فصل: باب: الصبي يبلغ والمملوك يعتق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الصبي يبلغ والمملوك يعتق:

2741- ذكرنا معظم أحكام إحرام الصبيان، وكنا أخرنا إلى هذا الباب مسائلَ، حتى لا نخليه عن غرضٍ.
فإذا خرج الوليّ بالصبي محرماًً، فالنفقة الزائدة بسبب سفرة الحج على من تجب؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنها تجب في مال الوليّ؛ فإنه ورّط الصبيَّ فيها، مع الاستغناء عنها.
والوجه الثاني- أنها تجب من مال الطفل؛ فإن هذا لا ينحطّ عن بعض المصالح القريبة، التي لا تبلغ مبلغ ما لابد منه، ولو أنْفق الوليّ في تعليم الطفل شيئاً غير محتوم، ساغ له ذلك، فليكن الحج بهذه المثابة.
ومما نذكره في هذا الباب أن الصبي إذا بلغ قبل فوات الوقوف، ووقف بعد البلوغ، فقد ذكرنا أن حجه يقع عن فرض الإسلام، ولو أفاض وهو صبي، وبلغ بمزدلفة، وانقلب إلى عرفةَ، ووقف بها بعد البلوغ، فالجواب كما قدمناه. فالحجة تقع عن فرض الإسلام.
ولو بلغ بمزدلفة، وتمادى، ولم يرجع إلى الموقف، فالمذهب أن حجه لم يقع عن حجة الإسلام.
وحكى العراقيون عن ابن سريج وجهاً: أنه قال: إذا بلغ في وقت الوقوف، وإن لم يعد للوقوف بعد البلوغ، واقتصر على ما سبق منه من الوقوف في صباه، فالحج يقع عن فرض الإسلام. خرّجه على ما ذكرناه من أن الصبيّ إذا سعى في صباه قبل الوقوف، ثم بلغ ووقف، فهل يلزمه إعادة السعي، أم يكتفى بما صدر منه في الصبا؟ وفيه الخلاف المقدم.
ولا خلاف أنه لو بلغ يوم النحر، فلا يقع الحج عن فرض الإسلام؛ لأنه لم يدرك نفسَ الوقوف، ولا وقتَه في البلوغ.
فهذه مسائلُ كنا أخرناها إلى هذا الباب.
2742- فأما العبد البالغ، فإحرامه ينعقد بعبارته، ولا ينعقد إحرام المولى عنه، والقول في العبد البالغ العاقل. ولو أحرم العبد بإذن السيد، انعقد إحرامه ولزم، ولا يملك السيد تحليله، إذا كان الإحرام صادراً عن إذنه.
وإن أحرم بغير إذنه، انعقد إحرامه وللسيد تحليله.
2743- وفي الزوجة إذا أحرمت بالإذن وغيرِ الإذن وفي كيفية تحليل العبد تفصيلٌ.
والذي أراه تأخير هذه الفصول إلى آخر باب الحصر، فإنها متعلقةٌ بأحكام الصدّ، ولو رُمنا بيانها، لاحتجنا إلى ذكر طرفٍ صالح من أحكام الحصر. والله أعلم

.باب: من أهل بحجتين أو بعمرتين:

2744- من أهلّ بحجتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولغا الثاني. وقال أبو حنيفة: ينعقد الإحرام بهما، ثم إذا اشتغل بأعمال النسك ارتفض ما سوى الحجة الواحدة، ثم يتعلق بالذمة بعد الارتفاض تعلق المنذورات، فيجب إبراء الذمة عنها.
ومما ذكره بعض الحذاق أنا إذا قلنا: الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عمرة، فلا يمتنع أن نجعل المحرم بحجتين محرماً بحجة وعمرة، حتى يصير قارناً، وهذا بعيدٌ، وإن كان يتجه بعض الاتجاه.
وإدخال الحجة على الحجة، والعمرة على العمرة لاغٍ، لا يتضمن إلزاماً ولا عقداً كالجمع في ابتداء الإهلال.

.باب: الإجارة على الحج:

2745- الاستئجار على الحج جائز عندنا، ولأصحاب أبي حنيفة خبط في ذلك، لا حاجة بنا إلى ذكره.
ثم الاستئجار إنما يصح عن العاجز عن مباشرة الحج بنفسه، وقد مضى تفصيلُ القول في العجز عن المباشرة في أول الكتاب، عند ذكرنا تفصيل الاستطاعة، فليقع الاعتناء بتفصيل الإجارة، مع الاكتفاء بما تقدم في بيان محلها.
ثم الاستئجار يفرض على وجهين:
أحدهما: أن يتعلق بعين الأجير. والثاني: أن يتعلق بذمته إلزاماً، والغرض تحصيله، والملتزِم إن شاء حصله بنفسه، وإن شاء حصله بغيره.
فأما الاستئجار المتعلق بعين الأجير، فصورته أن يقول المستأجر: استأجرتك لتحج عني السنةَ، فهذه إجارة صحيحة، إذا كان خروج الأجير ممكناً. ثم يشتغل الأجير بالتأهب للخروج، فإن أمكنت رفقة، فتوانى عن الخروج معها منتظراً أخرى، أُلزم الخروج، وإن كانت الرفقة في التأهب، لم يكلف الأجير أن يسبقها منفرداً، والرجوعُ في مثل ذلك إلى العادة.
والمُلتَمَسُ من الأجير أن يخرج مبتدراً، مع الاقتصاد بالجريان على موجَب الاعتياد في التشمير، وترك التقصير.
ومما يمتزج بما نحن فيه، وبقواعد الإجارة بعد ذلك: أن طيّ المسافة إلى الميقات ليس مقصوداً في نفسه، وإنما المقصود الحجُّ، ولكن لا وصول إلى تيك المشاعر إلا بقطع الطريق، فهو من عمل الأجير، والتعبُ عليه فيه كالنَّصَب في إقامة الحج، ولكن غرض المستأجر الحجُّ الواقعُ بعد قطع المسافة، فليكن الفقيه على فهمٍ وبصيرة فيما ألقي إليه، وسيكثر انتساب مسائل الإجارة إلى ما نبهنا عليه.
فإذا استأجر أجيراً في بقية السنة لحَجَّة السَّنَة، والزمان يضيق عن إمكان طيّ المسافة، فالإجارة فاسدة، ولو كان الزمان على قدر الإمكان، فالإجارة صحيحة.
وإن كان الزمان بحيث لو قيس بالمسافة، واعتبر الإمكان المقتصد لزاد الزمان، فالاستئجار على حجة السنة جائزٌ، والحالة هذه. اتفق الأصحاب عليه، وهذا يعدّ من التوسع في الإمكان على مهَلٍ بلا عسر، وهذا بيّن في العادة.
2746- ولو استاجر معيّناً لحجة السنة، والخروج في الحال متعذِّرٌ، فقد ألحق العراقيون هذا بالاستئجار المقترن بالعسر، وذلك فاسد، كاستئجار الدار المغصوبة، ولا نظر إلى ارتقاب زوال العسر توقعاً لا ضبط له.
وقال شيخي: الاستئجار على الخروج في هجمة الشتاء، وازدحام الأنداء، جائز إذا كان الوصول ظاهرَ الإمكان، عند زوال هذه الموانع؛ فإن توقع زوالها مضبوطٌ، وقد رأيت الإشارة إلى منع ذلك في الإجارة الواردة على العين، وفيها تدبُّر الكلام. والسبب فيه أن الاشتغال بالعمل عسر في الحال، وليس كانتظار رفقة ستنشأ على قرب.
فهذا ما أردناه في الإجارة الواردة على العين، مع التقييد بحَجَّة السنة.
2747- فإن استأجر معيّناً على أن يحج السنةَ القابلة، والحجةُ ممكنة في السنة القريبة، سنةِ الإجارة، فالإجارة فاسدة عند الأئمة، نازلةً منزلة استئجار الدار الشهرَ القابل. وهذا قياسٌ بيّن في إجارة الأعيان عندنا، فحقها أن تستعقب الاستحقاقَ من غير استئخار.
