ صيامُ فرضٍ... الفصل".
2266- الصومُ قُربةٌ مفتقرةٌ إلى النية، ولا فرق بين نوعٍ ونوعٍ، فصوم رمضان إذاً لا يصح إلا بالنية، خلافاً لزفر. وكل صومٍ في يومٍ عبادةٌ على حيالها، مفتقرةٌ إلى النية. والنية الواحدة في أول الشهر لا اكتفاء بها، خلافاً لمالك. ثم لو نوى صوم أيام الشهر، فهل يحصل له صوم اليوم؟ كان شيخي يتردد فيه. وفيه إشكال واحتمال.
ومحل النية القلب، ولا أثر للنطق فيها وفاقاً، وإنما التردد في نية الصلاة والحج.
وفي الزكاة خوضٌ أيضاً، فأما الصوم، فعماد النية فيه الضمير، وقد قدمت في كتاب الصلاة ماهية النية، فلا حاجة إلى إعادتها.
والكلام وراء ذلك يتعلق بفصلين:
أحدهما: في كيفية النية، والثاني: في وقتها.

.فصل: في كيفية النية:

2267- فأما كيفية النية، فالتعيين لابد منه عندنا ولو أطلق الصومَ، لم ينعقد صومُه، ولم يحصل فرض رمضان، وإذا أصبح كذلك، كان مفطراً يتعين عليه الإمساك. وقال أبو حنيفة أداء صوم رمضان لا يفتقر إلى تعيين النية؛ لأنه متعين شرعاً، والقضاء يفتقر إليه، وكذلك المنذور المطلق، والنذر المعيّن عنده كأداء رمضان.
ومعتمدنا في المذهب أن تعيّن الشيء شرعاً غيرُ كافٍ، بل العبد متعبد بتجريد القصد إلى ما عيّنه التكليف عليه، ولو كفى تعيين التكليف، لسقط أصل النية، كما ذهب إليه زفر.
وفي التعرض للفرضية وجهان، سبق نظيرهما في كتاب الصلاة، ولابد من التعرض للأداء، ومن ضرورة التعرض لحقيقة الأداء إخطار فرض هذا الوقت بالقلب، وتكلف بعض المتأخرين، وقال: يجب أن ينوي أداء رمضان هذه السنة، وهذا عندي غير محتفل به، فإنما هو تحريف في الفهم؛ فإن معنى الأداء هو المقصود، ومن ضرورته التعرض للوقت المعين، ولو أجرى الإنسان هذه الألفاظ في ضميره، ولم يلح في فكره معانيها، لم يكن ناوياً؛ فإن النية قصدٌ إلى معنىً، لا إلى كيفية لفظٍ عنه.

.فصل: وقت النية:

2268- فأما وقت النية، فلا يصح عندنا صومٌ مفروض أداء كان، أو قضاء، أو نذراً، أو مفروضاً شرعياً، بنيةٍ تنشأ نهاراً، بعد سبق جزء منه.
ثم المذهب أن وقت نية صوم الغد من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر بعيداً: أنه يجب إيقاعها في النصف الأخير من الليل، أخذاً من وجهٍ يوافق هذا في الأذان لصلاة الصبح. وهذا لا أعده من المذهب.
ولو قرن النية بأوّل جزءٍ من النهار، فأتى به مع أول الفجر، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الصوم يصح؛ فإن النية اقترنت بأول العبادة، وهو محلها في العبادات جُمَع.
والثاني: لا يصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» والتبييت قصدٌ يُنشأ ليلاً، وأيضاً فليس في القوة البشرية إدراك أول الفجر. وسيكون لنا إلى ذلك عودة، بعد هذا.
فرع:
2269- إذا نوى في أول الليل، ثم أقدم على مفطرٍ بعد النية في الليل، لم يقدح ذلك في النية على ظاهر المذهب؛ لأن ما أتى به غيرُ مناقضٍ للنية؛ فإنه نوى صوم غده، ولو وجب الانكفاف عن المفطرات بعد النية، لصار جزء من الليل ملتحقاً بالصوم.
وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن النية تفسد بمفطر بعدها، والسبب فيه أن النية تنفصل عن العبادة بمناقضٍ، وليس ذلك صوماً، فإنه لو جدد نيةً بعد ذلك، أجزأه الصوم نهاراً، إنما المحذور انفصال النية عن أول العبادة.
فإن قيل: نفس الليل فاصلٌ، قلنا: الضرورة سوغت احتمالَ هذا الفصل؛ فإن تكليفه قرْنَ النية بأول الصوم عسر، فاحتمل. فأما الإقدام على مفطر بعد النية، فمما لا ضرورة فيه. وقيل رجع أبو إسحاق عن هذا عامَ حجِّه، وأشهد على نفسه.
وذكر العراقيون أمراً آخر، قريباً مما ذكرناه، فقالوا: من أصحابنا من قال: من نوى في الليل، ثم نام كما نوى، ولم ينتبه إلى طلوع الفجر، صح صومه، ولو تنبه، لزمه تجديد النية قبل الصبح، وكأن هذا القائل يبغي تقريبَ النية من أول العبادة جهده، ولكنه يعذر النائم، فإن المنع من النوم وتكليفَ السهر إلى آخر الليل، يجر ضرراً بيناً. نعم إذا تنبه وتذكر، فلا عذر في تركه تجديدَ النية.
وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولكنهم نقلوه وزيفوه. وفي كلامهم تردّدٌ في أن الغفلة هل تتنزل منزلة النوم.
والمذهب اطراح هذا الأصل بالكلية.
وكل ما ذكرناه من اشتراط التبييت، فهو في الصوم المفروض.
2270- فأما صوم التطوع، فيصح بنية تنشأ نهاراً قبل الزوال، ومعتمد المذهب الأحاديث، منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف الغدوات على حُجر نسائه، فإن وجد طعاماً أكله، وإن لم يجد، قال: إني إذن أصوم. والذي يقتضيه القياس تنزيلُ النفل منزلة الفرض، في وقت النية، ولكنا صرنا إلى ما صرنا إليه للخبر.
ولو جرت النية بعد الزوال، ففي المسألة قولان:
أحدهما: لا يصح الصوم؛ لمضي معظم النهار خلياً عن النية، وللمعظم أثر في العبادات، على حال.
والقول الثاني- أن الصوم يصح؛ فإنه متطوَّع به، والمتطوِّع بالخيار إن شاء أقل، وإن شاء أكثر.
فإن شرطنا بقاء المعظم، فالذي أطلقه الأصحاب في ذلك الزوالُ، ولا شك أن الزوال منتصفٌ إذا حسب الأول من شروق الشمس، فإذا حسب النهار الشرعي من طلوع الفجر، فالمنتصف يقع ضحوة.
وكان شيخي يتردد في هذا، وقد تردد فيه أصحاب أبي حنيفة إذ اشترطوا إيقاع النية قبل الزوال، ولعل من اعتبر الزوال، اعتبره لأنه بيّن، وضبطُ وسط الوقت مع الاحتساب من طلوع الفجر عسر. ولا خلاف أن النهي عن السواك منوط بما بعد الزوال؛ فإن المرعي فيه ظهور الخُلوف، وهذا في الغالب يختص بما بعد الزوال.
2271- ثم إذا صححنا صومَ التطوع بنيةٍ تنشا نهاراً، فقد اختلف أصحابنا في أن المتطوع صائمٌ من وقت نيته، أو ينعطف حكم الصوم إلى أول النهار؟ فالذي ذهب إليه القياسون أنه صائم من وقت نيته؛ فإن النية قصدٌ وعزم، ولا انعطاف لواحدٍ منهما، والمنقضي على حكمٍ لا يُتصور تقديرُ انقلابه عنه، بسبب قصدٍ لا أثر له فيه.
وذهب طوائف إلى أنه صائمٌ من أول النهار؛ فإن الصوم لا يتبعض في اليوم، وهو في حكم الخصلة الواحدة.
فإن قلنا: إنه صائم من وقت النية، فلو أكل في أول النهار، ثم رام أن ينوي الصومَ بعده، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك غير سائغ، ومن اعتقد أن من أكل غداءه يومَه صائمٌ بعد فراغه عن الأكل، فهو مقتحم على الإجماع.
وفي المسألة وجهٌ بعيد، أن ذلك غير ممتنع، وقد عزاه بعضُ المصنفين إلى ابن سريج وأبي زيد المروزي. والله أعلم.
وكان شيخي يقول: الأكل في أول النهار يمنع إمكان الصوم بعده.
وإن قلنا: الناوي نهاراً صائم من وقت نيته، لأن معنى الصوم الخَوَى والطَّوَى، وإن أكل المرء في نهاره، لم يكن للصوم بعده معنى، فالخوى في أول النهار شرط وقوع الصوم الشرعي بعده.
وكان يذكر وجهين في أن الحيض والكفر في أول النهار إذا زالا، ووقعت النية ضحوة بعدهما، فالصوم هل يصح؛ تفريعاً على أنه صائم من وقت النية؟ وهو لعمري يقرب بعضَ القرب. فأما تصوير الصوم بعد الأكل في النهار، فهو في حكم الهزء عندنا.
فرع:
2272- إذا انعقد الصوم، ثم نوى الشارع في الصوم الخروج منه، ففي بطلان الصوم وجهان، ذكرناهما في كتاب الصلاة، وفرقنا بين الصوم والصلاة؛ فإن المصلي لو نوى الخروج على جزم، بطلت صلاته، وجهاً واحداً. ثم إن قلنا: لا يفسد الصوم، فلو نوى الشارع في صوم القضاء مثلاً، قلبَ الصوم إلى النذر، فلا ينقلب إلى النذر، لا شك فيه.
ولكن إن حكمنا بأن نية الخروج لا تُبطل الصومَ، فهو في الصوم الذي شرع فيه، وقَصْدُ النفل لا أثر له.
وإن حكمنا بأن نية الخروج تُبطل الصوم، فقَصْد الانتقال يتضمن الخروجَ عما كان فيه، فيبطل ذلك الصومَ المفروضَ، وهل يبقى الصوم نفلاً أم لا؟ فعلى وجهين، وقد سبق لهما نظائر في كتاب الصلاة، منها: أن القادر على القيام إذا تحرم بالصلاة المفروضة قاعداً، فصلاته لا تنعقد فرضاً، وهل تبطل أم تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين. وبين ما ذكرناه الآن في الصوم، وبين ما استشهدنا به تخيل فرق؛ فإن الذي تحرم بالصلاة قاعداً ليس في نيته ما يتضمن رفع النفل، والذي يقصد الانتقالَ تُشعر نيتُه بالخروج عن جميع ما اشتملت عليه النية الأولى. ولكن يجوز أن يقال: الصوم يشتمل المنتقَل إليه والمنتقَل عنه، فالتبديل على الصفات، لا على أصل الصوم.
فصل:
قال: "ولا يجب عليه صوم شهر رمضان حتى يستيقن أن الهلال قد كان... إلى آخره".
2273- اعترض على المزني في قوله: "حتى يستيقن "؛ فإن درك اليقين ليس شرطاً، مع القطع بوجوب الحكم بشهادة شاهدين على رؤية الهلال.
ولفظ الشافعي: "حتى يعلم أن الهلال كان " والعلم يطلق ويراد به الظن، والمعتمد في الفصل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين " وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروه».
فإن شهد على رؤية هلال رمضان ليلةَ الثلاثين من تاريخ شعبان، شاهدان عدلان، وجب القضاءُ بدخول رمضان، ولا فرق بين أن يتفق ذلك والسماء مصحية، أو يتفقَ وفي موضع الهلال علّة من سحاب، أو ضبابٍ، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر فيما ذكره أصحابه في الإصحاء عددَ الاستفاضة. صائراً إلى أن انفراد معدودين، وقد تراءى الناسُ الهلال محال. وهذا غير سديد؛ فإن الهلال خفيٌّ على حال، وقد تَبْهَرُه الأشعة، فهلاَّ قدّر ذلك علّةً.
وإن شهد على رؤية هلال رمضان شاهدٌ واحد، ففي ثبوت الهلال بشهادته قولان:
أحدهما: الثبوت، لما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "تراءى الناس الهلالَ، فرأيته وحدي، فشهدت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام " وهذا القولُ معتضد بقياس جلي-لو اطرد- وهو أن التعرض لهلال رمضان يتعلق بأوقات العبادات، وقولُ العدل الواحد إذا استند إلى المشاهدة مقبولٌ في العبادات؛ اعتباراً بأوقات الصلوات.
وهذا مع ظهوره يخرمه اشتراطُ العدد في رؤية هلال شوال، والأصحاب في طرقهم متفقون على اشتراط العدد في هلال شوال، إلا شيئاً ذكره صاحب التقريب، فإنه حكى عن أبي ثور مصيرَه إلى أن هلال شوال يثبت بقول العدل الواحد، ثم قال:
وهذا لو قلت به، لم يكن بعيداً. وما ذكروه وإن كان غريباً، فهو متجه جداً في القياس، لما ذكرناه من أن الأخبار عن الهلال تعرض لوقت العبادة، فهلال رمضان به يُستبان دخول وقت العبادة، وهلال شوال به يُستبان خروج وقت العبادة. فإن اعتقد معتقدٌ ذلك، جرى المعنى سديداً.
وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلا يجري توجيه قول الاكتفاء بالشاهد الواحد من طريق المعنى، وإنما مستنده الأثر والخبر، مع التمسك بطرفٍ من الاحتياط للعبادة، وهذا يوجب الفرق بين الهلالين، وإليه أشار عليٌّ رضوان الله عليه، إذ قال: "لأن أصوم يوماً من شعبان أحبُّ إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان". وإنما قال ذلك لأنه كان يبالغ في الاحتياط في الشهادة، حتى نقل عنه تحليفُ الشهود، وكان لا يحتاط في هذا لرمضان ويقول ما روينا عنه.
والشهادة شهادة حِسبة، لا ارتباط لها بالدعاوى.
