فصل: باب: تأخير الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: تأخير الحج:

قال الشافعي: "أنزلت فريضةُ الحج بعد الهجرة... إلى آخره".
2461- مذهب الشافعي أن وجوب الحج ليس على الفور، وليس على المستطيع البدارُ إليه وعمره فسحته، ومدته؛ فإن الحج عبادةُ العمر، فكان موقعه من العمر، كموقع صلاة الظهر، من زوال الشمس إلى مصير كل شيء مثله. ولو استشعر من نفسه العَضْب، فمن أصحابنا من أوجب عليه البدارَ لهذا الاستشعار، ومنهم من لم يوجبه.
2462- ثم إذا استطاع، فأخر، فمات، فالمذهب أنه يموت عاصياً؛ فإنا لو لم نعصِّه، لأخرجنا الحجَّ عن حقيقة الوجوب.
وأبعد بعض الفقهاء فقال: لا يموت عاصياً، لأنه أخر، والتأخير مسوَّغ له، وإنما يعصي، من فعل ما ليس له فعله.
وهذا قولٌ عريٌّ عن الإحاطة بأصول الشريعة؛ فإن التأخير إنما يسوغ على خطرٍ يلابسه، في عاقبة أمره، وقد ذكرتُ في فن الأصول في ذلك سرّاً، فقلت: وجه وجوب الحج أن مؤخره متعرض للغرر، وهو مما يؤلم القلب، ولولا هذا، لما تحقق الوجوب. وظهر اختلاف أئمتنا في أن من أخر الصلاة المؤقتة إلى وسط الوقت، فاخترمته المنية، فهل نقضي بأنه يلقى الله عاصياً؟ فقال قائلون: إنه يعصي كما يعصي المستطيع إذا مات، ولم يحج، وقال آخرون: لا يعصي؛ فإن التأخير، كان مربوطاً بوقتٍ مضبوطٍ، ومنتهى العمر لا ضبط له.
وهذا وإن ارتضاه طوائفُ من أئمة الفقه، فهو غيرُ صحيحٍ على قاعدة الأصول، ويلزم القائلَ به أن يُخرج الصلاةَ عن حقيقةِ الوجوب في أول الوقت، فالوقت للصلاة، كالعمر للحج، فإذاً ثبت أن من أخر الحج حتى مات، يلقى الله عاصياً. وما حكيناه من نفي التعصية غلطٌ غير معتد به، وقد ذكره شيخي، وبعضُ المصنفين.
وقد قال قائلون: إنه يعصي معصيةً منسوبة إلى آخر سنةٍ من سني الإمكان.
وقال قائلون: يعصي معصيةً منبسطةً على جميع وقت الإمكان، والوجهان عندنا لا حاصل لهما، فلا تقبض المعصية، ولا تنبسط، والوجه القطع بأنه مات عاصياً، ولقي الله تعالى، على صفة العصيان. ولا معنى لأضافة العصيان إلى زمانٍ، وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني في كتابه.
2463- ومما يجب التنبيه له أن التأخير إلى زمان العَضْب يحقق المعصيةَ في الحياة، وإن كان تحصيل الحج بطريق الاستنابة ممكناً؛ إذ لو قلنا: لا يعصي بالتأخير إلى العَضْب، لوجب أن نقول: لا يعصي بالتأخير إلى الموت، لإمكان تحصيل الحج بعده.
ومن أراد أن يتكلف توجيهاً لنفي المعصية، فليكن صغوُه إلى ما نبهنا عليه من إمكان تحصيل الحج بالموت، ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بهذا؛ فإن الاستنابة في حكم بدلٍ والمباشرة في حكم الأصل، ولا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه.
2464- ومما يتعلق بذلك، أن من أخر الحجَّ إلى العَضْب، وعصَّيناه، فعليه وقد باء بالمعصية، أن يبادر إلى الاستنابة، ولا يؤخرها، وإن كان لا يخرج عما باء به من المعصية.
وفي بعض التصانيف ما يدل على أنه لا يتضيق وقت الاستنابة، حتى يقال: إذا أخرها، انضمت معصيته إلى المعصية التي باء بها بتأخير المباشرة إلى العضب، فقد حصلنا إذاً في ذلك على وجهين.
ولا ينبغي أن يقدرَ خلافٌ فيه، إذا لم تجر قدرةٌ على المباشرة، وكان المرء في وقت استجماعه شرائط التكليف معضوباً. والوجه في حق من هذا وصفه أن يقال: الاستنابة في حقه كالمباشرة في حق القادر عليها.
وفي بعض التصانيف أن من طرأت عليه الزمانة، وأخّر الاستنابة، فهل للقاضي أن يجبره عليها، فعلى وجهين.
ثم قال صاحب التقريب: الأصح أن يجبره.
وهذا خُرق؛ فإنا وإن حكمنا بتضييق وقت الاستنابة، فليس هذا مما يتعلق بتصرّف الولاة، ويجوز أن يقال: الامتناع عما يتضيق في ذلك، بمثابة الامتناع عن أداء الصلاة، من غير عذر، ثم عن قضائها. وإذا جرى ذلك، فالسلطان يجبر على القضاء، فإن امتنع ضرب رقبتَه، ويجوز أن يفصل بين الصلاة والحج، فيقال: يتعلق بترك الصلاة حدٌّ، والحدود إلى الأئمة، بخلاف الحج. والله أعلم.

.باب: وقت الحج والعمرة:

قال الشافعي: "قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197... إلى آخره].
2465- الإحرام بالحج يتأقت عندنا بشهرين: شوال، وذي القعدة، وتسعٍ من ذي الحجة.
واختلف الأئمة في أن من أنشأ الإحرام بالحج ليلةَ العيد، فهل يصح ذلك؟ فمنهم من قال: يصح؛ فإنه وقت الوقوف، وهذا هو الأصح؛ فوقت الإحرام إذاً: شهران، وتسعة أيام وليلة.
ومن أصحابنا من لم يصحح الإحرام ليلةَ العيد ابتداء، وإن جعل المحرمَ قبل غروب الشمس مدركاً للحج، إذا أدرك الوقوف ليلاً، فعلى هذا: الوقتُ شهران، وتسعةُ أيامٍ، بلياليها، من ذي الحجة.
2466- ولو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، لم ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يصير محرماً، واختلف النص، فيما هو فيه: فقال الشافعي في موضعٍ: "انعقد إحرامه عمرةً"، وبه أجاب هاهنا. وقال في موضعٍ: "يتحلل بعمل عمرة".
فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أن إحرامه يقع عمرة صحيحة، حتى لو كانت عليه عمرةُ الإسلام، سقطت عنه، إذا طاف وسعى. والثاني- أنه ليس بعمرة، وليس إحراماً بحج، فلا يتصف ما هو فيه بواحد من النسكين، ولكن يلزمه إتيان مكة، لما التزمه، وتسبب الإحرام به، لتأكده ولزوم حكمه.
وأقرب شيء يُشبَّه حالُه به، حالُ من أحرم بالحج، ثم فاته الوقوف. على أنه قد يقال: من فاته الوقوف، فهو في إحرامٍ بحجٍّ فائت، ولا يسوغ إطلاق هذا فيما نحن فيه.
وبنى بعض أصحابنا القولين على ما إذا تحرم الرجلُ بصلاة الظهر، قبل الزوال، فلا شك أن صلاته لا تنعقد ظهراً، وفي انعقادها نفلاً قولان.
وهذا القائل يزعم أن الإحرام المطلق، إذا نُزّل على أقل المراتب، فهو عمرة، فتنزيل الصلاة على النفل، كتنزيل الإحرام المرسل، على العمرة. فلو نوى الرجل الصلاةَ، ولم يتعرض لتطوعٍ، ولا فرضٍ، انعقدت صلاته نفلاً. ولو أحرم مطلقاً، في وقت إمكان الحج، فإحرامه مبهم، وله تفسيره بالحج، وتنزيله على العمرة، فإن الإحرام بالنسك، يقبل الاستبهام، وهذا غيرُ ممكن في الصلاة.
هذا منتهى الطريقة.
2467- ومن أصحابنا من قطع بأن الإحرام بالحج، قبل أشهر الحج لا ينعقد عمرة، ونصُّ الشافعي حيث قال: "إنه محمول على العمرة"، يحمل على إطلاق الإحرام، وهذه هي الطريقة السديدة؛ فإن ذكر الخلاف في صلاة الظهر قبل الوقت، متلقًى من اعتقاد كون صلاة الظهر صلاة موصوفة، فإذا سقطت صفتها، بقيت الصلاة المطلقة. وهذا المعنى يبعد تخيله، فيما نحن فيه؛ فإن الإحرام بالحج ليس كذلك، إذ ليس عمرةً موصوفة، بصفة زائدةٍ. و لمن سلك طريقة القولين أن يقول: إذا جاز تنزيل الإحرام المطلق على العمرة، فالذي جاء به المحرم بالحج إحرامٌ، وصرفٌ إلى جهةٍ، فإذا بطلت الجهة المعيّنة، بقي الإحرام.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يقول: المحرم بالحج قبل أشهر الحج بالخيار: إن شاء صرفه إلى العمرة، جرياً على ما ذكرناه في الإحرام المعقود على الإبهام، فإنْ صرفه إلى العمرة، كانت عمرةً صحيحة، وإن لم يصرفه إليها، تحلل بعمل عُمرة. وهذا فيه بعض البعد؛ فإن الإبهام إنما يحسن عند تحقق التردد بين النسكين، ومثار هذا الإشكال من إحرامٍ ليس حجاً، ولا عمرة.
وبالجملة: لا بأس بهذا الوجه الذي حكيناه.
وهذا منتهى قولنا في وقت الحج.
2468- فأما العمرة، فلا وقت للإحرام بها، وجميع أوقات السنة صالحٌ للإحرام بها. وهي من وجهٍ كالتطوعات التي ينشط المرء لها.
ولكن في اليوم والليلة ساعات يكره إقامة التطوعات فيها، وليس في السنة وقتٌ يكره الإحرام بالعمرة فيه عندنا. فكلُّ متخلٍّ عن النسك، يبتدئ الإحرام بالعمرة، إلا الحاج العاكف بمنى، فالمعرّج على الرمي، والمبيت، فإنه يتحلل عن الحج التحللين. والأصحاب مجمعون على أنه لو أحرم بالعمرة في وقته هذا لم ينعقد إحرامه بها، فإن ما يأتي به بعد التحللين من مناسك الحج، فامتنع من الاشتغال بها الإحرامُ بالعمرة، وكان من حق تلك المناسك ألا تقع إلا في زمن التحلل، وأيام التطيب، والبعال، والتحلِّي مستحق في إقامتها، كما يمتنع الصوم فيها، على الأصح.

.باب: وجوب العمرة:

2469- المنصوص عليه في الجديد أنه يجب على المرء عمرةٌ واحدةٌ في عمره، كما يجب عليه حَجَّةٌ في عمره. وعلق الشافعي القولَ في وجوب العمرة في القديم؛ فقال في أحد القولين: إنها سنة مستحبة. وهذا قول أبي حنيفة. وتوجيه القولين في الأخبار، وقد ذكرناها في مسائل الخلاف.
ومن لطيف القول في الباب: أنا إذا أوجبنا العمرةَ لم تقم حجة مقامها، وإن اشتملت على أعمال العمرة وزادت. ونقيم الغسل مقام الوضوء.
وهذا من أصدق الأدلة-إذا أردتها- على تغاير الحج والعمرة.

.باب: ما يجزئ من العمرة إذا جُمعت إلى غيرها:

قال الشافعي: "ويجزئه أن يَقرُنَ العمرةَ مع الحج... إلى آخره".
2470- الحج والعمرةُ يؤدَّيان على ثلاث جهات: الإفراد، والتمتع، والقِران. فأما الأفراد، فصورته الجارية على الاعتياد في حق الغريب، أن ينتهيَ في أشهر الحج إلى ميقات جهته، فيحرمَ بالحج، ويجريَ فيه إلى انتهائه، ثم يعودَ إلى مكة بعد التحلل، ويخرج إلى أدنى الحل، ويحرم بالعمرة. هذه صورة الإفراد. وسنلحق بالإفراد صوراً، في فصل التمتع ينخرم فيها شرائط التمتع، على ما سيأتي مشروحاً-إن شاء الله تعالى-
ولا يتأتى شرح هذه الأقسام بدفعة، فإنما يحصل شفاء الصدر من أغراضها عند نجازها، فليعتن الناظرُ بفهم ما ينتهي إليه، واثقاً بأن ما يدور في خلده بين يديه.
2471- فأما التمتع، فله شرائط.