ولو كان الاستئجار من مسافةٍ شاسعة، لا يتوقع قطعُها في سنةٍ، فمن ضرورة تقدير الإجارة من مثل هذه المسافة أن يمر بالأجير زمانُ حجٍّ، وهو في الطريق، فلا منع والإجارة سائغةٌ، وذلك الحج القريب، إذا لم يكن ممكن الحصول، فلا حكم له، والنظر إلى تواصل السير، وهو من عمل الأجير، وإن لم يكن مقصود المستأجِر.
ولو استأجر رجلاً بعينه ليحج عنه، وأطلق الإجارة الواردة على العين، وكان الزمان الباقي من السنة بحيث يسع الحجَّ على يسر، فالإجارة المطلقة صحيحة، وهي محمولةٌ على الإجارة المقيّدة بحجة هذه السنة، فإن اتفق إيقاع الحج، فذاك، وإن أخرها الأجير، ولم يخرج، انفسخت الإجارة، كما لو تقيدت بحجة هذه السنة، فالمطْلَقةُ مُنَزَّلةٌ على حكم المقيدة، وإذا حكمنا بالانفساخ، لم يخْف أن الأجير لو أتى بالحجة في السنة الثانية، لم تقع عن المستأجر.
فهذا تفصيل القول في تصوير الإجارة الواردة على العين.
2748- فأما الإجارة الواردةُ على الذمة، فتصويرها هيّن، وذلك أن يقول المستأجر لمن يخاطبه: ألزمتُ ذمتك حجةً تُحَصِّلها بكذا، فهذا جائز، وهو مطّردٌ في جملة الأعمال المنتحاة المقصودة بالإجارة.
ثم هذا القسم ينقسم إلى مقيد بالتأخير، وإلى مقيّدٍ بالتعجيل، وإلى مطلق.
فأما المقيد بالتعجيل، فهو سائغ؛ فإنه لا يمتنع ثبوتُ الشيء على حكم الدَّين حالاًّ، والدَّين ينقسم إلى الحالّ، والمؤجل.
ثم إذا كان الأمر كذلك، فإن اتفق الوفاء بتحصيل الحج في الأمد المضروب، فهو المراد.
وإن لم يحصِّل الملتزم ما التزمه في ذلك الوقت المعين، فقد ذكر الأئمة طريقين: أما العراقيون، فقد قطعوا القول بأن الإجارة لا تنفسخ، ولكن المعضوب المستأجِر يتخير في فسخ الإجارة؛ من حيث تعذر حصول مقصوده في الوقت المضروب، ولا تنفسخ الإجارة بنفسها، فإن الدَّين إذا تعذر في الوقت المضروب، لم يُقْضَ بانقطاعه.
وقال شيخي وغيرهُ من أئمة المراوزة: في المسألة قولان مأخوذان من القولين في السّلَم إذا حل وجنس المسلَم فيه مُنقطعٌ في أوان المَحِلّ، ففي ذلك قولان:
أحدهما: أن السلم ينفسخ، والثاني: لا ينفسخ، وللمسلم الخيار: إن شاء فسخَ وإن شاء أَنْظَر إلى وجود الجنس المطلوب في مستقبل الزمان.
فقد حصلنا على طريقين. والمسألة محتملة التشبيه بصورة القولين في السلم، ولا يبعدُ اعتقاد قطعها عن السلم كما ذكره العراقيون؛ فإن الحج كان ممكناً في تلك السنة، ولم يعم العسرُ أصلَه، حتى يُلحَقَ بانقطاع جنس المسلم فيه.
هذا كله في الإجارة الواردة على الذمة، إذا قيدت بالتعجيل.
فأما إذا قيّدت بالتأخير، فقال المستأجر ألزمت ذمتك تحصيل الحجة في السنة الآتية الثانية، فهذا جائز وفاقاً.
والإجارة المطلقة الواردة على الذمة بمثابة المقيدة بالتعجيل، وقد سبق القول فيها.
2749- وذكر الصيدلاني في صورة إجارة الذمة أن المستأجرَ إذا قال: ألزمت ذمتك أن تُحَصِّل لي حَجَّة بنفسك فالإجارة صحيحة، ومتضمّنها أن يكون هو الحاج، ولا ينيبَ غيرَه مَناب نفسه، وهي من قسم إجارة الذمة، ثم مقتضاها أنها لو قيّدت بالحجة المنتظرة في السنة الثانية، صحت الإجارةُ كذلك؛ فإن الدَّيْن يقبل هذا.
وهذا زلل عظيم؛ فإن ربط الشيء بمعيّن، حتى لا يقوم غيره مَقامه، مع اعتقاد التحاق ذلك بالديون، متناقضٌ، والإجارة الواردة على الذمة قسمٌ من أقسام السّلم، والسّلَم في ثمرة شجرة معينةٍ باطلٌ، لما بين التعيين والدَّيْنيّة من التناقض، و هذا الذي ذكرناه منصوص الطرق في هذه المسائل. ولكن ما ذكره الشيخ أبو بكر هو الذي حكيناه، وصار في تعليله إلى أن الناس لهم مقاصدُ في أعيان من يحج، فثبت الأمر على التعيين لذلك. فنقول: عافاك الله، فلنثبت هذا المقصودَ إجارةً واردة على العين؛ إذ لا امتناع في ورود الإجارة على العين. وكل من استؤجر عينُه، فحق عليه الوفاءُ بما التزمه، ففي كل إجارةٍ معنى الإلتزام.
فرع:
2750- قال العراقيون: إذا وردت الإجارة على الذمة، وتقيدت بالتعجيل، ثم لم يف الملتزم في ذلك الوقت، فالمستأجِر بالخيار في فسخ الإجارة، كما تقدم.
هذا إذا كان المحجوج عنه حياً معضوباً.
فأما إذا كان ميتاً، فقد قال العراقيون: لا خيار في فسخ الإجارة، وفرقوا بأن الحيّ إذا استأجر، ثم تعذر الوفاء بالمطلوب، استفاد المستأجِر بالفسخ استرداد الأجرة، والتبسط فيها، وهذا لا يتحقق في حق الميت، فإن أجرة الأجير مستحقَّةٌ لتحصيل الحج، فلا انتفاع باستردادها.
وهذا الذي ذكروه فيه نظر، ولا يمتنع أن يثبت الخيار للورثة؛ نظراً للميت، ثم يستفيدون باسترداد الأجرة صرفَها إلى جهة هي أحرى بتحصيل المقصود.
فهذا منتهى القول في تصوير الإجارة. فإذا تصوّرت يقع الكلام بعد ذلك في فصول.
الفصل الأول
في الإعلام وتوقي الجهالة
2751- أما الحج، فلا حاجة إلى الإعلام فيه، فإن أعماله معلومة، فإن جهلها أحد المتعاقدين، أثر ذلك في إفساد الإجارة؛ إذ كون الشيء معلوماً، لغير العاقدين غيرُ كافٍ في تصحيح العقد، ولكن الغالب أن أعمال الحج لا تخفى، فجرت المسألة للشافعي بناء على الغالب.
واختلف نص الشافعي في أنه هل يشترط في صحة الإجارة إعلام الميقات الذي يُحرم الأجير منه؟ واختلف الأصحاب: فقال بعضهم: في وجوب إعلام الميقات قولان:
أحدهما: يجب الإعلام؛ فإن المواقيت مختلفة في المسافات، والأغراضُ تختلف بذلك، وكلُّ ما يختلفُ ويختلف الغرض باختلافه، فالتعرض له واجبٌ في العقد الذي يجب الإعلام فيه. والقول الثاني- أنه لا يجب إعلام المواقيت؛ فإنه لا وقع لاختلافها في الشرع، والإحرام من الميقات القريب، كالإحرام من أبعد المواقيت.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على اختلاف حالين، وقال: إن لم يكن على الصَّوْب الذي يؤمّه الأجيرُ إلا ميقات واحد، فلا حاجة إلى التعرض له. وإن كان الطريق في ممره يتشعب ويزْوَرُّ، ثم تُفضي شُعْبة إلى ميقاتٍ بعيدٍ وتفضي الأخرى إلى ميقات قريب، فلابد والحالةُ هذه من التعرض للإعلام.
وموجَب هذه الطريقة في تنزيل النصين على الحالين، يقتضي أن يقال: إذا اتحد الميقات في جهةِ ممر الأجير، فليس له أن يميل عنه، إلى جهة أخرى، ميقاتها أقرب من ميقات الممر المعتاد.
