فصل: فصل: في انتشار النجاسة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



. فصل: في انتشار النجاسة:

140- فأما القول في انتشار النجاسة، فقد نقل المزني: "ويقتصر على الأحجار، ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرج"، ونقل عن القديم أنه قال: "ويقتصر على الأحجار، وإن انتشر، إذا لم يجاوز العادة في الانتشار". فأوهم المزني أن المسألة فيها قولان.
وكان شيخي ينقل عن الربيع أنه قال: "يقتصر ما دامت النجاسة بين الإليتين، فإن ظهرت على ظاهر الإليتين، فقد تعيّن الماءُ".
وقد ساعد بعضُ الأصحاب المزنيَّ في تخريج المسألة على أقوال، وهذا غلط، لا يعدّ من المذهب، والأصل اعتبار العادة في الانتشار، وما نقل عن الربيع قريبٌ مما ذكره عن الشافعيّ، وإن لم يكن ما ذكره حدّاً يوقف عنده، بل الوجه إحالة الأمر على العادة.
وأمّا ما ذكره المزني، فمأخوذ عليه، فإن الشافعي قال: "ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرجَ، وما حوله"، فأغفل المزني: "وما حوله". والدليل على ما ذكرناه من رد الأمر إلى العادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الاقتصار على الأحجار رخصةً في حق عامّة الخلق، على عموم الأحوال، مع العلم باختلاف الخلق والأحوال، والظاهر الانتشار في غالب الأمر، فلا ينبغي أن نستريب في أن التعدّي المعتاد لا يمنع الاقتصار على الأحجار.
141- ولكن يتطرّق إلى ذلك إشكال معنوي، فإن النجاسة إذا كانت متبعّرة أو قريبةً من التبعّر، فقد تنفصل من غير تلويثٍ يتعدَّى إلى ملتقى الشرج إطارِ المنفذ، فإن فُرضتْ لوثَةٌ على الملتقى، فتيكَ تخطفها الأحجار، ويعفى عن الأَثر الباقي، وإن رقَّت النجاسة بَعض الرقّة، وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ، فإن النجاسة تغوص في أثناء تلك المعاطف، والأحجار تلاقي ظاهرها، وتبقى الأعيان على تلك المعاطف مندفنةً، وإزالة عين النجاسة لابد منها.
وقد بلغني أن بعض الناس سأَلَ عليّاً عن الاقتصار، فلعله رضي الله عنه تفرّس فيه خروجاً عن الاعتدال، فقال: "كنا نبعر بعرات وأنتم تثلطون ثَلطاً"، فهذا وجهٌ في الإشكال من جهة المعنى، ولم أذكره لأدعوَ إلى التردّد في أن عين النجاسة إذا انتشرت انتشاراً معتاداً، فهل يجوز الاقتصار على الأحجار فيها؛ فإنّ إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة الاقتصار قاطعٌ، كما سبق ذكره وتقريره.
ولكن ينبغي أن يتنبّه الفقيه للعفو عن أعيان النجاسة في الصورة التي ذكرناها.
وهذا الإشكال لا يجري في حق من يستعمل الماء؛ فإنه بلطافته ينفذ إلى حيث تنتهي النجاسة إليه من معاطف الشرج، وإذا استعين بالدّلك مع صب الماءِ وانحصرت بسببه تلك المعاطف، زالت النجاسة.
ولو انتشرت النجاسة انتشاراً معتاداً، ولكن ترشّش منها شيء إلى محلٍّ منفصل، فيتعين غسلُ ذلك المحل، وإن كان قريباً من محل النجوِ، وكان بحيث لو فرض اتصال نجاسة البلوى به، لما كان مجاوزاً حدّ الاعتياد، والسبب فيه أنه منفصلٌ عن محلّ النجو بالفاصل الذي لم تبلُغْه النجاسة. هكذا ذكره الصيدلاني، والأمر على ما ذكره.
ولو قضى الرجل حاجتَه، ثم قام وخطا، واحتكت إحدى إليتيه بالأخرى، وتعدّت النجاسة بهذا السبب أدنى تعدّ، تعيّن استعمالُ الماء، فإنه المتسبّب إلى التعدّي من غير حاجةٍ وضرورة.
فرع:
142- نصّ الشافعي على أن من توضأ، ثمّ استنجى، ولم يَمسّ فرجَه أنه متطهر، ونصّ أن من قضى حاجته، وتيمّم، ثم استنجى، لم يصح تيمّمه.
فمِن أصحابنا من قال: في المسألتين قولان، وتقدير القولين في الوضوء بعيدٌ جدّاً، ولولا أن المزني نقل في (المنثور) قولاً عن الشافعي أن الوضوء لا يصح، لما عددت هذه الطريقةَ من المذهب.
وصار الأكثرون إلى القطع بالصحّة في الوضوء، وخرّجوا القولين في التيمّم.
والفرق أن التيمّم طهارةٌ ضعيفةٌ، لا تقدم على دخول وقت الصلاة؛ فإنّها طهارة ضرورة، فإذا لم يَستعقب جوازَ الصلاة. لم يصح. وإذا تيمم، ثم استنجى، فالتيمم لم يستعقب جواز الصلاة، وهذا غيرُ سديدٍ عندي.
ولو كان على بدن المتيمّم نجاسةٌ، ومعه من الماء ما يكفي لإزالتها من غير مزيد، فقد ذكر بعضُ أصحابنا أن تقديم التيمّم على إزالتها مخرج على الخلاف، وهذا بعيدٌ جدّاً، وإن كان الفرق يعسر بينها وبين نجاسة البلوى.
ولا نعرف خلافاً في أنّ من تيمّم وهو عارٍ، ثم اكتسىَ، جاز، وإن كان التيمم لا يستعقب جواز الصلاة إلى أن يكتسي.

.باب: الأحداث:

143- الأحداث يكنى بها عن نواقض الوضوء والغُسل. ومقصود هذا الباب ذكر ما يوجب الوضوءَ.
فنواقض الوضوء أربعةٌ: خروج الخارج عن أحد السبيلين، والغلبةُ على العقل، ولمسُ الرجل المرأة، والمرأة الرجلَ، ومس الفرج.
