فصل: باب: التيمم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: التيمم

191- التيمم رخصة مختصةٌ بهذه الأمّة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج» وقوله عليه السلام «جُعلت لي الأرض مسجداًً وتُرابها لي طهوراً». وأصل التيمم مُجمعٌ عليه.
192- ثم الباب مُصدَّر بمحل التيمم من البدن.
والمتبَّع فيه الكتاب والسنة: أمّا الكتاب، فقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ومن هذا الظاهر ذهب الزهريّ إلى أنه يجب مسح الأيدي في التيممّ إلى الآباط؛ فإن الأيدي في التيمم غير مقيَّدة بالمرافق، كما جرى تقييدها في الوضوء.
وأما مالك، فإنه قال: التيمم يقع من اليدين على الكفّين ظهراً وبطناً، إلى المفصل. ورَوَى عن النبي عليه السلام بإسناده أنه قال لعمار بن ياسر: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين»، وقيل: إن مذهبه قولٌ للشافعي في القديم. وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل.
والمنصوص عليه في الجديد، وهو على الحقيقة المذهب، أن محل التيمم من اليدين كمحل الوضوء منهما؛ لما رَوى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين». وروي «أن النبي عليه السلام تيمّم فمسح بوجهه وذراعيه»، ولا يمكن حمل فعله في التيمّم على غير تأدية الواجب؛ فإن وضعَ الشرع في التيمّم على الاقتصار على مقدار الواجب على ما سيأتي ذلك مشروحاً في فعل التيمم
193- وأما الحديث الذي رواه مالك، فمُشكلٌ جدّاً، ووجه الكلام عليه أن الحديث مرويّ في مخاطبة عمّار بن ياسر، وقد رئي وكان يتمعك في التراب بسبب الجنابة، ورأى أن يوصّل التراب إلى جميع البدن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفّين» والغرض قطعُ توهّمه في إيصال التراب إلى جميع البدن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة التقليل لمحل التيمّم، متذرِّعاً إلى إيضاح نفي الاستيعاب. ثم ليس يبعد أن يُعبّر ببعض الشيء عن الشيء، وإنما كان يجري الحديث نصّاً لو جَرّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قصده في تبيين محل التيمم، فأمّا والغرض نفي الاستيعاب، والنهي عن التمعّك، فقد يتطرق إليه التأويل، كما ذكرناه.
والذي يقرب من ذلك، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّهُ جلدك» وهذا بظاهره يدل على أن أدنى الإمساس كافٍ، وإن كان مسحاً، ولكن لم يقع ذلك غرضاً في الحديث، وإنما المقصود منه استعمال التراب إلى وجدان الماء، فتلخص مذهب الشافعي من المذاهب.
والزهري اعتمد فيما زعم ظاهرَ القرآن، وجميع الأخبار التي ذكرناها تخالف مذهبه، وما تمسك به ظاهرٌ تُفسِّره نصوصُ الأخبار.
ثم الشافعي رأى حملَ مطلق اليد في التيمم على المقيّد في الوضوء بالمرافق، وهذا وإن لم يعتقده بعضُ الناس، فهو مما يغضّ من ظهور الظاهر.
وإذا سقط مذهبُ الزهري، تعارض الحديث من مذهب الشافعي، ومذهب مالكٍ. ومنتهى التصرّف فيه ما ذكرناه، وقد ينقدح في نُصرة مذهب مالك شيء، وهو أن استيعاب الساعدين بضربة واحدة فيه عسر، وإن اقتصر على الكفيّن، فهو هيّن.
وإذا تعارض في التعبدات مذهبان، فالتمسك بالأحوط أولى.
فصل:
194- مضمون الفصل ذكرُ ما يجب استعماله في أعضاء التيمّم. فنقول:
لا بد من نقل الطَّهور إلى الوجه واليدين، كما سنصفه، فلو ضرب يده على مدرٍ صلبٍ لا غبار عليه، ولم يعلق بيده منه شيء، أو على حجر صلدٍ، ومسح وجهه ويديه، لم يُجزه عندنا. ثم إذا وجب نقلُ شيءٍ، فالشرط أن يكون المنقول تراباً طاهراً خالصاً مطلقاًً، وشرح هذه الألفاظ يوضّح غرض الفصل.
فأمّا قولنا: ترابٌ، فيندرج تحته أصناف التراب-وإن اختلفت ألوانه- فمنها الأعفر، والأسود، وهو ما يستعمل في الدواء، والأصفر، والأحمر، وهو الطين الأرمني، والأبيض وهو المأكول من التراب، لا الجص.
وقال الشافعي: والسبخ، والبطحاء، والسبخ التراب الذي لا ينبت فيه، وليس هو الذي يعلوه ملح؛ فإن الملح لا يجوز التيمم به. والبطحاء ترابٌ لين يكون في مسيل الماء، وليس رملاً.
وأما قولنا: ينبغي أن يكون طاهراً، فلا شك أن التيمم بالتراب النجس لا يُبيح الصلاة، وهو بمثابة التوضؤ بالماء النجس.
195- وأما قولنا: ينبغي أن يكون خالصاً، فالتفصيل فيه، أنه إذا اختلط بالتراب زعفران، أو دقيق، أو ما في معناهما، نظر: فإن ظهر المخالط على التراب-والمرعي في الغلبة أن يُرى- لا يجوز التيمّم به. وإن كان ذلك المخالط مغموراً؛ لا يظهر، ففي التيمّم وجهان:
أحدهما: الجواز؛ فإن المغمور كالمعدوم، اعتباراً بما يخالط الماء ويغمره الماء.
والثاني: لا يجوز التيمّم به؛ فإن المخالط، وإن قل يعلق بالوجه واليدين، والتراب كثيف لا يزحزحه، فتبقى أجزاءُ من محلّ التيمّم غيرُ ممسوسة بالتراب.
وهذان الوجهان مبنيان على ما إذا اختلط بالماء الذي يقصر عن قدر الوضوء من الماورد ما كمله، ففي جواز الوضوء وجهان، ووجه الشبه أنّا في هذه الصورة نعلم أن الماء لم يستوعب محلّ الوضوءِ، ولكن المخالط مغمور في الحسّ، كذلك التراب إذا خالط شيئاًً قليلاً، وارتفع المختلط بضرب اليد، فلا يستوعب الترابُ محلَّ التيمّم.
ولو اختلط بالتراب فُتاتةُ أوراق، أو غيرُها، فالظاهر أنه ينزل منزلة الزعفران، وإن كان فيه تيسّر التحرز منها؛ فإن التراب الخالصَ غيرُ مُعوزٍ؛ فيكفي غبرةٌ تَثُور من مخدّة أو غيرها. وللمعترض أن يقول: إذا جوّزنا التوضؤ بالماء الذي تغيّره مخالطةُ الأوراق الخريفية، فقد يجد المرء ماءً صافياً، ولا يلزمه العدول عن الماء المتغيّر إليه. وكان شيخي يتردّد فيما ذكرته من تنزيل الأوراق منزلة الزعفران.
