فصل: باب: إمكان الحج وأنه من رأس المال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: إمكان الحج وأنه من رأس المال:

قال الشافعي: "وإن استطاع الرجل، فأمكنه مسيرَ الناس... إلى آخره".
2446- إذا ثبتت الاستطاعة على الشرائط المقدمة، ودامت حتى انقضت سنة، والمعنيّ بها انقضاءُ وقتٍ يسع المسير إلى الحرم، وإقامة الحج، فإذا دامت الاستطاعة في المدة التي وصفناها، استقر الحج في الذمة، ومعنى استقراره أنه إذا مات، لزم الإحجاجُ عنه من رأس المال، كما سنذكره.
ولو ثبتت الاستطاعة في جهة المباشرة، أو جهة الاستنابة، ثم زالت قبل مضي الزمن الذي يسع الحجَّ، فلا أثر لما كان، ولا يستقر الحج في الذمة، وإذا مات، لم يكن الإحجاج عنه دَيْناً.
ولو تمكن من مباشرة الحج خُروجَ الناس، فلم يخرج، فلما حجوا، مات ذلك المتخلِّف، قبل انقضاء زمان الرجوع، فالحج مستقر في الذمة؛ فإنه لو خرج، وحج، لكان يموت على هذا التقدير، ويغنيه موتُه عن تكلّف الرجوع؛ فقد جرى إذاً في عمره زمان إمكان الحج، على التصوير والتقدير الذي ذكرناه.
ولو بقي حياً في هذه الصورة، ولكن تلف ماله قبل زمان رجوعهم، حيث يشترط في الاستطاعة نفقةُ الذهاب والإياب، فإذا مات على فقره هذا، فلا يكون الحج مستقراً، مخرَجاً إخراجَ الديون؛ والسبب فيه أنا تبينا عجزَه بالأَخَرة عن أهبة الإياب، حيث نشترط نفقة الإياب، كما نشترط نفقةَ الذهاب، ذكره الصيدلاني وهو حسن.
وفيه أدنى احتمال، من جهة أنه كان مالكاً في ابتداء السنة، لنفقة الذهاب والإياب، ولو خرج، لأدَّى الحجَّ، فطريان جائحةٍ على نفقة إيابه-والصورة هذه- ليست بمثابة ما لو لم يملك في الابتداء نفقةَ الإياب. والظاهر ما ذكره الشيخ أبو بكر.
2447- ومما نُلحقه بهذا الفصل أن قول الشافعي اختلَف في جواز الاستئجار، على حج التطوع. وسيأتي ذكر القولين، وتفريعهما، في باب الاستئجار.
فلو مات-ولكن كان حج حجة الإسلام- فأراد وارثه أن يستأجر عنه من يحج عنه تطوعاً، ففيه القولان.
ولو استمر عمرَه على انتفاء الاستطاعة، ولم يستقر الحجُّ في ذمته، فأراد الوارث أن يُحِج أجيراً عنه، ففي جواز ذلك طريقان:
أحدهما: القطع بالجواز؛ فإنه لو قُدّر صحتُه، لكان حجةَ الإسلام.
والثاني: يخرج جواز الإحجاج عنه على القولين المذكورين في حج التطوع. ولا فرق بين حج التطوع والحج الذي يفرض غير مستقر في الذمة، فإن كلَّ واحد منهما لو قدرت الوصية به، فهو من الثلث؛ فإنهما مستويان في انتفاء الدَّيْنية عنهما.
ولو شرع الرجل في حج التطوع، وأفسده، ثم قضاه، فلقضائه من الحكم ما لأدائه.
ولو تكلف غيرُ المستطيع وحضر المشاهدَ، وشرع في الحج، فأفسده، فقضاؤه يقع عن فرض الإسلام؛ فإن الأداء لو تم، لكان فرضَ الإسلام.
فليتأمل الناظرُ المنازلَ، في التطوع، وما لم يستقر في الذمة، مما لو وقع، لكان فرضاً.
فصل:
قال: "ولو كان يُجَن ويُفيق... إلى آخره".