فأما القسم الأول: فكل خارج خرج من أحد السبيلين، أوجب خروجُه الوضوءَ، سواء كان عيناً، أو ريحاً، ولا فرق بين أن يخرج من القبل، أو من الدُبر، وإنما يخرج الريح من قُبل صاحب أُدْرة، أو استرخاء أُسْرٍ، ولا فرقَ بين أن تكون العينُ الخارجةُ نجاسةً مُعتادة أو نادرةً، فالوضوء ينتقض بجميع ذلك.
ولا ينتَقضُ الوضوءُ بالقيء والرُّعاف، والحجامة، والفصد، وخروج شيءٍ من الخارجات من غير المخرج المعتاد عند الشافعي.
ومعتمد الشافعي في هذا الباب أن وجوب الوضوء بالأحداث غيرُ معقول المعنى، ثم ما لا يجول القياسُ في إثباته، لا ينتظم القياسُ في نفيه، وإذا كان كذلك، فتصير الظواهر نصوصاً، من جهة أن التحكم بتركها محالٌ، ولا يستدّ في معارضتها قياسٌ محقق.
44- ثم يتّصل بهذا القسم من الأحداث أنه لو انفتح سبيل، وكان يخرج منه الخارجات، فإن انسدّ السبيل المعتاد، نُظر، فإن كان السبيل المنفتح أسفلَ من المعدة، وكان الخارج غائطاً أو بَوْلاً، فهو حدث ناقض؛ فإنه قائم مقام السبيل المعتاد.
وإن كان ذلك السبيل على المعدة أو فوقها، وكان الخارج النجاسةَ المعتادةَ، ففي انتقاض الطهارة قولان.
وإن كان السبيل المعتاد منفتحاً، وانفتح معه سبيل آخر، فإن كان على المعدة أو فوقها، فما يخرج منه ليس بحدثٍ.
وإن كان السبيل أسفل من المعد، ففي المسألة قولان، فالتعويل على انسداد المعتاد وانفتاحه، وعلى محلّ المخرج الجديد.
ثم مهما حكمنا بانتقاض الطهارة بخروج الحدث المعتاد من المخرج المنفتح، فلو كان الخارج منه شيئاً نادراً، كالدم وغيره، ففي انتقاض الوضوء قولان:
أصحهما: الانتقاض؛ لأن السبيل سبيلُ الحدث، فلا فرق بين أن يكون الخارج منه نادراً، أو معتاداً، كالسبيل المعتاد.
والثاني: لا ينتقض الوضوء؛ لأنا إنما نحكم بانتقاض الوضوء بخروج الخارج المعتاد، من حيث نعتقد أن هذا السبيل بدلٌ عن المعتاد، وإنما يتجه هذا في النجاسة المعتادة.
وكان شيخي يقول: "إنما نحكم بانتقاض الطهارة بخروج النجاسة النادرة من السبيل المعتاد؛ لأنه لا يخلو خروجها عن خروج شيء من المعتاد، وإن خفي وقلّ".
ثم مهما لم نحكم بانتقاض الطهارة لخروج الخارج من السبيل الجديد، فيتعين إزالة تلك النجاسة باستعمال الماء.
145- وإذا حكمنا بانتقاض الطهارة، ففي جواز الاقتصار على الأحجار في إزالة تيك النجاسة ثلاثة أقوال:
أحدها: الجواز، كالسبيل المعتاد.
والثاني: أنه يتعين استعمال الماء لندُور المحل، مع أن الاقتصار على الأحجار خارج عن كل قياس.
والثالث: أنه إن كان الخارج نجاسةً معتادةً، جاز الاقتصار في إزالتها على الأحجار، وإن كانت نجاسةً نادرةً، لم يجز؛ لأنه يجتمع ندورُ المحلّ والخارج.
ثم إذا حكمنا بانتقاض الطهارة، فهل يثبت لذلك المخرج حكمُ السبيل المعتاد، حتى تنتقض الطهارة بمسّه، ويجب الغسلُ بالإيلاج فيه؟ فعلى وجهين. والمذهب أن ذلك لا يثبتُ. ثم هذا التردد على بعده لا يتعدّى أحكامَ الأحداث، فلا يثبت من الإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء، سوى ما ذكرناه من التردّد في وجوب الغسل، وكان شيخي يتردّد في تحريم النظر إليه إذا كان فوق السُّرة، وهذا قريب أيضاًً.
146- القسم الثاني: من نواقض الطهارة الغلبة على العقل، وذلك ينقسم إلى النوم وغيره.
فأما غير النوم، فمهما زال العقل بجنونٍ، أو صرعةٍ، أو غَشْيةٍ، أو سكرٍ، ينتقض الوضوء، ولا فرق في هذه الأقسام بين حالةٍ وحالة، فلو جرى شيء منها والمرء قاعدٌ متمكّنٌ، نقض الوضوء، كما لو اضطجع.
والدُّوار لا ينقض الوضوءَ مع بقاء التمييز، وقد ظهر اختلافُ قول الشافعي في أن السكران هل يكون كالصاحي في أقواله وأفعاله؟ ولكن السُّكر على القولين حدثٌ في ظاهر المذهب. وذكر بعض المصنفين أنّا إذا جعلنا السكران كالصاحي، لم نجعل السكر حدثاً، ونزّلناه منزلةَ الصاحي، وهذا بعيدٌ.
147- فأما النوم، فنقول: الغفوة حديث النفس ليس بحَدث، كيف فرض، وإنما التفصيل في النوم إذا تحقق.
فلو قيل: صِفوا لنا النومَ، وميّزوه عن الغفوة. قلنا: النومُ يُغَشِّي الرأسَ فتسكن به القوى الدّماغيّة، وهو مجمع الحواسّ، ومنبت الأعصاب، وإذا فترت، فترت الحركاتُ الإرادية، ثم مبتدؤه من أبخرةٍ تتصعّد، فتوافي إعياءً من قوى الدماغ، فيبدو فتورٌ في الحواس، فهذا نعاسٌ وسِنةٌ، فإذا تم انغمارُ القوة الباصرة، فهذا أوّل النوم، ثم يترتب عليه فتورُ الأعضاء واسترخاؤها، وذلك غمرة النوم، فإذاً لا ينتقض الوضوء بالغفوة، وإذا تحقق النوم، لم يُشترط غايتُه؛ فإن الشافعي صار إلى انتقاض وضوء القائم النائم، ولو تناهى النوم، لخرَّ ساقطاً.