الشرط الأول
منها أن تقع العمرة في أشهر الحج، فلو انتهى الغريب إلى ميقات بلده في رمضان، وأحرم بالعمرة، وتحلل منها، قبل هلال شوال، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها؛ فإنه ليس متمتعاً، وفاقاً.
ومما يتعين الاعتناء بفهمه في صور أحكام التمتع: أن المعتبر فيه أمران:
أحدهما: وقوع العمرة في أشهر الحج، وكان ذلك في مرتبة المستنكرات؛ إذ كان الناس يَرَوْن أن أشهر الحج لا تُشغل إلا بالحج، ولا يُزحم الحج بالعمرة، في وقت إمكان الحج، فورد التمتعُ في حكم الرخصة، وجُوِّز للناس إيقاعُ العمرة في أشهر الحج، وكأن السبب في الرخصة أن الغريب كان يرد مكة، قبل عرفةَ بأيام، وكان يعسُر عليه استدامةُ الإحرام بالحج، ولا يجد سبيلاً إلى مجاوزة الميقات، الذي ينتهي إليه في جهته، فجوز له أن يحرم بالعمرة، ويتحلل عنها، على شرط الشرع، ويبقى بمكة متحللاً، ثم يُحرم بالحج، من جوف مكة. هذا أحد الأمرين.
والثاني: أن الغريب لو أحرم بالحج، من ميقاته الذي انتهى إليه، لكان يحرم بالعمرة، بعد نجاز الحج من ميقات العمرة، وهو أَدْنى الحل. وإذا أحرم بالعمرة متمتعاًً، فقد ربح أحدَ الميقاتين في أحد النسكين.
فينبغي أن يكون هذان الأمران على ذُكرٍ من الناظر في هذه المسائل.
فإذا أوقع العمرة بتمامها في شهر رمضان، لم يكن متمتعاًً.
ولو أحرم بها في شهر رمضان، وأوقع جميع أفعالها في شوال، فهل يكون متمتعاًً؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يكون متمتعاًً، لأنه لم يزحَم الحجَّ بإحرامه، والأصل الإحرام، والأعمالُ وفاءٌ به، فكان كما لو أوقع العمرة في شهر رمضان.
والثاني: أنه يكون متمتعاًً؛ لأن المقصود من العمرة أفعالُها، والإحرام رابطةٌ لها، وقد وقعت الأفعال في أشهر الحج.
وحكى الأئمةُ وجهاً ثالثاً، عن ابن سريج: أنه قال: إن عاد، فمرّ على الميقات محرماً، بعد هلال شوال، أو كان مقيماً به، حتى دخل شوال، فهو متمتعٌ؛ نظراً إلى حصوله بالميقات محرماً، في أشهر الحج. وإن كان جاوز الميقات محرماً، في رمضان، واستمر، ولم يعد، لم يكن متمتعاً.
وهذا الخلاف والأفعالُ واقعةٌ في أشهر الحج.
فأما إذا أوقع شيئاً منها في رمضان، فإن قلنا: وقوع الإحرام في رمضان يخرجه عن كونه متمتعاًً، فهذه الصورة أولى بذلك، وإن قلنا: وقوع الإحرام في شهر رمضان لا يخرجه عن التمتع، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أنه ليس متمتعاًً؛ لأنه جمع بين الإحرام، وهو القصد، وبين إيقاع المقصود، فأوقعهما في رمضان. وهذا القائل يقول: لو أوقع بعضاً من أشواط الطواف في رمضان، لم يكن متمتعاًً.
والوجه الثاني- أنه متمتع؛ لأنه صادف الأشهر، وهو محرم بالعمرة؛ فحصلت المزاحمة، التي أشرنا إليها. وهذا القائل يقول: لو أوقع في الأشهر وهو محرم الحلقَ على قولينا: إنه نسك، كفى ذلك، في كونه متمتعاًً.
فهذا بيان هذا الشرط.
2472- وفي إتمام القول فيه شيءٌ، لا يطلع على حقيقة الفصل من لم يعرفه، فنقول: إذا أوقع العمرة بتمامها في رمضان، وقلنا: إنه ليس متمتعاًً، فلا شك أنا نجعله مفرداً، ولا يلزمه دم التمتع؛ إذ لا تمتع، وهل يلزمه دم الإساءة؟ اضطرب الأئمة فيه، فكان شيخي يقطع بوجوب دم الإساءة من جهة أن الغريب ربح ميقاتاً، على ما سبق التنبيه عليه، ودم الإساءة يجب بسبب الإخلال بالميقات.
وذهب المحققون إلى أنه لا يلزم دمُ الإساءة؛ فإن المسيء من ينتهي إلى ميقاتٍ، وهو على قصد النسك، فيجاوزه، وهو غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات، محرماً بالعمرة، وأما الحج، فقد أتى به من ميقاتٍ انتهى إليه، وهو مكة، فإيجاب دم الإساءة بعيد.
والذي يحقق ذلك أن المسيء منهيٌّ عن صورة فعله، ثم إذا فعله، ففعله مقابل بكفارة، ومن تحرم بالعمرة في رمضان، ليس مرتكباً نهياً، ولا مخالفاً أمراً، فتقديره مسيئاً، لا وجه له. والمتمتع إذا تجمعت له الشرائط، ليس مسيئاً، ولكنه مُزاحِمٌ للحج، ورابحٌ ميقاتاً، فكان السببان مقتضيين للدم، مع الترخيص في الإقدام على موجِب الدم.
ومن هذا ينشأ اختلاف العلماء في أن دم التمتع دمُ جبران، أو دمُ نسك، فرآه الشافعي دمَ جبران، ومعتمده في تصوير النقصان المحوِج إلى الجبران المزاحمةُ ورِبح ميقات.
وقال أبو حنيفة: إنه دم نسك، وإنما حمله على ذلك، أنه لم ير في أعمال التمتع نقصاناً، يقتضي جُبراناً. فليفهم الناظر وقع الكلام. هذا قولينا في شرط واحد من شرائط التمتع.
الشرط الثاني
2473- والثاني أن يقع الحج والعمرة في سنةٍ واحدة، فلو اعتمر الغريب من ميقاته، ولم يحج في تلك السنة أصلاً، وأقام بمكة، وحج في السنة القابلة؛ فإنه ليس متمتعاًً، ولكل سنة حكمُها، وما أجريناه في أثناء الكلام من مزاحمة الحج بالعمرة، فهو مشروط باتفاق الجج في تلك السنة. وهذا كما أن المسيء من يمرّ على الميقات ناوياً نسكاً، مع ترك حق الميقات، فإذا جمعت السَّنةُ العمرةَ والحجَّ، وتقدمت العمرة، كان ذلك خلاف النظم المألوف، في النسكين.
