فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ

257- أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْأَثَرْ *** وَالْفِقْهِ فِي قَبُولِ نَاقِلِ الْخَبَرْ

258- بِأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا مُعَدَّلًا *** أَيْ يَقِظًا وَلَمْ يَكُنْ مُغَفَّلًا

259- يَحْفَظُ إِنْ حَدَّثَ حِفْظًا يَحْوِي *** كِتَابَهُ إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِي

260- يَعْلَمُ مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ إِحَالَهْ *** إِنْ يَرْوِ بِالْمَعْنَى وَفِي الْعَدَالَهْ

261- بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ذَا عَقْلِ *** قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ سَلِيمَ الْفِعْلِ

262- مِنْ فِسْقٍ أَوْ خَرْمِ مُرُوءَةٍ وَمَنْ *** زَكَّاهُ عَدْلَانِ فَعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ

‏(‏مَعْرِفَةُ‏)‏ صِفَةُ ‏(‏مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ‏)‏ مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ ‏(‏وَمَنْ تُرَدُّ‏)‏، وَمَا الْتَحَقَ بِذَلِكَ ‏[‏سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبُولِ الضَّعِيفِ إِذَا اعْتُضِدَ، وَالْمُدَلِّسِ إِذَا صَرَّحَ، وَمَا سَيَأْتِي مِنْ قَبُولِ الْمُتَحَمِّلِ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ، وَالْأَعْمَى وَنَحْوِهِ، وَالْمُخْتَلِطِ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏]‏، وَذِكْرُهُ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْمَتْنِ وَمَا الْتَحَقَ بِهِ مُنَاسِبٌ، وَفِيهِ فُصُولٌ‏:‏

‏[‏مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ‏]‏

الْأَوَّلُ‏:‏ ‏(‏أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْأَثَرْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ ‏(‏وَالْفِقْهِ‏)‏ وَالْأُصُولِ ‏(‏فِي‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى ‏(‏قَبُولِ نَاقِلِ الْخَبَرْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ بِانْفِرَادِهِ؛ لِيَخْرُجَ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ، بِشَرْطِ ‏(‏أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا مُعَدَّلًا‏)‏ أَيْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شُرُوطٌ‏:‏

‏[‏شُرُوطُ الضَّبْطِ‏]‏‏:‏ فَأَمَّا شُرُوطُ أَوَّلِهِمَا الَّذِي تَنْكِيرُهُ شَمِلَ التَّامَّ وَالْقَاصِرَ، فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ‏(‏يَقِظًا‏)‏ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا ‏(‏وَ‏)‏ ذَلِكَ بِأَنْ ‏(‏لَمْ يَكُنْ مُغَفَّلًا‏)‏ لَا يُمَيِّزُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ؛ كَالنَّائِمِ وَالسَّاهِي؛ إِذِ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَا يَحْصُلُ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ ‏(‏يَحْفَظُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يُثْبِتُ مَا سَمِعَهُ فِي حِفْظِهِ بِحَيْثُ يَبْعُدُ زَوَالُهُ عَنِ الْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ مَتَى شَاءَ‏.‏

‏(‏إِنْ حَدَّثَ حِفْظًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ حِفْظِهِ ‏(‏وَيَحْوِي كِتَابَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَحْتَوِي عَلَيْهِ‏[‏بِنَفْسِهِ أَوْ بِثِقَةٍ‏]‏، وَيَصُونُهُ عَنْ تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ وَالتَّغْيِيرِ إِلَيْهِ، مِنْ حِينِ سَمِعَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ‏(‏إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِي‏)‏، وَأَنْ يَكُونَ ‏(‏يَعْلَمُ مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ إِحَالَهْ‏)‏، بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْ تَغْيِيرِ مَا يَرْوِيهِ ‏(‏إِنْ يَرْوِ بِالْمَعْنَى‏)‏ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ بِحُرُوفِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ صَرِيحًا إِلَّا الْأَوَّلَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ ‏"‏ لِقَوْلِ ابْنِ حِبَّانَ‏:‏ ‏"‏ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ مِنْ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ مَا لَا يَرْفَعُ مَوْقُوفًا، وَلَا يَصِلُ مُرْسَلًا، أَوْ يُصَحِّفُ اسْمًا، فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْيَقَظَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ ضَبَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ الضَّبْطَ فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِهِ ‏[‏بِمَا لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهِ‏]‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِيَاطٍ فِي بَابِ الْعِلْمِ، وَلَهُ طَرَفَانِ‏:‏ الْعِلْمُ عِنْدَ السَّمَاعِ، وَالْحِفْظُ بَعْدَ الْعِلْمِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، حَتَّى إِذَا سَمِعَ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، كَمَا لَوْ سَمِعَ صِيَاحًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمِ اللَّفْظَ بِمَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ ضَبْطًا، وَإِذَا شَكَّ فِي حِفْظِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ لَمْ يَكُنْ ضَبْطًا ‏"‏‏.‏

‏[‏نَوْعَا الضَّبْطِ‏]‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ الضَّبْطُ نَوْعَانِ‏:‏ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَالظَّاهِرُ ضَبْطُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَالْبَاطِنُ ضَبْطُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِهِ، وَهُوَ الْفِقْهُ، وَمُطْلَقُ الضَّبْطِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الرَّاوِي هُوَ الضَّبْطُ ظَاهِرًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى، فَيَلْحَقُهُ تُهْمَةُ تَبْدِيلِ الْمَعْنَى بِرِوَايَتِهِ قَبْلَ الْحِفْظِ، أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ حِينَ سَمِعَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ؛ لِتَعَذُّرِ هَذَا الْمَعْنَى ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي حَقِّ الطِّفْلِ دُونَ الْمُغَفَّلِ؛ فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ عِنْدَهُمْ سَمَاعُ الطِّفْلِ أَوْ حُضُورُهُ أَجَازُوا رِوَايَتَهُ‏.‏ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ لِلدِّينِ وَأَوْلَى ‏"‏ انْتَهَى‏.‏

‏[‏وَحَاصِلُهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ سَمَاعِهِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ تَامًّا‏]‏، فَيَخْرُجُ مَنْ سَمِعَ صَوْتَ غَفْلٍ، وَكَوْنُهُ حِينَ التَّأْدِيَةِ عَارِفًا بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا انْحِصَارَ لَهُ فِي الثَّانِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِاكْتِفَائِهِمْ بِضَبْطِ كِتَابِهِ، وَلَا فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ خَاصَّةً؛ لِاعْتِدَادِهِمْ بِسَمَاعِ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّ أَصْلًا كَمَا سَيَأْتِي كُلُّ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لِتَعَذُّرِ هَذَا الْمَعْنَى ‏"‏؛ أَيْ‏:‏ عِنْدَ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ؛ لِخَوْفِهِ مِنْ عَدَمِ حِفْظِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي الْإِتْيَانِ بِكُلِّ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَوَرُّعٌ وَاحْتِيَاطٌ، وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأْخُذُهُ الرَّعْدَةُ إِذَا رَوَى، وَيَقُولُ‏:‏ وَنَحْوَ ذَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏]‏‏.‏

‏[‏شُرُوطُ الْعَدَالَةِ‏]‏

‏(‏وَ‏)‏ أَمَّا الشُّرُوطُ ‏(‏فِي الْعَدَالَةِ‏)‏ ‏[‏الْمُتَّصِفُ بِهَا الْمُعَدَّلُ‏]‏، وَضَابِطُهَا إِجْمَالًا أَنَّهَا مَلَكَةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى اجْتِنَابُ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ شِرْكٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، فَهِيَ خَمْسَةٌ ‏(‏بِأَنْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَنْ ‏(‏يَكُونَ مُسْلِمًا‏)‏ بِالْإِجْمَاعِ ‏(‏ذَا عَقْلٍ‏)‏، فَلَا يَكُونُ مَجْنُونًا، سَوَاءٌ الْمُطْبِقُ وَالْمُتَقَطِّعُ إِذَا أَثَّرَ فِي الْإِفَاقَةِ‏.‏

‏(‏قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ‏)‏ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ؛ أَيِ‏:‏ الْإِنْزَالَ فِي النَّوْمِ، وَالْمُرَادُ الْبُلُوغُ بِهِ أَوْ بِنَحْوِهِ كَالْحَيْضِ، أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ إِذْ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ ‏(‏سَلِيمَ الْفِعْلِ مِنْ فِسْقٍ‏)‏، وَهُوَ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى صَغِيرَةٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَسَلِيمَ الْفِعْلِ مِنْ ‏(‏خَرْمِ مُرُوَءَةٍ‏)‏، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي إِدْرَاجِهِ آخِرَهَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَشْرُطْهَا، فِيمَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، سِوَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتِمُّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ شَرَطَهَا- وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ- بِدُونِهَا، بَلْ مَنْ لَمْ يَشْرُطْ مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاكْتَفَى بِعَدَمِ ثُبُوتِ مَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ، وَأَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُنَافِيهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ، قَدْ لَا يُنَافِيهِ‏.‏

نَعَمْ قَدْ حَقَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الَّذِي تَجَنَّبَهُ مِنْهَا شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ، وَارْتِكَابُهُ مُفْضٍ إِلَى الْفِسْقِ‏:‏ مَا سَخُفَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي وَالضَّحِكِ، وَمَا قَبُحَ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلْهُو بِهِ وَيُسْتَقْبَحُ بِمَعَرَّتِهِ، كَنَتْفِ اللِّحْيَةِ وَخِضَابِهَا بِالسَّوَادِ، وَكَذَا الْبَوْلُ قَائِمًا، يَعْنِي فِي الطَّرِيقِ، وَبِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ إِذَا خَلَا، وَالتَّحَدُّثُ بِمَسَاوِئِ النَّاسِ‏.‏

وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَعَدَمِ الْإِفْضَالِ بِالْمَاءِ وَالطَّعَامِ، وَالْمُسَاعَدَةِ بِالنَّفْسِ وَالْجَاهِ، وَكَذَا الْأَكْلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَشْيُ حَافِيًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الشِّقَّيْنِ نَظَرٌ‏.‏

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الزِّنْجَانِيِّ فِي شَرْحِ ‏(‏الْوَجِيزِ‏)‏‏:‏ ‏"‏ الْمُرُوءَةُ يُرْجَعُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الْعُرْفِ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْعِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ الْعُرْفِيَّةَ قَلَّمَا تُضْبَطُ، بَلْ هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْبُلْدَانِ، فَكَمْ مِنْ بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ بِمُبَاشَرَةِ أُمُورٍ لَوْ بَاشَرَهَا غَيْرُهُمْ لَعُدَّ خَرْمًا لِلْمُرُوءَةِ‏.‏

وَفِي الْجُمْلَةِ رِعَايَةُ مَنَاهِجِ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَمْرٌ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ ‏"‏‏.‏

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ ‏"‏ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ سِيرَةَ مُطْلَقِ النَّاسِ، بَلِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ‏"‏، وَهُوَ كَمَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْبُلُوغِ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَإِلَّا فَقَدْ قَبِلَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَوْثُوقِ بِهِ، وَلِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ، قَيَّدَهُمَا الرَّافِعِيُّ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ بِالْمُرَاهِقِ، مَعَ وَصْفِ النَّوَوِيِّ لِلْقَبُولِ بِالشُّذُوذِ‏.‏

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏"‏ وَفِي الصَّبِيِّ بَعْدَ التَّمْيِيزِ وَجْهَانِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، وَاخْتَصَرَهُ النَّوَوِيُّ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَا تَنَاقُضَ، فَمَنْ قَيَّدَ بِالْمُرَاهِقِ عَنَى الْمُمَيِّزَ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ قَبُولِ غَيْرِ الْبَالِغِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ‏.‏

وَحَكَى فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِلْمُتَوَلِّي عَنِ الْجُمْهُورِ- قَبُولَ أَخْبَارِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ، بِخِلَافِ مَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ؛ كَالْإِفْتَاءِ وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَقَبِلَ الْجُمْهُورُ أَخْبَارَهُمْ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا قَرِينَةٌ ‏"‏ انْتَهَى‏.‏

أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا، وَكَذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي عَدْلِ الرِّوَايَةِ الْحُرِّيَّةَ، بَلْ أَجْمَعُوا- كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ- عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَبْدِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مِمَّا افْتَرَقَا فِيهِ كَمَا افْتَرَقَا فِي مَسْأَلَةِ التَّزْكِيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدُ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فَقَالَ‏:‏

الْعَدْلُ مِنْ شَرْطِهِ الْمُرُوءَةُ وَالْ *** إِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ مَعًا

يُجَانِبُ الْفِسْقَ رَاوِيًا وَمَتَى *** يَشْهَدُ فَحُرِّيَّةٌ تُضَفْ تَبَعَا

وَلَا الذُّكُورَةُ، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ‏:‏ وَاسْتَثْنَى أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ فِي الرِّوَايَةِ الْعَدَدَ كَالشَّهَادَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَكَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ، بَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ أَوْصَافَ الْقَبُولِ، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ‏.‏

أَوْ كَوْنُ الرَّاوِي فَقِيهًا عَالِمًا كَأَبِي حَنِيفَةَ؛ حَيْثُ شَرَطَ فِقْهَ الرَّاوِي إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَغَيْرَهُ، حَيْثُ قَصَرَهُ عَلَى الْغَرِيبِ‏.‏

فَكُلُّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏)‏ ‏[‏الْحُجُرَاتِ‏:‏6‏]‏ الْآيَةَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُتَثَبَّتَ فِي غَيْرِ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» الْحَدِيثَ، أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَرِّقْ، بَلْ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ‏:‏ «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»‏.‏

وَكَذَا مَنْ شَرَطَ عَدَمَ عَمَاهُ، أَوْ كَوْنَهُ مَشْهُورًا بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ، أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، أَوْ أَنْ لَا يُنْكِرَ رَاوِي الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ أَيْضًا‏.‏

‏[‏مَا تُعْرَفُ بِهِ الْعَدَالَةُ‏]‏

الثَّانِي‏:‏ فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْعَدَالَةُ مِنْ تَزْكِيَةٍ وَغَيْرِهَا ‏(‏وَمَنْ زَكَّاهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَدَّلَهُ فِي رِوَايَتِهِ ‏(‏عَدْلَانِ فَهُوَ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ‏)‏ بِفَتْحِ الْمِيمِ؛ أَيِ‏:‏ اتِّفَاقًا‏.‏

263- وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ *** جَرْحًا وَتَعْدِيلًا خِلَافَ الشَّاهِدِ

264- وَصَحَّحُوا اسْتِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ *** تَزْكِيَةٍ كَمَالِكٍ نَجْمِ السُّنَنْ

265- وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ مَنْ عُنِيَ *** بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ وَلَمْ يُوَهَّنِ

266- فَإِنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلِ الْمُصْطَفَى *** ‏"‏ يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ ‏"‏ لَكِنْ خُولِفَا

‏(‏وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَئِمَّةُ الْأَثَرِ فِيهَا ‏(‏بِ‏)‏قَوْلِ الْعَدْلِ ‏(‏الْوَاحِدِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ‏(‏خِلَافَ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِخِلَافِ ‏(‏الشَّاهِدِ‏)‏، فَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِيهِ بِدُونِ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُزَكِّي لِلرَّاوِي نَاقِلًا عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ، أَوْ كَانَ اجْتِهَادًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ، وَفِي الْحَالَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَيِّقٌ‏:‏ الْأَمْرُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِكَوْنِهَا فِي الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّرَافُعُ فِيهَا، وَهِيَ مَحَلُّ الْأَغْرَاضِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ فَإِنَّهَا فِي شَيْءٍ عَامٍّ لِلنَّاسِ غَالِبًا لَا تَرَافُعَ فِيهِ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ‏:‏ ‏"‏ الْغَالِبُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ ‏"‏، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَتِ الْمَصْلَحَةُ، بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ فِي الْمُحَاكَمَاتِ؛ وَلِأَنَّ بَيْنَ النَّاسِ إِحَنًا وَعَدَاوَاتٍ تَحْمِلُهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ اشْتِرَاطُ اثْنَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ صِفَةٌ، فَتَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهَا إِلَى عَدْلَيْنِ كَالرُّشْدِ وَالْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِياسًا عَلَى الشَّاهِدِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَإِلَّا فَأَبُو عُبَيْدٍ لَا يَقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مَتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ‏:‏ «حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا فَيَشْهَدُونَ لَهُ»‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْحَاجَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ، وَالْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ قَبْلُ‏.‏

وَمِمَّنْ رَجَّحَ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فِي الْبَابَيْنِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ، وَنَقَلَهُ هُوَ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَلَا تُنَافِيهِ الْحِكَايَةُ الْمَاضِيَةُ لِلتَّسْوِيَةِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِتَقْيِيدِهَا هُنَاكَ بِالْفُقَهَاءِ‏.‏

وَمِمَّنِ اخْتَارَ التَّفْرِقَةَ أَيْضًا الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا اخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا تَقَدَّمَ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدٍ، لَكِنْ فِي الْبَابَيْنِ مَعًا، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الشَّاهِدِ خَاصَّةً، وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ؛ أَيْ‏:‏ عَارِفٍ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، وَمَا بِهِ يَحْصُلُ الْجَرْحُ، كَمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاسْتَثْنَى تَزْكِيَةَ الْمَرْأَةِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ عَدَمَ قَبُولِ تَزْكِيَةِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا فِي الْبَابَيْنِ‏.‏

وَكَذَا أَشَارَ لِتَخْصِيصِ تَزْكِيَةِ الْعَبْدِ بِالرِّوَايَةِ لِقَبُولِهِ فِيهَا دُونَ الشَّهَادَةِ، وَلَكُنَّ التَّعْمِيمَ فِي قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهَا- كَمَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ- خَبَرٌ وَلَيْسَتْ شَهَادَةً، صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا صَاحِبٌ ‏(‏الْمَحْصُولِ‏)‏ وَغَيْرُهُ مِنْ تَقْيِيدٍ‏.‏

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ‏:‏ يُقْبَلُ- أَيْ‏:‏ فِي الرِّوَايَةِ- تَعْدِيلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الْعَارِفَيْنِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ‏:‏ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ سُؤَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ بَرِيرَةَ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَجَوَابُهَا لَهُ، يَعْنِي الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ‏:‏ تَعْدِيلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا‏.‏

وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ، وَلَا الْغُلَامِ الضَّابِطِ جَزْمًا، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي رِوَايَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ وَإِنْ كَانَتْ حَالُهُ ضَبْطَ مَا سَمِعَهُ، وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَا بِهِ مِنْهَا يَكُونُ الْعَدْلُ عَدْلًا، وَالْفَاسِقُ فَاسِقًا، فَذَلِكَ إِنَّمَا يَكْمُلُ لَهُ الْمُكَلَّفُ، وَأَيْضًا فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ تَفْسِيقُ الْعَدْلِ وَتَعْدِيلُ الْفَاسِقِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ، فَافْتَرَقَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، قَالَهُ الْخَطِيبُ‏.‏

