فصل: فصل: في بيع الحنطة مكايلةً مع جريان القبض جزافاً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في بيع الحنطة مكايلةً مع جريان القبض جزافاً:

3086- فنقول: إذا اشترى طعاماً كيلاً، ثم قبضهُ جزافاً، فقد قال الأصحاب: لو تلفَ ما قبضه كذلكَ، فإنه يتلف من ضمانه وفاقاً، ولا ينفسخ البيعُ أصلاً.
ولو أرادَ بيعَ ذلك الطعامِ الذي قبضه جزافاً نُظر: فإن أراد بيعَ الكيل، فلا يصح منه البيعُ في الجميع؛ إذْ حق البائع متعلِّقٌ به، وقد يزيد إذا كيل.
والمسألة مصوّرة فيه إذا باع عشرةَ آصع، وأشار إلى صبرة، ويجوز أن تكون الصُّبرة عشرة، ويجوز أن تزيدَ، فلو أنهُ قبض جزافاً، ثم باع القدر الذي يستيقن أنه حقهُ، أو أقَلُّ من حقه، فهل يصح البيعُ في هذه الصورة؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: وهو اختيار أبي إسحاقَ أن البيعَ يصحّ؛ لأن القبضَ ناقلٌ للضمان، فإذا انتقل الضمانُ، تَم الملك وزايله الضعفُ المترتب على تعرض البيع للانفساخ عند تقدير التلف. وإذا صادفَ البيعُ مِلكاً تاماً مِن مالكٍ مطلقٍ، نَفَذَ.
والوجهُ الثاني-وهو اختيار ابنِ أبي هريرةَ- أنه لا يصح البيعُ في شيءٍ مما قبضهُ؛ فإن القبضَ فاسدٌ، وهذا ما قطع به شيخي، وطوائفُ من الأصحاب. وتوجيهُ الوجهِ يترتب على إثبات فسادِ القَبضِ، والدليل عليه الخبرُ الذي رَويناه من الأمر بإجراء الصَّاعَين، ومناهي الرسول صلى الله عليه وسلم محمولةٌ في هذه المَواضِع على الفسادِ، واقتضاءِ التحريم.
ثم قد أطلق الأولون الحكمَ بفسادِ القبض على الجُملة، مع المصير إلى تصحيح البيعِ في القدرِ المستيقَن. فلو قيل: فما معنى الفَسادِ على هذا الوجهِ مع صحَّةِ البيع في القدر المستحق؟ قلنا: لو قبض الطعامَ كيلاً، ثم ادّعى بعد ذلكَ نقصاناً متفاحشاً، لا يتوقعُ مثلُه في الكيل، لا يُقبل قولُه، ولو قبضهُ جزافاً، كما صورناه، ثم ادَّعى نقصاناً متفاحشاً عن حقه، فالقول قَولُهُ مع يمينه؛ فإن البائع يدعي عليهِ قبضَه، وهو يُنكِرُه، فالقول قولُه.
وهذا ليس مَحْملاً واضحاً في فسادِ القبض المعترف بهِ. وقد قيل: لو باع الجملةَ على جهالةٍ، فالبيع في الكُلِّ باطل قولاً واحداً، ولا يخرّج على تفريق الصفقة، فهذا أثرُ الحكمِ بفسادِ القبض بالجملةِ.
وهذا كلام مختلط؛ فإنا إذا نقلنا الضمانَ، وجوزنا التصرُّف في القدرِ المستيقَن، فقد صححنا القبضَ فيه، والوجه في فرض بيعِ الكُلِّ التخريج على قول تفريقِ الصفقة، ولا حاجةَ إلى الاعترافِ بفسادِ القبض في الكل، مع التصحيح في التفصيل، وإنما يستحق إطلاقُ الفساد ممن يمنع التصرفَ من القدر المستيقن، وهذا لا شك فيه.