2448- الجنون ينافي توجّه الخطاب بالحج، فإن الاستنابةَ وإن كانت ممكنةً في الحج، فهو عبَادةٌ بدنية، والغرض منه التعبد بأدائه، أو توجيه الخطاب عنه بالاستنابة فيه، فإذا لم يكن المجنون ممن يؤدي بنفسه، ولم يتأت توجّه الخطاب عنه بالاستنابة، فيسقط فرض الحج عنه- بخلاف الزكاة؛ فإن الغرض الأظهر منها الإرفاق.
فلو كان الرجل يجن ويُفيق، فأفاق وامتدت إفاقته مدةً تسعُ الحجَّ، فقد استقر الحج في ذمته، وقد مضى استقرار الحج.
ولو لم تبلغ مدةُ إفاقته مدةً تسع الحجَّ، فليس لوليه أن يحج به من ماله، فلو فعل، فالنفقة الزائدة لأجل السفر مضمونةٌ على الوليّ، ولو خرج الوليّ به، وكان يُجن أياماً، ويُفيق أياماًً، فاتفق أنه أفاق في أيام الحج، وتم منه الحج على الصحة، فما بذله الوليّ من ماله محسوبٌ، غيرُ مضمون؛ فإنه تأدى بسبب بذله فرضُ الإسلام. وإنما يجب الضمان، إذا لم يكن الحج الحاصلُ واقعاً عن فرض الإسلام.
2449- ومما يتعلق بما نحن فيه، أن المبذر محجورٌ عليه، في ماله، كالمجنون، والصبي، ولكن ليس لولي الصبي والمجنون بذلُ مالهما، في تحصيل الحج لهما، ووليّ المبذّر يبذل مالَه ليحج، ويخرج معه بنفسه، ويُنفق عليه بالمعروف، والاقتصاد، أو يُخرج معه من يراقبه وينفق عليه، فإن نفس التبذير لا ينافي وجوبَ الحج، ووقوعَه موقع الاعتداد إذا صح.
فصل:
قال: "فإن كان عامَ جدب، أو عطش... إلى آخره".
2450- إذا كان الطعام، والعلف، والماء، موجوداً، في الطريق، وكانت البُلْغةُ وافيةً، فالاستطاعة حاصلةٌ، ولا فرق بين أن تكون الأسعار راخيةً، أو غاليةً، إذا كان في المال وفاءٌ.
وقد ذكرنا أن الماء إذا كان يعرض على البيع بثمن غالٍ بالإضافة إلى القُرى ومحال الريف، ولكن كان الثمن في ذلك المكان والزمان، لائقاً بالماء، فيجب ابتياعه للطهارة، وإنما يسقط وجوبُ ابتياعه، إذا كان لا يُباع إلا بغبن، بأن كان الماء في ذلك المكان يساوي مقداراً، وكان صاحبه يطلب في ثمنه أكثر منه، فلا يجب ابتياعه.
ونظير هذا من الحج ما يُستأدى من الحجيج في المراصد بباطل، فإذا كان لا يتأتى دفعُه، ولا يَجد المرءُ مسلكاً، لا راصد عليه، فلا يجب عليه الحج، وإن قلّ قدرُ ذلك المطلوب، كما ذكرناه في الغبن، في ثمن الماء.
وحاصل المقصود أن المؤن، وإن ثقلت بغلاء الكراء، والأسعار، لم يسقط وجوب الحج، إذا كان في المال وفاء بها. وإذا كان يُطلب مالٌ بغير حق، فيسقط وجوب الحج.
2451- ولو كان يحتاج المسافر إلى من يُبَذْرِقُه، وإذا استأجره، أمن الغوائل، في غالب الظن، فهل يجب الحج، والحالة هذه؟ اختلف أئمتنا في المسألة، فقال قائلون: يجب، وهو المختار، فإن بذل الأجرة بذلُ مالٍ بحق والمبذرِقُ أهبةٌ، من الأهب، كالدابة، وغيرها.
وقال قائلون: لا يجب ذلك، فإن الاحتياج إليه سببُه خوفُ الطرق، وخروجها عن الاعتدال. وقد ثبت في وضع الشرع، سقوط الحج عند خوف الطارقين، في غالب الأمر، ولو أوجبنا استئجار مبذرِق، لزم أن نوجب استئجار عسكرٍ، عند وفاء المال، وعِظَم الغائلة. وهذا بعيدٌ عما فهمه الأولون، من اشتراط أمن الطريق. ثم ليس الأمن الذي نذكره قطعاً، " فالمسافر ومتاعه على قَلَت إلا ما وقى الله"، وإنما الحكم على غالب الظن، والنفس لا تثق بالخلاص عن الحوادث.