ومعظم الإشكال يثور من التهاون بالجليات.
148- فالآن نتكلم في حالات النائم، ونذكر سرَّ مذهب الشافعيّ، وقد يحتاج إلى الإشارة إلى مذاهب العلماء، ليتخلص من بينها مذهبُ الشافعي.
فنقول: ذهب أبو موسى الأشعري في طائفةٍ إلى أن النوم في عينه ليس بحدث كيف فرض، وذهب المزني إلى أن النوم في عينه حدثٌ ناقض للوضوء كيف قُدّر، وطَرَدَ مذهبَه في القاعد المتمكّن من الأرض، وألحق النومَ بسائر جهات الغلبة على العقل، وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وإذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، فإذا خرَّج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة.
وأما المشهور من مذهب الشافعي، فمسلكه ما نذكره، فنقول: لو لم يثبت عند الشافعي أخبار صحيحة في أن نوم القاعد لا ينقض الوضوء، لكُنَّا ننتحي ما اختاره المزني على قطعٍ، ونجعل النومَ في عينه حدثاً كيف فرض، ولكن روي في نوم القاعد نصوصٌ، فمنها: «ما روي أن النبي عليه السلام خرج للصلاة، فصادف طلحةَ نائماً قاعداً، فاحتوى عليه من ورائه، قال طلحة لما انتبه: يا رسول الله أفي هذا وضوءٌ؟ فقال: لا، أو تضع جنبك»، فاستثنى نومَ القاعد، فقال قائلون من حَملةِ المذهب في ضبط المذهب: النوم الناقض هو الذي ينتهي النائمُ فيه إلى حالةٍ يتيسَّر خروج الحدث منه، ولو خرج لم يشعر به، فإذا نام القاعد ممكِّناً مقعدته من الأرض، فيبعد خروجُ الحدث، وإن خرج يشعر به غالباً.
وهذا الضبط لا أرضاه؛ فإن من نام مستلقياً، فإليتاه ملتصقتان بالأرض، ولو استثفر بتُبانٍ ونام مستلقياً، فطهارته تنتقض، مع بُعد خروج الحدث، وينتقض الوضوء بأول حدِّ النوم، كما تقدم معناه.
149- ومالك يصير إلى أن الطهر لا ينتقض ما لم يثقُل النوم.
فإذاً مأخذ المذهب الظاهر للشافعي، أنه وردت أخبارٌ مطلقة في إلحاق النوم بالحدث، كما روي أنه عليه السلام قال: «من استجمع نوماً، توضأ»، وقال صفوان: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كنّا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليَهُنّ إلا من جنابةٍ، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم»، فأجرى النومَ بحكم هذه الظواهر حدَثاً، واستثنى نومَ القاعد للأخبار الصحيحة فيه.
150- وأما أبو حنيفة، فإنه قال: من نام على هيئة من هيئات المصلّين قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، لم يبطل وضوؤه. وظاهر مذهب الشافعي أن الوضوء ينتقض بالنوم على هذه الحالات.
وحكى البُويطي قولاً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة، وغلّطه معظمُ الأئمة فيه.
ثم أبو حنيفة لا يفْصل بين أن ينام في الصلاة، وبين أن ينام وهو غير مصلٍّ، فلا يقضي بانتقاض الوضوء إذا جرى النوم على هيئةٍ من هيئات المصلّين: من القيام، والركوع، والسجود، والقعود.
ونصّ الشافعي في القديم على أن من نام على هذه الهيئات في الصلاة، لم ينتقض وضوؤه، وإن نام في غير الصلاة قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، انتقض وضوؤه، واعتمد في هذا القول ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا نام العبدُ في سجوده باهى الله عزّ وجلّ به ملائكته، وقال انظروا إلى عبدي روحُه عندي، وجسده بين يديّ ساجد».
وعندي أن كلَّ قولٍ قديمٍ مرجوع عنه، ومنقول البويطي غلطٌ، فلا يبقى في عقد المذهب إلا مصير الشافعي إلى أن النوم ناقض إلا في حق القاعد، والذي خرّجه المزني أن النوم في عينه حدث كيف فرض، وفي كلام الشافعي تمثيلٌ يشير إلى ذلك؛ فأنه قال: "ولا يبين إليّ أن أُوجب الطهارة على النائم القاعد".
فهذا ضبط قاعدة المذهب.
151- ثم نتكلّم الآن في نوم القاعد على الرأي الظاهر، فنقول: من نام ومقعدته متمكنة من الأرض، غير متجافيةٍ، لم ينتقض وضوؤه، ولو كانت متجافية، أعني سبيل الحدث، انتقض وضوؤه، ولو مكّن المقعدة من مجلسه، ولكنّه كان مستنداً أو متّكئاً، لم ينتقض وضوؤه، وإن كان بحيث لو سلّ السناد والمتّكاً، لخرّ؛ فإن النظر إلى تمكّن المقعدة.
وقد نقل المعلِّقون عن شيخي أنه كان يقول: إذا ظهر اعتماده على السناد بحيث يخرّ لو سُلَّ من ورائه، بطل وضوؤه. وهذا غلط من المعلّقين، والذي ذكروه عنه مذهبُ أبي حنيفة.