196- وأما قولنا: ينبغي أن يكون مطلقاًً، فيتعلق به أمران:
أحدهما: أن سُحاقة الخزف أصلها تراب، ولكنها لا تسمى تراباً مطلقاًً، فهي من التراب، وليست تراباً مطلقاًً، وكان شيخي يذكر وجهين في الطين المأكول إذا شُوي ثم سُحِقَ، والوجه عندي القطع بجواز التيمم، فإن هذا القدر من الشيّ لا يسلبه اسمَ التراب، بخلاف طين الخزف والآجر؛ فإذاً الوجه الثاني غلط، غير معتدٍّ به.
والثاني: أن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز استعمالُه في ظاهر المذهب كما سيأتي.
والتراب المستعمل فيه وجهان:
أحدهما: وهو المذهب أنه يمتنع استعماله ثانياً، كالماء، والثاني: يجوز استعماله أبداً؛ لأن الماء يرفع الحدثَ، فيجوز أن يتاثر، بخلاف التراب. وهو على الجملة ممّا يؤثِّر الاستعمالُ في تغييره؛ فامتنع استعماله، وإن لم يتغيّر، ثم التراب المستعمل هو الذي التصق بأعضاء التيمم، ثم تساقط وانتثر منه.
فهذا عقد المذهب فيما يجوز التيمم به.
197- فأما النُّورَة والزرنيخ وما أشبههما، فلا يجوز التيمم به، ومعتمد المذهب أن الربَّ تعالى ذكر الصعيدَ، فقال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] واختلف المفسّرون فيه، فقال بعضهم: الصعيد ما يصّعد عن وجه الأرض، وقال بعضهم: صعيداً طيباً، معناه تراباً طاهراً، فصار هذا اللفظ من المجملات، فعوّل الشافعي على الحديث، وهو ما روي أنه عليه السلام قال: «جُعلت لي الأرض مسجداًً وترابها لي طهوراً».
فخصَّ التراب، وقال: «التراب كافيك»، فوقع الاعتماد على اسم التراب، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطّهور في نعت التراب، فصرّح باعتبار الطهارة.
فهذا هو عقد المذهب.
فرع:
198- اختلف نصّ الشافعي في التيمم بالرمل، والذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب تنزيلُ النصّين على حالين، فحيث منع، أراد الرمل الخالص الذي لا تراب فيه، وحيث جوّز، أراد الرملَ الذي يشوبه التراب.
فإن قيل: قد ذكرتم أن التراب إذا خالطه شيء، فظهر عليه، لم يجز التيمم بذلك المختلط، فما وجه التيمم برمل غالبٍ على تراب؟ قلنا: الرمل ثقيلٌ راسب، والتراب خفيف، فإذا ضرب الضارب يدَه على رملٍ فيه تراب، علا الترابُ وعبق باليد، ولم يرتفع معه الرمل، والزعفران خفيف كالتراب، فالذي يرتفع يكون مختلطاً لا محالة، وذكر المحاملي أن من أصحابنا من جعل التيمم بالرمل على قولين، وهذا ضعيف لا أصل له.
فصل:
199- قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]، ومعناه فاقصدوا، والذي صار إليه الأئمة أن من يريد التيمم لو برز لمهبّ الرياح حتى سفت الرياحُ الترابَ على وجهه ويديه، ونوى استباحة الصلاة، لم يصح تيممه، فلابد من نقل التراب قصداً إلى أعضاء التيمم.
ولو نقل التراب من رأسه، أو جزءٍ آخر من أجزاء بدنه من الموضع الذي ليس محلَّ التيمم إلى محل التيمم، صح ذلك.
ولو نقل التراب من يديه إلى وجهه، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: الجواز؛ لأن النقل والقصد إليه قد تحقق.
والثاني: لا يجوز؛ لأن محلّ التيمم كالشيء الواحد، وينبغي أن يكون النقل من غيره إليه.
ولو كان على وجهه غبار، فاكتفى بتَرْدِيده على الوجه، لم يكفه ذلك أصلاً؛ لأنه لم ينقل.
ولو مسح وجهه وعليه تراب بيديه، فعبق التراب بيده، ثم ردّه إلى وجهه، فقد كان شيخي يقطع بأن ذلك لا يجوز، وقطع غيرهُ بتخريج ذلك على الوجهين، وهو الوجه؛ فإن التراب إذا عَبِق باليد، فقد انقطع حكم الوجه عنه، فهو الآن تراب على اليد، وفي نقل التراب الذي على اليد إلى الوجه وجهان.
ولو يمّمه غيره، فإن كان معذوراً، وقد أذن في ذلك، صحّ، وإن لم يكن معذوراً، فأذن لغيره حتى يَمّمه، ففي المسألة وجهان.
وإن يمّمه غيره من غير إذنه، لم يجز، وكان كما لو برز لمهبّ الرياح، كما مضى، وإن أمكنه أن يمتنع، فلم يمتنع، ولكن لم يأذن، فالوجه القطع بالمنع؛ لما ذكرناه. ولو نقل وجهه إلى التراب فمعَّك فيه، فقد كان شيخي يذكر فيه وجهين، وذكرهما بعض المصنفين. وقطع الصيدلاني وغيرُه القول بالجواز؛ فإن الأصل قصدُ التراب أخذاً من لفظ التيمّم، وقد تحقق ذلك بنقل أعضاء التيمّم إلى التراب، فلست أرى لذكر الخلاف في ذلك وجهاً.
وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً أن من برز لمهبّ الرياح قصداً، حتى سفت الرياحُ التراب على أعضاء تيمّمه، جاز ذلك؛ فإن القصد قد تحقق، وليس في الكتاب تعرضٌ للنقل، والقصد إليه، وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معدوداً من المذهب.
فصل:
200- مقصود هذا الفصل، القول في كيفية النيّة في التيمم.
وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاةَ، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد ماءً، فيلزمه التطهر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه، فإن كان حدثه ناقضاً للوضوءِ، توضأ، وإن كان جنابةً، اغتسل.
والسببُ في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم، ليدوم مرونُه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة-وهي ثقيلة- لاستمرّت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة، فإذا ثبت ذلك، فلا ينبغي للمتيمم أن ينوي بتيممه رفعَ الحدث، ولو نواه، لم يصح تيمّمه أصلاً.
وحُكي عن ابن سُريج أنه قال: التيمم يرفع الحدث في حق فريضة واحدةٍ، فلو نوى الرفعَ، صح على هذا التأويل.
وهذا ضعيفٌ معدُودٌ من الغلطات؛ فإن ارتفاع الحدث لا يتبعّض، فلينو المتيمّمُ استباحة الصلاة، لتوافق نيَّتُه موجبَ الشرع، فتصحّ، ثم الطرق متفقة على أنه لو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة والنوافل، صحَّ منه إقامتها جميعاً.
والمذهب المقطوع به في طرق المراوزة أن تعيين الفريضة لا يشترط في نيّة التيمم.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن التيمم لا يصح، ما لم ينو المتيمم صلاةً معيّنةً من الفرائض، ثم لا تجوز الزيادة عليها. وذكر الشيخ في الشرح هذا الوجه، وهو مُطَّرحٌ، لا التفات إليه.
201- ولو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة، ولم يتعرض للنافِلة، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتنفَّل بعد الفريضة، ولا حرج.
