فصل: تفسير الآيات (191- 192):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (191- 192):

الآيتان الثامنة والتاسعة عشرة:
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}.
قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. انتهى.
وقد امتثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر ربه فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها اللّه عليه. وفي معنى الفتنة والمراد بها أقوال: والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان وعلى أي صورة اتفق فإنها أشد من القتل.
واختلف أهل العلم في قوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فذهبت طائفة إلى أنها محكمة وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى متعد بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة، وهذا هو الحق.
وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع هنا ممكن ببناء العام على الخاص: فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم. ومما يؤيد ذلك قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنها لم تحلّ لأحد قبلي وإنها أحلت لي ساعة من نهار»، وهو في الصحيح.
وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن قتالكم ودخلوا في الإسلام.

.تفسير الآية رقم (193):

الآية الموفية العشرين:
{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
فيه الأمر بمقاتلة المشركين ولو في الحرم وإن لم يبتدءوكم بالقتال فيه إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين للّه: وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له. فمن دخل الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله.
قيل المراد بالفتنة هنا: الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين- على عمومها- كما سلف.
والمراد لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ولم يدخل في الإسلام. وإنما سمى جزاء الظالمين عدوانا مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].

.تفسير الآية رقم (194):

الآية الحادية والعشرون:
{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}.
أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته فقاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم.
والحرمات: جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة. وإنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام.
والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه.
والقصاص: المساواة. والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمتكم عليكم فلكم أن تهتكوا حرمته عليه قصاصا. قيل: وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم ينسخ فيجوز لمن تعدّي عليه في مال أو بدن أن يتعدّى بمثل ما تعدّي عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره.
وقال الآخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» أخرجه الدارقطني وغيره وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني.
والقول الأوّل أرجح، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده أنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أباح لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، وهو في الصحيح.
ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}، وهذه الجملة في حكم تأكيد الجملة الأولى أعني قوله: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ}. وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون من الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة- وهو شهر حرام- قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصّه اللّه منهم ذلك في هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضا، وأخرج أيضا عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية، وقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ} [الشورى: 40]، وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41]، وقوله: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ} [النحل: 126]، قال: هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى. فأمر اللّه المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبروا ويعفوا. فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى المدينة وأعزّ اللّه سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية فقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً} [الإسراء: 33]. يقول ينصره السلطان حتى ينصفه ممن ظلمه. ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم اللّه. انتهى.
وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي اللّه عقنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله: {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً} أنه جعل السلطان له، أي جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل، ولهذا قال: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}. ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخا لها فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده.
وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام اللّه سبحانه وتعالى.

.تفسير الآية رقم (195):

الآية الثانية والعشرون:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.
في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل اللّه وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل اللّه، والباء في قوله: {بِأَيْدِيكُمْ} زائدة. ومثله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)} [العلق: 14]. وقال المبرد: بأيديكم أي بأنفسكم تعبيرا بالبعض عن الكل، كقوله: {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقيل: هذا مثل مضروب يقال: فلان ألقى بيده في أمر كذا: إذا استسلم لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان.
وقال قوم: التقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم.
والتهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة: أي لا تأخذوا فيما يهلككم.
وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها، وبيان سبب نزول الآية.
والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكلما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذه، وبه قال ابن جرير الطبري.
ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين. ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها وهو ظنّ تدفعه لغة العرب.
وقوله: {وَأَحْسِنُوا} أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن باللّه في إخلافه عليكم.
أخرج عبد بن حميد والبخاري والبيهقي في سننه عن حذيفة في قوله هذا قال: نزلت في النفقة.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو ترك النفقة في سبيل اللّه مخافة العيلة.
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه أيضا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن حميد والبيهقي في الشعب عنه قال: هو البخل.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بغير نفقة فإما يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم اللّه أن يستنفقوا مما رزقهم اللّه وألا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي.
وقال لمن بيده فضل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.
وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن نافع والطبراني عن الضحاك بن أبي جبير أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل اللّه ويتصدقون فأصابتهم سنة فساء ظنهم وأمسكوا عن ذلك فأنزل اللّه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وصححه- والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أسلم بن عمران قال: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صفّ عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان اللّه يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: أيها الناس إنكم تأولون هذا التأويل وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار إنا لما أعزّ اللّه دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إن أموال الناس قد ضاعت وإن اللّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع هنا؟ فأنزل اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يرد علينا فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم- وصححه- والبيهقي عن البراء بن عازب قال في تفسير الآية: الرجل يذنب الذنب فيلقي بيده فيقول لا يغفر اللّه لي أبدا، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال في تفسير الآية: إنه القنوط، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التهلكة عذاب اللّه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق فأسرع رجل إلى العدو وحده فعاب ذلك عليه المسلمون ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه فردّه وقال: قال اللّه: {وَلا تُلْقُوا} الآية.
وأخرج ابن جرير عن رجل من الصحابة في قوله: {وَأَحْسِنُوا} قال: أدوا الفرائض.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: أحسنوا الظنّ باللّه.