فإن قيل: ألستم رأيتم في تمهيد المذهب أن الشافعي اعتمد الخبر؟ فهلاّ قلتم: لا ينتقض وضوء من يُسمَّى قاعداً، وإن كانت مقعدته غيرَ متمكنة؛ استمساكاً بظاهر الخبر؟
قلنا: المتبع وإن كان خبراً، والقياس لا مجال له أصلاً، فلا ينبغي أن نحسم مُدرَك الفهم في مورد الخبر بالكلية؛ فإن هذا سبيلُ مذهب أصحاب الظاهر. فإذاً فهم الشافعي من حال القاعد تمكين المقعدة. فلو نام القاعد متمكّناً، ثم تمايل في نومه-والمعنيُّ بالتمايل التجافي كما يكون- فإن تمايل، ثم انتبه، بطل وضوؤه؛ فإنه ثبت النوم في حال التجافي، ولو في لحظة. وإن انتبه، ثم تمايل، لم ينتقض وضوؤه.
وإن لم يدر كيف كان الأمر، فالأصل بقاء الطهارة، فلا يُقضى بانتقاضها مع الشك في طرآن الحدث.
152- القسم الثالث من الأحداث: اللمسُ: فإذا لمس الرجل امرأة هي محل حلِّه، والتقت البشرتان، انتقضت طهارة اللامس، والمعتمد في هذا ظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وقرأ جمع من القُرّاء: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وقد ذكرنا أن الأقيسة لا مجال لها في إثبات الأحداث، ولا في نفيها، فحلت الظواهر فيها محل النصوص، ثم وراء هذا تصرّف في الظواهر، وتردّدٌ من نصّ الشافعي في معناه، ونحن نبيّنه في مثالٍ، ثم نخرِّج عليه المسائل، فنقول:
قد اختلف قول الشافعي في أن من لمس واحدةً من محارمه هل تنتقض طهارته؟ ونحن نذكر في توجيه القولين ما يمهد قاعدةَ المذهب.
فمن قال بانتقاض الوضوء، اتبع مطلق الاسم، وقال: المحارم تندرج تحت اسم النساء، ومعتمدُ المذهب ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.
ومن قال: لا ينتقض الوضوء-وهو الأصح عندي- احتجّ بأن اسم النساء وإن كان يتناول المحارم، فإذا ذكرت الملامسة، وأضيفت إلى النساء، أشعر ذلك بلمس اللواتي يُعنَيْن، ويُقصدْن باللمس، ويُعْدَدْنَ محلاً للمس الرجال، واستمتاعهم.
ويعتضد هذا بأمرين:
أحدهما: أن من المفسرين من حمل الملامسة على المجامعة، ومنهم من حملها على الجس باليد، ولم يختلفوا في المحل، فليقع الجس عند من يحمل الملامسة عليه في محلّ المجامعة.
والثاني: أن الملامسة مذكورة في سياق الأحداث، وهذا يُخيِّل لمساً هو مظنة الاستمتاع.
هذا قاعدة المذهب.
والصغيرة التي لا تشتهى مُخرّجة على وجهين: مأخذهما ما ذكرناه؛ فإنّهنّ يندرجن تحت اسم النساء؛ اندراج النوع تحت الجنس، ولكنّهنّ لا يُقصدن باللمس. والعجوز وإن بلغت غاية الهرمِ، ينتقض الوضوء بلمسها. وذكر بعض المصنفين فيها وجهين، وهو بعيد غير معتمدٍ.
153- وفي انتقاض طهارة الملموس قولان: مأخذهما التردد في ظاهر القرآن، فمن استمسك بالظاهر، خصص الانتقاض باللاّمس، و من فهم منهم اللمس بمعنى الجسّ، كما فهمه من حمله على الجماع؛ قضى بانتقاض طهارة الملموس.
154- وذكر الصيدلاني في لمس الشعر والسِّن والظفر وجهين، وشبب بأخذهما من الخلاف في أنه هل يثبت لها حكم الحياة؟ وهذا رديء؛ فإنها وإن لم يثبت لها حكم الحياة؛ فإنه يلحقها الحل والحرمة، فالوجه إدراج الخلاف تحت التردّد في الظاهر، ولا يمتنع أن يقال: من لمس شعر امرأةٍ، فقد لمس امرأةً، ولا يبعد أن يمتنع من إطلاقه.
والأظهر أن الوضوءَ لا ينتقض. وكان شيخي يقطع به، والسبب فيه أنه اجتمع فيه أن يقال: ما لمستُ فلانة، بل لمستُ شعرها، وإن الشعر لا يجرد القصد إلى لمسه، وإن انتحاه مغتلم، فهو كمجاذبة الخمار، وأطراف الثياب.
155- ولو اتفق التقاء البشرتين بين الرجل والمرأة من غير قصدٍ، فالذي قطع به الجمهور أنه ينتقض الوضوء؛ فإن اللمس حدثٌ، ولا يُعتبر في الأحداث القصدُ، وذكر صاحب التقريب فيه خلافاً، تَلقَّاه من لمس الصغيرة والمحارم؛ فإنّهنّ لا يقصدن باللمس.
كذلك لا يقع اللمس قصداً في أصله في هذه الصورة، وهذا بعيد جدّاً من مذهب الشافعي، وهو مذهب مالكٍ، ثم لم يتأنّق في توجيه الخلاف المحكيّ، ويمكن أن يتكلّف في إدراجه تحت التردّد المذكور في الظاهر؛ فإن ذكر الملامسة إشعارٌ بقصد التلذذ على الجملة، وقد يظنّ الظانّ خروج ما يقع وفاقاً من هذا.
فلينظر الناظر كيف مهدنا أصل المذهب أخذاً من الظاهر، ثم ذكرنا تردداً في معناه، وخرّجنا عليه المسائل المختلفة، مع توقي مسالك القياس.
156- ولمس المرأة بعد موتها كلمس الصغيرة، ومأخذ الكلامِ ما مضى.
وإذا تلامس الرجل والمرأة، انتقض وضوؤهما جميعاًً؛ لوجود الفعل من كل واحد منهما.
157- القسم الرابع: مسّ الفرج.
فنقول: من مسّ ذكره ببطن كفه، انتقض وضوؤه، ومعتمد المذهب في المسألة الحديث، وقد صحّ من طريق بُسرة بنت صفوان أن النبي عليه السلام قال: «من مس ذكره، فليتوضأ». ثم الكلام متعلقٌ بما يُمس، وبالعضو الذي يقع به المسُّ، ولكل واحدٍ مأخذٌ، يتعين الاعتناء به.