‏(‏وَصَحَّحُوا‏)‏ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْخَطِيبُ، مِمَّا تَثْبُتُ بِهِ الْعَدَالَةُ أَيْضًا ‏(‏اسْتِغْنَاءِ ذِي الشُّهْرِةِ‏)‏ وَنَبَاهَةِ الذِّكْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ، مَعَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَهْمِ، وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ ‏(‏عَنْ تَزْكِيَةٍ‏)‏ صَرِيحَةٍ ‏(‏كَمَالِكٍ‏)‏، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ ‏(‏نَجْمِ السُّنَنْ‏)‏ كَمَا وَصَفَهُ بِهِ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ وَأَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- وَقَدْ عَقَدَ بَابًا لِذَلِكَ فِي كِفَايَتِهِ- لَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَجْهُولِينَ، أَوْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ‏.‏

وَسَاقَ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ‏؟‏ إِسْحَاقُ عِنْدَنَا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ وَأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ سُئِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ‏:‏ مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْهُ‏؟‏ هُوَ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إِلَّا مِمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِالطَّلَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ‏:‏ إِلَّا عَنْ جَلِيسِ الْعَالِمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طَلَبُهُ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ أَرَادَ أَنَّ مَنْ عُرِفَتْ مُجَالَسَتُهُ لِلْعُلَمَاءِ أَوْ أَخْذُهُ عَنْهُمْ أَغْنَى ظُهُورُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ عَنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ حَالِهِ‏.‏ وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ إِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَى، وَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا، وَمُجَوَّزًا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَغَيْرَهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ بِظُهُورِ سِتْرِهِمَا؛ أَيِ‏:‏ الْمَسْتُورِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَاشْتِهَارِ عَدَالَتِهِمَا أَقْوَى فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعْدِيلِ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ فِي تَعْدِيلِهِ، وَأَغْرَاضٌ دَاعِيَةٌ لَهُمَا إِلَى وَصْفِهِ بِغَيْرِ صِفَتِهِ، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى النُّفُوسِ يُعْلَمُ أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمُعَدِّلِ لَهُمَا، فَصَحَّ بِذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ، قَالَ‏:‏ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ نِهَايَةَ حَالَةِ تَزْكِيَةِ الْمُعَدِّلِ أَنْ تَبْلُغَ مَبْلَغَ ظُهُورِ سِتْرِهِ، وَهِيَ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْدِيلِ‏؟‏- انْتَهَى‏.‏

وَمِنْ هُنَا لَمَّا شَهِدَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الْقَاضِي بَكَّارِ بْنِ قُتَيْبَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ قَبْلَهَا، فَقَالَ‏:‏ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي بِذَلِكَ فَقَطْ‏.‏

وَكَذَا يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَيْضًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الْعَدَالَةُ رِوَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُلَّةِ عَنِ الرَّاوِي، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ، وَجَنَحَ إِلَيْهَا ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ قَطْعِ السِّدْرِ مِنْ كِتَابِهِ‏:‏ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي تَرْجَمَةِ مَالِكِ بْنِ الْحَسِيرِ الزِّيَادِيِّ مِنْ مِيزَانِهِ‏.‏

وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُ، يُرِيدُ أَنَّهُ مَا نَصَّ أَحَدٌ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ، قَالَ‏:‏ وَفِي رُوَاةِ الصَّحِيحَيْنِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا نَصَّ عَلَى تَوْثِيقِهِمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَشَايِخِ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، أَنَّ حَدِيثَهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ مَا نَسَبَهُ لِلْجُمْهُورِ‏:‏ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْدِ إِلَّا ابْنُ حِبَّانَ‏.‏ نَعَمْ، هُوَ حَقٌّ فِيمَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدَانَ أَنَّهُ حَكَى فِي كِتَابِهِ ‏(‏شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ‏)‏ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ مَا يَعْتَبِرْ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ مِنَ التَّزْكِيَةِ، بَلْ إِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ‏.‏ وَاسْتَغْرَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ‏)‏ قَوْلٌ فِيهِ تَوَسُّعٌ أَيْضًا، وَهُوَ ‏(‏كُلُّ مَنْ عُنِي‏)‏ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ‏(‏بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ‏)‏‏.‏ زَادَ النَّاظِمُ‏:‏ ‏(‏وَلَمْ يُوَهَّنَا‏)‏ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ؛ أَيْ‏:‏ لَمْ يُضَعَّفْ ‏(‏فَإِنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلٍ الْمُصْطَفَى‏)‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

‏[‏الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ‏:‏ يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ‏]‏ ‏(‏يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ‏)‏ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ؛ أَيِ‏:‏ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ، وَانْتِحَالَ أَيِ‏:‏ ادِّعَاءَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏لَكِنْ‏)‏ قَدْ ‏(‏خُولِفَا‏)‏ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ ضَعِيفًا، بِحَيْثُ قَالَ الشَّارِحُ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ‏:‏ أَسَانِيدُهُ كُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ‏.‏

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، يَعْنِي‏:‏ مُسْنَدًا، وَقَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَحَكَمَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ قَالَ الْعَلَائِيُّ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ مِنْهَا‏:‏ إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ‏.‏

وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَذَا نَقَلَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ أَبِي مُوسَى عِيسَى بْنِ صُبَيْحٍ تَصْحِيحَهُ، فَأَبُو مُوسَى هَذَا لَيْسَ بِعُمْدَةٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُعْتَزِلَةِ‏.‏

وَأَحْمَدُ فَقَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ بِخُصُوصِهِ قَالَ فِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ‏:‏ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ قَوِيٌّ، وَالْأَغْلَبُ عَدَمُ صِحَّتِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوِيًّا- انْتَهَى‏.‏

وَسَأُحَقِّقُ الْأَمْرَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ عِنْدِي مِنْ غَيْرِ مُرْسَلِ إِبْرَاهِيمَ الْعُذْرِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ لِلْحُجَّةِ أَوْ ضَعْفِهِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ خَبَرًا، لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ لِوُجُودِ مَنْ يَحْمِلُ الْعِلْمَ، وَهُوَ غَيْرُ عَدْلٍ وَغَيْرُ ثِقَةٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَبَرًا وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ يَقُولُ‏:‏ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحْمَلٌ إِلَّا عَلَى الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ الثِّقَاتِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يُقْبَلُ عَنِ الثِّقَاتِ‏.‏

وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ‏:‏ ‏"‏ لِيَحْمِلْ ‏"‏ بِلَامِ الْأَمْرِ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ‏.‏

وَحِينَئِذٍ سَوَاءٌ رُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَوْ بِالْجَزْمِ عَلَى إِرَادَةِ لَامِ الْأَمْرِ، فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، بَلْ لَا مَانِعَ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ خَبَرًا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَالْقَصْدُ أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَهْذِيبِهِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَانَةِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ، وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوَفِّقُ لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ خَلَفًا مِنَ الْعُدُولِ يَحْمِلُونَهُ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ التَّحْرِيفَ فَلَا يَضِيعُ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِعَدَالَةِ حَامِلِيهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ هَذَا كَوْنُ بَعْضِ الْفُسَّاقِ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْعُدُولَ يَحْمِلُونَهُ، لَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهُ- انْتَهَى‏.‏

عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ‏:‏ مَا يَعْرِفُهُ الْفُسَّاقُ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ بِعِلْمٍ حَقِيقَةً؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ التَّلْخِيصِ‏:‏ وَقَدْ يُنَزَّلُ الْعَالِمُ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ‏.‏

وَصَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ‏:‏

وَلَا الْعِلْمُ إِلَّا مَعَ التُّقَى *** وَلَا الْعَقْلُ إِلَّا مَعَ الْأَدَبِ

وَمِنَ الْغَرِيبِ فِي ضَبْطِهِ مَا حَكَاهُ الشَّارِحُ فِي نُكَتِهِ عَنْ فَوَائِدِ رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ مِمَّا عَزَاهُ لِأَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيِّ‏:‏ ‏"‏ يُحْمَلُ ‏"‏ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ مِيمِ الْعِلْمِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ مِنْ عَدُولَةٍ، مَعَ إِبْدَالِ الْهَاءِ تَاءً مُنَوَّنَةً‏.‏

وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَلَفَ هُوَ الْعَدُولَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَادِلٌ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ شَكُورٌ بِمَعْنَى شَاكِرٍ، وَتَكُونُ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ رَجُلٌ صَرُورَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْعِلْمَ يُحْمَلُ عَنْ كُلِّ خَلَفٍ كَامِلٍ فِي عَدَالَتِهِ‏.‏

لَكِنْ يَتَأَيَّدُ بِمَا حَكَاهُ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ الْحَدِيثِ‏:‏ فَسَبِيلُ الْعِلْمِ أَنْ يُحْمَلَ عَمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ وَوَصْفُهُ‏.‏

وَنَحْوُهُ مَا يُرْوَى مَرْفُوعًا‏:‏ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ‏.‏ وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَلَا يَسُوغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ‏.‏

وَقَوِيَ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ قَرِيبُ الِاسْتِمْدَادِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَقَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ مَجْهُولِ الْحَالِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ جَرْحُهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا؛ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاحْتِيَاطِ‏.‏ وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَوَسِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَافِلَةِ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمُ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا عَلَى الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ‏.‏

عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِلْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ رَجُلًا قَدَّمَ آخَرَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ، فَادَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لِلْمُدَّعِي‏:‏ أَلَكَ بَيِّنَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ، أَمَّا فُلَانٌ فَمِنْ شُهُودِي، وَأَمَّا فُلَانٌ فَلَيْسَ مِنْ شُهُودِي، قَالَ‏:‏ فَيَعْرِفُهُ الْقَاضِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ بِمَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَعْرِفُهُ بِكَتْبِ الْحَدِيثِ، قَالَ‏:‏ فَكَيْفَ تَعْرِفُهُ فِي كَتْبَتِهِ الْحَدِيثَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ‏:‏ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ»، وَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِمَّنْ عَدَّلْتَهُ أَنْتَ، قَالَ‏:‏ فَقُمْ فَهَاتِهِ، فَقَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّاقِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ أَهْلُ الْعِلْمِ مَحْمُولُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ‏:‏ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْضُهُمْ، وَسَبَقَهُ الْمِزِّيُّ فَقَالَ‏:‏ هُوَ فِي زَمَانِنَا مَرْضِيٌّ، بَلْ رُبَّمَا يَتَعَيَّنُ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ‏:‏ لَسْتُ أَرَاهُ إِلَّا مَرْضِيًّا، وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ إِنَّهُ حَقٌّ، قَالَ‏:‏ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَسْتُورُ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ كَشَفُوا عَنْ أَخْبَارِهِ فَمَا وَجَدُوا فِيهِ تَلْيِينًا، وَلَا اتَّفَقَ لَهُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ أَحَدًا وَثَّقَهُ، فَهَذَا الَّذِي عَنَاهُ الْحَافِظُ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولَ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ يَلُوحَ فِيهِ جَرْحٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِجَمَاعَةٍ مَا اطَّلَعْنَا فِيهِمْ عَلَى جَرْحٍ وَلَا تَوْثِيقٍ، فَهَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ احْتَجَّا بِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الدَّهْمَاءَ أَطْبَقَتْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْكِتَابَيْنِ بِالصَّحِيحَيْنِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ بَلْ أَفَادَ التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ إِطْبَاقَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ أَوْ كُلِّهِمْ عَلَى كِتَابَيْهِمَا يَسْتَلْزِمُ إِطْبَاقَهُمٍ أَوْ أَكْثَرِهِمْ عَلَى تَعْدِيلِ الرُّوَاةِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ فِيهِمَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا، قَالَ‏:‏ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ‏.‏

وَلَكِنْ كَانَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ شَيْخُ شُيُوخِنَا يَقُولُ فِيهِمْ‏:‏ إِنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قِيلَ فِيهِمْ‏.‏

قَالَ التَّقِيُّ‏:‏ وَهَكَذَا نَعْتَقِدُ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَا نَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا بِبَيَانٍ شَافٍ وَحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَزِيدُ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اسْتِلْزَامِ الِاتِّفَاقِ‏.‏

وَوَافَقَهُ شَيْخُنَا، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِلْزَامِ الْقَوْلِ بِالْقَطْعِ بِصِحَّةِ مَا لَمْ يُنْتَقَدْ مِنْ أَحَادِيثِهِمَا الْقَطْعَ بِعَدَالَةِ رُوَاتِهِمَا، يَعْنِي فِيمَا لَمْ يُنْتَقَدْ‏.‏ ثُمَّ قَالَ التَّقِيُّ‏:‏ نَعَمْ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلٌ عِنْدَ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ مَنْ لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ أَصْلًا رَاجِحًا عَلَى مَنْ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِهِمَا مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ- انْتَهَى‏.‏

وَيُسْتَأْنَسُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَا جَاءَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةَ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ‏.‏

قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَهَذَا يُقَوِّيهِ، لَكِنَّ ذَاكَ مَخْصُوصٌ بِحَمَلَةِ الْعِلْمِ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَكَذَا مِمَّا يُقَوِّيهِ أَيْضًا كَلَامُ الْخَطِيبِ الْمَاضِي قَبْلَ حِكَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏.‏

267- وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِبًا ذَا الضَّبْطِ *** فَضَابِطٌ أَوْ نَادِرًا فَمُخْطِي

268- وَصَحَّحُوا قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا *** ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ أَنْ تَثْقُلَا

269- وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا *** لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا

270- اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا *** فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا

271- هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرْ *** كَشَيْخَيِ الصَّحِيحِ مَعْ أَهْلِ النَّظَرْ

272- فَإِنْ يُقَلْ قَلَّ بَيَانُ مَنْ جَرَحْ *** كَذَا إِذَا قَالُوا لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ

273- وَأَبْهَمُوا فَالشَّيْخُ قَدْ أَجَابَا *** أَنْ يَجِبُ الْوَقْفُ إِذَا اسْتَرَابَا

274- حَتَّى يُبِينَ بَحْثُهُ قَبُولَهُ *** كَمَنْ أُولُو الصَّحِيحِ خَرَّجُوا لَهُ

275- فَفِي الْبُخَارِيِّ احْتِجَاجًا عِكْرِمَهْ *** مَعَ ابْنِ مَرْزُوقٍ وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ

276- وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا *** نَحْوُ سُوَيْدٍ إِذْ بِجَرْحٍ مَا اكْتَفَى

277- قُلْتُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي *** وَاخْتَارَهُ تِلْمِيذُهُ الْغَزَّالِي

278- وَابْنُ الْخَطِيبِ‏:‏ الْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ بِمَا *** أَطْلَقَهُ الْعَالِمْ بِأَسْبَابِهِمَا

الثَّالِثُ‏:‏ فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الضَّبْطُ

وَتَأْخِيرُهُ عَمَّا قَبْلَهُ مُنَاسِبٌ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ أَنْسَبَ؛ لِتَعَلُّقٍ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ سَابِقٌ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الْوَضْعِ ‏(‏وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِبًا‏)‏ فِي اللَّفْظِ، وَلَوْ أَتَى بِأَنْقَصَ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى، أَوْ فِي الْمَعْنَى ‏(‏ذَا الضَّبْطِ فَ‏)‏هُوَ ‏(‏ضَابِطٌ‏)‏ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ يُوَافِقُهُ ‏(‏نَادِرًا‏)‏، وَيُكْثِرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِيمَا أَتَى بِهِ ‏(‏فَ‏)‏هُوَ ‏(‏مُخْطِي‏)‏ بِدُونِ هَمْزٍ لِلْوَزْنِ، عَدِيمُ الضَّبْطِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ‏.‏ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ وَيَكُونُ إِذَا شَرَكَ أَهْلَ الْحِفْظِ فِي حَدِيثٍ وَافَقَ حَدِيثَهُمْ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلُ كِتَابٍ صَحِيحٍ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ، كَمَا يَكُونُ مَنْ أَكْثَرَ التَّخْلِيطَ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ‏"‏، وَقَالَ فِيمَا يَعْتَضِدُ بِهِ الْمُرْسَلُ كَمَا تَقَدَّمَ‏:‏ ‏"‏ وَيَكُونُ إِذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقُصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ ‏"‏‏.‏

وَيُعْرَفُ الضَّبْطُ أَيْضًا بِالِامْتِحَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْلُوبِ، مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِيهِ‏.‏

‏[‏سَبَبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ‏]‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ فِي بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَكَانَ إِرْدَافُهُ الثَّانِيَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْسَبَ ‏(‏وَصَحَّحُوا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ‏.‏

‏(‏قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ‏)‏ خَشْيَةَ ‏(‏أَنْ تَثْقُلَا‏)‏ لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَمَتَى كُلِّفَ الْمُعَدِّلُ لِسَرْدِ جَمِيعِهَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، وَفِيهِ طُولٌ‏.‏ ‏(‏وَلَمْ يَرَوْا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْجُمْهُورُ أَيْضًا‏.‏

‏(‏قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا‏)‏ ذِكْرُ سَبَبِهِ مِنَ الْمُجَرِّحِ؛ لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْجَرْحَ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَ‏(‏لِلْخُلْفِ‏)‏ بَيْنَ النَّاسِ ‏(‏فِي أَسْبَابِهِ‏)‏ وَمُوجِبِهِ‏.‏

‏(‏رُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ‏)‏ بِبَيَانِ سَبَبِهِ مِنَ الْجَارِحِ ‏(‏فَ‏)‏يَذْكُرُ مَا ‏(‏لَمْ يَقْدَحْ‏)‏ مَعَ إِطْلَاقِهِ الْجَرْحَ بِهِ؛ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ، أَوْ لِشِدَّةِ تَعَنُّتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ‏.‏

‏(‏كَمَا فَسَّرَهُ شُعْبَةُ‏)‏ بْنُ الْحَجَّاجِ مَرَّةً ‏(‏بِالرَّكْضِ‏)‏، وَهُوَ اسْتِحْثَاثُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ لِتَعْدُوَ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ‏:‏ لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذُوْنٍ، بِكَسْرٍ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، الْجَافِي الْخِلْقَةِ، الْجَلْدُ عَلَى السَّيْرِ فِي الشِّعَابِ، وَالْوَعْرُ مِنَ الْخَيْلِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُجْلَبُ مِنَ الرُّومِ، وَحِينَئِذٍ ‏(‏فَمَا‏)‏ ذَا يَلْزَمُ مِنْ رَكْضِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو لِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَرْفُوعًا‏:‏ سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ‏.‏

وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، فَسَمِعَ مِنْ دَارِهِ صَوْتًا فَتَرَكَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏:‏ إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةً بِالتَّطْرِيبِ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِيهِ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ‏:‏ إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةَ أَلْحَانٍ، فَكَرِهَ السَّمَاعَ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ‏:‏ أَتَيْتُ مَنْزِلَ الْمِنْهَالِ، فَسَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتَ الطُّنْبُورِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ‏.‏ قَالَ وَهْبٌ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ فَهَلَّا سَأَلْتَهُ، عَسَى كَانَ لَا يَعْلَمُ‏؟‏ قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْمِنْهَالِ، بَلْ وَلَا يُجَرَّحُ الثِّقَةُ بِمِثْلِ قَوْلٍ الْمُغِيرَةِ فِي الْمِنْهَالِ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ لَهُ لَحْنٌ يُقَالُ لَهُ‏:‏ وَزْنُ سَبْعَةٍ‏.‏

وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَقِبَ كَلَامِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَا نَصُّهُ‏:‏ هَذَا لَيْسَ بِجَرْحِهِ إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ إِلَى حَدٍّ يَحْرُمُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَاكَ عَنْهُ- انْتَهَى‏.‏

وَجَرْحُهُ بِهَذَا تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ كَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ‏:‏ إِنَّهُ صَدُوقٌ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ وَعَلَّقَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ نَفْسِهِ عَنْهُ، فَقَالَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ مِنَ الذَّبَائِحِ‏:‏ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ‏.‏ وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ‏.‏

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَتْرُكِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَذَلِكَ إِمَّا بِمَا لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْهُ عِنْدَهُ‏.‏

وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ السَّمَاعَ يُكْرَهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْأَلْحَانِ، وَنَصَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّرْجِيعِ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ‏.‏

وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بِالتَّلْحِينِ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ، أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ، أَوْ تَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ اللَّفْظُ وَيُلَبَّسُ بِهِ الْمَعْنَى، فَالْقَارِئُ فَاسِقٌ، وَالْمُسْتَمِعُ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ، فَلَا كَرَاهَةَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي تَحْسِينِهِ‏.‏

وَكَذَا اسْتَفْسَرَ غَيْرُ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ مَا الْجَرْحُ بِهِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ‏:‏ قُلْتُ لِلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ‏:‏ لِمَ لَمْ تَحْمِلْ عَنْ زَاذَانَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَ كَثِيرَ الْكَلَامِ‏.‏

وَلَعَلَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى مَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ ‏"‏، وَكَذَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَمِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ‏.‏

وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي زَاذَانَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَتِينِ عِنْدَهُمْ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ‏:‏ كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، لَكِنْ قَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ‏.‏

وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ‏:‏ أَتَيْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ، فَرَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا، فَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ حَرْفٍ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ قَدْ خَرِفَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بِحَيْثُ يَرَى النَّاسُ عَوْرَتَهُ‏.‏

وَقَدْ عَقَدَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ لِهَذَا بَابًا، وَمِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مِمَّا تَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إِيرَادِهِ‏:‏ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لِصَالِحٍ الْمُرِّيِّ، فَقَالَ‏:‏ مَا تَصْنَعُ بِصَالِحٍ‏؟‏ ذَكَرُوهُ يَوْمًا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَامْتَخَطَ حَمَّادٌ‏.‏

وَإِدْخَالُ مِثْلِ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَصَالِحٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَلِذَا حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ، بَلْ قَدْ بَانَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ عَدَمُ تَحَتُّمِ الْجَرْحِ بِهِ‏.‏ ‏(‏هَذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ، هُوَ ‏(‏الَّذِي عَلَيْهِ‏)‏ الْأَئِمَّةُ ‏(‏حُفَّاظُ الْأَثَرْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ وَنُقَّادُهُ‏.‏

‏(‏كَ‏)‏الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ‏(‏شَيْخَيِ الصَّحِيحِ‏)‏ اللَّذَيْنِ كَانَا أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحُفَّاظِ ‏(‏مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ‏)‏ كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ إِنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَنَا‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَكْسُهُ، فَيُشْتَرَطُ تَفْسِيرُ التَّعْدِيلِ دُونَ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَالَةِ يَكْثُرُ التَّصَنُّعُ فِيهَا، فَيَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، ‏[‏فَ‏]‏هَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ مَعَ شِدَّةِ نَقْلِهِ وَتَحَرِّيهِ قِيلَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، فَقَالَ‏:‏ غَرَّنِي بِكَثْرَةِ جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي لِمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِهِ بَيْتَ كُلِّ تَقِيٍّ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ لِمَنْ قَالَ لَهُ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ الْعُمَرِيُّ ضَعِيفٌ‏:‏ إِنَّمَا يُضَعِّفُهُ رَافِضِيٌّ مُبْغِضٌ لِآبَائِهِ، لَوْ رَأَيْتَ لِحْيَتَهُ وَخِضَابَهُ وَهَيْئَتَهُ لَعَرَفْتَ أَنَّهُ ثِقَةٌ‏.‏ فَاسْتَدَلَّ لِثِقَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْهَيْئَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَدْلُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَوَسُّمَهُ يَقْضِي بِعَدَالَتِهِ فَضْلًا عَنْ دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَضَبْطِهِ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ هَذَا فِي الْعُمَرِيِّ بِخُصُوصِهِ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ مَدْحُ الْمَرْءِ بِأَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ سَمْتَهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ‏.‏

‏[‏وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ سَبَبِهِمَا مَعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَكَمَا يُجَرِّحُ الْجَارِحُ بِمَا لَا يَقْدَحُ، كَذَلِكَ يُوَثِّقُ الْمُعَدِّلُ بِمَا لَا يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ كَمَا بَيَّنَّا‏]‏‏.‏

وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ، إِذَا صَدَرَ الْجَرْحُ أَوِ التَّعْدِيلُ مِنْ عَالِمٍ بَصِيرٍ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مَعَ الْخَدْشِ فِي كَوْنِهِ قَوْلًا مُسْتَقِلًّا ‏(‏فَإِنْ يُقَلْ‏)‏ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ‏:‏ قَدْ ‏(‏قَلَّ‏)‏ فِيمَا يُحْكَى عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا فِي الرِّجَالِ ‏(‏بَيَانُ‏)‏ سَبَبِ جَرْحِ ‏(‏مَنْ جَرَحْ‏)‏، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهَا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِأَنَّ فُلًانًا ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَكَذَا‏)‏ قَلَّ بَيَانُهُمْ لِسَبَبِ ضَعْفِ الْحَدِيثِ ‏(‏إِذَا قَالُوا‏)‏ فِي كُتُبِ الْمُتُونِ وَنَحْوِهَا ‏(‏لِمَتْنٍ‏)‏‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، بَلِ اقْتَصَرُوا أَيْضًا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ‏(‏وَأَبْهَمُوا‏)‏ بَيَانَ السَّبَبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاشْتِرَاطُ الْبَيَانِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ، وَسَدِّ بَابِ الْجَرْحِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ‏.‏

‏(‏فَالشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏قَدْ أَجَابَا‏)‏ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِ‏(‏أَنْ يَجِبُ الْوَقْفُ‏)‏ مِنَ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِالرَّاوِي أَوْ بِالْحَدِيثِ ‏(‏إِذِ اسْتَرَابَا‏)‏ أَيْ‏:‏ لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّيبَةِ الْقَوِيَّةِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا ‏(‏حَتَّى يُبِينَ‏)‏ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَبَانَ؛ أَيْ‏:‏ يُظْهِرُ ‏(‏بَحْثَهُ‏)‏ وَفَحْصَهُ عَنْ حَالِ ذَاكَ الرَّاوِي أَوِ الْحَدِيثِ ‏(‏قَبُولَهُ‏)‏ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ‏.‏ وَالثِّقَةُ بِعَدَالَتِهِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ ‏(‏كَمَنْ‏)‏ أَيْ‏:‏ كَالَّذِي مِنَ الرُّوَاةِ ‏(‏أُولُو‏)‏ أَيْ‏:‏ أَصْحَابُ ‏(‏الصَّحِيحِ‏)‏‏:‏ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا ‏(‏خَرَّجُوا‏)‏ فِيهِ ‏(‏لَهُ‏)‏ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ مُسَّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِجَرْحٍ مُبْهَمٍ، وَقَالَ‏:‏ فَافْهَمْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُخْلَصٌ حَسَنٌ‏.‏

‏(‏فَفِي الْبُخَارِيِّ احْتِجَاجًا عِكْرِمَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَعِكْرِمَةُ التَّابِعِيُّ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَضْلًا عَنِ الْمُتَابَعَاتِ وَنَحْوِهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ؛ لِكَوْنِهِ لَهُ عَنْهُ أَتَمَّ مُخْلَصٍ، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً صَنَّفُوا فِي الذَّبِّ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ كَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ‏.‏

وَحَقَّقَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَتِهِ بِمَا لَا نُطِيلُ بِهِ ‏(‏مَعَ ابْنِ مَرْزُوقٍ‏)‏ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ الْبَصْرِيِّ، لَكِنْ مُتَابَعَةً لَا احْتِجَاجًا ‏(‏وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ رَاوٍ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ التَّضْعِيفُ لَهُمْ يُعْرَفُ تَعْيِينُهُمْ، وَالْمُخَرَّجُ لَهُمْ مِنْهُمْ فِي الْأُصُولِ مِمَّنْ فِي الْمُتَابَعَاتِ، مَعَ الْحُجَّةِ فِي التَّخْرِيجِ لَهُمْ، مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَيْضًا‏.‏

