فصل: (وَضْعُ «حَ» بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


‏[‏وَضْعُ «حَ» بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا‏]‏

‏(‏وَكَتَبُوا‏)‏ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثِ أَوِ الْكِتَابِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَرُومُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ إِسْنَادَيْهِ أَوْ أَسَانِيدِهِ، ‏(‏عِنْدَ انْتِقَالٍ مِنْ سَنَدْ لِغَيْرِهِ “ حَ “‏)‏ بِالْقَصْرِ مُهْمَلَةً مُفْرَدَةً، وَهِيَ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ، وَفِي ‏(‏صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏)‏ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي ‏(‏الْبُخَارِيِّ‏)‏ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدْمَةِ ‏(‏شَرْحِ مُسْلِمٍ‏)‏، وَهُوَ الْمُشَاهَدُ‏.‏ ثُمَّ اخْتَلَفُوا‏:‏ أَهِيَ مِنَ الْحَائِلِ أَوِ التَّحْوِيلِ أَوْ صَحَّ أَوِ الْحَدِيثِ‏؟‏ وَهَلْ يُنْطَقُ بِهَا “ حَا “ أَوْ يُصَرَّحُ بِبَعْضِ مَا رُمِزَ بِهَا لَهُ عِنْدَ الْمُرُورِ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ لَا‏؟‏ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏وَانْطِقَنْ بِهَا‏)‏ كَمَا كُتِبَتْ مُفْرَدَةً، وَمُرَّ فِي قِرَاءَتِكَ‏.‏ يَعْنِي‏:‏ حَسْبَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمُ الْخَلَفُ، وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَيْضًا كَمَا سَمِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ إِلَّا أَنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ أَحْوَطُ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلُهَا‏.‏

‏(‏وَقَدْ رَأَى‏)‏ الْحَافِظُ الرَّحَّالُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏الرُّهَاوِيُّ‏)‏ نِسْبَةً إِلَى الرُّهَا بِالضَّمِّ لِلْأَكْثَرِ، الْحَنْبَلِيُّ، كَمَا سَمِعَهُ مِنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏بِأَنْ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ أَنْ ‏(‏لَا تُقْرَا‏)‏ أَوْ لَا يُلْفَظَ بِشَيْءٍ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا، ‏(‏وَأَنَّهَا‏)‏ لَيْسَتْ مِنَ الرِّوَايَةِ بَلْ هِيَ “ حَا “ ‏(‏مِنْ حَائِلٍ‏)‏ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا، لِكَوْنِهَا حَالَةً بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ مَشَايِخِهِ، وَفِيهِمْ عَدَدٌ كَانُوا حُفَّاظَ الْحَدِيثِ فِي وَقْتِهِ، غَيْرُهُ، وَنَحْوُهُ فِي كَوْنِهَا مِنْ حَائِلٍ لَكِنْ مَعَ النُّطْقِ بِذَلِكَ قَوْلُ الدِّمْيَاطِيِّ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ، فَصَارَ كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى “ حَ “ قَالَ‏:‏ حَاجِزٌ‏.‏ وَهُوَ فِي النُّطْقِ بِمَعْنَاهَا خَاصَّةً مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَالَ ‏(‏وَقَدْ رَأَى بَعْضُ‏)‏ عُلَمَاءِ ‏(‏أُولِي الْغَرْبِ‏)‏ حِينَ ذَاكَرْتُهُ فِيهَا، وَحَكَاهُ عَنْ صَنِيعِ الْمَغَارِبَةِ كَافَّةً ‏(‏بِأَنْ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ أَنْ ‏(‏يَقُولَا‏)‏ مَنْ يَمُرُّ بِهَا ‏(‏مَكَانَهَا الْحَدِيثَ قَطْ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَقَطْ‏.‏ وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الرُّهَاوِيِّ إِنْكَارَ كَوْنِهَا مِنَ الْحَدِيثِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَكَأَنَّهُ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدُ، فَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً بَعْدَ سِيَاقِ السَّنَدِ الْأَوَّلِ وَبَعْضِ الْمَتْنِ كَمَا فِي ‏(‏الْبُخَارِيِّ‏)‏ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ جِئْتُ أَنَا وَأَبِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ حَ، وَثَنَا‏.‏ وَسَاقَ سَنَدًا آخَرَ إِلَى الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ‏.‏ فَيُمْكِنُ عَدَمُ إِنْكَارِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏قِيلَا‏)‏ مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ مَنْ جَمَعَتْهُ وَإِيَّاهُ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ مِنَ الْأَصْبَهَانِيِّينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ، ‏(‏بَلْ‏)‏ هِيَ ‏(‏حَاءُ تَحْوِيلٍ‏)‏ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ آخَرَ‏.‏

‏(‏وَقَالَ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏قَدْ كُتِبَ‏)‏ فِيمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْحَافِظَيْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ اللَّيْثِيِّ الْبُخَارِيِّ، وَالْفَقِيهِ الْمُحَدِّثِ أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيلِ الْخَلِيلِيِّ ‏(‏مَكَانَهَا‏)‏ بَدَلًا عَنْهَا ‏(‏صَحَّ‏)‏ صَرِيحَةً، يَعْنِي نَحْوَ مَا يُجْعَلُ بَيْنَ الرُّوَاةِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَهَذَا يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحَاءِ رَمْزًا إِلَى صَحَّ، ‏(‏فَحَا‏)‏ بِالْقَصْرِ ‏(‏مِنْهَا انْتُخِبَ‏)‏‏.‏ أَيِ‏:‏ اخْتِيرَ فِي اخْتِصَارِهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَحَسُنَ إِثْبَاتُ “ صَحَّ “ هَاهُنَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدِيثَ هَذَا الْإِسْنَادِ سَقَطَ، وَلِئَلَّا يُرَكَّبَ الْإِسْنَادُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُجْعَلَا إِسْنَادًا وَاحِدًا‏.‏ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّحَوُّلِ، وَأَنَّ الْقَارِئَ يَلْفِظُ بِهَا‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ لَمُ يَخْتَلِفْ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ فِي كَوْنِهَا حَاءً مُهْمَلَةً، بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ‏:‏ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ‏.‏ أَيْ‏:‏ إِسْنَادٌ آخَرُ‏.‏

وَكَذَا حَكَاهُ الدِّمْيَاطِيُّ أَيْضًا، فَقَالَ‏:‏ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَسْتَعْمِلُهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ يُرِيدُ بِهَا آخِرًا وَأَخِيرًا‏.‏ زَادَ غَيْرُهُ‏:‏ أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ‏.‏ وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي شَأْنِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ‏.‏

قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ‏:‏ وَيُقَالُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ صَنِيعِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَلَمْ يَأْتِنَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ بَيَانٌ لِأَمْرِهَا‏)‏‏.‏

كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ

612- وَيَكْتُبُ اسْمَ الشَّيْخِ بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ *** وَالسَّامِعِينَ قَبْلَهَا مُكَمَّلَهْ

613- مُؤَرَّخًا أَوْ جَنْبَهَا بِالطُّرَّهْ *** أَوْ آخِرَ الْجُزْءِ وَإِلَّا ظَهْرَهْ

614- بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِخَطٍّ عُرِفَا *** وَلَوْ بِخَطِّهِ لِنَفْسِهِ كَفَى

615- إِنْ حَضَرَ الْكُلَّ وَإِلَّا اسْتَمْلَى *** مِنْ ثِقَةٍ صَحَّحَ شَيْخٌ أَمْ لَا

616- وَلْيُعِرِ الْمُسْمَى بِهِ إِنْ يُسْتَعَرْ *** وَإِنْ يَكُنْ بِخَطِّ مَالِكٍ سُطِرْ

617- فَقَدْ رَأَى حَفْصٌ وَإِسْمَاعِيلُ *** كَذَا الزُّبَيْرِيُّ فَرْضَهَا إِذْ سِيلُوا

618- إِذْ خَطُّهُ عَلَى الرِّضَا بِهِ دَلْ *** كَمَا عَلَى الشَّاهِدِ مَا تَحَمَّلْ

619- وَلْيَحْذَرِ الْمُعَارُ تَطْوِيلًا وَأَنْ *** يُثْبِتَ قَبْلَ عَرْضِهِ مَا لَمْ يُبَنْ

‏(‏كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ‏)‏ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالطَّبَقَةِ، وَمَا أُلْحِقَ بِذَلِكَ مِنْ إِعَارَةِ الْمَسْمُوعِ وَمُنَاسَبَتِهِ لِلْعَمَلِ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ مَحَلِّهِمَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَوْ آخِرِهِ، وَلَكِنَّهُ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْأَوَّلِ‏.‏

‏[‏كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ وَشُرُوطُهُ‏]‏‏:‏

‏(‏وَيَكْتُبُ‏)‏ الطَّالِبُ ‏(‏اسْمَ الشَّيْخِ‏)‏ الَّذِي قَرَأَ أَوْ سَمِعَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْهُ كِتَابًا أَوْ جُزْءًا أَوْ نَحْوَهُ، وَمَا يَلْتَحِقُ بِالِاسْمِ مِنْ نَسَبٍ وَنِسْبَةٍ وَكُنْيَةٍ وَلَقَبٍ وَمَذْهَبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ، مَعَ سِيَاقِ سَنَدِهِ بِالْمَسْمُوعِ لِمُصَنِّفِهِ فِي ثَبْتِهِ الَّذِي يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، أَوْ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي يَرُومُ تَحْصِيلَهَا مِنَ الْمَسْمُوعِ‏.‏

‏(‏بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ‏)‏ فَيَقُولُ مَثَلًا‏:‏ أَنَا أَبُو فُلَانٍ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، ثَنَا فُلَانٌ‏.‏ وَيَسُوقُ السَّنَدَ إِلَى آخِرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إِنْ سَمِعَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَلْيَكْتُبْ أَسْمَاءَ ‏(‏السَّامِعِينَ‏)‏ إِمَّا ‏(‏قَبْلَهَا‏)‏ أَوِ الْبَسْمَلَةَ فَوْقَ سَطْرِهَا ‏(‏مُكَمَّلَهْ‏)‏ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَارٍ لِمَا لَا يَتِمُّ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنَ السَّامِعِينَ بِدُونِهِ، فَضْلًا عَنْ حَذْفٍ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ‏.‏

وَالْحَذَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ إِسْقَاطِ اسْمِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ مُسَدًّى، عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ وَشَيْخِهِ السِّلَفِيِّ، أَنَّهُمَا كَانَا يُصَدِّرَانِ الطِّبَاقَ بِذَوِي السِّنِّ، فَإِذَا أَتَيَا عَلَى ذِكْرِهِمْ تَرَكَا الشَّبَابَ وَأَدْرَجَاهُمْ فِي طَيِّ لَفْظَةِ “ وَآخَرِينَ “‏.‏ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ عَنْ ثَانِيهِمَا‏.‏