2274- وإن قلنا: لا يشترط العدد، فقد اختلف أئمتنا في أنه يُنحى به مع الاكتفاء بالواحد نحو الشهادات، أو ينحى به نحو الروايات: فقال بعضهم: هو رواية على هذا القول، بدليل الاكتفاء بالواحد، وقال آخرون: هو شهادة، والمعتمد في الاكتفاء بالواحد ما قدمناه من الأثر والخبر، وهذا القائل يقول: مراتب الشهادات في العدد، والصفة، متباينة، فقبول الواحد على شرط الشهادة أدنى المراتب، واشتراط الأربعة أعلاها، فإن جعلناه شهادةً، اشترطنا الذكورة، والحرية، ولفظَ الشهادة، والإقامة في مجلس القضاء، وإن جعلناها روايةً قبلناها من الأَمَة مع ظهور الثقة، ولم نشترط لفظَ الشهادة، وقلنا: لو أخبر واحدٌ الناسَ بالرؤية، لزم اتباع قوله، وإن لم يذكره بين يدي قاضٍ، وهذا وإن كان يعضده المعنى فنراه بعيداً عما جرى عليه الأولون في ذلك.
ثم في قبول الصبي المميز الموثوق به على وجه الرواية وجهان، مبنيان على قبول رواية الصبيان.
2275- وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع تردّداً للأصحاب، في أن الهلال هل يثبت بالشهادة على الشهادة؟ وقال: الأصح القطعُ بثبوته، ومن الأصحاب من خرّجه على الخلاف المشهور في ثبوت حقوق الله بالشهادة على الشهادة؛ من جهة أن أمر الهلال يتعلق بمحضِ حق الله تعالى.
وهذا بعيدٌ؛ فإن سبب الاختلاف في الحدود كونُ المشهود به عقوبةً لله تعالى، معرضة للسقوط بالشبهات، والأمر في هلال رمضان على نقيض ذلك.
ومما أجراه في هذا أنا إذا قلنا: يُسلك به مسلك الرواية، وحكمنا بأنه يثبت بقول الفرع، مستنداً إلى الأصل، فهل يُشترط في الفرع عددٌ؟ فقال: المذهب أنه لا يشترط؛ جرياً على حكم الرواية، وقياسِها.
وحُكي عن بعض الأصحاب اشتراطُ العدد في الفرع، وزعم هؤلاء أن قولَ الفروع شهادةٌ، وإن لم نجعل قولَ الأصل شهادة، وهذا بعيد، لا اتجاه له.
ثم قال: إذا شرطنا العددَ في الفرع؛ فهل نشترط صفة الشهود، حتى لا تقبل من العَبْدَيْن؟ ذكر في ذلك وجهين.
وكل ذلك تخليطٌ عندنا.
ثم قال: إذا لم نشترط العددَ في الفرع، نشترط لفظَ الشهادة، وإن لم نشترطه في الأصل. وصار إلى أن قول القائل: حدّثني فلان أن فلاناً قال: رأيت الهلال، فهذا مردود إجماعاً، ولا شك أن القياس قبولُ ذلك، إذا كان التفريع في الفرع والأصل على الاكتفاء بالواحد.
وبالجملة في هذا الأصل اختباطٌ، من جهة أنه لم يَسْلَم المعنى الذي ذكرناه من الإخبار عن أوقات العبادات، لمكان اشتراط العدد في الشهادة على هلال شوال، ولم يستمر إلحاق الخبر عن هلال رمضان بالشهادات للخبر والأثر، فجرّ ذلك اختلاطاً، وتردداً.
وعندنا أن دعوى الإجماع فيما ذكره الشيخ آخراً لا تسلم عن النزاعِ، والاحتمالِ الظاهر.
فرع:
2276- إذا شهد عدلان على رؤية هلال رمضان، وجرى القضاء بشهادتهما، وصام الناس ثلاثين يوماً، ثم لم يَرَوْا الهلال ليلةَ الحادي والثلاثين من تاريخ الشهادة، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نُعَيِّد، ونحكم بانقضاء الشهر، بناء على الشهادة في أوله.
وذكر ابنُ الحداد أنا نصوم يوم الأحد والثلاثين، وهذا فيه إذا لم يكن في موضع الهلال علة.
والذي ذكره مزيّف، غيرُ معدودٍ من المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة.
وإذا شهد على رؤية الهلال شاهد واحد، والتفريع على ثبوت الهلال بقول الواحد، فإذا بنينا على ذلك، وصمنا ثلاثين يوماً، وتراءى الناسُ-ولا علة- فلم يرَوْه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في هذه الصورة، فقال بعضهم: لا يثبت هلالُ شوال بناءً على ما تقدم؛ فإن الذي شهد على هلال رمضان لو أنشأ الشهادة على هلال شوال، لم تُقبل شهادته وحده؛ إذا لم تتقدم منه الشهادة على هلال رمضان، فإذا لم يثبت هلالُ شوال بقوله ابتداء، فلا يثبت أيضاً بناءً.
ومن أصحابنا من قال: يثبت هلال شوال؛ فإن الشيء يثبت مبنياً، وإن كان لا يثبت مبتدأ مقصوداً، والدليل عليه أنه لو شهد على الولادة في الفراش أربع نسوة، ثبتت الولادة، ويترتب عليها ثبوت النسب، ولو شهدن على النسب، لم يثبت بشهادتهن. وهذا فيه نظر؛ فإن الولادة إذا ثبتت يلحق النسب الفراشَ، وهو قائم، لا نزاع فيه، ولم يتحقق مثل ذلك فيما نحن فيه.
فرع:
2277- إذا شرطنا العددَ في هلال رمضان، فالوجه اشتراط العدالة الباطنة، والمعنيّ بها البحث الذي يعتاده القضاةُ بالمباحثة، والرجوعِ إلى أقوال المزكِّين، وإن اكتفينا بقول الواحد، فالعدالة الظاهرة، لابد منها، فلا يقبل قول فاسقٍ، ولا مريب. وهل يشترط العدالة الباطنة، فعلى وجهين، مبنيين على أن رواية المستور هل يعمل بها؟ وفيه اختلاف ذكرناه في فن الأصول.
وفي بعض التصانيف: يُكتفى بالعدالة الظاهرة، وليس فيما ذكره فصلٌ بين قبول الشهادة وقبول الرواية، وهذا بعيدٌ، لا اتجاه له.
نعم، قد نقول: ينبغي للقاضي أن يأمر الناس بالصيام لظاهر العدالة؛ فإن الأمر يفوت، ثم يبحث بعد ذلك، ولا يبعد أن يقال: إذا أمر استمروا، ولم يبحث.
نعم، إذا استكملنا العدة ثلاثين، فلم يُر هلالُ شوال، فلابد الآن من البحث عن العدالة الباطنة. فتأملوا ترشُدوا.
فصل:
2278- إذا رئي الهلال من بلدةٍ، ولم يُرَ في أخرى، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن حكم الهلال يثبت في خِطة الإسلام؛ فإنه إذا رُئي، لم يتبعض، والناس مجتمعون في المخاطبة بالصيام، والهلال واحدٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا بعدت المسافة، لم يعمّ الحكمُ، وللرائين حكمهم، وللذين لم يَرَوْا حكمُهم؛ فإن المناظر في الأهلة تختلف باختلاف البقاع اختلافاً بيناً، فقد يبدو الهلال في ناحية، ولا يتصور أن يرى في ناحيةٍ أُخرى، لاختلافِ العروض، والأهلةِ فيها، ولا خلاف في اختلاف البقاع في طلوع الصبح، وغروب الشمس، وطول الليل، وقصره، فقد يطلع الفجر في إقليم ونحن في ذلك الوقت في بقية صالحةٍ من الليل.
التفريع على الوجهين:
2279- إن عممنا الحكمَ، فلا كلام.
وإن لم نعمم، فلا خلافَ في انبساط حكم الهلال على الذين يقعون دون مسافة القصر، من محل الرؤية، وذكر الأصحاب أن البعد الذي ذكرناه، هو مسافة القصر، ولو اعتبروا مسافةً يظهر في مثلها تفاوتُ المناظر في الاستهلال، لكان متجهاً في المعنى، ولكن لا قائل به، فإن درك هذا يتعلق بالأرصاد والنموذارات الخفية، وقد تختلف المناظر في المسافة القاصرة عن مسافة القصر؛ للارتفاع والانخفاض، والشرع لم يُبنَ على التزام أمثال هذا، ولا ضبط عندنا وراء مسافة القصر للبعد.
2280- ومما يتفرع على ذلك أن الإنسان إذا رأى الهلال ليلة الجمعة، وسافر في رمضانَ إلى بلدة بعيدة، وكانوا رأوا الهلال ليلة السبت، فصام المسافر ثلاثين يوماً، من تاريخ الجمعة، فلم ير الناس الهلالَ في المكان الذي انتقل إليه، ليلة الثلاثين من تاريخ السبت، وأكملوا العدة، فإن قلنا: لكل بقعة حكمُها، فيجب على هذا المسافر المنتقل أن يتابع أهلَ هذه البقعة، ويصومَ أحداً وثلاثين يوماً؛ فإنه صار من أهل هذه البقعة في آخر الشهر. ولا يخفى على الفقيه أن الحكم لا يختلف في ذلك بقصد الإقامة والسفر.
وإن قلنا: حكم الهلال إذا ثبت في موضعٍ عم جميعَ البلاد، فأهل البلدة الثانية متعبدون بحكم ذلك الهلال، إن ثبت عندهم. فإن قيل: التفريع على هذا الوجه الأخير متجهٌ، لا شك فيه، والتفريع على الأول هل يتطرق إليه احتمال؛ من جهة أنه التزم حكمَ البقعة الأولى، فينبغي أن يستمر ذلك الحكمُ عليه. قلنا: الاحتمال قائم، ولكن ما ذكرناه في التفريع قطع به الأصحاب، لأثرٍ وَرَدَ، اتخذوه متبوعَهم، وهو ما روي أن كُرَيْباً مولى ابن عباس، قال: "بعثتني أم الفضل بنتُ الحارث إلى الشام في حاجة عرضت لها عند معاوية، فرأى الناسُ الهلالَ ليلةَ الجمعة، فصاموا، وصمتُ، فرجعت إلى المدينة، فسألني ابنُ عباس متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أما نحن فرأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم، حتى نرى الهلال، أو نستكمل العدة ثلاثين، فقلت: أوما يكفيك رؤية أمير المؤمنين والناس؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ابنُ عباس أن لا يفطر، ويقتدي بأهل المدينة". هكذا وجدته في بعض التصانيف، فهذا ما بلغنا في ذلك. والمذهب نقلٌ.
وقال شيخي أبو محمد: من رأى هلال شوال، وأصبح معيّداً، وجرت به السفينة، فانتهى إلى بلدة على حدّ البعد، وما كانوا رأَوْا الهلالَ، وصادفهم صائمين، يلزمه أن يمسك عن المفطرات، إذا أثبتنا لكل بقعة حكمَها، وهذا فيه نظر عندي؛ فإنه ليس فيه أثر، واليوم الواحد يبعد أن يتبعض حكمه. وقد عاين الهلالَ في ليلته في البقعة الأولى.
فصل:
2281- إذا رأى الناسُ الهلالَ نهاراً، يوم الثلاثين من شعبان، فهو عندنا لليلة المستقبلة، ولا حكم للهلال في ذلك النهار، ولا فرق بين أن يُرى قبل الزوال أو بعده، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه.
2282- ومما يتعلق برؤية الهلال أن من رآه وحده، فشهد ورُدّت شهادته، لزمه أن يصوم من غده بناء على مشاهدته، ولو أفطر بالوقاع، لزمته الكفارة العظمى، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو رأى هلال شوال وحده، فردت شهادته، أفطر سراً؛ حتى لا تسوء الظنون به.
فصل:
قال: "ومن أصبح جنباً من جماع، أو احتلامٍ... إلى آخره".
2282/م- من أصبح وعليه الغسل عن جنابة تقدم سببُها على الفجر، اغتسل، ولا أثر لتأخر الغسل في صومه، وكذلك إذا طهرت المرأة عن الحيض، فنوت الصوم، وأصبحت، واغتسلت، صح صومها. روت عائشةُ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع أهله، ثم يتم الصومَ " والمعنى أن الصوم لا يشترط فيه الطهر. ولو فرض احتلامٌ في أثناء اليوم، لم يُفسد الصومَ، وقد روى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من أصبح جنباً، أفطر"، فلما روت عائشةُ الحديثَ قال أبو هريرة: "سمعته من الفضل بن العباس"، قال العلماء: الوجه حمل ما رواه على أن الحكم كذلك كان، ثم نسخ، واستقر الأمر على ما روته عائشة.
فصل:
قال الشافعي: "وإن كان يرى الفجر لم يجب، وقد وجب... إلى آخره".
2283- من أقدم على مفطرٍ في آخر النهار؛ ظاناً أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، لزم القضاء، نص عليه الشافعي.
والسبب فيه أنه ظن انقضاء اليوم، ثم تحقق خلافُ ظنه، واليقين مقدم على الظن، ونقل المزني عن الشافعي مثلَ ذلك إذا فرض الغلط في أول النهار، فأكل ظاناً أنه في بقيةٍ من الليل، ثم استبان أنه صادف أكلُه النهارَ، قال: يلزمه القضاء.
واختلف أئمتنا في المسألة: منهم من قال: هذا الذي ذكره غلطٌ على الشافعي.
ومذهبُه أن الغلط إذا فرض في أول النهار، لم يُفسد الصومَ، ولا قضاء، بخلاف ما لو جرى ذلك في آخر النهار. والفارق أنه إذا أكل في آخر النهار، فالأمر مبنيٌّ على بقاء النهار، فلزم الفطر لذلك، ولم يعذر المخطىء، والأمر في أول النهار مبني على بقاء الليل، فعُذِر المخطىء.
