فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (94):

الآية الرابعة والعشرون:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: هذا متصل بذكر الجهاد والقتال.
والضرب: السير في الأرض.
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض بدون (في) إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط».
{فَتَبَيَّنُوا}: من التبين، وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبّتوا من التثبت، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، قالا: لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر.
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلم واختار أبو عبيد قراءة: السلام، وخالفه أهل النظر فقالوا: السّلم هاهنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم.
فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام، أي كلمته وهي الشهادة، {لَسْتَ مُؤْمِناً}، من أمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافرا بعد أن قال: لا إله إلا اللّه قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عن من وقع منه ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأنهم تأولوا وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما، ولا يصير دمه بها معصوما، وأنه لابد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.
والحكمة في التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم، وأنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة، وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآخر داخلان تحت القول الأول.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا}: الجملة في محل نصب على الحال، أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الحياة عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت.
قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرض بالسكون.
وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا} وجمعه عروض.
وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
{فَعِنْدَ اللَّهِ}: هو تعليل للنهي، أي عند اللّه ما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور.
{مَغانِمُ كَثِيرَةٌ}: تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد واغتنام ماله.
{كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}: أي كنتم كفارا فحقنت دماؤكم لمّا تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم، خوفا على أنفسكم، حتى منّ اللّه عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم.

.تفسير الآية رقم (95):

الآية الخامسة والعشرون:
{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)}.
{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل اللّه بماله ونفسه، وإن كان معلوما ضرورة، لكن أراد اللّه سبحانه بهذا الأخبار، تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا.
{غَيْرُ}: قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير بالرفع على أنه وصف للقاعدين- كما قال الأخفش-، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين، وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا: {أُولِي الضَّرَرِ} فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من القاعدين: أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد. وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة.
قال القرطبي: والأول أصح- إن شاء اللّه تعالى- للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرا، إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر».
قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر: «إذا مرض العبد، قال اللّه تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة، إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ».
{وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً}: هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا، والمراد هنا غير أولي الضرر حملا للمطلق على المقيد، وقال هنا درجة، وقال فيما بعد درجات، فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم الدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقال آخرون: فضل اللّه المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما.
وقيل: إن معنى درجة علوّ، أي أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح.
ودرجة: منتصبة على التمييز أو المصدرية، لوقوعها موقع المرة من التفضيل: أي فضل اللّه تفضيلة، أو على نزع الخافض، أو على الحالية من المجاهدين، أي ذوي درجة.
{وَكُلًّا}: مفعول أول لقوله: {وَعَدَ}، قدّم عليه لإفادة القصر، أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين.
{وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} أي المثوبة، وهي الجنة، قاله قتادة.

.تفسير الآية رقم (97):

الآية السادسة والعشرون:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97)}.
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97)} قيل: المراد بهذه الأرض المدينة، والأولى العموم، اعتبارا بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض المذكورة في الآية الأولى، كل أرض ينبغي الهجرة منها.

.تفسير الآية رقم (98):

الآية السابعة والعشرون:
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}.
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}: هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: هو استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول، وضميره.
{مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ}: متعلق بمحذوف، أي كائنين منهم.
والمراد بالمستضعفين من الرجال: الزّمنى ونحوهم، والولدان كعياش ابن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم، لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفا.
وقيل أراد بالولدان: المراهقين والمماليك.
{لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}: صفة للمستضعفين، أو الرجال والنساء والولدان، أو حال من الضمير في المستضعفين.
قيل: الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي: لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك.
{وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} وقيل: السبيل سبيل المدينة.
وقد استدل بهذه الآية، على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي اللّه جهارا، إذا كان قادرا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية من العموم، وإن كان السبب خاصا كما تقدم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان، وزمان وزمان.
وقد ورد في الهجرة أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة اليوم من أرض الهند فليراجع.
وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح.
وقد أوضحنا ما هو الحق في شرحنا على بلوغ المرام فليرجع إليه.

.تفسير الآية رقم (101):

الآية الثامنة والعشرون:
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)}.
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} شروع في كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر، ولقاء العدو، والمطر، والمرض.
وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة، وترغيب له فيها، لما فيه من تخفيف المئونة، أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت كما يفيده الإطلاق.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}: أي وزر وحرج في {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور.
وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز، والكوفيون، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر».
ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
ومثله حديث يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته». أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن.
وظاهر قوله: «فاقبلوا صدقته» أن القصر واجب.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من القصر مع الأمن.
وقد قيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم.
وفي قراءة أبيّ: أن تقصروا من الصّلاة أن يفتنكم بسقوط {إِنْ خِفْتُمْ}، والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا.
وذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له.
وذهب آخرون إلى أن قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تم عند قوله: {مِنَ الصَّلاةِ}، ثم افتتح فقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره، وما ورد في معناه.