كُلُّ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِ الْمَكْتُوبِ ‏(‏مُؤَرَّخًا‏)‏ بِوَقْتِ السَّمَاعِ، مَذْكُورًا مَحَلُّهُ مِنَ الْبَلَدِ وَقَارِئُهُ، وَكَذَا عَدَدُ مَجَالِسِهِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، مُعَيَّنَةً، وَتَمْيِيزُ الْمُكَمِّلِينَ وَالنَّاعِسِينَ وَالْمُتَحَدِّثِينَ وَالْبَاحِثِينَ وَالْكَاتِبِينَ وَالْحَاضِرِينَ مِنَ الْمُفَوِّتِينَ وَالْيَقِظِينَ وَالْمُنْصِتِينَ وَالسَّامِعِينَ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ يَكْتُبُ ذَلِكَ ‏(‏جَنْبَهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْبَسْمَلَةِ فِي الْوَرَقَةِ الْأُولَى ‏(‏بِالطُّرَّهْ‏)‏ يَعْنِي الْحَاشِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ لِذَلِكَ، حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَى حِكَايَتِهِ الْخَطِيبُ عَنْ فِعْلِ شُيُوخِهِ، وَكَذَا فَعَلَهُ السِّلَفِيُّ، بَلْ رُبَّمَا يَكْتُبُ السِّلَفِيُّ السَّمَاعَ بِالْحَاشِيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَكْتُبُ الطَّالِبُ التَّسْمِيعَ ‏(‏آخِرَ الْجُزْءِ‏)‏ أَوِ الْكِتَابِ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ أَيْ‏:‏ وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَكْتُبُهُ ‏(‏ظَهْرَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي ظَهْرِهِ، وَرُبَّمَا فَعَلَ السِّلَفِيُّ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ حَيْثُ يَكْتُبُونَ التَّسْمِيعَ فِيمَا يَكُونُ لِلْمَسْمُوعِ كَالْوِقَايَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ حَيْثُ لَا يَخْفَى مَوْضِعُهُ مِنْهُ مِنْ حَاشِيَةٍ فِي الْأَثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

فَكُلُّ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهِ‏.‏ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الْخَطِيبُ أَحْوَطُ لَهُ وَأَحْرَى بِأَلَّا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْجَزَرِيِّ قَدْ حَكَى عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ الْأَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ عَدَمُ الْكِتَابَةِ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ لِشَرَفِهَا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَكَذَا يَحْسُنُ تَسْمِيَةُ الْمَسْمُوعِ إِنْ كَتَبَ التَّسْمِيعَ بِمَحَلٍّ غَيْرِ مُسَمًّى فِيهِ خَوْفًا مِنَ انْفِرَادِ الْوَرَقَةِ فَيَصِيرُ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا فِي حَيْرَةٍ، وَأَنْ يُنَبِّهَ حَيْثُ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِالْأَثْنَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا أَوَّلَ الْمَسْمُوعِ، فَقَدْ رَأَيْتُ شَيْخَنَا يَفْعَلُهُ فَيَقُولُ مَثَلًا‏:‏ فَرَغَهُ سَمَاعًا فُلَانٌ، وَالطَّبَقَةُ بِالْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ‏.‏ وَيُعَلِّمُ بِالْهَوَامِشِ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ مَجْلِسٍ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا‏:‏ بَلَغَ السَّمَاعُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى فُلَانٍ، لِأَجْلِ مَنْ يَفُوتُهُ بَعْضَهَا أَوْ يَسْمُعُ بَعْضَهَا‏.‏

وَيَنْبَغِي كَمَا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ ‏(‏بِخَطِّ‏)‏ شَخْصٍ ‏(‏مَوْثُوقٍ‏)‏ بِهِ غَيْرِ مَجْهُولِ الْخَطِّ، بَلْ ‏(‏بِخَطٍّ عُرِفَا‏)‏ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ‏.‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَ التَّسْمِيعُ ‏(‏بِخَطِّهِ لِنَفْسِهِ‏)‏ مَعَ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ ‏(‏كَفَى‏)‏ فَطَالَ مَا فَعَلَ الثِّقَاتُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا‏.‏

وَعَلَى كَاتِبِ السَّمَاعِ التَّحَرِّي فِي تَفْصِيلِ الْأَفْوَاتِ وَبَيَانِ السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ وَالْمَسْمُوعِ بِعِبَارَةٍ بَيِّنَةٍ، وَكِتَابَةٍ وَاضِحَةٍ، وَإِنْزَالِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ، وَيَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي السَّامِعِينَ وَتَمْيِيزِ فَوَاتِهِمْ ضَبْطَ نَفْسِهِ‏.‏

‏(‏إِنْ حَضَرَ الْكُلُّ وَإِلَّا اسْتَمْلَى‏)‏ مَا غَابَ عَنْهُ ‏(‏مِنْ ثِقَةٍ‏)‏ ضَابِطٍ مِمَّنْ حَضَرَ، فَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهِ؛ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، سَوَاءٌ فِي اعْتِمَادِ الثِّقَةِ لِضَبْطِ نَفْسِهِ أَوْ ثِقَةٍ غَيْرِهِ، أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي خَطِّهِ، ‏(‏صَحَّحَ‏)‏ عَلَى التَّسْمِيعِ ‏(‏شَيْخٌ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الشَّيْخُ الْمُسَمِّعُ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ حَسْبَمَا اتَّفَقَ ‏(‏أَمْ لَا‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَرْوَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي سَعْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنَ الْأَصْبَهَانِيَّةِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ قَرَأَ بِبَغْدَادَ جُزْءًا عَلَى أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ، وَسَأَلَهُ خَطَّهُ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ‏:‏ يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّكَ إِذَا عُرِفْتَ بِهِ لَا يُكَذِّبُكَ أَحَدٌ، وَتَصْدُقُ فِيمَا تَقُولُ وَتَنْقُلُ، وَإِذَا كُنْتَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَوْ قِيلَ لَكَ‏:‏ مَا هَذَا خَطُّ أَبِي أَحْمَدَ، مَاذَا تَقُولُ لَهُمْ‏؟‏‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ‏:‏ قَدَّمْتُ لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُحِبِّ طَبَقَةً لِيُصَحِّحَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ الْمُسَمِّعَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ‏:‏ لَا تَعُدْ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّصْحِيحِ مَنْ يُشَكُّ فِيهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمَا يُوجَدُ مِنْ تَصْحِيحِ الشُّيُوخِ الْمُسَمِّعِينَ إِنَّمَا اعْتِمَادُهُمْ فِيهِ غَالِبًا عَلَى الضَّابِطِينَ، وَرُبَّمَا أَفْصَحَ الْمُتَحَرِّي مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ الشَّيْخُ نَفْسُهُ هُوَ الضَّابِطَ كَمَا كَانَ ابْنُ الْمُنْصِفِ يَفْعَلُهُ غَالِبًا لِقِلَّةِ الْمُتَمَيِّزِينَ فِي ذَلِكَ‏.‏ نَعَمْ، رُبَّمَا اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ لِمَا يَكْتُبُ الْمُحَدِّثُ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ حَيْثُ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بِشُهْرَةِ أَحَدِ السَّامِعِينَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَحَيْثُ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلْحَاقِ وَالتَّصْحِيحِ وَشِبْهِهِ، إِذِ الْكِتَابُ لَا يَخْلُو غَالِبًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ، بَلْ وَبِتَحْلِيفِ الرَّاوِي‏.‏

فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ دُحَيْمٍ الدِّمَشْقِيِّ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ قَدِمَ ابْنُ مَعِينٍ عَلَيْنَا الْبَصْرَةَ؛ فَكَتَبَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيِّ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا سَلَمَةَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ شَيْئًا فَلَا تَغْضَبْ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ هَاتِ، قَالَ‏:‏ حَدِيثُ هَمَّامٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَفَّانُ وَحِبَّانُ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ، إِنَّمَا وَجَدْتُهُ عَلَى ظَهْرِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَتَقُولُ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَحْلِفُ لِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ هَمَّامٍ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّكَ كَتَبْتَ عَنِّي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَإِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ فِيهَا صَادِقًا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَنِي فِي حَدِيثٍ، وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فِي حَدِيثٍ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَدِّقَنِي فِيهَا، وَتَرْمِي بِهَا، بِنْتُ أَبِي عَاصِمٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ هَمَّامٍ، وَوَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا‏.‏

وَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ مِنْ رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ حَدِيثًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ‏:‏ آللَّهِ يَا أَبَا الْمِقْدَامِ- وَهِيَ كُنْيَتُهُ- لَحَدَّثَكَ فُلَانٌ بِهَذَا، أَوْ سَمِعْتَ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ‏:‏ إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏.‏

وَلَعَلَّ سَلَفَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرِي اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ‏.‏ وَذَكَرَ حَدِيثًا‏.‏

‏[‏الْإِعَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ‏]‏‏:‏

وَقَدْ يَبْتَدِئُ الشَّيْخُ بِالْحَلِفِ مَعَ اشْتِهَارِ ثِقَتِهِ وَصِدْقِهِ، لَكِنْ لِتَزْدَادَ طُمَأْنِينَةُ السَّامِعِينَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ يَحْلِفُ فِي فَوْتَيْهِ مِنْ ‏(‏صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏)‏ أَنَّهُمَا أُعِيدَا لَهُ، وَفَعَلَهُ مِنَ التَّابِعِينَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ فَقَالَ‏:‏ ثَنَا- وَاللَّهِ- أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ‏.‏ وَذَكَرَ حَدِيثًا‏.‏

‏(‏وَلْيُعِرِ‏)‏ مَنْ ثَبَتَ فِي كِتَابِهِ أَوْ جُزْئِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا تَسْمِيعٌ بِخَطِّ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا أَثْبَتَ فِيهِ السَّمَاعَ الطَّالِبُ ‏(‏الْمُسْمَى بِهِ‏)‏ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ ‏(‏إِنْ يُسْتَعَرْ‏)‏ لِيُكْتَبَ مِنْهُ أَوْ يُقَابَلَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْقَلَ سَمَاعُهُ أَوْ يُحَدَّثَ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْعَارِيَّةُ- فِيمَا إِذَا كَانَ التَّسْمِيعُ بِغَيْرِ خَطِّ الْمَالِكِ- مُسْتَحَبَّةٌ، ‏(‏وَإِنْ يَكُنْ‏)‏ التَّسْمِيعُ ‏(‏بِخَطِّ مَالِكٍ‏)‏ لِلْمَسْمُوعِ ‏(‏سَطَرَهُ فَقَدَ رَأَى‏)‏ الْقَاضِيَانِ ‏(‏حَفْصٌ‏)‏ هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ قَاضِيهَا، بَلْ وَقَاضِي بَغْدَادَ أَيْضًا، وَصَاحِبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي جَمَاعَةٍ‏:‏ أَنْتُمْ مَسَارُّ قَلْبِي وَجَلَاءُ حُزْنِي‏.‏

وَكَانَ هُوَ يَقُولُ‏:‏ مَا وَلِيتُ الْقَضَاءَ حَتَّى حَلَّتْ لِي الْمَيِّتَةُ، وَلَأَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلُ إِصْبَعَهُ فِي عَيْنَيْهِ فَيَقْلَعَهُمَا فَيَرْمِي بِهِمَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا‏.‏ وَلَمَّا وَلِيَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ تَعَالَوْا نَكْتُبُ نَوَادِرَ حَفْصٍ، فَلَمَّا وَرَدَتْ قَضَايَاهُ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ‏:‏ أَيْنَ النَّوَادِرُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ حَفْصًا أَرَادَ اللَّهَ فَوَّفَقَهُ‏.‏ مَاتَ عَلَى الْأَكْثَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ‏(‏159هـ‏)‏‏.‏