وذهب داود إلى أنه في آخر النهار معذورٌ أيضاً.
2284- وهذا أوان التنبه لحقيقةٍ وهي أن من نسي الصومَ، فأكل، لم يفطر، وسنعقد في ذلك فصلاً، فالأكل في آخر النهار في معنى أكل الناسي، من حيث إنه جرى خطأً، ولا إثم على صاحبه، ولكنه يفارق الناسي من جهة أن الصوم مذكورٌ للآكل.
فإن قيل: هلا خرج ذلك على قولين في خطأ القِبلة؟ قلنا: المخطئ آخراً لا يكاد يصادف أمارةً ظاهرةً في هجوم الليل، ثم استصحاب النهار في معارضة ما يعنّ له، وكان مع ذلك متمكناً من المكث إلى درك اليقين، فاقتضى اجتماع ما ذكرناه-من ذكر الصوم، وضعف الفطر، ووقوعِه على معارضة استصحاب النهار، والقدرة على دَرك اليقين- الفرقَ بين المخطئ في آخر النهار والناسي.
فأما إذا جرى ذلك في أول النهار، فالمسألة محتملة، وليس ما ذكره المزني بعيداً، ولكنها تتميز عن الأخرى بالاستصحاب، فقد نقول: الاجتهاد أقوى في الأول من حيث لا يناقضه الاستصحاب.
هذا حقيقة القول.
2285- وتمام البيان في الفصل أن الفطر بالاجتهاد في آخر النهار جائزٌ، وإن كان المصير إلى درك اليقين ممكناً، ويشهد له ما روي: "أن عمر أفطر يوماً، وطائفةٌ معه، فناداه صاحبُ المواقيت: بأن الشمس لم تغب، فقال رضي الله عنه: بعثناك داعياً، وما بعثناك راعياً". وهذا دليلٌ أولاً على أنه لا يجب التوقفُ في الفطر إلى درك اليقين.
وفي الأثر إشكالٌ، من جهة أن ظاهرَه مشعرٌ بالإنكار على ذلك المخبر، وما نرى الأمرَ كذلك، بل كان حقاً عليه أن يخبر، فلا محمل لكلام عمر إلا شيئان:
أحدهما: النهي عن أصل المراعاة، وهذا فيه نظر أيضاً؛ فإنه ليس يتجه منعٌ عن هذا، فالوجه حمل ما كان منه على بادرة اقتضتها قوةٌ غضبية.
وكان شيخي يحكي عن شيخه أبي إسحاق الإسفرائيني النهيَ عن الاجتهادِ والاعتمادِ عليه في هذا، وفي وقت الصلاة، إذا أمكن الوصولُ إلى درك اليقين.
ولو أفطر الإنسان في آخر النهار مجتهداً، فعليه القضاء، وإن لم يَبِن الخطأ على رأي الأستاذ. وعند غيره لا قضاء إذا لم يتحقق الخطأ. ولو أفطر في آخر النهار، من غير اجتهاد، ولا تحقق، ثم لم يتبين أنه كان في نهار أو ليل، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه القضاء، فإن وجوب الصوم واستصحاب النهار تجرَّدَا، ولم يعارضهما تعلقٌ باجتهاد، ولا يقين. ولو فُرض في أول النهار اجتهادٌ، ولم يتبين الخطأ، فالوجه القطع بأن لا قضاء ولو فرض أكلٌ من غير اجتهاد، ولم يتبين أمرٌ، فالوجه القطع بأن لا قضاء أيضاً اكتفاء باستصحاب الحال.
فهذا منتهى الغرض في الفصل.
2286- وقد قال الأئمة: لو شك الناس يوم الجمعة في خروج الوقت، لم يبتدوا عقدَ الجمعة. قال الصيدلاني: السبب فيه أنهم إذا كانوا كذلك، فسيخرج الوقت وهم في أثناء الصلاة غالباً، فلو افتتحوا الصلاةَ، ثم طرأ ذلك في الأثناء، ولم يقطعوا بخروج الوقت، قال: نصَّ الشافعيُّ على صحة الجمعة، مع التردد. وهذا غريب.
وقد ذكر صاحب التلخيص في مسائله التي استثناها في ترك اليقين بالشك هذه المسألة، والوجه عندي: أنا إن قلنا: الجمعة صلاةٌ على حيالها، فيتجه ما ذكره الصيدلاني، وإن جعلناها ظهراً مقصورة، فالأصل الظهر، فمهما طرأ شك، لم تصح الجمعة؛ رجوعاً إلى الأصل.
فصل:
قال: "إذا أصبح الرجلُ وفي فيه طعامٌ... إلى آخره".
2287- من طلع الفجر عليه وفي فيه طعام، فلفظه، فهو صائم إن كان بيّت النية، ولو أصبح كذلك مخالطاً أهله، نُظر، فإن نزع كما بدا الفجر، وطلع، فصومه صحيح عند الشافعي.
وذهب المزني وزفر إلى فساد الصوم، ووجه قولهما أن النهار صادفه، وهو مخالط أهله، والنزع يقع لا محالة مسبوقاً بأول النهار.
ووجه قول الشافعي أنه لما طلع الفجر قَرَن بأوله النزعَ، وهو تركٌ، وفساد الصوم معلق بالجماع، أو إدامته، فأما التركُ، فلا يقتضي ذلك.
وهذا يتعلق بمسألة في الأصول، لا ينتظم ذكرها هاهنا.
2288- ولو طلع الفجرُ فاستدام، ولم ينزع، فلا شك في فساد الصوم، وأوجب الشافعيُّ الكفارة.
واختلف الأئمةُ في أنا نحكم بانعقاد الصوم، ثم نحكم بعده بالإفساد، أم نحكم بأن الصوم لم ينعقد.
فالذي ذهب إليه معظم الأئمة في المذهب أن الصوم لم ينعقد، وسبب وجوب الكفارة منعُ عقد الصوم بالجماع، والمنع في معنى القطع.
وذهب شرذمة إلى أنا نحكم بالانعقاد، ثم نقضي بالفساد. والذي تخيله هؤلاء أنه لو نزع، لانعقد صومه، فنفرض الانعقاد في مثل زمان ابتداء النزع، ثم نحكم بالفساد. وهذا خيالٌ؛ فإن النزع، لم ينافِ الصومَ، من جهة قصد الترك، فإذا لم يكن قصدٌ في الترك، وجملة الأحوال جاريةٌ على قصد إيقاع الوقاع وإدامته، فتقديرُ موجَب قصد الترك، مع عدمه، محالٌ.
ولو خالط الرجل أهله، ثم لبّى، وأحرم، وقرن تلبيته بالنزع، كما سبق تصويره في الصوم، ففي انعقاد الحج على الصحة وجهان:
أحدهما: الصحة، قياساً على الصوم.
والثاني: لا ينعقد الحج صحيحاً؛ من جهة أنه كان قادراً على أن ينكف عن التمام، ثم يبتدئ الإحرام، فلا يثبت له التخفيف المنوط بقصد الترك، وليس كذلك الصائم؛ فإنه في ابتداء مخالطته معذور، ولما ابتدأ الانكفافَ، كان معذوراً في انكفافه، مأموراً به، فعُذر، وإن كان على صورة المخالطين إلى تمام النزع.
وكل ما ذكرناه مفروضٌ فيه إذا جامع، وكان يُطالع الفجرَ، فجرى الأمرُ على بصيرةٍ منه، نزعاً وإدامة.
2289- ثم وراء ذلك نظرٌ للفطن، فإن أول الفجر ما أراه مدركاً بالحس، وإذا لاح للمراقب، فالطلوع الحقيقي متقدِّمٌ عليه.
وكان شيخي يذكر في مجالس الإفادة مسلكين في ذلك:
أحدهما: أن هذه المسألة موضوعة على التقدير، كدأب الفقهاء في أمثالها، وإلا فلو اطلع على الصبح، والعادات على اطرادها، فلا ينفع النزعُ؛ فإن الصبح سابق على حالته. هذا مسلك.
والثاني: أنا إنما نتعبد بما نطَّلِع عليه، ولا معنى للصبح إلا ظهورُ ضوءٍ للناظر المعتدل في حاله، و الذي يقدر وراء ذلك لا حكم له. وهذا بمثابة علمنا أن الفيء إذا ظهر للحس؛ فالزوال سابق عليه، ثم لا حكم له. وقد ذكرنا في ذلك كلاماً جامعاً في مواقيت الصلوات.
2290- ولو خالط أهله، جاهلاً بحقيقة الحال، ثم تبين له أن الصبح كان طلع، فهذا هو الذي تقدم ذكره، في تصوير الأكل على ظن أنه في بقية الليل، ثم يتحقق وقوعه في الصبح، ففي الفطر الخلافُ المقدّم. ثم إذا لم يحكم بالفطر، فلا كلام، وإذا حكمنا بالفطر، ففي الكفارة كلامٌ، سأذكره في فصل عند ذكر جماع الناسي.
فصل:
قال: "وإن كان بين أسنانه ما يجري به الريق... إلى آخره".
2291- هذا الفصل يشتمل على أطرافِ الكلام في وصول واصلٍ إلى الجوف، مع سقوط الاختيار.
فنقول: إذا وصل إلى داخل حلق الصائم غبارُ الطريق، أو غربلةُ الدقيق، أو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، فلا فطر في هذه المواضع وفاقاً، مع ذكر الصوم، وإن كان من الممكن التحرزُ عن اطّراق الطرق، وعن القرب من الموضع الذي يُغربل الدقيق فيه، ولو أطبق الصائم شفتيه، لأَمِن وصولَ الذباب إلى حلقه.
والضابط للمذهب في هذا الفن أن الشرع لم يكلف الصائمَ الامتناعَ من أفعالٍ في العادة يغلب مسيسُ الحاجة إليها، إذا كان الغالب أنه لا يصل الواصل بسببه إلى الجوف. وما ذكرناه من هذا القبيل، فإنّ وصول واصل على ندور، وليس للصائم فيه قصد، وإنما قصدُه في السبب العام الذي يغلب عدمُ الوصول معه، فليُعتقد
أن هذا محطوطٌ وفاقاً.
ولو تمضمض الصائم، فوصل شيء من الماء إلى جوفه، ففيه قولان، سيأتي شرحُهما. وهذا يتميز عما عددناه في محل الوفاق؛ فإن فتح الفم لا يُعدّ مبتدأَ سبب على الاتصال إلى تمام الوصول، والمضمضة سببٌ متواصل، وإن كان يغلب أنه لا يصل.
2292- فإذاً يتخلص ما نحاوله بذكر ثلاث مراتب: إحداها- أن يغلب عدمُ الوصول، ولا يعد سببُ ما يتفق منه من الأسباب المتواصلة في الإيصال، هذه مرتبة الاتفاق في نفي الفطر.
المرتبة الثانية- أن يكون السبب بحيث لا يغلب منه الوصول، وهو الاقتصاد في المضمضة من غير مبالغة، هذه مرتبة القولين. والمرتبة الثالثة- التسبب إلى سبب يغلب منه وصول الواصل إلى الجوف، مع وقوع الوصول، من غير قصدٍ إلى عينه، كالمبالغة في المضمضة. وإذا اتفق الوصول مرتباً على مثل هذا السبب، فالأصح حصول الفطر، وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرّجه على قولين؛ من حيث لم يكن الوصول مقصوداً في عينه، وهذا بعيد.
فأما ما يوصل الشيء إلى الجوف لا محالة، فهو مفطر، وإن لم يوجد قصدٌ إلى غير الوصول كفتح الفم في الماء وما في معناه.
2293- ثم ذكر الشافعي أنه لو بقي شيء في خلَل الأسنان، فجرى به الريق من حيث لم يشعر الصائم، وهذا يخرج على التفصيل المتقدّم.
فإن أكل الصائم، ولم يتعهد تنقيةَ الأسنان، وكان الغالب في مثله الوصولُ، فإذا اتفق، فهو ملتحق بقسم المبالغة في المضمضة. وإن جرى على الاعتياد في تنقية الأسنان، فبقيت بقيةٌ، فهذا يلتحق بغبار الطريق، ولا نكلفه مجاوزةَ الاقتصاد والاعتيادِ في التنقية، كما لا نكلفه تطبيق الفم حذاراً من الغبار والذباب، ولا نفرق بين قدر السمسمة والزائد عليها.
وإن صور مصور قدراً صالحاً، قيل له: اتّئد في التصوير؛ فإن الإفراط فيه يوقع في قسم التفريط في ترك التنقية.
2294- ولم يختلف المذهب في أن من نسيَ صومه وأكل، لم يُفطر، سواء استقل، أو استكثر، وسواء وُجد ذلك مرة واحدةً، أو تكرر مراراً، وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أكل ناسياً، لم يفطر " وروي في مأثور الأخبار أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أكل ناسياً، فلم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطره، فعاد مرة أخرى، أو مرتين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم بفطره. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك بعيد العهد بالصوم»
2295- ولو أُوجر الصائم وهو مضبوط، لم يفطر، وكذلك إذا ضبطت امرأة صائمة، ووطئت، ولو أكره الرجل بالسيف حتى أكل بنفسه، ففي المسألة قولان:
أحدهما: لا يفطر، لسقوط حكم اختياره، ولكونه مأموراً شرعاً بالأكل، فليس أكله منهياً عنه، فشابه أكلَ الناسي.
والثاني: يفطر، لأنه أتى بما هو ضد الصوم، مع ذكره، وليس فيه خبر من جهة الشارع.
2296- ومن لطيف الكلام في المذهب: أن الناسي، والمكره، إذا صدر منهما صورةُ الحِنث في يمينهما، ففي تحنيثهما قولان، والناسي مقطوع به في الصوم، وفي المكره القولان، والسبب فيه أن الحالف على الامتناع من الشيء ملتزمٌ للتحفظ عنه، مُتخذ يمينَه سبباً مؤكِّداً للوفاء بالتحفظ، فإذا وقع المحلوفُ عليه، جرى القولان، و لا يتحقق في الصوم إلا اتباع ذكر العبادة فإن ذاكرها موردٌ فعلَه طوع أو كرهاً على عبادته، والصوم المنسيّ مُزاحٌ عن ذكر الناسي، وأكلُه في حكم الواقع وراءها، على أن الاعتماد في أكل الناسي على الخبر، ولا حاجة إلى هذا التكلف بعده.