فالذي يجب التفطن له، أنا لا نشترط في السفر الأمن الذي يغلب في الحضر، فإن ذلك إنما يحصل لو صار السفر في حكم الحضر، بأن تصير الطرق آهلة، و لا سبيل إلى شرط ذلك، فالأمن في كل مكانٍ، على حسب ما يليق به.
فصل:
قال: "ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوبَ البحر... إلى آخره".
2452- اختلف نص الشافعي في وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فقال هاهنا: ولا يبين لي أن أوجبه، وقال في موضع آخر: لا أوجبه إلا أن يكون أكثر عيشِه في البحر، و عندي أنه نصَّ في بعض المواضع على وجوب ركوب البحر، إذا كان يعتاد ركوبَه.
فقال بعض أصحابنا: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه لا يجب ركوبه؛ فإنه مهلكة والخارج منه يُعدّ ناجياً، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
والقول الثاني: إنه يجب؛ فإنه مطروق العقلاء، ويُبعدُ الآفةَ عن سفينة صحيحة شِحْنتُها على قَدْر، وإجراؤها في وقت متَخيَّر، فلا يبقى إلا مهَابةُ النفوس، فلا تعويل عليها.
ثم القولان فيما يعتاد ركوبه، ولا يُنسب صاحبُه إلى اقتحام العَطَب. فإن كان البحر بحيث لا يركبه إلا هجّام، مغرِّر بنفسه، فلا يجب ركوبُه، بل قد نقول: لا يحل ركوبُه. وكذلك إن اغتلم بحرٌ، يُعتاد ركوبه في بعض الأوقات، فالكلام في ذلك الوقت، كالكلام في البحر المغرِق.
ومن أصحابنا من نزل المسألةَ على جرأة الراكب، واستشعاره. وفي نص الشافعي إشعارٌ به، وسبب التنزيل على هذا أن الاستشعار إذا عظم، ظهر أثره، وعظم ضرره، وقد يخلع قلب المستشعر. وإذا وقع التنزيل على ذلك، فمنهم من قال: المستشعر لا يلزمه الركوب، وفي غير المستشعر قولان، ومنهم من قال: غير المستشعر يركب، وفي المستشعر قولان.
ومنهم من نزل النصين على الحالين، على قطعٍ، من غير ترديد قول، وقال: المستشعر لا يلزمه الركوب، وغيره يركب. وكل ذلك والبحر مركوب لا يعد مُغْرِقاً.
وقال بعض أصحابنا: لا يجب ركوبُ البحر قط، وما ذكره الشافعي غيرُ مصرح به، ولا يمتنع حمله على ما إذا ركب البحر وفاقاً، وقرب من الشط الذي يتاخم مكة، فيجب عليه التمادي، ولا محيص، وإلى المقصود أقرب.
2453- وإذا لم نوجب ركوبَ البحر وقد توسطه المرء، واستوى في ظنه ما بين يديه، وما خلفه، فهل يجب التمادي في صوب مكة؟ فعلى وجهين، كالوجهين في المحصر إذا أحاط به العدوّ من الجوانب. وإن قلّ ما في صوب مكة، وكثر البحر في غيره من الجوانب، وجب التمادي. وإن كثر ما في صوب مكة، جاز الرجوع، وإنما الوجهان في ظن الاستواء، وهو كالوجهين في المحصر يحيط به العدوّ من جوانبه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أنه لا يجب ركوبُ البحر، وصورة الوجهين في الاستواء مخصوصةٌ بما إذا كان يجد في المنصَرَف طريقاً غير البحر، أما إذا كان يضطر في الانصراف إلى ركوب البحر، فالانصراف من شط البحر أقربُ من قطع البحر إلى مكة، مع الاضطرار إلى قطع كله في الانصراف.
ثم قال الأئمة: النسوة أولى بأن لا يجب عليهن ركوبُ البحر، لأنهن عوراتٌ، والبحر هتّاك للأستار؛ فإن جعلنا المسألة على قولين في الرجال، ففي النسوة قولان مرتبان، والفرق ما ذكرناه.
