فصل: الثَّالِثُ: الْإِجَازَةُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


الثَّالِثُ‏:‏ الْإِجَازَةُ

440- ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَلِي السَّمَاعَا *** وَنُوِّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا

441- أَرْفَعُهَا بِحَيْثُ لَا مُنَاوَلَهْ *** تَعْيِينُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجَازَ لَهْ

442- وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى *** جَوَازِ ذَا وَذَهَبَ الْبَاجِي إِلَى

443- نَفْيِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا وَهْوَ غَلَطْ *** قَالَ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ قَطْ

444- وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بِأَنْ لِلشَّافِعِي *** قَوْلَانِ فِيهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعِي

445- مَذْهَبِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ مَنَعَا *** وَصَاحِبُ الْحَاوِي بِهِ قَدْ قَطَعَا

446- قَالَا كَشُعْبَةٍ وَلَوْ جَازَتْ إِذَنْ *** لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ طُلَّابِ السُّنَنْ

447- وَعَنْ أَبِي الشَّيْخِ مَعَ الْحَرْبِيِّ *** إِبْطَالُهَا كَذَاكَ لِلسِّجْزِيِّ

448- لَكِنْ عَلَى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا *** عَمَلُهُمْ وَالْأَكْثَرُونَ طُرَّا

449- قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوبُ الْعَمَلِ *** بِهَا وَقِيلَ لَا كَحُكْمِ الْمُرْسَلِ

الْقِسْمُ ‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ ‏(‏الْإِجَازَةُ‏)‏، وَهِيَ مَصْدَرٌ، وَأَصْلُهَا إِجْوَازَةٌ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَتُوُهِّمَ انْفِتَاحُ مَا قَبْلَهَا، فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا، وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْأَلِفَيْنِ إِمَّا الزَّائِدَةُ أَوِ الْأَصْلِيَّةُ، بِالنَّظَرِ لِاخْتِلَافِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ؛ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَصَارَتْ إِجَازَةً‏.‏

وَتَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْعُبُورِ، وَالِانْتِقَالِ، وَلِلْإِبَاحَةِ الْقَسِيمَةِ لِلْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ الِاصْطِلَاحُ؛ فَإِنَّهَا إِذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَفْظًا أَوْ كَتْبًا تُفِيدُ الْإِخْبَارَ الْإِجْمَالِيَّ عُرْفًا‏.‏

وَقَالَ الْقُطْبُ الْقَسْطَلَانِيُّ‏:‏ إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّجَوُّزِ، وَهُوَ التَّعَدِّي، فَكَأَنَّهُ عَدَّى رِوَايَتَهُ حَتَّى أَوْصَلَهَا لِلرَّاوِي عَنْهُ‏.‏ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْحَجَّاجِ‏:‏ إِنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنَ الْمَجَازِ، فَكَأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالسَّمَاعَ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَا عَدَاهُ مَجَازٌ‏.‏ وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازُ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ أَجَزْتُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ وَشَرْطِهَا‏.‏

‏(‏ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَلِي السَّمَاعَا‏)‏ عَرْضًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هِيَ أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَنْفَى عَنِ التُّهَمَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ‏.‏ قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ، بَلْ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِجَازَةِ، حَتَّى لَا أُوبِقَ فَأُدْخَلَ فِي كِتَابِ

أَهْلِ الْبِدْعَةِ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ مُيَسَّرٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَمَّا سَوَاءٌ، قَالَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ وَحَفِيدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَاتٍ عَنْهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي طَلِحَةَ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْفَقِيهِ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ خُزَيْمَةَ الْإِجَازَةَ لِمَا بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ تَصَانِيفِهِ، فَأَجَازَهَا لِي، وَقَالَ‏:‏ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي إِرَادَةِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُنَاوَلَةِ‏.‏

وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الِاسْتِوَاءَ بِالْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي حَصَلَ التَّسَامُحُ فِيهَا فِي السَّمَاعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ؛ لِكَوْنِهِ آلَ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدِ؛ إِذْ هُوَ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا إِنْ وُجِدَ عَالِمٌ بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ وَفَوَائِدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إِنَّمَا هُوَ حِينَئِذٍ أَوْلَى؛ لِمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُسْمِعِ وَقْتَ السَّمَاعِ، لَا لِمُجَرَّدِ قُوَّةِ رِوَايَةِ السَّمَاعِ عَلَى الْإِجَازَةِ‏.‏

وَيَتَأَيَّدُ هَذَا التَّفْصِيلُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُيَسَّرٍ الْإِسْكَنْدَرِيِّ الْمَالِكِيِّ كَمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ الْأَنْدَلُسِيُّ شَيْخُ الْحَافِظِ أَبِي ذَرٍّ عَبْدِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيِّ فِي كِتَابِهِ ‏(‏الْوِجَازَةِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِجَازَةِ‏)‏ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْعَطَّارِ عَنْهُ‏:‏ الْإِجَازَةُ عِنْدِي عَلَى وَجْهِهَا خَيْرٌ وَأَقْوَى فِي النَّقْلِ مِنَ السَّمَاعِ الرَّدِيِّ، وَبَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا تَعَذَّرَ السَّمَاعُ‏.‏

وَكَلَامُ ابْنِ فَارِسٍ الْآتِي قَدْ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِجَازَةَ دُونَ السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ التَّصْحِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، وَقَدْ ‏(‏نُوِّعَتْ لِتِسْعَةٍ‏)‏ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ ‏(‏أَنْوَاعَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ الْأَنْوَاعِ مَعَ كَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً أَيْضًا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَتَتَرَكَّبُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخَرُ سَتَأْتِي، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ آخِرَ الْأَنْوَاعِ، هَذَا مَعَ إِدْرَاجِهِ الْخَامِسَ فِي الرَّابِعِ، وَالسَّابِعَ فَيَ السَّادِسِ، بِحَيْثُ كَانَتِ الْأَنْوَاعُ عِنْدَهُ سَبْعَةً‏.‏

‏[‏النَّوْعُ الْأَوَّلُ‏]‏‏:‏ فَ‏(‏أَرْفَعُهَا‏)‏ مِمَّا تَجَرَّدَ ‏(‏بِحَيْثُ لَا مُنَاوَلَهْ‏)‏ مَعَهَا؛ لِعُلُوِّ تِلْكَ، وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْوَاعِهَا ‏(‏تَعْيِينُهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُحَدِّثِ ‏(‏الْمُجَازَ‏)‏ بِهِ، وَتَعْيِينُهُ الطَّالِبَ ‏(‏الْمُجَازَ لَهْ‏)‏، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ، وَهُوَ أَعْلَى، أَوْ بِأَحَدِهِمَا‏:‏ أَجَزْتُ ‏[‏لَكَ أَوْ‏]‏ لَكُمْ أَوْ لِفُلَانٍ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ أَوْ فِهْرِسَتِي؛ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ مَرْوِيَّهُ، وَالْمُجَازُ عَارِفٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ‏.‏

وَنَحْوُ ذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ وَقَدْ أَدْخَلَهُ خِزَانَةَ كُتُبِهِ‏:‏ ارْوِ جَمِيعَ هَذِهِ الْكُتُبِ عَنِّي؛ فَإِنَّهَا سَمَاعَاتِي مِنَ الشُّيُوخِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ، أَوْ أَحَالَهُ عَلَى تَرَاجِمِهَا، وَنَبَّهَهُ عَلَى طُرُقِ أَوَائِلِهَا‏.‏

‏(‏وَبَعْضُهُمُ‏)‏ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ‏(‏حَكَى اتِّفَاقَهُمُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ ‏(‏عَلَى جَوَازِ ذَا‏)‏ النَّوْعِ، وَأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِهَا غَيْرُهُ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي مَرْوَانَ الطُّبُنِيِّ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ‏:‏ إِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدِي إِذَا عَيَّنَ الْمُجِيزُ لِلْمُجَازِ مَا أَجَازَ لَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَعَلَى هَذَا رَأَيْتُ إِجَازَاتِ الْمَشْرِقِ وَمَا رَأَيْتُ مُخَالِفًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَبْهَمَ وَلَمْ يُسَمِّ مَا أَجَازَ‏.‏ بَلْ وَسَوَّى بَعْضُهُمْ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاوَلَةِ، قَالَ‏:‏ وَسَمَّاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ إِجَازَةَ مُنَاوَلَةٍ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ يَحِلُّ مَحَلَّ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ‏.‏

‏(‏وَذَهَبَ‏)‏ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ الْمَالِكِيُّ ‏(‏الْبَاجِيُّ‏)‏، نِسْبَةً لِبَاجَةَ مَدِينَةٍ بِالْأَنْدَلُسِ، ‏[‏وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ‏]‏ ‏(‏إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ‏)‏ عَنْ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ ‏(‏مُطْلَقًا‏)‏، هَذَا النَّوْعُ وَغَيْرُهُ ‏(‏وَهُوَ غَلَطْ‏)‏ كَمَا سَتَرَاهُ‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏ الْبَاجِيُّ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ‏:‏ لَا خِلَافَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِهَا ‏(‏وَالِاخْتِلَافُ‏)‏ إِنَّمَا هُوَ ‏(‏فِي الْعَمَلِ‏)‏ بِهَا ‏(‏قَطْ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

‏(‏وَرَدَّهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ وَبِقَصْرِهِ عَلَى الْعَمَلِ مُصَرِّحًا بِبُطْلَانِهِ ‏(‏الشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏بِأَنْ‏)‏ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ ‏(‏لِلشَّافِعِي‏)‏ وَكَذَا لِمَالِكٍ ‏(‏قَوْلَانِ فِيهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي الْإِجَازَةِ جَوَازًا وَمَنْعًا‏.‏

وَقَالَ بِالْمَنْعِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ كَأَشْهَبَ وَالْأُصُولِيِّينَ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ رَدَّهُ أَيْضًا بِالْقَطْعِ بِمُقَابِلِهِ فَ‏(‏بَعْضُ تَابِعِي مَذْهَبِهِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الشَّافِعِّيُّ، ‏[‏أَصْحَابُ الْوُجُوهِ فِيهِ‏]‏، وَهُوَ ‏(‏الْقَاضِي الْحُسَيْنُ‏)‏ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ ‏(‏مَنَعَا‏)‏ الرِّوَايَةَ بِهَا؛ يَعْنِي جَزْمًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ ‏(‏صَاحِبُ الْحَاوِي‏)‏ فِيهِ ‏(‏بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِعَدَمِ الْجَوَازِ ‏(‏قَدْ قَطَعَا‏)‏ مَعَ عَزْوِهِ الْمَنْعَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ، حَيْثُ قَالَ‏:‏ فَاتَنِي عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ كِتَابِهِ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ مِنَ الْبُيُوعِ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ أَجِزْهَا لِي، فَقَالَ‏:‏ بَلِ اقْرَأْهَا عَلَيَّ كَمَا قُرِئَتْ عَلَيَّ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ حَتَّى أَذِنَ لِي فِي الْجُلُوسِ وَجَلَسَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ، ‏[‏وَلَمْ يَنْفَرِدَا بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ‏:‏ إِنَّهَا لَا تَجُوزُ الْبَتَّةَ بِدُونِ مُنَاوَلَةٍ‏]‏‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ‏:‏ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْإِجَازَةِ، فَقَالَ‏:‏ لَا أَرَاهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقِيمَ الْمُقَامَ الْيَسِيرَ، وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ‏:‏ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ‏:‏ مَا يُعْجِبُنِي وَإِنَّ النَّاسَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الشَّيْءَ الْكَثِيرَ فِي الْمُقَامِ الْقَلِيلِ‏.‏ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ لِرَسُولِ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ فِي ذَلِكَ‏:‏ قُلْ لَهُ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْعِلْمَ فَارْحَلْ لَهُ‏.‏

وَ‏(‏قَالَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمَاوَرْدِيُّ ‏(‏كَ‏)‏قَوْلِ ‏(‏شُعْبَةٍ‏)‏ بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَضْرَابِهِمَا مَا مَعْنَاهُ‏:‏ ‏(‏وَلَوْ جَازَتْ‏)‏ الْإِجَازَةُ ‏(‏إِذَنْ‏)‏ بِالنُّونِ لِجَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الْمُبَرِّدُ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَشْتَهِي أَنْ أَكْوِيَ يَدَ مَنْ يَكْتُبُهَا بِالْأَلِفِ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُ أَنْ وَلَنْ، وَلَا يَدْخُلُ التَّنْوِينُ فِي الْحُرُوفِ ‏(‏لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ‏)‏ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا؛ أَيِ‏:‏ انْتِقَالُ ‏(‏طُلَّابِ السُّنَنْ‏)‏ لِأَجْلِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؛ لِاسْتِغْنَائِهِمْ بِالْإِجَازَةِ عَنْهَا‏.‏

زَادَ شُعْبَةُ‏:‏ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ ‏"‏ سَمِعْتُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ‏"‏ فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ وَنَحْوُهُ‏.‏ وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ‏:‏ مَا رَأَيْنَا أَحَدًا يَفْعَلُهَا، وَإِنْ تَسَاهَلْنَا فِي هَذَا يَذْهَبِ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّلَبِ مَعْنًى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ جَاءَ أَيْضًا ‏(‏عَنْ أَبِي الشَّيْخِ‏)‏، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الشَّهِيرَةِ ‏(‏مَعَ‏)‏ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ ‏(‏الْحَرْبِيِّ إِبْطَالُهَا‏)‏‏.‏ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ الْجَلَّابُ‏:‏ سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ لَا تَجُوزُ، وَلَيْسَ هِيَ بِشَيْءٍ‏.‏ وَكَذَا قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ جَزَرَةُ، فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ‏:‏ الْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ‏.‏

‏(‏كَذَاكَ لِلسِّجْزِيِّ‏)‏ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ جِيمٍ بَعْدَهَا زَاءٌ نِسْبَةً لِسِجِسْتَانَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْوَائِلِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ، الْقَوْلُ بِإِبْطَالِهَا، بَلْ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَهُ، فَقَالَ‏:‏ وَسَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ‏:‏ قَوْلُ الْمُحَدِّثِ‏:‏ قَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، تَقْدِيرُهُ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ مَا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ مَا لَمْ يُسْمَعْ‏.‏ وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبْطَالِ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي طَاهِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الدَّبَّاسِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا لَمْ تَسْمَعْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ‏.‏

وَرَوَاهُ السِّلَفِيُّ فِي كِتَابِهِ ‏(‏الْوَجِيزِ فِي ذِكْرِ الْمُجَازِ وَالْمُجِيزِ‏)‏ مِنْ طَرِيقِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ‏.‏ وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ ‏(‏الْإِحْكَامِ‏)‏‏:‏ الْإِجَازَةُ، يَعْنِي الْمُجَرَّدَةَ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا النَّاسُ، بَاطِلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيزَ بِالْكَذِبِ، وَمَنْ قَالَ لَآخَرَ‏:‏ ارْوِ عَنِّي جَمِيعَ رِوَايَتِي، أَوْ يُجِيزُهُ بِهَا دِيوَانًا دِيوَانًا وَإِسْنَادًا إِسْنَادًا، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الْكَذِبَ، قَالَ‏:‏ وَلَمْ تَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَحَسْبُكَ بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ‏.‏

وَكَذَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ‏:‏ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ، وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا عَمَلًا وَرِوَايَةً ‏(‏لَكِنْ عَلَى جَوَازِهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةِ ‏(‏اسْتَقَرَّا عَمَلُهُمُ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَصَارَ بَعْدَ الْخُلْفِ إِجْمَاعًا، وَأَحْيَا اللَّهُ بِهَا كَثِيرًا مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ مُبَوَّبَهَا وَمُسْنَدَهَا، مُطَوَّلَهَا وَمُخْتَصَرَهَا، وَأُلُوفًا مِنَ الْأَجْزَاءِ النَّثْرِيَّةِ، مَعَ جُمْلَةٍ مِنَ الْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْفَوَائِدِ انْقَطَعَ اتِّصَالُهَا بِالسَّمَاعِ‏.‏