ثم الغريب إذا دخل مكة معتمراً، وحج في السنة القابلة، فهو مفردٌ غير مسيء بلا خلاف. ولو أقام بمكة، سنين، وكان يحج كل سنةٍ، من مكة، فلا إساءة، ولا دم؛ فإنه ينشئ الحج، كل سنة، من ميقاتٍ، هو عاكف عليه. وهذا لا خفاء به.
ولكن لا ينبغي، أن يُتَبَرَّمَ بذكر الجليات في المناسك، فإنها قُربٌ غيرُ مألوفة، لمعظم الناس، وتركُ الجليّ فيها يَجرّ عَماية.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه كان يشترط أن تقع العمرةُ والحج في شهر واحد، وهذا مزيَّف لا أصل له، من جهة التوقيف، ولا من جهة المعنى.
الشرط الثالث
2474- والثالث من الشرائط: أن لا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، ولما ذكر الله تعالى التمتع وحكمَه، قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثم اضطرب العلماء في معنى الحاضر، فقال مالك: هو ساكنُ مكة، أو الحرم، وإن لم يكن عمران مكة متصلاً به.
وقال أبو حنيفة: الحاضر، من هو على ميقاتٍ من المواقيت، فجعل المقيمَ بذي الحُلَيفةَ من حاضري المسجد الحرام، وبينه وبينه تسعون فرسخاً ونيِّف.
واعتبر الشافعي في ذلك مسافةَ القصر، فقال: من كان على مسافة القصر من مكةَ، فليس من الحاضرين، ويتأتى منه التمتع، ويلزمه دمُه، ومن كان منزله من مكة على مسافةٍ، تقصر عن مسافة القصر، فهو من الحاضرين؛ فلا يلزمه دمُ التمتع، إذا أحرم بالعمرة، من مسكنه، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة. ثم لا خلاف أنا كما لا نلزمه دمَ التمتع، لا نُلزِمه دماً آخر.
فإن قيل: قد وُجدت منه المزاحمة، وتقديم العمرة. قلنا: كأنا نعتبر في إلزام دم التمتع أن يشغلَ ميقاتاً، بالغاً مسافة القصر، بإحرامِ العمرة، فإذا كان منزله على مسافةٍ قريبةٍ-وحدّ القرب ما ذكرناه- فهو كالمكّي، والمكي إذا قدّم العمرةَ على الحج، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة، فالذي جاء به على صورةِ التمتع، ولا يلزمه شيء أصلاً، فكذلك من قربت مسافته، إذا أحرم بالعمرة من وطنه، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فلا يلزمه شيء.
2475- وقد يرد على من يعتمد مسلك المعنى سؤال، فيقال: من كان مسكنه دون ميقاتٍ، وكان من حاضري المسجد الحرام، كما وصفناه، فلو قصد مكةَ ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنَه وقريته، غيرَ محرم، فهو مسيء ملتزم دمَ الإساءة، وفاقاً. ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة، فلا يلزمه شيء إذا أحرم من مكة. والسبيل في الجواب، أن يقال: مسلك المعنى لا يكاد يتجرد في هذه القاعدة، والتعويل على التنزيل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدنا إليهما سبيلاً، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فرأى الشافعي من قربت المسافة بين وطنه وبين مكة، معدوداً من المتصلين بالحرم، وأدرجه في اسم الحاضرين.
وبالجملة لا يشهد لوجوب دم التمتع معنىً مستقلٌّ صحيحٌ على السَّبْر، وقد أحيا كل ميقات بنسك، ولكن ثبت دم التمتع نصَّاً، فاتبعناه، وتكلفنا على بعدٍ معناه، فإذا عدمنا ما تخيلناه من الشرائط، فلا غموض في نفي وجوب الدم.
وأما من يدخل مكة مُحلاً، وهو على قصد النسك فهذا تركٌ منه لحق وطنه، وحق الحرم.
فهذا منتهى القول في ذلك. وإذا بلغ طلبُ الفقيه في فصلٍ منتهاه، لم يكن من مخايل رشده طلب شيء سواه.
فرع:
2476- الغريب الآفاقي إذا انتهى إلى ميقات فجاوزه، وكان لا يبغي إذ ذاك الإحرام، ودخول الحرم، فلما تعدّاه، وقرب من مكةَ، بدا له أن يحرم بالعمرة، ثم يحرمَ بعدها بالحج، من جوف مكة، على صورة التمتع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه دم التمتع؛ لأنه غريب أتى بصورة التمتع
والثاني: لا يلزمه؛ فإنه لم يلتزم الإحرام، وهو على مسافة بعيدة، وإذ خطر له أن يحرم، كان على مسافة أهل تلك البقعة، إذا كان بها ناس يعدون من حاضري المسجد.
والذي يجب إمالة الفتوى إليه إيجاب الدم، فإنه يسمى متمتعاًً، ولا يسمى من حاضري المسجد الحرام. وأسعد المذاهب في هذه المراتب، ما يعتضد بقول الشارع.
فرع:
2477- إذا كان لرجل مسكنان، أحدهما على مسافة القصر، والثاني دونها، فإن كان أكثر سكناه في القريب، فهو من الحاضرين، وإن كان أكثر سكناه في المسكن البعيد، فهو غريبٌ متمتع.
وإن كان يسكنهما على استواء، وكان أهله بأحدهما، فهو منسوب إليه، وإن استويا في كل وجه، فقد قال صاحب التقريب، وغيره: ينظر إلى الموضع الذي يُحرم منه، ويثبت له حكم ذلك الموضع، قريباً كان، أو بعيداً.
ولعلنا نعود إلى هذه الصورة في باب المواقيت، ونستقصي فيه تمامَ البيان.
الشرط الرابع
2478- الشرط الرابع في التمتع أن يحرم الغريب بالحج من جوف مكة، فلو رجع إلى ميقاته، وأحرم بالحج منه، فليس متمتعاًً، ولا يلزمه شيء، وكذلك لو رجع إلى مسافة ميقاته؛ فإن أعيان المواقيت ليست مقصودة، وإنما المقصود منها مسافاتها، التي تُقطع على صفة الإحرام.
ثم كما لا يلزم دم التمتع، لا يلزم دم الإساءة، لا شك فيه. ومجرد تقديم العمرة في أشهر الحج على الحج، لا يوجب دماً.