وذكر العراقيون تنزيلاً آخر للنصين، فقالوا: إن كان الاستئجار من حيٍّ، فلابد من التعرض لتعيين الميقات؛ فإن أغراض الأحياء تتفاوت وتختلف، وإن كان الاستئجار عن ميت، فلا حاجة إلى تعيين الميقات؛ فإن الغرض تحصيل الحج للميت.
وهذا غير سديد، ولا يستدّ إلا تخريج المسألة على قولين؛ من جهة أنه اشترك فيها تفاوتُ تعب الأجير بطول المواقيت وقصرها، مع قضاء الشرع باتحاد الحكم في جميعها، فتضمن تعارضُ هذين المعنيين اختلافَ القول. فهذا ما أردناه في فصل الإعلام.
الفصل الثاني
في ارتكاب الأجير شيئاً من المحظورات في الحج، من غير إفساد
2752- فنذكر منها ما يتعلق بالإساءة في الميقات، ثم يَقيس الناظر ما عداه عليه.
فإذا انتهى الأجير إلى الميقات، فجاوزه مسيئاً، ثم أحرم، ولم يعد إلى الميقات، فيلزمه دم الإساءة، وينصرف الحج إلى المستأجِر، وهل نحط عن أجرة الأجير شيئاً، لتركه بعضَ العمل المستحَق عليه بالإجارة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا نحط قسماً من الأجرة، وهو المنصوص عليه هاهنا، وتعليله تركُه بعضَ العمل، والجبرانُ الذي يخرجه ليس عملاً مقابَلاً بالأجرة، وإنما المقابَل بالأجرة صورة الأعمال، والفديةُ، لزمت الأجيرَ حقاً لله تعالى، لتركه حرمةَ الميقات، فلا تعلّق لما يجب لله بما يتعلق بحق الآدمي.
والقول الثاني- أنا لا نحط شيئاً من أَجْرِه على تفصيلٍ، سنذكره. ووجه ذلك أن المجاوزة إن كانت، نقصاناً، فالفدية جبران في الشرع، فإذا ثبت الجبران، فكأَنْ لا نقصان.
التفريع على القولين:
2753- إن قلنا: لا نحط لمكان الجبران الحاصل في مقابلة النقصان، فهل ننظر إلى قدر قيمة الدم، حتى نقيسَه بقدر الأجر في مقابلة العمل المتروك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا نعتبر ذلك، وهو الأقيس على هذا القول؛ لأن التعويل على حصول الجبران، فإذا قضى الشرع به من غير نظر إلى قدر القيمة، فلا ينبغي أن يكون بالقيمة اعتبار: زادت، أو تماثلت، أو نقصت.
ومن أصحابنا من اعتبر المقابلة، بين قيمة الدم وبين أجرة العمل المتروك.
ووجهُ هذا على غرض قائله لائح؛ فلا نتكلفه. فعلى هذا إن تماثلت قيمةُ الدم، أو زادت، فلا حط، وإن نقصت قيمة الدم عن أجر المتروك، جَبَرْنا مقدار القيمة، وحططنا الزائدَ من الأجر.
هذا إذا فرعنا على النظر إلى الجبران.
2754- وإن قلنا: أجر العمل المتروك محطوط، ولا التفات إلى ما جرى من جبران، فما المعتبر في كيفية التوزيع؟ واختلف أصحابنا في المسألة.
ولا يتأتى الوقوف على حقيقة الاختلاف إلا بتقديم أصلٍ مقصودٍ في نفسه، ومنه يبين الغرضُ، فنقول: إذا استأجر رجلٌ أجيراً ليحج عنه والخَرْجَة من نَيْسابور مثلاً، فإذا انطلق الأجير، وانتهى إلى الميقات المطلوب منه حجُّه عن مستأجِره، فلو أحرم بالعمرة عن نفسه، ودخل مكةَ، وطاف، وسعى، وحلق، ثم حج عن مستأجِره من جوف مكة، فالحجة تنصرف إلى المستأجِر، وفيما يستحقه الأجير قولان:
أحدهما: توزع الأجرة المسماة على حجة تُفرض من الميقات، وعلى أخرى تُفرض من جوف مكة، فإذا قيل لنا: حجةٌ من الميقات تساوي عشرة، ومن جوف مكة تساوي تسعة، فقد تبينا أن بين التقديرين العُشرْ، وكان المطلوب من الأجير أن يحج من الميقات، فإذا حج من مكة، فقد ترك عُشر العمل، فنحطُّ عشرَ الأجرة المسماةِ على هذه النسبة، ووجه هذا القول أن المطلوب من الأجير الحجُّ، وابتداؤه من الإحرام، فليقع التوزيعُ من هذا المبتدأ.
والقول الثاني- أنا نُدخل المسافةَ التي قطعها من البلدة التي خرج منها في الاعتبار، ونقول: حجةٌ منشأ سفرها من نيسابور، وإحرامها من ذاتِ عِرْق كم أجرُها؟ فيقال: عشرون. ثم نعود فنقول: حجة منشؤها من مكة، من غير فرض قطع مسافة إليها، كم أجرها؟ فقد يقال: ديناران، فبين التقديرين التسعة الأعشار.
فنقول: إذا صرف الأجير المسافة إلى عمرته، ولو أراد من غير فرض إجارة أن يعتمر عن نفسه، لكان سبيله أن يخرج على هذا الوجه، وإذا أدخلنا المسافة في الاعتبار، ثم صرفناها إلى جهة العمرة، فلا يبقى إلا مقدارُ العُشر على التقدير الذي ذكرناه، فله إذاً من المسمى عُشْرُه. وهذا الاختلاف ينشأ من أصلين:
أحدهما: إدخال المسافة قبل الإحرام في الاعتبار، والآخر تقدير صرف السَّفْرة إلى العمرة.
هذا موجب أحد القولين.
وموجَب القول الآخر إخراج السَّفرة من الاعتبار، وردُّ النظر إلى الميقات ومكة.
2755- ومما يتفرع على هذا الأصل أنه لو اعتمر من الميقات، كما ذكرنا، ثم لما قضى عمرته عاد، وأحرم بالحج عن مستأجره من الميقات، وهذه صورة يسقط فيها دم التمتع. ووجه تخريجها على القولين المقدّمين أنا إن اعتبرنا ما بين الميقات إلى انتهاء الحج، فيستحق تمام الأجرة لوفائه بتمام الحجة، وإن أدخلنا السَّفرة في الاعتبار، قلنا: حجة تجرد القصد إليها من نيسابور، وإحرامُها من ذات عِرق كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. ثم نقول: حجة أنشئت من ذات عِرق، من غير قطع مسافةٍ إليها، كم أجرتها؟ فقد يقال: خمسة؛ فللأجير ربعُ الأجرة المسماة، ونُسقط ثلاثةَ أرباعها.
2756-فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى صورة الإساءة من الأجير.
فإذا انتهى إلى الميقات، وجاوزه، ثم أحرم من مكة مثلاً، فكيف التوزيع؟ وما المعتبر فيه، لبيان المحطوط من الأجرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، والاختلاف فيها متلقى مما قدمناه، ولكن لا ينطبق الخلاف على الخلاف؛ من جهة أنا تخيلنا في المسألة المقدّمة صرفَ السَّفرة إلى العمرة، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا؛ فإنه بإساءته، لم تخرج سفرته عن كونها ذريعة إلى حجته، ولكن أخل ببعض العمل المطلوب، فرجع منشأ الوجهين إلى إدخال السفرة في الاعتبار وإخراجها، فإذا في المسألة وجهان:
أحدهما: أن نقول: حجةٌ من الميقات إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال: خمسة، فنقول: حجة من مكة إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال: ديناران، فبينهما التفاوت بثلاثة أخماس فيسقط من الأجرة المسماة ثلاثة أخماسها. هذا أحد الوجهين، ومبناه على إخراج السفرة من الاعتبار.
والوجه الثاني- أن نقول: حجة قُصدت من نيسابور، والإحرام بها من ذات عرق، كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. فنقول: حَجة قصدت من نيسابور، واتفق الإحرام بها من مكة، كم أجرتها، فيقال: تسعةَ عشرَ، والمسافة مندرجة في التقديرين، فبين الإحرام من الميقات، والإحرام من مكة دينارٌ من عشرين، وهو نصف العشر، فيسقط من الأجرة المسماة نصفُ عشرها.