وَكَذَا ‏(‏احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا‏)‏ مِنْ غَيْرِهِ ‏(‏نَحْوَ سُوَيْدٍ‏)‏ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ ‏(‏إِذْ بِجَرْحٍ‏)‏ مُطْلَقٍ ‏(‏مَا اكْتَفَى‏)‏ كُلٌّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِتَحْقِيقِهِمَا نَفْيَهُ، بَلْ أَكْثَرُ مَنْ فَسَّرَ الْجَرْحَ فِي سُوَيْدٍ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا عَمِيَ رُبَّمَا تَلَقَّنَ الشَّيْءَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَادِحًا فَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ الْعَمَى، لَا فِيمَا قَبْلَهُ‏.‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْلِمًا عَرَفَ أَنَّ مَا خَرَّجَهُ عَنْهُ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ، أَوْ مِمَّا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ‏.‏

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ قُلْتُ لِمُسْلِمٍ‏:‏ كَيْفَ اسْتَجَزْتَ الرِّوَايَةَ عَنْ سُوَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَمِنْ أَيْنَ كُنْتُ آتِي بِنُسْخَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَرْوِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ حَفْصًا سِوَاهُ، وَرَوَى فِيهِ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَفْصٍ‏.‏ ‏(‏قُلْتُ وَقَدْ قَالَ‏)‏ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ‏(‏أَبُو الْمَعَالِي‏)‏ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ ‏(‏الْبُرْهَانِ‏)‏ ‏(‏وَاخْتَارَهُ تِلْمِيذُهُ‏)‏ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ ‏(‏الْغَزَّالِيُّ وَ‏)‏ كَذَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ‏(‏ابْنُ الْخَطِيبِ‏)‏ الرَّازِيُّ ‏(‏الْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ‏)‏ مُسَكَّنُ الْمِيمِ؛ أَيْ‏:‏ يُقْضَى ‏(‏بِمَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمْ‏)‏ مُسَكَّنُ الْمِيمِ أَيْضًا، الْبَصِيرُ ‏(‏بِأَسْبَابِهِمَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ‏:‏ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ ‏"‏ إِذَا جَرَّحَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَرْحَ يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِي يُقَوِّي عِنْدَنَا تَرْكَ الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْجَارِحُ عَالِمًا، كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِفْسَارُ الْمُعَدِّلِ عَمَّا بِهِ صَارَ عِنْدَهُ الْمُزَكَّى عَدْلًا ‏"‏‏.‏

وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْغَزَّالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، لَكِنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَيْضًا فِي الْمَنْخُولِ خِلَافَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْمُسْتَصْفَى هُوَ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ ‏(‏الْمَحْصُولِ‏)‏، وَالْآمِدِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْقَاضِي، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ فِي الْكِفَايَةِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَوَّبَهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَى أَنَّا نَقُولُ أَيْضًا‏:‏ إِنْ كَانَ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْجَرْحِ عَدْلًا مَرْضِيًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ، عَارِفًا بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ وَأَسْبَابِهِمَا، عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي أَحْكَامِ ذَلِكَ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَنْ جَرَّحَهُ مُجْمَلًا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ ‏"‏، انْتَهَى‏.‏

‏[‏وَقَرِيبٌ مِنْهُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمُوَافِقِ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ دُونَ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ السَّبَبَ‏]‏‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِ الْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ مُسْتَقِلٍّ، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَتَحْرِيرٌ لَهُ؛ إِذْ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْأَسْبَابِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ لَا بِإِطْلَاقٍ وَلَا بِتَقْيِيدٍ، فَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ فَرْعٌ عَنِ الْعِلْمِ التَّصَوُّرِيِّ بِهِ ‏"‏‏.‏ وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَا تَعْدِيلَ وَجَرْحَ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ‏.‏

وَكَذَا قَيَّدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْقَوْلَ بِاسْتِفْسَارِ الْمُجَرِّحِ بِمَا إِذَا كَانَ الْجَرْحُ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ‏.‏ وَسَبَقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَتَرْجَمَ‏:‏ ‏"‏ بَابٌ‏:‏ لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ إِلَّا بِأَنْ نَقِفَ عَلَى مَا يُجَرَّحُ بِهِ ‏"‏‏.‏

وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ‏:‏ ‏"‏ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ، وَثَبَتَتْ فِي الْعِلْمِ إِمَامَتُهُ، وَبَانَتْ هِمَّتُهُ فِيهِ وَعِنَايَتُهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْجَارِحُ فِي جَرْحِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا جَرْحُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ قَبُولَهُ ‏"‏، انْتَهَى‏.‏

وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ عَلَى جَرْحِهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ فِي جَرْحِهِ لِمَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ، وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَنَحْوُهَا‏.‏

وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي الْمُرَادِ مَا سَبَقَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَكُلُّ رَجُلٍ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ تَجْرِيحُ أَحَدٍ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَرْحِهِ ‏"‏‏.‏

وَلِذَا كُلِّهِ كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا أَنَّهُ إِنْ خَلَا الْمَجْرُوحُ عَنْ تَعْدِيلٍ قُبِلَ الْجَرْحُ فِيهِ مُجْمَلًا، غَيْرَ مُبَيِّنٍ السَّبَبَ إِذَا صَدَرَ مِنْ عَارِفٍ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْدِيلٌ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْمَجْهُولِ، وَإِعْمَالُ قَوْلِ الْمُجَرِّحِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَمَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى التَّوَقُّفِ ‏"‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَبُولَ الْجَرْحِ الْمُفَسَّرِ فِيمَنْ عُدِّلَ أَيْضًا، بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِأَنَّ مِثْلَهَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَقِيعَةِ مِنْ تَعَصُّبٍ مَذْهَبِيٍّ، أَوْ مُنَافَسَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ مَزِيدٍ فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ‏.‏

279- وَقَدَّمُوا الْجَرْحَ وَقِيلَ إِنْ ظَهَرْ *** مَنْ عَدَّلَ الْأَكْثَرَ فَهْوَ الْمُعْتَبَرْ

‏[‏تعارض الجرح والتعديل في راو واحد‏]‏

الْخَامِسُ‏:‏ فِي تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي رَاوٍ وَاحِدٍ ‏(‏وَقَدَّمُوا‏)‏ أَيْ‏:‏ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا ‏(‏الْجَرْحَ‏)‏ عَلَى التَّعْدِيلِ مُطْلَقًا، اسْتَوَى الطَّرَفَانِ فِي الْعَدَدِ أَمْ لَا‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْأُصُولِيُّونَ كَالْفَخْرِ وَالْآمِدِيِّ، بَلْ حَكَى الْخَطِيبُ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَصَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ‏.‏

وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَسَاكِرَ‏:‏ ‏"‏ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيمِ قَوْلِ مَنْ جَرَّحَ رَاوِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَّلَهُ، وَاقْتَضَتْ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ فِي التَّسَاوِي كَوْنَ ذَلِكَ أَوْلَى فِيمَا إِذَا زَادَ عَدَدُ الْجَارِحِينَ ‏"‏‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏"‏ وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنِيٍّ قَدْ عَلِمَهُ، وَيُصَدِّقُ الْمُعَدِّلَ وَيَقُولُ لَهُ‏:‏ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ حَالِهِ الظَّاهِرِ مَا عَلِمْتُهُ، وَتَفَرَّدْتُ بِعِلْمٍ لَمْ تَعْلَمْهُ مِنِ اخْتِبَارِ أَمْرِهِ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَإِخْبَارُ الْمُعَدِّلِ عَنْ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ لَا يَنْفِي صِدْقَ قَوْلِ الْجَارِحِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ الْجَرْحُ أَوْلَى مِنَ التَّعْدِيلِ ‏"‏، وَغَايَةُ قَوْلِ الْمُعَدِّلِ كَمَا قَالَ الْعَضَدُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فِسْقًا وَلَمْ يَظُنَّهُ فَظَنَّ عَدَالَتَهُ؛ إِذِ الْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالْجَارِحُ يَقُولُ‏:‏ أَنَا عَلِمْتُ فِسْقَهُ، فَلَوْ حَكَمْنَا بِعَدَمِ فِسْقِهِ كَانَ الْجَارِحُ كَاذِبًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِفِسْقِهِ كَانَا صَادِقَيْنِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْعَدْلِ خِلَافُ الظَّاهِرِ ‏"‏ انْتَهَى‏.‏

وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْخَطِيبُ بِمَا حَاصِلُهُ‏:‏ أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْجَارِحِ غَيْرُ مُتَضَمِّنٍ لِتُهَمَةِ الْمُزَكِّي بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلِأَجْلِ هَذَا وَجَبَ إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، وَشَهِدَ لَهُ آخَرَانِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِالْقَضَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ شَاهِدَيِ الْقَضَاءِ يُصَدِّقَانِ الْآخَرَيْنِ، وَيَقُولَانِ‏:‏ عَلِمْنَا خُرُوجَهُ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمَا لَمْ تَعْلَمَا ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ شَاهِدَا ثُبُوتِ الْحَقِّ‏:‏ نَشْهَدُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَقِّ، لَكَانَتْ شَهَادَةً بَاطِلَةً‏.‏

لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ الْجَرْحِ بِمَا إِذَا فُسِّرَ، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا يُسَاعِدُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَدَّمَ التَّعْدِيلَ؛ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا تَعَارَضَا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ فَالتَّعْدِيلُ كَمَا قَالَهُ الْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْأَقْوَى حِينَئِذٍ أَنْ يُطْلَبَ التَّرْجِيحُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفِي قَوْلَ الْآخَرِ ‏"‏، وَتَعْلِيلُهُ يُخْدَشُ فِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ‏.‏ وَكَذَا قَيَّدَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا إِذَا أُطْلِقَ التَّعْدِيلُ، أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُعَدِّلُ‏:‏ عَرَفْتُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَارِحُ، لَكِنَّهُ تَابَ مِنْهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ؛ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُعَدِّلُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ‏.‏

وَكَذَا لَوْ نَفَاهُ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ، كَأَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ عِنْدَ التَّجْرِيحِ بِقَتْلِهِ لِفُلَانٍ فِي يَوْمِ كَذَا‏:‏ إِنَّ فُلَانًا الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَهُوَ حَيٌّ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَارُضُ؛ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَيُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ‏:‏ ‏(‏أَمَّا عِنْدَ إِثْبَاتِ مُعَيَّنٍ وَنَفْيِهِ بِالْيَقِينِ فَالتَّرْجِيحُ‏)‏‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏:‏ إِنْ ظَهَرْ مَنْ عَدَّلَ الْأَكْثَرَ‏)‏ بِالنَّصْبِ حَالًا بِاعْتِقَادِ تَنْكِيرِهِ، يَعْنِي‏:‏ إِنْ كَانَ الْمُعَدِّلُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا ‏(‏فَهُوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ التَّعْدِيلُ ‏(‏الْمُعْتَبَرْ‏)‏‏.‏

حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ طَائِفَةٍ، وَصَاحِبُ ‏(‏الْمَحْصُولِ‏)‏ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تُقَوِّي الظَّنَّ، وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْحَدِيثَيْنِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا خَطَأٌ وَبُعْدٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَدِّلِينَ وَإِنْ كَثُرُوا لَيْسُوا يُخْبِرُونَ عَنْ عَدَمِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْجَارِحُونَ، وَلَوْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَقَالُوا‏:‏ نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ، لَخَرَجُوا بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ تَعْدِيلٍ أَوْ جَرْحٍ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا يَصِحُّ وَيَجُوزُ وُقُوعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوهُ فَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ ‏"‏، وَإِنَّ تَقْدِيمَ الْجَرْحِ إِنَّمَا هُوَ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّلِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُعَدِّلِ وَنَقْصِهِ وَمُسَاوَاتِهِ، فَلَوْ جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ مِائَةٌ، قُدِّمَ الْوَاحِدُ لِذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُمَا حِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ فَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعَ الْمُعَدِّلِ زِيَادَةَ قُوَّةٍ بِالْكَثْرَةِ، وَمَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ قُوَّةٍ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْبَاطِنِ، وَبِالْجَمْعِ الْمُمْكِنِ، ‏[‏وَقِيلَ‏:‏ يُقَدَّمُ الْأَحْفَظُ‏]‏‏.‏

ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا صَدَرَا مِنْ قَائِلَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَا مِنْ قَائِلٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَّفِقُ لِابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْدِ، فَهَذَا قَدْ لَا يَكُونُ تَنَاقُضًا، بَلْ نِسْبِيًّا فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ نَاشِئًا عَنْ تَغَيُّرِ اجْتِهَادٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا إِنْ عُلِمَ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ‏.‏

280- وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ لَيْسَ يَكْتَفِي *** بِهِ الْخَطِيبُ وَالْفَقِيهُ الصَّيْرَفِي

281- وَقِيلَ يَكْفِي نَحْوُ أَنْ يُقَالَا *** حَدَّثَنِي الثِّقَةُ بَلْ لَوْ قَالَا

282- جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ لَوْ لَمْ *** أُسَمِّ لَا يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ

283- وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَرُدَّهُ *** مِنْ عَالِمٍ فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ

284- وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أَوْ عَمَلَهُ *** عَلَى وِفَاقِ الْمَتْنِ تَصْحِيحًا لَهُ

285- وَلَيْسَ تَعْدِيلًا عَلَى الصَّحِيحِ *** رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَلَى التَّصْرِيحِ

‏[‏التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ‏]‏

السَّادِسُ‏:‏ فِي التَّعْدِيلِ الْمُبْهَمِ، وَمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْمُعَيَّنِ بِدُونِ تَعْدِيلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ‏)‏ أَيْ‏:‏ تَعْدِيلُ الْمُبْهَمِ ‏(‏لَيْسَ يَكْتَفِي بِهِ‏)‏ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ ‏(‏الْخَطِيبُ‏)‏، وَعَصْرِيُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ ‏(‏وَ‏)‏ مِنْ قَبْلِهِمَا ‏(‏الْفَقِيهُ‏)‏ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏الصَّيْرَفِيُّ‏)‏ شَارِحُ الرِّسَالَةِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ وَغَيْرُهُ‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏:‏ يَكْفِي‏)‏ كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا، نَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيِفَةَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمَحْذُوفِ لَمَا حَذَفَهُ، فَكَأَنَّهُ عَدَّلَهُ، بَلْ هُوَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِالتَّعْدِيلِ‏.‏

وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيلِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ كَذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ إِذَا سَمَّاهُ يُعْرَفُ بِخِلَافِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ قَدِ انْفَرَدَ بِتَوْثِيقِهِ كَمَا وَقَعَ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُوَثِّقْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ إِضْرَابُ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ رِيبَةٌ تَقَعُ تَرَدُّدًا فِي الْقَلْبِ‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ‏:‏ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدُ فَرْعٍ، فَلَابُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ لِلْحَاكِمِ الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ‏:‏ أَشْهَدَنِي شَاهِدُ أَصْلٍ أَشْهَدُ بِعَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِكَذَا، لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ وِفَاقًا حَتَّى يُعَيِّنَهُ لِلْحَاكِمِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ إِنْ عَلِمَ عَدَالَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ عَمِلَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَهُ اسْتَزْكَاهُ- انْتَهَى‏.‏

وَصُورَتُهُ‏:‏ ‏(‏نَحْوُ أَنْ يُقَالَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ‏)‏ أَوِ الضَّابِطُ أَوِ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ‏(‏بَلْ‏)‏ صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ ‏(‏لَوْ قَالَا‏)‏ أَيْضًا‏:‏ ‏(‏جَمِيعُ أَشْيَاخِي‏)‏ الَّذِينَ رَوَيْتُ عَنْهُمْ ‏(‏ثِقَاتٌ‏)‏، وَ‏(‏لَوْ لَمْ أُسَمِّ‏)‏، ثُمَّ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ ‏(‏لَا يُقْبَلُ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏مَنْ قَدْ أَبْهَمْ‏)‏ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّهُ كَمَا نَقَلَ عَنِ الْمُصَنِّفِ إِذَا قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ ضَعِيفٍ، يَعْنِي عِنْدَ غَيْرِهِ، وَإِذَا قَالَ‏:‏ جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَهِيَ أَرْفَعُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذِ احْتِمَالُ الضَّعْفِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَدْ طَرَقَهُمَا مَعًا‏.‏

بَلْ تَمْتَازُ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ بِاحْتِمَالِ الذُّهُولِ عَنْ قَاعِدَتِهِ، أَوْ كَوْنِهِ لَمْ يَسْلُكْ ذَلِكَ إِلَّا فِي آخِرِ أَمْرِهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ يَتَسَاهَلُ أَوَّلًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ بِحَيْثُ كَانَ يَرْوِي عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، ثُمَّ شَدَّدَ‏.‏ نَعَمْ، جَزَمَ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَالَ‏:‏ كُلُّ مَنْ أَرْوِي لَكُمْ عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ رَضِيٌّ، كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ، يَعْنِي بِحَيْثُ يَسُوغُ لَنَا إِضَافَةُ تَعْدِيلِهِ لَهُ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ يُوجَدُ فِيهِمُ الضَّعِيفُ؛ لِخَفَاءِ حَالِهِ عَلَى الْقَائِلِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَوْ لِكَوْنِ عَمَلِهِ بِقَوْلِهِ هَذَا مِمَّا طَرَأَ كَمَا قَدَّمْتُهُ ‏(‏وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ‏)‏ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَعَلَّهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَصَّلَ حَيْثُ ‏(‏لَمْ يَرُدَّهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ التَّعْدِيلَ لِمَنْ أُبْهِمَ إِذَا صَدَرَ ‏(‏مِنْ عَالِمٍ‏)‏ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُقَلِّدِينَ ‏(‏فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ‏)‏ فِي مَذْهَبِهِ، فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ لِلْأَئِمَّةِ ذَلِكَ، فَحَيْثُ رَوَى مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ وَلَدُهُ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَوِ الزُّهْرِيُّ، أَوِ ابْنُ لَهِيعَةَ، أَوْ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ اللَّيْثُ‏.‏

وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ‏:‏ بَلَغَنِي عَنْ عَلِيٍّ، سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ‏.‏ وَحَيْثُ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، فَهُوَ أَبُو أُسَامَةَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ وَذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ فَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ‏.‏

وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ الشَّافِعِيِّ ‏"‏ أَنَا الثَّقَةُ ‏"‏ فَهُوَ أَبِي، يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا، نَعَمْ، فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَسَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ ‏"‏ فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ ‏"‏ مَنْ لَا أَتَّهِمُ ‏"‏ فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ ‏"‏ بَعْضُ النَّاسِ ‏"‏ فَيُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَوْ ‏"‏ بَعْضَ أَصْحَابِنَا ‏"‏ فَأَهْلُ الْحِجَازِ‏.‏