ولو أحرم الغريب بالحج، من جوف مكةَ، بعد الفراغ من العمرة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرماً، ومرّ عليه عابراً إلى الحرم، ففي سقوط دم الإساءة قولان معروفان، سيأتي توجيههما، وتفريعهما، إن شاء الله تعالى.
ولو كان ميقات الغريب القادمِ بعمرةٍ الجُحفةَ، وهي على خمسين فرسخاً من مكة، فلما تحلل عن العمرة، عادَ إلى ذات عرق، أو إلى مرحلتين في جهةٍ، لا ميقات فيها، وأحرم بالحج من تلك المسافة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن دمَ التمتع لا يسقط عنه بهذا؛ فإنه لم يعد إلى ميقاته، ولا إلى مسافة ميقاته، وكان يُحرم بالحج من الجُحفة، لو أفرد، فليعد إلى مسافتها.
والوجه الثاني- وهو اختيار القفال، فيما حكاه الصيدلاني: أنه يسقط عنه دم التمتع؛ من جهة أنه أحرم من موضعٍ، لا يكون ساكنوه من حاضري المسجد الحرام.
وهذا يتجه بأن يجدد الإنسان عهدَه بخروج دم التمتع عن قاعدة القياس؛ فإن إلزام الدم، وقد أحيا الغريبُ كل ميقات بنسكٍ، فيه بُعدٌ، من جهة المعنى. فإذا أحرم بالحج من مسافة القصر، فلا نظر إلى الميقات الطويل الذي أحرم منه معتمراً، وإنما النظر إلى خروجه عن صفة المتمتعين.
فرع:
2479- الغريب إذا دخل مكة معتمراً على صورة المتمتع ثم نوى في تلك السنة أن يستوطن مكة، وأحرم من جوف مكة، فلا يسقط دم التمتع عنه وفاقاً، وإن صار في هذه السنة من سكان مكة؛ لأنه لما جاوز ميقات بلده غيرَ محرم بالحج، فقد التزم أحد الأمرين في هذه السنة، إما أن يعود، فيحرم بالحج، وإما أن يلتزم دمَ التمتع، فإذا نوى الاستيطان، لم يسقط ما جرى في هذه السنة التزامُه. ولو استمر، ولم يتفق خروجُه من مكة، لفقدان الرفاق، فأحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها، فلا يلزمه في السنة الثانية شيء؛ فإنه لم يمرّ فيها على ميقاتٍ غير مكة.
فهذا وجه الكشف في ذلك.
وقد انتهى ما يعوّل عليه من شرائط التمتع.
الشرط الخامس
غيرُ مُسلَّم
2480- وذكر الخِضري شرطاً خامساً، عن بعض الأصحاب، فقال: ينبغي أن يقع النسكان عن شخصٍ واحد، حتى لو كان أجيراً، استأجره شخص على العمرة، فاعتمر عن مستأجِرِه من ميقات جهته، ثم أحرم بالحج من جوف مكة عن نفسه، فلا يكون متمتعاًً.
وهذا خيال فاسد، مشعرٌ بخلوّ صاحبه عن مدار الباب، وحقيقتِه، فحق مسائل الباب أن تُتلقى مما قدمنا ذكره، من مزاحمة الحج بالعمرة، في الميقات الذي إليه الانتهاء، مع ربح أحد الميقاتين، كما قررناه. ولا أثر بعد هذا لوقوع النسكين عن شخصٍ، أو شخصين.
ثم إذا جرينا على الأصح، فهو متمتع.
2481- وإن لم نجعله متمتعاً، فهل نجعله مسيئاً، حتى نُلزمه دم الإساءة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه مسيءٌ، ملتزمٌ؛ فإنه مُخلّ بالترتيب، مُخْلٍ ميقاتَه البعيد، عن نسك الحج، مع إمكانه.
والثاني: إنه ليس بمسيء؛ فإنه لم يُخْلِ ميقاتاً عن نسك، وقد ذكرنا قريباً من هذا: الخلافَ فيه إذا أوقع العمرة في رمضانَ، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فليس هو متمتعاًً. وهل يلزمه دم الإساءة؟ فعلى خلافٍ قدمناه.
والأصح في الصورة المتقدمة أن لا يلزم الدم؛ فإنه قد أحيا الميقات بعمرة، حين لم يكن الحج والإحرام به ممكناً، فلم ينتسب إلى تقصير. وفي المسألة الأخيرة قد أتى بالعمرة في وقت إمكان الحج، ثم أخل بشرائط التمتع، فإذا لم يجب دم التمتع فيبعد أن لا يجب شيء آخر. فإن لم نجعله مسيئاً، فلا كلام، ولا ينقدح من ترك الشرط إلاّ فواتُ فضيلة التمتع، إن جعلناه أفضل-في قول- من الإفراد. وإن جعلناه مسيئاً، فلا يلزمه إلاّ دمٌ.
ويبقى فرقان:
أحدهما: أنا لا نلزم المتمتع الرجوعَ إلى الميقات، ونلزم المسيء ذلك؛ فإن لم يفعل جَبَر ما تركه بدم. والآخر- أنه تاركٌ فضيلةَ التمتع، على ما ذكرناه.
وتمام البيان في ذلك: أنه إذا عاد إلى الميقات-على قولينا: إنه مسيء- ففي سقوط دم الإساءة عنه قولان؛ فإن المسيء إذا تعلق بالحرم، ثم عاد، وأحرم، ففي سقوط الدم عنه قولان، والمتمتع يسقط عنه دم التمتع، قولاً واحداً، إذا عاد إلى الميقات، كما تقدم ذكره. وإنما ألزمنا هذا الخبطَ، من تفريعنا على وجهٍ ضعيفٍ، لا أصل له، وهو ما حكاه الخِضْري.
الشرط السادس
غير مُسلَّم
2482- وذكر بعض الأصحاب شرطاً سادساً فقال من شرائط التمتع والاعتداد به على الصحة النيةُ.