ومما لا يخفى دركه على الفقيه، ولكن يحسن التنبيه عليه: أنا في الأصل المقدّم إذا أدخلنا السّفرة في الاعتبار، عظم مبلغ المحطوط؛ من جهة أن السفرة المعتبرةَ صرفَها الأجير إلى عمرة نفسه. وإذا أدخلناها في هذه المسألة التي نحن فيها قلّ المحطوط؛ فإن السفرة محسوبةٌ له.
2757- ومما يتم الفصل به أن المستأجِر لو شرط على الأجير أن يُحرم من الكوفة، فإن وفى بها، فلا كلام، وإن جاوزها، فهل يلتزم دمَ الإساءة؟ اختلف أئمتنا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجب دم الإساءة؛ إذ الدمُ منوطٌ بميقات محترَمٍ شرعاً، وهو الميقات الموضوع المشروع، وليست الكوفة من المواقيت المشروعة.
وقال بعض أئمتنا: يجب على الأجير دمُ الإساءة، إذا جاوز الميقاتَ الذي عيّنه المستأجِر. وإلى هذا الوجه ميلُ طوائفَ، منهم الصيدلاني، ووجهه أن الميقات صار مستحَقاً، ومستندُ كل استحقاقٍ في العبادة يؤول إلى حكم الله تعالى، وقد قال أئمتنا: لو قال الناذرُ: لله علي أن أحج ماشياً، فحج راكباً، لزم دمٌ، وإن لم يكن المشي مشروعاً قصداً إليه.
التفريع على الوجهين:
2758- إن حكمنا أنه بمجاوزة الكوفة لا يلتزم دماً، فننقص من أجرته وجهاً واحداً؛ إذ لا جُبران، وقد تحقق نقصان العمل المطلوب.
وإن قلنا: يلتزم الأجير دماً بالمجاوزة، فيعود الكلام إلى ما قدمناه من الاختلاف في الحط، والالتفات إلى الجبران، وقد مضى هذا.
2759- وتمام الفصل أن ما يلتزم به الأجير دماً ينقسم إلى ارتكاب محظور، أو ترك مأمور، فأما ما كان من ارتكاب المحظور، فلا ينتقص بسببه من أجره شيء، من جهة أنه لم ينقص من العمل، وإنما جنى جنايةً موجَبها الكفارة.
فأما إن ترك مأموراً به، مثل أن يجاوز الميقات، أو يترك الرمي، أو ما أشبه ذلك، فالتزم الدمَ، فهل يحط عن أجره شيء؟ فيه الخلاف المقدم.
وقد نجز ضبط المقصود من هذا الفصل.
الفصل الثالث
في موت الأجير في الحج وقبله
2760- الكلام في هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في أصل مقصود، وهو أن الإنسان إذا كان يحج عن نفسه، فمات أثناء الحج، فهل يُتَصَوَّر البناء على حجه؟ حتى يفرضَ استنابةُ نائب يقوم مقامه في بقية الأعمال؟ في المسألة قولان: أحد القولين- أن ذلك لا يسوغ؛ فإن العبادة واحدةٌ، فتعلّقها بشخصين محالٌ، وسيتضح عُسر ذلك في التفريع.
والقول الثاني: إنه جائز؛ فإنه إذا أمكن إنابة شخص في كل العبادة، مَناب شخص، لم يبعد ذلك في البعض.
التفريع على القولين:
2761- إن قلنا: لا سبيل إلى البناء، فكما مات الخائض في الحج، انقطع العمل، وحَبِط ما قدمه، ويجب تحصيل حجة تامة، من تركته إذا كان قد استقرت الحجة في ذمته.
وإن قلنا: إن البناء مُسوَّغ، فنذكر صورتين: إحداهما- أن يموت قبل الوقوف.
والثانية- أن يموت بعده.
فإن مات قبل الوقوف فسبيل الإنابة عنه أن يستأجر من يُحرم ابتداءً، ويقفُ ويتمادى إلى آخر الحج، على ترتيبه، ثم قد يقع هذا الإحرام من قُرب المعرَّف، ولا بأس؛ فإن من ينصرف هذا إليه قد كان أحرم من الميقات قبل الممات، وذلك معتد به.
2762- فأما إذا مات بعد الوقوف بعرفة، فليتأمل الناظر عند ذلك ما يُلْقَى إليه؛ فإنه مظنة إشكال، وقد اضطربت الطرق لأجله: قال العراقيون: المستناب لابد وأن يُحرم؛ فإن بقية الأعمال لا تتأتى إلاّ من محرم، والإحرامُ بالحج-وقد انقضى أشهر الحج بطلوع فجر يوم النحر- محالٌ، على مذهب الشافعي.
قالوا: فالوجه أن يحرم المستناب بعمرة، ويطوفَ، ويسعى، وكان بقي على الذي مات الطوافُ والسعي ركنين، فيقع طوافُ المستناب المعتمِر وسعيُه سادّاً مسد الطوافِ والسعي، اللذين كانا بقيا على الميت مع حجه، والمستناب ينويه بالعمرة.
وهذا فيه إشكال ظاهر؛ من جهة أن العمرة يبعد أن تسد مسد الحج.
وذكر المراوزة مسلكاً آخر، فقالوا: المستناب يُحرم بالحج إحراماً ناقصاً، وزعموا أن تجويز الاستنابة لا يطَّرد إلاّ على تجويز ذلك، ثم هؤلاء قالوا: الإحرام بالحج إنما يمتنع في غير أشهر الحج إذا كان إحراماً تامّاً، فأما الإحرام الناقص، فلا امتناع فيه. وهذا كما أن الإحرام الناقص يبقى دائماً مع انقضاء أشهر الحج، فتقدير الابتداء على النقصان كتقدير الدوام.
ثم من سلك مسلك العراقيين، ذهب إلى أن المستناب المعتمرَ، لا يبيت ولا يرمي، ولا يأتي بشيء من مناسك منى؛ فإنها أتباعُ انتهاء الحج. والعمرة لا تقتضي شيئاً من ذلك.
ومن قال من المراوزة: إن المستناب يُحرم إحراماً ناقصاًً ببقية الحج، فالمستناب يأتي بمناسك منى؛ فإنه في الحج. وذكر هؤلاء أنه لو مات الحاج بعد أن تحلل أحدَ التحللين، فالمستناب يأتي بإحرامٍ حُكْمه أن لا يَمنَع اللُّبسَ والقَلْمَ على التفصيل المذكور.
وهذا جارٍ على قياسهم.
2763- ولو مات الحاج بعد التحللين، فلست أرى على قياسِ المراوزة وجهاً لجواز الاستنابة في المناسك الواقعة وراء التحللين؛ فإن ذلك لا يتأتى إلاّ ممن سبق منه إحرام، ثم هذه المناسك تتبع الإحرام السابق. فأما الإتيان بها من غير تقدّم إحرامٍ، فبعيد. هذا ما أراه.
فالوجه الرجوع فيها إلى أبدالها، وهذا أولى فيها من اقتحام مُحالٍ، وليس كالطواف والسعي؛ فإنه لا بدل لهما، فاضطررنا إلى تصوير الإنابة.
فهذا منتهى قولنا في البناء على الحج.
2764- والآن نعود بعد نجازه إلى تفصيل القول في موت الأجير في أثناء الحج، فنقول: إن كانت الإجارة متعلقةً بعين الأجير، ومات الأجير في أثناء الحج، فالغرض مأخوذ من جواز البناء وامتناعه.
فإن قلنا: البناء ممكن، فيُتَصَوّر من المستأجِر أن يستأجر أجيراً ليأتي ببقية أعمال الحج، فإذا كان ذلك ممكناً، فعمل الأجير الأول غيرُ محبَط، فلا شك أنه يستحق قسطاً من الأجرة.
وإن قلنا: البناء غير ممكن، فهل يستحق ورثة الأجير قسطاً من الأجرة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنهم لا يستحقون، لأنه لم يَحْصُل للمستأجِر أمرٌ معتدٌّ به، وما جاء به الأجير قد حَبِط، وسقط أثره.