وَاقْتَدَيْتُ بِشَيْخِي فَمَنْ قَبِلَهُ فَوَصَلْتُ بِهَا جُمْلَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ الْحَافِظَ عَلَمَ الدِّينِ الْبِرْزَالِيَّ حَيْثُ بَالَغَ فِي الِاعْتِنَاءِ بِطَلَبِ الِاسْتِجَازَاتِ مِنَ الْمُسْنِدِينَ لِلصِّغَارِ وَنَحْوِهِمْ، فَكَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِدْعَاءَاتِ أَلْفِيًّا؛ أَيْ‏:‏ مُشْتَمِلًا عَلَى أَلْفِ اسْمٍ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ كَابْنِ سَعْدٍ وَالْوَانِيِّ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ‏.‏

وَكَذَا مِمَّنْ بَالَغَ فِي عَصْرِنَا فِي ذَلِكَ مُفِيدُنَا الْحَافِظُ أَبُو النَّعِيمِ الْمُسْتَمْلِي، وَ عُمْدَةُ الْمُحَدِّثِينَ النَّجْمُ بْنُ فَهْدٍ الْهَاشِمِيُّ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا‏.‏

وَمِمَّنِ اخْتَارَ التَّعْوِيلَ عَلَيْهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْحَدِيثِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ‏:‏ إِنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ لَضَاعَ الْعِلْمُ، وَلِذَا قَالَ عِيسَى بْنُ مِسْكِينٍ صَاحِبُ سُحْنُونٍ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ‏:‏ هِيَ رَأْسُ مَالٍ كَبِيرٍ، وَهِيَ قَوِيَّةٌ‏.‏

وَقَالَ السِّلَفِيُّ‏:‏ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمُوتُ الرُّوَاةُ، وَتُفْقَدُ الْحُفَّاظُ الْوُعَاةُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى إِبْقَاءِ الْإِسْنَادِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَّا الْإِجَازَةُ، فَالْإِجَازَةُ فِيهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ، وَرِفْدٌ جَسِيمٌ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ إِحْكَامُ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِحْيَاءُ الْآثَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاعِ ‏[‏أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الْمُنَاوَلَةِ‏]‏ أَوِ الْإِجَازَةِ، قَالَ‏:‏ وَسُومِحَ بِالْإِجَازَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏[‏الْحَجِّ‏:‏ 78‏]‏، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ وَمِنْ مَنَافِعِهَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يَقْدِرُ عَلَى رِحْلَةٍ وَسَفَرٍ، إِمَّا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ عَدَمَ الرِّحْلَةِ، أَوْ بُعْدِ الشَّيْخِ الَّذِي يَقْصِدُهُ، فَالْكِتَابَةُ حِينَئِذٍ أَرْفَقُ، وَفِي حَقِّهِ أَوْفَقُ، فَيَكْتُبُ مَنْ بِأَقْصَى الْغَرْبِ إِلَى مَنْ بِأَقْصَى الشَّرْقِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي رِوَايَةِ مَا يَصِحُّ عَنْهُ- انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ كَتَبَ السِّلَفِيُّ هَذَا مِنْ ثَغْرِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ صَاحِبِ ‏(‏الْكَشَّافِ‏)‏، وَهُوَ بِمَكَّةَ، يَسْتَجِيزُهُ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِهِ وَإِجَازَاتِهِ وَرِوَايَاتِهِ، وَمَا أَلَّفَهُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَأَنْشَأَهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالرَّسَائِلِ وَالشِّعْرِ، فَأَجَابَهُ بِجُزْءٍ لَطِيفٍ فِيهِ لُغَةٌ وَفَصَاحَةٌ مَعَ الْهَضْمِ فِيهِ لِنَفْسِهِ‏.‏

وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ‏:‏ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَرِيبَةُ الْمِيلَادِ، حَدِيثَةُ الْإِسْنَادِ، لَمْ تَعْتَضِدْ بِأَشْيَاخٍ نَحَارِيرَ، وَلَا بِأَعْلَامٍ مَشَاهِيرَ‏.‏ وَكَذَا اسْتَجَازَ أَبَا شُجَاعٍ عُمَرَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ فِي أَبْيَاتٍ‏:‏

إِنِّي أَجَزْتُ لَكُمْ عَنِّي رِوَايَتَكُمْ *** بِمَا سَمِعْتُ مِنْ أَشْيَاخِي وَأَقْرَانِي

مِنْ بَعْدِ أَنْ تَحْفَظُوا شَرْطَ الْجَوَازِ لَهَا *** مُسْتَجْمِعِينَ بِهَا أَسْبَابَ إِتْقَانِ

أَرْجُو بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَذْكُرُنِي *** يَوْمَ النُّشُورِ وَإِيَّاكُمْ بِغُفْرَانِ

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ النِّعْمَةِ‏:‏ لَمْ تَزَلْ مَشَايِخُنَا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْإِجَازَاتِ، وَيَرَوْنَهَا مِنْ أَنْفَسِ الطَّلَبَاتِ، وَيَعْتَقِدُونَهَا رَأْسَ مَالِ الطَّالِبِ، وَيَرَوْنَ مَنْ عَدِمَهَا الْمَغْلُوبَ لَا الْغَالِبَ، فَإِذَا ذَكَرَ حَدِيثًا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ مَعْنًى مَا قَالُوا‏:‏ أَيْنَ إِسْنَادُهُ، وَعَلَى مَنِ اعْتِمَادُهُ‏؟‏ فَإِنْ عُدِمَ سَنَدًا يُتْرَكُ سُدًى، وَنُبِذَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ فَضْلُهُ‏.‏

‏(‏وَالْأَكْثَرُونَ‏)‏ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ ‏(‏طُرَّا‏)‏ بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ؛ أَيْ‏:‏ جَمِيعًا ‏(‏قَالُوا بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْجَوَازِ أَيْضًا قَبْلَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخَانِ، وَلَكِنَّ شَيْخَنَا مُتَوَقِّفٌ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ كَانَ يَرَى بِهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ، يَعْنِي فِي الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ، الْإِجَازَةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْمُكَاتَبَةِ، وَلَا الْوِجَادَةَ وَلَا الْوَصِيَّةَ وَلَا الْإِعْلَامَ الْمُجَرَّدَاتِ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَرَى بِشَيْءٍ مِنْهَا- انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ يَغْمُضُ الِاحْتِجَاجُ لِصِحَّتِهَا وَيُقَالُ‏:‏ الْغَرَضُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْإِفْهَامُ، وَالْفَهْمُ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَفِي الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ غُمُوضٌ؛ أَيْ‏:‏ مِنْ جِهَةِ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ بِالتَّفَاصِيلِ، وَيَتَّجِهُ أَنْ نَقُولَ‏:‏ إِذَا أَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ، يَعْنِي الْمُعَيَّنَةَ أَوِ الْمَعْلُومَةَ، فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا جُمْلَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ بِهَا تَفْصِيلًا، وَإِخْبَارُهُ لَهُ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّصْرِيحِ نُطْقًا، يَعْنِي فِي كُلِّ حَدِيثٍ كَالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ حُصُولُ الْإِفْهَامِ وَالْفَهْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَارْتَضَاهُ كُلُّ مَنْ بَعْدَهُ‏.‏

لَكِنْ قَدْ بَحَثَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ قِيَاسٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْعِلَّةِ، فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَأَيْضًا فَمَنْعُ الْإِلْحَاقِ مُتَّجِهٌ، وَالْفَرْقُ نَاهِضٌ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ فِي الْمُفَصَّلِ الْجَوَازُ فِي الْمُجْمَلِ؛ لِجَوَازِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَوْ عَكَسَ لَجَازَ‏.‏ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَابْنُ الصَّلَاحِ لَمْ يُجَرِّدِ الْقِيَاسَ عَنِ الْعِلَّةِ، بَلْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْإِفْهَامَ يَعْنِي الْإِعْلَامَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ‏.‏

عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَاحِثَ قَدْ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الدَّبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ مَا لَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّاوِيَ بِهَا إِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِي يَسُوقُهُ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ، وَأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ تَعَيُّنِهِ وَتَشَخُّصِهِ، فَلَا نِزَاعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ، وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْجَوَازُ- انْتَهَى‏.‏

وَالْإِفْصَاحُ فِي الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ إِجَازَةً بَعْدَ اشْتِهَارِ مَعْنَاهَا كَافٍ، وَكَذَا يُسْتَدَلُّ لَهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «بَلِّغُوا عَنِّي» الْحَدِيثَ؛ فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ كَمَا سَيَأْتِي لِلْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، فَيَكُونُ هُنَا أَوْلَى‏.‏

ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ حَمَلَهُ الْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيَتَأَيَّدُ بِتَصْرِيحِ الرَّبِيعِ بِالْجَوَازِ، بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِإِجَازَتِهَا لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ سَمَاعِ الصَّغِيرِ، وَيَأْتِي فِي النَّوْعِ السَّابِعِ أَيْضًا، وَلَمَّا قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ‏:‏ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْكُتُبَ‏؟‏ قَالَ لَهُ‏:‏ خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْتَسِخْهَا؛ فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَكَ‏.‏ وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ مَعَ الرَّبِيعِ لِيَكُونَ تَحَمُّلُهُ لِلْكِتَابِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا حَمَلَ الْخَطِيبُ قَوْلَ مَالِكٍ‏:‏ لَا أَرَاهَا، عَلَى الْكَرَاهَةِ أَيْضًا؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ‏.‏ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْحَافِظُ‏:‏ إِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمَا- أَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ- أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ بِظَاهِرِهَا، وَالصَّحِيحُ تَأْوِيلُهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَهُمَا الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا- انْتَهَى‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَالْكَرَاهَةُ إِمَّا لِخَشْيَةِ الِاسْتِرْوَاحِ بِهَا، بِحَيْثُ يُتْرَكُ السَّمَاعُ وَكَذَا الرِّحْلَةُ بِسَبَبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ شُعْبَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ‏.‏ وَقَدْ رَدَّهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ بِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِاقْتِصَارِ الطَّالِبِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَسْعَى وَلَا يَرْحَلُ، بَلْ نَقُولُ بِهَا لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ قُصُورِ نَفَقَةٍ، أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، أَوْ صُعُوبَةِ مَسْلَكٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، يَعْنِي مِمَّنْ قَالَ بِهَا، لَا زَالُوا يَتَجَشَّمُونَ الْمَصَاعِبَ، وَيَرْكَبُونَ الْأَهْوَالَ فِي الِارْتِحَالِ أَخْذًا بِمَا حَثَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُقْعِدْهُمُ اعْتِمَادُهَا عَنْ ذَلِكَ‏.‏ وَكَلَامُ السِّلَفِيِّ الْمَاضِي يُسَاعِدُهُ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ إِنَّهَا مُلَازِمَةٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ لِبَقَاءِ الرِّحْلَةِ مِنْ جِهَةِ تَحْصِيلِ الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنَ الْإِجَازَةِ فِي التَّحَمُّلِ‏.‏ نَعَمْ، قَدْ زَادَ الرُّكُونُ الْآنَ إِلَيْهَا، وَكَادَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ تَمْيِيزِ السَّامِعِ مِنَ الْمُجَازِ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنَ النِّسْبَةِ لِلتَّعْجِيزِ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِلرِّوَايَةِ قَدْ حَازَ، بَلْ قَدْ تُوُسِّعَ فِي الْإِذْنِ لِمَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ بِالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ، وَاسْتُدْرِجَ لِلْخَوْضِ فِي ذَلِكَ الْإِيهَامُ وَالتَّلْبِيسُ، وَكَثُرَ الْمُتَسَمَّوْنَ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَحْلَامِ وَالْفُهُومِ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ‏.‏

وَإِمَّا لِتَضَمُّنِهَا حَمْلَ الْعِلْمِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا عُرِفَ بِخِدْمَتِهِ وَحَمْلِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مَالِكٍ مِنْ إِجَازَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ يُحِبُّ أَحَدُهُمْ أَنْ يُدْعَى قِسًّا وَلَمَّا يَخْدُمِ الْكَنِيسَةَ‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ بَلَدِهِ وَمُحَدِّثَ مِصْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاسِيَ عَنَاءَ الطَّلَبِ وَمَشَقَّةَ الرِّحْلَةِ؛ اتِّكَالًا عَلَى الْإِجَازَةِ، كَمَنْ أَحَبَّ مِنْ رُذَّالِ النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ قِسًّا، وَمَرْتَبَتُهُ لَا يَنَالُهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْرَاجٍ طَوِيلٍ، وَتَعَبٍ شَدِيدٍ- انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ أَتُحِبُّ أَنْ تَتَزَبَّبَ قَبْلَ أَنْ تَتَحَصْرَمَ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا‏:‏ تُرِيدُ أَخْذَ هَذَا الْعِلْمِ الْكَثِيرِ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ‏.‏ وَكُلُّ هَذَا مُوَافِقٌ لِمُشْتَرِطِ التَّأَهُّلِ حِينَ الْإِجَازَةِ، كَمَا سَيَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ، وَفِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ وَشَرْطِهَا‏.‏ وَمَا حَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى الْبُطْلَانِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ النِّزَاعِ‏.‏

وَكَذَا مَا قَالَهُ الدَّبَّاسُ وَابْنُ حَزْمٍ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ رَدِّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُجِيزِ، وَلَا بِدُونِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ، بَلْ قَيَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ الصِّحَّةَ بِتَحَقُّقِ الْحَدِيثِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَّالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى‏.‏

وَكَذَا قَيَّدَ الْبَرْقَانِيُّ الصِّحَّةَ بِمَنْ كَانَتْ لَهُ نُسْخَةٌ مَنْقُولَةٌ مِنَ الْأَصْلِ أَوْ مُقَابَلَةٌ بِهِ، وَإِطْلَاقُ الْحَرْبِيِّ الْمَنْعَ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِقَوْلِ الْجَلَّابِ رَاوِي مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ‏:‏ قُلْتُ لَهُ‏:‏ سَمِعْتُ كِتَابَ الْكَلْبِيِّ وَقَدْ تَقَطَّعَ عَلَيَّ، وَالَّذِي هُوَ عِنْدَهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَهَلْ تَرَى أَنْ أَسْتَجِيزَهُ أَوْ أَسْأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَيَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، سَلْهُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَيْكَ‏.‏

وَ‏(‏كَذَا‏)‏ الْمُعْتَمَدُ ‏(‏وُجُوبُ الْعَمَلِ‏)‏ وَالِاحْتِجَاجِ بِالْمَرْوِيِّ ‏(‏بِهَا‏)‏ مِمَّنْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَالسَّمَاعِ إِلَّا لِمَانِعٍ آخَرَ ‏(‏وَقِيلَ‏)‏، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ‏:‏ ‏(‏لَا‏)‏ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ‏(‏كَحُكْمِ‏)‏ الْحَدِيثِ ‏(‏الْمُرْسَلِ‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِجَازَةِ مَا يَقْدَحُ فِي اتِّصَالِ الْمَنْقُولِ بِهَا، وَلَا فِي الثِّقَةِ بِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ، فَلَا إِخْبَارَ فِيهِ الْبَتَّةَ‏.‏ وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ مَنْ نَعْرِفُ عَيْنَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَدَالَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ هَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الْإِجَازَاتُ بِالْقِرَاءَاتِ‏؟‏ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَلَكِنْ قَدْ مَنَعَهُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ الْآتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ قَرِيبًا، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ وَالْحَدِيثِ، وَبَالَغَ حَيْثُ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَكَأَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الشَّيْخُ أَهْلًا؛ لِأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ لَا تَحْكُمُهَا إِلَّا الْمُشَافَهَةُ، وَإِلَّا فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ، إِذَا كَانَ قَدْ أَحْكَمَ الْقُرْآنَ وَصَحَّحَهُ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو الْعَلَاءِ نَفْسُهُ، حَيْثُ يَذْكُرُ سَنَدَهُ بِالتِّلَاوَةِ ثُمَّ يُرْدِفُهُ بِالْإِجَازَةِ، إِمَّا لِلْعُلُوِّ أَوِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ، بَلْ ‏(‏سَوْقُ الْعَرُوسِ‏)‏ لِأَبِي مَعْشَرٍ الطَّبَرِيِّ شَيْخِ مَكَّةَ مَشْحُونٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَقَدْ قَرَأَ بِمَضْمُونِهِ، وَرَوَاهُ الْخَلْقُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ رِوَايَةُ الْكَمَالِ الضَّرِيرِ شَيْخِ الْقُرَّاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ- الْقِرَاءَاتِ بِكِتَابِ ‏(‏الْمُسْتَنِيرِ‏)‏ لِأَبِي طَاهِرِ بْنِ سِوَارٍ، عَنِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، أَفَادَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ‏.‏

450- وَالثَّانِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ *** دُونَ الْمُجَازِ وَهْوَ أَيْضًا قَبِلَهْ

451- جُمْهُورُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلَا *** وَالْخُلْفُ أَقْوَى فِيهِ مِمَّا قَدْ خَلَا

وَالنَّوْعُ ‏(‏الثَّانِ‏)‏، بِحَذْفِ الْيَاءِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدِةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ ‏(‏أَنْ يُعَيِّنَ‏)‏ الْمُحَدِّثُ الطَّالِبَ ‏(‏الْمُجَازَ لَهْ دُونَ‏)‏ الْكِتَابِ ‏(‏الْمُجَازِ‏)‏ بِهِ، كَأَنْ يَقُولَ إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَهْوُ‏)‏ أَيْ‏:‏ هَذَا النَّوْعُ ‏(‏أَيْضًا قَبِلَهْ جُمْهُورُهُمْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ سَلَفًا وَخَلَفًا ‏(‏رِوَايَةً‏)‏ بِهِ ‏(‏وَعَمَلًا‏)‏ بِالْمَرْوِيِّ بِهِ بِشَرْطِهِ الْآتِي فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ، وَلَكِنَّ ‏(‏الْخُلْفُ‏)‏ فِي كُلِّ مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ ‏(‏أَقْوَى فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي هَذَا النَّوْعِ ‏(‏مِمَّا قَدْ خَلَا‏)‏ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ الْإِجْمَاعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا أَحَالَهُ عَلَى تَرَاجُمِ كُتُبٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أُصُولِهِ، وَلَا مِنَ الْفُرُوعِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ، وَهُوَ فِي تَصْحِيحِ مَا رَوَى النَّاسُ عَنْهُ عَلَى خَطَرٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي بَلَدٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- عَلَى هَذَا الطَّالِبِ التَّفَحُّصُ عَنْ أُصُولِ الرَّاوِي مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ الْأَثْبَاتِ، فَمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَيَكُونُ مِثَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلَ الرَّجُلِ لَآخَرَ‏:‏ وَكَّلْتُكَ فِي جَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَكَ أَنَّهُ مِلْكٌ لِي أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْوِكَالَةِ الْمُفَوِّضَةِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَحِيحٌ، ‏[‏وَمَتَى صَحَّ عِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْإِجَازَةُ الْمُطْلَقَةُ‏]‏، مَتَى صَحَّ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ‏.‏

452- وَالثَّالِثُ التَّعْمِيمُ فِي الْمُجَازِ *** لَهُ وَقَدْ مَالَ إِلَى الْجَوَازِ

453- مُطْلَقًا الْخَطِيبُ وَابْنُ مَنْدَهْ *** ثُمَّ أَبُو الْعَلَاءِ أَيْضًا بَعْدَهْ

454- وَجَازَ لِلْمَوْجُودِ عِنْدَ الطَّبَرِي *** وَالشَّيْخُ لِلْإِبْطَالِ مَالَ فَاحْذَرِ

455- وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ *** كَالْعُلَمَا يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْرِ

456- فَإِنَّهُ إِلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ *** قُلْتُ‏:‏ عِيَاضٌ، قَالَ‏:‏ لَسْتُ أَحْسَبُ

457- فِي ذَا اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَرَى *** إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا

وَالنَّوْعُ ‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏التَّعَّمْيمُ فِي الْمُجَازِ لَهُ‏)‏، سَوَاءٌ عُيِّنَ الْمُجَازُ بِهِ أَوْ أُطْلِقَ، كَأَنْ يَقُولَ إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا‏:‏ أَجَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَرْوِيَّاتِي‏.‏

‏(‏وَقَدْ‏)‏ تَكَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِمَّنْ جَوَّزَ أَصْلَ الْإِجَازَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ‏(‏فَمَالَ‏)‏ أَيْ‏:‏ ذَهَبَ ‏(‏إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا‏)‏، سَوَاءٌ الْمَوْجُودُ حِينَ الْإِجَازَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ وَفَاةِ الْمُجِيزِ، قُيِّدَ بِوَصْفٍ حَاصِرٍ كَأَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ مَنْ دَخَلَ بَلَدَ كَذَا، أَوْ مَنْ وَقَفَ عَلَى خَطِّي، أَوْ مَنْ مَلَكَ نُسْخَةً مِنْ تَصْنِيفِي هَذَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُقَيَّدْ كَأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ ‏(‏الْخَطِيبُ‏)‏ فَإِنَّهُ اخْتَارَ فِيمَا إِذَا أَجَازَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةَ مُتَمَسِّكًا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَمَنْ لَا يُحْصَى كَبَنِي تَمِيمٍ وَقُرَيْشٍ الَّذِي جَنَحَ إِلَى كَوْنِهِ أَظَهَرَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قِيَاسًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ إِذْ كُلُّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِ الْوَقْفُ إِذَا أَحْصَى وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُحْصَ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ‏.‏

وَمِمَّنْ صَحَّحَ الْوَقْفَ كَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالُوا‏:‏ وَمَنْ جَازَ الْوَقْفُ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ‏.‏ وَكَذَا جَوَّزَ هَذَا النَّوْعَ جَمَاعَةٌ ‏(‏وَ‏)‏ مَالَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏ابْنُ مَنْدَهْ‏)‏ فَإِنَّهُ أَجَازَ لِمَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ الْحَافِظُ الثِّقَةُ ‏(‏أَبُو الْعَلَاءِ‏)‏ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْهَمْدَانِيُّ الْعَطَّارُ جَوَّزَهُ ‏(‏أَيْضًا بَعْدَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَعْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، حَسْبَمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، بَلْ وَإِلَى غَيْرِهِ، الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ؛ إِذْ سَأَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الدُّبَيْثِيُّ عَنِ الرِّوَايَةِ بِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ‏:‏ لَمْ أَرَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَعْمَلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، وَلَمْ يَرَوْا بِهَا بَأْسًا، وَرَأَوْا أَنَّ التَّخْصِيصَ وَالتَّعْمِيمَ فِي هَذَا سَوَاءٌ‏.‏

وَقَالُوا‏:‏ مَتَى عُدِمَ السَّمَاعُ الَّذِي هُوَ مُضَاهٍ لِلشَّهَادَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّعْيِينِ، قَالَ‏:‏ وَمَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْحُفَّاظِ نَحْوِ أَبِي الْعَلَاءِ، يَعْنِي الْعَطَّارَ، وَغَيْرِهِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى الْجَوَازِ، وَفِيمَا كَتَبَ إِلَيْنَا الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي بَعْضِ مُكَاتَبَاتِهِ أَجَازَ لِأَهْلِ بُلْدَانٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا بَغْدَادُ، وَوَاسِطُ، وَهَمْدَانُ، وَأَصْبَهَانُ، وَزَنْجَانُ- انْتَهَى‏.‏

وَأَجَازَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الشِّنْتَجَانِيُّ، أَحَدُ الْجُلَّةِ مِنْ شُيُوخِ الْأَنْدَلُسِ، لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ قُرْطُبَةَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ صَاحِبُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ، حَكَاهُ عَنْهُمَا عِيَاضٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إِنَّ أَوَّلَهُمَا أَجَازَ ‏(‏صَحِيحَ مُسْلِمٍ‏)‏ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حَمْلَهُ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ سَمِعَهُ مِنَ السِّجْزِيِّ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ عِيَاضٌ‏:‏ وَإِلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ، ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏جَازَ‏)‏ التَّعْمِيمُ فِي الْإِجَازَةِ ‏(‏لِلْمَوْجُودِ‏)‏ حِينَ صُدُورِهَا خَاصَّةً ‏(‏عِنْدَ‏)‏ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ طَاهِرٍ ‏(‏الطَّبَرِيِّ‏)‏ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَجُوزُ أَنْ يُجِيزَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ إِجَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ أَوْ جَهَالَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ؛ كَأَجَزْتُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، أَمْ عَامٍّ؛ كَأَجَزْتُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا كَانَتِ الْإِجَازَةُ لِمَوْجُودٍ- انْتَهَى‏.‏

وَمِنِ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «بَلِّغُوا عَنِّي» الْحَدِيثَ‏.‏ وَقَدْ قَوَّى الِاسْتِدْلَالَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ، وَمَنَعَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا احْتُضِرَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَدْرَكَ وَفَاتِي مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِ اللَّهِ ‏"‏، بِأَنَّ الْعِتْقَ النَّافِذَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَبْطٍ وَتَحْدِيثٍ وَعَمَلٍ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَفِيهَا ذَلِكَ‏.‏ وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي تَعْيِينَ الْمَحَلِّ وَتَشْخِيصَهُ، ضَرُورَةَ أَنَّ الرَّاوِيَ بِالْإِجَازَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ الْوَحْدَةَ النَّوْعِيَّةَ، بَلْ مَآلُهُ الْوَحْدَةُ الشَّخْصِيَّةُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا يَنْفَذُ فِيهِ الْعِتْقُ وَيَصِحُّ فِيهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ الْحَازِمِيُّ‏:‏ إِنَّ التَّوَسُّعَ بِهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ غَيْرُ مَحْمُودٍ، فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ، أَوْ تَهَيَّأَ تَأْكِيدُهُ بِمُتَابِعٍ لَهُ سَمَاعًا أَوْ إِجَازَةً خَاصَّةً، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى‏.‏ بَلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ كَمَا وَجَدَهُ الْمُنْذِرِيُّ بِخَطِّهِ، مَنْعُ الرِّوَايَةِ بِهَا وَعَدَمُ التَّعْرِيجِ عَلَيْهَا، قَالَ‏:‏ وَالْإِتْقَانُ تَرْكُهَا‏.‏ وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ- كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ- إِلَى الْمَنْعِ أَيْضًا فِي الْمَجْهُولِ كُلِّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏الشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏لِلْإِبْطَالِ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏مَالَ‏)‏، حَيْثُ قَالَ‏:‏ وَلَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْإِجَازَةَ فَرَوَى بِهَا، وَلَا عَنِ الشِّرْذِمَةِ الْمُسْتَأْخَرَةِ الَّذِينَ سَوَّغُوهَا، وَالْإِجَازَةُ فِي أَصْلِهَا ضَعِيفَةٌ، وَتَزْدَادُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِرْسَالِ ضَعْفًا كَثِيرًا لَا يَنْبَغِي احْتِمَالُهُ، ‏[‏وَعَلَى هَذَا‏]‏ ‏(‏فَاحْذَرِ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ اسْتِعْمَالَهَا رِوَايَةً وَعَمَلًا‏.‏

وَقَدْ أَنْصَفَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي قَصْرِهِ النَّفْيَ عَلَى رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْمَلَهَا جَمَاعَاتٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، كَالْحَافِظِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ الْفَقِيهِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُحْسِنِ الْمَقْدِسِيُّ الْفَقِيهُ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ السِّلَفِيُّ كَمَا فِي مُعْجَمِ السَّفَرِ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ أَجَزْتُ لَكَ، وَلِكُلِّ مَنْ وَقَعَ بِيَدِهِ جُزْءٌ مِنْ رِوَايَاتِي فَاخْتَارَ الرِّوَايَةَ عَنِّي‏.‏

وَكَالْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَتَّانِيِّ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ الْأَكْفَانِيِّ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَزْتُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ الْآنَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ‏.‏ وَرَوَى عَنْهُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ مَحْفُوظُ بْنُ صَصَرَى التَّغْلِبِيُّ‏.‏

وَكَالْحَافِظِ السِّلَفِيِّ حَيْثُ حَدَّثَ بِهَا عَنِ ابْنِ خَيْرُونَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَإِنِ اسْتُفِيدَ مِنْ كَلَامِ الْحَازِمِيِّ الَّذِي صَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِاقْتِفَائِهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ‏.‏ بَلْ عَزَى تَجْوِيزَهَا وَالرِّوَايَةَ بِهَا أَيْضًا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَدَّثَ بِهَا أَيْضًا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَيْرٍ الْأَشْبِيلِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي بَرْنَامَجِهِ الشَّهِيرِ، وَابْنُ أَبِي الْمُعَمِّرِ فِي كِتَابِ ‏(‏عُلُومِ الْحَدِيثِ‏)‏ عَنِ السِّلَفِيِّ، وَكَذَا أَبُو الْعَلَاءِ الْعَطَّارُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشِّيرُوِيِّ فِيمَا أَفَادَهُ الرَّافِعِيُّ، بَلْ حَدَّثَ بِهَا الرَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فِي تَأْرِيخِ قَزْوِينَ عَنِ السِّلَفِيِّ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ أَجَازَ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ‏.‏

وَلَمَّا تَرْجَمَ الْوَزِيرُ بْنُ بِنْيَمَانَ بْنِ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي تَأْرِيخِهِ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ شَيْخٌ مَسْتُورٌ مُعَمِّرٌ، ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ حِينَ كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ بِقَزْوِينَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَتَنَاوَلَتْهُ إِجَازَةُ الشِّيرُوِيِّ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سَنَةَ سِتِّمَائَةٍ أَحَادِيثَ مُخَرَّجَةً مِنْ مَسْمُوعَاتِ الشِّيرَوِيِّ- انْتَهَى‏.‏

وَحَدَّثَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي تَصَانِيفِهِ عَنْ أَبِي الْوَقْتِ وَالسِّلَفِيِّ، وَاسْتَعْمَلَهَا خَلْقٌ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ، كَأَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ الْقِفْطِيِّ، حَدَّثَ فِي تَأْرِيخِ النُّحَاةِ بِهَا عَنِ السِّلَفِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الطَّيْلَسَانِ حَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَضَاءٍ الْجَيَّانِيِّ، وَالْحَافِظِ الدِّمْيَاطِيِّ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَبْدِ الْبَارِي الصَّعِيدِيِّ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الصَّفْرَاوِيِّ بِمَشْيَخَتِهِ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالتَّقِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ حَيْثُ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ عَنِ الْمُؤَيَّدِ عَامَّةً ‏[‏عَنْ عَامَّةٍ‏]‏، وَالزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ الْمُصَنِّفِ حَدَّثَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْعُشَارِيَّاتِ لَهُ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزُّهْرِيِّ الْعَوْفِيِّ عَنْ سَبْطِ السِّلَفِيِّ إِذْنًا عَامًّا، وَوَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ حَدَّثَ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ شُيُوخِهِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي عُمُومِ إِجَازَةِ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ- أَعْنِي النَّوَوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ- مِمَّنْ صَحَّحَ جَوَازَهَا فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَاءِ الْقَاضِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ جَامِعِ آدَابِ الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ صُوَرِهَا أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَصَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ‏.‏

وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى جَوَازِهَا، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ مِنْ تَصَانِيفِهِ‏.‏

وَكَذَا رَجَّحَ جَوَازَهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ، وَالْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ- أَيْ‏:‏ جَوَازُ الرِّوَايَةِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ- بِهَا أَلْحَقُ‏.‏