وهل يتنفّل قبل الفريضة؟ فعلى قولين:
أحدهما:وهو المنصوص عليه في الأم- أنه يتنفل، وهو القياس؛ فإن الجمع بين الفريضة والنوافل جائز إذا نواه، فليجز، وإن لم ينوه اعتباراً بالوضوء.
ونصّ في الإملاء على امتناع ذلك، فإن النوافل إنما تؤدّى تبعاً للفريضة؛ إذ هو طهارةُ ضرورة ولا ضرورة في النوافل، فإن تبعت، لم يعتد بها، ولا تتحقّق التبعيّة مع التقدم على الفرض المتبوع.
وكان شيخي يحكي قولاً ثالثاً: أن التنفل بعد الفرض لا يجوز، إذا كان المتيمم نوى الفرض، ولم يتعرض للنوافل، وهذا بعيد، لا يخرّج إلا على الوجه المزيّف في اشتراط التعيين، فهذا إذا نوى استباحة الفرض.
202- فأما إذا نوى استباحة النفل، ولم يتعرض للفرض، فهل يصلّي الفرضَ؟ فعلى قولين مشهورين، وينتظم توجيههما بما قدّمناه.
ثم قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إذا قلنا: يؤدي الفرضَ، فلا كلام.
وإن قلنا: لا يؤدي الفرض، فهل يؤدِّي النفلَ أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يؤديه، وهو القياس.
والثاني: لا يؤدّيه؛ لأن الأصل أن التيمم لا يصلح إلا للفرض الذي لابد منه؛ فإنه شُرع للضرورة، فلئن كان التيمم يصلح للنفل مع الفرض للتبعيّة، فلو جُرّد للنفل، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة الضرورة بالكليّة.
وهذا الذي ذكره إنما كان يتجه لو كان يمتنع إقامة النوافل بالتيمم أصلاً؛ لانعدام الضرورة.
فإن قيل: فما الاعتذار عن هذا؟ قلنا: الأسفار تكثر، وإعوَازُ الماء فيها يعمّ، والانقطاع عن النوافل عظيم الوقع عند ذوي الدين، وركعتان خفيفتان خير من الدنيا وما فيها، وغاية المسافر سفراً مباحاً أرباح يرقبها على تجايره، وكيف تطيب مع الانقطاع عن النوافل!
وعلى الجملة ليست الضرورة المذكورة في التيمم إلا حاجة ظاهرة، وهذا متحقق في إقامة النوافل.
والذي يعضد ذلك أن إقامة النوافل على الرواحل جائزةٌ في السفر، حيث توجهت، وذلك كَيْلا تتعطّل أوقات المُرفَق، فكيف يليق بمحاسن الشريعة انقطاع النوافل في الأسفار.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فرع:
203- إذا فرعنا على أن من نوى الفرض يتنفّل بعد الفريضة، فلو انقضى وقتُ الفريضة، فهل يتنفل وراء وقت الفريضة؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: المنع؛ فإن التبعية تنقطع بانقضاء الوقت، وهذا ضعيفٌ؛ فإن النوافل لا اختصاص لها بالوقت.
فرع:
204- إذا نوى المتيمم استباحة الصلاة، ولم يتعرض للفرض والنفل، فالوجه القطع بأن هذا بمثابة ما لو نوى استباحة الفرض والنفل؛ فإن الصلاة اسمٌ للجنس، يتناول الفرض والنفل.
فإن قيل: لو نوى المتحرم بالصلاة الصلاةَ، لم تنعقد صلاته إلا نفلاً، فهلاّ كان الأمر في نيّة الصلاة كذلك؟ قلنا: لا يتأتى الجمع بين الفرض والنفل في تحريمةٍ واحدة، فحُمل ما جرى من ذكرِ الصلاة على الأقل، والجمع بين الفرض والنفل بتميمٍ واحد جائز، فحمل ذكر الصلاة فيه على الجنس.
وقد سمعتُ شيخي يقول: إن نوى المتيمم الفرضَ والنفل، وعناهما بإجرائه ذكر الصلاة، أداهما، وإن لم يجر ذكر النوعين، فالصلاة المطلقة محمولة على النفل.
وهذه الفروع مخرّجة على ظاهر المذهب، وهو أن صحّة التيمم لا تفتقر إلى تعيين الصلاة.
فرع:
205- إذا نوى المتيمم إقامة فرضين بتيمم واحدٍ، ففي صحّة تيممه وجهان:
أحدهما: لا يصح أصلاً، ولا يصلح لفرضٍ واحدٍ؛ فإنه أتى بالنيّة على خلاف موجب الشريعة، ففسدت؛ إذ لا معنى للفساد إلا الخروج عن موافقة الشريعة، فكأنه لم ينو أصلاً.
والثاني: أن تيممه يصح، ويصلح لفريضةٍ واحدةٍ؛ فإنه تعرض لفريضةٍ وزاد، فتفسد نيّته في الزيادة، وتنحصر في الفريضة الواحدة.
وهذا الخلاف يقرب من الخلاف في أن المتوضىء إذا نوى بوضوئه إقامة صلاةٍ واحدةٍ، دون غيرها، ففي صحة الوضوء وجهان؛ فإنه في قصره النية في الوضوء مخالف، كما أنه في التعرض للزيادة على فريضةٍ واحدةٍ مخالف، ولكن التيمم أولى بالفساد لضعفه.
فرع:
206- قد ذكرنا فيما مضى أن المتوضىء لو نوى بوضوئه إقامة الوضوءِ المفروض، جاز، وارتفع الحدث، ولو نوى بتيممه إقامة التيمم المفروض، ففي صحة التيمم وجهان:
أحدهما: الصحّة؛ اعتباراً بالوضوء.
والثاني: لا يصح، والفرق أن الوضوء قُربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ ولذلك استُحب تجديدُ الوضوءِ، والتيمم غير مقصودٍ في نفسه؛ ولذلك لا يستحب تجديد التيمم.
فصل: في كيفية التيمم
207- لو أخذ المتيمم كفّاً من التراب، ومسح به وجهه، ثم أخذ كفّاً أو كفين، ومسح يديه، واستوعب، جاز. ولكن قد نُقِل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله اختيار إقلال التراب، ثم إن الاستيعابَ لابد منه، كما سنصفه مع الإقلال، فلابد من تأنقٍ فيه، فينبغي أن يضرب يديه ضربةً لوجهه، ولا نكلِّفه في الضربة الأولى أن يفرّج بين الأصابع؛ فإنه إنما يلقى وجهُه بطنَ الكف والأصابع، ولا يتأدّى فرضُ جزءٍ من اليد ما بقي جزءٌ من فرض الوجه، ثم اليدان يقربان من مقدار سعة الوجه، ويهون ترديد اليدين على الوجه، ولا خلاف أنه لا يجب إيصال التراب إلى منابت شيءٍ من الشعور، سواء كانت خفيفةً، أو كثيفةً؛ فإن إيصال التراب إلى منابت الشعور الخفيفة أعسر من إيصال الماء اللطيف إلى منابت الشعور الكثيفة.