3087- ويتصل الآن باستتمام الكلام فصولٌ نأتي بها أَرْسالاً: منها: أنا قدَّمنا فيما سبق أن الاستيلاءَ من غير إذن البائع ينقُل الضمانَ، حتى لو فرض التلفُ، كان من ضمان المشتري القابضِ قهراً، ولا ينفسخُ البيع. ولكن إذا أثبتنا للبائع حقَّ الحبس، فالمبيع مسترَدٌّ من المشتري؛ فإن ذلك ممكن؛ فلو باع المشتري، لم ينفذ بيعُه وجهاً واحداً رعايةً لحق البائع، وإن تحقق انتقالُ الضمان. وهذا كامتناع بيع الراهِن في المرهون.
ومسألةُ القبضِ جُزافاً مفروضةٌ فيه إذا جرى ذلك القبضُ عن رضاً من البائع، أو فرّعنا على أن لا حَقَّ للبائع في الحبس.
ولو رضي بالقبض جزافاً، ثم بدا له بعد جريان صورة القبضِ، فهذا يخرّج على تسلّط المشتري على البيع في القدر المستيقَن، فإن سلطناه عليه، فقد أَلْزمنا القبْضَ، فلا سبيل إلى تسليط البائع على نقضه؛ إذ القبضُ صدر عن إذنهِ، وتوفر عليه مقصودَاه: من نقلِ الضمان، والتسليطِ على التصرف. وإن قلنا: لا يتسلّطُ القابضُ على التصرّف في قدر حقّهِ، فهل يملك البائعُ نقضَ يده، والعودَ إلى حقّ الحبس؟
هذا محتمل عندنا. والعِلم عند الله.
3088- وممّا يتعلّقُ الآن بتفصيل بيع الطعام مكايلةً أن الرجل إذا اشترى طعاماً كيلاً سلَماً، واستقرَّ له ما اشتراهُ في ذمّةِ المسلَمِ إليه، واستقرَّ ذلك عن جهةِ إقراضٍ، أو بدلِ متلفٍ، ثم استحق عليه مستحِقٌ بجهةٍ من الجهاتِ مكاييلَ من الحنطةِ، فقال للمستحِق عليه استَوْفِ حقّكَ من فلان، وذكر الذي يُستحَقُّ عليه الطعام، فإذا اكتالَ المستحِق المتأخِّر لنفسهِ، لم يصح مثلُ ذلك القبض؛ فإن القبض يتعلّق بالقابض والمقْبض. ولا يجوز تقديرُ صُدورِهما من شخصٍ واحدٍ. فإن قدَّرهُ مقدّرٌ وكيلاً بالقبض من جهة الآمِر قابضاً من جهة نفسهِ، فهذا هو الذي لا نُصحّحهُ.
ولو قالَ لمستحِق الطعام: اكتل حقَّك من حنطتي هذه، فإذا اكتاله بنفسه بأمرِ البائع، فَفِي حُصول القبضِ على الصحَّةِ وجهان:
أحدهما: أنه يصح لجريان صورة القبض بإذن صاحب الحنطةِ وبائعها.
والثاني: لا يصح لاتحادِ القابضِ والمُقبض، والإذنُ بمجرَّده ليس إقباضاً. وهذا القائلُ يعضد كلامَه بالحديث الذي رويناه في صدرِ الفصل.
فإن قيل: قد قطعتم جوابَكم قبيلَ هذا بما يُناقِضُ هذا إذْ قلتمُ: لو كان للآذن الآمِر حنطة على إنسان، فقال لمن يستحق عليه: اقبض حقَّكَ منه، فإذا قبض زعَمتم أنه لا يصح. قُلنا: الفرقُ ظاهر؛ فإن مِلْكَ الآذنِ فيما قدّمناه لا يثبت في عينٍ حتى يقبض له أولاً، فإذا قبض القابض لنفسهِ، ولم يجرِ القبض للآذن، كان باطلاً وجهاً واحداً؛ فإنه لا يستحق على من قبض منه شيئاً، ولم يثبت للآذِن المتوسّطِ استحقاق في عينٍ حتى يترتب عليه قبض هذا القابض. والمسألة التي ذَكَرنا الوجهين فيها مفروضة فيه إذا كان للآذن حنطةٌ حاضرةٌ عتيدةٌ، فأمر المستحِق بالاكتيال منها.