ولو أغمي على الصائم، فأوجر شيئاً، لا على قصد المعالجة، لم يُفطر، ولو أوجر على قصد المعالجة، ففي حصول الفطر قولان، وإن لم يشعر، وإنما روعي فيه مصلحته، فلحق بما يرعاه من نفسه.
والمغمى عليه المُحرم إذا عولج بدواء فيه طيبٌ خارجٌ على هذا الخلاف، على ما سيأتي مشروحاً في موضعه-إن شاء الله تعالى-
فصل:
قال: "فإن تقيأ عامداً... إلى آخره".
2297- رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قاء أفطر، ومن ذرعه القيء، لم يفطر» وأراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «من قاء» المتعمِّدَ، الذي يستقيء، وعن ابن عمر نفسه: «من قاء، فلا قضاء عليه، ومن استقاء، فعليه القضاء»، وأراد بقوله: (من قاء)، من ذرعه القيء، وقال أبو الدرداء: «قاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفطر». أراد استقاء، قال ثوبان: «صدق، وأنا صببت له الوضوء».
فمن استقاء عامداً، لم يخلُ من ثلاثة أحوال، إما أن يزدرد قصداً شيئاً مما ردَّه، فلا شك في الإفطار، إذا كان كذلك.
2298- والحالة الثانية أن يستقيء قصداً، ثم يتحفظ، ويعلم أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، فإن كان كذلك، ففي الإفطار وجهان:
أحدهما: لا يفطر؛ فإن الفطر في هذا القبيل مما يدخل، لا مما يخرج، وإخراج شيء من هذا المسلك يضاهي إخراجَه من السبيلين. والوجه الثاني- أنه يفطر لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «من استقاء عامداً أفطر»، ولم يفصّل بين أن يرجع شيء أو لا يرجع.
والحالة الثالثة- أن يستقيء ويتحفظ جهده، فيغلبه الأمر ويرجع شيء إلى حلقه. فإن قضينا بأنه يُفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فلا شك أنا نحكم بالإفطار هاهنا. وإن حكمنا بأنه لا يفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فهاهنا إذا رجع شيء من غير قصد في الازدراد، خرج المذهب على ما أشرنا إليه في وصول الواصل عند المبالغة.
فإن قيل: الغالب أنه لا يرجع شيء إذا استقاء المرء فالرجوع نادر. قلنا: ليس كذلك، فإنه يمتزج منه بالريق ما يمتزج، ثم يتفق الازدراد، ولعل سبب النهي عن الاستقاء هذا. فالحكم بالإفطار عند بعض الأصحاب محمول على أن الاستقاء لا يخلو من رجوع شيء.
فإن قيل: الماء المستعمل بالمضمضة يمتزج بالريق أيضاًً، فهلا عددتم نفسَ المضمضة من غير مبالغة من الأسباب التي توصل الشيء إلى الجوف؟ قلنا: الكلام على هذا من وجهين:
أحدهما: أن الريق في طباعه لا يمازج الماء، ويمتاز عنه بغلظ ولزوجهَ، والذي يمج الماء من فيه لا يجد للماء أثراً إلا البرد، والذي تردّه الطبيعة يمازج الريق، للمجانسة في الغلظ واللزوجة، وشتان ما بين وارد على الفم يُمَجّ، وبين خارج من الحلق يتحفظ عن رجوع ما يقل منه. وإذا قلنا: من استقاء عامداً، أفطر، وإن لم يرجع شيء إلى باطنه، فلو اقتلع نخامة، ولفظها، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يفطر، كما لو استقاء.
والثاني: لا يفطر، فإن الحكم بالإفطار بالاستقاءة مأخوذ من الخبر، فلا يتعداه.
فصل:
قال الشافعي: "فإن أصبح لا يرى أن يومه من رمضان... الفصل".
2299- مضمون الفصل الكلامُ في صوم يوم الشك. وفي النهي عنه بابٌ في آخر الكتاب.
ولكنا نذكر الآن حظَّ الفقه منه، فنقول:
الوجه البداية بتصوير يوم الشك، فلو طبق الغيم موضع الهلال، ليلةَ الثلاثين من شعبان، فنتبَيَّن أن الهلال لم يُر، وأن الغد من شعبان. فلا أثر لعلمنا، أو ظننا أن الهلال كان يُرى لولا السحاب، لكونه على بُعد من الفرصة؛ فإن الذي تُعبّدنا به الاستكمالُ في هذه الحالة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين».
قال الأئمة: إذا كانت السماء مُصْحيةً، ولم يكن في موضع الهلال مانع، وتراءى الناس الهلالَ، فلم ير أحدٌ، فالغد من شعبان، وليس يومَ الشك. وهذا أقرب إلى أن الغدَ من شعبان من الصورة الأولى.
ولو كانت الرؤية ممكنةً، وقد تحدث الناس بها، ولم يُسمع من يثبت الهلال بشهادته أني رأيت الهلال، أو شهد عدل واحدٌ بالرؤية، وقلنا: لا يثبت الهلال بالواحد، أو لهج برؤية الهلال صِبْيةٌ، أو فَسقة، وغلب على الظن صدقُهم، فهذا يوم شك.
وإن كان في محل الهلال قِطعُ سحاب، فكان من الممكن أن يُرى، وأن يَخْفى، ولكن لم يتحدث أحد بالرؤية، فقد قال شيخي: اليومُ يومُ شك، ولم يشترط في تصوير الشك التحدثَ بالرؤية. وقال غيره: شرط تصوير الشك التحدثُ بالرؤية.
ولا يبعد عندي أن يُفصَّل الأمرُ في ذلك، فيقال: إن كانت الواقعة في بلدة يشتغل أهلها بطلب الهلال، فإذا لم يتحدثوا به، فالوجه أن يكون الغدُ يوم شك. وفيه احتمالٌ على حال.
وإن كان الإنسان في سفر وجرى ما صوره شيخي، ولم يبعد أن يكون رأى أهلُ القرى الهلال، فيحتمل أن يكون الغدُ يومَ شك.
هذا في التصوير، والغرض وراء ذلك.
2300- فإذا نوى الرجل في الليلة التي لم يثبت فيها رؤية الهلال أن يصوم غداً، فهذا يتصور على أوجه: فإن لم يكن معه مستند يثير ظناً، وردّدَ النية مع ذلك، وقال: إن كان الغدُ من رمضان، نويت صومَه، فإذا اتفق كونُه من رمضان، وشهدت عليه البينة، فلا يقع صومُه عن رمضان؛ لأنه لم يجزم النية، ولم تستند نيتُه إلى أصلٍ، فلم يحصل له العبادة، مع حقيقة التردد في القصد.
ولو جزم النية وعقدها، ونوى أن يصوم غداً من رمضان، ولم تستند نيتُه المجزومة إلى أصلٍ يثير ظنّاً، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في المسألة:
أحدهما: أنه إذا وافق صومُه رمضانَ، صح واعتدَّ به، لجزمه النيةَ.
والثاني: لا يعتد به، كما لو ردّد النية.
والتحقيق فيه أن الجزم غير ممكن مع التردّد، فإن صوّر مصورٌ جزماً، فذاك إجراءُ حديث نفس، وليست النية حديثاً، وإنما هي قصدٌ واقع، ولا يتصور تجرّده مع التردد في المقصود.
ولو ثبت عنده أصلٌ يثير غلبة الظن، كشهادة عدلٍ أو صِبيةٍ ذوي رشد، فإذا نوى والحالة هذه أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإلا، فهو تطوع، فظاهر النص أنه إذا بان ذلك اليوم من الشهر، لم يعتد بصومه، لمكان التردد. وذكر طوائف من الأصحاب وجهاً آخر: أن الصوم يصح؛ لاستناده إلى أصل، وهذا لعمري موافقٌ لمذهب المزني.
ولو كان معه أصل، وجزم النية، ثم بان أن اليوم من الشهر، فقد كان شيخي يقطع بالاعتداد، ويقول: إن اجتمع التردد، وانتفاء ما يعتمد فلا اعتداد، وإن اجتمع ما يعتمد مع جزم النية، اعتد بالصوم. وإن وجد الجزم، ولا مستند، أو جرى التردد مع ثبوت المستند فوجهان.
وهذا وإن كان مهذباً، فالذي يقتضيه الفقه في ذلك أنه إن لم يكن أصلُ، لم يعتدّ بالصوم، ردَّدَ أو جزم. وإن كان أصلٌ، ففي الاعتداد بالصوم الخلاف، ردَّدَ، أو جزم؛ فإن الجزم غيرُ متصوّر، ومصوره يقيم حديث النفس قصداً، وليس الأمر كذلك.
2301- والمطلوب وراء ذلك كله، فنقول: إن نوى المكلف ليلة الثلاثين من رمضان، أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإن كان عيداً أفطر، فكان من رمضان، صحّ الصوم وفاقاً، نصَّ عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب، وبنَوْا ما ذكروه على الاستصحاب. ولا متعلق من هذه الجهة في أول الشهر؛ فإن المستصحبَ شهر شعبان، فإن لم يكن مع انتفاء الاستصحاب متعلَّق، فلا اعتداد بالصوم على قياس المذهب، خلافاً للمزني. وإن كانت علامةٌ، فهل تقوم مقام الاستصحاب؟ فعلى وجهين، والعلامات في مجال النظر ومسائل الاجتهاد مقدمةٌ على الاستصحاب، غير أنها ضعيفة في هذا المقام، حتى كأنها مفقودة.
فإن قيل: فشهادة العدل الواحد ظاهرةٌ في إثارة الظن، قلنا: ولكن لا متعلق فيها مع حكم الشرع بأنه لا يُعمل بها، والظنون في مسائل الاجتهاد لها متعلقات معمول بها إجماعاً، كخبر الواحد، والقياس الفقيه، ووجوه التشبيه، والظن في الاجتهاد لا يُغني بعينه، ما لم يثبت قاطع في العمل به.
نعم المحبوس في المطامير إذا التبس عليه شهرُ رمضان، يتحرى جهده، فإذا صام ووافق صومُه شهرَ رمضان، اعتُدّ به وفاقاً، للضرورة الداعية إلى ذلك، فوجب العمل بموجب التحرّي، لمكان الضرورة.
وليس على الإنسان في أول الشهر أن ينوي الصومَ، وإن ثبت مستندٌ. وقد ثبت في الشرع ظنُّ المحبوس معمولاً به لضرورته، فصار ظنه كالأقيسة في ازدحام الوقائع؛ فإنا نضطر إلى العمل، ولا متعلق غيرُ القياس.
2302- ثم قال الأصحاب إذا سقطت العلامات، أو لم يثبت في الشرع العمل بها، فالاستصحاب قانونٌ في الشريعة، كما ذكرناه في آخر الشهر، وله أمثلة نذكر ما يحضرنا منها:
فمن استيقن الحدث، وشك في الطهارة بعده، فتطهر على هذا التردد، ثم بان له أنه ما كان تطهر، صح وضوؤُه، بناء على استصحاب الحدث، ولو استيقن الطهرَ وشك في الحدث، فتطهر على التردد، فبان أنه كان محدثاً، لم يصح وضوؤُه؛ بناء على استصحاب الطهر.
وقياس مذهب المزني الصحة.
ومن أخرج زكاة ماله الغائب، وهو على التردد في بقائه، ثم بان بقاؤه أجزأه المخرَج. ومن أخرج زكاة مال أبيه على تقدير موته، ثم بان موتُه، كما قدّر، لم يعتد بما أخرجه بناءً على بقاء الأب. فهذا وجه ربط النية بالاستصحاب نفياً وإثباتاً.
قال الأصحاب: لو نوى أن يصوم غداً من شهر رمضان، أو تطوعاً، لم تصح نيتُه من غير تنويعٍ، وتقدير حالٍ بدل حال، ففسدت النية. وليس كما إذا نوى أن يصوم غداً عن رمضان إن كان منه، أو تطوعاً إن لم يكن.
والعجب اشتغال المصنفين بأمثال هذه الترهات مع الذهول عن مقصود الكلام.
فصل:
قال: "وإن وطئ امرأته، فأولج عامداً، فعليه القضاء والكفارة... الفصل".
2303- من أفطر عامداً في نهار رمضان، بجماع تام، لا شبهة فيه، التزم الكفارةَ العظمى، على ما سنصفها.
فنستقصي في صدر هذا الفصل ما يوجب الكفارة العظمى، ثم نصفها، وننظر ما يقتضيه الترتيب بعدهما.
فموجِب الكفارة الجماعُ التام وهو تغييب الحشفة في الفرج، والمذهب أن الكفارة تثبت بالإيلاج في أي فرج كان، فلو أتى امرأةًُ، أو تلوّط، أو أتى بهيمةً، التزم الكفارة.
وذهب بعضُ أصحابنا فيما ذكره بعض المصنفين، وصاحب التقريب إلى إتباع الكفارة الحدَّ، فكل وطء يتعلق الحد بجنسه، تتعلق الكفارة به، وكل وطءٍ اختلف القول في تعلق الحد به، كإتيان البهيمة، ففي وجوب الكفارة به ذلك الخلاف.
وهذا رديء مزيف، ولا خلاف في حصول الفطر بإيلاج الحشفة في أي فرج قُدّر.
ثم لا تجب الكفارة العظمى بجهةٍ من جهات الفطر خلا الوطءَ، وعلّق مالك وجوب الكفارة بكل فطرٍ يأثم المفطر به. ولأبي حنيفة تفصيل متناقض، ليس من شرطنا ذكرُه.