وَ ‏(‏إِسْمَاعِيلُ‏)‏ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ شَيْخُ مَالِكِيَّةِ الْعِرَاقِ وَعَالِمُهُمْ وَمُصَنِّفُ ‏(‏أَحْكَامِ الْقُرْآنِ‏)‏ وَغَيْرِهَا الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ‏(‏282هـ‏)‏‏.‏

وَكَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيُّ الزُّبَيْرِيُّ بِالضَّمِّ نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْمَذْكُورِ، الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ ‏(‏الْكَافِي‏)‏ وَ‏(‏الْمُسْكِتِ‏)‏ وَغَيْرِهِمَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمَائَةٍ ‏(‏317هـ‏)‏‏.‏

‏(‏فَرَضَهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْعَارِيَّةَ ‏(‏إِذْ سِيلُوا‏)‏ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً سَاكِنَةً لِلضَّرُورَةِ، حَيْثُ ادُّعِيَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ فِي زَمَنِهِ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ عَارِيَّةِ كِتَابِهِ، وَأَجَابَ بِإِلْزَامِهِ بِإِخْرَاجِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ؛ فَمَا يَكُونُ مِنْ سَمَاعِ الْمُدَّعِي مُثْبَتًا بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِإِعَارَتِهِ، حَسْبَمَا رَوَى ذَلِكَ عَنِ الثَّانِي الْخَطِيبُ، وَعَنِ الْأَوَّلِ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، قَالَ‏:‏ إِنَّهُ سَأَلَ الثَّالِثَ عَنْهُ فَقَالَ‏:‏ لَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا‏.‏

‏(‏إِذْ خَطُّهُ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ صَاحِبِ الْمَسْمُوعِ فِيهِ ‏(‏عَلَى الرِّضَا بِهِ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ بِالِاسْمِ الْمُثْبَتِ ‏(‏دَلْ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ وَثَمَرَةُ رِضَاهُ بِإِثْبَاتِ اسْمِهِ بِخَطِّهِ فِي كِتَابِهِ عَدَمُ مَنْعِ عَارِيَتِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَلَمْ يَبِنْ لِي وَجْهُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ ذَلِكَ ‏(‏كَمَا عَلَى الشَّاهِدِ‏)‏ الْمُتَحَمِّلِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ سَوَاءٌ اسْتُدْعِيَ لَهُ أَوِ اتِّفَاقًا ‏(‏مَا تَحَمَّلَ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَدَاءُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ وُجُوبًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَذْلُ نَفْسِهِ بِالسَّعْيِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَدَائِهَا‏.‏

وَوَجَّهَ غَيْرُهُ أَيْضًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا مَعَ وُجُودِ عَلَقَةٍ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي إِلْزَامَهُ بِإِسْعَافِهِ فِي مَقْصِدِهِ‏.‏

أَصْلُهُ إِعَارَةُ الْجِدَارِ لِوَضْعِ جُذُوعِ الْجَارِ الَّذِي صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ، وَأَوْجَبَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلْ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا أَلْزَمْنَا الْجَارَ بِالْعَارِيَةِ مَعَ دَوَامِ الْجُذُوعِ فِي الْغَالِبِ، فَلِأَنْ تُلْزِمَ صَاحِبَ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ دَوَامِ الْعَارِيَةِ أَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ‏.‏

وَلَوْ قُلْنَا كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ‏:‏ إِنَّ خَطَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَتِهِ بِصِحَّةِ سَمَاعِهِ‏.‏ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِلْزَامُهُ بِإِبْرَازِهِ لِحُصُولِ ثَمَرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ فِي إِثْبَاتِ اسْمِهِ وَقْتَ السَّمَاعِ كَمَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ الْأَدَاءُ وَلَوْ لَمْ يُسْتَدْعَ لِلتَّحَمُّلِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ قِيَاسَ تَعْلِيلِ مَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ بِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِلرِّضَا أَنَّهُ لَوْ كَتَبَهُ غَيْرُهُ بِرِضَاهُ؛ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، إِذْ لَا فَرْقَ، وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَيَرْجِعُ حَاصِلُ أَقْوَالِهِمْ إِلَى أَنَّ سَمَاعَ غَيْرِهِ إِذَا ثَبَتَ فِي كِتَابِهِ بِرِضَاهُ، فَيَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُ‏.‏ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي “ تَقْرِيبِهِ “‏.‏

بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ الْفَقِيهَ يَقُولُ‏:‏ مَرَرْتُ أَنَا وَأَبُو الْحَسَنِ الصَّبَّاغُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَيَّاطِ، يَعْنِي الْقَاضِيَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيَّ، وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ كَاتِبِهِ، فَادَّعَيْتُ أَنَا أَوْ هُوَ أَنَّ أَحَدَنَا سَمِعَ فِي كِتَابِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ إِعَارَتِهِ لِرَفِيقِهِ، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ‏:‏ بِإِذْنِكَ سَمِعَ فِي كِتَابِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَعِرْهُ سَمَاعَهُ‏.‏ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي صُورَةِ تَسْمِيعِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَ إِمْكَانِ اعْتِقَادِ التُّهْمَةِ، فَالْغَيْرُ الْأَجْنَبِيُّ أَوْلَى وَأَحْرَى‏.‏

وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ‏.‏ وَأُيِّدَ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَالِكِ حِينَئِذٍ الرِّوَايَةُ إِذَا كَانَ يَرْوِي مِنْ كِتَابِهِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ضَرِيرًا، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ خِلَافَهُ كَمَا سَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا‏.‏

وَقَدْ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي ‏(‏أَدَبِ الطَّالِبِ‏)‏ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ فِي جَمَاعَةٍ‏:‏ ‏(‏انْسَخْ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا قَدْ قَرَأْتُ‏)‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُونَنِي‏)‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَنْ وَاللَّهِ لَا يُفْلِحُونَ، قَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامًا مَنَعُوا هَذَا السَّمَاعَ، فَوَاللَّهِ مَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَقِبَهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ أَيْضًا رَأَى أَقْوَامًا مَنَعُوا فَمَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا‏)‏‏.‏

‏(‏وَلْيَحْذَرِ الْمُعَارُ‏)‏ لَهُ الْمَسْمُوعُ ‏(‏تَطْوِيلًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ التَّطْوِيلِ فِي الْعَارِيَةِ وَالْإِبْطَاءِ بِمَا اسْتَعَارَهُ عَلَى مَالِكِهِ إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَقَدَ رُوِّينَا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ‏:‏ إِيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ‏.‏ قَالَ يُونُسُ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ وَمَا غُلُولُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا‏.‏

وَرُوِّينَا عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْوَرَعِ أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ وَكِتَابَهُ فَيَحْبِسَهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏.‏

وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ الرَّازِيِّ مِنْ ‏(‏تَارِيخِ نَيْسَابُورَ‏)‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ‏:‏ إِذَا رَدَّ صَاحِبُ الْحَدِيثِ الْكِتَابَ بَعْدَ سَنَةٍ فَقَدْ أَحْسَنَ‏.‏ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ‏.‏

وَبَلَغَنَا عَنِ ابْنِ الْمُنْصِفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إِذَا غَابَ الْكِتَابُ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ وَرَقِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ لِكِتَابَةٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ‏.‏ أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ التَّمَسُّكَ فِي الْمَنْعِ بِبُطُوءٍ وَمَا أَشْبَهَهُ لَا يَكْفِي فِي عَدَمِ الْإِلْزَامِ بِالدَّفْعِ، فَقَدْ سَاقَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ الْأَمِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ مِنْ ‏(‏ذَيْلِهِ‏)‏، أَنَّ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِمَا تَقَدَّمَ قَالَ لَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ- وَهُوَ صَاحِبُ الْكِتَابِ-‏:‏ إِنَّهُ يُعَذِّبُنِي فِي كُتُبِي إِذَا دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ‏.‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَخْرِجْ إِلَيْهِ مَا لَزِمَكَ بِالْحُكْمِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ لِلْمُدَّعِي‏:‏ إِذَا أَعَارَكَ أَخُوكَ كُتُبَهُ لِتَنْسَخَهَا فَلَا تُعَذِّبْهُ، فَإِنَّكَ تُطْرِقُ عَلَى نَفْسِكَ مَنْعَكَ فِيمَا تَسْتَحِقُّ‏.‏ فَرَضِيَا بِذَلِكَ وَطَابَا، بَلْ وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْيَزْدِيِّ فِي جُزْءِ عَارِيَةِ الْكُتُبِ لَهُ الْمَسْمُوعِ لَنَا، أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ- وَهُوَ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ- قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ‏:‏ أَعَزَّ اللَّهُ الْقَاضِيَ، هَذَا رَجَلٌ غَرِيبٌ أَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ بِكُتُبِي، فَيُوَثِّقُ لِي حَتَّى أُعْطِيَهُ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي‏:‏ فَاكْتَرِ رَجُلًا بِدِرْهَمَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَقْعِدْهُ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ نَسْخِ سَمَاعِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا لِيَحْذَرْ إِذَا نَسَخَ مِنَ الْمَسْمُوعِ الْمُعَارِ لِنَفْسِهِ فَرْعًا ‏(‏أَنْ يُثْبِتَ‏)‏ سَمَاعَهُ فِيهِ ‏(‏قَبْلَ عَرْضِهِ‏)‏ وَمُقَابَلَتِهِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي إِثْبَاتُ تَسْمِيعٍ عَلَى كِتَابٍ مُطْلَقًا إِلَّا بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ، ‏(‏مَا لَمْ يُبَنْ‏)‏ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فِي كُلٍّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّقْلِ أَنَّ النُّسْخَةَ غَيْرُ مُقَابَلَةٍ‏.‏

صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ

620- وَلْيَرْوِ مِنْ كِتَابِهِ وَإِنْ عَرِي *** مِنْ حِفْظِهِ فَجَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ

621- وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ كَذَا *** عَنْ مَالِكٍ وَالصَّيْدَلَانِيِّ وَإِذَا

622- رَأَى سَمَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَعَنْ *** نُعْمَانٍ الْمَنْعُ وَقَالَ ابْنُ الْحَسَنْ

623- مِعْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ الشَّافِعِي *** وَالْأَكْثَرِينَ بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ

624- وَإِنْ يَغِبْ وَغَلَبَتْ سَلَامَتُهْ *** جَازَتْ لَدَى جُمْهُورِهِمْ رِوَايَتُهْ

625- كَذَلِكَ الضَّرِيرُ وَالْأُمِّيُّ *** لَا يَحْفَظَانِ يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ

626- مَا سَمِعَا وَالْخُلْفُ فِي الضَّرِيرِ *** أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ

‏[‏جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ‏]‏‏:‏

‏(‏صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ‏)‏ سِوَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ فُصُولٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ فِي جَوَازِ اعْتِمَادِ الْمُحَدِّثِ وَلَوْ كَانَ ضَرِيرًا أَوْ أُمِّيًّا الْكِتَابَ الْمَصُونَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُ حَتَّى فِي أَصْلِ السَّمَاعِ وِإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ‏.‏