وَقَالَ شَيْخُنَا‏:‏ إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ يَحْيَى، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى‏.‏

بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقَلِّدْ كَابْنِ إِسْحَاقَ؛ حَيْثُ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، فَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فُسِّرَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ، وَكَسِيبَوَيْهِ؛ فَإِنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ‏:‏ إِذَا قَالَ‏:‏ سِيبَوَيْهِ حَدَّثَنِي، فَإِنَّمَا يَعْنِينِي‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَكَمِ، وَقَدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا ‏[‏فِي هَذَا الْقَوْلِ‏]‏، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَبْحَثِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَتْبَعُ إِمَامَهُ، ذَكَرَ دَلِيلَهُ أَمْ لَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ أَلْحَقَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِحَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي مُطْلَقِ الْقَبُولِ، لَا فِي الْمَرْتَبَةِ‏.‏ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الذَّهَبِيُّ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ‏:‏ أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ مِنْ رُتْبَةِ الثِّقَةِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَهُوَ لَيِّنٌ عِنْدَهُ، وَضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَلَا حُجَّةَ فِي مَجْهُولٍ‏.‏

وَنَفْيُ الشَّافِعِيِّ التُّهَمَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ وَوَالِدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ الْأَفْرِيقِيَّ وَأَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ نَتَّهِمُهُمْ عَلَى السُّنَنِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ لَا نَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ‏:‏ وَهُوَ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ حِينَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ وَالتَّوْثِيقُ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ‏.‏

‏(‏وَلَمْ يَرَوْا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْجُمْهُورُ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ ‏(‏فُتْيَاهُ‏)‏ أَوْ فَتْوَاهُ كَمَا هِيَ بِخَطِّ النَّاظِمِ؛ أَيِ‏:‏ الْعَالِمِ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا ‏(‏أَوْ عَمَلَهُ‏)‏ فِي الْأَقْضِيَةِ وَغَيْرِهَا‏.‏

‏(‏عَلَى وِفَاقٍ الْمَتْنِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ ذَلِكَ بِمُفْرَدِهِ مُسْتَنَدُهُ ‏(‏تَصْحِيحًا لَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلْمَتْنِ، وَلَا تَعْدِيلًا لِرَاوِيهِ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْمَتْنَ مِنْ مَتْنٍ غَيْرِهِ، أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَرَى الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ وَتَقْدِيمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ عَلَى هَذَا الْمَتْنِ أَنَّ ذِكْرَهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ أَوْضَحَ فِي الْمُرَادِ، أَوْ لِأَرْجَحِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي رَاوِيهِ، قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدَلَ عَنْهُ لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ مِنْهُ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَثِيرٍ‏.‏ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرٍ انْفَرَدَ بِهِ رَاوٍ لِأَجْلِهِ، يَعْنِي‏:‏ جَزْمًا، يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ، الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِهِ إِلَّا وَهُوَ رَضِيٌّ عِنْدَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِتَعْدِيلِهِ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ‏:‏ إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ بِالشَّهَادَةِ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَعَمَلَ الْعَالِمِ مِثْلُهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏لَيْسَ تَعْدِيلًا‏)‏ مُطْلَقًا ‏(‏عَلَى‏)‏ الْقَوْلِ ‏(‏الصَّحِيحِ‏)‏ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ ‏(‏رِوَايَةُ الْعَدْلِ‏)‏ الْحَافِظِ الضَّابِطِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، عَنِ الرَّاوِي ‏(‏عَلَى‏)‏ وَجْهِ ‏(‏التَّصْرِيحِ‏)‏ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ، بَلْ وَعَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَا تَتَضَمَّنُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ تَعْدِيلَهُ وَلَا خَبَرًا عَنْ صِدْقِهِ، كَمَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدُ فَرْعٍ عَلَى شَاهِدِ أَصْلٍ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَتِهِ تَعْدِيلًا مِنْهُ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إِذَا أَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ‏.‏

وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏:‏ ‏"‏ لَا تَسْتَدِلَّ بِمَعْرِفَةِ صِدْقِ مَنْ حَدَّثَنَا عَلَى صِدْقِ مَنْ فَوْقَهُ ‏"‏، بَلْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاوِي حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِمُجَرَّدِ رِوَايَةِ اثْنَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عَنْهُ‏.‏

‏[‏وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ؛ إِذْ لَوْ عَلِمَ فِيهِ جَرْحًا لَذَكَرَهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ غَاشًّا فِي الدِّينِ، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ‏.‏

وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْكَفِيلِ‏:‏ لِلتَّعْدِيلِ قِسْمَانِ‏:‏ صَرِيحِيٌّ وَغَيْرُ صَرِيحِيٍّ، فَالصَّرِيحِيُّ وَاضِحٌ، وَغَيْرُ الصَّرِيحِيِّ، وَهُوَ الضِّمْنِيُّ، كَرِوَايَةِ الْعَدْلِ وَعَمَلِ الْعَالِمِ‏.‏

وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ عَدَالَتُهُ وَلَا جَرْحُهُ‏]‏، كَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ رَوَوْا عَنْ قَوْمٍ أَحَادِيثَ أَمْسَكُوا فِي بَعْضِهَا عَنْ ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْضِيِّينَ، وَفِي بَعْضِهَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ‏.‏

وَكَذَا خَطَّأَهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَعْرِيفٌ؛ أَيْ‏:‏ مُطْلَقُ تَعْرِيفٍ، يَزُولُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ بِهَا بِشَرْطِهِ، وَالْعَدَالَةُ بِالْخِبْرَةِ، وَالرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِبْرَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ إِنِّي لَأَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَلِلْحُجَّةِ مِنْ رَجُلٍ، وَلِلتَّوَقُّفِ فِيهِ مِنْ آخَرَ، وَلِمَحَبَّةِ مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ مَنْ لَا أَعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ، لَكِنْ قَدْ عَابَ شُعْبَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ‏.‏ وَقِيلَ لِأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ‏:‏ أَهْلُ الْحَدِيثِ رُبَّمَا رَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا يَصِحُّ، فَقَالَ‏:‏ عُلَمَاؤُهُمْ يَعْرِفُونَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، فَرِوَايَتُهُمُ الْحَدِيثَ الْوَاهِيَ لِلْمَعْرِفَةِ؛ لِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ مَيَّزُوا الْآثَارَ وَحَفِظُوهَا‏.‏

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ‏:‏ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنِ الرَّاوِي تَعْدِيلًا لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ؛ كَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِمَا، بَلْ وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخَيْنِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صِحَاحِهِمْ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يَتَقَوَّى بِهِ الْمُرْسِلُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ إِذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ- انْتَهَى‏.‏

وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ فَلَا يَكُونُ تَعَدْيِلًا بِاتِّفَاقٍ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ مِمَّنْ كَانَ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ إِلَّا فِي النَّادِرِ‏:‏ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَحُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُعْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَذَلِكَ فِي شُعْبَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَنَّتُ فِي الرِّجَالِ وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ عِصَامُ بْنُ عَلِيٍّ‏:‏ سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ‏:‏ لَوْ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ عَنْ ثَلَاثَةٍ‏.‏ وَفِي نُسْخَةٍ‏:‏ ثَلَاثِينَ‏.‏ وَذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ يَرْوِي عَنِ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ، فَيُنْظَرُ‏.‏ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَتْرُوكٍ، وَلَا عَمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى ضَعْفِهِ‏.‏

وَأَمَّا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَكَانَ يَتَرَخَّصُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ وَشِدَّةِ وَرَعِهِ وَيَرْوِي عَنِ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ صَاحِبُهُ شُعْبَةُ‏:‏ لَا تَحْمِلُوا عَنِ الثَّوْرِيِّ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَمَلَ‏.‏

وَقَالَ الْفَلَّاسُ‏:‏ قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ‏:‏ لَا تَكْتُبْ عَنْ مُعْتَمِرٍ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُ؛ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ كُلٍّ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْهِ بِمُوَافَقَةِ حَدِيثٍ لِمَا أَفْتَى بِهِ الْعَالِمُ أَوْ عَمِلَ بِهِ- ظَاهِرٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُفَصَّلِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ خَالَفَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الصَّنِيعَ‏.‏

286- وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْبَلُ الْمَجْهُولُ *** وَهْوَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَجْعُولُ

287- مَجْهُولُ عَيْنٍ‏:‏ مَنَّ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ *** وَرَدَّهُ الْأَكْثَرُ وَالْقِسْمُ الْوَسَطْ

288- مَجْهُولُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ *** وَحُكْمُهُ الرَّدُّ لَدَى الْجَمَاهِرِ

289- وَالثَّالِثُ الْمَجْهُولُ لِلْعَدَالَهْ *** فِي بَاطِنٍ فَقَطْ فَقَدْ رَأَى لَهْ

290- حُجِّيَّةً فِي الْحُكْمِ بَعْضُ مَنْ مَنَعْ *** مَا قَبْلَهُ مِنْهُمْ سُلَيْمٌ فَقَطَعْ

291- بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ إِنَّ الْعَمَلَا *** يُشْبِهُ أَنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلَا

292- فِي كُتُبٍ مِنَ الْحَدِيثِ اشْتَهَرَتْ *** خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ

293- فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَبَعْضٌ يَشْهَرُ *** ذَا الْقِسْمَ مَسْتُورًا وَفِيهِ نَظَرُ