2304- وإذا بان المذهب في الجنس الموجب للكفارة، فالكلام بعد ذلك في الحال المعتبر، فالعامد الذي لا عذر به، هو الملتزم للكفارة، فأما من وطئ ناسياً للصوم، فظاهر ما نقله المزني أنه لا يفطر، كما لو أكل ناسياً.
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج جماع الناسي على قولين:
أحدهما: أنه يتضمن الفطر، والثاني: لا يتضمنه. وأخذ هؤلاء القولين من اختلاف قول الشافعي في المحرم إذا جامع ناسياً.
وهذا غير مرضي؛ فإن محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ واستهلاكٍ، فالاستمتاع كالطيب ولُبس المخيط، يفصل فيه بين الناسي والعامد، على الأصح، والجماع متردد في نص الشافعي بين الاستمتاع والاستهلاك، ولا انقسام في محظورات الصوم، فالوجه إجراؤهما على قضيةٍ واحدة في حكم النسيان. فإن حكمنا بأن المجامع ناسياً لا يفطر، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يُفطر، ففي وجوب الكفارة وجهان في بعض التصانيف.
فإذا أوجبنا الكفارة على الناسي حيث انتهى الترتيب إليه، توجه إيجاب الكفارة على من يخالط امرأته ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين له مصادفة الوقاع النهارَ، فالمذهب حصول الفطر ثمَّ.
والأصح أن الناسي لا يفطر بالوطء، ثم إذا ألزمنا الناسيَ الكفارةَ عند الحكم بإفطاره، فتلك الصورة بالكفارة أولى. وهذا لم أقله احتمالاً، بل ذهب إليه طوائف من أصحابنا، فيما عثرت عليه.
2305- ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن المرأة إذا طاوعت، ومكنت، فلا شك أنها تُفطر، وفي وجوب الكفارة عليها ما نُبيّنه.
ظاهر النصوص للشافعي أن الزوج يختص بالتزام الكفارة، وقال أبو حنيفة: تلزمها الكفارة، كما تلزمه، ولا تداخل، بل كل واحد يختص بالتزام الكفارة، وهذا قولٌ للشافعي، نص عليه في الإملاء، والقولان يوجّهان في الخلاف.
فإن أوجبنا على كل واحد منهما كفارة، من غير تداخل، ولا تحمّل، فلا كلام. وإن أوجبنا الكفارة عليه دونها، ففي تنزيل القول في ذلك مسلكان مأخوذان من نصوص الشافعي. وإن أوجبنا، فَلَنا قولان:
أحدهما: أن الوجوب لا يلاقيها، وليس ما يصدر منها من موجبات الكفارة أصلاً.
والقول الثاني- أن الوجوب يلقاها، والزوج يتحمل عنها، ثم نقدِّر اجتماع كفارتين في حقه، ونقضي بالتداخل، قضاءنا به في الحدود. وهذا بعيد عن القياس، وإن كان ظاهرَ المذهب. ومعتمد الشافعي حديثُ الأعرابي، وسنذكره لغرضٍ فقهي فيه، على أثر هذه الفصول.
2306- ثم يتفرع على ما ذكرنا فروعٌ بها تتبين حقيقةُ القولين. فإن قلنا: لا يلقاها الوجوب قط، فلا إشكال، وإن أثبتنا ملاقاةَ الوجوب، وحكمنا بالتحمل، فلو زنى بامرأة، لزمتها الكفارة؛ إذ ليس بينهما ما يوجب التحمل عنها، ولو كان الواطىء مجنوناً زوجاً، فعليها الكفارة، فإن المجنون ليس من أهل التحمل، ولو كانت المرأة من أهل التكفير بالصوم، أمرناها بصوم الشهرين، فإن التحمل لا يتطرق إلى عبادات الأبدان، وإن كان الزوج من أهل الإعتاق، والمرأة من أهل الإطعام، ففي المسألة وجهان في بعض التصانيف:
أحدهما: لا تحمل، ولا تداخل لاختلاف الجنس.
والثاني: يتحمل عنها، ثم يندرج الإطعام تحت العتق للاجتماع في المالية.
والسيد إذا وطئ أمته، فالملك يقتضي من التحمل ما تقتضيه الزوجية، ولكن كفارة الأمة بالصوم، فيمتنع التحمل من هذه الجهة.
فهذا مجموع ما أردناه في ذكر موجِب الكفارة.
2307- وإذا حصل الإفطار بغير الوقاع، فلا شك أن الكفارةَ العظمى لا تجب عندنا، وهل نوجب مع القضاء مُدّاً على القاضي في الإفطار بالأكل وغيره؟ في المسألة وجهان: أصحهما- أنا لا نوجب؛ فإنه لا ثبت، ولا توقيف فيه، وليس معنا قياسٌ يقتضيه.
2308- فأما الكلام في صفة الكفارة، فهي مرتبة: عتقٌ، وبعد العجز عنه صيامُ شهرين، فإذا فُرض العجز عنه، فإطعام ستين مسكيناً، وتفصيلها يأتي في كفارة الظهار.
2309- وهل يجب القضاء مع الكفارة؟ محصول ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب قضاء الإفطار الحاصل، فإن الكفارة لا تجبر فساد العبادة.
والثاني: لا يجب القضاء مع الكفارة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء، لما أمره بالكفارة.
والوجه الثالث: أن التكفير إن كان بالإعتاق أو الإطعام، وجب القضاء، وإن كان التكفير بالصيام، لم يجب القضاء والأصح وجوب القضاء. فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "اقضيا يوماً مكانه "؟ قلنا: هذا لم يصححه أهل الحديث.
ولم يختلف الأصحاب أن المرأة يلزمها القضاء، إذا لم بلزمها الكفارة. ولا نقول يتحمل الزوج؛ فإن الكفارة إذا كانت صوماً، لم يتحمل، فما الظن بالقضاء؟ وهذا لا شك فيه.
2310- ولو جامع في يوم، فالتزم الكفارة، ثم جامع في يومٍ آخر، قبل التكفير، لزمه كفارة أخرى، ولا تداخل، خلافاً لأبي حنيفة.
2311- والمنفرد برؤية الهلال إذا شهد، فردت شهادته، وألزمناه الصومَ، فلو جامع، لزمته الكفارة خلافاً لأبي حنيفة.
فهذا نجاز القول في موجب الكفارة وفي تفصيل الكفارة على قدر غرضنا.
2312- ومما يتعلق بالفصل حديثُ الأعرابي والكلامُ عليه: روي: أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يضرب نحره، وينتف شعره، ويقول: هلكتُ وأهلكت يا رسول الله، فقال: ماذا صنعت؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعتق رقبة». فضرب يده على سالفته، وقال: لا أملك رقبة غير هذه فقال: «صم شهرين» فقال: هل اُتيت إلاّ من الصوم، فقال: «أطعم ستين مسكيناً»، فقال: والله ما بين لابتيها أفقر مني، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ من طعام يسع خمسةَ عشرَ صاعاً، وكال على قَدْره، فقال صلى الله عليه وسلم: «تصدق به»، فقال: على أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي؟ فاحتضن الأعرابي الطعامَ وولى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. وقد ربط الأئمة أحكاماً بهذه القصة، ونحن نذكرها مرسلة، ثم نتعلق بالقصة عند مسيس الحاجة.
2313- ذكر العراقيون ترتيباً جامعاً حسناً، قد مضى لنا أصله، ولكنا نُعيده لزوائدَ، قالوا: الحق المالي الذي يجب لله تعالى من غير سبب، إذا دخل وقتُ وجوبه، ولم يصادف قدرةً عليه، ولا استمكاناً، فلا يجب الحق، وزوال العجز بعده لا أثر له، وهذا كصدقة الفطر.
وما يجب بسببٍ ينقسم إلى ما يحل محل الأبدال، وإلى ما لا يحل محله: فأما ما يحل محل الأبدال، فإذا تحقق سببه، وصادف عجزَ صاحب السبب، فيستقر في الذمة، إلى اتفاق اليسار والتمكن، وهو بدل الصيد؛ فإنه يجب بدلاً عن الصيد، والغالب عليه مَشَابِه الغرم.
وأما ما يجب بأسبابٍ، ولا يثبت بدلاً، ولا مشابهاً لبدل، كالكفارات جُمَع، سوى ما ذكرناه، فإذا صادف سببُه العجزَ عن البدل والمبدل، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها لا تجب، وإن طرأ الاقتدار من بعدُ، قياساً على زكاة الفطر.
والثاني: أنها تثبت في الذمة، ثم الاختلاف في النظر إلى وقت الوجوب والأداء مشهور.
وذكر صاحب التقريب ما ذكروه، ولم يستثن جزاء الصيد، ولا ينبغي أن يعتقد في جزاء الصيد خلاف، وتَرْكُ استثنائه من صاحب التقريب غفلة.
وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكره هؤلاء، وحكى عن صاحب التلخيص أنه استثنى كفارة الظهار، وقال لا يستحل المظاهر الإقدامَ على الوطء، ما لم يكفر. قال الشيخ أبو علي كفارة الظهار خارجةٌ على الخلاف، ولا معنى لاستثنائها، ثم قصة الأعرابي تعضد إسقاط الكفارة.
2314-ومما تلقاه الأئمة من الحديث التردُّدُ في أن الغُلمة إذا أفرطت هل تكون عُذراً في ترك الصيام؟ أي صيام الكفارة، وسبب هذا-على بعده- قصةُ الأعرابي؛ حيث قال: وهل أُتيت إلاّ من الصوم؟ وترددوا أيضاًً في أن ملتزم الكفارة إذا اتصف بكثرة العيال، وقلة المال، فهل له أن يصرف الطعام إلى أهله؟ وسبب ذلك تلك القصة أيضاً.
2315- والرأي عندنا إلحاق قصة الأعرابي برخصةٍ خص الشارع بها مُعَيَّناً، وكثيراًً ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم في قصة الأضاحي: "تَجْزِي عنك، ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك". وجرى مثل ذلك في إرضاع الكبير. وهذا وإن كان على بعدٍ، فهو أهون من تشويش أصول الشريعة، لقصةٍ ينقلها آحاد وأفراد.
فصل:
قال: "والحامل أو المرضع إذا خافتا على ولديهما... الفصل".
2316- من أفطر بعذر يخصه، فلا يلزمه إلا القضاء، كالمسافر والمريض، ومن أفطر عاصياً بغير وقاعٍ، لزمه القضاء، وفي لزوم الفدية الخلاف المقدم، والحامل إذا كانت تخاف على جنينها لو صامت، فإنها تفطر، وعليها القضاء، وفي لزوم الفدية، وهو مدٌّ مع كل يوم، قولان:
أحدهما: أنها تجب، لما روي عن ابن عباس " أنه قال في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]: إنه منسوخ الحكم إلا في الحامل والمرضع".
والقول الثاني- لا يلزمها الفدية؛ لأنها وإن كانت تخاف على ولدها، فالخوف يرجع إليها أيضاًً لو أجهضت، فهي كالمريض. ومن قال بالأول كفاه التعلقُ بالتفسير، وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما، قضتا، وافتدتا بمدّين من طعام".
وله أن يقول أيضاًً: الحامل وإن لم تُجْهِض، فلابد وأن تلد، فلم يتجدد عليها بالإجهاض مزيد خوف، والأمر راجع إلى الولد.
و المرضع إذا خافت على ولدها إن صامت، ففيها طريقان: أصحهما القطع بإيجاب الفدية مع القضاء؛ فإنها صحيحة البدن لا عذر بها في نفسها، فهي المطيقة تحقيقاً، والمفطرة بسبب الغير.
وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن من كان صائماً، فوجد مشرفاً على الهلاك، وتعيّن عليه إنقاذه، وكان لا يتأتى ذلك منه إلا بالإفطار، فإذا أفطر، قضى، وفي التزام الفدية وجهان، فإن هذا إفطارٌ بسبب الغير، وهذا بعيد؛ فإن التعويل في المرضع والحامل على الخبر، ولا مجال للقياس.
فإن قيل: لم ضعَّفتم إيجاب الفدية على العاصي بالأكل؟ قلنا: لأن الفدية جابرة حيث ثبتت، وما نراها تجبر ما صدر عن العاصي بالفطر، وإن كانت تغليظاً، فليست على قدر ما صدر منه، فالإثم العظيم أليق به. وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب أن من تعمد ترك التشهد هل يسجد؟ ووجه التقريب أن الساهي بالترك أثبت له الشرع مستدركاً وجابراً، والمتعمد لا يستحق ذلك، فاسْتَدَّ نقضُ الصلاة عليه.
فصل:
قال " ومن حركت القُبْلة شهوته... إلى آخره".
2317- لا خلاف أن الاستمناء يفطر، ولا تتعلق الكفارة به عندنا، وعند أبي حنيفة.
وإذا قبل الصائم، أو وُجد بينه وبين امرأته التقاء البشرتين، وترتب الإنزال عليه، تعلق الإفطار به.
ولو نظر أو ذكر، وأنزل، لم يُفطر.
ولو ضم امرأته إلى نفسه، وبينهما حائل، فأنزل، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي.
وهذه الصور عندي تدار على القاعدة التي مهدتها في وصول الواصل إلى الجوف مع التسبب إليه، فالاستمناء يُخرج مادة الزرع لا محالة، فكان كاعتماد الأكل والشرب، والنظر والفكر كالأسباب العامة التي لا يغلب وصول الواصل بها إلى الجوف، والضم والالتزام، مع الحائل، في مرتبة المضمضة، والتقاء البشرتين عندي قريب من المبالغة، فيتجه فيه تخريج خلاف لا محالة، وقد وجدت رمزاً إليه للشيخ أبي علي في الشرح.