وإن لم نوجب ركوبَ البحر، ولم يكن البحر معروفاً بالإهلاك، فلا يُنكر الأمر بركوبه استحباباً، ولا نرى الأمر ينتهي إلى دفع ذلك.
ولو كان مُخْطِراً، فإن غلب على الظن الهلاكُ، حرم الركوب، وفاقاً، وتأسياً بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وإن استوى الأمران، ولم يقض العقل بتغليب الهلاك، أو السلامة، فقد كان شيخي يقطع بتحريم الركوب أيضاًً. وفيه نظر. وللأصحاب مرامز إلى نفي التحريم في مثل ذلك. أما الكراهيةُ فكائنةٌ، لا شك فيها.
واضطرب الأئمة في ركوب البحر المُخطِر، والمقصودُ الجهاد، فمنهم من استمر على التحريم؛ فإن الخطر المحتمل في الجهاد ما يَلقى الغزاة من جهة القتال.
وقال قائلون: لا يحرم الركوب في جهة الغزو؛ فإن التواصل إلى المقصود يناسبه، فإذا كان المقصود على الغرر، لم يبعد احتماله في التسبب.
فصل:
2454- والمرأة كالرجل في التزام الحج عند ثبوت الاستطاعة، وما ذكرناه في الرجل من الزاد، والراحلة، وغيرهما، فجملته معتبرةٌ في المرأة، وفيها مزيدٌ؛ فإنها عورةٌ. فإن ساعدها زوج أو ذو رحم، فذاك، وكذلك المحرم، وإن لم يكن ذا رحم، كالأخ من الرضاع.
وإن لم تجد محرماً، ولم يساعدها زوج، واتفق جمعٌ من النسوة الثقات، يصطحبن، فذلك يبعدهن من تقدير الطمع فيهن، فمن أصحابنا من أوجب عليهن الخروجَ في رفقةٍ مأمونة. ومنهم من لم يوجب ذلك، حتى يكون مع واحدةٍ فيهن محرم. وهذا اختيار القفال، فإنهن قد ينوبهن أمرٌ، فيستعنّ بالتي لها محرم، ويستظهرن به.
ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم.
وما اختاره القفال حسن بالغ، يعضده حكم الخلوة؛ فإنه كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدةٍ، فكذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة، كان محرمَ واحدةٍ منهن، فلا بأس.
وكذلك إذا خلت امرأة برجالٍ، واحدهم محرمٌ لها، جاز. ولو خلا عشرون رجلاً
بعشرين امرأةٍ، وإحداهن محرم لأحدهم، أو زوجةٌ، كفى ذلك.
وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء منفردات، فيصلي بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له.
2455- ثم من لطيف القول في هذا الفصل: أنها إذا عدِمت محرماً، أو زوجاً، وباقي الصفات في الاستطاعة ثابتةٌ، فالقول في المنع من الخروج ما ذكرناه، ويبتني عليه أَنْ لا استطاعةَ قطعاً، ولو تمادى الأمر كذلك إلى الموت، فلا نقضي باستقرار الحج في ذمتها. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يستقر الحج، وإن كان يمتنع الخروجُ. وهذا متناقضٌ لا أصل له.
وإذا تمكنت من استئجار محرم، فالقول في هذا، كالقول في استئجار المُبَذْرِق، والأظهر هاهنا وجوبُ الاستئجار؛ فإن زيادة المؤنة في حقها بمثابة زيادة المؤنة، في حق من يحتاج إلى المحمل، ولا يكتفي بالراحلة. ومن لم يوجب، قال: استئجارُ المحرم ليس من المؤن الغالبة، التي تقع، والنادر لا يلتزَم. والأصح الإلتزام.
فصل:
قال الشافعي: "فإن مات قضي عنه... إلى آخره".
2456- من استطاع في حياته، واستقر الحج في ذمته ومات، كان الحج ديناً مأخوذاً من رأس التركة مقدماً، على الوصايا، وحقوق الورثة.
هذا هو المنصوص عليه، في معظم الكتب، وهو ظاهرُ المذهب، وذكر هذا القولَ في الحج الكبير، ثم قال: قد قيل ذلك، وقيل: إن لم يوصِ به، فلا يُحَج عنه، وإن أوصى به، حُجّ من الثلث من ميقاته.