وهذا مع اشتهاره مردود عند كافة المحققين، ولا يصير إليه إلاّ عريٌّ عن تحصيل مقصود الباب؛ فإن مبنى الباب على ما قدمناه من المزاحمة، وربح أحد السَّفْرتين، وعلى اتباع قول الشارع، ولا أثر لنية التمتع، فيما ذكرناه. وسيزداد هذا الوجه ضعفاً، إذا فرعناه، وإنما التفت من اشترط النية إلى الجمع بين الصلاتين؛ فإن النية شرطٌ في جمع التقديم، على ظاهر المذهب. وليس يشبه ما نحن فيه الجمعُ؛ فإن من يقدم صلاة العصر على وقتها، فإنه مغيّر لوضعه المألوف في الشرع، وتقديم العبادات البدنية على أوقاتها بعيدٌ عن قياس موضوع الشرع، وليس يتحقق مثل ذلك في النُّسُكَين.
2483- فإن لم نشترط النية، فلا كلام وإن شرطناها، فقد ذكر العراقيون، وغيرُهم ثلاثةَ أوجه في وقت النية: أحدها: أن وقتها عند الشروع في العمرة، كوقت نية الجمع من صلاة الظهر، في حق من يجمع بينها وبين صلاة العصر.
والثاني: أن ذلك وقتها، ثم يمتد إلى التحلل، من العمرة. ولهذا نظيرٌ في نية الجمع. الثالث: أن ما قدمناه وقتها ويمتد إلى ما قبل الشروع في الحج. وهذا يناظر مذهبَ المزني في وقت نية الجمع بين الصلاتين، فإنه قال: ينوي الجامع ما بين الفراغ من الأولى، والشروع في الثانية. و تفريع هذا الخلاف في وقت النية، يُبيّن نهايةَ ضعف الأصل.
نعم، لو قال قائل: لو لم يكن المنتهي إلى الميقات على قصد الحج، أو كان خطر له أن يقتصر في هذه السنة على العمرة، ثم اتفق منه الحج، فلا دم عليه، قياساً على من تجاوز ميقاتَه، وهو لا يقصد النسك.
وإن كان على قصد الحج، فأتى بالعمرة، فقد قدّم أدنى النسكين، وأتى به من أطول الميقاتين، فيلتزم دماً لقصده، فكان هذا قريباً من مأخذ المناسك.
ثم هذا يقتضي القطعَ باعتبار وقت الخوض في العمرة، وليس هو نية قُربة، وإنما هو قصدٌ مخصوص، يناط به حكمٌ، وذِكْر الأصحاب الأوجُهَ في وقت النية، يدل على إضرابهم عما نبهنا عليه.
ثم إن فرعنا على مسلك الأصحاب في النية، فلو ترك النيةَ، فقد قيل: إنه مسيء بتركه شرطَ التمتع، وقد ذكرنا أمثال هذا.
2484- وإن قال بما ذكرناه قائل: في أن القصد هو المرعي، فالوجه أن نقول: إن قصد التمتعَ، التزم دمَ التمتع، وإن لم يقصد، فلا شيء عليه، فإن قيل: هذا يؤدي إلى إثبات ذريعة في إسقاط دم التمتع، قلنا: هذا خُرق من قائله؛ فإن القصود لا تلبيس فيها، وإنما يبدي المرء خلاف ما يضمره، فأما قصوده، فلا قدرة على تغييرها.
فرع:
2485- الغريب إذا تمتع بالعمرة إلى الحج، على الشرائط التي ذكرناها، فإنه يُحرم بالحج من جوف مكة.
ثم اختلف الأئمة في المكان الذي يستحب له الإحرام منه، فذهب بعضهم إلى أن الأولى أن يبتدئ الإحرام من الموضع الذي هو نازله، ثم يدخل المسجدَ محرماً.
ومنهم من قال: الأولى أن يغتسل ويتأهب، ويدخل المسجد، ويحرم، عند البيت.
وقد نُعيد هذا في باب المواقيت.
فلو جاوز مكةَ والحرمَ، ثم أحرم بالحج، فهو متمتع مسيء، فيلزمه دمُ التمتع، لاستجماعه شرائطَه، ويلزمه دم الإساءة لمجاوزته ميقاتَ حجه، قطع بذلك العراقيون.
وتعليلُه تعدُّد السبب الموجب للدم. ولا وجه إلا ما ذكروه.
وهو بمثابة ما لو جاوز ميقات بلده غير محرم، ثم يحرم بالعمرة، ويتمادى على صفة التمتع، فيلزمه دم التمتع، ودم الإساءة جميعاً.
فإن قيل: دمُ التمتع دمُ جبران، والنقصان آيل إلى الميقات، فهلا وقع الاكتفاءُ به؟ قلنا: ما قدمنا ذكره من النقصان، ليس من قبيل الإساءة، ووجوه النقصان في النسك شتَّى، والذي يُحقِّق ما ذكرناه أن دم التمتع، وما يتعلق به من بدل، قد يخالف دمَ الإساءة، فوضح تباينهما.
وقد نجز غرضنا في تصوير التمتع، والإفراد.
2486- فأما الجهة الثالثة في أداء النسكين، فالقِران.
ولتصويره وجهان:
أحدهما: أن يحرم الرجل بهما جميعاً.
والثاني: أن يدخل أحد النسكين في الآخر.
فإن أحرم بالعمرة أولاً، ثم أحرم بالحج، نُظر: فإن كان الإحرام بالحج قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة، صار قارناً، ولا حاجة إلى نية القِران وفاقاً، وهذا يؤكد فسادَ قول من يقول: لابد من النية في التمتع.
وإن اشتغل بشيء من أعمال العمرة مثل أن يخوض في الطواف، فقد انسد إمكان القِران، فلو أحرم والحالة هذه بالحج، لم ينعقد إحرامه، ولغا عقده.
فأما إذا أحرم بالحج أولاً، ثم أحرم بالعمرة، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني: يصح.
من قال بالصحة، احتج بإدخال الحج على العمرة، ومن منع، استدل بأن العمرة مستغرَقة في الحج، من جهة الأعمال، فلا يتجدد على الحاج عمل، بتقدير إدخال العمرة، وليس كإدخال الحج على العمرة.
وهذا يرد عليه الإحرام بالنسكين معاً.
فإن جرينا على الأصح، وهو جواز إدخال العمرة على الحج، فإلى متى يجوزِ ذلك؟ فعلى أوجهٍ: أحدها:أنه يجوز ما لم ينقرض زمان الوقوف؛ فإن إدراكَ الحج، وفواتَه، منوطان بالوقوف، وهو حالٌّ محلّ المعظم. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة».