ثم قال الأئمة: إن كانت القبلة تحرك الشهوة، كرهناها للصائم، وإن كانت لا تحركها تحريكاً يخاف منه الخروج عن الضبط، فلا بأس بها؛ قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدانا، وهو صائم، وكان أملككم لإرْبه، بأبي هو وأمي " وقيل: سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة في الصوم فأباحها له، فسأله آخر فنهاه فروجع في جوابه صلى الله عليه وسلم، فقال: كان الأول شيخاً، والثاني شاباً. وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قبلة الصائم، فقال: "أرأيت لو تمضمضت " وهذا منه قياس حسن، وفيه إشارة إلى تنزيله القبلة على المضمضة والمبالغة.
فصل:
قال: "وإن أغمي على رجلٍ... الفصل إلى آخره".
2318- إذا نوى الرجل الصوم من الليل، فأغمي عليه نهاراً، فقد اختلفت النصوص: قال هاهنا: إذا أفاق في شيء من النهار، صح صومُه. وإن دام الإغماء جميعَ النهار، فلا.
وقال في كتاب الظهار: إن دخل في الصوم وهو يعقل، ثم أغمي عليه أجزأه، فاشترط الإفاقة في أول النهار.
وقال في كتاب اختلاف العراقيين: إن حاضت المرأة، أو أغمي عليها، قضت، فجمع بين الإغماء والحيض، فظاهره أن حدوث الإغماء في شيء من النهار يفسد الصومَ.
والمزني جعل الإغماء كالنوم، وقال: لا يضر أن يستغرق الإغماء جميعَ النهار، بعد تقدم النية ليلاً، فجعل كثيرٌ من أصحابنا ذلك القولَ مُخرَّجاً.
وذكر بعض الأصحاب اشتراط الإفاقة في طرفي النهار.
ثم من الأصحاب من جعل المسألةَ على خمسة أقوال: ثلاثةٌ منصوصة، وقولان مخرجان.
2319- التوجيه: من قال: إن استغراق الإغماء يبطل، والإفاقة في لحظة من النهار لابد منها-وهذا ما نقله المزني- فوجهه أنا لو رددنا إلى قياس النيات وآثارها، اقتضى أن يُشترطَ ذكرُها، وانبساطُها على جميع أجزاء العبادة؛ فإن النية قصد، والقصد الحقيقي هو المقترن بالمقصود، ولكن استصحاب ذكر النية عَسرٌ غيرُ يسير، والغفلات لا دفْعَ لها، فاكتفى الشرع رخصةً بتقديم العزم. وإذا لاح ذلك، فلا أقل من أن يقع المعزوم عليه بحيث يُتصور القصد إليه، حتى ينزل منزلة ما يقترن القصد به، والمغمى عليه لم يقع إمساكه مقصوداً، حتى يصرف إلى المعزوم عليه، وينزل منزلة المقصود، فإذا استغرق الإغماء، فقد عم ما ذكرناه، فإذا وجدت الإفاقةُ في لحظة-والعبادة لا تنقسم- أتبعنا زمان الإغماء زمانَ الإفاقة.
2320- ثم ينقدح للناظر مراتب: إحداها- الجنون، وهو يسلب حكم الاختيار بالكلية، ويستأصل قاعدةَ التكليف؛ فيعظم أثره، حتى يصير طريان القليل منه مفسداً للعبادة؛ فإنه يكاد يقلب الإنسان عن خاصية الإنسان، ويلحقه بالأحكام البهيمية.
والمرتبة الثانية- الإغماء، وهو تغشية العقل على وجهٍ لا يبقى اختيارٌ في دفعه، ما لم يندفع بنفسه، وليس كالجنون، فاتجه أن نتُبعَ زمانَ الإغماء زمانَ الإفاقة، ونجعلَ مستغرِقه مفسداً.
والمرتبة الثالثة- النوم، وهو مزيلٌ للتمييز، ولكنه معرض للإزالة على قصدٍ فَخفَّ أمرُه.
والمرتبة الرابعة- اطراد الغفلة، وهي محطوطة بالكلية.
هذا الذي ذكرناه هو الأصل، أما الغفلة، فلا خلاف فيها. وأما النوم، فالمذهب فيه ما قدمناه، ومن أصحابنا من جعل مستغرِقَه كمستغرِقِ الإغماء، ويعزى هذا إلى أبي الطيب بن سلمة. وألحق بعضُ أصحابنا طارئ الجنون بالإغماء، وهذا في نهاية البعد. فأما نص الظهار، فموجَّهٌ بأن الإفاقة إذا ثبت شرطُها، حلّت في وضعها محل القصد الحقيقي، وهو النية، والنيات محالّها أول العبادات. ومن قال: طريان الإغماء كطريان الحيض، فوجه قوله التشبيهُ، والإغماءُ كالحيض وجوداً؛ من جهة أن واقعه لا يُدفع، ثم هو لا يدوم دوام الجنون، فكان كالحيض، ولهذا شابَهه في إسقاط قضاء الصلوات دون قضاء الصوم، وإذا ثبت الشبه وجوداً وحكماً، ألحق به.
وأما وجه القول المخرج الموافق لمذهب المزني، فظاهرٌ، ومستنده الاكتفاء بالنية السابقة، وحصول الإمساك. وإذا لم يكن ذكرُ النية شرطاً، فلا يظهر بعد ذلك اشتراطُ الإفاقة.
ومن اعتبر الطرفين وهو أضعف الأقوال، اعتقد ما بينهما محتوشاً بهما وحكم بمقتضاهما على ما بينهما.
فهذه طريقة الأصحاب.
ومنهم من رأى القطع بما نقله المزني من اشتراط الإفاقة في لحظة-وقد وجهناه- واطَّرح القولين المخرجين، وحمل نصّ الظهار على الإفاقة في اللحظة الأولى على التنصيص على لحظةٍ وفاقاً، من غير اعتناء بتعيينها، وقد يعتاد أمثال ذلك في مجاري الكلام.
2321- وأما نصه في اختلاف العراقيين، حيث جمع بين الحيض والإغماء، فقد قال بعض الأصحاب: يصرف جوابه إلى الحيض. وهذا سخف في طريق التأويل؛ فإن من ذكر شيئين وعقبهما بحكمٍ، استحال أن يُعتقد ذكر أحدهما، فالوجه حمل ذكر الإغماء على المستغرِق، وهذا أمثل، وإن كان بعيداً.
وقد نجز غرض الفصل.
2321/م- ثم ذكر الشافعي بعد هذا: أن الحائض منهيّةٌ عن الصوم، ولو قصدته وأوقعت الإمساك منوياً عَصَت ربَّها، ثم تَقضي الحائض ما امتنع من الصوم بسبب حيضها، ولا تقضي الصلاةَ. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحيض.
فصل:
قال: "وأحب تعجيل الفطر، وتأخير السحور... إلى آخره".
2322- والمتبع في ذلك الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: «عجلوا الفطر، وأخروا السحور» وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم السحورَ غداء، فروي أنه كان يتسحر، فقال لطائفةٍ من أصحابه: "هلموا إلى الغَدَاء المبارك".
وقال زيد بن ثابت: "كان بين تسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاة الصبح قدرُ خمسين آية". وفي الحث على تعجيل الفطر أخبارٌ.
ولا ينبغي لمؤخر السحور ومعجِّل الفطر أن يوقع فعلَه في مظنة التشكك، ودركُ اليقين في الطرفين أهمُّ من كل شيء، وإن جرى الأمر على ظن أو اجتهاد، فقد تفصل هذا فيما مضى.
فصل:
قال الشافعي: "وإذا سافر الرجل... إلى آخره".
2323- السفر الطويل يبيح الفطرَ، ولا يبيحه القصير، فالفطر من الرخص المختصة بالسفر الطويل، وقد ذكرنا السفرَ الطويلَ والقصيرَ.
ثم الفطر رخصة، والصوم صحيحٌ مجزىء، خلافاً لداود. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في سفره، وأفطر. وعن أنس قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا القاصر، ومنا المتم، ولم يعب بعضنا على بعض " وعن عائشة أنها لما انقلبت عن سفرة حجة الوداع، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقالت: "صمت ما أفطرت، وأتممت ما قَصَرت". فقال: "أحسنت". وقوله صلى الله عليه وسلم: «الصوم في السفر كالفطر في الحضر». محمول على مكابدة الصوم، مع ظهور الضرر.
وروي: «أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في السفر، يُظَلّلُ، وينضح بالماء ويهادَى بين رجلين، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه صائم، فقال عليه السلام: إن الله عز وجل عن تعذيب هذا نفسَه، لغني». وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيامُ في السفر» وينزل قوله العام على السبب، ولا يبعد ذلك.
فإذا ثبت الأصل، فالمسافر بالخيار بين الصوم والإفطار، والصوم أفضل من الفطر، إذا لم يظهر ضررٌ ظاهرٌ، والقول فيه أنه إن كان يخاف إفضاءه إلى مرض، فهو الذي نعنيه، وعنده يُستحث على الفطر، وإن كان ضررٌ لا يغلب إفضاؤه إلى المرض، فهو من التعب الذي يكثر به الأجر. والمفضي إلى المرض في حكم تعجيل عبادة تُفضي إلى تعطيل أمثالها.
وحيث قطعنا بأستحباب الصوم، اختلف القول في القصر والإتمام، وقد قيل: السبب في الفصل عدمُ الاعتداد بخلاف داود، وقيل: "الفاصل أن القاصر ليس مخلياً وقتَ العبادة، بخلاف المفطر"، وترقب القضاء تعويلٌ على أمرٍ مُغَيَّب.
2324- ثم يتصل بالقول في السفر: أن من أصبح صائماً، ثم أنشأ السفر، لم يجز له أن يفطر، لأن الصوم تأكد بالإقامة، وإتمامه ممكن، من غير ضرار، كما وصفناه.
ولو أصبح المسافر صائماً، وقدم الوطنَ، لم يفطر. ومهما اشترك في الصوم الحضرُ والسفرُ، فالتغليب للإيجاب و حكم الحضر.
ولو أصبح صائماً مسافراً، ثم بدا له أن يترخص بالفطر في دوام السفر، فالذي سمعته من شيخي، ووجدته في فحوى الطُّرُق جوازُ ذلك. وكان من الممكن أن يقال: إذا خاض فيه، التزمه، كما لو نوى الإتمام؛ فإنه لا يقصر. ولو نوى الإتمامَ، ثم فسدت تلك الصلاة، والوقت باقٍ، فيلزمه الإتمام، ويمتنع عليه القصر.
ويظهر مما أبديناه من الإشكال: أنا لو قدرنا دوامَ السفر، كدوام المرض، والمريض إذا أصبح صائماً، فله أن يفطر، فلو صح هذا التشبيه، للزم أن يقال: من أصبح صائماً مقيماً، ثم سافر، جاز له أن يفطر، كما لو كان صحيحاً في أول النهار، ثم مرض. وهذا مذهب أحمد والمزني فكأن السفر على رأي الشافعي بين المرض والترخّص بالقصر، وتواصله يلحقه بالمرض، وطارئه لا يجرُّ من المشقة والعسر ما يجره طارئ المرض؛ فإن المرض في عينه يورث العسر.
فافهموا مواقع المذهب.
وقد احتج المزني في طريان السفر، وجواز الفطر، بسببه بما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم، صام حتى بلغ كراع الغميم، ثم أفطر» فظن المزني أن ذلك كان في يوم واحد، واعتقد أنه صلى الله عليه وسلم، كان مقيماً في أوله مسافراً في أثنائه، وما ذكره وهمٌ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة، وبينه وبين كراع الغميم مسيرة ثمانية أيام، فالمراد بالحديث أنه صام أياماً في سفره، ثم ابتدأ الترخّص بالإفطار لما انتهى إلى كُراع الغميم، و قد قيل: تبين هذا للمزني بعد الاحتجاج، فقال للكتبة: خُطّوا عليه، وقد يُلفى في بعض النسخ استدلاله بالحديث مخطوطاً عليه.
فصل:
قال الشافعي: "ولو قدم من سفره نهاراً مفطراً... الفصل".
2325- مقصود هذا الفصل القول في الإمساك عن المفطرات، بعد جريان الفطر في أول النهار.
وأصل الفصل أن من أفطر عاصياً عامداً، فالشرع يُلزمه الإمساكَ عن المفطرات في بقية النهار. وهذا يختص بأيام رمضان، فليس على العاصي بالفطر في صوم القضاء، والنذر إمساكٌ. ثم الأمر بالإمساك مشبه بالتغليظ، وطرفٌ من العقوبة، ومضادّةُ القصد، ثم الممسك متشبه، وليس في عبادة، وليس كالمحرم إذا أفسد إحرامه؛ فإنه بعد الفساد في عبادةٍ فاسدة. ويظهر أثر ذلك بأن المفسد للإحرام لو ارتكب محظوراً في إحرامه بعد الفساد، التزم الفدية، والمأمور بالإمساك لا يلتزم بالإقدام على المفطر شيئاً، وإنما يناله المأثم بتركه الأمرَ الجازم، وارتكابه النهي المحرم.
وقد ذكر العراقيون وجهين في أن الإمساك المأمور به بعد الإفساد هل يسمى صوماً؟ ولست أرى في الاختلاف فائدة.
ويقرب من ذلك أن من أصبح في يومٍ من رمضانَ غيرَ ناوٍ، فلا نجعله صائماً، ويلزمه الإمساك، فلو نوى التطوع بالصوم، وكان ذلك قبل الزوال، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الصومَ لا يصح، وذهب أبو إسحاق إلى صحة الصوم، ووجه الرد عليه ينقسم: فيجوز أن يقال: إن كان الإمساك واجب، ومن نعت التطوع التخير، فلو صح تطوّعه بالصوم، والصوم إمساك منوي، لوقع الإمساك واجباً عن جهة الوجوب، متطوَّعاً به عن جهة التطوع، وهذا متناقض.
فهذا وجه.