‏(‏وَلْيَرْوِ‏)‏ الرَّاوِي ‏(‏مِنْ كِتَابِهِ‏)‏ الْمُتْقَنِ الْمُقَابَلِ الْمَصُونِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ سَمَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، ‏(‏وَإِنْ عَرِي‏)‏؛ أَيْ‏:‏ خَلَا ‏(‏مِنْ حِفْظِهِ‏)‏ بِحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ تَفْصِيلَ أَحَادِيثِهِ حَدِيثًا حَدِيثًا، أَوْ كَانَ يَحْفَظُهُ إِلَّا أَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ، ‏(‏فَـ‏)‏ ذَاكَ ‏(‏جَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ‏)‏ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ لَا الْقَطْعِ، فَإِذَا حَصَلَ كَفَى، وَلَمْ يَضُرَّهُ- كَمَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ- ذَلِكَ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقْبَلِ التَّلْقِينَ إِذَا لَمْ يُرْزَقْ مِنَ الْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا رُزِقَهُ غَيْرُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ لِأَنِّي وَجَدْتُ الشُّهُودَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِحَدِّ الشَّهَادَةِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهَا كَتَفَاضُلِ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْ إِجَازَةِ شَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ‏:‏ الْحِفْظُ هُوَ الْإِتْقَانُ‏.‏

وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ‏:‏ ‏(‏ثَلَاثَةٌ لَا غَنَاءَ لِلْمُحَدِّثِ عَنْهَا؛ الْحِفْظُ وَالصِّدْقُ وَصِحَّةُ الْكُتُبِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ الْحِفْظُ وَكَانَ فِيهِ مَا عَدَاهُ لَمْ يَضُرَّهُ‏)‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ‏:‏ يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَتَّزِرَ بِالصِّدْقِ وَيَرْتَدِيَ بِالْكُتُبِ‏.‏ رَوَاهَا الْخَطِيبُ‏.‏

وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ‏:‏ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَدِيثَ أَنْ يُحَدِّثَ‏.‏ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي ‏(‏جَامِعِهِ‏)‏ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ‏:‏ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي سَيِّدِي أَحْمَدُ‏:‏ لَا تُحَدِّثْ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ‏:‏ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ فَقُلْتُ‏:‏ أَوْصِنِي‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لَا تُحَدِّثِ الْمُسْنَدَ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ‏.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحِفْظَ خَوَّانٌ‏.‏

وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِرْبَعٍ الْحَافِظُ‏:‏ قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَانْقَلَبَتْ لَهُ بَغْدَادُ، وَنُصِبَ لَهُ الْمِنْبَرُ فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِنْ حِفْظِهِ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هِيَ بَغْدَادُ، وَأَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، يَا أَبَا شَيْبَةَ- يَعْنِي ابْنَهُ إِبْرَاهِيَمَ- هَاتِ الْكِتَابَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ‏:‏ أُقْعِدَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بِسَامَرَّا عَلَى مِنْبَرٍ، فَقَالَ‏:‏ يَقْبُحُ بِمَنْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابٍ‏.‏ ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، فَغَلِطَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ‏.‏

‏[‏عَدَمُ جَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ‏]‏‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ رُوِيَ ‏(‏عَنْ‏)‏ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ ‏(‏الْمَنْعُ‏)‏، وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ إِلَّا فِيمَا رَوَاهُ الرَّاوِي مِنْ حِفْظِهِ وَتَذَكُّرِهِ لِلْمَرْوِيِّ تَفْصِيلًا مِنْ حِينِ سَمِعَهُ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ‏:‏ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ‏:‏ لَا يُحَدِّثِ الرَّجُلُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ وَيَحْفَظُ‏.‏ وَ‏(‏كَذَا‏)‏ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ هُوَ ابْنُ أَنَسٍ كَمَا أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ وَأَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي ‏(‏الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ‏)‏ لَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ مَالِكًا‏:‏ أَيُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُهُ- زَادَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَهُوَ ثِقَةٌ صَحِيحٌ-‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قُلْتُ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ يُخْرِجُ كِتَابَهُ وَيَقُولُ‏:‏ هُوَ سَمَاعِي‏.‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يُكْتَبَ فِي كِتَابِهِ- يَعْنِي مَا لَيْسَ مِنْهُ- زَادَ الْخَطِيبُ‏:‏ بِاللَّيْلِ- ثُمَّ اتَّفَقَا- وَهُوَ لَا يَدْرِي‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ ‏(‏الصَّيْدَلَانِيِّ‏)‏ الْمَرْوَزِيِّ، وَنُسِبَ لِلزَّيْنِ الْكَتَّنَانِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتِيَارُهُ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَنَا لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَرْوِيَ إِلَّا حَدِيثَ‏:‏ ‏(‏أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ‏)‏ لِأَنِّي مِنْ حِينِ سَمِعْتُهُ لِمَ أَنْسَهُ‏.‏

وَظَاهِرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقِلَهَا وَحَفِظَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَلَّا يَعِيَهَا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ‏.‏

وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ‏(‏مُسْتَدْرَكِهِ‏)‏ بِلَفْظِ‏:‏ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي- أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا- فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ‏)‏ قَدْ يَشْهَدُ لَهُ‏.‏

وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْخَطِيبُ فِي ‏(‏الْكِفَايَةِ‏)‏ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي الرِّوَايَةِ حَالَ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ يَرْوِي مَا لَا يَرْتَابُ فِي حِفْظِهِ، وَيَتَوَقَّفُ عَمَّا عَارَضَهُ الشَّكُّ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ الْحَاكِمُ عَقِبَ الْمَرْفُوعِ‏:‏ ‏(‏قَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ لَفْظَتَيْنِ غَرِيبَتَيْنِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ‏)‏‏.‏ وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ‏)‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَكَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ هُشَيْمٍ‏:‏ مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكِتَابٍ كَأَنَّهُ سِجِلُّ مُكَاتَبٍ‏.‏ وَمِنْ ثَمَّ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- قَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ قَالَ بِهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَشَدِّدِينَ الَّذِينَ أَفْرَطُوا وَبَايَنُوا بِصَنِيعِهِمُ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ فَرَّطُوا، بِحَيْثُ قَالُوا بِالرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَاتِ، وَمِنَ النُّسَخِ الَّتِي لَمْ تُقَابَلْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا بُسِطَ فِي مَحَالِّهِ‏.‏

وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ كَانَ كِتَابُهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِ ثِقَةٍ ضَابِطٍ، وَإِنِ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- كَوْنَهُ بِيَدِهِ، كَمَا سَلَفَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ كِتَابُهُ عَنْ يَدِهِ أَمْ لَا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا‏.‏

وَسَوَاءٌ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ ابْتِدَاءً أَوْ حَفِظَ مِنْ كِتَابِهِ ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، لَكِنْ قَدْ كَانَ شُعْبَةُ رُبَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ كِتَابِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ حَفِظَهُ مِنْ فَمِ شَيْخِهِ ابْتِدَاءً‏.‏ ثُمَّ إِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَصْوِيبِ ابْنِ الصَّلَاحِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ‏:‏

وَصَوَّبَ الشَّيْخُ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِ *** وَهْوَ الصَّوَابُ لَيْسَ فِيهِ نَمْتَرِي

‏[‏حُكْمُ مَنْ رَأَى سَمَاعَهُ فِي الْكِتَابِ‏]‏‏:‏

‏(‏وَإِذَا رَأَى‏)‏ الْمُحَدِّثُ ‏(‏سَمَاعَهُ‏)‏ فِي كِتَابٍ بِخَطِّهِ، أَوْ بِخَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ- سَوَاءٌ الشَّيْخُ أَوْ غَيْرُهُ- فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ تَذَكَّرَهُ- وَهُوَ أَرْفَعُ الْأَقْسَامِ- جَازَتْ لَهُ رِوَايَتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لَهُ، وَبِلَا خِلَافٍ إِنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ بَلْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ غَيَّرَ سَمَاعَهُ فَقَدْ تَعَارَضَا، وَالظَّاهِرُ اعْتِمَادُ مَا فِي ذِكْرِهِ، وَقَدْ حَكَى لَنَا شَيْخُنَا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ شَيْخِنَا، بَلْ وَأَخَذَ شَيْخُنَا أَيْضًا عَنْهُ، وَثَنَا عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الطَّبَقَةَ قَبْلَ سَمَاعِهِ قَصْدًا لِلْإِسْرَاعِ، لَكِنْ يُؤَخِّرُ تَعْيِينَ التَّارِيخِ، وَطُعِنَ فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِلْمَانِعِينَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إِنْ ‏(‏لَمْ يَذْكُرْ‏)‏ سَمَاعَهُ لَهُ، يَعْنِي‏:‏ وَلَا عَدَمَهُ ‏(‏فَعَنْ‏)‏ أَبِي حَنِيفَةَ ‏(‏نُعْمَانَ‏)‏ أَيِ‏:‏ النُّعْمَانِ أَيْضًا ‏(‏الْمَنْعُ‏)‏ مِنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي‏:‏ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِمَا فِي الْكِتَابِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَعْرِفْهُ، كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَجَدْتُ فِي كُتُبِي بِخَطِّي عَنْ شُعْبَةَ مَا لَمْ أَعْرِفْهُ فَطَرَحْتُهُ‏.‏ وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ‏:‏ وَجَدْتُ بِخَطِّي فِي كِتَابٍ عِنْدِي، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ لَمْ يَحْتَجِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏ مَا أَدْرِي كَيْفَ كَتَبْتُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنِّي سَمِعْتُهُ‏.‏

وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالصَّيْدَلَانِيُّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إِذْ ضَبْطُ أَصْلِ السَّمَاعِ كَضَبْطِ الْمَسْمُوعِ، وَلَعَلَّ الصَّيْدَلَانِيَّ هُوَ الْمَقْرُونُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ بِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ‏:‏ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْجَوَازِ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ الْجُوَيْنِيِّ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ، بَلْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي ‏(‏فَتَاوَاهُ‏)‏‏:‏ إِنَّهُ كَذِلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ‏.‏

وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ‏:‏ أَتَيْتُهُ بِجُزْءٍ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ رَوَاجِ الطَّبَقَةِ بِخَطِّهِ، فَقَالَ‏:‏ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ‏.‏ ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ هُوَ بِخَطِّي لَكِنْ مَا أُحَقِّقُ سَمَاعَهُ وَلَا أَذْكُرُهُ‏.‏ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ‏.‏

‏(‏وَقَالَ‏)‏ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ ‏(‏ابْنُ الْحَسَنِ‏)‏ هُوَ مُحَمَّدٌ ‏(‏مَعْ‏)‏ شَيْخِهِ وَرَفِيقِهِ الْقَاضِي ‏(‏أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ‏)‏ إِمَامِنَا ‏(‏الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ‏)‏ مِنْ أَصْحَابِهِ ‏(‏بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ‏)‏ الَّذِي لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ بِمِثْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ، وَالْأَوَّلَانِ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ‏.‏

عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ‏:‏ كَانَ شَيْخِي يَتَرَدَّدُ فِيمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً وَوَضَعَهَا عِنْدَهُ فِي صُنْدُوقٍ بِحَيْثُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، ثُمَّ دُعِيَ إِلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ‏؟‏ وَلَكِنَّ الْجَوَازَ قَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي “ فَتَاوَاهُ “ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ خِلَافَهُ؛ إِمَّا بِالنَّظَرِ لِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيَهِ عَمَلُهُمْ- كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ- أَوْ لِكَوْنِهِ مَذْهَبَ أَكْثَرِهِمْ كَمَا اقْتَضَاهُ تَقْرِيرُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَالْأُولَى الَّتِي الْأَكْثَرُ فِيهَا عَلَى الْجَوَازِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مَشَى شَيْخُنَا، بَلْ وُجِدَ فِي ‏(‏صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ‏)‏ بَلَاغًا بِخَطِّهِ عِنْدَ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِهِ أَثْبَتَ مَا يَدُلُّ لَأَزْيَدَ مِنْهُ، فَحَكَى حِينَ إِيرَادِ سَنَدِهِ صُورَةَ الْحَالِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلِذَا أَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ يَحْسُنُ الْإِفْصَاحُ بِالْوَاقِعِ، بَلْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ‏:‏ إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ لِكَوْنِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ نِسْيَانَهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ يَجُوزُ لِلْفَرْعِ رِوَايَةُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ مَعَ تَصْرِيحِ الشَّيْخِ بَعْدَ تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُ بِمَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا‏:‏ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا إِذَا نَسِيَ الرَّاوِي سَمَاعَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَلَا يَضُرُّهُ نِسْيَانُ شَيْخِهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ قَدْ حَكَى فِي ‏(‏الْعُدَّةِ‏)‏ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِسْقَاطَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، مَعَ الْإِشَارَةِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، أَوْ يُسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ‏.‏

وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِسَمَاعِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَجِدْ بِذَلِكَ خَطًّا، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي “ فَتَاوَاهُ “‏:‏ إِنَّ مُقْتَضَى الْفِقْهِ الْجَوَازُ‏.‏ وَنُقِلَ الْمَنْعُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ‏.‏

وَقَالَ الْفَرْغَانِيُّ‏:‏ الدِّيَانَةُ لَا تُوجِبُ رِوَايَتَهُ، وَالْعَقْلُ لَا يُجِيزُ إِذَاعَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ كَذَّابٍ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلِلرَّاوِي أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَعَلِمَ حِفْظَهُ لِمَا فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ سَمَاعَهُ عَلَى كِتَابِهِ لِئَلَّا يُوهِمَ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَالْمُعْتَمَدُ الْجَوَازُ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- يَعْنِي فِي مَسْأَلَتَيِ اعْتِمَادِ الْكِتَابِ فِي الْمَسْمُوعِ وَأَصْلِ السَّمَاعِ- إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، وَلَمْ يَتَشَكَّكْ فِيهِ، فَإِنْ تَشَكَّكَ- يَعْنِي فِي تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ وَنَحْوِهِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَلَا‏.‏

قَالَ ابْنُ مَعِينٍ‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمْحًا فِي الْحَدِيثِ- بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ- كَانَ كَذَّابًا‏)‏‏.‏

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ تَرَكَهُ كُلَّهُ‏.‏

وَنَحْوُهُ تَقْيِيدُ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ لِاعْتِمَادِ الْكِتَابِ الْمُتْقَنِ مِنْ جِهَةِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ نَعْتَمِدْ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ لَأَبْطَلْنَا جُمْلَةً مِنَ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا‏.‏

وَكَذَا خَصَّ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْكِتَابُ عَنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَهُوَ احْتِيَاطٌ حَسَنٌ‏.‏ يَقْرُبُ مِنْهُ صَنِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ جُلِّهِمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ يَخْتِمُونَ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ‏)‏‏.‏

وَمِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ مَا غَابَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ جَدُّ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ ابْنِ مَهْدِيٍّ حَيْثُ جَلَسَ مَعَ مَنْ رَامَ اسْتِعَارَةَ كِتَابِهِ حَتَّى نَسَخَ مِنْهُ، وَقَالَ‏:‏ خَصْلَتَانِ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا حُسْنُ الظَّنِّ؛ الْحُكْمُ وَالْحَدِيثُ‏.‏

وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَرَوَاهُ نَازِلًا عَنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْكِتَابَ مِنْ رُفَقَائِهِ عَنْ ذَاكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَنَا وَغُنْدَرٌ حَدِيثًا مِنْ شُعْبَةَ، فَبَاتَتِ الرُّقْعَةُ عِنْدَ غُنْدَرٍ، فَحَدَّثْتُ بِهِ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ‏.‏ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ تِلْمِيذِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَسِيَ أَنَّهُ حَدَّثَ التِّلْمِيذَ بِهِ فِي آخَرِينَ‏.‏

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ‏(‏إِنْ يَغِبْ‏)‏ الْكِتَابُ عَنْهُ غَيْبَةً طَوِيلَةً فَضْلًا عَنْ يَسِيرَةٍ، بِإِعَارَةٍ أَوْ ضَيَاعٍ أَوْ سَرِقَةٍ، ‏(‏وَغَلَبَتْ‏)‏ عَلَى الظَّنِّ ‏(‏سَلَامَتُهُ‏)‏ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ ‏(‏جَازَتْ لَدَى‏)‏؛ أَيْ‏:‏ عِنْدَ ‏(‏جُمْهُورِهِمْ‏)‏ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وِفُضَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَجَنَحَ إِلَيْهِ‏.‏

‏(‏رِوَايَتُهْ‏)‏ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا حَصَلَ أَجْزَأَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ مَزِيدٌ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّجُلِ يَجِدُ سَمَاعَهُ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ‏)‏، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ‏:‏ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا عَرَفَ الْخَطَّ‏.‏

وَقَيَّدَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنْ يُعْرَفَ الشَّيْخُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَطِيبَ سَأَلَهُ عَمَّنْ وَجَدَ سَمَاعَهُ فِي كِتَابٍ مِنْ شَيْخٍ قَدْ سُمِّيَ وَنُسِبَ فِي الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ؛ أَيِ‏:‏ الشَّيْخَ، فَقَالَ‏:‏ لَا تَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ الْكِتَابِ‏.‏

‏[‏الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَالْأُمِّيِّ‏]‏‏:‏

‏(‏كَذَلِكَ الضَّرِيرُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَعْمَى ‏(‏وَالْأُمِّيُّ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الَّذِي لَا يَكْتُبُ، اللَّذَانِ ‏(‏لَا يَحْفَظَانِ‏)‏ حَدِيثَهُمَا مِنْ فَمِ مَنْ حَدَّثَهُمَا، تَصِحُّ رِوَايَتُهُمَا حَيْثُ ‏(‏يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ‏)‏ الثِّقَةُ لَهُمَا ‏(‏مَا سَمِعَا‏)‏ ثُمَّ يَحْفَظُ كُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابَهُ عَنِ التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ بِثِقَةٍ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، مُسْتَعِينًا حِينَ الْأَدَاءِ أَيْضًا بِثِقَةٍ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِهَا، مِنْ حِينِ التَّحَمُّلِ إِلَى انْتِهَاءِ الْأَدَاءِ لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ الْحِفْظِ مَا يَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِ لِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ‏.‏

مِثْلُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ مَا أَفْطَنَهُ وَأَذْكَاهُ وَأَفْهَمَهُ‏.‏ وَالْقَائِلُ هُوَ لِمُسْتَمْلِيهِ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَ عَلَيَّ فِي حَدِيثِي، فَاجْهَدْ جَهْدَكَ لَا أَرْعَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ رَعَيْتَ، أَحْفَظُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ‏.‏ فَإِنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ كُفَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ بُكَائِهِ فِي الْأَسْحَارِ يَأْمُرُ جَارِيَتَهُ فَتُلَقِّنُهُ وَيَحْفَظُ عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِيبَ بِذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يُلَقِّنُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اعْتَمَدَ مَنْ عَلِمَ بِإِتْقَانِهِ مِنْهُمْ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأُسْنِدَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِي كُتُبِهِ، الْبَلَاءُ فِيهَا مِمَّنْ دُونَهُ، وَلِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنْ كُتُبِهِ أَصَحَّ، وَمِمَّنْ فَعَلَهُ فِي الْجُمْلَةِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَكَانَتْ لَهُ خَرِيطَةٌ فِيهَا كُتُبُهُ، فَكَانَ إِذَا جَاءَهُ إِنْسَانٌ دَفَعَ إِلَيْهِ الْخَرِيطَةَ، فَقَالَ‏:‏ اكْتُبْ مِنْهَا مَا شِئْتَ‏.‏ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ‏.‏

وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَابْنِ مَعِينٍ وَأَحْمَدَ، قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَنَرَى الْعِلَّةَ فِي الْمَنْعِ هِيَ جَوَازُ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِمَا مَا لَيْسَ مِنْ سَمَاعِهِمَا‏.‏ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مَنَعَ مَالِكٌ لِأَجْلِهَا غَيْرَ الْحَافِظِ مِنَ الرِّوَايَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى كُتُبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ الْمَنْعُ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يُلَقَّنُ حَدِيثَهُ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ يَعْرِفُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ عَنْ شَيْخِهِ يَقُولُ‏:‏ فِي كِتَابِنَا، أَوْ فِي كِتَابِي، وَكَذَا ذَكَرَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ‏:‏ ثَنَا، وَلَا سَمِعْتُ‏.‏ إِلَّا فِيمَا حَفِظَهُ مَنْ فِي الْمُحَدِّثِ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا ثَالِثًا‏.‏

وَالْمَذْهَبَانِ الْأَوَّلَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي ‏(‏الشَّهَادَاتِ‏)‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَبُولِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏وَالْخَلَفُ فِي الضَّرِيرِ‏:‏ أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ‏)‏ الْأُمِّيِّ، يَعْنِي‏:‏ لِخِفَّةِ الْمَحْذُورِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ خَاصَّةً، لَا مَعَ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْصَافِ، وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ قَدْ تُمْنَعُ الْأَوْلَوِيَّةُ مِنْ جِهَةِ تَقْصِيرِ الْبَصِيرِ، فَيَكُونُ الْأَعْمَى أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ أَتَى بِاسْتِطَاعَتِهِ‏.‏

وَقَالَ شَيْخُنَا‏:‏ إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا كُتِبَ لَهُمَا فَهُمَا سَوَاءٌ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى كِتَابِهِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ مِنَ التَّغْيِيرِ أَوْ عَكْسِهَا‏.‏ عَلَى أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَدْ خَصَّ الْخِلَافَ فِي الضَّرِيرِ بِمَا سَمِعَهُ بَعْدَ الْعَمَى، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَا خِلَافٍ، يَعْنِي بِشَرْطِهِ، وَفِي نَفْيِ الْخِلَافِ تَوَقُّفٌ‏.‏

إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَتَعْلِيلُ ابْنِ الصَّلَاحِ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ التَّصْحِيحِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِكَوْنِ السَّنَدِ لَا يَخْلُو غَالِبًا عَلَى مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ؛ لَا يَخْدِشُ فِي كَوْنِ الْمُعْتَمَدِ هُنَا اعْتِمَادَ غَيْرِ الْحَافِظِ الْكِتَابَ الْمُتْقِنِ، فَإِنَّ تَحْدِيثَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ مُصَاحَبٌ غَالِبًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْخَلَلُ، حَتَّى إِنَّ الْحَاكِمَ أَدْرَجَ فِي الْمَجْرُوحِينَ مَنْ تَسَاهَلَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ مُشْتَرَاةٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٍ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، لِتَوَهُّمِهِمُ الصِّدْقَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ غَالِبًا عَرِيٌّ عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، وَإِنْ نُوقِشَ فِي أَصْلِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ‏.‏

الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ

627- وَلْيَرْوِ مِنْ أَصْلٍ أَوِ الْمُقَابَلِ *** بِهِ وَلَا يَجُوزُ بِالتَّسَاهُلِ

628- مِمَّا بِهِ اسْمُ شَيْخِهِ أَوْ أُخِذَا *** عَنْهُ لَدَى الْجُمْهُورِ وَأَجَازَ ذَا

629- أَيُّوبُ وَالْبُرْسَانُ قَدْ أَجَازَهْ *** وَرَخَّصَ الشَّيْخُ مَعَ الْإِجَازَهْ

630- وَإِنْ يُخَالِفْ حِفْظُهُ كِتَابَهُ *** وَلَيْسَ مِنْهُ فَرَأَوْا صَوَابَهُ

631- الْحِفْظَ مَعْ تَيَقُّنٍ وَالْأَحْسَنُ *** الْجَمْعُ كَالْخِلَافِ مِمَّنْ يُتْقِنُ

الْفَصْلُ الثَّانِي‏:‏ ‏(‏الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ‏)‏ أَوِ الْفَرْعِ الْمُقَابَلِ، وَوُجُوبُ ذَلِكَ، وَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِتَابِ عِنْدَ تَخَالُفِهِمَا‏.‏

‏(‏وَلْيَرْوِ‏)‏ الْمُحَدِّثُ إِذَا رَامَ أَدَاءَ شَيْءٍ مِمَّا تَحَمَّلَهُ بِالسَّمَاعِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا‏.‏

‏(‏مِنْ أَصْلٍ‏)‏ تَحَمَّلَ مِنْهُ، ‏(‏أَوْ‏)‏ مِنَ الْفَرْعِ ‏(‏الْمُقَابَلِ‏)‏ الْمُقَابَلَةَ الْمُتْقَنَةَ ‏(‏بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ شَرْطٌ ‏(‏وَلَا يَجُوزُ‏)‏ الْأَدَاءُ ‏(‏بِالتَّسَاهُلِ‏)‏ بِأَنْ يَرْوِيَ ‏(‏مِمَّا‏)‏ لَمْ يَكُنْ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلًا ‏(‏بِهِ اسْمُ شَيْخِهِ‏)‏ يَعْنِي سَمَاعَهُ ‏(‏أَوْ‏)‏ كَانَ فَرْعًا ‏(‏أَخَذَ عَنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَنِ الشَّيْخِ مِنْ ثِقَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ بِحَيْثُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ ‏(‏لَدَى‏)‏ أَيْ‏:‏ عِنْدَ ‏(‏الْجُمْهُورِ‏)‏ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا حَكَّاهُ الْخَطِيبُ، وَقَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ‏.‏

حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ بَلَاغًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا زَوَائِدُ لَيْسَتْ فِي نُسْخَةِ سَمَاعِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ قَدْ ‏(‏أَجَازَ ذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَدَاءَ مِنْ كِلَيْهِمَا ‏(‏أَيُّوبُ‏)‏ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا أَبُو عُثْمَانَ أَوْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ ‏(‏الْبُرْسَانُ‏)‏ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَسِينٌ مُهْمَلَةٌ، مَعَ حَذْفِ يَاءِ النِّسْبَةِ، نِسْبَةً لِقَبِيلَةٍ مِنَ الْأَزْدِ، الْبَصْرِيُّ ‏(‏قَدْ أَجَازَهُ‏)‏ أَيْضًا تَرَخُّصًا مِنْهُمَا‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّهُ مَتَى عُرِفَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا النُّسْخَةُ هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنَ الشَّيْخِ؛ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهَا إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ لَهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنْ فَرْعٍ كُتِبَ مِنْ أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُقَابَلْ، لَكِنْ بِشَرْطِ الْبَيَانِ لِذَلِكَ حِينَ الرِّوَايَةِ، وَإِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ وَالْبُرْسَانِيُّ جَنَحَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ‏)‏‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا ‏(‏رَخَّصَ‏)‏ فِيهِ أَيْضًا ‏(‏الشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ لَكِنْ ‏(‏مَعَ‏)‏ وُقُوعِ ‏(‏الْإِجَازَهْ‏)‏ مِنَ الْمُسْمِعِ لَهُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، أَوْ بِسَائِرِ مَرْوِيَّاتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كُلِّ سَمَاعٍ عَنْهَا احْتِيَاطًا؛ لِيَقَعَ مَا يَسْقُطُ فِي السَّمَاعِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ مَرْوِيًّا بِالْإِجَازَةِ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ مِنْ رِوَايَةِ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ بِالْإِجَازَةِ بِلَفْظِ “ أَنَا أَوْ‏:‏ ثَنَا “ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِلْإِجَازَةِ فِيهَا، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ التَّسَامُحِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي النُّسْخَةِ سَمَاعُ شَيْخِ شَيْخِهِ، أَوْ هِيَ مَسْمُوعَةٌ عَلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، أَوْ مَرْوِيَّةٌ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ لَهُ إِجَازَةٌ شَامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ، وَلِشَيْخِهِ إِجَازَةٌ شَامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏(‏وَهَذَا تَيَسُّرٌ حَسَنٌ- هَدَانَا اللَّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَهُ- وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةٌ فِي زَمَانِنَا جِدًّا‏)‏‏.‏ يَعْنِي لِمَزِيدِ التَّوَسُّعِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بَقَاءُ السِّلْسِلَةِ خَاصَّةً، حَتَّى إِنَّهُ صَارَ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ‏:‏ هَذَا الْكِتَابُ أَوِ الْجُزْءُ مِنْ رِوَايَتِكَ‏.‏ يُمَكِّنُهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا نَظَرٍ فِي النُّسْخَةِ وَلَا تَفَقُّدِ طَبَقَةِ سَمَاعٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبَحْثِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى حُصُولِ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ أَصْلِ السَّمَاعِ فَضْلًا عَنِ الْمَسْمُوعِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ يُخَالِفْ حِفْظُهُ كِتَابَهُ‏)‏ وَقُلْنَا بِالْمُعْتَمَدِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِكِتَابِهِ الْمُتْقَنِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَفِظَ مِنْ كِتَابِهِ، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى، ‏(‏وَ‏)‏ إِنْ يَكُنْ ‏(‏لَيْسَ‏)‏ حَفِظَ ‏(‏مِنْهُ‏)‏ وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنْ فَمِ الْمُحَدِّثِ أَوْ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏فَقَدْ رَأَوْا‏)‏ أَيْ‏:‏ أَهْلُ الْحَدِيثِ ‏(‏صَوَابَهُ الْحِفْظَ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ اعْتِمَادَ الْحِفْظِ إِذَا كَانَ ‏(‏مَعَ تَيَقُّنٍ‏)‏ وَتَثَبُّتٍ فِي حِفْظِهِ، أَمَّا مَعَ الشَّكِّ أَوْ سُوءِ الْحِفْظِ فَلَا، ‏(‏وَالْأَحْسَنُ‏)‏ مَعَ تَيَقُّنِ ‏(‏الْجَمْعُ‏)‏ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ‏:‏ حِفْظِي كَذَا وَكِتَابِي كَذَا‏.‏ كَمَا فَعَلَ هَمَّامٌ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى حُلَّةً بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً‏.‏ فَقَالَ‏:‏ هَكَذَا فِي حِفْظِي، وَفِي كِتَابِي ثَوْبَيْنِ‏.‏

هَذَا مَعَ عَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، فَالْحُلَّةُ لَا تُسَمَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفَعَلَهُ شُعْبَةُ حَيْثُ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ‏:‏ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ هَكَذَا فِي حِفْظِي، وَهُوَ سَاقِطٌ فِي كِتَابِي فِي آخَرِينَ مِنَ الْحُفَّاظِ‏.‏

وَذَلِكَ ‏(‏كَالْخِلَافِ مِمَّنْ يُتْقِنُ‏)‏ مِنَ الْحُفَّاظِ لَهُ فِيمَا حَفِظَهُ حَيْثُ يَحْسُنُ فِيهِ أَيْضًا- كَمَا كَانَ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا يَفْعَلُونَ- بَيَانُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَيَقُولُ‏:‏ فِي حِفْظِي كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِيهِ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

بَلْ قِيلَ لِشُعْبَةَ حِينَ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ فِي حِفْظِهِ كَذَلِكَ، وَفِي زَعْمِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ خِلَافُهُ-‏:‏ يَا أَبَا بِسْطَامَ، حَدِّثْنَا بِحِفْظِكَ وَدَعْنَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا أُحِبُّ أَنَّ عُمْرِيَ فِي الدُّنْيَا عُمُرُ نُوحٍ، وَأَنِّي حَدَّثْتُ بِهَذَا وَسَكَتُّ عَنْ هَذَا‏.‏

وَرُبَّمَا ذَكَرَ مَا قَدْ يَتَرَجَّحُ بِهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ وَقَالَ فِيهِ فُلَانٌ وَكَانَ أَحْفَظَ مِنِّي وَأَكْثَرَ مُجَالَسَةً لِشَيْخِهِ مِنِّي‏.‏

الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى

632- وَلْيَرْوِ بِالْأَلْفَاظِ مَنْ لَا يَعْلَمُ *** مَدْلُولَهَا وَغَيْرُهُ فَالْمُعْظَمُ

633- أَجَازَ بِالْمَعْنَى وَقِيلَ لَا الْخَبَرْ *** وَالشَّيْخُ فِي التَّصْنِيفِ قَطْعًا قَدْ حَظَرْ

634- وَلْيَقُلِ الرَّاوِي بِمَعْنًى أَوْ كَمَا *** قَالَ وَنَحْوَهُ كَشَكٍّ أُبْهِمَا

‏[‏الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِيهَا‏]‏‏:‏

الْفَصْلُ الثَّالِثُ‏:‏ ‏(‏الرِّوِايَةُ بِالْمَعْنَى‏)‏ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَالِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ رَوَى بِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏وَلْيَرْوِ بِالْأَلْفَاظِ‏)‏ الَّتِي سَمِعَ بِهَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا بِدُونِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ لِحَرْفٍ فَأَكْثَرَ، وَلَا إِبْدَالِ حَرْفٍ أَوْ أَكْثَرَ بِغَيْرِهِ، وَلَا مُشَدَّدٍ بِمُخَفَّفٍ أَوْ عَكْسِهِ، ‏(‏مَنْ‏)‏ تَحَمَّلَ مِنْ غَيْرِ التَّصَانِيفِ مِمَّنْ ‏(‏لَا يَعْلَمُ مَدْلُولَهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَلْفَاظِ فِي اللِّسَانِ، وَمَقَاصِدَهَا، وَمَا يُحِيلُ مَعْنَاهَا، وَالْمُحْتَمَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادِفَ مِنْهَا، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ بِتَغْيِيرِهِ مِنَ الْخَلَلِ‏.‏