ومن أصحابنا من يقول: إذا مضى من الحج ركنٌ، امتنع الإحرام بعده بالعمرة، فإذا دخل الحاج مكة، قبل يوم عرفة، وطاف طواف القدوم، وسعى، فالسعي يقع ركناً، فلو أحرم بالعمرة، لم ينعقد، وان لم يأت بركن أصلاً، ينعقد إحرامه بالعمرة، ويصير قارناً؛ فعلى هذا لو طاف طواف القدوم، وأحرم بالعمرة، قبل الاشتغال بالسعي، صح، وصار قارناً؛ فإن طواف القدوم ليس من الأركان.
ومن أصحابنا من قال: يصح الإحرام بالعمرة، ما لم يأت الحاج، بعملٍ من أعمال الحج، سوى الإحرام، فإن طاف طواف القدوم، ثم أحرم بالعمرة على هذا الوجه، لم ينعقد إحرامه بها. وهذا القائل لا يَعُدّ التلبيةَ من الأعمال المؤثرة.
ومن أصحابنا من قال: ينعقد الإحرام بالعمرة، ما لم يشتغل بشيء من أسباب التحلل، على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
2487- فإن قيل: قطعتم القول بأن الإحرام بالحج لا ينعقد، مع الخوض في شيء من أعمال العمرة، وردَّدتُم المذهبَ في إدخال العمرة على الحج.
قلنا: السبب فيه: أن جميع أعمال المعتمر أسبابُ التحلل، ولهذا يتحلل من فاته الحج، بأعمال المعتمر. وكذلك من أحرم بالحج في غير أشهر الحج، وقلنا: إنه ليس معتمراً، فإنه يلقى البيتَ بعملِ معتمرٍ.
2488- وتمام البيان فيما نحن فيه: أنا على الوجه الأخير إذا اعتبرنا التحلّلَ، نقول: إذا اشتغل الحاج صبيحة يوم النحر برمي جمرةِ العقبة، فإذا رمى حصاةً، امتنع الإحرام بالعمرة، وإن كان التحلل الأول لا يحصل برمي حصاةٍ واحدة، ولكن الاشتغال بالتحلل في حكم استفتاح قطع العبادة، فكفى في منع الإحرام افتتاحُ القطع، وإن لم يتم بعدُ، ولهذا قلنا: لا يدخل الحجة على العمرة، إذا اشتغل المعتمر بالطواف، وإن لم يفرغ منه.
فهذا بيان تصوير القِران.
2489- وعلى القارن دمٌ، صفتهُ وصفة بدله، كصفة دم التمتع، كما سنذكره.
ثم إنما يلتزم القارن الدمَ إذا كان غريباً.
فأما إذا قرن المكي، فلا يلزمه شيء، كما لا يلزمه بصورة التمتع شيء، وهذا متفق عليه. والسبب فيه أن المكي إذا أتى بصورة التمتع، فإنه يحرم بالعمرة من أدنى الحل، ويحرم بالحج من جوف مكة، فقد أتى بالنسكين من ميقاتهما، فقيل: لا دَم عليه. وإذا قرن، فالذي لم يأت به في ظاهر الحال العمرةُ من الحل، وهذا لا مبالاة به؛ فإنه سيخرج من الحرم، وينتهي إلى الحل، فيصير جامعاً بين الحل والحرم.
ومن ظن سبب وجوب الدم على القارن الغريب أنه يقتصر على طواف واحد وسعْيٍ واحد، فقد أبعد، فإنا لو قلنا ذلك، لكنا قائلين بأن سقوط الأركان مقابل بجبران، وهذا محالٌ.
فإن قيل: الغريب أيضاًً يجمع بين الحل والحرم، فأسقطوا عنه الدمَ. قلنا: ميقاته الأصلي الحلُّ، ولا أثر للحرم في حقه في حكم الميقات، فقد تعدد نسكه، واتحد ميقاته.
ولو دخل الغريب القارنُ مكةَ، قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى ميقاته لأجل الحج، فهل يكون عوده، وهو قارن بمثابة عود الغريب المتمتع؟ قلنا: نذكر صورة في المتمتع، ثم نعود إلى ذلك.
فإذا تحلل الغريب المتمتع من عمرته، وأحرم بالحج من جوف مكة، ثم عاد محرماً إلى ميقاته، ففي سقوط دم التمتع عنه وجهان، مبنيان على الوجهين فيه إذا جاوز من يريد النسك ميقاتَه، وأحرم مجاوزاً، وعاد إلى الميقات محرماً، ففي سقوط دم الإساءة خلافٌ سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
2490- رجعنا إلى القارن في الصورة التي ذكرناها، وهي إذا عاد القارن إلى ميقاته، فإن قلنا: المتمتع إذا عاد بعد الإحرام من مكة، لا يسقط الدم عنه، فالقارن العائد بذلك أولى، وإن قلنا: يسقط الدم عن المتمتع في الصورة التي ذكرناها، ففي سقوط الدم عن القارن، إذا عاد وجهان، ذكرهما الصيدلاني وغيرُه:
أحدهما: أنه يسقط دم القران، وهو قياسٌ بيّن.
والثاني: لا يسقط؛ فإن القارن في حكم متمسك بنسك واحد، فلا وقع لعوده، واسم القِران باقٍ لا يزول، والتمتع يزول بالعَوْد إلى الميقات، وهذا كان يحسن وقعُه لو أوجبنا الكفارة على المكّي إذا قرن، وفرقنا بين صورة التمتع منه، وبين صورة القِران، وليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاء الكفارة عن المكي في القِران متفق عليه.
وقد قال الشافعي في أثناء كلامه، في هذه المسائل: "والقارن أخف حالاً من المتمتع " واختلف الأئمة في تفسير لفظه: فقيل: أراد به الردَّ على مالك؛ فإنه أوجب على القارن بدنة، وعلى المتمتع شاة، فقال ردّاً عليه: الغريب القارن أتى بنسكيه من ميقات بلده، والمتمتع يأتي بالحج من ميقات غيره، فالقارن أخف حالاً فيما يتعلق بأمر الميقات، فلا ينبغي أن تزيد كفارته على كفارة المتمتع.
وقيل: أراد الشافعي الردّ على داود؛ فإنه قال: لا شيء على القارن، وإنما الكفارة على المتمتع. فقال رداً عليه: القارن أخف حالاً، فإنه لا يتعدد ميقات نسكيه، والمتمتع يتعدد ميقاته، ويتفصَّل، فيجوز أن يؤاخذ القارن الذي أتى بميقاتٍ واحد، بما لا يؤاخذ به من أتى بميقاتين.