فإذا ظَهر محلُّ الخلاف والوفاقِ بنينا عليه غرضَنا، وقلنا: لو قال اقبض حقي من فلانٍ، صح، ووقع القبضُ والملكُ في المقبوض للآذِن، حتى لو تلف المقبوض في يَدِ الوكيل، كان محسوباً على الآذن، ويدُ الوكيل أمانة. وبمثلهِ لو قال: اقبض لي من فلانٍ حقّي، ثم اقبض منه حَقّكَ، فأمّا قبضُه له فصحيح. وقبْضُه لنفسه بعد قبضه له يخرّجُ على الوجهين المقدمين.
ولو قال للذي يستحق عليه طعاماً: خُذ هذه الدراهمَ، واشترِ بها لنفسِك طعاماً، لم يصحّ هذا أبداً.
ولو قال: اشترِ لي طعاماً في الذمةِ، واقبض لنفسك، فالشراء صحيح، والقبضُ فاسدٌ. ولو قالَ: اشترِ لي واقبض لي، ثم اقبض منه حقّكَ، فالشراء والقبض للآمرِ صحيحان، وقبضُه لنفسه على الوجهين.
3089- ومما يجب التنبُّه له أنه إذا قال: اقبض حقَّك من فلانٍ، فقبضه، لم يصح، والمقبوضُ ملك المقبوضِ منه، فليردّهُ عليه. وإذا ثبت هذا، فلا خفاء في أن تصرفه لا يَنفذ، ويدُه ضامِنةٌ؛ فإنها لا تنحط في هذا المقام عن يدِ المستامِ.
وسأفصّل هذا في آخر الفصل إن شاء الله عز وجل.
ولو قال: اقبض حقَّك من صُبرتي هذه، فإذا اكتال بنفسه، وقلنا: يصح قبضُه، فلا كلام، ويتسَلّطُ على التصرُّفِ. وإن قُلنا: لا يصحّ قبضُه، فليس هذا كما لو اشترى طعاماً مكايلةً وقبضهُ جزافاً؛ فإنا ذكرنا ثَمَّ أن البيعَ في القدر المستيقن ينفذ عند أبي إسحاق، وهَاهُنا لا يَنفُذ البيع أصلاً، بل لا يملكُ القابضُ ما أخذ. والسبب فيه أن مسألة الجزاف مفروضةٌ في ثبوت الملك في الحنطةِ المعيَّنة بالعقدِ، ثم في قبضها التفصيلُ. فلقد قبض ما ملك بالعقدِ، فجرى الأمرُ على ما مضى. والمسألةُ الأخرى مصوّرةٌ فيهِ إذا استحق حنطةً في ذمة إنسانٍ، فأمره من عليه الحنطةُ أن يقبضها على وجهٍ، فإذا لم يصحّ ذلك الوجه، لم يملك المقبوضَ، ولم يتعيَّن حقُّه فيه؛ إذ لم يسبق له قبلُ استحقاق عينٍ. وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيهِ.
وقد نجز القول في أصول القبضِ. ونحن نرسم فروعاً شذَّت عن التفاصيل في
القواعد.
فرع:
3090- إذا باع طعاماً بطعامٍ مكايلةً، فإذا جرى التكايلُ في المجلسِ وترتب التقابُض عليهِ، فإذا تفرّقا، استمرت صحةُ العقد، ولو جَرَى التقابض مُجازفةً من الجانبين، وتفرقا عليه، ففي فساد العقد وجهان:
أحدهما: أنه يفسد، لأن القبضَ لم يتم.
والثاني: لا يحكم بالفسادِ، لجريانِ صورةِ التقابض.
وهذا يَبتني عندنا على الخلافِ المذكور في أن القابضَ على المجازفة هل يتسلط على بيع ما استيقنه؟
وتحقيق القول فيهِ أن من يصحح التصرفَ في القدر المستيقنِ، يصحح القبضَ من جهةِ أن أثر القبضِ نقلُ الضمانِ والتصرّفِ، فإذا اجتمعَا، لم يبقَ لذكرِ الفسادِ معنىً. فعلى هذا إذا تفرقا، لم يبطل العقدُ.
وإن لم يسلَّط القابضُ على التصرف، فالقبض على هذا لم يُفِدْ أحدَ مقصوديه، وهو التصرفُ، وأفادَ نقلَ الضمانِ. فإذا فرض التفرقُ على هذا الوجهِ، ففي بطلان العقدِ وجهان:
أحدهما: أنه يفسُد لنقصان القبض.