والقول الثاني- إنه يستحق قسطاً من الأجرة، لإتيانه ببعض العمل المقصود، وقد فعل الأجير ما في وسعه.
التفريع:
2765- إن قلنا: لا يستحق شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق، ففي كيفية التوزيع وجهان:
أحدهما: أن التوزيع يقع من الإحرام إلى حيث انتهى، ولا نُدخل السَّفرة في الاعتبار. والوجه الثاني- أنا نُدخلها في الاعتبار؛ فيكثر على هذا التقديرِ المستحقُّ.
هذا والإجارة على العين.
2766- فأما إذا كانت الإجارة واردةً على ذمة الأجير، فإذا مات في أثناء الحج، فلا تنقطع عُهدة الإجارة عن تركته. فإن قلنا بالبناء، فورثة الأجير يستنيبون من يتمّم الحج، وإذا تم، استحقوا الأجرة المسماة على المستأجِر.
وإن قلنا: لا بناء، فقد حبط عمل الأجير، وعليهم أن يحصّلوا حجةً عن المستأجِر من تركته؛ فإن الحج دينٌ في ذمته، والديون مقدَّمةٌ على الميراث، وحقوق الورثة. وكل ما ذكرناه فيه إذا مات الأجير بعد الشروع في الحج.
وقد ذكر صاحب التقريب أنا لو فرضنا الموت قبل الوقوف، فإذا استأجرنا أجيراً ليحرم، ويقف، فهذا ليس بناءً على إحرام الأجير، ولكنه إحرام على التمام، مبتدأ.
وإن وقع الموت بعد الوقوف؛ فإذ ذاك يتصور البناء.
وهذا وجه مزيف، وهو بالعكس أولى؛ فإن الإحرام قبل الوقوف إحرامٌ في أشهر الحج، وهو صحيح، والإحرام بعد فوات الوقوف واقعٌ في الخبط الذي ذكرناه، بين العراقيين والمراوزة.
2767- فأما إذا مات الأجير قبل التلبس بالحج، فهل يستحق الأجير شيئاً، على مقابلة نَصَبه في قطع المسافة؟
إن قلنا في التفاصيل السابقة: لا تُدرج المسافة في الاعتبار، إذا وقع الموتُ بعد الشروع في الحج، فلأن لا تعتبر المسافة قبل الشروع في الحج أولى، ولا يستحق الأجير شيئاً إذا مات قبل الإحرام.
وإن قلنا: المسافة مندرجة في الاعتبار في حق الشارع في الحج، فهل تعتبر في حق من مات قبل الشروع في الحج؟ المذهب أنه لا تعتبر، ولا شيء للأجير.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً: أنه يستحق الأجرة بقدره حتى لا يحبَطَ عملُه. ثم لا يخفى سبيلُ التوزيع إذا كنا نعتبر المسافة.
وحاصل القول في هذا راجعٌ إلى أن قطعَ المسافة ذريعةٌ إلى الحج، فإن اتصل بالحج، فقد وقعت المسافة ذريعة فاختلف الأصحاب في أن الذريعة هل تعتبر كما تقدم. فأما إذا فُرض الموتُ قبل ملابسة الإحرام، فقد ضعف تقدير المسافة ذريعةً؛ من حيث لم تُفضِ إلى المقصود.
وبالجملة في الاستئجار على الحج نوعُ مضاهاة للجعالة؛ من جهة كون العاقبة مَغيبَةً، والمسافةُ ليست مقصودة، ولابد منها، وكأنها إذا قطعت، ثم وقع الموت يضاهي قطعُها أعمالَ المقارِض، إذا لم تتصل بربح. وهذا نجاز الفصل.
الفصل الرابع
في أحكام الإجارة
2768- ومقصوده الكلام في موافقة الأجير المستأجِر في الجهة المعينة لأداء النسك، وفي مخالفته له، فنقول:
إذا استأجر من يقرُن عنه، فقَرَن، فقد وفّى وأدّى ما استؤجر له على الوفاق، فيستحق تمام الأجرة بلا خلاف. واختلف الأصحاب في أن دم القران على من؟ فذهب الأكثرون إلى أنه على المستأجر؛ فإن القِران انصرف إليه بإذنه، فكأنه القارن بنفسه.
ومن أصحابنا من قال: الدم على الأجير؛ فإنه تتمة القِران، وقد التزم، أن يقرُن، فَلْيَفِ بتمامه، ثم سواء قلنا: الدم على المستأجر، أو قلنا: هو على الأجِير، فأجرته ثابتة؛ من جهة امتثاله الأمر.
2769- ولو استأجره ليُفرِد، فقرن، وقع الحج والعمرة عن المستأجر اتفاقاً.
فإن قيل: لِمَ كان كذلك؟ وما روعي في أصله الإذن والأمرُ، روعي في تفصيله ذلك أيضاً، والذي جاء به الأجير ليس ما أمر به المستأجر؟ قلنا: إذا كان المرء يحج، ويعتمر عن نفسه، فهو منهيّ عن ارتكاب المحظورات، مأمور بإقامة الأبعاض وتأديتِها، من جهة الشارع، فلو خالف النهي والأمر، ولم يأت بمفسد، وقع النسكان موقعهما؛ وبرئت الذمة منهما، ثم الشرع متبع فيما يوجَب ويستحب من جبران، فجرى مخالفةُ الأجير المستأجِر هذا المجرى، مع تحصيل أصل النسكين.
وهذا يتم بلطيفةٍ فائقة في الفقه: وهي أن المستأجِر ليس يحصّل الحج لنفسه، وإنما يحصلُه ليقع لله تعالى، فجرت مخالفةُ الأجير مجرى مخالفة الشرع.
فإذا تمهد هذا، قلنا: بين الإفراد والقِران تفاوت بيّن: في الفعل، والميقات، فإذا استأجره ليُفرد، فقرن، فقد ترك مزيداً مستدعى منه، فهل يحط من أجرته؟ القول في ذلك كالقول فيه إذا أساء الأجير وجاوز الميقات، وقد تفصّل المذهب في هذا النوع على أحسن مساق.
2770- ولو أمره بالقِران، فتمتع، ففي القِران نقصان في الأفعال وإتيان بالحج من الميقات الأقصى، وفي التمتع كمالٌ في الأفعال، ونقصان في الميقات، فمن أصحابنا من قال: المأمور بالقِران إذا تمتع، فهو كما لو قرن لتقارب الجهتين، فكأنه لم يخالف. ومنهم من جعله مخالفاً، وهو ظاهر القياس.
فإن لم نجعله مخالفاً، فلا كلام، وفي وجوب الدم الخلاف المقدم: ففي وجهٍ هو على المستأجر، وفي وجهٍ هو على الأجير، كما لو استأجره للقِران، فقرن.
فإن جعلناه مخالفاً، فالدم على الأجير وجهاً واحداً، ثم الزيادة التي أتى بها في تمتعه لا تحسب له في تكميل أجْره؛ فإنه لم يكن مأموراً فيه؛ فنجعل المتمتع كالمسيء، وقد مضى الخلاف في أنّا هل نحط من أصل أجر المسيء.
فإن قيل: إنما يفرض الحط على القول به إذا كان بين الفعل المطلوب وبين الذي يأتي به الأجير تفاوت، كما قدمناه في المسيء، ولا تفاوت بين فعلي القارن والمتمتع، وقد يكون فعل المتمتع أكمل أجراً، قلنا: نحط ما في جهة التمتع من مزيد في العمل، ثم نعتبر وراء ذلك الحط تقديراً للتفاوت المقدر، فيتفاوت الأمران. فإن قيل: لو لم يظهر تفاوت مع ما ذكرتموه؟ قلنا: فلا حطَّ إذا كان كذلك.
الفصل الخامس
في إفساد الأجير الحجَّ بالجماع، مع ذِكْر ما يتصل بالإفساد في معناه
2771- فنقول: إذا شرع المستأجر في الحج الذي استؤجر عليه، ثم أفسده بالجماع، انقلب الحج الفاسد إلى الأجير، ولم يكن بعد الفساد مضافاً إلى المستأجر أصلاً؛ فإن الحجة المطلوبة لا تحصل بالحجة الفاسدة، وليس كما إذا ارتكب الأجير محظوراتٍ غيرِ مفسدة؛ فإن الاعتداد يقع بمثل هذا الحج شرعاً، فوقع الاعتداد به في طلب المستأجِر، والحج لله تعالى، وإن اختلفت الإضافات. والحجةُ الفاسدة لا تبرئ ذمةً، ولا تقع موقع الاعتداد. ثم إذا انقلب الحج بالفساد إلى الأجير، فيلزمه قضاؤها.