وَعَمِلَ بِهَا النَّوَوِيُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ- كَمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ- فِي آخِرِ بَعْضِ تَصَانِيفِهِ‏:‏ وَأَجَزْتُ رِوَايَتَهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ وَأَجَازَهَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَجَازَ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَضَاءٍ الْمَاضِي، وَأَبُو الْحُسَيْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْقُرَشِيُّ، وَالْقُطْبُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْقَسْطَلَانِيُّ، وَأَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ الْحَافِظُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ خَطَّهُ فِي آخِرِ بَعْضِ تَصَانِيفِهِ، وَالْفَخْرُ بْنُ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو الْمَعَالِي الْأَبَرْقُوهِيُّ، وَخَلْقٌ مِنَ الْمُسْنِدِينَ كَالْحَجَّارِ وَزَيْنَبَ ابْنَةِ الْكَمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لِكَثْرَةِ مَنْ جَوَّزَهَا أَفْرَدَهُمُ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْبَدْرِ الْبَغْدَادِيُّ الْكَاتِبُ فِي تَصْنِيفٍ رَتَّبَهُمْ فِيهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَكَذَا جَمَعَهُمْ أَبُو رُشَيْدِ بْنُ الْغَزَّالِ الْحَافِظُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ‏:‏ ‏(‏الْجَمْعُ الْمُبَارَكُ‏)‏‏.‏ أَفَادَهُ أَبُو الْعَلَاءِ الْفَرَضِيُّ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ حَيْدَرَ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَيْدَرٍ الْقَزْوِينِيَّ‏.‏

وَقَالَ النَّوَوِيُّ مُشِيرًا لِتَعَقُّبِ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَرَ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا، حَتَّى وَلَا مَنْ سَوَّغَهَا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ‏:‏ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ مَنْ صَحَّحَهَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَهَذَا مُقْتَضَى صِحَّتِهَا، وَأَيُّ فَائِدَةٍ لَهَا غَيْرُ الرِّوَايَةِ- انْتَهَى‏.‏

وَاسْتَجَازَ بِهَا خَلْقٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ وَاجِبٍ؛ فَإِنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ مَضَاءٍ الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ لِجَمِيعِ مَنْ أَرَادَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، فَأَسْعَفَهُمْ بِهَا، وَأَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْوَرَّاقُ؛ فَإِنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْوَلِيدِ بْنَ رُشْدٍ الْإِجَازَةَ لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ الْحَمْلَ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا مِمَّنْ ضَمَّتْهُ وَأَبَاهُ حَيَاةٌ فِي عَامِ الْإِجَازَةِ، فَأَجَابَهُ لِذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ خَيْرٍ‏.‏

وَدَعَا الْحَافِظُ الْمُزَكِّي الْمُنْذِرِيُّ النَّاسَ لِأَخْذِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَامَتِيتَ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، فَأَخَذَهُ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَسَمِعَ بِهَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ وَالْبِرْزَالِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الرُّكْنِ الطَّاوُوسِيِّ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَكَذَا لَمَّا قَدِمَ الصَّدْرُ أَبُو الْمُجَامِعِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَيَّدِ الْحَمَوِيُّ بُعَيْدَ السَّبْعِمِائَةِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ وَالْمُحَدِّثُونَ، وَسَمِعُوا مِنْهُ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الصَّيْدَلَانِيِّ أَيْضًا‏.‏

وَقَرَأَ الصَّلَاحُ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلَائِيُّ الْحَافِظُ عَلَى الْحَجَّارِ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنْ دَاوُدَ بْنِ مَعْمَرِ بْنَ الْفَاخِرِ، وَالْبُرْهَانِيُّ الْحَلَبِيُّ عَلَى بَعْضِ رُفَقَائِهِ فِي السَّفِينَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَامِعِ تَنِّيسَ الَّذِي خَرِبَ، بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْحَجَّارِ، وَالْمُحَدِّثُ الرَّحَّالُ أَبُو جَعْفَرٍ الْبِسْكَرِيُّ الْمَدَنِيُّ عَلَى التَّقِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكِنَانِيِّ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الدِّمْيَاطِيِّ، وَالصَّلَاحُ خَلِيلٌ الْأَقْفَهْسِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ عَلَى زَيْنَبَ ابْنَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْعَصِيدَةِ بِإِجَازَتِهَا الْعَامَّةِ مِنَ الْفَخْرِ وَزَيْنَبَ ابْنَةِ مَكِّيٍّ وَنَحْوِهِمَا، ‏[‏وَرَوَى بِهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنِ الْمَيْدُومِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ حَكَى اتِّفَاقَ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ؛ حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مَا أَسْنَدَ عَامَّةُ الْمُتَضَمِّنَةِ الِاسْتِجَازَةَ لِأَهْلِ الْعَصْرِ‏]‏‏.‏

وَسَمِعَ شَيْخُنَا مِنَ الزَّيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْفِيشِيِّ، عُرِفَ بِالْمُزْجَانِيِّ، بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الدِّمْيَاطِيِّ، وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّبَيْدِيِّ الدَّاعِيَةِ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْبَهَاءِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَالْحَافِظُ الْجَمَالُ بْنُ مُوسَى الْمُرَاكِشِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْخُضَرِيِّ الْإِسْكَنْدَرِيِّ بِهَا بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْفَخْرِ بْنِ الْبُخَارِيِّ، وَصَاحِبُنَا النَّجْمُ بْنُ فَهْدٍ الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِيِّ الدِّمَشْقِيِّ بِهَا بِإِجَازَتِهِ مِنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ الْكَمَالِ فِي آخَرِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ‏.‏ غَيْرَ أَنَّهُ اغْتُفِرَ فِي الطَّلَبِ مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِي الْأَدَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَقُولُونُ‏:‏ إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ؛ أَيْ‏:‏ جَمِّعْ مَا وَجَدْتَ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ؛ أَيْ‏:‏ تَثَبَّتْ عِنْدَ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ مَعَ كَوْنِهِ كَمَا قَدَّمْتُ مِمَّنْ رَوَى بِهَا‏:‏ وَفِي النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَنَا أَتَوَقَّفُ عَنِ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَقَالَ فِي نُكَتِهِ‏:‏ وَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُ الرِّوَايَةِ بِهَا، بَلْ نَقَلَ شَيْخُنَا عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِهَا عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ أَيْضًا يَعْتَدُّ بِهَا، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ خُصُوصٍ، كَأَهْلِ مِصْرَ؛ اقْتِنَاعًا بِمَا عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ وَالْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ، وَلَا يُورِدُ فِي تَصَانِيفِهِ بِهَا شَيْئًا، وَيَرَى هُوَ وَشَيْخُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِإِسْنَادٍ تَتَوَالَى فِيهِ الْأَجَايِزُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ كَذَلِكَ، أَوْلَى مِنْ سَنَدٍ فِيهِ إِجَازَةٌ عَامَّةٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ التَّاسِعِ‏.‏

وَقَالَ فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ لَهُ‏:‏ إِنَّ الْقَوْلَ بِهَا تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ الْمُعَيِّنَةَ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا اخْتِلَافًا قَوِيًّا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ اسْتَقَرَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَهِيَ دُونَ السَّمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَيْفَ إِذَا حَصَلَ فِيهَا الِاسْتِرْسَالُ الْمَذْكُورُ؛ فَإِنَّهَا تَزْدَادُ ضَعْفًا، لَكِنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ مُعْضَلًا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَالْحُجَّةُ لِلْمُبْطِلِينَ أَنَّهَا إِضَافَةٌ إِلَى مَجْهُولٍ، فَلَا تَصِحُّ كَالْوَكَالَةِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي لِلْأَخْذِ بِهَا، فَضْلًا عَنِ الرِّوَايَةِ، لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مَنْ لَقِينَاهُ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّعْمِيرَ، أَوْ يُدَّعَى لَهُ، فِيهِ تَوَقُّفٌ، حَتَّى إِنَّ شَخْصًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ لَهُ تَقَدُّمٌ فِي عُلُومٍ زَعَمَ أَنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ فَأَزْيَدَ، وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ، بَلْ وَمَنْ لَهُ شُهْرَةٌ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ حَقَّقْتُ لَهُمْ أَنَّهُ نَحْوُ الثَّمَانِينَ فَقَطْ‏.‏

وَنَحْوُهُ مَا اتَّفَقَ أَنَّ شَخْصًا كَانَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَجِّي الْخَلِيلِيُّ مِمَّنْ تُوُفِّيَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ وَثَمَانِي مِائَةٍ، ادَّعَى أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُ الطَّلَبَةِ بِإِجَازَتِهِ مِنَ الْحَجَّارِ وَنَحْوِهِ، مَعَ طَعْنِ الْحَافِظِ التَّقِيِّ الْفَاسِيِّ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ‏.‏

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، فَعِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ وَالْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّوَسُّعِ بِذَلِكَ‏.‏

نَعَمْ، قَدْ دَخَلَتْ فِي إِجَازَةِ خَلْقٍ مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، هِيَ إِلَى الْخُصُوصِ أَقْرَبُ، وَهِيَ الِاسْتِجَازَةُ لِأَبْنَاءِ صُوفِيَّةِ الْخَانْقَاهِ الْبِيبَرْسِيَّةِ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ مِنْهُمْ، فَأَوْرَدْتُهُمْ فِي مُعْجَمِي مَعَ تَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ؛ لِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمْ، وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّ مَنْ يُصَحِّحُ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ خَاصَّةً لَا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا‏.‏

وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ كَالْعُلَمَا‏)‏ بِالْقَصْرِ، الْمَوْجُودِينَ ‏(‏يَوْمَئِذٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَوْمَ الْإِجَازَةِ ‏(‏بِالثَّغْرِ‏)‏ دِمْيَاطَ أَوْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ أَوْ صَيْدَا أَوْ غَيْرِهَا ‏[‏أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏]‏، كَأَجَزْتُ لِمَنْ مَلَكَ نُسْخَةً مِنَ التَّصْنِيفِ الْفُلَانِيِّ ‏(‏فَإِنَّهُ‏)‏ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ‏(‏إِلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ‏)‏، هَذَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِتَصْحِيحٍ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ، حَيْثُ أَجَازَ رِوَايَةَ عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ تَصْنِيفِهِ عَنْهُ لِمَنْ مَلَكَ مِنْهُ نُسْخَةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ لِمَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ كَمَا تَقَدَّمَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ وَلِكُلِّ مَنْ وَقَعَ بِيَدِهِ جُزْءٌ مِنْ رِوَايَاتِي فَاخْتَارَ الرِّوَايَةَ عَنِّي، وَكَذَا أَجَازَ أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ الْقَاضِي لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِبَلَدِهِ‏.‏

‏(‏قُلْتُ‏)‏‏:‏ وَ‏(‏عِيَاضٌ‏)‏ ‏[‏سَبَقَ ابْنَ الصَّلَاحِ‏]‏ فَ‏(‏قَالَ‏:‏ لَسْتُ أَحْسَبُ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَظُنُّ ‏(‏فِي‏)‏ جَوَازِ ‏(‏ذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةِ لِمَنْ هُوَ الْآنَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِبَلَدِ كَذَا، أَوْ لِمَنْ قَرَأَ عَلَيَّ قَبْلَ هَذَا ‏(‏اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْعُلَمَاءِ ‏(‏مِمَّنْ يَرَى إِجَازَةً‏)‏ أَيْ‏:‏ يَعْتَمِدُ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ رِوَايَةً وَعَمَلًا، وَلَا رَأَيْتُ مَنْعَهُ؛ أَيْ‏:‏ بِخُصُوصِهِ لِأَحَدٍ؛ ‏(‏لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا‏)‏ مَوْصُوفًا، كَقَوْلِهِ‏:‏ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ إِخْوَةِ فُلَانٍ- انْتَهَى‏.‏

وَكَذَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا فِي أَوْلَادِ فُلَانٍ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فَقَالَ‏:‏ وَقَعَ لَنَا وَقْتَ الطَّلَبِ اسْتِدْعَاءَاتٌ فِيهَا أَسْمَاءٌ مُعَيَّنَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا‏:‏ وَلِفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَفِي بَعْضِهَا‏:‏ وَلِفُلَانٍ وَإِخْوَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي تَأْرِيخِ الِاسْتِدْعَاءِ، وَأَدْرَكْنَا جَمَاعَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَأُجْرِيَ مَجْرَى مَنْ هُوَ مُسَمًّى، وَفِي نَفْسِي أَنَّهُ دُونَهُ- انْتَهَى‏.‏

وَحِينَئِذٍ، فَكُلُّ مَا قَلَّ فِيهِ الْعُمُومُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْخُصُوصِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِوُجُودِ الْخُصُوصِ الْإِضَافِيِّ فِيهِ، يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ‏:‏ أَجَزْتُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَوِ الشِّيعَةِ أَوِ الْحَنَفِيَّةِ أَوِ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَلُّ انْتِشَارًا؛ لِانْحِصَارِ الْمَجَازِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ مَعَ الْعُمُومِ فِيهِ‏.‏

458- وَالرَّابِعُ الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيزَ لَهْ *** أَوْ مَا أُجِيزَ، كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ

459- بَعْضَ سَمَاعَاتِي كَذَا إِنْ سَمَّى *** كِتَابًا أَوْ شَخْصًا وَقَدْ تَسَمَّى

460- بِهِ سِوَاهُ، ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ *** مُرَادُهُ مِنْ ذَاكَ فَهْوَ لَا يَصِحْ

461- أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ *** فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالْأَعْيَانِ

462- وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَّلَهُمْ *** مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏الرَّابَعُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيزَ لَهْ‏)‏ مِنَ النَّاسِ ‏(‏أَوْ‏)‏ بِ‏(‏مَا أُجِيزَ‏)‏ بِهِ مِنَ الْمَرْوِيِّ، فَالْأَوَّلُ ‏(‏كَأَجَزْتُ‏)‏ بَعْضَ النَّاسِ، أَوْ ‏(‏أَزْفَلَهْ‏)‏ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْفَاءِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَاءِ التَّأْنِيثِ، الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ كَأَجَزْتُ فُلَانًا ‏(‏بَعْضَ سَمَاعَاتِي‏)‏، وَ‏(‏كَذَا‏)‏ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا هُوَ جَهْلٌ بِالتَّعْيِينِ ‏(‏إِنْ سَمَّى‏)‏ الْمُجِيزُ ‏(‏كِتَابًا أَوْ‏)‏ بِالنَّقْلِ ‏(‏شَخْصًا وَقَدْ تَسَمَّى بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِذَاكَ الْكِتَابِ أَوِ الشَّخْصِ‏.‏

‏(‏سِوَاهُ‏)‏، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَفِي مَرْوِيَّاتِهِ عِدَّةُ كُتُبٍ يُعْرَفُ كُلٌّ مِنْهَا بِالسُّنَنِ؛ كَأَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ، أَوْ يَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ، وَقَدْ تَكُونُ الْجَهَالَةُ فِيهِمَا مَعًا، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ جَمَاعَةً بَعْضَ مَسْمُوعَاتِي، أَوْ أَجَزْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ كِتَابَ السُّنَنِ‏.‏

‏(‏ثُمَّ لَمَّا‏)‏ أَيْ‏:‏ لَمْ ‏(‏يَتَّضِحْ مُرَادُهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُجِيزُ ‏(‏مِنْ ذَاكَ‏)‏ كُلِّهِ بِقَرِينَةٍ ‏(‏فَهْوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ هَذَا النَّوْعُ ‏(‏لَا يَصِحْ‏)‏ لِلْجَهْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا عِنْدَ السَّامِعِ، وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ فِيهِ، وَكَوْنِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ‏.‏

وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عِيَاضٌ، فَقَالَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ أَجَزْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ لِقَوْمٍ، أَوْ لِنَفَرٍ لَا غَيْرُ، لَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ، وَلَا تُفِيدُ هَذِهِ الْإِجَازَةُ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةٍ هَذَا الْمُبْهَمِ وَلَا تَعْيِينِهِ‏.‏

وَصَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ فَهَذِهِ إِجَازَةٌ فَاسِدَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا‏.‏ وَكَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِيهَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَقِبَ آدَابِ الْقَضَاءِ قُبَيْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَالِبِ فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ‏.‏ نَعَمْ، إِنِ اتَّضَحَ مُرَادُهُ فِيهَا بِقَرِينَةٍ كَأَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ أَجَزْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ‏؟‏ بِحَيْثُ لَا يَلْتَبِسُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنِ اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَنِسْبَتِهِ، فَيَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، أَوْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ أَجَزْتَ لِي كِتَابَ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَةَ السُّنَنِ، أَوْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ أَجَزْتُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُقِيمِينَ بِمَسْجِدِ كَذَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ الْجَمَاعَةَ، فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ، وَيُنَزَّلُ عَلَى الْمَسْئُولِ فِيهِ بِقَرِينَةِ سَبْقِ ذِكْرِهِ‏.‏