ثم يضرب يديه على التراب، أو على ما يثور منه التراب ضربة ثانيةً، ويفرّج في هذه الضربة أصابعه، ثم يُلصق ظهورَ أصابع يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى، بحيث لا يجاوز أطرافَ أنامل يده اليمنى المسبِّحةُ من يده اليسرى، ولا يجاوز المسبِّحةُ من يده اليمنى أطرافَ أنامل يده اليسرى، ويمُرّ يده اليسرى حيث وضعَها على ظهر ساعده اليمنى ومرفقه، ثم يقلب بطنَ ساعده اليُمنى على بطن كفّه اليسرى، ويحتوي باليد اليسرى على بطن الساعد من اليمنى، إلى حيث ينتهي الكفّ وبطونُ الأصابع وُيمرّ يدَه اليسرى كذلك، ويجريها على ظهر الإبهام من اليمنى، ثم يصادف الترابَ على يده اليمنى عتيداً، فليلصق يده اليسرى بيده اليمنى، ويُجري اليدَ اليمنى على يده اليسرى كما أجرى اليسرى على اليمنى، ثم يخلّل بين أصابعه، بحيث ينتهي المسح إلى جميع خلل الأصابع. فهذا كيفية التيمم.
والذي ذكرناه ليس بمنصوصٍ عليه في توقيف الشارع، ولكن ثبت أنا مأمورون بالتقليل، واعتقدنا-مع التقليل والاقتصارِ على ضربتين- وجوبَ الاستيعاب، فكان هذا أقربَ مسلك يجمع الاستيعابَ، والتقليلَ، والاكتفاء بغبرةٍ تلصق باليد، في ضربتين.
فهذا ما ذكره الأئمة.
208- ثم في الفصل غائلةٌ لابد من التنبيه عليها، وهى أن الضربة الثانية إذا ألصقت غباراً بالكفين، فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين، ولست أرى أن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهراً وبطناً، ثم على ظهور الكفين. وقد ورد في الشرع الاقتصار على ضربتين، وهذا مشكل جداًً، ومنه ثار خلافٌ بين العلماء، واضطربت لأجله طرقُهم.
فأما أبو حنيفة، فإنه صار إلى أن المتيمم لو أغفل ربعاً من كل يدٍ، وربعاً من الوجه، جاز، ونظر إلى اقتصار الشارع على ضربتين، وعلم-فيما زعم- أن الاستيعاب لا يتأتى، ولا يحصل مع الاكتفاءِ بضربتين، فاعتقد جواز الإغفال، ثم ذكر الربعَ تقريباً.
وأما مالك، فإنه قال: الضربة الأولى قد تستوعب الوجه، والضربة الثانية تستوعب الكفين ظهراً وبطناً، ولا يجب مسح الساعدين أصلاً، وقد ذكرنا أن ذلك قولٌ للشافعي.
وأما ما اعتقده أبو حنيفة فغير مرضيّ من جهة أنه لا يوجب نقلَ شيءٍ إلى محل التيمم، بل يقول: لو ضرب يده على صخرة صماء، ولم يعبق شيء بيده، جاز، ولا يمتنع استيعاب الساعدين مسحاً باليد، وإنما الممتنعُ بسطُ غبارٍ عليهما، فإذا كان لا يوجب نقلَ شيء، فلا تفصيل في مُحاولة بسط ما لا يجب نقله، ثم الربع مقدارٌ تحكم به من غير توقيف.
209- وأما ما ذكره الشافعي في الجديد، فمشكل جداًً؛ فإن الغبار لا ينبسط على الساعدين قطعاًً، فلا يتجه إلا مذهبان:
أحدهما: القول القديم الذي هو مذهب مالك، فيتأتى عليه تقدير بسط الغبار في الضربتين على الوجه والكفين.
والمسلك الثاني: أن نوجب إثارة الغبار، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحاً إلى الساعدين، من غير أن نتكلف بسطَ التراب في عينه. والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى موضع الإشكال، حتى يتيقن انبساطَ التراب على جميع المحلّ، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط ضرورة وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية التأتي أمراً يتفق على ندور، بل هو أمر لابد منه، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحلّ بالمسح باليد المغبّرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار.
وهذا شيء أظهرته، ولم أر بداً منه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين.
210- ثم قد ذكر المزني فيما نقله أنه يضرب يديه ضربة للوجه أولاً، ولا يفرق بين أصابعه، واتفق أئمتنا على أن تفريق الأصابع في الضربة الأولى لا معنى له؛ فإن التراب اللاصق بخلل الأصابع في الضربة الأولى لا يصير مستعملاً في الوجه، وإنما ينتهي إلى الوجه ما لصق بالكفين، فأما تفريق الأصابع في الضربة الثانية، فمفيد؛ فإنه قد دخل أوان إقامة فرض اليدين، ويجب إيصال المسح إلى خلل الأصابع.
ثم كان شيخي يحكي عن القفال: إنه إذا عبِق الغبارُ بخلل الأصابع في الضربة الأولى، ثم لم ينفض حتى ركب ذلك الغبار غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمّم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبارَ الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبار حصل على المحلّ، ثم رُدّد عليه من غير فرض نقل إليه، في أوان فرض النقل.
وهذا لم يذكره الصيدلاني وغيره من أصحاب القفال.
وهو عندي غلوٌّ ومجاوزة حدٍ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب الفكر، ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه؛ ولم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يَهُم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدئ بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يرهَقه، فلنقتصر على أن تفريج الأصابع في الضربة الأولى ليس بشرط، وليس لاشتراطه معنىً.
211- وذكر الشيخُ وجهين في أن المتيمم إذا كان يُجري إحدى يديه على الأخرى، فرفع يده قبل استيعاب العضو، ثمَّ أراد أن يعيدها إلى موضعها لاستكمال الاستيعاب هل يجوز ذلك؟ وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن التراب الباقي على اليد يصير بالفصل مستعملاً، فإذا ردّ اليدَ كان ما ردّه مستعملاً.
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ فإن المستعمل هو الذي بقي على العضو الممسوح، والباقي على اليد في حكم التراب الذي يضرب عليه اليد مرتين. وهذا ظاهر.
والذي أثار هذا الخلاف أن الذي يفضل على اليد يُعلم أنه قد ينتثر مما اتصل بالعضو الممسوح شيءٌ، ويختلط بالباقي على اليد، فيكون قد اختلط المستعمَل بغير المستعمَل، والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو نَسي الجنابةَ، فتيمَّمَ للحَدَثِ أجْزَأَه لأنَّه لو ذَكرَ الجَنَابةَ، لم يكنْ عليه أكثرُ من التيمُّم، فإذا تيمَّمَ ونوَى استباحةَ الصَّلاة من الحدَث، ثم تبيّن أنَّه كان جنباً، لم يضرّه الغلط... إلى آخره".
212- وقد عللّ المزني ذلك بعلّةٍ غيرِ مَرضيّةٍ، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرض فقهيّ؛ فلا نتعرض له.
والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النيّة استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجه من الوجوه.
وقد ذكرت هذا فيما جمعناه من كلام الأصحاب في باب النيّة للوضوء، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل:
213- المتيمم إذا وجد الماء خارج الصلاة، وتمكّن منه، بطل تيممه، وقال أبو سلمة بنُ عبد الرحمن: لا يبطل تيممه ما لم يُحدث، والتيمم عنده رافع للأحداث.