والثاني: يصح لجريانهِ واقتضائه لنقل الضمان.
وذكر بعضُ الأصحاب أن رجُلين لو تبايعا طعامين في الذمَّةِ، ثم تقابضا من غير رؤية في المقبوضِ، قال: هذا يُخَرَّجُ على هذا الخلافِ المذكور في التقابض مُجازفة. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن القبضَ من غير رؤية يخرّج عندنا على بيع الغائب، فإن القبضَ عن ثابتٍ في الذمّةِ مُملِّكٌ كالبيع، فحلّ محلّهُ.
فإن قلنا: لا يحصل التمليك، فتفرقا، فسدَ العقدُ، وليس كالقبض على مُجازفةٍ في عينين، فإن القبض وارد على مِلك، وإن حكمنا بأن القبضَ مع عدم الرؤية مُملِّكٌ، ففي التفرق احتمال؛ من جهة أنه تفرق على جوازِ العقد، فإنا إذا خرَّجْنا قبضَ ما لم يره القابضُ على بيع الغائب، فلابد من تقديرِ خيارٍ فيهِ، والتفرقُ على حكم الخيارِ ضعيف، ولهذا لا يثبت خيارُ الشرطِ في عقدِ الصَّرفِ، ولنا في خيارِ الرؤيةِ في قبض ما لم يرهُ القابض تردُّدٌ، فلينعمُ الناظرُ نظرَه فيه، فإن خيارَ الرؤيةِ متعلَّقُهُ الخبر، وهو إن صح واردٌ في الشراء، ففي الخيار من طريق المعنى غموض أيضاًً؛ من جهة أن المقبوض إذا كان على الصفةِ المستحقةِ، فلا فائدة من رد ما قبضه، فإنه لو رَدّه، لاستمكن المردودُ عليه من رد ذلك بعينه عليه، وليس هذا فسخاً. بخلاف الخيار في العقد. ويجوز أن يقال: هذا فسخٌ في القبض، فإذا أنشأ من عليه الحق إقباضاً، فليفعل.
فرع:
3091- قد ذكرنا أن الأصحَّ اعتبارُ النقلِ في المنقول، حتى لا يصحَّ القبضُ دونَه. فلو باع رجل داراً، وفيها أمتعةٌ باعها مع الدار، فقد اختلف أصحابُنا في اشتراط النقلِ فيها لتحقيق القبض، فذهب بعضهم إلى أن النقلَ لابد منه؛ طرداً لقياس اعتبار النقل، وذهب آخرون إلى أن النقل لا يعتبر، ووجّهُوا هذا بأن المنقولات تتبع الدارَ.
وهذا التوجيه غيرُ سديدٍ. والوجه تخريجُ الخلافِ على أصل سيأتي في الرهون.
وهو أن من باع الوديعةَ من المودَع، فهل يحتاج إلى إقباضٍ جديد، أم يكفي دوامُ اليد؟ ووجهُ خروجِ ما ذكرناه على ذلك الأصل أن اليدَ تثبتُ على الدار، فيصيرُ المنقول فيها تحت يد المشتري، فانتظم التردد على هذه القاعدة.
فإن بقي في النفس اقتضاءُ تفصيل، فهو مستقصى في الأصل الذي أشرنا إليه.
فرع:
3092- إذا بَعث من يستحقُ مكيالاً من طعامٍ مكيالَه إلى المستحقّ عليه حتى يملأه، فإذا ملأه، لم يصر نفس هذا إقباضاً عندَنا، خلافاً لأبي حنيفةَ، وهذا يخرّج على ما مهدناه من أن صورةَ التقدير لا يكون إقباضاً، حتى ينضمَّ إليه ما يتم الإقباضُ به.
فرع:
3093- إذا كان لرجل على رجل دينٌ موزونٌ، استحقَّهُ عليهِ وزناً، فلا يستحق القبض فيه إلا وزناً، سواءٌ كان ذلك في بيع أو قرضٍ، أو غيرِهما.
