فصل: باب: حصر العبد يحرم بغير إذن سيده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب




.باب: حصر العبد يحرم بغير إذن سيده:

2853- العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، انعقد إحرامه، وأطلق أصحابنا أن للسيد أن يحلله، وسنذكر شرح ذلك.
ولو أحرم العبد بإذن مولاه، ثم بدا للسيد أن يمنعه عن المضي في إحرامه، لم يكن له ذلك عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
2854- والزوجة المستطيعة إذا أرادت أن تحج حجة الإسلام من غير إذن زوجها، فهل للزوج منعُها؟ فعلى قولين:
أحدهما: له منعها؛ فإن حقه عليها ناجز على الفور، والحج على التراخي، فلا يجوز تقديم ما مبناه على التأخير على حقٍّ مبناه على الفور.
والقول الثاني- ليس للزوج منعُها؛ فإنا إذا سلطناه على ذلك، أفضى إلى خلو عمرها عن الحج؛ فإنها مهما تهم به، منعها الزوج، ولا يجوز إخراج الحج عن العمر، وذكر الأئمة وجهين في أن الزوج لو أراد أن يمنع زوجته، عَن إقامة فريضة الصلاة في أول الوقت، فهل له ذلك؟ والحج أولى بأن لا يُمنع منه؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقةٍ في العادة وصدق رجاء، وما يناط بالعمر، فهو على إبهام. وقد ذكرنا هذا في كتاب الصلاة، ولهذا الفرقِ مال الفقهاء إلى أن من أخر الصلاة إلى وسط الوقت ومات، لم يلق الله عاصياً، على ظاهر
المذهب عندهم. ومن مات بعد استمرار الاستطاعة، ولم يحج، لقي الله عاصياً.
وفي هذا كلامُ يتعلق بالأصول، وليس من غرضنا ذكره الآن.
فإن قلنا: لا يملك الزوج منعَ المرأة من حج الإسلام وحملِها على تأخيره، فإذا أحرمت، لم يحللها.
وإن قلنا: يملك منعَها، فإذا أحرمت ملكَ تحليلَها.
هذا في فرض الإسلام.
2855- فأما حج التطوع، فليس للمرأة أن تخرج لأجله، وتترك حقوق الزوج الواجبة، بسبب التطوع، والزوجُ يمنعها لا محالة، فإن أحرمت، فهل يملك الزوج تحليلَها؟ قال الأئمة: في المسألة: قولان:
أحدهما: لا يملك، ووجهه أن الإحرام وإن كان تطوّعاً، فإذا تحقق الشروع فيه، لزم وتأكد، والتحق بالقول بترتيب الواجبات.
والرأي عندنا في هذا أن نقول: هي ممنوعة من الخروج، لتُحرم بحجة التطوع من ميقاتها، وإذا نجّزت الإحرام، فقولان، وفي منعها من الخروج لحج الإسلام قولان، فإن نجزت الإحرام بحجة الإسلام، ففي جواز التحليل قولان، مرتبان على المنع، فإن الإقدام على الإحرام على التراخي، فاتجه تقديم حق الزوج عليه لتنجّزه وتعجّله، وإذا لابست الإحرام، بطل معنى إمكان التأخير، وتعارض حق الله سبحانه وتعالى الناجز، وحق الزوج.
فهذا لابد من التنبه له.
ولكن تسليطَنا السيدَ على تحليل عبده المحرم بغير إذنه يقدح فيما أشرنا إليه بعضَ القدح.
2856- ونحن نذكر تفصيل المذهب في العبد. ثم ننعطف على ذكر الزوجة.
فأما العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فللسيد أن يمنعه من المضي في إحرامه وفاقاً، وأطلق أئمتنا تحليلَ السيد إياه، وهو مَجَازٌ بلا خلاف فيه؛ فإن التحلل لا يحصل إلاّ من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله، دون العبد لم يجد إليه سبيلاً عندنا. وقال أبو حنيفة: يقع التحليل بفعل من السيد: فإن أحرمت أمةٌ، وطئها السيد قاصداً تحليلها، فينحلّ الإحرام. وإن أحرم عبدٌ، طيَّبَه، أو حلق شعره، أو ألبسه مَخيطاً على قصد التحلل. وهذا سهوٌ عظيم.