‏(‏أَمَّا‏)‏ الْجَمَاعَةُ ‏(‏الْمُسَمَّوْنَ‏)‏ الْمُعَيَّنُونَ فِي اسْتِدْعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏مَعَ الْبَيَانِ‏)‏ لِأَنْسَابِهِمْ وَشُهَرِهِمْ، بِحَيْثُ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ عَنْهُمْ، وَيَتَمَيَّزُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى الْعَادَةِ الشَّائِعَةِ فِي ذَلِكَ ‏(‏فَلَا يَضُرُّ‏)‏ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ‏(‏الْجَهْلُ‏)‏ مِنَ الْمُجِيزِ ‏(‏بِالْأَعْيَانِ‏)‏، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، وَالْإِجَازَةُ صَحِيحَةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُسْمِعِ عَيْنَ السَّامِعِ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ، وَإِنْ أَشْعَرَ مَا حَكَيْتُهُ فِي سَابِعِ التَّفْرِيعَاتِ الَّتِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ بِخِلَافِهِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا الْوَاحِدُ الْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ مِمَّنْ يَجْهَلُ الْمُجِيزُ عَيْنَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى‏.‏ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ عَيْنَ مَنْ سَمَّى لَهُ عِيَاضٌ‏.‏

‏(‏وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَّلَهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ جَمَّعَهُمْ بِالْإِجَازَةِ ‏(‏مِنْ غَيْرِ‏)‏ حَصْرٍ فِي ‏(‏عَدٍّ، وَ‏)‏ مِنْ غَيْرِ ‏(‏تَصَفُّحٍ لَهُمْ‏)‏ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ قِيَاسًا عَلَى السَّمَاعِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْقِيَاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ قِسْمِ السَّمَاعِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَازَةُ كَذَلِكَ؛ لِإِمْكَانِ ادِّعَاءِ الْقَدْحِ فِي الْإِجَازَةِ دُونَ السَّمَاعِ، فَالْقِيَاسُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ فِي السَّمَاعِ الَّذِي الْأَمْرُ فِيهِ أَضْيَقُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَاضِرِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِهِ، فَصِحَّتُهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْإِجَازَةِ الَّتِي الْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ؛ لِكَوْنِهَا لِلْحَاضِرِ وَلِلْغَائِبِ، مِنْ بَابِ أَوْلَى‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ نُوزِعَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَهِيَ مَنْ لَمْ يُسَمَّ أَصْلًا، وَبَيْنَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا بَعْدَهَا مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْإِبْهَامِ‏.‏

وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ الْجَهَالَةِ وَالْإِبْهَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي ذَاكَ شَدِيدٌ؛ لِخَفَائِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِهِ هُنَا فَهُوَ عِنْدَ سَامِعِهِ فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ فِي قَوِيِّ وَصْفِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي ضَعِيفِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، ‏[‏وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ بِالْمُجِيزِ مَعْرِفَتَهُ فِي الْأُولَى؛ لِتَعَذُّرِ الْبَحْثِ عَنْ تَعْيِينِهِ‏]‏، وَكَذَا بَحْثُ بَعْضِهِمْ فِي صِحَّتِهِ فِي الْأُولَى حَمْلًا لَهُ عَلَى الْعُمُومِ، يَعْنِي حَيْثُ صَحَّحْنَا الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ؛ إِذِ اللَّفْظُ صَالِحٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ لَمْ نَسْتَفِدْ تَعْيِينَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوَاهُ فِيمَا إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ‏:‏ أَذِنْتُ لِلْعَاقِدِ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يُزَوِّجَنِي، وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ‏[‏بِجَهَالَةِ الْجَمَاعَةِ لِتَنْكِيرِهَا بِخِلَافِ الْعَاقِدِ‏]‏‏.‏

463- وَالْخَامِسُ التَّعْلِيقُ فِي الْإِجَازَهْ *** بِمَنْ يَشَاؤُهَا الَّذِي أَجَازَهْ

464- أَوْ غَيْرُهُ مُعَيَّنًا وَالْأُولَى *** أَكْثَرُ جَهْلًا وَأَجَازَ الْكُلَّا

465- مَعًا أَبُو يَعْلَى الْإِمَامُ الْحَنْبَلِي *** مَعَ ابْنِ عَمْرُوسٍ وَقَالَ‏:‏ يَنْجَلِي

466- الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا وَالظَّاهِرُ *** بُطْلَانُهَا أَفْتَى بِذَاكَ طَاهِرُ

467- قُلْتُ‏:‏ وَجَدْتُ ابْنَ أَبِي خَيْثَمَةِ *** أَجَازَ كَالثَّانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ

468- وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا *** وَنَحْوَهُ الْأَزْدِي مُجِيزًا كُتُبَا

469- أَمَّا أَجَزْتُ لِفُلَانٍ إِنْ يُرِدْ *** فَالْأَظْهَرُ الْأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏الْخَامِسُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏التَّعْلِيقُ فِي الْإِجَازَهْ‏)‏، وَلَمْ يُفْرِدْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ قَالَ فِيهِ‏:‏ وَيَتَثَبَّتُ بِذَيْلِهِ الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ، وَذَكَرَهُ، وَإِفْرَادُهُ حَسَنٌ، خُصُوصًا وَالصُّورَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي لَا جَهَالَةَ فِيهَا‏.‏

ثُمَّ التَّعْلِيقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ‏(‏بِمَنْ يَشَاؤُهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةَ ‏(‏الَّذِي أَجَازَهْ‏)‏ الشَّيْخُ، يَعْنِي أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ مُبْهَمٍ لِنَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ مَنْ شَاءَ أَنْ أُجِيزَ لَهُ فَقَدْ أَجَزْتُ لَهُ، أَوْ أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ‏.‏

وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الطَّيِّبِ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى ابْنِ حَيَّوَيْهِ‏:‏ سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَقَدْ سَأَلَنِي ابْنُكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَنْ أُجِيزَ لَكَ هَذَا التَّأْرِيخَ الَّذِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَقَدْ أَجَزْتُهُ لَكَ وَلِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَارْوِهِ عَنِّي وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ ‏(‏أَوْ‏)‏ يَشَاؤُهَا ‏(‏غَيْرُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ غَيْرُ الْمُجَازِ، حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏مُعَيَّنًا‏)‏، فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ مُسَمًّى لِغَيْرِهِ، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ مَنْ شَاءَ فُلَانٌ أَنْ أُجِيزَهُ فَقَدْ أَجَزْتُهُ، أَوْ أَجَزْتُ لِمَنْ يَشَاءُ فُلَانٌ، أَوْ يَقُولُ لِشَخْصٍ‏:‏ أَجَزْتُ لِمَنْ شِئْتَ رِوَايَةَ حَدِيثِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ أَلْحَقَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَا الصُّورَةَ الْأُولَى، لَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالْأُولَى‏)‏ أَيِ‏:‏ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ الْمُجَازِ لَهُ الْمُبْهَمِ ‏(‏أَكْثَرُ جَهْلًا‏)‏ وَانْتِشَارًا مِنَ الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يُحْصَرُ عَدَدُهُمْ، وَالثَّانِيَةُ بِمَشِيئَةِ مُعَيَّنٍ، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جَهَالَةِ الْمُجَازِ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْغَيْرُ مُبْهَمًا، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي، فَأَكْثَرُ جَهْلًا؛ لِوُجُودِ الْجَهَالَةِ فِيهَا فِي الْجِهَتَيْنِ، وَلِذَا كَانَتْ فِيهَا بِخُصُوصِهَا بَاطِلَةً قَطْعًا‏.‏

‏(‏وَأَجَازَ الْكُلَّا‏)‏ أَيِ‏:‏ الصُّورَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ‏(‏مَعًا‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏أَبُو يَعْلَى‏)‏ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ الْفَرَّاءِ ‏(‏الْإِمَامُ الْحَنْبَلِي‏)‏ وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدٍ مُؤَلِّفِ طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ ‏(‏مَعَ ابْنِ عَمْرُوسٍ‏)‏ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ، فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الشَّافِعِيُّ فِي جُزْءِ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ ‏(‏وَقَالَا‏)‏ مُسْتَدِلِّينَ لِلْجَوَازِ‏:‏ ‏(‏يَنْجَلِي الْجَهْلُ‏)‏ فِيهَا فِي ثَانِي الْحَالِ ‏(‏إِذْ يَشَاؤُهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةَ، الْمُجَازُ لَهُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَلَمْ أَرَ الِاسْتِدْلَالَ وَلَا الصُّورَةَ الْأُولَى فِي الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ، وَلَا عَزَاهَا ابْنُ الصَّلَاحِ لَهُمَا، بَلْ كَلَامُهُ مُحْتَمِلٌ لِكَوْنِ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى الصِّحَّةِ فِيهَا؛ حَيْثُ قَالَ‏:‏ فَهَذَا فِيهِ جَهَالَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ‏.‏

‏(‏وَالظَّاهِرُ بُطْلَانُهَا‏)‏ وَعَدَمُ صِحَّتِهَا، وَقَدْ ‏(‏أَفْتَى بِذَاكَ‏)‏ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ‏(‏طَاهِرُ‏)‏ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ؛ إِذْ سَأَلَهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ عَنْهَا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ، قَالَ‏:‏ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، يَعْنِي الْمُجِيزَيْنِ وَالْمُبْطِلَ، كَانُوا مَشَايِخَ مَذَاهِبِهِمْ بِبَغَدَادَ إِذْ ذَاكَ، وَكَذَا مَنَعَهَا الْمَاوَرْدِيُّ كَمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ‏:‏ لِأَنَّهُ تَحَمُّلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمُتَحَمِّلِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَلَعَلَّ مَنْ مَنَعَ صِحَّتَهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَكَالَةِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ‏:‏ وَكَّلْتُكَ إِذْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، لَمْ يَصِحْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ الْإِجَازَةَ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ، يَعْنِي‏:‏ الْمُعَيَّنِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَقَدْ يُعَلَّلُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ فَإِنَّ مَا يَفْسَدُ ‏[‏بِالْجَهَالَةِ يَفْسَدُ‏]‏ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَ قَوْمٍ‏.‏

‏(‏قُلْتُ‏)‏‏:‏ وَلَكِنْ قَدْ ‏(‏وَجَدْتُ‏)‏ الْحَافِظَ ‏(‏ابْنَ أَبِي خَيْثَمَةَ‏)‏ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ‏(‏أَجَازَ‏)‏ بِكَيْفِيَّتِهِ ‏(‏كَالثَّانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ‏)‏ فِي الْمُجَازِ فَقَطْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِأَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ مَسْلَمَةَ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي مَا أُحِبُّ مِنْ تَأْرِيخِي الَّذِي سَمِعَهُ مِنِّي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الْأَصْبَغِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، كَمَا سَمِعَاهُ مِنِّي، وَأَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلِمَنْ أَحَبَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَكُونَ الْإِجَازَةُ لِأَحَدٍ بَعْدَ هَذَا فَأَنَا أَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ بِكِتَابِيِّ هَذَا‏.‏

وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَافِظِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ‏:‏ أَجَزْتُ لِعُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ، وَوَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَتَنِهِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ جَمِيعَ مَا فَاتَهُ مِنْ حَدِيثِي مِمَّا لَمْ يُدْرِكْ سَمَاعَهُ مِنَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ، وَلِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ عُمَرُ فَلْيَرْوُوهُ عَنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ‏:‏ وَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَازَةِ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، إِلَّا أَنَّ اسْمَهُ ذَهَبَ مِنْ حِفْظِي، انْتَهَى‏.‏

وَلَعَلَّ مَا رَآهُ هُوَ مَا حَكَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ‏.‏

عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا الصَّنِيعِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، بِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ ذَاكَ، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِالتَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ الْمُعَيَّنِ الْإِذْنُ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي مَنْ شِئْتَ‏؟‏ لَمْ أَرَ فِيهَا نَقْلًا، إِلَّا مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَنْصُورٍ الْغَسَّانِيِّ مِنْ لِسَانِ الْمِيزَانِ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ وَكَالَاتٌ بِالْإِجَازَةِ مِنْ شُيُوخٍ وَكَّلُوهُ فِي الْإِذْنِ لِمَنْ يُرِيدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ مَسْدِيٍّ‏:‏ وَكُنْتُ مِمَّنْ كُتِبَ إِلَيَّ بِالْإِجَازَةِ عَنْهُ وَعَنْ مُوَكِّلِهِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ ‏(‏603هـ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ فَعَلَهُ شَيْخُنَا، بَلْ وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، قَالَ‏:‏ وَالظَّاهِرُ فِيهِ الصِّحَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ‏:‏ وَكِّلْ عَنِّي‏.‏ وَيَكُونُ مُجَازًا مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ، وَيَنْعَزِلُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ بِمَوْتِ الْآذِنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَالْوَكِيلِ، فَلَوْ قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي فُلَانًا، كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي قِسْمِ الْكِتَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّعْلِيقِ لِنَفْسِ الْإِجَازَةِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ مَنْ شَاءَ‏)‏ الرِّوَايَةَ عَنِّي ‏(‏يَرْوِي‏)‏ ‏[‏فَقَدْ أَجَزْتُهُ‏]‏، وَكَانَ التَّعْلِيقُ لِلرِّوَايَةِ ‏(‏قَرُبَا‏)‏ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ‏.‏ وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، يَعْنِي مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ عِنْدَ مُجِيزِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إِجَازَةٍ تَفْوِيضُ الرِّوَايَةِ بِهَا إِلَى مَشِيئَةِ الْمُجَازِ لَهُ، فَكَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ تَصْرِيحًا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ، وَحِكَايَةً لِلْحَالِ لَا تَعْلِيقًا فِي الْحَقِيقَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَفْظِيًّا فَهُوَ لَازِمٌ حُصُولُهُ بِحُصُولِهَا، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهِ سَوَاءً فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ‏.‏

وَاسْتَظْهَرَ لِلْأَوْلَوِيَّةِ بِتَجْوِيزِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَيْعِ؛ أَيْ‏:‏ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا، أَنْ يَقُولَ‏:‏ بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا إِنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ‏:‏ قَبِلْتُ‏.‏

وَنُوزِعَ فِي الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْمُبْتَاعَ مُعَيَّنٌ، وَالْمُجَازَ لَهُ هُنَا مُبْهَمٌ، وَكَذَا تَعَقَّبَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ التَّعْلِيقُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِلْإِيجَابِ عَلَى مَا عَلَيْهِ تَفَرُّعٌ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيحِ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَبِلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِتَوَقُّفِ تَمَامِ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِهِ، بِخِلَافِهِ فِي الْإِجَازَةِ، فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ الرِّوَايَةَ، تَعْلِيقًا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ مَشِيئَةِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ مُجَازًا، وَبَعْدَ مَشِيئَتِهَا يَكُونُ مُجَازًا‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعْلِيقٍ وَجَهْلٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏ نَعَمْ، نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ‏:‏ وَكَّلْتُ مَنْ شَاءَ، أَوْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ شَاءَ وَأَمْثَالُهُمَا مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهَا، قَالَ‏:‏ وَإِذَا بَطَلَ فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِهَا مَا لَا تَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا فَلَأَنْ يَبْطَلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏وَنَحْوَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيقِ الرِّوَايَةِ، أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ‏(‏الْأَزْدِي‏)‏ الْمَوْصِلِيُّ الْحَافِظُ، حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏مُجِيزًا كُتُبًا‏)‏ بِخَطِّهِ فَقَالَ‏:‏ أَجَزْتُ رِوَايَةَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِّي ‏(‏أَمَّا‏)‏ لَوْ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَجَزْتُ‏)‏ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، أَوْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ فِهْرِسَتِي إِنْ شِئْتَ الرِّوَايَةَ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ ‏(‏لِفُلَانٍ‏)‏ الْفُلَانِيِّ ‏(‏إِنْ يُرِدْ‏)‏، أَوْ يُحِبَّ الرِّوَايَةَ عَنِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ أَوْ يُشَابِهُهَا ‏(‏فَالْأَظْهَرُ الْأَقْوَى‏)‏ فِيهَا ‏(‏الْجَوَازُ‏)‏ إِذْ قَدِ انْتَفَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَحَقِيقَةُ التَّعْلِيقِ، وَلَمْ يَبْقَ سِوَى صِيغَتِهِ ‏(‏فَاعْتَمِدْ‏)‏ ذَلِكَ‏.‏