أَلَا تَرَى إِلَى إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ كَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى شُعْبَةَ- مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِتْقَانِهِ- رِوَايَتَهُ بِالْمَعْنَى عَنْهُ لِحَدِيثِ النَّهْيِ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ بِلَفْظِ‏:‏ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ‏.‏ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ حَيْثُ لَمْ يَفْطِنْ لِمَا فَطِنَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ الَّذِي رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، مِنَ اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِالرِّجَالِ‏.‏

‏(‏وَأَمَّا غَيْرُهُ‏)‏ مِمَّنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُحَقِّقُهُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَرْبَابُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ‏.‏

‏(‏فَالْمُعْظَمُ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏أَجَازَ‏)‏ لَهُ الرِّوَايَةَ ‏(‏بِالْمَعْنَى‏)‏ إِذَا كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ أَدَّى مَعْنَى اللَّفْظِ الَّذِي بَلَغَهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَرْفُوعُ أَوْ غَيْرُهُ، كَانَ مُوجِبُهُ الْعِلْمَ أَوِ الْعَمَلَ، وَقَعَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، حَفِظَ اللَّفْظَ أَمْ لَا، صَدَرَ فِي الْإِفْتَاءِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، أَتَى بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ لَهُ أَمْ لَا، كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا أَوْ ظَاهِرًا، حَيْثُ لَمْ يَحْتَمِلِ اللَّفْظُ غَيْرَ ذَاكَ الْمَعْنَى وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِرَادَةُ الشَّارِعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ دُونَ التَّجَوُّزِ فِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ‏.‏

وَجَاءَ الْجَوَازُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ‏:‏ لَقِيتُ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَاجْتَمَعُوا فِي الْمَعْنَى وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ، فَقُلْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فَقَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُحِلْ مَعْنَاهُ‏.‏ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ‏.‏

وَقَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ إِنَّا قَوْمٌ عَرَبٌ، نُورِدُ الْأَحَادِيثَ فَنُقَدِّمُ وَنُؤَخِّرُ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ كُنْتُ أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْ عَشَرَةٍ، الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ‏.‏

وَمِمَّنْ كَانَ يَرْوِي بِالْمَعْنَى مِنَ التَّابِعِينَ‏:‏ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، فَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَنْقُلُونَ مَعْنًى وَاحِدًا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مُعَوَّلَهُمْ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَلِانْتِشَارِهِ أَجَابَ مَالِكٌ مَنْ سَأَلَهُ لِمَ لَمْ تَكْتُبْ عَنِ النَّاسِ وَقَدْ أَدْرَكْتَهُمْ مُتَوَافِرِينَ‏؟‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ لَا أَكْتُبُ إِلَّا عَنْ رَجُلٍ يَعْرِفُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ‏.‏ وَكَذَا تَخْصِيصُهُ تَرْكُ الْأَخْذِ عَمَّنْ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ بِكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُدَوَّنَ الْكُتُبُ وَالْحَدِيثُ فِي الصُّدُورِ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَخْلِطَ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ‏.‏

فِيهِ إِشَارَةٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ عَلَى الْمَعَانِي، وَإِلَّا فَلَوْ حَفِظَهُ لَفْظًا لَمَا أَنْكَرَهُ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِيمَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِلَفْظِ الْمُحَدِّثِ كَوْنَهُ عَاقِلًا لِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ‏.‏

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ‏:‏ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيًا لَهُ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ‏)‏‏.‏ فَلَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ هُوَ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَذْكُرْهُ كَذَلِكَ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ فَيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ لِلْعُلَمَاءِ‏.‏

ثُمَّ جَعَلَا مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَزَمَا بِالْجَوَازِ فِيهِمَا، وَمَثَّلَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ‏)‏ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، وَالنَّهْيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ‏)‏ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ نَهَى عَنْ كَذَا وَكَذَا‏.‏ لِأَنَّ “ افْعَلْ “ أَمْرٌ، وَ “ لَا تَفْعَلْ “ نَهْيٌ‏.‏

وَنَازَعَهُمَا الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ “ افْعَلْ “ لِلْوُجُوبِ، وَ “ لَا تَفْعَلْ لِلتَّحْرِيمِ “، بِخِلَافِ لَفْظِ الْأَمْرِ وَلَفْظِ النَّهْيِ‏.‏ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذِ “ افْعَلْ “ وَ “ لَا تَفْعَلْ “ حَقِيقَةً عِبَارَةٌ عَنْهُمَا‏.‏ وَكَذَا عَلَيْهِ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَقِّي وَالتَّحَرِّي خَوْفًا مِنْ إِحَالَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا‏.‏ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ‏:‏ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ‏.‏ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ مَنْ ذَهَبَ لِهَذَا شَدَّدَ فِيهِ أَكْثَرَ التَّشْدِيدِ، فَلَمْ يُجِزْ تَقْدِيمَ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ، وَحَرْفٍ عَلَى آخَرَ، وَلَا إِبْدَالَ حَرْفٍ بِآخَرَ، وَلَا زِيَادَةَ حَرْفٍ وَلَا حَذْفَهُ، فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ، وَلَا تَخْفِيفَ ثَقِيلٍ، وَلَا تَثْقِيلَ خَفِيفٍ، وَلَا رَفْعَ مَنْصُوبٍ، وَلَا نَصْبَ مَجْرُورٍ أَوْ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، بَلِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّفْظِ وَلَوْ خَالَفَ اللُّغَةَ الْفَصِيحَةَ‏.‏

وَكَذَا لَوْ كَانَ لَحْنًا، كَمَا بَيَّنَ تَفْصِيلَ هَذَا كُلِّهِ الْخَطِيبُ فِي ‏(‏الْكِفَايَةِ‏)‏ مِمَّا سَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ وَالسَّادِسِ وَالْعَاشِرِ قَرِيبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الدُّخُولِ فِي الْوَعِيدِ حَيْثُ عَزَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا لَمْ يَقُلْهُ، وَلِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لَهُ الْكَلِمُ اخْتِصَارًا‏.‏

وَغَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِأَقْصَى غَايَةٍ لَيْسَ مِثْلَهُ، بَلْ قَدْ يَظُنُّ تَوْفِيَةَ اللَّفْظِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا عُهِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ‏.‏

وَأَيْضًا فَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ بِأَشْيَاءَ قَصَدَ فِيهَا الْإِتْيَانَ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، نَحْوَ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَدِيثِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ‏)‏‏.‏ وَرَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِي عَلَّمَهُ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ أَخْذِ مَضْجَعِهِ إِذْ قَالَ‏:‏ وَ “ رَسُولِكَ “ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ لَا، وَنَبِيِّكَ “‏.‏ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ‏:‏ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْوَاقِعَ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِّفِقْ ذَلِكَ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمِمَّنِ اعْتَمَدَهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ فِي ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏ يُمَيِّزُ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ حَتَّى فِي حَرْفٍ مِنَ الْمَتْنِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ مَعْنًى، وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلَّا مَنْ هُوَ فِي الْعِلْمِ بِمَكَانٍ، بِخِلَافِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا سَلَكَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَبَقَهُمَا لِذَلِكَ شَيْخُهُمَا أَحْمَدُ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَهُ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَا‏:‏ أَنَا هِشَامٌ- قَالَ عَبَّادٌ‏:‏ ابْنُ زِيَادٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا‏)‏‏.‏ قَالَ عَبَّادٌ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا‏)‏‏.‏

وَرُبَّمَا نَشَأَ عَنْ نِسْبَةِ مَا يَزِيدُهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْأَنْسَابِ إِثْبَاتُ رَاوٍ لَا وُجُودَ لَهُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي سَابِعِ الْفُصُولِ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي “ أَبِي دَاوُدَ “ سَاقَ فِي الْأَذَانِ حَدِيثًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى بِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ‏)‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى‏:‏ ‏(‏أَنْ يَقُولُوا‏)‏‏.‏ وَبِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ خَيْرًا‏)‏ فَقَالَ‏:‏ وَلَمْ يَقُلْ عَمْرٌو‏:‏ ‏(‏لَقَدْ‏)‏‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏:‏ لَا‏)‏ يَجُوزُ ‏(‏فِي الْخَبَرِ‏)‏ يَعْنِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عَمَلًا كَـ‏(‏تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ‏)‏‏.‏ وَ‏(‏خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ‏)‏، وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عِلْمًا جَازَ، بَلْ وَفِي الْعَمَلِ أَيْضًا مَا يَجُوزُ بِالْمَعْنَى، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ خَاصَّةً، لِظُهُورِ الْخَلَلِ فِي اللِّسَانِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ فَهُمْ أَرْبَابُ اللِّسَانِ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْكَلَامِ‏.‏ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ، بَلْ جَزَمَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ فِي الصَّحَابِيِّ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ‏.‏ وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ مُعَاصِرِي الْخَطِيبِ، وَهُوَ حَفِيدُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي ‏(‏أَدَبِ الرِّوَايَةِ‏)‏، قَالَ‏:‏ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا قَيَّدَهُ الْإِسْنَادُ وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ لَفْظُهُ فَيَدْخُلَهُ الْكَذِبُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَحْفَظُ اللَّفْظَ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الَّتِي رُخِّصَ فِيهِ بِسَبَبِهَا، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى وَعَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَلَزِمَهُ أَدَاءُ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ بِتَرْكِهِ يَكُونُ كَاتِمًا لِلْأَحْكَامِ‏.‏ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي ‏(‏الْحَاوِي‏)‏ وَذَهَبَ إِلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْإِفْتَاءِ وَالْمُنَاظَرَةِ‏.‏ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ ‏(‏الْإِحْكَامِ‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ بِخِلَافِهِ بِهِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيلَ‏:‏ إِنَّ النِّزَاعَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَتَفَرَّعُ عَنِ النِّزَاعِ فِيهَا، وَهِيَ‏:‏ جَوَازُ إِقَامَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُقَامَ الْآخَرِ‏.‏ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْنَى الْغَامِضِ دُونَ الظَّاهِرِ‏.‏ أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ‏.‏

وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ فِي ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ وَالْجُمُودِ عَلَيْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْحَرَجِ وَالنَّصَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لَوْلَا الْمَعْنَى مَا حَدَّثْنَا‏.‏

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ‏:‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نُحَدِّثَكُمْ بِالْحَدِيثِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مَا حَدَّثْنَاكُمْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَقَالَ وَكِيعٌ‏:‏ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ‏.‏

وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مَعْرِفَةً مِنْهُ بِأَنَّ الْحِفْظَ قَدْ يَزِلُّ، لِتَحِلَّ لَهُمْ قِرَاءَتُهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُهُمْ فِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي اخْتِلَافِهِمْ إِحَالَةُ مَعْنًى، كَانَ مَا سِوَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِيهِ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ مَا لَمْ يُحِلْ مَعْنَاهُ‏.‏

وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ الْقُرْآنُ أَعْظَمُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَرُخِّصَ أَنْ نَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏.‏ وَكَذَا قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ‏:‏ سَأَلْنَا الزُّهْرِيَّ عَنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ‏!‏ إِذَا أَصَبْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ؛ فَلَمْ تُحِلَّ بِهِ حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمْ بِهِ حَلَالًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ‏.‏