واتفق الأئمة على أن التحلل يقع من جهة العبد، وليس للسيد إلا منعُه من المضي، واستخدامُه في الجهات التي كان يستخدمه فيها.
ثم إن أراد العبد التحلّلَ، وهو ممنوع من المضي بمولاه، تفرّع الأمر على تحلل الحرّ، فإن قلنا: إنه يتحلل من غير إراقةٍ، فالعبد بذلك أولى. وإن قلنا: لا يتحلل الحر إلا بإراقة الدم، وإن لم يجد الدم صابرَ إحرامَه إلى أن يجد، ففا حكم العبد؟.
اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن العبد يتحلل من غير دم، وليقع هذا التفريع على أن دم الإحصار لا بدل له، والعبد لا يملك، وإن ملك، فبهذا التصوير يظهر غرضُنا في تحقيق العسر.
وعنده اختلف الطرق، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتحلل، ولا يصابر الإحرامَ؛ فإن وجدان الدم في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر، ويربط الترتيب فيه، فيؤدي إلى عسرٍ لا يحتمل مثله في الشرع.
ومن أصحابنا من قال: يخرّج الأمر فيه على القولين المذكورين في الحر المعسر: فإن قلنا: إنه يصابر إحرامَه، صابر العبد إحرامَه، غيرَ أن المعسرَ ينتظر الغنى، والعبد ينتظر العتقَ. والأصح الطريقةُ الأولى.
ومن تمام القول في هذا أنا إذا قلنا: إن العبد يملك بالتمليك، فلو ملكه مولاه شاةً، وأذن له في صرفها إلى دم الإحصار، فليفعل، وليتحلل، على الترتيب المقدّم.
2857-و إذا اتصل الكلام بهذا، فلابد من ذكر جميع ما يتعلق به.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا تمتع العبد بإذن مولاه، وقلنا: إنه لا يملك بالتمليك، فلو مات العبد، وأخرج السيد عنه دماً، قال: وقع الدمُ موقعَه.
وهذا مشكلٌ، فإن الدم كان لا يقع الموقع في حياته، إذ التفريع على أنه لا يملك إذا مُلِّك، والموت يزيد في التصرفات عُسراً. ولكن لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النصَّ. وإذا لم نجد خلافاً ننقله، فأقصى ما نعوّل عليه احتمالٌ نذكره.
ومن أنكر احتمال خلاف النص، فقد جحد؛ فإن النافذ من الإنسان بعد وفاته على تقدير النفوذ عنه في حياته يقع، حتى كأن بقايا تصرفاته من آثار حياته.
ولكن الممكن في توجيه النص أن الميت يبعُد تمليكه حراً كان أو عبداً، ثم نَفَذَ التصرفُ عن الحر بلا خلاف، فيقع إخراج السيد عن عبده هذا الموقع، وهو من عبده على أخص الأسباب.
وهذا مشكل.
2858- وكل ما ذكرناه على أن دم الإحصار لا بدل له، فإن أثبتنا للدم بدلاً، فالقول في توقف تحلل العبد على البدل إذا كان صوماً، كالقول في الحر من غير فرق.
فهذا بيان ما أردناه.
ثم الكلام في الزوج والزوجة كالكلام في المولى والعبد، غير أن الزوجةَ الحرةَ يحصوّر منها التوصّل إلى الدم فيترتب أمرها على موجَب أمر المحصر الحرّ.
2859- وختامُ الكلام في ذلك كله، أنا إذا قلنا: الزوجة ممنوعة من المضي، وقد أحرمت، ثم لم نُعلِّق تحليلَها باختيار الزوج، وإنما ملكناه منعها من الخروج، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها؟ وكذلك القول في الأمة، قطج الصيدلاني جوابَه بأنه يستمتع بها، فإن كان مأثمٌ، فعليها.
وهذا فيه نظر، من جهة أن المُحرمة محرّمةٌ لحق الله تعالى. كالمعتدة...
.. فيحتمل أن يحرم على الزوج والسيد الاستمتاعُ، والقول في ذلك يطول، وسنذكر في ربع النكاح إن شاء الله تعالى تقسيمَ القول في الصفات المحرِّمة، وكونَها في المُقْدم أو في المحلّ. وقد نجز بذلك الكلام في حصر العبد والزوجة
باب ما جاء في الأيام المعلومات والمعدودات
"........"