وَإِنْ حَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ الْمَنْعَ فِيهَا عَنْ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهَا تَحَمُّلٌ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُتَحَمِّلِ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا هُوَ الْأَجْدَرُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَالْأَوْلَى بِنَجَابَةِ الْمُحَدِّثِ وَحِفْظِهِ- انْتَهَى‏.‏

وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ رَاجَعْتُكِ إِنْ شِئْتِ، لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لِفُلَانٍ إِنْ يُرِدِ الْإِجَازَةَ، فَالظَّاهِرُ- كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ-‏:‏ إِنَّهُ لَا فَرْقَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِتَعْلِيقِ الْإِجَازَةِ فِي الْمُعَيَّنِ، فَتَعْلِيلُهُ وَبَعْضُ أَمْثِلَتِهِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ فِيهِ بِعُمُومِهِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ ابْنِ الصَّلَاحِ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ عَنِ الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قَالَ الْمُجِيزُ‏:‏ أَذِنْتُ لِمَنْ أَجَزْتُ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنِّي إِنْ شَاءَ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَتِهِ فِي الْإِجَازَةِ، وَيَتَأَيَّدُ بِتَسْوِيَةِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ إِرَادَةِ الْإِجَازَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ فِي الْمُعَيَّنِ‏.‏

470-وَالسَّادِسُ الْإِذْنُ لِمَعْدُومٍ تَبَعْ *** كَقَوْلِهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِفُلَانٍ مَعْ

471-أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ *** حَيْثُ أَتَوْا أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُومَ بِهْ

472-وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الْأَوَّلَا *** ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَهْوَ مَثَّلَا

473-بِالْوَقْفِ، لَكِنَّ أَبَا الطَّيِّبِ رَدْ *** كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدْ

474-كَذَا أَبُو نَصْرٍ وَجَازَ مُطْلَقَا *** عِنْدَ الْخَطِيبِ، وَبِهِ قَدْ سَبَقَا

475-مِنِ ابْنِ عَمْرُوسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ *** وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلَى اسْتِوَاءِ

476-فِي الْوَقْفِ أَيْ فِي صِحَّةِ مَنْ تَبِعَا أَبَا حَنِيفَةٍ وَمَالِكًا مَعَا

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏السَّادِسُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏الْإِذْنُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةُ ‏(‏لِمَعْدُومٍ‏)‏، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، إِمَّا لِمَعْدُومٍ ‏(‏تَبَعْ‏)‏ لِمَوْجُودٍ عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ أُدْرِجَ فِيهِ ‏(‏كَقَوْلِهِ‏:‏ أَجَزْتُ‏)‏ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَرْوِيَّاتِي ‏(‏لِفُلَانٍ‏)‏ الْفُلَانِيِّ ‏(‏مَعْ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ حَيْثُ أَتَوْا‏)‏ فِي حَيَاةِ الْمُجِيزِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَا‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ، وَلِمَنْ يُولَدُ لَكَ، وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ بِبَلَدِ كَذَا مَتَى كَانُوا، ‏[‏‏(‏أَوْ‏)‏ غَيْرَ تَبَعٍ بِأَنْ‏]‏ ‏(‏خَصَّصَ‏)‏ الْمُجِيزُ ‏(‏الْمَعْدُومَ بِهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْإِذْنِ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَوْجُودٍ سَابِقٍ، كَقَوْلِهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي ‏(‏وَهْوَ أَوْهَى‏)‏ وَأَضْعَفُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَاكَ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوَازِ ‏(‏وَ‏)‏ لِذَا ‏(‏أَجَازَ الْأَوَّلَا‏)‏ خَاصَّةً ‏(‏ابْنُ‏)‏ الْحَافِظِ الشَّهِيرُ ‏(‏أَبِي دَاوُدَ‏)‏ السِّجِسْتَانِيِّ، وَهْوَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، بَلْ فَعَلَهُ فَقَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ وَلِأَوْلَادِكَ وَلِحَبَلِ الْحَبَلَةِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ، قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمُحَدِّثِينَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، وَلَا بَلَغَنِي عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ سِوَاهُ فِيهِ رِوَايَةٌ‏.‏

قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَتَأْكِيدِ الْإِجَازَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لَكِنْ قَدْ عَزَى شَيْخُنَا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ اسْتِعْمَالَهَا، وَابْنُ الصَّبَّاغِ جَوَازَهَا لِقَوْمٍ ‏(‏وَهْوَ مَثَّلَا‏)‏ أَيْ‏:‏ شَبَّهَ ‏(‏بِالْوَقْفِ‏)‏ عَلَى الْمَعْدُومِ حَيْثُ صَحَّ فِيمَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ الْمُكْتَتَبَةِ فِي الْأُمِّ أَوْصَى فِيهَا أَوْصِيَاءَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْمَوْجُودِينَ، وَمَنْ يُحْدِثُهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَا شَكَ أَنْ يُغْتَفَرَ فِي التَّبَعِ وَالضِّمْنِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأَصْلِ، أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْدُومِ ابْتِدَاءً، كَعَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِفُلَانٍ، فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ، وَ‏(‏لَكِنَّ‏)‏ الْقَاضِيَ ‏(‏أَبَا الطَّيِّبِ‏)‏ طَاهِرًا الطَّبَرِيَّ ‏(‏رَدَّ كِلَيْهِمَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقِسْمَيْنِ مُطْلَقًا فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ، وَكَذَا مَنَعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ ‏(‏وَهْوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدْ‏)‏ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ جُمْلَةً بِالْمُجَازِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَكَمَا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لَهُ، بَلْ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا كَالْوَكَالَةِ لِلْمَعْدُومِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي حَالَةٍ يَتَعَذَّرُ فِيهَا الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ‏.‏

وَأَيْضًا فَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ الرِّوَايَةُ فِي بَعْضِ صُوَرِ هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي السَّنَدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا لُقْيٍ وَلَا إِدْرَاكِ عَصْرٍ، وَمِثْلُ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَسَاقِطٌ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَلَمْ نَرَ مَنْ صَرَّحَ بِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ الرَّدُّ، وَ‏(‏كَذَا‏)‏ رَدَّهَا ‏(‏أَبُو نَصْرٍ‏)‏ هُوَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، وَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَثَةٌ، يَعْنِي‏:‏ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُجُودُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا رَدُّهُ وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا إِذْنٌ ‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ ‏(‏جَازَ‏)‏ الْإِذْنُ لِلْمَعْدُومِ ‏(‏مُطْلَقًا عِنْدَ‏)‏ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ ‏(‏الْخَطِيبِ‏)‏، قِياسًا عَلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَإِذَا صَحَّتِ الْإِجَازَةُ مَعَ عَدَمِ اللِّقَاءِ، وَبُعْدِ الدِّيَارِ، وَتَفَرُّقِ الْأَقْطَارِ فَكَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ اللِّقَاءِ، وَبُعْدِ الزَّمَانِ، وَتَفَرُّقِ الْأَعْصَارِ‏.‏

وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ‏:‏ وَإِذَا جَازَ فِيهِ فَهُنَا أَوْلَى وَأَحْرَى‏.‏ وَفِي الْقِيَاسِ تَوَقُّفٌ، ثُمَّ إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي اسْتِلْزَامِهِ رِوَايَةَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ يُدْرِكُهُ وَلَا عَاصَرَهُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَازَ فُلَانٌ لِي، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجِيزِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، قِيلَ‏:‏ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ وَقَفَ فُلَانٌ عَلَيَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْوَاقِفِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، وَلِأَنَّ بُعْدَ أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ مِنَ الْآخَرِ كَبُعْدِ أَحَدِ الْوَطَنَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، فَلَوْ أَجَازَ مَنْ مَسْكَنُهُ بِالشَّرْقِ لِمَنْ يَسْكُنُ بِالْغَرْبِ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْمُجَازُ لَهُ‏:‏ أَجَازَ لِي فُلَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَقِيَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَجَازَ لِمَنْ يُولَدُ بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَازَ لِي فُلَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَاصَرَا‏.‏ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ يَلْزَمُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا عَكْسَ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بُلُوغُ الْخَبَرِ بِالْإِذْنِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِمَا ‏(‏وَبِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا ‏(‏قَدْ سَبَقَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْخَطِيبُ ‏(‏مِنْ‏)‏ جَمَاعَةٍ كَ‏(‏ابْنِ عَمْرُوسٍ‏)‏ الْمَالِكِيِّ ‏(‏مَعَ‏)‏ أَبِي يَعْلَى بْنِ ‏(‏الْفَرَّاءِ‏)‏ الْحَنْبَلِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيِّ وَأَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ الْخَطِيبُ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا أَجَازَهُ غَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بَلْ قَالَ عِيَاضٌ‏:‏ إِنَّهُ أَجَازَهُ مُعْظَمُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ‏:‏ وَبِهَذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ بَعْدُ شَرْقًا وَغَرْبًا- انْتَهَى‏.‏

وَجَزَمَ شَيْخُنَا بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْمَشَارِقَةِ، وَبِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَبِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا ‏(‏وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْوَقْفِ أَيْ فِي صِحَّةٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ رَأَى صِحَّةَ الْوَقْفِ فِي الْقِسْمَيْنِ مُعْظَمُ ‏(‏مَنْ تَبِعَا أَبَا حَنِيفَةٍ‏)‏ بِالصَّرْفِ ‏[‏وَبِعَدَمِهِ، لَكِنْ مَعَ الْخَبَلِ‏]‏

‏(‏وَمَالِكًا‏)‏ رَحِمَهُمَا اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏مَعَا‏)‏، فَيَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِهِ فِي الْإِجَازَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَمْرَهَا أَوْسَعُ مِنَ الْوَقْفِ الَّذِي هُوَ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ إِلَى الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى الثَّالِثِ عَنِ الثَّانِي، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَهِيَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ حَسَبَ مَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَنَحْوُهُ مَا قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْوَقْفَ يَئُولُ غَالِبًا إِلَى الْمَعْدُومِ حِينَ الْإِيقَافِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَلَفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الْإِجَازَةِ، وَتَبِعَهُ مِنْ مُقَلِّدِيهِ الدَّبَّاسُ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَشْهَرُهُمَا عَنْ مَالِكٍ، ‏[‏وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ إِلْحَاقُ مَا بَعْدَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِهِ فِي التَّلَقِّي مِنَ الْوَاقِفِ‏.‏ وَفِي الْفَرْقِ الثَّانِي نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي، وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جُزْءًا‏:‏

477-وَالسَّابِعُ الْإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ *** لِلْأَخْذِ عَنْهُ كَافِرٍ أَوْ طِفْلِ

478-غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَذَا الْأَخِيرُ *** رَأَى أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُمْهُورُ

479-وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلًا بَلَى *** بِحَضْرَةِ الْمِزِّيِّ تَتْرَا فُعِلَا

480-وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضًا نَقْلَا *** وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُومِ أَوْلَى فِعْلَا

481-وَلِلْخَطِيبِ لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ *** قُلْتُ‏:‏ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ

482-مَعْ أَبَوَيْهِ فَأَجَازَ وَلَعَلَّ *** مَا أَصْفَحَ الْأَسْمَاءَ فِيهَا إِذْ فَعَلْ

483-وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلَى مَا ذَكَرُوا *** هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ وَهَذَا أَظْهَرُ

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏السَّابِعُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏الْإِذْنُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةُ ‏(‏لِغَيْرِ أَهْلِ‏)‏ حِينَ الْإِجَازَةِ ‏(‏لِلْأَخْذِ عَنْهُ‏)‏ وَلِلْأَدَاءِ ‏(‏كَافِرٍ‏)‏ أَوْ فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ أَوْ مَجْنُونٍ ‏(‏أَوْ طِفْلِ غَيْرِ مُمَيِّزٍ‏)‏ تَمْيِيزًا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَ مَعَهُ سَامِعًا ‏(‏وَذَا الْأَخِيرُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةُ لِلطِّفْلِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِالتَّصْرِيحِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُفْرِدْهُ بِنَوْعٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ذَيْلَ مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ ‏(‏رَأَى‏)‏ أَيْ‏:‏ رَآهُ صَحِيحًا مُطْلَقًا، الْقَاضِي ‏(‏أَبُو الطَّيِّبِ‏)‏ الطَّبَرِيُّ، حَيْثُ سَأَلَهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ عَنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاعِ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ أَوْسَعُ؛ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِلْغَائِبِ بِخِلَافِ السَّمَاعِ ‏(‏وَ‏)‏ كَذَا رَآهُ ‏(‏الْجُمْهُورُ‏)‏، وَحَكَاهُ السِّلَفِيُّ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْحُفَّاظِ، وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ الْخَطِيبُ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَعَلَى هَذَا رَأَيْنَا كَافَّةَ شُيُوخِنَا يُجِيزُونَ لِلْأَطْفَالِ الْغُيَّبِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أَسْنَانِهِمْ، وَحَالِ تَمْيِيزِهِمْ‏.‏

وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا هِيَ إِبَاحَةُ الْمُجِيزِ الرِّوَايَةَ لِلْمُجَازِ لَهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِغَيْرِ الْمُمَيِّزِ، بَلْ وَلِلْمَجْنُونِ، يَعْنِي لِعَدَمِ افْتِرَاقِهِمَا فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الطِّفْلَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ لِيُؤَدَّيَ بِهِ بَعْدَ حُصُولِ أَهْلِيَّتِهِ؛ حِرْصًا عَلَى تَوَسُّعِ السَّبِيلِ إِلَى بَقَاءِ الْإِسْنَادِ الَّذِي اخْتُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَتَقْرِيبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي، وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ‏:‏ الْبُطْلَانُ، وَكَذَا أَبْطَلَهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ سَبْعَ سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ‏"‏ مَتَى يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ زَبْرٍ‏:‏ وَهُوَ مَذْهَبِي‏.‏ وَكَأَنَّ الضَّبْطَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَظَنَّةُ التَّمْيِيزِ غَالِبًا‏.‏ وَهَذَا الْقَوْلُ لَازَمَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُجَازِ عَالِمًا كَمَا سَيَأْتِي فِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ قَرِيبًا مَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَّا بَاقِي الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فَالْمَجْنُونُ، قَدْ عُلِمَ الْحُكْمُ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الْخَطِيبِ‏.‏