.تفسير الآية رقم (196):

الآية الثالثة والعشرون:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)}.
اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور ولا يخل بشرط ولا فرض لقوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن يخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع ولا قران. وبه قال ابن حبيب وقال: إتمامهما أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله، وقيل أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل وابن عبد البر في التمهيد عن يعلى بن أمية قال جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق، فقال: كيف تأمرني يا رسول اللّه أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل اللّه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أين السائل عن العمرة؟ فقال ها أنا ذا قال اخلع الجبة واغسل عنك أثر الخلوق ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك». وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه ولكن فيهما أنه نزل عليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الوحي بعد السؤال ولم يذكرا ما هو الذي أنزل عليه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: تمام الحجّ يوم النّحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حلّ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصّفا وبالمروة فقد حلّ.
وقد ورد في فضائل الحج والعمرة أحاديث كثيرة ليس هذا موطن ذكرها.
وقد اتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا.
وقد استدل بهذه الآية على وجوب العمرة لأن الأمر بإتمامها أمر بها، وبذلك قال عليّ وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومسروق وعبد اللّه بن شدّاد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكية.
وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم: إنها سنة.
وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب.
ومن القائلين بأنها سنة: ابن مسعود وجابر بن عبد اللّه ومن جملة ما استدل به الأولون ما ثبت عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الصحيح أنه قال لأصحابه: «من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة»، وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرانك بأيهما بدأت».
واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «الحج جهاد والعمرة تطوع».
وأخرج ابن ماجة عن طلحة بن عبيد اللّه مرفوعا مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي- وصححه- عن جابر أن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا خير لكم».
وأجابوا عن الآية والأحاديث المصرحة بأنها واجبة فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد لكن يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة ولا سيما بعد تصريحه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في حديث جابر من عدم الوجوب وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعمرو بن حزم «أن العمرة هي الحج الأصغر»، وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: أوصني؟ فقال: «تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتسمع وتطيع وعليك بالعلانية وإياك والسر» هكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال وأنهما كفارة لما بينهما وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك.
{أُحْصِرْتُمْ} الحصر: الحبس قال أبو عبيدة والكسائي والخليل: إنه يقال: أحصر بالمرض وحصر بالعدو. وفي المجمل لابن الفارس العكس يقال أحصر بالعدو وحصر بالمرض، ورجح الأول ابن العربي وقال: هو رأي أكثر أهل اللغة، وقال الزجاج إنه كذلك عن جميع أهل اللغة، وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو ووافقه على ذلك أبو عمر الشيباني فقال: حصرني الشيء وأحصرني أي حبسني.
وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية فقالت الحنفية المحصر: من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره.
وقالت الشافعية وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدوّ يحل حيث أحصر وينحر هديه- إذا كان ثم هدي- ويحلق رأسه كما فعل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو وأصحابه في الحديبية.
وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال اللّه: {فَإِذا أَمِنْتُمْ} فلا يكون الأمن إلا من الخوف.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا إحصار إلا من العدو، وأخرج أيضا عن الزهري نحوه.
وأخرج أيضا عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس.
وأخرج أيضا عن عروة قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار.
وأخرج البخاري عن المسور أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يقول: من أحرم بحجة أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي: شاة فما فوقها، وإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت بعد حج الفريضة فلا قضاء عليه.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يقول: الرجل إذا أهل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، فإن كان عجّل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق رأسه أو مس طيبا أو تداوى بدواء كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة.
{فَإِذا أَمِنْتُمْ} يقول: فإذا برئ فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحل من حجته بعمرة وكان عليه الحج من قابل، فإن هو رجع ولم يتم من وجهه ذلك إلى البيت كان عليه حجة وعمرة، فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من الهدي: شاة، فإن هو لم يجد فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم.
قال إبراهيم فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال: هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها، وذهب الجمهور إلى أنه شاة، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة، وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة.