باب نذر الهدي
"........"
2860-هذا الباب له اختصاص بأحكام الضحايا، ولو خضنا فيها على شرط هذا الكتاب، لاحتجنا إلى ذكر معظم أحكام كتابها. وشرطنا في هذا المجموع اجتناب المكررات جهدنا. فالذي نراه ألا نذكر في هذا الباب إلا ما نرى له تعلّقاً بالمناسك.
فأما الهدي مطلقاً، وتبرراً، وملتزَماً، ومعيناً، فلا تعلّق له به. والقول في التطوّع من الضحايا، وما يحل الأكل منه، وما لا يحل، وما يختلف فيه، فالتفصيل في تعين الحيوان، وثبوت أحكام التعين. كل ذلك أصول من كتاب الضحايا، فنقتصر على ما نرى له اختصاصاً بالمناسك، وتعلُّقاً به، فنقول:
2861- من نذر لله هدياً، فالملتزَم بهذا اللفظ فيه قولان:
أحدهما: أنه منزل على أقل دم مجزىء، وهو دم شاة على الصفات المرعية فيها.
والثاني: أن الملتزَمَ التصدّقُ بأقل ما يسمى مالاً؛ فإن الهدي من الهدية، وهي عطية، وذلك يبتني على أن مطلق النذر يحمل على أقل موجَبٍ في اللسان، أو على مأخذ الشريعة.
وكان شيخي يقول: يجب تبليغُ الملتزَم مكةَ؛ فإن الهدي مشعر به. ثم قال أئمتنا على قول التبليغ: إن قال: جعلت هذا المال هدياً، فمؤنة تبليغه من عينه، وإن قال: لله عليّ أن أهدي هذا، فيلزمه مؤنةُ التبليغ، ولْيوصِّل ذلك المالَ بجملته إلى مكة، وهذا رمز أيضاًً، وسأعود إليه إن شاء الله تعالى، في كتاب النذور على أبلغ وجهٍ في البيان.
2862- ثم قال: إن كان الهدي بدنةً أو بقرة، قلّدها نعلين، وأشعرها، فالتقليد والإشعار في البُدن والبقر مشروعان، ولا يتأتى في الشاة إن استاقها إلا التقليد، ثم نُؤثر له التصدقَ بجِلالها وما قُلّدت إذا بلغ المحِل. وسيعود هذا.
2863- ثم قال: يجوز أن يشترك السبعة في البدنة، وهذا من خصائص أحكام الضحايا، وذكر القفال فيه كلاماً حسناً يتعلق بما نحن فيه، فقال: السُّبُع من البدنة في القرابين والهدايا يحل محلّ الشاة إلا في حكم واحد وهو أنا إذا أوجبنا في الضبع شاةً، لم يقم سُبُع بدنة مقامها؛ فإن المرعي في جزاء الصيد المِثْليّة الخِلْقية، ولهذا يُجزئ في ذلك الباب ما يخالف قياس الضحايا؛ فإنا نخرج الصغار، والمعيبة، والعشر من بدنة والجزء من الشاة.
وهذه الهدايا ما كان منها تطوّعاً، أُكل منه.
2864- والتفصيل فيما يحل الأكل منه وما لا يحل من الهدايا، والنذور، والضحايا يأتي مفصلاً مستقصىً في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.
وغرض هذا الفصل الكلام فيما يتعلق بالناسك.
فإذا ساق هدياً فمحله الحرم، وظاهر المذهب أنه يجوز الأكل منه في مَحِلّه.
فإن عطب في الطريق أراق دمه، وكان هذا مَحِلَّه، وأباحه للمساكين، وقال الشافعي: لا يحلّ لمن ساقه الأكلُ منه، ولا للمختصين به من الرفقة؛ لأنهم متهمون في إعطابه، ويباح للفقراء من الرفقة غير المختصين به، ولكن ظاهر نص الشافعي أنه لا يجوز له، ولا لأحد من الرفقة، أغنياء كانوا أو فقراء؛ لمحل التهمة
هذا غرض الفصل، أما أحكام الضحايا وما يؤكل منها، وتقييد أو إطلاق القدر. ثم تعيين هذا عن تلك الجهة. فالمذهب في ذلك مضطرب، ولكن جميعه ينتظم في الضحية، وقدر الغرض المنع من الأكل قبل المحل، كما ذكرناه.