قَالَ النَّاظِمُ‏:‏ ‏(‏وَلَمْ أَجِدْ فِي‏)‏ الْإِجَازَةِ لِ‏(‏كَافِرٍ نَقْلًا‏)‏ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِصِحَّةِ سَمَاعِهِ ‏(‏بَلَى‏)‏ أَيْ‏:‏ نَعَمْ ‏(‏بِحَضْرَةِ‏)‏ الْحَافِظِ الْحُجَّةِ أَبِي الْحَجَّاجِ ‏(‏الْمِزِّيِّ‏)‏ بِكَسْرِ الْمِيمِ نِسْبَةً لِلْمِزَّةِ قَرْيَةٍ مِنْ دِمَشْقَ ‏(‏تَتْرَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مُتَتَابِعًا ‏(‏فُعِلَا‏)‏ حَيْثُ أَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيُّ لِابْنِ الدَّيَّانِ حَالَ يَهُودِيَّتِهِ فِي جُمْلَةِ السَّامِعِينَ جَمِيعَ مَرْوِيَّاتِهِ، وَكَتَبَ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ، وَأَقَرَّهُ الْمِزِّيُّ الْمَذْكُورُ، بَلْ وَأَجَازَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كَمَا قَدَّمْتُ كُلَّ ذَلِكَ فِي ‏"‏ مَتَى يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ‏"‏، وَإِذَا جَازَ فِي الْكَافِرِ فَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ مِنْ بَابِ أَوْلَى‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏لَمْ أَجِدْ فِي‏)‏ إِجَازَةِ ‏(‏الْحَمْلِ‏)‏، سَوَاءٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَمْ يُنْفَخْ، عُطِفَ عَلَى مَوْجُودٍ كَأَبَوَيْهِ مَثَلًا أَوْ لَمْ يُعْطَفْ ‏(‏أَيْضًا نَقْلًا وَهْوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ جَوَازُ الْإِجَازَةِ لَهُ ‏(‏مِنْ‏)‏ جَوَازِ إِجَازَةِ ‏(‏الْمَعْدُومِ أَوْلَى فِعْلًا‏)‏ بِلَا شَكٍّ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَصْحِيحُهُمُ الْوَصِيَّةَ لِلْحَمْلِ، وَإِيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِمُطَلَّقَتِهِ الْحَامِلِ؛ حَيْثُ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا لِأَجْلِهِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ‏.‏ ‏(‏وَلِلْخَطِيبِ‏)‏ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ عَدَمُ النَّقْلِ فِي الْحَمْلِ ‏(‏لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَجَازَ الْحَمْلَ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يَرَى-كَمَا تَقَدَّمَ- صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ‏.‏

‏(‏قُلْتُ‏)‏‏:‏ قَدْ ‏(‏رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ‏)‏، وَهُوَ أَحَدُ شُيُوخِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ، الْحَافِظُ الْعُمْدَةُ صَلَاحُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلَائِيُّ شَيْخُ بَعْضِ شُيُوخِنَا ‏(‏قَدْ سَأَلَهْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِذْنَ لِلْحَمْلِ ‏(‏مَعْ‏)‏ بِالسُّكُونِ ‏(‏أَبَوَيْهِ‏)‏ إِذْ سُئِلَ فِي الْإِجَازَةِ لَهُمَا وَلِحَمْلِهِمَا ‏(‏فَأَجَازَ‏)‏ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَرَاهَا مُطْلَقًا، أَوْ يَغْتَفِرُهَا تَبَعًا، وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَحْفَظُ وَأَتْقَنُ مِنَ الْمُحَدِّثِ الْمُكْثِرِ الثِّقَةِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ بْنِ خَلِيفَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ الْمَنْبِجِيِّ الدِّمَشْقِيِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا، الَّذِي صَرَّحَ فِي كِتَابَتِهِ بِمَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْإِجَازَةِ لَهُ، بَلْ وَمَنْ أَبْهَمَ اسْمَهُ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لِلْمُسَمَّيْنَ فِيهِ ‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏(‏لَعَلَّ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ الْعَلَائِيَّ ‏(‏مَا أَصْفَحَ‏)‏ أَيْ‏:‏ تَصَفَّحَ بِمَعْنَى نَظَرَ ‏(‏الْأَسْمَاءَ‏)‏ الَّتِي ‏(‏فِيهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي الِاسْتِجَازَةِ، حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ فِيهَا حَمْلٌ أَمْ لَا‏؟‏ ‏(‏إِذْ فَعَلْ‏)‏ أَيْ‏:‏ حَيْثُ أَجَازَ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ بِدُونِ تَصَفُّحٍ وَلَا عَدٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ قَرِيبًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ لَا يُجِيزُونَ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ لَعَلَّ الْمَنْبِجِيَّ أَيْضًا لَمْ يَتَصَفَّحِ الْإِجَازَةَ، وَظَنَّ الْكُلَّ مُسَمَّيْنَ، أَوْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ الْحَمْلَ اسْمُهُ حِينَئِذٍ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الصَّنِيعَيْنِ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ‏(‏فَيَنْبَغِي الْبِنَا‏)‏ بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ؛ أَيْ‏:‏ بِنَاءُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لَهُ ‏(‏عَلَى مَا ذَكَرُوا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْفُقَهَاءُ، مِنْ أَنَّهُ ‏(‏هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ‏)‏ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ، فَيَكُونُ كَالْإِذْنِ لِلْمَعْدُومِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ يُعْلَمُ كَمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ صَحَّ الْإِذْنُ ‏(‏وَهَذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْبِنَاءُ وَكَوْنُ الْحَمْلِ يُعْلَمُ ‏(‏أَظْهَرُ‏)‏، فَاعْتَمِدْهُ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، إِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَعْلُومِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ‏:‏ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ، وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا بِنَحْوِ صَفْحَةٍ فِي أَثْنَاءِ فَرْقٍ‏.‏ وَمُحَصَّلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ كَالسَّمَاعِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ بِهَا‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ رَأَيْتُ مَنْ كَتَبَ بِهَامِشِ نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنِ الْمُصَنِّفِ إِنَّهُ هُوَ السَّائِلُ الْعَلَائِيَّ، وَإِنَّ الْحَمْلَ هُوَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ، يَعْنِي الْوَلِيَّ أَبَا زُرْعَةَ‏.‏ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَمَوْلِدُ أَبِي زُرْعَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَوَفَاةُ الْعَلَائِيِّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَثَ حَمْلًا أَزْيَدَ مِنَ الْمُعْتَادِ غَالِبًا‏.‏

484-وَالثَّامِنُ الْإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ *** الشَّيْخُ وَالصَّحِيحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ

485-وَبَعْضُ عَصْرِيِّي عِيَاضٍ بَذَلَهْ *** وَابْنُ مُغِيثٍ لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ

486-وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ *** أَوْ سَيَصِحُّ فَصَحِيحٌ عَمِلَهْ

487-الدَّارَقُطْنِيُّ وَسِوَاهُ أَوْ حَذَفْ *** يَصِحُّ جَازَ الْكُلُّ حَيْثُ مَا عَرَفْ

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏الثَّامِنُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏الْإِذْنُ بِمَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةُ بِمَعْدُومٍ ‏(‏سَيَحْمِلُهُ الشَّيْخُ‏)‏ الْمُجِيزُ مِنَ الْمَرْوِيِّ مِمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ ‏(‏وَالصَّحِيحُ‏)‏ بَلِ الصَّوَابُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ عِيَاضٌ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا ‏(‏أَنَّا نُبْطِلُهْ‏)‏، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَعْدُومُ فِيهِ مُنْعَطِفًا عَلَى مَوْجُودٍ كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ مَا رَوَيْتُهُ وَمَا سَأَرْوِيهِ، أَوْ لَا، كَمَا قِيلَ بِهِ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ‏.‏

‏(‏وَبَعْضُ عَصْرِيِّي عِياضٍ‏)‏ ‏[‏قَدْ ‏(‏بَذَلَهْ‏)‏ بِالْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ‏:‏ أَعْطَى مَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ كَذَلِكَ مَا سَأَلَهُ‏]‏ كَمَا حَكَاهُ فِي إِلْمَاعِهِ؛ حَيْثُ قَالَ‏:‏ وَهَذَا النَّوْعُ لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، قَالَ‏:‏ وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْعَصْرِيِّينَ يَصْنَعُونَهُ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ أَكْثَرُ مَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَحِينَئِذٍ فَسَوَاءٌ تَحَمَّلَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ أَوْ قَبْلَهَا إِذَا ثَبَتَ حِينَ الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَحَمَّلَهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ ‏(‏ابْنُ مُغِيثٍ‏)‏ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ أَبُو الْوَلِيدِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرْطُبِيُّ قَاضِي الْجَمَاعَةِ، وَصَاحِبُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بِهَا، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الصَّفَّارِ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَالْوَافِرُ الْحَظِّ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَشْرِقِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ تَصَانِيفِهِ ‏(‏التَّسَلِّي عَنِ الدُّنْيَا بِتَأْمِيلِ خَيْرِ الْآخِرَةِ‏)‏، جَاءَهُ إِنْسَانٌ- حَسْبَمَا حَكَاهُ تِلْمِيذُهُ أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زِيَادَةِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الطُّبُنِيُّ الْقُرْطُبِيُّ فِي فِهْرِسَتِهِ- فَسَأَلَهُ الْإِجَازَةَ لَهُ بِجَمِيعِ مَا رَوَاهُ إِلَى تَأْرِيخِهَا، وَمَا يَرْوِيهِ بَعْدُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَ‏(‏لَمْ يُجِبْ‏)‏ فِيهِ ‏(‏مَنْ سَأَلَهْ‏)‏، فَغَضِبَ السَّائِلُ، فَنَظَرَ يُونُسُ إِلَى الطُّبُنِيِّ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الطُّبُنِيُّ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ؛ أَيْ‏:‏ لِلسَّائِلِ‏:‏ يَا هَذَا، يُعْطِيكَ مَا لَمْ يَأْخُذْ، هَذَا مُحَالٌ، فَقَالَ يُونُسُ‏:‏ هَذَا جَوَابِي‏.‏ قَالَ عِيَاضٌ بَعْدَ سِيَاقِهِ‏:‏ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُخْبِرُ بِمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَيَأْذَنُ لَهُ بِالتَّحْدِيثِ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْدُ، وَيُبِيحُ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ هَلْ يَصِحُّ لَهُ الْإِذْنُ فِيهِ، فَمَنْعُهُ الصَّوَابُ‏.‏ قَالَ غَيْرُهُ‏:‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَاكَ دَاخِلٌ فِي دَائِرَةِ حَصْرِ الْعِلْمِ بِأَصْلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَرْوِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ‏.‏

لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ يَنْبَغِي بِنَاؤُهُ، يَعْنِي صِحَّةً وَعَدَمًا، عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ هَلْ هِيَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً أَوْ هِيَ إِذْنٌ‏؟‏ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحْ؛ إِذْ كَيْفَ يُخْبِرُ بِمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْحِيحِ الْإِذْنِ فِي الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْآذِنُ بَعْدُ، كَأَنْ يُوَكَّلَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَكَذَا فِي عِتْقِهِ إِذَا اشْتَرَاهُ، وَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَمَا زَادَهُمَا ابْنُ أَبِي الدَّمِ، وَكَمَا إِذَا أَذِنَ الْمَالِكُ لِعَامِلِهِ فِي بَيْعِ مَا سَيَمْلِكُهُ مِنَ الْعُرُوضِ، أَوْ أَوْصَى بِمَنَافِعِ عَيْنٍ يَمْلِكُهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي هَاتَيْنِ، وَوَجْهٌ فِي مَا قَبْلَهُمَا، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ كَذَا، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ كَذَا عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ فِي ثَمَرِ نَخْلِهِ قَبْلَ إِثْمَارِهَا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَا سَيَجِبُ، أَوْ فِي بَيْعِ مَا مَلَكَهُ وَمَا سَيَمْلِكُهُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ لِلرَّافِعِيِّ فِي الْأَخِيرَةِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ؛ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي وَصِيَّتِهِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي الْبَيَانِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ فِي فَتَاوَاهُ، بَلْ أَفْتَى بِأَنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ دَخَلَ فِيهِ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْهَا‏.‏

وَبِالنَّظَرِ لِهَذِهِ الْفُرُوعِ صِحَّةً وَإِبْطَالًا حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَجَّحَ فِي جُلِّهَا إِنَّمَا يُنَاسِبُهُ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ فِي الْمُنْعَطِفِ فَقَطْ، وَصَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِفَرْضِهَا فِي غَيْرِهِ، وَلِذَا سَاغَ تَنْظِيرُهُ بِالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي سَيَمْلِكُهُ مُجَرَّدًا، قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَإِذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى، بِدَلِيلِ صِحَّةِ إِجَازَةِ الطِّفْلِ دُونَ تَوْكِيلِهِ‏.‏ وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَيَتَعَيَّنُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ الشَّيْخِ بِالْإِجَازَةِ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْهُ مِمَّا تَحَمَّلَهُ شَيْخُهُ قَبْلَ إِجَازَتِهِ لَهُ- انْتَهَى‏.‏

وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يَتَجَدَّدُ لِلْمُجِيزِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِجَازَةِ مِنْ نَظْمٍ أَوْ تَأْلِيفٍ، وَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ لِلْمُصَنِّفِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ تَوْرِيخُ صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إِمَّا ‏(‏إِنْ يَقُلْ‏)‏ الشَّيْخُ‏:‏ ‏(‏أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ حَالَ الْإِجَازَةِ ‏(‏أَوْ سَيَصِحُّ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَيَصِحُّ عِنْدَهُ بَعْدَهَا أَنَّنِي أَرْوِيهِ ‏(‏فَ‏)‏ ذَاكَ ‏(‏صَحِيحٌ‏)‏ سَوَاءٌ كَانَ الْمُجِيزُ عَرَفَ أَنَّهُ يَرْوِيهِ حِينَ الْإِجَازَةِ أَمْ لَا؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَقَدْ ‏(‏عَمِلَهْ‏)‏ الْحَافِظُ ‏(‏الدَّارَقُطْنِيُّ وَسِوَاهُ‏)‏ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ حِينَ الْإِجَازَةِ وَبَعَّدَهَا أَنَّهُ تَحَمَّلَهُ قَبْلَهَا، سَوَاءٌ جَمَعَ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ ‏(‏أَوْ‏)‏ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ صَحَّ، وَ‏(‏حَذَفْ‏)‏ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏يَصِحُّ‏)‏ ‏[‏يَعْنِي‏:‏ بَعْدَهَا‏]‏ ‏(‏جَازَ الْكُلُّ حَيْثُ مَا عَرَفَ الطَّالِبُ‏)‏ حَالَةَ الْأَدَاءِ أَنَّهُ مِمَّا تَحَمَّلَهُ شَيْخُهُ قَبْلَ صُدُورِ الْإِجَازَةِ‏.‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ هُنَاكَ لَمْ يَرْوِ بَعْدُ، بِخِلَافِهِ هُنَا فَقَدْ رَوَى، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ عَالِمًا بِمَا رَوَاهُ، وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ عَالِمًا، فَيُحِيلُ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجَازِ‏.‏

488- وَالتَّاسِعُ الْإِذْنُ بِمَا أُجِيزَا *** لِشَيْخِهِ فَقِيلَ‏:‏ لَنْ يَجُوزَا

489- وَرُدَّ، وَالصَّحِيحُ الِاعْتِمَادُ *** عَلَيْهِ قَدْ جَوَّزَهُ النُّقَّادُ

490- أَبُو نُعَيْمٍ وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ *** وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ

491- وَالَى ثَلَاثًا بِإِجَازَةٍ، وَقَدْ *** رَأَيْتُ مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ

492- وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الْإِجَازَهْ *** فَحَيْثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَازَهْ

493- بِلَفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ *** مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ

‏(‏وَ‏)‏ النَّوْعُ ‏(‏التَّاسِعُ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏:‏ ‏(‏الْإِذْنُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةُ ‏(‏بِمَا أُجِيزَا لِشَيْخِهِ‏)‏ الْمُجِيزِ خَاصَّةً، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ مُجَازَاتِي، أَوْ رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي، أَوْ مَا أُبِيحَ لِي رِوَايَتُهُ‏.‏ وَاخْتُلِفَ فِيهِ ‏(‏فَقِيلَ‏)‏ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْبَرَكَاتِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْأَنْمَاطِيِّ‏:‏ إِنَّهُ ‏(‏لَنْ يَجُوزَا‏)‏، يَعْنِي مُطْلَقًا، عُطِفَ عَلَى الْإِذْنِ بِمَسْمُوعٍ أَمْ لَا، وَصَنَّفَ فِيهِ جُزْءًا وَحَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيُّ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ وَقَبْلَ يَاءِ النِّسْبَةِ نُونٌ، عَنْ بَعْضِ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ ضَعِيفَةٌ، فَيَقْوَى ضَعْفُهَا بِاجْتِمَاعِ إِجَازَتَيْنِ ‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ قَدْ ‏(‏رُدَّ‏)‏ هَذَا الْقَوْلُ حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَمَّنْ أَبْهَمَهُ الْبَرَدَانِيُّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْمَاطِيِّ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْبَرَدَانِيِّ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيُبْعِدُ إِرَادَتَهُ لَهُ كَوْنُهُ- كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- كَانَ حَافِظًا ثِقَةً مُتْقِنًا، وَقَالَ رَفِيقُهُ السِّلَفِيُّ‏:‏ كَانَ حَافِظًا ثِقَةً لَدَيْهِ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ يَبْكِي، فَاسَتَفَدْتُ بِبُكَائِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْتِفَادَتِي بِرِوَايَتِهِ، وَانْتَفَعْتُ بِهِ مَا لَمْ أَنْتَفِعْ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ‏:‏ كَانَ حَافِظَ عَصْرِهِ بِبَغْدَادَ‏.‏ فَمَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ‏:‏ إِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ قِيلَ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنْ عُطِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِمَسْمُوعٍ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا‏.‏ أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ‏(‏وَالصَّحِيحُ‏)‏ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ ‏(‏الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى الْإِجَازَةِ بِمَا أُجِيزَ مُطْلَقًا، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِمَنْعِ الْوَكِيلِ مِنَ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي الْوَكَالَةِ لِلْمُوَكِّلِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ عَزْلُهُ لَهُ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ؛ فَإِنَّهَا صَارَتْ مُخْتَصَّةً بِالْمُجَازِ لَهُ، لَوْ رَجَعَ الْمُجِيزُ عَنْهَا لَمْ يَنْفُذْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْوَكَالَةِ التَّوَصُّلُ إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِ الْمُوَكِّلِ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا ضَاعَ ذَلِكَ بِالْوَاسِطَةِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِ الْوَسَائِطِ، فَلَا بُدَ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ، مُحَافَظَةً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَمَوْضُوعُهَا التَّوَصُّلُ إِلَى بَقَاءِ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ مَعَ الْإِلْمَامِ بِالْغَرَضِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْإِذْنُ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ التَّحْدِيثِ بِهَا، وَهُوَ حَاصِلٌ تَعَدَّدَتِ الْوَسَائِطُ أَمْ لَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ غَالِبًا مَعَ التَّعَدُّدِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الْمُجِيزِ الْأَوَّلِ فِي الْإِجَازَةِ‏.‏

وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إِنَّ الْقَرِينَةَ الْحَالِيَّةَ مِنْ إِرَادَةِ بَقَاءِ السِّلْسِلَةِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجِيزٍ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ آذِنٌ لِمَنْ أَجَازَهُ أَنْ يُجِيزَهُ، وَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ فِي الْوَكَالَةِ جَائِزٌ، يَعْنِي حَيْثُ وَكَّلَهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَعَاطِيهِ بِنَفْسِهِ، وَ‏(‏قَدْ جَوَّزَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا مَرَّ ‏(‏النُّقَّادُ‏)‏، مِنْهُمُ الْحَافِظُ ‏(‏أَبُو نُعَيْمٍ‏)‏ الْأَصْبَهَانِيُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو السَّفَاقُسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ‏:‏ الْإِجَازَةُ عَلَى الْإِجَازَةِ قَوِيَّةٌ جَائِزَةٌ ‏(‏وَكَذَا‏)‏ جَوَّزَهُ ‏(‏ابْنُ عُقْدَهْ‏)‏ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَقَافٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، لَكِنْ فِي الْمَعْطُوفِ خَاصَّةً، كَمَا اقْتَضَاهُ صَنِيعُهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ مَا سَمِعَهُ فُلَانٌ مِنْ حَدِيثِي، وَمَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ حَدِيثِي، وَكُلُّ مَا أُجِيزَ لِي أَوْ قَوْلٍ قُلْتُهُ أَوْ شَيْءٍ قَرَأْتُهُ فِي كِتَابٍ، وَكَتَبْتُ إِلَيْكَ بِذَلِكَ فَارْوِهِ عَنْ كِتَابِي إِنْ أَحْبَبْتَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ أَبُو الْحَسَنِ ‏(‏الدَّارَقُطْنِيُّ‏)‏ فَإِنَّهُ كَتَبَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُسْتَمْلِي، عُرِفَ بِالنَّجَّادِ، جَمِيعَ التَّأْرِيخِ الْكَبِيرِ لِلْبُخَارِيِّ بِرِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ النَّيْسَابُورِيِّ سَمَاعًا مَا عَدَا أَجْزَاءً يَسِيرَةً مِنْ آخِرِهِ، فَإِجَازَةً عَنْ مُصَنِّفِهِ، كَذَلِكَ سَمَاعًا وَإِجَازَةً كَمَا حَكَى كُلَّ ذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَعَقَدَ لَهُ بَابًا فِي كِفَايَتِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إِذَا دَفَعَ الْمُحَدِّثُ إِلَى الطَّالِبِ كِتَابًا وَقَالَ لَهُ‏:‏ هَذَا مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ، وَهُوَ إِجَازَةٌ لِي مِنْهُ، وَقَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَمَاعًا لِلْمُحَدِّثِ، فَأَجَازَهُ لَهُ، بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَلَفْظُهُ فِي جَوَابٍ أَجَابَ بِهِ أَبَا عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيَّ إِذْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ‏:‏ لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجَازَةِ فِي الْعَمَلِ بِإِجَازَةِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ، ثُمَّ رَوَى عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبِ ‏(‏الْمُسْتَدْرَكِ‏)‏ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ حَدَّثَ فِي تَأْرِيخِهِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، هُوَ الْأَصَمُّ، إِجَازَةً، قَالَ‏:‏ وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ فِيمَا أَجَازَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، هُوَ الْفَرَّاءُ، قَالَ الْمَقْدِسِيُّ‏:‏ وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْحَبَّالِ الْحَافِظِ بِمِصْرَ عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ أَجَازَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ إِجَازَةً- انْتَهَى‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ ‏(‏نَصْرٌ‏)‏، هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ ‏(‏بَعْدَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إِجَازَتَيْنِ، بَلْ ‏(‏وَالَى‏)‏ أَيْ‏:‏ تَابَعَ ‏(‏ثَلَاثًا‏)‏ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ‏(‏بِإِجَازَةٍ‏)‏، فَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ‏:‏ سَمِعْتُهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَرُبَّمَا تَابَعَ بَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْهَا‏.‏

وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ أَبِي الْفَوَارِسِ حَدَّثَ بِجُزْءٍ مِنَ ‏(‏الْعِلَلِ‏)‏ لِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الصَّوَّافِ إِجَازَةً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ كَذَلِكَ، عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ، قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ ‏(‏وَقَدْ رَأَيْتُ‏)‏ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ زَادُوا عَلَى ثَلَاثِ أَجَايِزَ، فَرَوَوْا بِأَرْبَعٍ مُتَوَالِيَةٍ، يَعْنِي كَأَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ الْعُشَارِيِّ الْحَنْبَلِيِّ الثِّقَةِ الصَّالِحِ، حَدَّثَ بِالْإِجَازَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَكَثِيرًا مَا يَرْوِي فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَصَانِيفِهِ بِالْإِجَازَةِ عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، بَلْ وَ‏(‏مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ‏)‏ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْإِجَازَةِ مِمَّنْ ‏(‏يُعْتَمَدْ‏)‏ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْقُطْبُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ؛ فَإِنَّهُ رَوَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ تَأْرِيخِ مِصْرَ لَهُ عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ الْحَافِظِ بِخَمْسِ أَجَايِزَ مُتَوَالِيَةٍ‏.‏

وَكَذَا حَدَّثَ الْحَافِظُ زَكِيُّ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ بِالْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ بِخَمْسِ أَجَايِزَ مُتَوَالِيَةٍ عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ؛ لِكَوْنِهِ عَلَا فِيهِ بِهَا دَرَجَةً عَمَّا لَوْ حَدَّثَ بِهِ بِالسَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ عَنْ أَصْحَابِ السِّلَفِيِّ، عَنْهُ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ الْفَالِيِّ، عَنِ النَّهَاوَنْدِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ‏.‏

وَحَدَّثَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الرُّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْكُبْرَى الَّتِي خَرَّجَهَا لِنَفْسِهِ بِأَثَرٍ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عَنِ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ إِجَازَةً، عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ بِسَنَدِهِ الْمَاضِي أَوَّلًا إِلَى ابْنِ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ لَهُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ، فَذَكَرَهُ، وَقَرَأَ شَيْخُنَا بَعْضَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى ابْنِ الشَّيْخَةِ، عَنِ الدَّبُّوسِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ، وَسَنَدَهُ فَقَطْ عَلَى ابْنِ قَوَّامٍ، عَنِ الْحَجَّارِ، عَنِ الْقَطِيعِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الشَّهْرُزُورِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُهْتَدِي، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَفِي الثَّانِي سِتٌ أَجَايِزَ، وَأَعْلَى مَا رَأَيْتُهُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ شَيْخِنَا فِي فِهْرِسَتِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ لِقَصْدِ الْعُلُوِّ عَنِ الْعَفِيفِ النَّشَاوُرِيِّ إِجَازَةً مُشَافَهَةً عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ، عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ، عَنِ الْجَوْزَقِيِّ، عَنْ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ‏:‏ وَهُوَ جَمِيعُهُ بِالْإِجَازَاتِ، وَهُوَ عِنْدِي أَوْلَى مِمَّا لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَوَالِيحَ، فِي عُمُومِ إِذْنِهِ لِلْمِصْرِيِّينَ بِسَمَاعِهِ مِنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ كِنْدِيٍّ، عَنِ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ إِجَازَةً، يَعْنِي مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَدَدِ، قَالَ‏:‏ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ ضَعْفِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ- انْتَهَى‏.‏

وَفِي كَلَامِ ابْنِ نُقْطَةَ وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْجَوْزَقِيَّ سَمِعَهُ مِنْ مَكِّيٍّ، وَمَكِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ، فَاعْتَمَدَهُ، وَإِنْ مَشَى شَيْخُنَا عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَا أَغْرَبَ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ فَحَدَّثَ بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَرْقُونَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَوْزَقِيِّ، عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بِالْإِجَازَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْجَوْزَقِيَّ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ بَعْضُ الْكِتَابِ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْمُتَّفِقِ لَهُ‏.‏

‏(‏وَيَنْبَغِي‏)‏، حَيْثُ تَقَرَّرَتِ الصِّحَّةُ فِي ذَلِكَ وُجُوبًا لِمَنْ يُرِيدُ الرِّوَايَةَ كَذَلِكَ ‏(‏تَأَمُّلُ‏)‏ كَيْفِيَّةِ ‏(‏الْإِجَازَهْ‏)‏ الصَّادِرَةِ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ لِشَيْخِهِ، وَكَذَا مِمَّنْ فَوْقَهُ لِمَنْ يَلِيهِ، وَمُقْتَضَاهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرْوِيَ بِهَا مَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَهَا، فَرُبَّمَا قَيَّدَ بَعْضُ الْمُجِيزِينَ الْإِجَازَةَ ‏(‏فَحَيْثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَازَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَجَازَ شَيْخَهُ ‏(‏بِلَفْظِ‏)‏‏:‏ أَجَزْتُهُ ‏(‏مَا صَحَّ لَدَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ عِنْدَ شَيْخِهِ الْمُجَازِ فَقَطْ ‏(‏لَمْ يُخَطْ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَمْ يَتَعَدَّ الرَّاوِي ‏(‏مَا‏)‏ أَيْ‏:‏ ‏[‏الَّذِي ‏(‏صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ مَرْوِيِّ الْمُجِيزِ ‏(‏فَقَطْ‏)‏‏]‏، حَتَّى لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ مَرْوِيِ هَذَا الْمُجِيزِ عِنْدَ الرَّاوِي عَنِ الْمُجَازِ لَهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ شَيْخُهُ الْمَجَازُ لَهُ، أَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، لَا تَسُوغُ لَهُ رِوَايَتُهُ بِالْإِجَازَةِ‏.‏

وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا وَقَالَ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ تَسُوغَ الرِّوَايَةُ بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ قَدْ وُجِدَتْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِحَّتِهِ عِنْدَ شَيْخِهِ وَغَيْرِهِ، قَالَ‏:‏ وَنَظِيرُهُ مَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ بِرُؤْيَتِهَا الْهِلَالَ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهَا حَمْلًا عَلَى الْعِلْمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الِاسْتِدْعَاءَاتِ مِنِ اسْتِجَازَةِ الشُّيُوخِ لِمَنْ بِهَا مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ مِنْ مَسْمُوعَاتِهَا، فَالضَّمِيرُ فِي ‏"‏ عِنْدَهُمْ ‏"‏ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ وَبَيْنَ الْمُسْتَجَازِ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَسُوغُ لِلرَّاوِي، حَيْثُ قَيَّدَ شَيْخُهُ الْإِجَازَةَ بِمَسْمُوعَاتِهِ خَاصَّةً، التَّعَدِّي إِلَى مَا عِنْدَهُ بِالْإِجَازَةِ، كَإِجَازَةِ أَبِي الْفَتْحِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَّادِ لِلْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ، حَيْثُ لَمْ يُجِزْ لَهُ مَا أُجِيزَ لَهُ، بَلْ مَا سَمِعَهُ فَقَطْ، وَلِذَا رَجَعَ السِّلَفِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيَ عَنْهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَنَالَ الْمَحْبُوبِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ؛ لِكَوْنِ الْحَدَّادِ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنِ الْمَحْبُوبِيِّ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ مِنْ مَرْوَ‏.‏

وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا مَنْ قَيَّدَهَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ فَقَطْ، كَمَا فَعَلَهُ التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُجِيزُ بِرِوَايَةِ جَمِيعِ مَسْمُوعَاتِهِ، بَلْ بِمَا حَدَّثَ بِهِ مِنْهَا عَلَى مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ صَنِيعِهِ، ‏[‏وَنَقَلَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي النَّضَّارِ، وَأَنَّ صُورَةَ إِجَازَتِهِ لَهُ‏:‏ أَجَزْتُ جَمِيعَ مَا أُجِيزَ لِي وَمَا حَدَّثْتُ بِهِ مِنْ مَسْمُوعَاتِي‏]‏؛ لِكَوْنِهِ كَانَ يَشُكُّ فِي بَعْضِ سَمَّاعَاتِهِ عَلَى ابْنِ الْمُقَيَّرِ، فَتَوَرَّعَ عَنِ التَّحْدِيثِ بِهِ، بَلْ وَعَنِ الْإِجَازَةِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَطَ فِي بَعْضِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَثُرَ عِثَارُهُمُ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِعَدَمِ التَّفَطُّنِ لَهُ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْبَلَنْسِيِّ، عُرِفَ بِالْأَنْدَرَشِيِّ وَبِابْنِ الْيَتِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُتْقِنِ مَعَ كَوْنِهِ رِحْلَةَ الْأَنْدَلُسِ، حَيْثُ كَتَبَ سَنَدَهُ بِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ السِّلَفِيِّ عَنِ ابْنِ الْبَطِرِ عَنِ ابْنِ الْبَيِّعِ عَنِ الْمُحَامِلِيِّ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ عِنْدَ السِّلَفِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الثَّغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ، بَلْ وَالْكِرْمَانِيُّ الشَّارِحُ وَآخَرُونَ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ عَنْ شَيْخٍ سَمِعَ شَيْخَهُ، وَبِالسَّمَاعِ مِنْ شَيْخٍ أُجِيزَ مِنْ شَيْخِ الْأَوَّلِ، يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ‏.‏

‏[‏ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا سَلَفَ فِي تَوَالِي الْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ، أَمَّا الْعَامَّةُ فَنَقَلَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُحِبِّ مَنْعَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ هِيَ عَدَمٌ عَلَى عَدَمٍ، وَعَنْ شَيْخِهِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَنَا أَرْوِي صَحِيحَ مُسْلِمٍ عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ إِذْنًا عَامًّا مِنَ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ، كَذَلِكَ قَالَ‏:‏ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَمِلَ بِهِ، وَلَا سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏]‏‏.‏