فلو ألقى من عليه الحقُ إلى مستحِق الحق كيساً فيه دراهمُ مجهولة، وقال: خذها بحقِّك، فأخذها من غير وزنٍ، فالقبض فاسدٌ غيرُ مملِّكٍ، كما سبق. ولكن لو تلفت تلك الدراهمُ في يدِ القابضِ، كانت مضمونةً عليه؛ فإنه قبضها على قصد التملُّكِ، فإذا لم يصح مقصودُه، ثبت الضمان، ولا ينحط هذا من ضمان المحكوم به في حق المستام.
ولو ألقى إليه الكيس، وقال: خذ منه حقَّك، فإنه لم يسلِّم إليه ما في الكيس مملِّكا، ولكن سلَّمها إليه، والملكُ دائمٌ للمسلِّم، فوكَّله بأن يقبضَ حقه منه، فإذا قبض حقهُ منه وزناً، ففي صحَّة القبضِ الوجهان المقدَّمان في نظائرِ ذلك، ولو تلفت تلك الدرَاهِمُ في يده، قبلَ أن يقبضَ منها حقَّه، فلا يكون التالف مضموناً عليه؛ فإن يده يدُ الوكيل المؤتمن قبل أن يقبض، ولا ضمان على الوكيل فيما تلف تحت يدهِ.
وليس كيَدِ المستام؛ فإنه قبض ما قبض لمنفعةِ نفسِه من غير استحقاقٍ، واليد إذا كانت بهذه الصفةِ، فهي يَدُ ضمان والتوكيل ثابت ويدُه مستمرةٌ على حكم الأمانة، إلى أن ينشأ قبضُ حقِّ نفسهِ. وهذا يناظر ما لو أودع عند رجل عبداً، وذكر أن المودَعَ له أن يستخدمَ العبد إن أراد ذلك، فاليد يدُ وديعةٍ في الحالِ، فإذا ابتدأ في الاستخدام على حكم العارية، فيصير العبدُ إذْ ذاكَ مضموناَّ؛ فإنه مستعار الآن.
3094- وذكر شيخي تردُّداً عن القفال في مسألةٍ أجراها في أثناء الكلام، وهي أنه لو دفع رجلٌ إلى إنسانٍ دراهمَ، وقال له: اشترِ لنفسِكَ بهذا شيئاً، فقال: يجوز أن يحمل مُطلقُ هذا التسليم على الإقراض، ثم لا يخفى حكمُه، ويجوز أن يحمل على الهبةِ والنحلة، والدليل عليه أن الشافعي قال: "إذا قال من لزمته كفارة لمالكِ عبدٍ: أعتقه عنّي، ولم يذكر عِوضاً، فإذا أعتقه عنه مطلقاًً، صحّ، وحُمل العتقُ على جهةِ التبرع " فليكن الأمر كذلك هاهنا.

.فصل: في الاستبدال:

3095- الأعيانُ الثابتةُ أعواضاً في الحقيقة في المعاوضات لا يجوزُ الاستبدال عنها قبل القبض، بناءً على الأصل الممهّدِ في منع بيعِ المبيع قبل القبض، والاستبدالُ بيعٌ. وفي جوازِ الاستبدالِ في الصداق، وما ضممناه إليه من بَدل الخُلع والمصالحةِ عن الدم، الخلافُ المقدَّم، بناءً على أن الأعيانَ هل تثبت أعواضاً على الحقيقة، أم هي مضمونةٌ بالأيدي؟ وعلى هذا يُبْتَنى حكمُ التلفِ، على ما سيأتي في كتاب الصداق.
وغرضُ الفصل تفصيلُ القولِ في الاستبدالِ عن الديون.
فنقول: الأموالُ الثابتةُ في الذمَّة تنقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها: ما يثبت معوَّضاً في محل المبيع المثمَّن، والثاني: ما يثبت ثمناً. والثالث: ما يثبت بسبب من الأسباب، وليس مُتَّصفاً بكونه ثمناً ولا مثمناً، كالقرْضِ في ذمة المقترض وقيمةِ المتلَفِ، والمالِ المضمون في ذمّة الضَّامِن.