وما ذهب إليه جماهيرُ العلماء بطلان التيمم، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «فإذا وجدت الماء، فأمسِسْه جلدك» ولم يقل: فإذا وجدت الماء وأحدثت، فأمسِسْه جلدَك.
وإذا تيمم وصلَّى، ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزمه قضاء الصلاة.
وقال طاوس: إن كان وقت الصلاة باقياً، فيلزمه إعادة الصلاة، فأما الصلاة التي مرت مواقيتُها في إعواز الماء، فلا تجب إعادتها.
وقد أرى في بعض الفصول حكايةَ مذاهب السلف لغرضين:
أحدهما: أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسّطهما.
والثاني: أن من الأحكام ما يظن معظم الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاًً أصادفه لمقصودٍ في التفريع.
214- فأعود إلى تفصيل المذهب وأقول: لو رأى المتيمم ماءً خارج الصلاة، ورأى معه ما يمنع الوصولَ إليه من سبُع أو غيره، فالتيمم لا يبطل، ووجود الماء الذي رآه وعدَمُه بمثابةٍ واحدةٍ.
ولو رأى ماءً، وظنه مقدوراً عليه، ثم استبان مانعاً دونه، فقد بطل تيممه أولاً، فإذا ظهر له أن الماء غيرُ مقدورٍ عليه، لزمه إعادة التيمم، والطرق متفقة على هذا.
ولو طلع على المتيمم ركبٌ، فعليه طلبُ الماءِ منهم، وإن لم يجد، بطل تيممه، فيعيده.
ولو تراءى له سرابٌ، فحسبه ماء، ثم تبين له، بطل تيممه.
ولو رأى المتيمم ماءً في قعر بئرٍ، وعلم أنه لا دلو معه، ولا رِشاء، لم يبطل تيممه؛ لأنه كما رأى الماء علم أنه غيرُ متمكن منه.
ولو ظن أن في رحله دَلواً ورِشاءً، فلما طلب، لم يجد، بطل تيممه.
فإذاً عقدُ المذهب أن التمكن من استعمال الماء يُبطل التيمم، وكذلك حسبان التمكن يُبطله، وإِن تبين أن الأمر على خلاف ما ظن.
ولو وجب على المتيمم طلبُ الماء، ثم طلب، فلم يجد، بطل تيممه.
فأما بطلانه بالتمكن من استعمال الماء، فمستفاد من الحديث، كما سبق.
215- وأما تعليل البطلان بوجوب الطلب، وحسبان التمكن، فنقول: التيمم طهارة ضرورة، والذي يليق بالضرورة أن يحكم بصحة التيمم ابتداء ودواماً، إِذا كان المتيمم بحيث يصح منه الإِقدام على الصلاة بالتيمم، فإِذا وجب الطلب، لم يجز للمتيمم أن يصلي في تلك الحالة، فإِذا لم يجد، وانكشف الظن، فقد بطل التيمم بطروء حالة امتنع فيها الصلاة بالتيمم.
وهذا له استناد إِلى أن التيمّم لا يصحّ من غير تقديم الطلب، كما سيأتي.
فلو تيمم ثم طلب الماء، لم يصح تيممه؛ فالأصل في ذلك أن بطلان التيمم لا يتوقف على طريان الحدث، وهو في نفسه غيرُ رافع للحدث، وهو طهارة ضعيفة منوطة بالحاجة.
فإِن قيل: المتيمم إِذا أصابته نجاسة، أو عدم ما يتستر به، ثم وجد ساتراً، أو ثوباً طاهراً؛ فقد امتنعت الصلاة بما طرأ، وإِذا أزال المانع، لم تجب إِعادة التيمم.
قلنا: المانع الذي فرضه السائل لا اختصاص له بالتيمم، ووجوب طلب الماء مختصٌّ بالتيمم، فقد سقط أثر التيمم بمعنىً مختصٍّ به، فكان سقوط أثره مبطلاً له.
ويقرب مما ذكرناه أن المسافر إِذا نوى القصر، ثم شك في صلاته، فلم يدرِ أنوى القصر أم لا، ثم لم يَدُم الشك، بل كما طرأ وخطر، زال، فيجب الإِتمام، ويبطل القصر بخَطْرةٍ زالت؛ لأن الأصل الإتمام. كذلك الأصل استعمال الماء، فإِذا وَهَت الرخصة بطريان تردُّدٍ، بطلت.
فهذا كله فيه إِذا رأى المتيمم الماء خارج الصلاة.
216- فأمّا إذا تحرَّم بالصلاة، ورأى الماء فيها، فالذي نص عليه الشافعي أن التيمم لا يبطل، والصلاة لا تبطل.
وذكر ابن سُريج وجهين في أن المستحاضة إذا شُفيت في أثناء الصلاة، فهل تبطل صلاتُها بانقطاعِ ضرورتها؟
ومذهب المزني أن التيمم يبطل برؤية الماء في أثناء الصلاة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى تخريج قولٍ موافقٍ لمذهب المزني من مسألة المستحاضة؛ فإنها إذا شفيت، فقد زالت ضرورتُها، كذلك المتيمم إِذا تمكن من استعمال الماء، والأظهر القطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل.
وإِنما الخلاف في المستحاضة، والفرق أن المستحاضة تجددت عليها أحداثٌ بعد الطهارة، فإذا شُفيت، تعيّن عليها السعي في رفعها؛ إذ تمكنت، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث، والصلاة عاصمةٌ مضنون بها؛ ومن احتاج في تحصيل الماء خارج الصلاة إلى بذل درهمٍ، وهو مغبون فيها، لم يبطل تيممه، فبطلان الصلاة أحقّ بأن يُتوقّى، فكأن المتيمم غيرُ متمكنٍ من استعمال الماء.
217- ثم إِذا ثبت هذا، فإن أراد المتيمم أن يتمّم الصلاة المفروضة التي هو فيها، فعل، وإِن أراد أن يقلبها نفلاً، جاز، فيصلّي النفل، ثم يتوضّأ، ويفتتح الفريضة.
واختلف أصحابنا في أن الأوْلى ماذا؟ فمنهم من قال: الأولى إِتمامُ الفريضة؛ لأنه التزمها بالشروع فيها.
ومنهم من قال: الإضراب عن الفريضة أولى؛ للخروج عن الخلاف.
وقد رأيت للقاضي أبي الطيب الطبري في كتابه المترجم بالمنهاج: أن من أصحابنا من منع إِبطال الفريضة، وأوجب إِتمامها.
وهذا وإن كان يتجه في الخلاف، فلست أراه من المذهب، ولا أعتدّ به.
وكان شيخي يقول: لا ينبغي أن يخرج من الصلاة فيُحبطَ عملَه، بل ينبغي أن يقلبها نفلاً، ثم كان يردّ الخلاف في الأوْلى إِلى هذا، ويقول: من أصحابنا من قال: إِن إِتمامها على الفرضية أوْلى، ومنهم من يقول: قلبها نفلاً أولى.
وذكر العراقيون هذا الخلاف في الخروج من الصلاة أصلاً، فقالوا: من أصحابنا من قال: الخروج من الصلاة أوْلى؛ فإِن من العلماء من حرّم الاستمرار على الصلاة بعد رؤية الماء، وهذا يطّرد في الفرض والنفل؛ فإِنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالطهارة.