فأمّا ما يُمس، فالحديث في مسّ الذكر، ولكن الشافعي في الجديد رام أن يُلحق بالذكر السوأةَ الأخرىَ، من حيث رآها في معنى المنصوص عليه، كما ألحق الأَمة بالعبد في سياقٍ قوله عليه السلام: «من أعتق شِركاً له في عبدٍ، قُوِّم عليه».
ونحن نسوق الترتيبَ في ذلك، فيبين المقطوعُ به، وما يتطرق إليه أدنى تردّد، مع المصير إلى حسم القياس، فالخبر وارد في مس الرجل ذكره، فلم يَسترب الشافعي قديماً وجديداً في أن من مسّ ذكَر غيرِه توضّأ؛ فإن الإنسان لا يمتنع عليه أن يمس ذلك من نفسه، ثم اقتضى ذلك نقض وضوئه، فكان ذلك تنبيهاً لا شك فيه على انتقاض الوضوء بمس ذكَرِ الغير.
ومسُّ القبل من المرأة ناقضٌ للوضوء؛ فإنه في معنى المذكور، ومن شبب بخلاف فيه، فقد أبعد. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إذا مست المرأة قبلَها توضأت» ثم المعنيُّ بقبل المرأة في حكم المس ملتقى الشفرين على المنفذ نفسه.
وأمّا مس حلقة الدبر-يعني ملتقى المنفذكما مضى- فهذا أبعد قليلاً من قبل المرأة، فقال في الجديد: إنه ناقض، وقال في القديم: إنه لا ينقض.
158- فأمّا فرج البهيمة فبعيدٌ جدّاً، فلا جرم نص في الجديد على أنه لا يتعلق بمسّه نقض الوضوء، وحكى يونس بنُ عبد الأعلى قولاً عن الشافعي: أنه يتعلق به النقض، كما يتعلق بالإيلاج فيه وجوب الغُسل، فلنفهم هذا التدريج في عقد المذهب.
ثم نستوعب أطراف الكلام في هذا القسم، فنقول:
159- من مسّ فرج غيره، انتقض وضوؤه سواء كان الممسوس منه صغيراً أو كبيراً، أو حيّاً أو ميتاً.
وكان شيخي يقول: لما قطع الأئمة بانتقاض الوضوء بمس فرج الصغير، وإن كان ابنَ يومهِ، فهمت منه تحريم النظر إليه من غير حاجةٍ، ورأيت أن أحمل ما روي عن النبي عليه السلام: «أنه كان يُقبّل زبيبة الحسن والحسين» على جريان ذلك وراء ثوبٍ، وقد رأيت في كلام الأصحاب ما يشير إلى التساهل في المسّ، والنظر إلى فرج الصغير الذي لم يبلغ مبلغ التمييز، مع القطع بانتقاض الوضوءِ بالمس.
وقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن من جبّ ذكره، فموضع القطع من ذكره إذا مُس، يتعلق به النقض. وإن استؤصل، ولم يبق منه شيء شاخصٌ، فيتعلق النقض بموضع الإبانة من جِرم الذكر، وإن اكتسى ذلك الموضع بالجلد وضاهى ما حوله، ولا يختصّ النقض بمسّ الثقبة، بخلاف مس القبل والدبر.
فأمّا مس الخصية والعِجَان، وما ليس بفرج، فلا شك أنه لا يتعلق النقض بمس شيءٍ منه.
ولو مس ذكراً مباناً، ففيه وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه ينتقض الوضوء؛ لانطلاق الاسم على الممسوس، والثاني: لا ينتقض؛ لأنه ساقط الحرمة، وقد فهم ذوو البصائر مما ذكره النبي عليه السلام مسَّ فرج محترم.
ولو انبتَّت يد امرأةٍ، فلَمسَها رجل، فالمذهبُ القطع بأن الطهارة لا تنتقض؛ فإن الظاهر المرجوع إليه في الملامسة قولهُ تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وهذا يقتضي أن يكون الملموس امرأةً، وهذا الاسم لا يتناول العضو الفردَ، والمسّ في لفظ الشرع مُعلّق بالذكر نفسه، وهذا الاسم يتناول المتّصلَ والمُبَان.
فرع:
160- إذا قلنا: لا ينتقض الوضوء بمس فرج البهيمة، فلو أولج الرجل يده في فرج بهيمةٍ، فقد ذكر الأصحاب فيه وجهين، وإنما نشأ هذا التردد من شيء، وهو أن الغسل يجب على المولَج فيه، فباطن الفرج لو لاقاه ذكرٌ، تعلق به الغسل، فإذا لاقاه كفٌ، أمكن أن يتردّد فيه، والظاهر أنه لا ينتقض الوضوء.
فهذا منتهى القول فيما يتعلّق بمسّه النقض.
161- فأما العضو الذي يقع به المس، فبطن الكفّ، وبطون الأصابع، ومأخذ المذهب ما نورده. فأمّا شيخي، فكان يروي عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، لا حائل بينهما، فليتوضأ وضوءه للصلاة» فإن صحّت هذه الرواية، فالإفضاء باليد قد يظهر منه التعاطي بالكفّ.
وأما أنا فأقول: يمكن أخذ هذا من مطلق قوله عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضّأ» فإن أعضاء الإنسان في تصرفاته وتاراته تتماسّ وتتلاقى، فإذا قال القائل: مس فلانٌ عضواً من نفسه، لم يعن به التماسّ الذي يقع، وإنما يعني به اعتمادَ الممسوس بالعضو الذي أعدّه الله تعالى للّمس والحس، وإنما يقع ذلك ببطن الكفّ والأصابع، وهذا حسنٌ لطيف.
لو وقع المسّ بظهر الكف، لم يتعلق به النقض، خلافاً لأحمدَ بنِ حنبل، فإنه يسوّي بين ظهر الكف وبطنه.
واختلف أئمّتنا في المسّ برؤوس الأصابع، فألحقها ملحقون ببطون الأصابع، وما ينحدر عن رؤوسها؛ فإن هذه الأجزاء متواصلة متضاهية في الصفة؛ إذ بشرة الكف من حيث أعدها الله تعالى لمسّ الممسوسات على صفةٍ من الاعتدال، تخالف بها سائرَ البشرة، في جملة الأعضاء، ورؤوس الأصابع منها بمثابة بطون الأصابع.