وليعلم الناظر أن ذلك مفروض في الذي قيل فيه: جعلته هدياً، فإنه لو فرض نذرٌ لوجوب سابق، فيضطرب القول في ذلك.
2865- ثم دم الجبرانات لا وقت في ذبحها، وإنما التأقيت في الضحايا والهدايا المتطوّع بها، أو المنذورة.
وجملة دماء الجبرانات محلها الحرم كما تفصَّل، إلا في حق المصدود، فإن محِل الدماء محِلّه. وكذلك محِل دم الإحصار، خلافاً لأبي حنيفة.
فهذا ما رأيناه متعلقاً بالنسك، وليُطلب تمام البيان، وشفاء الصدور، من كتاب الضحايا.
2866- ثم إذا عطبت بهيمة مهداة في الصورة التي ذكرناها، فينبغي أن تذبح أو تنحر، ثم يُلْطَخُ بدمها جنبُها، وذلك علامة يستدل بها المارّ على أنه هدي مأكول.
وهل يجوز الاكتفاء بهذه العلامة في الإقدام على الأكل؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وعليه يدل سِيَرُ السلف.
والثاني: لابدّ من لفظٍ؛ فإن لحم الهدي لا يحل لكل من يجده، وإنما هو لمن يسلمه المهدي إليه. فإن أراد التعميم، فليقل: ليأكله من مرّ به، ويمكن إشاعة هذا في منزلٍ، أو غيره، في المدة التي لا يفسد اللحم فيها.
فهذا منتهى المراد. والله المستعان، وعليه التُّكلان،.

.كتاب البيع:

2867- الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وستأتي الأخبار في الأبواب على قدر الحاجة. وأصلُ البيع متفق عليه، ذكر المُزَني لفظةً عن الشافعي في البيع جامعةً، والذي نص عليه في الأم أجمعُ لتراجم أبواب البيع، فنقتصر على اللفظة الأتم.
قال رضي الله عنه: "وجماع ما يجوز به البيع عاجلاً وآجلاً أن يتبايعا عن تراضٍ منهما، ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، فإذا تفرقا عن تراضٍ منهما، فقد لزم البيع، وليس لأحدهما ردُّه إلا بخيار، أو عيب يجده، أو شرط يشرطه، أو خيار الرؤية، إن جاز بيعُ خيار الرؤية".
فدلّ بذكر العاجل والآجل على بيع العين، والسلم، والمؤجل؛ وذكَر التراضي، فأشعر بأن الإكراه يمنع انعقاد العقد، وعنَى بقوله: "بأمر منهي عنه" الأثمان المحرَّمةَ بوجوه التحريم، وأراد بقوله: "وعلى أمر منهي عنه" الشرائطَ الفاسدةَ، على ما ستأتي مفصلة، إن شاء الله تعالى. ونبه على خيار المجلس، وعلى ما يُنهيه، بقوله: "فإذا تفرقا عن تراضٍ" ثم استثنى عن حكمه بلزوم العقد بعد التفرق جهاتِ الخيار.
فأراد بقوله: "إلا بخيارٍ" خيارَ الشرط، وذكر خيارَ العيب، ثم قال: "أو شرط يشرطه" يعني خيارَ الخُلف على ما سيأتي، ثم ردد قولَه في خيار الرؤية، وبيعِ الغائب. وهذا مقصود الباب، فقال: "إن جاز بيعُ خيار الرؤية"، فنقل الأئمة قولين عن الشافعي: في أن من اشترى عيناً لم يرها، فهل يصح العقد أم لا؟.
أحدهما: أنه لا يصح، وهو اختيار المُزني؛ فإن العين في العُرف تُعْلَم بطريق المعاينة، فإذا لم يرها المشتري، عُدّت مجهولة عُرفاً، واستقصاء الطريقة في الخلاف.
والقول الثاني: أن البيع صحيح؛ فإن المبيع متميَّز والشرع قاضٍ باعتماد قول البائع، وعليه ابتنى قبول قوله في الملك وغيره، مما يشترط في صحة العقد.
التفريع على القولين:
2868- إن حكمنا بفساد البيع، فأول ما نذكره تفصيلُ القول في الرؤية؛ فالمذهب أن من رأى شيئاً، ثم غاب عنه، فاشتراه على قرب العهد بالرؤية، والغالب على الظن أن المبيع لا يتغير في تلك المدة، فالبيع صحيح، والرؤية المتقدمة كالمقارِنة.