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر. وإليه ذهب جمع من أهل العلم. وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة: أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله وهو الموضع الذي يحل فيه ذبحه.
واختلفوا في تعيينه فقال مالك والشافعي: هو في موضع الحصر اقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حيث أحصر في عام الحديبية، وقال أبو حنيفة: هو الحرم، لقوله تعالى: {مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)} [الحج: 33] وأجيب عن ذلك بأن المخاطب هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، وأجاب الحنفية عن نحره صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، ورد بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة، وبالأذى من الرأس ما فيه من قمل أو جرح فعليه فدية. وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك، فثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ فقال: نعم! فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.
وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء في أن النسك هنا هو شاة.
وحكى عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام الستة مساكين.
وروى عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ويبطل قولهم.
وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدّان بمد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أي لكل مسكين.
وقال الثوري: نصف صاع من برّ أو صاع من غيره، وروي ذلك عن أبي حنيفة.
قال ابن المنذر: هذا غلط! لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال له: «تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين».
واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل فروى عنه بمثل قول مالك والشافعي.
وروي عنه: إن أطعم برّا فمدّ لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع.
واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث يشاء. وبه قال أصحاب الرأي.
وقال طاووس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة والصوم حيث شاء.
وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع.
قال في فتح القدير وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان. انتهى.
{فَإِذا أَمِنْتُمْ} أي برأتم من المرض، وقيل من خوفكم من العدوّ- على الخلاف السابق- ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض فيكون مقويا لقول من قال: إن قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} المراد به الإحصار من العدوّ. كما أن قوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر، وقد وقع الخلاف: هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة؟ أم جميع الأمة على حسب ما سلف؟
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} المراد بالتمتع أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالا بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمحرم استباحته، وهو معنى تمتع واستمتع.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع قال الشوكاني في فتح القدير: بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي في المنتقى. انتهى.
وفي المختصر المسمى بالدرر البهية وشرحه المرسوم بالدراري المضيئة أيضا وتقدم الخلاف في معنى قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} أي فمن لم يجد الهدي إما لعدم المال أو لعدم الحيوان صام ثلاثة أيام في أيام الحج وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر.
وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما ويوم التروية ويوم عرفة.
وقيل: ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة.
وقيل: يصومهنّ من أوّل عشر ذي الحجة.
وقيل: ما دام بمكة.
وقيل: إنه يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم، وقد جوّز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يحل الهدي، ومنعه آخرون.
والمراد بالرجوع هنا الرجوع إلى الأوطان.
قال أحمد وإسحق: يجزيه الصوم في الطريق ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم.
وقال مالك: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم والأول أرجح.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» فبين صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل.
وثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ «و سبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» وإنما قال سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة، لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع. قاله الزجاج.
وقال المبرد: ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أن قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة.
وقيل: هو توكيد وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد كقول الشاعر:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ** وسادسة تميل إلى شمامي

وقوله: {كامِلَةٌ}: توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها، وأن لا ينقص من عددها. {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} الإشارة بقوله: {ذلِكَ} قيل: هي راجعة إلى التمتع، فيدل على أن لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه. قالوا: ومن تمتع منهم كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه.
وقيل: إنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي والصيام، فلا يجب ذلك على من كان أهله حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه.
والمراد من لم يكن ساكنا في الحرم أو من لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها، على الخلاف في ذلك بين الأئمة.