والظاهر أن الوضوء لا ينتقض؛ فإن اللمسَ المعتاد يقع بالراحة، وبطون الأصابع، وقد ذكرنا في مأخذ هذا الفصل تنزيلَ الأمر على الاعتياد فيه.
وأما المسّ بما بين الأصابع، فقد نص الشافعي على أنه لا ينقض الوضوء، وقطع به، وهو لعمري أبعد من رؤوس الأصابع، وقد ذكر بعض أصحابنا فيما بين الأصابع خلافاً، وهو بعيد جدّاً.
فرع:
162- قد ذكرنا قولين في انتقاض وضوء الملموس في القسم الثالث. فأما الممسوس فرجُه والماسّ غيرُه، فلا ينتقض وضوؤه، ومن أشار إلى خلافٍ فيه، فغالط؛ فإنّ نقض الوضوء في المس يتعلق بهتك الحرمة، لا بما يقصد به التلذذ، والملامسة الناقضة للوضوءِ موضوعها التلذذ، وإن كنّا لا نشترط وقوع ذلك؛ فهي مضاهية للوقاع الذي يستوي فيه المواقع، ومن هو محل الوقاع.
فصل:
163- الخنثى ذكر أم أُنثى؟ فإن كان يبول بفرج الرجال، فهو رجل، والآخر ثقب زائد عليه، وإن كان يبول بفرج النساء، فهو امرأة في جميع الأحكام، والآخر سِلعة نابتة، وإن كان يبول بهما جميعاًً، فقد تعذّر التمسكُ بهذا، و لا ينظر إلى القِلّة والكثرة، إذا كان يبول بهما؛ فإن ذلك لا يُضبط، فإن أمنى بفرج الرجال في أوان البلوغ، ولم يَحِض بفرج النساء، فهو رجل، وإن حاض، ولم يمن، فهو امرأة، وإن حاض وأمنَى، فقد عسر التعلق بهذا أيضاًً.
واختلف أئمتنا في نبات اللحية، ونهود الثدي. فكان شيخي لا يرى التعلق بهما، ويقول: قد تنبت للمرأة لحية، وقد تكون المرأة ضَهيأ لا ثدي لها.
وذهب بعض الأئمة إلى التعلق بما ذكرناه؛ فإن الغرض التمسك بما يورثُ غلبة الظن، وما قدمناه من المثال، وإن كان ظاهراً، فليس مقطوعاًً به؛ إذ لو كان مقطوعاً به، لاستحال فرض التعارض فيه، ومن اعتبر بنبات اللحية، ونهود الثدي، لا يعوّل على عدم نهود الثديين، ولا يحكم بأن عدم النهود يدل على أنه رجل، ولا يعارض نباتُ اللحية، ونهودُ الثدي شيئاً من العلامات التي اتفق الأصحاب عليها.
وأما ما ذكره بعض الناس مق النظر في أعداد الأضلاع، فذلك شيءٌ لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال.
وكان شيخي يتردد فيه إذا كان يبول بفرج الرجال، ويحيض بفرج النساء، ويميل إلى التعلق بالمبال، والوجه عندي القطع بتعارض الأمر في ذلك.
64- فإذا اعتاصت العلامات، رجعنا إليه عند بلوغه، فإن ذَكر أنه يميل إلى الرّجال ميلَ النساء إلى الرجال، فهو امرأةٌ، وإن ذكر نقيضَ ذلك، فهو رجل. وإذا أخبر عن نفسه بأنه رجل أو امرأة، أجرينا عليه موجَب قوله؛ فإن ابن العَشْر لو ذكر أنه قد بلغ، صدقناه فيما له وعليه، فإن الإنسان أعرف بما جُبِلَ عليه، ولو ذكر أنه رجل، ثم رجع عن ذلك، لم يقبل رجوعه فيما عليه، وأجري عليه حكم قوله الأول، إلا أن يجري ما يكذبه في قوله الأوّل، مثل أن يذكر أولاً أنه رجل، ثم يلد، فنعلم قطعاًً أنه امرأةٌ.
فإن زعم أنه لا يميل إلى الجنسين، أو يميل إليهما، فهو المشكل، ويتعلق به أمرُ المس. فإذا كان مشكلاً ومس ذكره، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون امرأةً، وإن مس ما هو على صورة فرج النساء، لم ينتقض أيضاً، لجواز أن يكون رجلاً.
والضابط في ذلك أنا نتعلق بيقين الطهارة، فلا نحكم بانتقاضها إلا بيقين، وهذا الأصل متفق عليه. وفيه غائلةٌ سأنبّه عليها إن شاء الله تعالى.
ولو مسّ رجل ذكرَ خنثى، انتقض وضوؤه؛ فإنه إن كان رجلاً، فقد مس الرجل ذكراً، وإن كان امرأةً، فقد لمس امرأة.
وإن مس الرجل فرج النساء، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون رجلاً، وهذا ثقبٌ زائد عليه. والمرأة لو مت منه فرج النساء، بطل وضوؤها؛ فإنها بين أن تكون ماسَّة فرج امرأةٍ، أو لامسةً رجلاً، ولو مسَّتْ ذكره، لم ينتقض وضوؤها، لجواز أن تكون امرأةً، والممسوس عضو زائد عليها.
والمتبع في التفاريع استصحاب الطهارة، إلى استيقان الانتقاض.
والخنثى إذا مسّ من نفسه أحدهما، لم يبطل وضوؤه، ويبطل إن مسّهماً جميعاًً.
وإذا كان الماسُّ غيره، فكل من مَسّ منه ما هو له، انتقض وضوؤه، ومن مس ما ليس له، لم ينتقض وضوؤه، كما سبق.
165- ولو مسّ خنثى ذكر خنثى، أو فرجه الآخر، لم ينتقض وضوؤه، ولا يستيقن انتقاض وضوئه ما لم يمسهما جميعاً.