وحكى العراقيون والشيخُ أبو علي عن أبي القاسم الأنماطي أنه يشترط مقارنةَ الرؤية للعقد، ونزَّلها في البيع منزلة اشتراط اقتران حضور الشاهدين بعقد النكاح، ثم الشيخ حكى عن الإصطخري أنه قال: "كنت أناظر بعضَ من يذبّ عن الأنماطي، وكنت أُلزمه المسائلَ، وهو يرتكبها حتى قلت: لو عاين الرجلُ ضيعةً وارتضاها، ثم ولاَّها ظهرَهُ، فاشتراها، فهل يصح ذلك؟ فتوقف".
قال أبو سعيد: لو ارتكب، لكان خارقاً للإجماع، والوجه في مذهب الأنماطي أن ما لا سبيل إلى تحصيله على يسر، فلا شك انه لا يشترط، وهو كرؤية كل جزء من قرية أو دار يشتريها، فأما إذا صرف عنه بصره في حالة إنشاء العقد مقبلاً على من يبايعه، فقد نقل الإصطخري الإجماعَ فيه، وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد، وإن كان لا يلحظه. وبالجملة مذهبه فاسد.
والأصحاب لما اكتفَوْا بتقدّم الرؤية، شرطوا أن يكون الزمان المتخلل بحيث لا يتغير فيه المبيع غالباً، وهذا يختلف باختلاف صفات المبيع، فما يتسارع إليه التغير، يُعتبر فيه ما يليق به، والعقار وما يَبعُد تغيُّره يراعى فيه ما يغلب تغيُّره فيه. ثم قال الأئمة: إذا تقادمت الرؤية، وتخلل زمان يغلب التغير فيه، فتلك الرؤية لا حكم لها، وإذا اشترى تعويلاً عليها، لم يصح، على منع شراء الغائب.
وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكرناه ووجهاً آخر: أن الرؤية المتقدمة كافية في تصحيح العقد، ثم إن اتفق تغيّر، ثبت الخيار، كما سنذكره، واختار هذا الوجهَ وصححه، ولم أرهُ لغيره.
فرع:
2869- إذا حكمنا بصحة البيع تعويلاً على الرؤية المتقدمة القريبة، فإذا المبيع قد تغير على ندور، فقد قال الأئمة: للمشتري الخيارُ، ثم لم يفصّلوا قولاً في التغير، الذي يُثبت الخيار، ونحن نذكر من نص الشافعي، وقول العراقيين ما بلغنا فيه. قال الشافعي: "لو اشترى نخيلاً كان رآها غيرَ مؤبّرة، فإذا هي قد أُبّرت، قال:
له الخيار". وهذا يُشعر بتعلق الخيار بفوات غرضٍ، وهو الثمار. وقال العراقيون: إذا كان التغيّر إلى نقصٍ، ثبت الخيار، فهذا ما وجدتُه.
والذي أراه أن التغيّر اليسير الذي لا يُكترثُ به لا يثبت خياراً، وكذلك التغير إلى الزيادة، ولا شك أنا لا نشترط أن يكون الحادث عيباً؛ فإنّ خيار العيب لا يختص بهذه الصورة.
فالظاهر عندي أن يقال: كل تغير لو فرض خُلْفاً في صفةٍ مشروطة، تعلق بها الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد، أَثْبَت الخيارَ. وكأن الرؤية المتقدمة بمثابة شرطٍ في الصفات الكائنة حالة الرؤية.
ويمكن أن يقال: كل تغيّر تخرج به الرؤيةُ عن كونها مفيدةً معرفةً وإحاطةً، فهو مثبت للخيار.
وبيان ذلك أن الرؤية المعتادة تتعلق بصفاتٍ من المبيع، كما سنذكرها، ويغيب عنها صفاتٌ، فكل ما تشتمله الرؤية المعتبرة، ولو لم تتعلق الرؤية به، لكان المبيع غائباً، فإذا تغير، ثبت الخيارُ.