2772- والقول بعد ذلك يستدعي الفصلَ بين أن تكون الإجارة واردةً على عين الأجير، وبين أن تكون واردةً على ذمته، وكان قد لابس الحج بنفسه، لتبرأ ذمته.
فإن كانت الإجارة واردةً على عين الأجير، فإذا فسدت الحَجّة، وانقلبت إلى الأجير، انفسخت الإجارة ولا يتصور في إجارة العين إقامةُ مدةٍ مقام مدة، حتى يقال: إن فسدت الحجة في هذه السنة، فالأجير يأتي بحجة في السنة القابلة.
فلا وجه إلا انبتات الإجارة وارتداد الأجرة.
فأما إذا كانت الإجارة واردةً على الذمة، ثم فسدت الحجة على الأجير فلا شك أن القضاء يلزمُه، فإذا أتى بالحج في قابلٍ، فهل نقول: هذا القضاء يقع عن المستأجِر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يقع عنه؛ فإن القضاء عمّن الحجُّ الفاسد عنه، وقد تحقق انصراف الحج الفاسد إلى الأجير، فليكن القضاء عنه. ثم في ذمته حَجةٌ عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: القضاء ينصرف إلى المستأجِر، وكأن الحجة الفاسدة لم تسبق، ولا سبيل إلى إنكار انعقاد أصل الحج الأول عن المستأجِر، فليرتبط القضاء به، حتى نقدِّرَكأن الفساد لم يتخلل.
والأقيس الوجه الأول.
2773- ومما يجب التنبه له إذا انتهى الكلام إلي هذا المنتهى أن من كان في ذمته حجة واجبة لله تعالى، فلا يتصوّر منه التطوع بالحج، على مذهب الشافعي، ولو فرض قصد التطوع، لانصرف الحج المنعقد إلى الجهة المستحَقة.
وكان شيخي يقول: الأجير الذي في ذمته حجة مرسلة، لو نوى التطوع بحج، فالذي جاء به ينصرف إلى ما عليه من الحج لمستأجِره.
وهذا مما انفرد به، ولم يساعده عليه أحد، وذلك لأنا نقدم واجب الحج على نَفْله، لأمير يرجع إلى نفس الحج، مع بناء الأمر على تقديم الأوْلى فالأوْلى في مراتب الحج. والاستحقاقُ على الأجير ليس من خاصية الحج. ولو ألزم ذمته ما لا يلزم مثله، لكان حكم الوجوب فيه، كحكم الوجوب في الحج. والذي يوضح ذلك أن الحجة قد تكون تطوّعاً من المستأجِر-إذا جوزنا الاستئجار في حج التطوع- فلاح أن ذلك اللزوم ليس من قضايا الحج.
هذا قولنا في إقدام الأجير على المفسد.
2774- ومما نذكره متصلاً بذلك: أن الأجير لو صُدّ، وأُحصر؛ فتحلل، فالقول الوجيز فيه أن طريان الإحصار عليه، والإجارةُ واردةٌ على عينه، بمثابة طريان الموت، وقد سبق القول فيه مفصلاً، في البناء وإمكانه، إن تُصوّر البناء، وانجلى الحصر.
ويعود حكم استحقاق شيء من الأجرة، والقول الجامع ما ذكرناه من تنزيل الإحصار، والتحللِ الطارئ بسببه، منزلة طريان الموت.
2775- ولو لابس الأجير الحجَّ، ففاته الوقوفُ، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الفوات ينزل منزلة الإفساد، والسبب فيه أنه يوجب القضاء، كما يوجبه الإفساد، ويخرج الحج بالفوات عن حقيقته، وإن كان لا يتصف بالفساد.
فالترتيب إذاً كالترتيب، ولا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على مقابلة عمله قبل الفوات.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً في إجراء الخلاف في إثبات قسطٍ من الأجرة على مقابلة ما جرى من العمل، قبل الفوات. وهذا بعحِد لا أصل له.
وانحصر القول وراء ذلك في محظورٍ لا يوجب القضاء، وقد مضى منقسماً إلى ترك المأمور، وارتكاب المنهي، وإلى محظور يفسد كالوقاع. وقد أجرينا الكلام في الموت وحكمِه، ثم ألحقنا آخراً الإحصارَ بالموتِ، والفواتَ بالإفساد.
الفصل السادس
يجمع مسائل متفرقة شذت عن ربط الأصول
2776- منها أن من استأجر أجيراً ليحج عنه، فقرن الأجير، ونوى بالعمرة نفسَه، وبالحج مستأجِره.
أما العمرة، فإنها تنصرف إلى الأجير؛ فإنه نوى نفسَه بها، وما استؤجر عليها.
وأما الحج، فالأصح أنه ينصرف إلى المستأجِر.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنه ينصرف إلى الأجير؛ فإن الإحرام في حق القارن متّحد، لا يقبل الانقسام، فيستحيل أن يتعلق بعضُ حكمه بالأجير، وبعضه بالمستأجر، ويستحيل انصرافُ العمرة إلى المستأجر.
والأصح الوجه الأول؛ فإنه إذا لم يمتنع اشتمال الإحرام على نسكين، لم يمتنع تعدد مَصْرِفهما. ولو استاجره زيد ليحج عنه، واستأجره عمرو ليعتمر عنه، فقرن ونوى بالحج زيداً، وبالعمرة عمراً، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن النسكين مصروفان إلى المستأجرَيْن.
والثاني: أن ذلك ممتنع، لاتحاد الإحرام، ثم إذا امتنع انصراف النسكين إلى المستأجرين، فلا وجه إلا انصرافُهما إلى الأجير.
2777- ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجره زيدٌ على أن يحج عنه، فقرن ونوى بالحج والعمرة جميعاً زيداً، فقد زاده نسكاً، لم يستأجره عليه.
واختلف نص الشافعي في ذلك، فمن أصحابنا من قال في المسألة قولان:
أحدهما- أن العمرة تنصرف إلى المستأجِر، ويتنزل ما زاده الأجير منزلةَ ما لو قال الرجل لوكِيله بع عبدي هذا بألف درهم، فباعه بألفين، فالبيع صحيح، والثمن بكماله يدخل في ملك الموكِّل بالبيع.
والقول الثاني- أن العمرة لا تقع للمستأجر؛ فإنه لم يتعرض لها، وليست من جنس الحج أيضاًً على الإطلاق. ومن قال بالأول ينفصل عن هذا، ويقول: أعمال القارن لا تزيد على أعمال من يُفرد حجَّه، وكأن العمرة صفةٌ وفضيلة للحج.
والقولان يقربان من القولين فيه إذا سلم الرجل ديناراً إلى وكيله، وأمره أن يشتريَ به شاة وصفها، فاشترى الوكيل شاتين بالدينار، كل واحدة على نعت الموكِّل. وفي ذلك اختلاف قولٍ سيأتي إن شاء الله تعالى، في كتاب الوكالة.
ومن أصحابنا من قال: النصان في العمرة منزلان على حالين: حيث قال: "لا تنصرف العمرة إلى المستأجِر"، أراد بذلك إذا لم يجر منه ما يتضمن رغبةً في العمرة.
وحيث قال: "تنصرف العمرة إليه"، أراد إذا كان رغب فيها، فامتنع الأجير ووقع التقارّ على الحج لإباء الأجير، لا لانصراف المستأجِر عن إرادة العمرة. فإذا بدا للأجير والحالةُ هذه أن يحصّل العمرة له، فإنها تنصرف إلى المستأجِر.
ثم حيث نقول: تنصرف العمرة إلى المستأجر، فلا كلام، وحيث نقول: إنها تنصرف إلى الأجير، فيعود الخلاف في أن نسكي القِران هل يجوز أن يتعدد مصرفاهما؟ وقد مضى هذا.