ومنهم من قال: إتمامها فرضاً أولى، ولم يتعرضوا لقلب الصلاة نفلاً.
والمراوزة لا يمنعون الخروج من الصلاة من غير قلب، في حق من رأى الماء في الصلاة.
وهذا الفصل فيه أدنى استبهامٍ.
218-وأنا وراء التنبيه، فليتخذ الناظر مسألة أذكرها أصلاً: وهو أن المسافر الذي يجوز له أن يفطر لو أصبح صائماً، ثم أراد أن يُفطر، فله ذلك؛ فإِن الشروع لا يُلزم عندنا شيئاًً إلا في الحج؛ ولهذا قلنا: الشارع في صوم التطوع، وصلاة التطوع، لا يلزمه إتمامُ ما شرع فيه.
وأنا أقول: من شرع في الصلاة في أول الوقت، فالذي أراه أنه لو أراد ان يقطعها، قطعها؛ فإنه لا تجب بأول الوقت وجوباً مضيَّقاً، فالأمر موسَّع بعد الشروع، كما كان موسّعاً قبل الشروع، اعتباراً بمسألة الفطر.
ومن لزمته فائتة غيرُ مضَيَّقة، فشرع فيها، فما قدمته من القياس يقتضي جوازَ الخروج من الفائتة؛ فإنّها على التراخي.
والذي أراه أن من شرعَ في صلاة الجنازة، فله التحلل منها، إذا كانت الصلاة لا تتعطّل بتحلّله، طرداً لما ذكرتُه.
ومصداق هذا من نص الشافعي أنه قال: "من تحرّم بصلاةٍ على الانفراد، ثم وجد جماعةً، فله أن يخرج عن صلاته، ليدرك الجماعة"، ولو كان الخروج ممتنعاً، لما جاز بسبب إِدراك فضيلةٍ.
نعم، لو شرع الإنسان في الصلاة المفروضة في آخر الوقت، فلا سبيل إلى الخروج أصلاً؛ فإن الواجب قد ضاق وقته؛ إِذ يجب البدارُ إِليه إقداماً؛ فلا يجوز الخروج منه.
والذي أراه أن المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة في آخر الوقت، لم يجز له الخروج أصلاً.
219- وهذه فصولٌ رأيتها، فابتديتها، وما عندي أن الأصحاب يسمحون بهذا، ويجوّزون للشارع في فائتةٍ الخروجَ منها، من غير عذرٍ، إذا كانت الفائتة على التراخي، ولكن القياس عندي ما ذكرته ولو نوقض فيه، ينتثر النظام، ولم يبق للمذهب رابط.
220- ولو رأى المتيمم الماء في الصلاة، وآثر إتمامها، فتلف الماء وهو في الصلاة، فإِن علم هو بتلفه وهو في الصلاة، فإِذا تحلّل منها، فهو على تيمّمه، (وإِن بقي الماء حتى تحلّل، بطل تيممه)، كما تحلّل.
ولو أريق الماء الذي رآه في الصلاة، وهو لم يشعر، فلما تحلّل أخذ يطلبه، بطل تيمّمه؛ تخريجاً على القاعدة في أن المتيمم إِذا وجب عليه الطلب، بطل تيممه.
ولو تحرم المسافر بالصلاة بالتيمم، ثم نوى الإقامة في أثناء الصلاة، فإنه يتمّم الصلاة، ولكن حكمه حكم مقيمٍ، يتيمّم في الحضر عند عدم الماء نادراً، ففي وجوب القضاء قولان، سيأتي ذكرهما. وهذا إذا لم ير الماء.
فأما إذا رأى الماء في خلال الصلاة المفروضة، ونوى مع ذلك الإقامة، فقد قال صاحب التلخيص: تبطل صلاتُه؛ لانضمام نية الإقامة إلى رؤية الماء.
ومن أصحابنا من قال: لا حكم لرؤية الماء، وهو كالمعدوم، فتجرّد حكمُ نية الإقامة، وقد مضى حكمها.
221- ولو رأى المتنفل الماء في صلاته، فالذي ذهب إليه المعظم أنه يتمّم إِذا أراد.
وقال ابن سريج: ينقطع النفل بخلاف الفرض.
فإن قلنا: لا ينقطع، فإن كان نوى ركعتين أتمهما، وإن كان نوى أربعاً، فهل يتعيّن الاقتصار على ركعتين؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: له أن يتمم أربعاً، فلو رأى الماء، وكان نوى ركعتين، فنوى أن يتمم أربعاً فالمذهب أنه ليس له ذلك؛ فإنه في حكم مفتتح نفلاً مع وجود الماء، ولذلك تفتقر الزيادة إلى قصد إليها.
ومن أصحابنا من جوّز الزيادة، من حيث إن الزيادة مع المزيد عليها في حكم صلاةٍ واحدةٍ، وهي بمثابة تطويل الصلاة مع وجود الماء.
فصل:
222- ذكر الشيخ أبو علي في الشرح فصلاً في الرّدة، له أدنى تعلّق بما نحن فيه، فنَسردُه على وجهه. ونقول:
المتيمم إذا ارتدّ بعد فراغه عن التيمم، ثم عاد إِلى الإسلام، فهل تلزمه إِعادة التيمم؟ فعلى وجهين.
ووجه تعلق هذا بما قدّمناه أنه لما ارتدّ، فقد انتهى إلى حالةٍ يمتنع عليه الصلاةُ فيها، فأشبه ما لو طلع ركبٌ، فطلب الماء ولم يجد.
والثاني: لا يبطل تيمّمه؛ فإِنّ تعذّر الصلاة بالردّة لا اختصاص له بالتيمّم، وإنما هو لزوال الإيمان، وهو شرط صحة الصلاة.
والمتوضىء إذا ارتدّ بعد الفراغ من الوضوء، لم يبطل وضوؤه على ظاهر المذهب، وذكر الشيخ فيه وجهاً بعيداً، وهو غلط عندي، وقطع بأن الغُسل لا يبطل بطريان الردة بعده بلا خلاف، ولو ارتدّ المتوضىء في أثناء وضوئه، فإن أتى بشيء من الوضوء وهو مرتدّ لم يعتدّ به، وإِن لم يأتِ بشيءٍ، وعاد إِلى الإسلام، فإن قرب الزمان، ولم ينته إلى حد التفريق، ففيه وجهان مأخوذان من التفريق، فإن أوجبنا الموالاة، فقد حكمنا بأن الطهارة تحت رابطة جامعةٍ، فالردّة تنقضها، وإن حكمنا بأن الموالاة، ليست رُكناً في الطهارة، فكأن كل ركن منها عبادة على حيالها.
ولو ارتد، وطال الزمان، فقد اجتمع التفريق وطريان الردة، فيخرّج على الخلاف مرتباً على ما تقدم.
وسنذكر نظير هذا في الأذان في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولا يجمع بالتيمم بين صلاتي فرض"
223- المتيمم لا يجمع بين صلاتين مفروضتين بتيمم واحد.