2870- ومما نفرّعه على هذا القول: أن البائع إذا ذكر صفاتِ العين الغائبة، واستقصاها بذكر صفات السلم، والتفريع على منع بيع الغائب، ففي صحة البيع وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ فإن طريق إعلام العين الغائبة المعاينَةُ، والدليل عليه أنا نكتفي بالرؤية، وإن لم نُحط بجملة صفات المبيع، ولو كان المرعيُّ الإعلامَ، لما صح العقد بالرؤية المعتادة.
والوجه الثاني- أن البيعَ يصح؛ فإن الرؤية تُطلع على خاصيةٍ، قد لا يناله استقصاء الوصف، فنزل منزلةَ الإعلام التام بالوصف عند عدم الرؤية، والغرض الإعلام بالجهتين. فإن صححنا العقدَ ووفت الصفات، فلا كلام، وإن اختلفت، فكل صفة يشترط ذكرها فإذا ذكرها كاذباً، كان كما لو لم يذكرها، فلا يصح العقد.
2871- ومما نفرعه النموذج وبناء البيع عليه، فإذا أخرج الرجل نموذجاً من حنطة، وقال: بعتُك من هذا النوع مائةَ صاع، فهو باطل على كل قول؛ فإنه لم يُعَيّن حنطةً، ولم يرع شرائط السلم، وإن قال بعتُك المائة الصاع، التي في هذا البيت، وهذا النموذج منها، فإن لم يدخل النموذج في البيع، فقد قيل: هذا بيع غائب، فلا يصح على هذا القول.
ويحتمل عندي أن تكون رؤية النموذج بمثابة وصف المبيع الغائب على ما مضى.
فإن قيل: مثل هذا لا يُكتفى به في وصف المُسْلَم فيه. قلنا: لأن السلم ينافيه التعيين جملة، كما سيأتي في السَّلم إن شاء الله تعالى، وأصل التعيين معتمدُ بيع الأعيان.
فأما إذا أدخل النموذج مع الآصع في البيع، فقد قطع القفالُ بالصحة، وألحق ذلك ببيع الصُّبْرة التي يدل ظاهرها على باطنها، وخالفه طوائفُ من الأئمة. والقياس ما قاله، ولا شك أن النموذج مفروض في المتماثلات.
فأما إذا صححنا بيع الغائب، فما ذكره العراقيون، والصيدلاني، وشيخي، أنه لابد من ذكر الجنس، فلو قال: بعتك ما في كُمي، ولم يعرفه المشتري، فالبيع باطل. وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة.
ومن أصحابنا من صحح العقد، تفريعاً على هذا القول، وهو قياسٌ ظاهر، فإذا كنا لا نشترط استقصاءَ الصفات، فلا تزول الجهالة بذكر الجنس، والمرعي في هذا القول أن يكون المبيع متعيناً.
ثم قال العراقيون: يشترط ذكرُ النوع، حتى يقول بعْتُك العبدَ التركي، ولم يشترط أصحاب القفال ذلك، ثم قالوا: إذا ثبت اشتراط الجنس والنوع، فهل تُشترط صفاتُ السلم؟ أم يكتفى بالمعظم؟ فعلى وجهين، ولعلهم أرادوا بالمعظم ما تحيط به الرؤية المعتادة.
وهذا الذي ذكروه يجانب طريق المراوزة؛ فإنَّهم ذكروا التعرضَ للصفات على قولنا: لا يصح بيع الغائب؛ فقالوا: استقصاءُ الصفات هل تنزل منزلة الرؤية، حتى يصحَّ العقدُ بسببه، كما سبق في التفريع على القول الأول؟ وذكروا استقصاء الصفات على تجويز بيع الغائب في معرضٍ آخر. فقالوا: إذا وصف المبيع على الاستقصاء ثم وفت الصفات، فهل يثبت خيار الرؤية أم لا؟ فعلى وجهين. وتوجيههما واضح.
فأما اشتراط استيفاء الصفات في تصحيح العقد على قول تجويز بيع الغائب فمما انفرد به العراقيون. ثم قياس طريقهم عندي، أن من اشترط استقصاءَ الصفات-على قول تجويز بيع الغائب- فإذا وفت، ثبت خيارُ الرؤية وجهاً واحداً، فإن هذا القائل لا يصحح بيعَ الغائب إلا عند استقصاء الصفات، وخيار الرؤية لا سبيل إلى نفيه أصلاً، ولو خُص الخيار بالخُلف، لكان خيار الخلف. ومما نفرعه على تجويز بيع الغائب خيار الرؤية.