والمسافر عندنا لا يتطوع بالصوم في سفره، وإن كان يسوغ له الإفطار، فليس الصوم مستحَقاً عليه، والتطوع ممتنع، وسببه أن الذي حط عنه وجوبَ الصوم الترخيصُ بالفطر، فإن لم يُفطر، فقد ترك الترخص، وليس بين إقامة الصوم وبين الترخص بالفطر مرتبة، والشرع لم يجعل شهر رمضان في حق المسافر كسائر الشهور، حتى يضع فيه أيَّ صومٍ شاء، وأبو إسحاق المروزي لما جوز للمقيم الذي أصبح غير ناوٍ أن يتطوع بالصوم، فإنه على قياسه يجوز للمسافر أن يتطوع، وهذا حَيْدٌ عن مذهب الشافعي وقياسِه.
2326- فإذا ثبت أن العاصي بفطره يلزمه الإمساكُ، وتبين أصلُ المذهب فيه، وتعليلُه ومأخذُه، فلو أصبح الرجل في يوم الشك مفطراً، ثم ثبت بالشهادة أنه من رمضان، فظاهر المذهب وجوبُ الإمساك عن المفطرات، ووجه تخريج هذا على القاعدة التي مهدناها في الإمساك إذا قلنا: إنه على مضاهاة العقوبة-والمفطر في يوم الشك ليس يستوجب عقوبة- أنا وجدنا في الشرع تنزيل المخطئ في الشيء الذي يأثم العامدُ فيه منزلة العامد، في بعض الأحكام، لانتسابه إلى ترك التحفظ.
وعلى قريب منه يخرج حرمانُ القاتل خطأ الميراثَ. هذا وجهُ ظاهر المذهب.
وحكى البويطي وحرملة فيما نقله العراقيون قولاً عن الشافعي أن المعذور بالفطر في يوم الشك لا يلزمه الإمساك عن المفطرات، وهذا خارجٌ على القاعدة التي مهدناها خروجاً ظاهراً.
2327- فلو أفطر المسافر في سفره، ثم أقام في أثناء اليوم، أو أفطر المريض، ثم زال ما به، فلا يجب عليهما الإمساك، وإن تغيرا إلى الإقامة والسلامة، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو أصبحا مع العذر صائمين، ثم أقام هذا، وصحّ ذلك، تحتم إتمام الصوم.
ولو أصبحا ممسكين غيرَ ناويين، ثم انتهينا إلى الإقامة والسلامة، ففي بعض التصانيف وجهان في وجوب الإمساك، ولست أرى لإيجاب الإمساك وجهاً.
2328-و مَنْ ترك النية وأصبح وهو مفطرٌ، فإذا لم يختلف المذهبُ في نفي وجوب الإمساك إذا كان أكل المريضُ والمسافر، فإذا أصبحا غير صائمين، فهو كما لو أكلا.
2329- ولو أسلم الكافرُ في أثناء يومٍ، وبلغ الصبي، وأفاق المجنون، فهل يلزمهم الإمساكُ في بقية النهار؟ فعلى أربعة أوجهٍ مجموعةٍ في بعض التصانيف، وهي مفرقة في الطرق: أحدها: أنه يجب الإمساك عليهم؛ لأنهم إن لم يدركوا وقتَ العبادة، أدركوا وقتَ الإمساك، وليسوا كالمسافر يفطر مسافراً، ثم يقيم، فإنه خوطب بالترخص، وهؤلاء كانوا مستأخرين عن التكليف، و الآن كلفوا.
والوجه الثاني- أنه لا يجب عليهم الإمساك، وهو الأصح؛ فإن وجوب الإمساك تَبِعَ لزومَ الصوم، وهؤلاء لم يلتزموا الصومَ؛ فإنهم لم يدركوا وقتاً يسع الصومَ الشرعي، وشرط التكليف الإمكان.
والوجه الثالث: أن الكافر إذا أسلم مأمورٌ بالتشبه؛ فإنه كان متمكناً من تَرْك الكفر، والتوصل إلى الصوم، فإذا لم يفعل، كان في حكم تاركٍ لفريضة الصوم في أول النهار، وهو يلتفت على مخاطبة الكفار بالفروع.
والوجه الرابع: أنه يلزم الكافر كما ذكرناه، والصبي أيضاًً، فإنه كان مأموراً بالصوم أمر تدريب حسب ما يؤمر بالصلاة. أما المجنون فلا سبيل إلى أمره بالإمساك؛ فإنه لم ينتسب في جنونه إلى تقصير الكافر، ولم يتجه في حقه أمرٌ بالصوم حسب ما تحقق في الصبي.
2330- ثم قال الأصحاب: الأمر بالقضاء في هذا اليوم فرعُ الأمرِ بالإمساك، فمن أمرناه بالإمساك نأمره بالقضاء. وقال الشيخ أبو بكر: من يوجب التشبه يكتفي به، ولا يوجب القضاء، ومن أوجب القضاء، لم يوجب التشبه. وهذا ليس خلياً عن الفقه، والظاهر عندنا إسقاطُ القضاء، والتشبهِ جميعاً. أما إسقاط القضاء، فلأنه بسبب إدراك الوقت للأداء، وهؤلاء لم يدركوا وقت إمكان الأداء، وكانوا على صفاتٍ في أول النهار لو استمروا عليها تمامَ النهار، لم يُلزموا القضاء.
2331- وأما الحيض، فإنه خارجٌ عن القانون؛ فإنه منافٍ لإمكان الأداء، ولا ينقدح عندي في أمر الحائض بالقضاء إلا الحملُ على أنه بأمرٍ مجدد. ولو أصبحت المرأة حائضاً، ثم طهرت، فلا يلزمها الإمساك بلا خلافٍ، على المذهب. ولا فرق بين أن تصبح ممسكةً أو مفطرة. ومن ذكر وجهين في المسافر إذا أصبح ممسكاً غيرَ ناوٍ، ثم أقام، قطع في الحائض بما ذكرناه؛ لأن الحيض ينافي الصومَ منافاة الأكل، بخلاف السفر، والمرض. فهذا منتهى الغرض في الإمساك، وما يتعلق به في محل الوفاق والخلاف.
فصل:
قال: "إذا أفطر في أول النهار، ثم مرض... الفصل".
2332- مقصود هذا الفصل متصلٌ بما تقدم، فإذا أصبح الرجل صائماً، وجامع من غير عذر، ثم مرض في آخر النهار مرضاً يبيح مثلُه الفطرَ، أو جُنّ في آخر النهار، أو أصبحت المرأة صائمةً ومكّنت، وقلنا: عليها الكفارة، ثم حاضت في بقية النهار، فهذه أسباب طرأت، لو اقترنت بالوقاع، لتضمنت إسقاطَ الكفارة، وانتهضت معاذيرَ في الفطر و منافيةً للصوم، كالجنون، والحيض، ففي سقوط الكفارة في هذه الصورة أقوالٌ ثلاثة: أحدها: أنها لا تسقط، فإنّ الجماع جرى مفسداً؛ فلا أثر لطريان ما طرأ بعده، وكأن هذه الأسباب كانت تنتهض مقتضياتٍ للترخص بالفطر، لو دام الصوم، فإذا تقدم الجماعُ المفسد، فكأن المجامع كما أفسد الصومَ سد على نفسه باب الترخص.
والقول الثاني- أن الكفارة تسقط للشبهة وتوجيه ذلك لائح.
والقول الثالث: أنا نفصل بين طريان ما ينافي الصوم كالجنون والحيض، وما لا ينافي، بل يُثبت رخصةَ الفطر، كالمرض، فتسقط الكفارة بما ينافي؛ إذ تبينا أن الصوم كان لا يتصوّر تمامه، ووضح أنه بالجماع لم يعترض على صوم كان يتم، والمرض من أسباب الرخص، وقد تختص الرخصة بمن لم يفسدها على نفسه.
2333- ولو أصبح مقيماً صائماً، وجامع عاصياً، ثم سافر، لم يختلف قولنا في أن الكفارة لا تسقط؛ فإن طريان السفر لا يرخّص في الإفطار بخلاف، طريان المرض. ولم يجعل أئمتنا مذهبَ أحمد، والمزني-حيث صارا إلى جواز الإفطار في هذا الموضع- شبهةً، فإن ما صارا إليه في مناقضة أصلٍ متمهدٍ ظاهر، وهو تغليبُ حكم الحضر في العبادة، التي يشترك فيها السفر، والحضر.
وذكر صاحب التقريب: أن من أصحابنا من خرّج سقوط الكفارة، عند طريان السفر على قولين أيضاًً كالمرض، وهذا بعيد، ولكنه ذكره على ثبت. واختلفت الرواية في السفر عن أبي حنيفة وموجَب هذه الطريقة: أنه لو سافر، ثم جامع لم تلزمه الكفارة؛ بناء على درئها بمذهب من لا يوجب الصوم، وهذا تخليط، والأصل القطع بأن طريان السفر لا يؤثر.
فصل:
2334- إذا طبق الجنون أياماً من رمضانَ، ثم كانت الإفاقة في بقيةٍ من الشهر، فلا يجب عندنا قضاء الأيام التي مرت في زمن الجنون. وكذلك إذا مضت أيامٌ في الصبا، ثم طرأ البلوغ في أثناء الشهر، أو أسلم الكافر الأصلي. وإنما التردد في اليوم الذي تزول فيه هذه المعاني، كما تقدم ذكرنا له في الإمساك، والقضاء. ووافق أبو حنيفة في الصِّبا والكفر، وخالف في الجنون.
وذكر العراقيون عن ابن سريج مثلَ مذهب أبي حنيفة في الجنون ثم زيفوا هذا الذي حكَوْه، وقالوا: هو غلط عليه، ولعله لا يصح نقله عنه أصلاً.
والإغماء إذا استمر أياماً أو طبق جميعَ الشهر، فيجب قضاء الصوم في الأيام المارّة فيه، وهو كالحيض في أنه لا يُسقط قضاءَ الصوم، ويسقط قضاء الصلاة.
فصل:
قال الشافعي: "ولو كان عليه يومٌ من شهر رمضان... إلى آخره".
2335- نجمع في هذا الفصل تفاصيلَ الفدية، ومواضعَها.
ونبدأ بما تعرض له الشافعي الآن، فنقول: من فاته صيام أيامٍ من رمضان، وتمكن من قضائها، فلا يجوز له أن يؤخر قضاءها إلى شهر رمضانَ في السنة القابلة، وليس ما نذكره استحباباً، بل يتحتم ذلك، مع القدرة، وزوال المعاذير.
ولو فرض تأخير القضاء إلى السنة القابلة، من غير عُذرٍ، فيجب مع القضاء لكل يوم مدٌّ من طعام، والمعتمد في أصل التأقيت، وفي الفدية عند الإخلال بالوقت الخبرُ، والأثر، وهما مذكوران في مسائلِ الخلاف، ولا نرى قضاء عبادة يتأقت على الاستحقاق إلا هذا.
ولو أخر القضاء سنتين أو سنين، ففي تضعيف الفدية وجهان:
أحدهما: أنها لا تتضعّف، ولا يجب بالتأخير سنين إلا ما وجب بالتأخير في السنة الواحدة. ثم يجوز أن يكون هذا قضاءً بالتداخل، كما مهدناه في كفارة الوقاع، على قولٍ.
والأصح تعدد الفدية، وتجدّدها، فيجب على مقابلة التأخير في كل سنة مدٌّ، فإن أخر سنتين، وجب مع قضاء كل يوم مدان. وهكذا زائداً، فصاعداً؛ فهذا مقامٌ في الفدية.
ومما يتعلق بذلك أن التأخير إن كان بعذر، فلا فدية أصلاً، مثل أن يدوم المرض طول السنة، أو يدوم السفر، وكل ما يجوز تأخير أداء الصوم به، يجوز تأخير القضاء به، ثم لا فديةَ.
ومن صُور الفدية أن الشيخ إذا بلغ الهَرَم، و عجز عن الصوم لهَرَمه، لا لمرضٍ زائد عليه، فلا شك أنه لا يصوم، ويلزمه أن يُخرج بدلَ كلِّ يوم مُداً، إذا قدر عليه.
وظاهر المذهب: أنه واجبٌ.
وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا القولَ إلى رواية البويطي، وحرملة، ووجه هذا في القياس بيّن؛ فإن الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مرضاً يبيح له الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في ذلك خلافاً، فلا يبعد أن يعد الهَرَم عذراً دائماً، ولكن هذا القول، مع اتجاهه في القياس، لا يُعوّل عليه في المذهب.
ومن صور الفدية إفطار الحامل، والمرضع، وقد تفصّل القول فيهما، فيما تقدم، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في إيجاب الفدية على من يتعمد الإفطارَ بالأكل عاصياً.
2336- ومما يتصل بالفدية أن من مات وعليه قضاءُ أيامٍ من رمضان، وكان متمكناً من القضاء، ولا عذر، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يُخرَج من تركته في مقابلة كل يوم مد، وهذا فيه إذا لزمه القضاء، وانتفى العذر، ومات في خلال السنة. فأما إذا أخّر القضاءَ مقصِّراً إلى شهر رمضان في القابل، والتزم لذلك الفدية، ثم مات قبل القضاء، وإخراجِ الفدية، فالذي ذهب إليه الجماهير إيجاب مُدَّيْن، في مقابلة كل يومٍ: مدٌّ في مقابلة الصوم نفسه، ومد في مقابلة التأخير.
وحكى العراقيون وجهاً عن ابن سريج أنه قال: يتداخل المدان، ويكتفى بواحد.
وهذا بعيدٌ جداً، لا ينقدح له وجه.
هذا تفريعنا على القول الجديد.
2337- وللشافعي قولٌ في القديم: أن من مات وعليه صومٌ، صام عنه وليُّه، وقيل نُقل في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الصيغة، ولست أدري أن الشافعي ترك العمل بالخبر في الجديد؛ لأنه استبان ضعفَه أو ثبت عنده نسخٌ.
ثم التفريع في هذا مما لم يتعرض له الأصحاب، فلا سبيل إلى التحكم به، والذي يصوم عن الميت الولي، كما ورد في الخبر، أو الوارث أو القريب من غير اعتبار وراثة، أو يناط ذلك بالعصوبة؟ لا نقل عندي في تفصيل هذا.