وضبط المذهب فيه أن التيمّم طهارة ضرورة، فلا يؤدَّى به ما يؤدَّى إِلا على قياس اتباع الضرورة، ومساق هذا يقتضي أن يجدّد تيمماً لكل فريضة.
ثم مذهب الشافعي أن المتيمم يجمع بين فريضةٍ وما شاء من النوافل، وهذا يخرم الضبط من وجهين:
أحدهما: أنه لو قيل: لا ضرورة في إقامة النوافل بالتيمم، فينبغي ألا يجوز إقامتها بالتيمم. فالجواب عن هذا سهل، وقد سبق من تقرير الجواب في ذلك ما فيه مقنع.
والثاني: أن النوافل فيما يتعلق بالطهارة كالفرائض، وكان لا يبعد في القياس أن يتيمّم لكل نافلة كما يتيمّم لكل فريضةٍ.
وقد ذكر بعض المصنفين رمزاً إلى ذكر خلاف؛ فإِنه قال: المذهب أنه يجمع بين فريضة ونوافل بتيمّم، وهذا إشعار بخلافٍ، ولا معوّل على هذا أصلاً.
فإذاً وجه التعليل فيه أن النوافل تابعةٌ للفريضة، فكأنها غيرُ منقطعةٍ عنها، وقد صح في الحديث أنها جبرانٌ لنقصان الفرائض، وهي بمثابة إكمال الفريضة بسنّتها وآدابها، والمتيمم لا يكلف أن يقتصر في الفريضة على ما لابد منه، ثم النوافل بعضها مع بعض في حكم صلاةٍ واحدة؛ إذ لو أراد أن يجمع مائة ركعة تحت تحريمةٍ واحدةٍ، جاز، فكأنها-وإن تفصّلت، وتعدّدت- في حكم صلاةٍ واحدةٍ. فهذا منتهى الإمكان.
224- وفي الجمع بين صلاتين منذورتين، وصلاةٍ مفروضةٍ وأخرى منذورة قولان وهذا تخريج على أنَّ المنذور هل يقام مقام المفروض شرعاً، وفيه قولان، سيأتي بيانهما في كتاب النذور- إن شاء الله تعالى.
والمقدار الذي يذكر للإيناس: أن من نذر صلاة، فأراد إقامتها قاعداً، مع القدرة على القيام، فهو يخرج على القولين.
ولو جمع بين مفروضة وصلاة جنازة، فقد نصَّ الشافعي على جواز ذلك، ونصّ على أن صلاة الجنازة لا تقام على الراحلة، ولا تقام قاعداً مع القدرة على القيام، فاضطرب الأئمة في هذين الأصلين، ونحن نذكر كلَّ حكم على حياله.
225- فأما الجمع، ففي الجمع بين فريضة، وصلاة جنازة، وبين صلاتي جنازة بتيمم واحدٍ أوجه: أصحها- جواز الجمع؛ فإن الصلاة على الميت، وإن كانت من فروض الكفاية؛ فهي كالنافلة، في أنه لا يجب الإقدام عليها، إذا قام بها من فيه كفاية.
والوجه الثاني- أنه لا يجوز الجمع؛ فإنها إذا تمت، تكون واقعةً فرضاً.
والثالث: أنها إن تعيّنت، بألا يكون مع الإنسان-إذا مات رفيقُه- أحدٌ، فيتعيّن الصلاة عليه، فإذا أراد والحالة هذه أن يجمع بين فريضة وصلاة الجنازة، لم يجز، وإن لم تتعين، فيجوز. فهذا حكم الجمع.
226- فأما إقامة صلاة الجنازة قاعداً، مع القدرة على القيام، وإقامتها على الراحلة، فقد اختلف أصحابنا فيها، فقال الأكثرون: لا يجوز، وهو الأصح؛ فإن الركن الأظهر في هذه الصلاة، بعد العقد- القيامُ؛ إذ لا ركوع ولا سجود فيها، فالإخلال بالقيام تغيير لوضع الصلاة.
وسنذكر في كتاب الصلاة أن المتنفل لو صلّى مضطجعاً، مع القدرة على القعود، لم يجز؛ من حيث إِن هذا إِخراجُ الصلاة عن وضعها.
ومن أصحابنا من أجاز إقامة هذه الصلاة قاعداً؛ من حيث إنها تضاهي النوافل، ومنهم من فصّل بين أن يتعيّن، وبين ألا يتعيّن، كما مضى.
227- والجمع بين صلاة مفروضة وبين الطواف المفروض بتيمم واحدٍ غير جائز.
فأمّا الجمع بين صلاةٍ مفروضةٍ وبين ركعتي الطواف، فيخرّج على أن ركعتي الطواف فرضٌ أم لا؟ وفيه خلاف. فإن حكمنا بأنهما فرض، لم يجز الجمع، وعلى هذا هل يجمع بين الطواف الفرض وبين ركعتي الطواف؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجمع؛ لأنهما فرضان.
والثاني: يجمع؛ لأن ركعتي الطواف جزءٌ من الطواف، بمثابة شوط من الأشواط، فإذا طاف، وصلى ركعتي الطواف، كان كمن صلى صلاةً واحدةً.
وإِن قلنا: ركعتا الطواف نفل، فلا يخفى الحكم.
فرع:
228- من نسي صلاةً، ولم يدْرِ عينَها، قضى خمسَ صلواتٍ حتى يخرج عما عليه. ثم هل يجمع بينها بتيَممٍ واحدٍ؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه يصلي الصلوات الخمس بتيمم واحدٍ؛ فإِن الفرض منها واحد.
وقال الخِضْري: يتيمّم لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ فإن كل صلاة منها يتعين الإقدام عليها؛ فصارت في حكم صلوات مفروضة مقصودة.
وقد حكى العراقيون قولين في ذلك، فلو نسي صلاتين من يوم وليلة، أو نسي صلاتين مختلفتين من يومين وليلتين، فيكفيه أن يقضي صلوات يومٍ وليلة؛ فإِنها تشتمل على الصلاتين المختلفتين، فإِذا كان يتيمم، قال صاحب التلخيص: يصلي خمس صلوات بخمس تيمّماتٍ.
وقال ابن الحداد: يتيمم، فيصلي الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيممٍ واحدٍ، ثم يتيمم، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، بتيمم آخر؛ فيكون خارجاً عمّا عليه؛ فإِنه لا يفرض على ما ذكره ابن الحداد صلاتان إلا وقد أداهما.
فإن قلت: لعلّ المفروض صلاة الصبح وصلاة المغرب، قلنا: فقد أدى صلاة الصبح بالتيمم الأول، ودخلت صلاة المغرب تحت ما أداه بالتيمم الثاني، وهكذا كيف فرضت صلاتان، فلابد من اندراجهما تحت تيممين.
والذي ذكره صاحب التلخيص لا ينكره ابن الحداد، ولكن ليس فيه إعمال فكرٍ وتدقيق نظر، فمن لا يزيد في عدد الصلاة، يصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، وقد نسي صلاتين، فلا طريق إلا ما ذكره صاحب التلخيص، ومن حاول الزيادة في الصلوات والنقصان من التيمم فأقرب الطرق ما ذكره ابنُ الحداد.