3096- فأما ما يثبت معوَّضاً مثمناً في محل المبيع، فهو المسْلَم فيه، فلا يجوز الاعتياض عنه، كما لا يجوز الاعتياض عن العَيْن المبيعة، وذلك أن المسلمَ فيه مبيع مقصودٌ كالعَين المبيعة، والملك في العين أقوى من الملك في الديْن، فإذا امتنع الاستبدال عن الملك في العَيْن، فلأن يمتنِع عن الدين الذي وقع مبيعاً أولى. ولو كان على المسلِمِ قرضٌ، فإخال المُقرِضَ بحقهِ على المسلَمِ إليهِ، فالحوالة فاسدةٌ؛ فإنها في التحقيق بيع سلمٍ بدينٍ، وذلك باطلٌ.
ولو كان للمسلَم إليهِ دينٌ على إنسانٍ عن جهةِ قرضٍ، وكان من جنسِ ما عليه في عقدِ السلم، فلو أحال المسلِمَ على من عليه القرض، ففي الحوالة وجهان:
أحدهما: أنها فاسدة؛ فإنها تضمنت مقابلةَ سليم بقرضِ، فلتفسد كما تَفسُد إحالةُ القرضِ على السلم.
ومن أصحابنا من قالَ: حوالةُ السلَم على القرض صحيحةٌ؛ فإن الواجبَ على المسلَم إليه أن يوفر على المسلِم حقّهُ، فإذا فعل، فقد خرج عما عليه، فالأصح منع الحوالة؛ فإنا لو صححناها، لكُنَّا نقلنا استحقاقَ المسلَم من السلم إلى القرض، ومن ذمَّة المسلم إليه إلى ذمّةِ المستقرض، وهذا على حقيقة المعاوضة. وإن لم نجعل الحوالةَ معاوضةً، فيجب أن تصح الحوالة على السلم أيضاًً. وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني وجهاً في صحة إحالةِ القرضِ على السلَم والسلَم على القرض، تخريجاً على أن الحوالةَ استيفاءٌ وليس بمعاوضةٍ.
وإذا جمعنا الإحالَةَ على السلم، وإحالةَ السلم على غيرهِ، انتظم على ما ذكره ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: المنع.
والثاني: الجوازُ. والثالث: الفصل بين إحالة القَرْض على السلم؛ فإنها ممنوعة وبين إحالةِ السلم على القرض؛ فإنها جائزة.
فهذا قولُنا فيما ثبت من الديون على مرتبة الأعيان المبيعة.
3097- فأما ما ثبت قرْضاً، أو قيمةً عن مُتلَفٍ، أوْ لازماً عن جهةِ ضمانٍ، فالاستبدال عن جميعها جائزٌ. وإذا استبدل مستحِقُّ الدين في هذه الجهاتِ وأمثالِها عن الدين عيناً، صح الاستبدال لو جرى تسليمُ العين في المجلس. وإن تفرقا قبل تسليم العين، نُظر: فإن كان الاستبدالُ في شقيّه وارداً على ما يشترط التقابض فيه ثم جرى التفرُّقُ، فيبطل الاستبدالُ، وإن لم يكن العقدُ عقدَ ربا، بأن كانت الديون دراهمَ وأعواضُها ثياب، وما في معانيها؛ فإذا جرى التفرُّقُ قبل القبض فيها، ففي بطلان الاستبدال وجهان:
أحدهما: أنه لا يبطل؛ لأن اشتراط الإقباض لا يستند إلى أصلِ في غير عقود الربا والسَلَم، فليكن الاستبدال من دينٍ في عين بمثابَة بيعِ عينِ بدين، ولا يُشترط الإقباضُ فيه.
والوجه الثاني- الاستبدالُ يَفسُد، ويندرجُ تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع الدين بالدين". وهذا ظاهر نص الشافعي، وليس الاستبدال في معنى بيع العين بالدين؛ فإن العقد ينزل على مقصود المتعاقدين، وغرضُ الاستبدال استيفاءُ الدين من مالية العَين، فإذا لم يجز القبضُ، كان في حكم دينٍ في مقابلة دين.
وهذا تكلّفٌ والصحيح الأول.