فحصل قولان: أصحهما- الأول، والثاني مذهب أبي حنيفة، وهو جارٍ في جملة الحقوق التي تثبت لله تعالى.
وفي القول الموافق لمذهب أبي حنيفةَ إشكالُ ظاهر، وهو أن معتمد ذلك القول أن العباداتِ مفتقرةٌ إلى النية، ولا يتطرق إليها استقلالُ الغير بالأداء، من غير توكيلٍ ممن عليه؛ فإن من أدى عن غيره مقدار زكاته من غير إذنه، لم يعتد بما أخرجه، وليس كما لو أدى عنه دَيْنَه، وإذا مات، ولم يوصِ بما وجب لله تعالى قُربةً، فلا يقع المخرَج متعلَّقاً بإذنه، وتختل النيةُ بذلك، وهذا على بعده كلامٌ على حال.
ولكن القياس يقتضي أن يقال: إذا مات، ولم يوصِ، فهو مرتهَنٌ بما وجب عليه، ولكن تعذّر طريقُ التأدية، فبقي الوبال على المتوفَّى، والله حسيبه، فإذا أوصى، فقد زال هذا المعنى، واقتضى القياسُ إذا تيسر طريقُ الأداء أن يكون دَيْناً من رأس المال. هذا هو القياس، ولكن لم يذكره أحد من الأَصحاب، تصريحاً، ولا رمزاً، وإنما نقلوا ذلك القول على وفق مذهب أبي حنيفة، في الحَسْب من الثلث عند الوصية.
ولا عود الآن إلى هذا القول.
والتفريع على الأصح الأظهر.
2457- فإذا مات، واستقر الحج عليه، فالقدر المستحق، المحكوم بكونه دَيْناً حَجَّةٌ من الميقات، المنسوب إلى صوب جهته، وذلك يمكن تحصيله بمبلغٍ قريب، ولا يجب إحجاج أجير قاصدٍ عنه من بلده، وذلك لو طُلِب قام بمالٍ له قدرٌ، وعلةُ المذهب أن الغرض تحصيلُ الحج، ومبتدأ الحج من الإهلال، وهو من الميقات، والرجل لو حج بنفسه في حياته، لاحتاج إلى مؤنةٍ لسفره من بلده، ولكن لا تتأتى المباشرةُ إلا كذلك، والمقصود ما ينشئه من ميقاته، ويتأتى تحصيل الحج بطريق الاستئجار من الميقات، ثم اعتبر ميقاتُ صوبه، والغرضُ يختلف بذلك، فإن المواقيت متباينةٌ، كما سيأتي وصفها في بابٍ.
ولا خلاف أنا لا نعتبر الميقات بعينه، وإنما نعتبر مسافةَ ميقات صوبه، وهذا من باب المواقيت.
ثم سبيلُ تحصيل حجة ميقاتية أن يلتمس من المارّين إلى مكة، أن يستأجروا ثَمَّ أجيراً من الميقات، فإن لم يجد من يتطوّع بذلك، فاستئجار بعض الواصلين على الاستئجار تَقرُب أجرتُه.
2458- ولو أوصى بأن يستأجر عنه من الميقات أجيراً من ثلثه، والتفريع على الأصح، ففائدة إضافة الحجة التي هي دينٌ إلى الثلث مزاحمةُ الوصايا بها، فإن كانت تحصل مع المضاربة، فذاك وإلا فرضنا المضاربةَ، ونظرنا إلى حصة الحج، ثم أكملنا الحَجة الميقاتية من رأس المال، ونُحْوَج في مثل ذلك إلى الحساب الدوري، وكل صوره يشترك فيها حسابُ رأس المال والثلث، ومن ضرورة الأخذ من رأس المال تقليلُ الثلث بعده، فالغرض الحسابي يصفو بالدور، ولعلنا نوفَّق لجمع ضوابط حسابية سيّالة، وجيزة القدر-إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا.
ولو أوصى بأن يُحج عنه من ميقاته، حجةُ الإسلام، ولم يتعرض للثلث، والتفريع على القول الأظهر، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه لا معنى لذكره الأمر بالإحجاج عنه إلا التذكيرُ والاستحثاث على إبراء ذمته.