فصل:
2872- خيارُ المجلس يثبت في البياعات، كما سيأتي، فالوجه أن نذكر حكمَ خيار المجلس في بيع الغائب أولاً، ثم نبني عليه خيارَ الرؤية، فنقول: اختلف الأئمةُ في خيار المجلس في بيع الغائب، فمنهم من قال: يثبت خيار المجلس للمتعاقدين، كما يثبت في كل بيع، ووجهه ظاهر.
ومنهم من قال: لا يثبت لهما خيار المجلس متصلاً بالعقد؛ فإنَّ خيار الرؤية خيارٌ شرعي لا يختص ثبوته بغرض، فهو في معنى خيار المجلس، فيبعد اجتماع خيارين من جنسٍ واحدٍ، وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإنّ نفي خيار المجلس في حق البائع لا وجه له؛ إذ ليس في حقه خيار الرؤية، وكل ما نذكره فيما رآه البائع دون المشتري.
ومنهم من قال: يثبت خيارُ المجلس للبائع عقيب العقد على الاتصال، ولا يثبت للمشتري خيارُ المجلس، لمكان ثبوت خيار الرؤية له، وهذا أمثل من الثاني.
والصحيح هو الأول. فهذا هو القول في خيار المجلس. وفيه بقية سنذكرها.
2873- فأما خيار الرؤية، فلا شك في ثبوته عند الرؤية، وهل يثبت قبل الرؤية للمشتري؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ فإنه منوط في الخبر-إن صح- بالرؤية، كما سنرويه في آخر الباب.
والوجه الثاني- أنه يثبت الخيارُ قبل الرؤية؛ فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ عند الرؤية، مغبوناً كان أو مغبوطاً، فلا معنى لاشتراط الرؤية.
ثم إن لم يثبت خيار الرؤية قبلها، لم ينفذ فسخُ المشتري، ولا إجازته. وإن أثبتنا الخيارَ قبل الرؤية، فينفذ الفسخُ ولا تنفذ الإجازة؛ لأن الفسخ مقصود الخيار، فنفذ لقوّته، ووقفت الإجازةُ على الرؤية. هذا ما وجدته في الطرق. فأما إذا رأى، فالخيار يثبت.
وأحسنُ ترتيب فيه: أنا إن أثبتنا للمشتري خيارَ المجلس عقيب العقد، فهذا الخيارُ يثبت على الفور، ولا يمتد امتداد المجلس، وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس ابتداءً، فإذا ثبت له الخيار عند الرؤية، فهل يمتد امتدادَ المجلس، فعلى وجهين:
أحدهما: أنه على الفور، كخيار العيب، ووجهه أنه معلّق شرعاً بالرؤية، وليس ممدوداً، فليقرن بها كخيار العيب المنوط بالاطلاع على العيب، وهذا هو الصحيح.
والوجه الثاني- أنه يمتد في حقه امتداد المجلس؛ فإنه لم يثبت له خيار المجلس، وهذا شبيهٌ بخيار المجلس، فكأنه اعتاضه عنه. فإن قلنا: خياره على الفور، فلا يثبت للبائع الخيار، وإن نفينا خيار المجلس عنه ابتداء؛ فإنا إذا حكمنا بأن خيار الرؤية على الفور، فلابد من اختصاصه بمن لم يرَ. وإن حكمنا بأنه يمتد امتداد المجلس، وأثبتنا للبائع خيار المجلس ابتداء، فلا خيار له عند الرؤية، بعد انقضاء المجلس.
وإن لم نُثبت للبائع خيارَ المجلس ابتداء، وحكمنا بامتداد خيار الرؤية في حق المشتري، فهل يثبت للبائع الخيار مع المشتري؟ على وجهين:
أحدهما: لا يثبت، ويختص بمن لم يَرَ المبيع، والثاني: يثبت، وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن هذا خيار المجلس أم لا، فكأن أحد القائلَيْن يزعم أن خيار المجلس يتراخى في بيع الغائب إلى وقت الرؤية، فعلى هذا يثبت الخيارُ للبائع مع المشتري، والثاني: يقول: ليس هو خيارُ مجلس، وإن امتد امتداد مجلس المشتري، فعلى هذا لا يثبت للبائع.
فهذا ما أردناه.