3098- وإذا ثبت جواز الاستبدالِ عن الديون في هذه الجهاتِ، فهل يصح بيعُ الدينِ من إنسان آخر بعينٍ تؤخذ منه؟ فعلى قولين:
أحدهما: يجوز؛ فإن الدينَ مملوكٌ، فإذا جاز استبدالُ مستحقِّه عليه، ونفذَ تصرُّفُه فيهِ، فينبغي أن يجوز بيعُه من الغير أيضاًً، اعتباراً بالأعيان التي تَنفُذ التصرفات فيها.
والقول الثاني- لا يصح بيعُ الدين من الغيرِ، فإن الدينَ ليس ملكاً محصَّلاً، ولهذا يمتنع رهنُه، وإنما جوزنا الاستبدالَ توصُّلاً إلى الاستيفاءِ، وإبراءِ الذمة، ولا خلاف أنا وإن جوزنا بيع الدين من الغير، فلا يجوز بيعُ الدين من الغير بالدين؛ فإن هذا لَوْ جُوّزَ انطبق عليه نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالىء بالكالىء.
وكان شيخي يقول: اشتراطُ القبضِ في الاستبدال متلقىً من القولين من بيع الدين من الغَير، فإن جوّزنا ذلك، فالاستبدالُ بيعٌ محقق، ولا يُشترط في بيع العين القبضُ، إذا لم يكن العقدُ مشتملاً على عِوضَي الربا. وإذا لم نجوّز بيعَ الدين من الغَيرِ، فلا نجعل الاستبدال في حقيقة البيع بل نجعله استيفاءً، والاستيفاءُ لا يَتعدَّى المجلسَ.
3099- فأما القسمُ الثالث وهو الدَّيْن الثابتُ ثمناً، فنقول: في جَوازِ الاستبدال عن الثمن قولان للشافعي:
أحدهما: أنه باطِل؛ فإنه دَين ثبت عوضاً في معاوضةٍ، فلا يجوز الاستبدال عنه، كالمسلَم فيه.
والقول الثاني- يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الثمن لا يُقصد لعينهِ، وإنما تُقصدُ الماليّةُ منه، والاستبدال يُديمُ الماليةَ وحكمَها، وليس كذلكَ المسلَم فيه؛ فإنه مقصودٌ في جنسهِ، كالأعيان المعيّنَة.
وهذا ضعيف في القياسِ، ولكن رُوي عن ابن عُمر أنه قال: كنا نبيعُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدراهم، فنأخذ بدلَها دنانيرَ، ونبيع بالدنانير، فنأخذ بَدَلها دراهم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبسٌ " وروي " وليس بينكما شيء " وهذا الحديث يقرب من مراتب النصوص، وقد حملناه في الخلاف على التبادلِ في المجلس، وهذا يخرج على مصيرنا إلى أن إلحاق الزوائد بالثمن والمثمّن جائزٌ في مجلس العقدِ، وزمانِ الخيار، ويشهدُ لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبس».
3100- وتمام البيان موقوف على أن نذكر حقيقةَ الثمن والمثمَّن، وحاصلُ المذهب في ذلك ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن الثمن هو الدراهم والدنانير المضروبتان.
والوجه الثاني- أن الثمن ما اتصل به باء الثمنيّة في صيغة العقد، فإذا قال القائل: بعتك هذا العبدَ بهذا الثوبِ، فقال مالك الثوب: قبلتُ، كان الثوبُ ثمناً والعبدُ مثمناً.
ولو فُرضت الصيغةُ على خلاف ذلك، فالمتبعُ عند هذا القائِل في تمييزِ الثمنِ عن المثمن الباءُ التي سميناها باءَ الثمنية، فعلى هذا إذا قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فالدراهم مثمن والعبدُ ثمن.
والوجهُ الثالث: أن العقد إذا اشتمل على نقد وعَرْضٍ، فالثمن هو النقدُ سواءٌ ذكر بالباء، أو لم يذكر به، وإن لم يشتمل العقدُ على نقدٍ وإنما قوبل عَرْضٌ بعرض، فالثمن منهما ما يتصل به باءُ الثمنيةِ.