وإن مس أحد الخنثيين ذكرَ صاحبه، ومس الممسوس ذكره الفرجَ الآخر من الماسّ، فنعلم أن طهارةَ أحدهما في علم الله تعالى قد طراً عليها حدث؛ فإنهما لو كانا امرأتين، فقد مس أحدهما فرج امرأة، وإن كانا رجلين، فقد مس أحدهما ذكراً، وإن كان أحدهما ذكراً، والآخر أنثى، فقد تلامسا، ولكن لا نحكم ببطلان طهارة واحد منهما؛ فإن كلّ واحدٍ منهما لو انفرد بما صدر منه من مس أحد الفرجين، لما قُضي بانتقاض وضوئه، فصدور فعلٍ من غيره لا يغير فعلَه في نفسه.
وهذا بمثابة ما إذا قال رجل، وقد طار طائِرٌ: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالقٌ، وقال آخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق. فلا يُحكم بوقوع طلاق واحد منهما إذا التبس الأمر، وإن كنا نعلم أن الطائر كان توضأً أو لم يكن غراباً، ولكن لو انفرد أحدهما بقوله، لكان الجواب كما ذكرنا، فصدور قولٍ من غيره لا يغيّر حكمه.
فرع:
166- لو توضأ المشكل، ومس ذكره، وصلى صلاةَ الصبح، ثم توضأ، ومس بعده الفرج الآخر، وصلى صلاة الظهر، فنعلم أن إحدى الصلاتين وقعت بعد حدث، ولكن جرى وضوءَان، كما ترى، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في ذلك:
أحدهما: إن إحدى الصلاتين باطلة، لا بعينها، فيجب قضاءُ الصلاتين جميعاً.
والثاني: لا يجب قضاءُ واحدةٍ منهما؛ فإن كل صلاة تختص بوضوءٍ، والأصل أنه لم يبطل، وتعدّد الواقعتين كتعدد الشخصية.
وهذه الصورة تناظر عندي ما إذا صلّى رجل صلواتٍ باجتهاداتٍ إلى جهات، ولم يتعين له خطأٌ ولا صوابٌ، فالمذهب أنه لا يقضي واحدة منها.
فإن قيل: إنما كان كذلك لأن كل صلاةٍ مستندة إلى اجتهادٍ، ولا مجال للاجتهاد في الأحداث. قلنا: بناء الأمر على استصحاب يقين الوضوء متعينٌ في الاجتهاد، ومناطٌ لحكم الله تعالى عند انحسام مسالك الأمارات.
فرع:
167- خروج الخارج من إحدى سبيلي الخنثى المشكل بمثابة خروج النجاسة من سبيل ينفتح أسفل من المعدة، وقد مضى ذلك مفصّلاً، وإن خرج من السبيلين جميعاً، فلا شك في انتقاض الوضوء؛ فإن أحدهما فرجٌ، لا شك فيه.
فصل:
168- الأحداث على مذهب عامّة العلماء أربعة. وإنما الخلاف في تعيين بعضها، وإقامة بعضها مقام بعضٍ، فأما خروج الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل، فقد اتفق العلماء عليهما في الأصل. ورأى الشافعي الملامسةَ ومّس الفرج حدثين، وأنكرهما أبو حنيفة. وأثبت بدلهما خروجَ الخارج من غير السبيل المعتاد، والقهقهة في الصلاة، ونفاهما الشافعي.
وأكْلُ لحمِ الجزور مما ورد الأمر فيه بالوضوء، والمنصوص عليه للشافعي في الجديد أنه لا يوجب الوضوءَ، ومذهب أحمد بن حنبل أنه يوجب الوضوء، وقيل: هو قول قديم للشافعي، وإنما صار إليه لما رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتوضأ من لحم الجزور؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم».
وأمّا أكل ما مسّته النار من مشويٍّ ومطبوخ، فقد رُوي عن النبي عليه السلام، أنه قال: «توضؤوا ممّا مسته النار، ولو من ثَوْرِ أَقِط».
ثم رأى الشافعي أن ذلك منسوخ؛ لما روي «أنه عليه السلام في أواخر عمره أكل كتف شاةٍ مشوية، ثم صلّى، ولم يتوضأ»، واختلف الأئمة في أن الوضوء المأمور به أولاً كان وضوء الصلاة، أو غسل اليدين، فقال بعضهم: كان يجب وضوء الصلاة، وقال بعضهم: الوضوء المأمور به في ابتداء الأمر غسل اليدين، قال النبي عليه السلام: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم» أراد غسل اليدين.
فصل:
169- قال الأئمة: من استيقن الوضوء، وشك في الحدث، فله الأخذ بالطهارة استصحاباً لها، واليقين السابق مستصحب، غير متروك بشك الحدث، ولو تيقّن الحدثَ، وشك في الوضوءِ بعده، فهو محدث تمسّكاً باليقين، واستدل الشافعي على تمهيد ما ذكرناه بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الشيطان ليأتي أحدَكم وهو في الصلاة، وينفخ بين إليتيهِ، ويقول: أحدثتَ أحدثت، فلا ينصرفنّ حتى يسمعَ صوتاً، أو يجد ريحاً».
وقد اتفق الأصحاب على أن من تيقن سبقَ الوضوء، وغلب على ظنّه الحدث، فله الأخذ بالوضوء.
وقد ذكرنا قولين للشافعي في أن ما يغلب على الظن نجاسته هل نحكم بنجاسته؟
ومن الأسئلة التي ينبغي أن يُعتنَى بها الاستفراق بين غلبة الظن في الحدث، وبينها في النجاسة. والذي كان يذكره شيخي أن الاجتهاد يتطرق إلى تمييز الطاهر من النجس، وسبب ذلك أن للطهارة والنجاسة أماراتٍ، وهي مستند الاجتهاد، وليس للحدث والطهر علاماتٌ يتعلّق بها المجتهد.
وفي هذا عندي فضل مباحثةٍ، فأقول: أصل الشافعي في تمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات معلوم، سيأتي شرحنا عليه إن شاء الله تعالى، وهذا اجتهاد.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمني صفاتٍ، وفائدةُ ذكرها التمسك بها، فإطلاق القول بأن الاجتهاد لا يتطرق إلى الأحداث غيرُ سديد.