وقد وجدت الأصحاب مضطربين فيمن يرث حدَّ القذف، وذلك بعيد عما نحن فيه. وإن نزلنا هذا القولَ على لفظ الولي، فإنه المنقول، فليس معنا في معناه ثبت نعتمده، والميت في غالب الأمر لا يكون مَوْلياً عليه. وكان شيخي يقول: لا خلاف أنه لا يجب على الولي أن يصوم، وإنما الخلاف في أنه لو صام عن الميت، هل يعتد به. والعلم عند الله تعالى.
2338- وإذا أردنا جَمْعَ التراجم، قلنا: الفديةُ تتعلق بنفس الصوم تارةً، فتحل محلَّه، وقد تنضم إلى الصوم ولا تبدله، فأما ثبوتها بدلاً عن الصوم ففي الشيخ الهِمّ، والذي مات وعليه صومٌ، كان قصر في تأخير قضائه. وأما الفدية المنضمة إلى القضاء، فالمتفق عليه منها ما يجب بسبب تأخير القضاء من سنةٍ إلى سنة، والمختلف فيه الفدية في حق الحامل، والمرضع. وفي المتعمد العاصي بالإفطار الخلافُ المقدم.
2339- ثم جنس الأمداد جنسُ صدقةِ الفطر، والكفارات الواقعة بالإطعام. وكل مدٍّ بمثابة كفارة تامّة، فلو أراد من لزمته أمدادٌ جَمْع عدد منها في مسكين واحد، جاز له ذلك؛ إذ لا يجب تفريق المدّ الواحد، وكل مدٍّ كفارة.
فصل:
قال: "فإن بلع حصاةً، أو ما ليس بطعامٍ... إلى آخره".
2340- نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الصوم، وقد مضى صدرٌ منها، فنرسمها على هيئة الترجمة، ونستقصي ما لم يجرِ ذكره. ونبدأ به.
فنقول: وصول الواصل إلى باطن عضوٍ يعد مجوفاً مفطرٌ، على الاختيار والذكر، كما تفصل ذلك. وإذا جاوز شيءٌ الحلقومَ فطَّر، وكذلك ما يجاوز الخيشومَ في الاستعاط. والحقنةُ مفطرةٌ، وكذلك إيصال الشيء إلى المثانة.
والمذهب أن ما تجاوز ظاهر الإحليل يُفطر، وإن لم ينته إلى فضاء المثانة. وفيه وجهٌ بعيدٌ، لا أصل له.
ولو قطّر شيئاً في أذنه، فانتهى إلى داخل الأذن الباطن، فقد كان شيخي يقطع بأنه مفطر، والذي قطع به الشيخ أبو علي، وطوائفُ من علماء المذهب أنه لا يفطر.
وكان الشيخ يراعي الوصولَ إلى ما يُعدّ باطناً، والآخرون يرعَوْن أن يكون في الباطن الذي إليه الوصول قوةٌ تُحيل الواصلَ إليه غذاء، أو دواءً، وداخل الأذن ليس فيه ذلك، والتردد في داخل الإحليل، فوق المثانة، قريب من هذا التردد.
ولو وجأ الإنسان نفسَه بسكين، فإن انتهى طرفُ السكين إلى باطنٍ كما وصفناه، حصل الفطر، وإن كان نصابُه ظاهراً، وكذلك إذا بلع طرفاً من خيط، وطرفٌ منه بارزٌ، فالفطر يحصل بوصول الطرف الواصل، وخالف أبو حنيفة في ذلك. ولو أوصل السكينَ إلى داخل لحم الساق، والفخذ، فلا فطر، فإن ما وراء البشرة، وإن كان من الباطن، فليس جوفاً، وكذلك إن انتهى طرفُ السكين إلى مكان المخ، فلا فطر؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً.
ولو أوصل الدواء من شجة آمَّة إلى ما وراء القِحْف، حصل الفطر، ولا يتوقف حصولُه على الوصول إلى ما وراء خريطة الدماغ.
وإن أوصل الدواء إلى جرح نافذٍ إلى الباطن، فإن وصل إلى داخل البطن، حصل الفطرُ، وإن لم ينته إلى الأمعاء. ولو جاوز الدواءُ سطحَ البَشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن، فالوجه القطع بأنه لا يفطِّر، فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطِّر، لفطَّر وصولُ السكين إليه في ابتداء الجرح، وفي بعض التصانيف غلطٌ ظاهر في الحكم بالفطر بمجاوزة الدواء البشرة، وهذا محمول على تثبّج العبارة، وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفناه.
وقد ينفصل وصول اللبن إلى الباطن في حكم الرضاع، عما يحصل الفطر به في بعض التفاصيل، حتى جرى في حصول الرضاع بحقنة اللبن قولان، إلى غير ذلك، على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
2341- وداخل الفم والأنف إلى منتهى الخيشوم والغلصمة في حكم الظاهر.
والريق السائل من داخل الفم، فالواصل إلى الجوف واصلٌ من ظاهرٍ إلى باطن، ولكن لما عسر التحرز منه، عُفي عنه. ولو انقلع شيء من أسنانه، فازدرده الصائم، أو سال من العُمور دم، فتجرعه على قصدٍ، أفطر. ولو جمع الصائم ريقه، ولم يتركه يجري على الخلقة، ثم ازدرده جملةً، ففي حصول الفطر وجهان: أصحهما أنه لا يفطر، وإنما نشأ الوجهان من لفظ الشافعي، فإنه قال: وأكره العِلْك، فإنه يحلب الفم، فكأنه حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة.
وقال الأئمة: لو أخرج الصائم لسانه، وعلى طرفه ريقٌ، ثم ردّه، فلا بأس، وإن فارقت عذَبَة اللسان الشفتين، فإن اللسان معتبر بداخل الفم، كيف تقلّب.
ولو أخرج شيئاً من ريقه، وتركه على طرف الشفة بارزاً، ثم ردّه إلى فيه، فهو بمثابة ما لو ألقاه على كفه، ثم رده، ثم الفطر يحصل به، وهو المذهب في البلل المتصل بالخيط المجرور، إذا رُدّ، فإن القلة فيه لا أثر لها في منع الفطر.
وما يقدّر وصوله بالمسام، فلا يتعلق الإفطار به، كالأدهان إذا تطلّى الصائم بها، أو صبها على رأسه.
وإدراك الذوق مع مجّ جِرْم المذوق لا يؤثر في الصوم.
ولا يفطِّر الاكتحالُ والاحتجامُ، خلافاً لبعض السلف. ولا خلاف أن الافتصاد لا يفطِّر.
وما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به. هكذا كان يذكره شيخي، ولو تكلف صرفَه عن سَنَن الخلقة إلى فضاء الفم، ثم ازدرده، فهذا يفطّره.
وأنا أقول: إن كانت النخامة لا تظهر في الفم، وكان لها مَسْلك متردد في الباطن، فلا شك أنه لا مؤاخذة بها. وليس الأمر كذلك؛ فإنها تظهر إذا برزت من الثقبة النافذة إلى الدماغ في أقصى الفم، ثم تجري إلى داخل الحلقوم.
فالوجه أن نقول: ما لا يَشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه، وهو على علم وخُبْر، فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجِّه، ففيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخِذ به، وحَسَم الباب، ما لم يتكلف صرفَه عن مجراه إلى الفم؛ فإنه إذا فعل ذلك، ثم ردّه، وازدرده، أفطر.
ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه، مع القدرة على مجِّه، وهذا يلتفت على المراتب التي ذكرناها في غبار الطريق وغيره.
ومما يلتحق بهذا الفن، القولُ في سبق الماء من المضمضة، والاستنشاق، وفيما قدمناه من البيان مقنع تامٌ فيه.
وكان شيخي يحكي عن الأصحاب أن من بلل خيطاً بريقه، وجرّه، ثم ردّه، وغلبه الريق، ولم يمجه بعد حصول ذلك، أفطر. وكان يقول: لست أرى الأمر كذلك؛ فإن ذلك القدر النزر أقلُّ مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم، بعد المضمضة.
والاحتمال في هذا محال.
فهذا بيان هذا النوع من المفطرات، تأصيلاً وتفصيلاً.
2342- ومن المفطرات الجماعُ، وقد فصلنا، وألحقنا الاستمناء في الإفساد والإفطارِ بالجماع؛ من حيث كان مقصودَ الجماع. والقيءُ على ما فصلناه. والردة تُفسد كلَّ عبادة، والحيض، والجنون، ينافيان العَقْدَ، ويقطعان الدوامَ. وفي الإغماء ما سبق. فهذه جوامع المفسدات.
فصل:
قال: "وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرَّى... إلى آخره".
2343- الأسير المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان، تحرى، وراجع التواريخ المنسلكةَ في ظنه، وقرَّب نظرَه جُهدَه، وصام شهراً.
والمسألة مفروضة في استمكانه من معرفة الهلال، فإذا صام شهراً من الهلال إلى الهلال، فإن وافق شهرَ رمضان، فهو المُنى، وإن وافق شهراً بعده، وكانت أيامه قابلةً للصوم، وقع الاعتداد بما جاء به.
2344- واختلف الأئمة في أن صومه في ذلك الشهر قضاء أم أداء؟ فمن جعله قضاءً، لم يَخْفَ توجيهُ قوله، ومن جعله أداء، تمسك بإجزائه بنية الأداء. ثم لا يمتنع أن يفارق حكمُ المضطر حكمَ المختار.
وخرّج الأئمةُ على هذا الخلاف أن شهر رمضان في تلك السنة لو كان ثلاثين يوماً، وكان ما صامه تسعةً وعشرين، فهل يكفيه ما جاء به، أم نكلفه بعد التبين قضاء يوم؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف في الأداء والقضاء: فإن جعلنا صومَه أداء، فكان ذلك الشهر شهرَه، فلا نظر إلى غيره، وإن جعلناه قضاء، فقد صام تسعةً وعشرين، وبقي عليه يومٌ، فليقضه.
2345- ولو صادف الشهرُ الذي صامه شهراً متقدِّماً على شهر رمضان، فإن انجلى الإشكالُ وشهر رمضانَ بين يديه، لزمه صومُه، بلا خلاف.
وإن زال الإشكالُ بعد مضي شهر رمضان، ففي إجزاء صوم الشهر المتقدم قولان للشافعي:
أحدهما: لا يجزىء، فإن العبادة البدنية إذا تقدمت على وقتها، لم يعتد بها.
والثاني: أنها تجزئ للضرورة. وكان القفال يبني هذين القولن على أنه لو وافق صومُه شهراً بعد شهر رمضان، فصومه أداءٌ، أم قضاء؟ ووجه البناء أنا إن قدرناه قضاءً، فالقضاء لا يتقدم، وعبادة البدن لا تتقدم على وقتها، وإن قدرنا الصومَ في الشهر المتأخر أداء، بناء على ظنه فتخيُّلُ ذلك في التقدم والتأخر على وتيرة واحدة.
فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القولَ في خطأ الحجيج، فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر أجزأهم الوقوفُ، وإن اتفق غلطٌ في أهلّةٍ وترتب عليه الوقوف في الثامن، ففي إجزائه وجهان، وهذا يناظر تقدمَ شهر الأسير على شهر رمضان؟ قلنا: هذا تشبيهٌ من حيث الصورة؛ فإن الذي أوجبَ الفرقَ بين الثامن والعاشر عمومُ تصوّر الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير، فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر، فلا ينبغي أن يُعتقد اتحاد مأخذ المسألتين.
2346- ولو انجلى الإشكال، وقد بقي بعضُ شهر رمضان، فيجب صوم البقية، وفي إجزاء ما مضى طريقان: منهم من خرّجه على القولن، وهو الوجه، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراكه إذا اتفق إدراك شيء من الشهر.
وكان شيخي أبو محمد يقول: الاجتهاد في وقت الصلاة، في حق المحبوس، على الترتيب الذي ذكرناه في الصوم، في صورة الخلاف والوفاق. فأما المجتهد القادر على أن يَصْبر حتى يستيقن، إذا تقدمت صلاته، لم يعتد بها قولاً واحداً.
2347- ثم ذكر الشافعي: أن من فاته صوم أيامٍ من رمضان، لا يجب عليه رعاية الموالاة في القضاء، وقصد به الردّ على مالك؛ فإنه أوجب المتابعةَ في القضاء ظاناً أن الأداء متتابع، وهذا غلط؛ فإن ما تخيله من التتابع في الأداء تواصل الأوقات، وليس تتابعاً راجعاً إلى صفة العبادة، بدليل أن من أفطر اليوم الأخير من رمضان، لم يلزمه قضاء ما تقدم عليه، بخلاف الصيام المتتابع في الكفارة شرعاً، أو الصوم الذي نذر الناذر التتابعَ فيه.
فصل:
قال: "وأحب للصائم أن ينزه صيامه... إلى آخره".
2348- ظاهر التكليف في الصوم متعلق بالإمساك والنية، ولكن المقصود غضُّ الهوى حتى تقوى النفس على التقوى، ولو كُلِّف الخلق هذا المقصودَ تصريحاً، لما استقل به الأكثرون. وهذا من لطائف الشريعة، وكلّفوا ما يفضي إلى طرفٍ من التقوى في الغالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنّة، وحصن حصين، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، وإن شاتمه رجل، فليقل: إني صائم» ومعنى الحديث أن يحدّث نفسه بصومه، حتى يزجره ذلك عن المشاتمة؛ إذ لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه.
فصل:
قال: "ولا أكره في الصوم السواكَ... إلى آخره".
2349- استعمال السواك في النصف الأول من النهار إلى زوال الشمس حسنٌ، على شرط التحفّظ من تجرع حِلابه، وازدراد شَظِيِّه، فإذا زالت الشمس، لم نر استعمالَ السواك استبقاءً للخُلُوف، وفيه الحديث المشهور. ولا فرق بين صوم التطوع والفرض.