فهذا تمام ما أردناه، في تصوير الجهات الثلاث، في أداء النسكين.
2491- وإذا انتجز التصوير، فالقول في بيان الأفضل من هذه الجهات، ثم في تفصيل الكفارة، وقد أورد الشافعي لذلك باباً، فنجري على ترتيب السواد.
فصل:
قال: "ولو أفرد الحجَّ، فأراد العمرةَ بعد الحج... إلى آخره".
2492- المفرد إذا فرغ من الحج، فإنه يأتي بالعمرة بعد الفراغ من الحج، وسبيله أن يخرج إلى الحل، وُيحرم بالعمرة منه، ويعود، ويأتي بأعمال عمرته.
ثم يكفي أن يخرج إلى أي طرفٍ شاء، فإذا لابس الحلَّ، أحرم، وعاد. وأقربُ المسافات إلى الحل، ما في جهة مسجد عائشة رضي الله عنها، وذلك الموضع هو الذي يسمى التنعيم، ولو كان الحرمُ ينتهي في قطرٍ أقرب من انتهائه في الجهة التي ْذكرناها، لاكتفينا بتلك الجهة. والمرعي على الجملة الانفصالُ من الحرم.
ولو أحرم الرجل بالعمرة في الحرم، وطاف، وسعى، وحلق، فهل يعتد بطوافه، وسعيه؟ في المسألة قولان:
أحدهما: يُعتدّ بهما؛ لأن الإحرام قد انعقد، وأتى بصورة الأعمال على شرطها، وأقصى ما نقدر بعد ذلك، أنه أخل بميقات العمرة، والإخلال بالميقات لا يمنع الاعتداد بالأعمال.
والقول الثاني- أنه لا يكتفى بتلك الأعمال، ووجّه الصيدلاني هذا القولَ، بأن قال: الجمعُ بين الحل والحرم ركنٌ في الحج، فليكن ركناً في العمرة، غيرَ أن الكون في الحل للوقوف مؤقت يفوت، والخروج إلى الحل في العمرة ليس بمؤقت، فلا يفوت، فإذا أراد المحرم بالعمرة من جوف مكة، أن يعتد بأفعاله، فليخرج إلى الحل، وليعد، ثم ليطف، وليسع، فإن طواف الزيارة هو الركن في الحج، وهو مرتب على الوقوف بعرفة، فينبغي أن يترتب طواف العمرة، على الجمع بين الحرم والحل.
التفريع:
2493- إذا قلنا: نعتد بالطواف والسعي، فنجعله بترك الخروج إلى الحل مسيئاً، ملتزماً دمَ الإساءة؛ من جهة تركه الميقاتَ المشروع للعمرة.
وإن قلنا: لا يعتد بما جاء به؛ فإحرامه منعقدٌ، لا خلاف فيه. ولكن إن أراد الاعتداد بأعماله، فليخرج إلى الحل، ثم يعود، ويأتي بالطواف، والسعي، فإذا فعل ذلك، فهل نقول: حكمه حكم من جاوز الميقات مسيئاً، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات، حتى يخرج سقوطُ الدم على الخلاف؟
اختلف الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: لا دم عليه في مسألتنا وجهاً واحداً، وهو من طريق التمثيل بمثابة من يُحرم قبل الميقات، ثم يمر عليه؛ فإن المسيء هو الذي ينتهي إلى ميقاتٍ، ناوياً نسكاً، ثم يجاوزه، ولم يتحقق هذا فيمن أحرم من جوف مكة، ثم خرج إلى الحل.
ومن أصحابنا من خرّج ذلك على الخلاف المذكور في عَوْد المسيء.
والمسألة محتملة جداً.
فصل:
قال: "وأحب إليّ أن يعتمر من الجعْرَانة... إلى آخره".
2494- لما ذكر الشافعي أن أدنى الحل ميقاتُ العمرة، كما تقدم، ذكر في هذا الفصل أفضلَ البقاع من أطراف الحل، وقال: أفضلها الجِعْرَانة، وبعدها التنعيم وبعدها الحُدَيبية، والسبب فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر من الجِعْرَانة، لما عاد لقضاء العمرة التي صُدّ عنها، عن مكة، عام الحديبية، فدل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البقعة، على تفضيلها، ولما التمست عائشةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعمرَها، أمر أخاها عبد الرحمن، حتى أعمرها من التنعيم، فقدّم الشافعيُّ ما دل عليه فعلُه، صائراً إلى أنه لا يختار لنفسه إلا الأفضل، ثم أتبع ذلك ما أمر به في قصة عائشةَ، ثم جعل ما همّ به، ولم يتفق منه إتمامه آخراً، وهو الحديبية.
2495- فإن قيل: كيف قدم هاهنا فعلَه على همّه؟ وفي تحويل الرداء في الاستسقاء قدّم ما همّ به على ما فعل؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يقلب رداءه، فيجعل أسفله أعلاه، فلما ثَقُل عليه قلبه من اليمين إلى الشمال، ولم يجعل الأسفل أعلى، والأفضلُ أن يفعل الإمام وغيرُه ما همّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: لأن ما همّ به مشتمَلٌ في باب التحويل على ما هو فعله؛ فإن الغرض التفاؤل بتحويل الرداء لتحويل الحال، وكان حصل بالقلب من اليمين إلى الشمال ذلك، فعسر إتمام ما همّ به من التحويل، فكان صلى الله عليه وسلم مبتدئاً أمراً تعذر عليه إتمامه، والعمرة عن الحديبية لا تشتمل على العمرة عن الجِعْرانة.
والأمر في ذلك قريب.
وإلا كان لقائلٍ أن يقول: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ الحديبية عن اختيارٍ، وإنما صُدّ اضطراراً، فتقديمُ ما أمر به على ما كان خاض فيه، ولم يتم له، عن اضطرارٍ فيه بعضُ النظر.
ولكن توجيه ما ذكره الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشةَ من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية، فاقتضى ذلك تقديمَ ما أمر به.
2496- وقد ذكر الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجِعْرانة عامَ القضاء، ولم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث، وفيه إشكالٌ؛ من جهة أن ذا الحُلَيفة، كان على ممر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قصدُه مكةَ للعمرة، فيبعد منه صلى الله عليه وسلم مجاوزةُ الميقات، مع نية النسك، والأظهر أنه كان أحرم من ذي الحليفة، لتلك العمرة، وعمرة الجِعْرانة، كانت عمرةً أخرى، برز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة. والله أعلم بالصواب.