2778- ومن المسائل أنا إذا جوزنا الاستئجار على التطوّع، فلو استأجر رجلٌ طائفةً من الأجراء حتى يحصّلوا له حِجَجاً في سنةٍ واحدة، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: تصح الحجج، وتنصرف إلى المستأجِر. ومنهم من قال: لا ينصرف إلى المستأجر أكثرُ من حجة واحدة، فإن سبقت واحدةٌ بالعقد، فهي المنصرفةُ إليه، وإن وقع العقد بجميعها معاً، فليس بعضها أولى من بعض، فلا ينصرف شيء منها إليه.
وقد يختبط فكر الفقيه في الإجارات، وليس ذلك من غرضنا؛ فإن الإذن كافٍ في هذا الباب.
ومن منع انصراف حجتين إليه، فصاعداً، اعتل بأن ذلك لا يتصوّر منه، على حكم المباشرة، وهي الأصل، والنيابة في حكم البدل؛ إذ لا مصير إليها إلا مع العجز عن الأصل.
والأصح انصراف الحج إليه، وإنما يظهر الخلاف فيه إذا استأجر في سنة واحدة أجيرين بحجتين، وما كان حج حجّ الإسلام، فلو صرفنا الحجتين إليه فإحداهما تطوّع، وحكم التطوع أن يستأخر عن الفرض.
ويجوز أن يقال: حكمه أن لا يتقدم على الفرض، ولا يضر أن يجامعه، إذا تُصوِّر الأمر على ما ذكرناه.
2779- ومن المسائل مسألة نقلها المزني عن الشافعي في المنثور، فقال: إذا قال المعضوب: من حج عنّي، فله مائة دينار، فإذا حج عنه إنسان، وقع الحج عن القائل، واستحق من حج عليه المائة. ولما نقل المزني هذا، خالفه، وبالغ في تزييفه، وقال: كيف تصح هذه المعاملة، مع إمكان الإجارة، ومعلوم أن الجعالة إنما تثبت للضرورة، في مثل رد الأُبّاق من العبيد، والشرّاد من الدواب؛ فإن الضبط غير ممكن في هذه المواضع، فأثبت الشرع الجعالة مع الجهالة على حسب مسيس الحاجة. وما ذكره المزني ظاهرٌ متجه.
وخرّج أصحابنا من نص الشافعي تجويزَ الجعالة في كل موضعٍ تصح الإجارةُ فيه، حتى لو قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فمن خاطه استحق الدرهم. وسأذكر هذا مستقصىً في كتاب الإجارة.
ثم وإن مال معظم الأصحاب إلى ما ذكره المزني من فساد هذه المعاملة، قَضَوْا بأن أثر فسادها في سقوط المسمى، فأما إذا حج إنسان عنه، وقد ثبت منه هذا القول، فالحج ينصرف إليه، وللحاج أجرُ مثله، وطردوا هذا فيه، إذا قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فإذا خاطه إنسان، استحق أجرَ المثل، وهذا يَقْوَى بشيء، وهو أن الإذن المجرد كافٍ في انصراف الحج إلى الآذن، من غير ذكر عِوضٍ على الصحة. والذي ذكره إذنٌ.
وقال شيخي أبو محمد: لو قال وكلت كلَّ من أراد أن يبيع داري هذه، فالتوكيل على هذا الوجه باطل عند القفال، على ما سنذكر أصل ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فلا يمتنع أن يحكم بفساد الإذن إذا قال: من حج عني؛ فإن الإذن على هذا الوجه ليس موجهاً على شخص، ولا يتصور توجّه الإذن على جمع، والمراد واحد منهم.
2780- ولو استأجر رجلٌ رجلاً ليحج عنه بأجرةٍ فاسدة، أو فسدت الإجارة بشرطٍ فيها يتضمن إفساد العوض، فالذي رأيته للأصحاب القطعُ بأن المستأجَر إذا حج عن مستأجِره على حكم هذه الإجارة، انصرف الحج إلى المستأجِر. وهذا حسنٌ متجه، لصحة الإذن، وهو بمثابة التوكيل بالبيع، مع شرط عوض للوكيل، فالإذن صحيح، والعوض فاسد، وهذا يظهر جريانه فيما يكتفى فيه بالإذن المجرد، والحج كذلك.
الفصل السابع
في جريان العقد على خلاف اعتقاد العامل
2781- وذلك إذا استأجر رجلاً ليحج عنه، فأحرم عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، على ظن أنه ينصرف إليه، ثم تمادى في الأفعال مستديماً هذا الظن، فالحج ينصرف إلى المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى قولين: أصحهما- أنه يستحق لحصول الحج له، وصحة العقد في الابتداء، فلا يبقى إلا اعتقادٌ فاسد، والاعتقاد الفاسد لا يغير حكمَ العوض.
وبنى أئمتنا هذا على ما إذا دفع ثوباً إلى صبّاغ ليصبغه، فجحد الثوبَ، وصمم عزمه على الاستبداد بالثوب، ثم إنه صبغه لنفسه، ثم بداً له أن يردّه، فهل يستحق الأجرة على المالك؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا استأجر رجلاً ليعمل في المعدِن، وجعل أجره ما يستفيد من النَّيْل، وكان عمله لا يُصلح المعدن، وإنما الغرض منه النَّيل فحسب، وليقع الفرض في معدنٍ مملوك، فالنيل لمالك المعدِن. وفي استحقاق العامل الأجرة وجهان:
أحدهما: أنه يستحقها، لوقوع العمل لمالكِ المعدن.
والثاني: لا يستحقها، لأنه يقصد بالعمل نفسَه، وسيأتي ذلك في موضعه مستقصًى إن شاء الله تعالى.
الفصل الثامن
2782- مضمونه يتعلق بطرف من الكلام في الوصايا، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد رأيت إيراد المقاصدِ منه في مسائلَ مرسلةٍ، فنقول:
2783- إذا استقر على الرجل حجةُ الإسلام، والجريانُ على القول الأصح في أن الحج دَيْنٌ من رأس المال، أوصى به، أو لم يُوصِ.
فإذا قال: أحجّوا عني فلاناً بمائة-والحج حجُّ الإسلام- فالقول في ذلك ينقسم: فإن كان المائة أجرَ مثله، ولم نجد من يحج عنه بأقلّ من ذلك، واعتقدنا هذا المبلغ أقلَّ أجرة المثل، فتنفذ وصيته؛ فإنا لا ننكر أن يكون له غرضٌ فيمن عيّنه، في تقواه أو ورعِه، ووقوع دعائه موقع الاستجابة في تلك المشاعر المعظمة. هذا غرض بيّن، فَلْتُنَفَّذ الوصية له.
ولو وجد الورثة من يحج عنه بخمسين، وكانت أجرة مثل ذلك الذي يحج خمسين، من غير احتياج إلى فرض مسامحة، فالدَّين المقدم على الوصايا الخمسون، لا غير؛ فإن مقدار الدين من الحج أقل ما يجزىء. ولهذا ينزلّ الحج المحكوم بكونه ديناً على الميقات، كما قدمنا ذكرَه في أول كتاب الحج.
ولكن إذا كان الثلث يفي بالخمسين الزائدة بعد حَطّ المقدار الذي لابد منه، فقد اختلف أصحابنا في أن مَن أجرته مائة، إذا كان أجنبياً وطلب أن يحج بالمائة، وقال: قدّروا الخمسين وصيةً لي. فهل يجاب إلى ذلك والثلث وافٍ؟ فمنهم من قال: يجاب إليه؛ تحقيقاً لغرض الميت، فربما كان تَوسّمَ فيه مقصوداً. وقد ذكرنا أن مبالغ الأُجَرِ إذا تساوت، يجب تعيين من عيّنه إذا قبل، فقد التحق هذا بما يجب تنفيذه على الجملة، فلينفذ في الصورة التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قال: لا يجاب إلى ذلك؛ إذ لا غرض له فيه، فإن الخمسين قدرُ أجرته، فلا نكلف الورثةَ بذلَ مزيد مال. وليس الآخذ متبرَّعاً عليه، وهو بمثابة ما لو قال: بيعوا داري من فلان، فهذا لا يعد من الوصايا. نعم إذا لم يحتج الورثة إلى بذل مال، فيجوز التعويل على غرض الميت، فأما مقابلة غرضه بمالٍ، وليس المعيّن متبرَّعاً عليه، فلا.