والثاني: أن ذلك يحمل على مزاحمة الوصايا، ليُفيد لفظُه وذكره، وهذا بعيد.
والوجهان يجريان في الأمر بقضاء ديون الآدميين، وكل ما يخرج من رأس التركة من غير ذكر.
ولست أدري أيخصون هذا الخلافَ بذكر الوصية في لفظها، أم يطردونه في الأمر المطلق؟ ولو خصصوه بذكر الوصية، لكان أقرب، مع اشتهار لفظ الوصية بالتبرعات المنحصرة في الثلث.
وإن قال: يحج عنّي من بلدي، ولم يقل من الثلث، والتفريع على أن مجرد الوصية من غير إضافةٍ إلى الثلث في الحجة الميقاتية لا يتضمن مزاحمةَ الوصايا، فإذا قال: أحجوا عني من بلدي، فقدرُ الحج من الميقات مأخوذٌ من رأس المال، كما لو لم تكن وصية، ثم تقعُ المزاحمة بما بين البلد والميقات للوصايا، فإن وفت الحصةُ، فذاك، وإن لم تف، فما يحصل يضم إلى ما أخذناه من رأس المال، ويُحج عنه، من حيث بلغ.
وقد ذكرنا قولين في الوصية بحَجّة التطوع، ونحن نفرّع على تصحيحها. فلا شك أنها محسوبةٌ من الثلث.
2459- ولو نذر حجةً في مرض موته، أو نذر صدقة، أو أقدم على ما يوجب كفارة، فهذه الحقوق محسوبةٌ من الثلث وفاقاً؛ فإن أسبابها جرت في المرض، ولو جرى النذرُ في الصحة، أو جرت أسبابُ الكفارات في الصحة، ففي محل هذه الحقوق وجهان:
أحدهما: أنها من الثلث.
والثاني: أنها من رأس المال.
فمن قال، إنها من رأس المال، فوجه ذلك أنها استقرت حقوقاً في حال كمال التصرف، ومن قال: إنها من الثلث، فوجه قوله أنها لو احتسبت من رأس المال، لاتخذ الناس ذلك ذريعةً في إسقاط حقوق الورثة بأن يأتوا بأسباب الكفارات في صحتهم، ولا يطالبون بها ما بقوا، فإذا ماتوا، سقطت حقوق الورثة وليست كتبرعات البتات في الصحة؛ فإنه لا تهمةَ فيها، مع امتداد الحياة والصحة، وإذا بُتَّت في مرضه، أو صحته، وقلنا بالاحتساب من الثلث، فلا حاجة إلى الوصية بها، تفريعاً على القول الأظهر، في أن الوصيةَ لا حاجة إليها، في أمثال هذه الحقوق؛ فإن جريان النذور بمثابةِ الوصية، وهذا لائحٌ.
2460- ومما ذكره الأئمة في آخر هذا الباب أن الأصحاب اختلفوا في أن الوصية بحج التطوع، والوصيةَ بالعتق هل يقدمان على ما سواهما من الوصايا؟ فيهما قولان مشهوران.
ثم قال صاحب التقريب: إذا قدمنا الحجَّ والعتق على سائر الوصايا، ففي الوصية بالحج، مع العتق المحسوب من الثلث قولان:
أحدهما: العتق مقدم على الحج، والثاني الحج مقدّم على العتق. هكذا حكاه.
ويتجه الحكم بأستوائهما، لتقابلهما باختصاص كل واحد منهما بمزية في الفقه.
والأصح أنا لا نقدم الوصيةَ بالعتق، والحج، على سائر الوصايا، ولا حاصل للتقديم، مع الانحصار في الثلث، إلا أن يوصى بتقديم بعضها على بعض.
فعلى هذا إذا أوصى بحجة التطوع، وحكمنا بمزاحمتها الوصايا، فإن كانت حصة حجة التطوع وافيةً بحجةٍ من الميقات، فذاك وإن لم يصب الحج ما يكفي لحجٍّ من الميقات، فتبطل وصية الحج؛ فإنه لا يتبعض، بخلاف الوصية بالعتق، فإن تحصيل بعضه ممكن، على ما سنذكره في الوصايا والعتق. إن شاء الله تعالى.