ثم موضع القولين في النجاسة ليس فيما يظهر فيه علامة النجاسة من لون، أو ريح، أو طعم، ولكن إذا جرت أحوالٌ يغلب على القلب النجاسةُ فيها، فالقولان يجريان، وإن لم يظهر للحس علامةٌ في النجاسة، وهذا كالقولين في المقابر العتيقة، وثيابُ من يخامر النجاسات من الكفّار، ومن لا يتقي النجاساتِ من المسلمين، وقد تُفرض أحوال تغلِّب على الظنّ وقوع الأحداث فيها، ولا يَطّرد القولان فيها، فيما ذكره الأئمة.
ولعل السبب فيه أن الأحوال التي يغلب ظن النجاسة فيها كثيرةٌ جدّاً، وهي قليلةٌ في الأحداث، فلا مبالاة بما يندر منها، والتمسك باستصحاب اليقين أقوى، وإذا لم يكن بالإنسان علّة، ففرضُ حالةٍ يغلبُ فيها وقوع الحدث عسير، ومن طلب تصوير ذلك كان متكلفاً. واستصحاب ما يثبت يقيناً أقوى، فيؤول حاصل القول فيه إلى أن الأحوال المغلِّبة على الظنون غالبةٌ في النجاسة، فاختلف القول في أنها أولى بالاعتبار، أو استصحاب الحال.
وأما في الحدث، فلا يغلب فيه حالة تغلّب على الظنّ وقوعَ الحدث، فاتجه القول في الاستمساك باليقين واستصحابه.
فهذا منتهى فكري الآن.
فإن تطلّع فَطِن لمزيد معنى في الفرق بين البابين، كنت أنا المنبّه عليه.
170- ثم ذكر صاحب التلخيص: أن اليقين لا يُترك بالظنّ إل في مسائل عدّها.
ونحن نذكر المستفادَ منها، ونضرب عن التي لا تشكل: فمّما استثناه؛ أن الناس إذا شكّوا في انقضاءِ الوقت يومَ الجمعة، لم يُصلّوا الجمعة، ولم يستصحبوا اليقين بناءً عليه.
وكذلك الماسح على الخُفّ إذا شك في انقضاء المدة، لم يمسح بناء على أن الأصل بقاء المدة.
فيقال: الأصل في كل يومِ وجوبُ الظهر أربع ركعاتٍ، ثم ثبتت صلاة الجمعة بشرائط، وهي طارئة على الأصل، فإذا فرض تردّد وشكٌّ في الجمعة، رددنا الشاك إلى أصل صلاة الظهر، وكان ذلك استصحاب لأصلٍ سابق على فريضة الجمعة، وكذلك الأصل غسل القدمين، والمسح رخصة طارئة، منوطة بشرائط، فإذا فرض الشك في بعضها، تعين الرد إلى أصل غسل القدم.
والتحقيق فيه أنا لا نشترط غالبَ ظنّ في الفنّ الذي استثناه، بل الشك بمجرده يمنع إقامة الجمعة، والمسح على الخفّ، وهو في التحقيق تمسك باستصحاب الأصل عند الشك في شرط ما طرأ على الأصل.
ومما ذكره أن المسافر إذا انتهى إلى موضع، وشك أن ذلك الموضع موطنه، ومنتهى سفره أم لا؟ قال: إنه لا يقصر، ولا يترخصّ برخص المسافرين، وهذا منتظم على القياس المقدَّم؛ فإن الأصل إتمامُ الصلاة، وإقامة الصلاة في وقتها، والرّخص طارىء مشروط بشرطٍ، فإذا فرض التشكك فيه، رُدّ المكلَّف إلى الأصل.
قال: وكذلك لو شك، فلم يدر أنوى الإقامة أم لا، لم يترخَّص ما لم يبتدىء سفراً على الوصف المعروف فيه.
171- وذكر الشيخ أبو علي في المسألتين الأخيرتين خلافاًً عن بعض الأصحاب، ولم يحك فيما تقدّم من الجمعة والتشكك في انقضاءِ مدّة المسح خلافاًً.
ولعلَّ الفرق في ذلك، أن انقضاء وقت الجمعة والمسح، ليس مما يتعلق باختيار. فإذا فرض الشك فيه، لاح تعيين الردّ إلى الأصل. والانتهاءُ إلى دار الإقامة والعزمُ عليها متعلِّق بفعل الشاك، ومنه يُتلقى معرفته، فإذا جهله من نفسه، فقد يخطر أنه بمثابة ما لو لم يقع ذلك المعنى أصلاً.
على أن الوجه ما ذكره صاحب التلخيص.
فرع:
172- قال صاحب التلخيص: إذا استيقن الرجل أنه بعد طلوع الشمس توضأ وأحدث، ولم يدر أن الوضوء هو السابق، أم الحدث، فيقال له: قدّم وهمك على مبتدإ هذا الزمان، فإن انتهيتَ إلى حدث، فأنت الآن متطهر، وإن انتهيت بوهمك إلى طُهر، فأنت الآن محدِثٌ.
وتعليل ما ذكره، أنه إذا انتهى إلى حدثٍ، فقد تيقن أنه رفعَ الحدث الذي انتهى إليه، وشك في أن ذلك الوضوء الرافع للحدث الأول هل نقضه حدثٌ أم لا، فالأصل بقاء الطهارة.
وإن انتهى إلى طهر، فقد تيقَّن أنه نقضه حدث، وشك في أن ذلك الحدث هل رفعه طهر أم لا.
وذكر الصيدلاني عن بعض الأصحاب أنه يقدم وهمَه كما ذكرنا، ويُضرب عن تعارض الطهر للحدث بعد طلوع الشمس مثلاً، فلا يستمسك بهما، ولكن إن انتهى، إلى حدثٍ، فهو محدث، وإن انتهى إلى وضوءٍ، فهو متطهِّر.
وهذا غير صحيح. والصواب ما ذكره صاحب التلخيص. والله أعلم.