2784- وعلى هذا خرّج الأئمة أن المعيّن لو كان وارثاً، فكيف السبيل فيه؟ فإن قلنا: لا يجاب الأجنبي إلى ذلك، فلا يجاب الوارث إليه.
وإن قلنا: يجاب الأجنبي إليه، فلا شك أن الخمسين بالإضافة إلى التركة كالوصية؛ فإن الاكتفاء واقعٌ بالخمسين، ولكن هل نجعله وصية في حكم التعيين، أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه وإن كان وصيةً بالإضافة إلى التركة، فليس وصيةً بالإضافة إلى هذا المعيّن؛ من جهة أنه لا يستفيد بأخذ المائة مزيداً؛ فإن ما يبذله من منفعة نفسه لا ينقص عما يأخذه، فعلى هذا ينفذ هذا في حق الورثة.
والوجه الثاني- أنه وصية في حكم التعيين؛ فإن الأمر في ذلك لا يتبعض، فإذا كان الشيء وصية، بالإضافة إلى التركة، فليكن وصية في كل حكم.
وذكر العراقيون ما إذا ضُمَّ إلى ما ذكرناه، كان وجهاً ثالثاً، فقالوا: إذا قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يذكر المقدار، وكان أجر مثل من عيّنه مائة، ونحن نجد من يحج بخمسين، فالخمسون الزائدة في حق المعيّن تبرع. فكأنهم يبغون الفرق بين هذا وبين التنصيص على المائة؛ من جهة أنه لما أطلق إحجاج من عيّنه، يجوز أن يُحْمَل ذلك على اكتفائه بالخمسين التي توجد الحجة بها، فينتظم من هذا الفرقُ بين الإطلاق والتقييد بالمائة. ولا فقه فيما ذكروه.
وهذا إذا ذكر المائةَ وعيّن شخصاً، أو أطلق تعيينه، ونحن نجد مَنْ أجرتُه خمسون.
2785- فأما إذا كان لا يوجد من أجرتُه أقل من المائة، ولكن وجدنا مسامحاً أجرتُه مائة، وهو يقنع بالخمسين، فهذه الصورة فيها تردّدٌ، من وجه آخر، ففي أصحابنا من يقول: الدَّينيّة في المائة الكاملة، وتحصيلُ غرضِ الميت حتمٌ فيمن عيّنه؛ وذلك أنه قد كان لا يرضى في حياته بأنْ يُتبرّع عليه وهذا المعنى لا يبعد استدامته بعد وفاته. هذا وجهٌ. وإذا كانت المائة كلُّها ديناً بالإضافة إلى التركة، فلا تكون وصية بالإضافة إلى المعيّن. والوجه الثاني- وهو الأصح أن الدينيّة لا تتحقق إلا في الخمسين؛ فإن الورثة يزعمون أن الغرض تحصيلُ الحج وإبراءُ ذمة الميت عنه، ولئن كان يستشعر من ثقل المنة شيئاً في حياته، فلا معنى لذلك بعد الموت. فإذا انحصرت الدينية في الخمسين، عاد تفريع القول في المائة إلى ما قدمناه في القسم الأول، وهو إذا وجدنا مَن أجرتُه خمسون.
ولو وجدنا متبرعاً بالحج من غير مال، فالخلاف يعود في المائة كلها.
2786- وكان الشيخ أبو محمد يُجري في أثناء الكلام مسألة، وهي أن من أوصى إلى إنسان وصيةً ونصَّبه ناظراً في حق أطفالٍ، وذكر له مقداراً في مقابلة عمله، لا يزيد على أجر مثله، فلو وجد الوالي متبرّعاً بالنظر، لم يجز له إقامتُه وصرفُ الوصي بالجُعل.
وهذا لا أراه كذلك. نعم، إذا نصّبَ الأب وصيّاً من غير جُعل، وكان عَدلاً ذا كفاية، فلا استبدال به؛ فإن الشرع أقام الوصيَّ مقام الأب الموصي في نظره، فكما لا يتسلط الوالي على مزاحمة الأب في نظره، فكذلك لا يستبدل بمنصوبه.
هذا إذا لم يكن قدّر له شيئاً، فإن قدّر له مالاً، ووفى الثلثُ به، فلا شك أنه لا يردّ؛ فإنه لو تبرع بمقدار الثلث عليه من غير عمل منه، لكان منفذاً. فأما إذا كان المسمى له زائداً على الثلث، ووجد الإمام متبرِّعاً، فالظاهر عندي القطعُ، بصرف ذلك الغُرم عن الأطفال. فإن رضي الوصي بالعمل دونه، فلا استبدال. وإن أبى أن يعمل، أقام الوالي ناظراً.
وحقائق هذه الأطراف يوضّحها كتاب الوصايا.
2787- ومن مسائل الفصل: أنه لو أوصى بحج التطوّع، ففي صحة الوصية قولان، ذكرناهما في أول الكتاب، فإن صححنا الوصية، فلو عيّن في الوصية بحج التطوع شخصاً، وقال: أحجّوا عني فلاناً، ووَفَّى الثلثُ، فيجب رعايةُ تعيينه، ورأيت الطرق متفقةً على أن المال المذكور إذا كان لا يزيد على أجر المثل، لا يكون وصيةً في حق المعيّن، حتى لو كان وارثاً، لزم التنفيذ. وليس يبعد تخريج احتمال الوصية في حق المعيّن، إذا كان بَذْلُ المال في نفسه وصيةً، كما قدمناه في حجة الإسلام، إذا رُبط بمعيّن أجرته مائة، ونحن نجد مَنْ أجرته خمسون.
ولو عيّن في الوصية بحج التطوّع شخصاً، كما صورناه، فأبى ذلك المعيّن أن يحج، فهل يُصرف المال إلى آخر؟ أم نقضي ببطلان الوصية، ورجوع المال إلى التركة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا لا نبطلها؛ فإن الغرض أصلُ الحج، والتعيين في حكم التفصيل له، فينبغي ألا يَبطُلَ الأصل بتعذرٍ في التفصيل.
ومن أصحابنا من أبطل الوصية، وقاس على ما لو قال: أعتقوا عني العبد الفلاني، ثم عسر الوصول إليه، فالوصية تبطل، ولا يصرف المال المبذول إلى عبدٍ آخر نشتريه ونعتقه. والقائل الأول ينفصل، فيقول: للعبد غرضٌ ظاهر في العتق، فكان في حكم الموصى له به، ولا غرض للذي يحج من غير مزيد على أجرة المثل.
2788- ومن مسائل الفصل أنه لو قال: أحجوا عني بألفٍ، وقيّد بالحجة الواحدة، فلم نجد من أجرة مثله ألف، بل كان أقصى أجرٍ ينحط، عن هذا المبلغ.
في المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني:
أحدهما: أن الزيادة مردودةٌ؛ فإنها وصيّة لا لمعين، ولا لجهةٍ، فترد.
والثاني: أن الألف تصرف إذا وفى الثلث، إلى شخص يتخيره الوارث، وتُجْعَل الزيادةُ وصيةً له.
2789- ومن مسائل الفصل: أنه إذا قال: أحجوا عنّي فلاناً بألف، وكان الألف زائداً على أجر مثله، فلا شك أن الزائد وصيةٌ له. فلو قال: أحجوا عن المتوفَّى غيري بأجرِ مثله، واصرفوا إليَّ الزيادةَ الفاضلةَ، لم نجبه إلى ذلك؛ فإنه إنما أوصى له بها على شرط أن يحج عنه، فلا استحقاق دون الوفاء بالشروط.
2790- ومن المسائل مسألة حكاها الصيدلاني في وقائع المفتين بمَرو، وهي أن الرجل إذا قال: اشتروا عشرة آصُع من البرّ بمائة درهم، وتصدقوا بها، وكنا نجد ذلك القدرَ من الطعام بخمسين. قال: اختلف الأئمة: فمنهم من قال: نشتري الآصع بما نجد، ونرد الزيادة إلى الورثة، ومنهم من قال: نشتري بالمائة عشرة آصع، وتكون الزيادة وصية لبائع الحنطة. ومنهم من قال: نشتري بتلك الزيادة حنطة بسعر الوقت، ونتصدق به، والمسألة محتملة.