فلو صلى على طريقة ابن الحداد: الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، بتيممٍ واحد، ثم صلى الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيمم آخر، فلا يخرج عمّا عليه، لجواز أن تكون الفائتةُ الظهرَ والعشاءَ، وقد أدىّ الظهرَ بالتيمم الأول، ولم ينته التيمم الثاني إلى العشاء، وإذا تبين أن المطلوب اليقين، وأشير إلى طلبه، لم يخف الغرض بعد ذلك.
ولو كان نسي صلاتين من جنس واحدٍ، وأشكلتا عليه، فلابد من أن يصلي عشر صلواتٍ: صبحين، وظهرين، وعصرين، ومغربين، وعشاءين، ثم على مذهب الخِضْري يتيمم عشرَ مراتٍ، وعلى مذهب سائر الأصحاب، يتيمم، ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، ثم يتيمم ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، فيخرج عما لزمه.
229- ومما يتصل بهذا، أن من كان محبوساً في حُش، وموضعٍ نجس، أمرناه بالصلاة لإقامة حق الوقت، ثم أمرناه عند انقضاء ذلك السبب بالإعادة. ولو أدى وقضى بتيمم واحدٍ، هل يجوز أم لا؟ فعلى وجهين، يقرب مأخذهما مما ذكرناه، فيمن نسي صلاةً من خمس صلوات، لا بعينها.
وفي المسألة التي ذكرناها الآن سرّ، سنذكره في قضاء الصلوات، في الباب الذي بعد هذا. إن شاء الله تعالى.
230- ومن هذا الفن، أن من صلّى منفرداً بتيممٍ، ثم أدرك جماعةً، فأراد إعادتها في الجماعة بذلك التيمم بعينه، فإن قلنا: إن الصلاة المعادة سنّة؛ فيجوز إقامتها بالتيمم الأول، وإن قلنا: إذا أعيدت، فالفرض أحدهما لا بعينه؛ ففي إقامتها ثانية بذلك التيمّم بعينه وجهان، كما سبق، والاكتفاء بتيمم واحد في هذه الصورة أولى؛ فإنه لا يجب الإقدام على إعادة الصلاة ثانية، وإن كنّا نقول عند اتفاقها: الواجبة الأولى أو الثانية، ومن نسي صلاة من خمس تحتم عليه الإقدام على كل صلاةٍ من الصلوات الخمس.
فصل:
231- شرطُ التيمم تقديمُ طلب الماء عليه، ولا فرق بين أن يظهر للماء علامات، من خُضرة، وانقضاض طيورٍ، وغيرهما، وبين ألا يظهر، وإنما يجب الطلب إذا كان يتوقع وجود الماء، على قربٍ أو استبعادٍ، فأما إذا كان المرء يقطع بأن لا ماء بالقرب منه، وذلك بأن يكون في بعض رمال البوادي، فنعلم ضرورةً استحالة كون الماء، فلا نكلفه التردد للطلب، فإنّ طلبَ ما يعلم الطالب استحالةَ وجوده محال.
ثم قال الصيدلاني: لا يُكلَّف الطالب مشقة، بل يطلب على القرب واليسر.
وقال صاحب التقريب: لا نكلّفه أن يتردّد، ولكن يكفيه أن ينظر يمنةً ويسرةً، ويردّد الطرفَ حواليه.
وكان شيخي يقول: يتردّد قليلاً، ولا نكلّفه أن يبعد.
وليس هذا اختلافاً عندي، ولكن إن كان في مستوى الأرض، كفاه أن ينظر، إذا لم يكن ببصره كلال، وإن كان المكان غيرَ مستوٍ، وكان بحيث لا ينفذ فيه البصر، فيتردد قليلاً، وهذا الفصل فيه استبهام.
ومما أحرص عليه جهدي، أن أضبط مواقع الانتشار، وأوضحَ مقام الاستبهام على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه.
فلا نكلّفه أن يرتكب خطراً، في نفسه أو ماله بتردّده، ولا نكلّفه أيضاً-والطرق آمنة- أن يبعد عن مجثم الرفقة، فرسخاً، أو نصف فرسخ، ولا نقول: لا يُفارق الأطلالَ، وطُنُبَ الخيام، فالوجه القصد في ذلك، أن يطلب الماء من موضعٍ، لو انتهى إليه، واستغاث بالرفقة، لم يبعد عنه غوثُهم، مع ما هم عليه من تشاغلهم بأشغالهم، وتفاوضهم بأقوالهم. فهذا أقرب معتبرٍ في ضبط ذلك.
ثم يختلف بأستواء الأرض، واختلافها صعوداً وهبوطاً، وإن كان ينسرح الطرف كفى، وإن احتاج إلى التردد قليلاً، تردد على الضبط الذي ذكرناه.
232- وتمام البيان في هذا: أن من رأى ماءً على نصف فرسخ، ولم يكن بينه وبينه مانع، فقد نكلّفه أن يحضر الماء، كما سنذكره في الباب الثاني، ولا نقول:
يجب طلب الماء من الموضع الذي لو تيقن الماءَ فيه، يلزمه إِتيانه.
هذا أهون فصلٍ في الباب. وفيه من التردّد ما فيه. والله أعلم.
233- ولو نزل منزلاً،، طلب الماء عند صلاة الظهر، وتيمم وصلّى، ثم دخل وقت العصر، وهو غير بارحٍ، فإِن استيقن بالطلب الأول، أن لا ماء بالقرب منه، فلا يجب الطلب الثاني؛ لما قدّمناه، من أن الطلب مع استيقان الفقدان محال، وهذا إذا لم يحدُس شيئاًً من إِطباق غمامة، أو إِمكان سيلان سيل، أو حضور ركب.
وإن لم يستيقن بالطلب الأول أن لا ماء، ولكن غلب على ظنه-وذلك يُكتفى به- فالأصح أنه يجب عليه تجديدُ طلب الماء للتيمم الثاني، ولكن الطلب الثاني يكون أخفَّ من الأول.
وقد سمعت شيخي يذكر وجهاً: أنه إذا لم يبرح، ولم يتجدد شيء آخر، لا يلزمه تجديدُ الطلب. والأصح الأول.
وذكر بعضُ المصنّفين وجهين فيه، إذا انتهى إلى موضع يغلب على الظنّ عدمُ الماء، فهل يجب عليه الطلب، والحالة هذه؟ وليس هذا فيه إذا استيقن عدمَ الماء، بل الوجهان مفروضان فيه إذا غلب على الظن عدمُ الماء، وذِكْرُ الخلاف في الطلب الأوّل بعيد جدّاً. وإنما ذكر الخلاف في الطلب للتيمم الثاني في المكان الواحد، كما حكيته عن شيخي، ولو كان ما حكاه هذا الرجل موثوقاً، لكان وجهه، أنه بالطلب لا يستفيد إلا غلبة الظن، وهذا متحقق من غير طلبٍ.
فإذاً ينبغي أن يتخيّل على هذا ثلاث مراتبَ: إحداها- إذا كان للماء علامة، فالطلب يجب وفاقاً.
وإن لم تكن علامة، ولكن لم يغلب على الظن عدم الماء، فيجب الطلبُ في هذه الصورة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
وإن غلب على الظن فقدُ الماء، ففي وجوب الطلب الخلافُ الذي ذكره، ولست أثق بهذا في الطلب الأول.