وإن قُلنا: الثمنُ هو النقدُ، فهل يصحُّ أن يُذكر مثمناً أوْ لا؟ ظهر اختلاف أصحابنا في أن السلم في الدراهم هل يصح؟ والأصح الصحةُ. والوجهُ الآخر وإن كان مشهوراً، فلا مخرجَ لتوجيهه إلا الامتناعُ من تقدير الدراهم على رتبةِ المبيع المثمَّن.
فإذا ثبت هذا فإن قلنا: لا يصح السلمُ في الدراهم. فلو قال: بعتك هذه الدراهمَ بهذا العبد، فمن أئمتنا من منع هذا. كما منعنا السلم في الدراهم.
والجامعُ ما ذكرناه من تقدير النقد مبيعاً ومنهم مَنْ أجاز هذا. وكان شيخي يقول: لو قال بعتك ألفَ درهم بهذا العبد من غير تعيين الدراهم، فهو بعينه على الخلاف المذكور في السلم في الدراهم، وإنما التردد في الدراهم المعينة إذا ذكرت مبيعةً.
3101- فإذا ثبتت هذه المقدمةُ، وصلناها بأخرى، وقلنا: إذا قال: بعتك هذا العبدَ بثوبٍ، وأطنب في وصفه، فالثوبُ هل يثبت له حكمُ المسلمِ فيه؟ أم هو على حكم الأثمان؟ خرج الأصحابُ هذا على الخلاف المذكور في أن العروض هل تصيرُ أثماناً بباء الثمنية، ولم يختلفوا في صحة العقد. فإن قلنا: الثوبُ ثمن، فلا يجب تسليمُ العبد في المجلس، وإن قلنا: الثوبُ في حكم المسلم فيه، فهل يجب تسليم العبد في المجلس؟ فعلى وجهين سنذكرهما في كتاب السلم:
أحدهما: أنه يجب؛ فإنّ الصفقةَ اشتملت على موصوفٍ من العروض، وهذا هو السلم.
والثاني: لا يثبت حكم السلم؛ فإنها لم تثبت على صيغة السلم، ولصيغ العقودِ آثار بيّنة، فإذا انضم هذا إلى ما ذكرنا لحقيقة الثمنية، عُدْنا بعدَ ذلك إلى إتمام القول في الاستبدال.
3102- فنقول: لا مطمع في تصحيح الاستبدال عن الأعيان. فأما الديون فما حَكَمنا بكونه مثمناً، فلا يجوز الاستبدال عنه، وإن لم نوجب تسليمَ مقابله في المجلس، فإنَّ مَنْع الاستبدالِ مُتلقّىً من كون الشيء مبيعاً، لا من وجوب تسليم مقابلِه.
وكل ما حكمنا بكونه ثمناً، فحاصل المذهبِ في الاستبدال عنه ثلاثةُ أقوال: أحدها: الجوازُ.
والثاني: المنعُ. والثالث: الفصلُ بين النقد وغيره؛ فإن النقودَ لا تُعنَى لأعيانها، بخلاف العُروض. وإذا كانت العروضُ معيّنة، فلا حاصلَ للفرق بين أن تكون أثماناً أو مثمنات.
وذكر صاحبُ التقريب على قولنا بالمنع عن الاستبدال عن الدراهم الواقعة ثمناً، إنما نمنع استبدالَ عَرْضٍ عن الدراهم، فأما استبدالُ نوعٍ من الدراهم عن نوعٍ، أو استبدالُ الدنانيرِ عن الدراهم، فهل يمتنع؟ فعلى وجهين: فإن القولَ يظهر في التحول من نقدٍ إلى نقد، في أن المستبدِلَ لم يحد عن المقصود، فإن النقود إذا استوت في الجريان، فليست هي مقصودةً لأعيانها، وإن سميت، ويعتضدُ هذا بحديث عبدِ الله بن عمر. ولا مطمع في تقدير معنى.
وكل ما أجريناه مسالكُ ضعيفة لا تصبرُ على السبر مع مصيرنا إلى أن إفلاس المشتري بالثمن يُثبت حقَّ الفسخ في المبيع. وقد ينقدح فيه أن يقال: المالية تعذّرَت بالإفلاس.
وهذا منتهى الكلام في الاستبدال، وما يجوز منه وما يمتنع.