بَلْ قَالَ مَكْحُولٌ وَأَبُو الْأَزْهَرِ‏:‏ دَخَلْنَا عَلَى وَاثِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْنَا لَهُ‏:‏ حَدِّثْنَا بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَ وَهْمٌ وَلَا تَزَيُّدٌ وَلَا نِسْيَانٌ، فَقَالَ‏:‏ هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا‏؟‏ فَقُلْنَا‏:‏ نَعَمْ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِحَافِظَيْنِ جِدًّا، إِنَّا لَنَزِيدُ الْوَاوَ وَالْأَلِفَ وَنَنْقُصُ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَهَذَا الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا تَأْلُونَهُ حِفْظًا، وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَزِيدُونَ فِيهِ وَتَنْقُصُونَ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِأَحَادِيثَ سَمِعْنَاهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَسَى أَلَّا نَكُونَ سَمِعْنَاهَا مِنْهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، حَسْبُكُمْ إِذَا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى‏.‏

وَاحْتَجَّ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِشِهَابٍ قَبَسٍ‏}‏، وَ‏{‏بِقَبَسٍ‏}‏ أَوْ ‏{‏جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ‏}‏، وَكَذَلِكَ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمْ لِقَوْمِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ إِلَيْنَا ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِـ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ‏}‏، وَقُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاللَّهِ الْوَاحِدِ الصَّمَدِ‏.‏ فَسَمَّى السُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْمَعْنَى‏.‏

وَمِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- مَا حَكَى فِيهِ الْخَطِيبُ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ مِنْ جَوَازِ شَرْحِ الشَّرِيعَةِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ لِلْعَارِفِ بِهِ، فَإِذَا جَازَ الْإِبْدَالُ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَجَوَازُهُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاسْتَأْنَسُوا لِلْجَوَازِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ‏:‏ قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ فَلَا نَقْدِرُ أَنْ نُؤَدِّيَهُ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمُوا حَلَالًا، وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى، فَلَا بَأْسَ‏)‏‏.‏

وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ، بَلْ ذَكَرَهُ الْجُوزْقَانِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي “ الْمَوْضُوعَاتِ “، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ‏.‏

وَكَذَا اسْتَأْنَسُوا لَهُ بِمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى عُرِفَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالُوا‏:‏ ‏(‏يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ هَذَا وَنَحْنُ نَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ فَنَزِيدُ وَنَنْقُصُ، وَنُقَدِّمُ وَنُؤَخِّرُ‏)‏‏.‏

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَمْ أَعْنِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَنَيْتُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ يُرِيدُ عَيْبِي وَشَيْنَ الْإِسْلَامِ‏)‏‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ إِنَّهُ أَيْضًا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، اتَّفَقُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، بَلْ قَالَ صَالِحٌ جَزَرَةُ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ‏.‏ لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي ‏(‏مُسْنَدِهِ‏)‏، وَالْخَطِيبُ فِي ‏(‏كِفَايَتِهِ‏)‏، مَعًا مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَتَمَّ مِنْهُ‏.‏ وَبِهِ تَعَلَّقَ بَعْضُ الْوَضَّاعِينَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ هُنَاكَ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ يَدْفَعُهُ الْقَطْعُ بِنَقْلِ أَحَادِيثَ- كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا- فِي وَقَائِعَ مُتَّحِدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، بِحَيْثُ كَانَ إِجْمَاعًا، وَالْقَصْدُ قَطْعًا مَعَ إِيرَادِ اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى، وَهُوَ حَاصِلٌ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الشَّارِعِ أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ مَعْنَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِلْحَاقُ حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ التَّوْقِيفِيَّاتِ لَا دَلِيلَ لَهُ كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ‏.‏

وَحَدِيثُ ‏(‏نَضَّرَ اللَّهُ‏)‏ رُبَّمَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلْجَوَازِ، لِكَوْنِهِ مَعَ مَا قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ‏:‏ كَـ‏(‏رَحِمَ اللَّهُ‏)‏، وَ ‏(‏مَنْ سَمِعَ‏)‏، وَ ‏(‏مَقَالَتِي‏)‏، وَ‏(‏بَلَّغَهُ‏)‏، وَ‏(‏أَفْقَهُ‏)‏، وَ‏(‏لَا فِقْهَ لَهُ‏)‏ مَكَانَ ‏(‏نَضَّرَ اللَّهُ‏)‏، وَ‏(‏امْرَأً‏)‏، وَ‏(‏مِنَّا حَدِيثًا‏)‏، وَ‏(‏أَدَّاهُ‏)‏، وَ‏(‏أَوْعَى‏)‏، وَ‏(‏لَيْسَ بِفَقِيهٍ‏)‏‏.‏

لَا سِيَّمَا وَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِفِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوَعَى مِنْ سَامِعٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ‏)‏‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ‏:‏ ‏(‏لَا وَنَبِيِّكَ‏)‏ فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ مُتَّحِدٌ؛ لِأَنَّ الذَّاتَ الْمُحَدَّثَ عَنْهَا وَاحِدَةٌ، فَالْمُرَادُ يُفْهَمُ بِأَيِ صِفَةٍ وُصِفَ بِهَا الْمَوْصُوفُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَنْعَ لِكَوْنِ أَلْفَاظِ الْأَذْكَارِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ تَوْقِيفِيَّةً، وَلَهَا خَصَائِصُ وَأَسْرَارٌ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، فَتَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُورِدَ الْأَحَادِيثَ بِأَلْفَاظِهَا كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ- فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ- يَتَوَقَّى كَثِيرًا، وَيُحِبُّ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْأَلْفَاظِ‏.‏ هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَحَمَّلَ مِنْ غَيْرِ التَّصَانِيفِ‏.‏

وَالشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي ‏(‏التَّصْنِيفِ‏)‏ الْمُدَوَّنِ ‏(‏قَطْعًا قَدْ حَظَرَ‏)‏ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ‏:‏ مَنَعَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتَ لَفْظٍ آخَرَ بَدَلَهُ بِمَعْنَاهُ، بِدُونِ إِجْرَاءِ خِلَافٍ مِنْهُ، بَلْ وَلَا عُلِمَ غَيْرُهُ أَجْرَاهُ، لِكَوْنِ الْمَشَقَّةِ فِي ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ وَالْجُمُودِ عَلَيْهَا الَّتِي هُوَ مُعَوَّلُ التَّرْخِيصِ مُنْتَفِيَةً فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، يَعْنِي كَمَا هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَحْكِيِّ فِيهِ الْمَنْعُ لِحَافِظِ اللَّفْظِ، وَأَيْضًا فَهُوَ إِنْ مَلَكَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يَمْلِكُ تَغْيِيرَ تَصْنِيفِ غَيْرِهِ‏.‏

وَهَذَا قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْمَنْعِ بِمَا إِذَا رَوَيْنَا التَّصْنِيفَ نَفْسَهُ أَوْ نَسَخْنَاهُ، أَمَّا إِذَا نَقَلْنَا مِنْهُ إِلَى تَخَارِيجِنَا وَأَجْزَائِنَا فَلَا، إِذِ التَّصْنِيفُ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَالِكٌ لِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ‏.‏ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَقَرَّهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ نَازَعَ الْمُؤَلِّفُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ لَا يَجْرِي عَلَى الِاصْطِلَاحِ، فَإِنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَنْ لَا تُغَيَّرَ الْأَلْفَاظُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ، سَوَاءٌ رَوَيْنَا فِيهَا أَوْ نَقَلْنَا مِنْهَا‏.‏

وَوَافَقَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي كَوْنِهِ الِاصْطِلَاحَ، لَكِنَّ مَيْلَ شَيْخِنَا إِلَى الْجَوَازِ إِذَا قُرِنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ “ بِنَحْوِهِ “‏.‏

وَيَشْهَدُ لَهُ تَسْوِيَةُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رَابِعِ التَّنْبِيهَاتِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ‏.‏

‏[‏الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقُولُهَا الرَّاوِي بِالْمَعْنَى‏]‏‏:‏

‏(‏وَلْيَقُلِ الرَّاوِي‏)‏ عَقِبَ إِيرَادِهِ لِلْحَدِيثِ ‏(‏بِمَعْنَى‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْمَعْنَى، ‏(‏أَوْ كَمَا قَالَ‏)‏، فَقَدْ كَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْبَابِ الْمَعْقُودِ لِمَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى- يَقُولُهَا عَقِبَ الْحَدِيثِ ‏(‏وَنَحْوَهُ‏)‏ مِنَ الْأَلْفَاظِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ أَوْ نَحْوَ هَذَا، أَوْ شِبْهَهُ، أَوْ شَكْلَهُ‏.‏

فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ ثُمَّ أُرْعِدَ وَأُرْعِدَتْ ثِيَابُهُ، وَقَالَ‏:‏ أَوْ شِبْهُ ذَا أَوْ نَحْوُ ذَا‏.‏ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ هَذَا، أَوْ نَحْوُ هَذَا، أَوْ شَكْلُهُ‏.‏

وَرَوَاهَا كُلَّهَا الدَّارِمِيُّ فِي ‏(‏مُسْنَدِهِ‏)‏ بِنَحْوِهَا، وَلَفْظُهُ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ قَالَ، أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ نَحْوُهُ، أَوْ شَبِيهٌ بِهِ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِغَيْرِهِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ سَمِعَ يَوْمًا ابْنَ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَلَاهُ كَرْبٌ، وَجَعَلَ الْعَرَقُ يَنْحَدِرُ مِنْهُ عَنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ إِمَّا فَوْقَ ذَلِكَ، وَإِمَّا دُونَ ذَلِكَ، وَإِمَّا قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَهَذَا ‏(‏كَشَكٍّ‏)‏ مِنَ الْمُحَدِّثِ أَوِ الْقَارِئِ ‏(‏أُبْهِمَا‏)‏ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏ بَلْ أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ حَدِيثًا، وَفِي آخِرِهِ‏:‏ قَالَ الْعَبَّاسُ‏:‏ هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ إِلَّا أَنْ أُخْطِئَ شَيْئًا لَا أُرِيدُهُ، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَهُوَ- أَيِ الْقَوْلُ- كَمَا قَالَ فِي الشَّكِّ- الصَّوَابُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏أَوْ كَمَا قَالَ‏)‏ يَتَضَمَّنُ إِجَازَةً مِنَ الرَّاوِي وَإِذْنًا فِي رِوَايَةِ الصَّوَابِ عَنْهُ إِذَا بَانَ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ إِفْرَادُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ‏.‏ يَعْنِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَالصَّحَابَةُ أَصْحَابُ اللِّسَانِ وَأَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِلَّا تَخَوُّفًا مِنَ الزَّلَلِ‏.‏ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الْخَطَرِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَإِدْرَاجُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَهُمْ فِي الْمُجِيزِينَ، إِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ صَنِيعِهِمْ هَذَا، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَا يَصِحُّ فَهْمُهُ‏.‏

الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ

635- وَحَذْفَ بَعْضِ الْمَتْنِ فَامْنَعْ أَوْ أَجِزْ *** أَوْ إِنْ أُتِمْ أَوْ لِعَالِمٍ وَمِزْ

636- ذَا بِالصَّحِيحِ إِنْ يَكُنْ مَا اخْتَصَرَهْ *** مُنْفَصِلًا عَنِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَهْ

637- وَمَا لِذِي تُهْمَةٍ أَنْ يَفْعَلَهْ *** فَإِنْ أَبَى فَجَازَ أَلَّا يُكْمِلَهْ

638- أَمَّا إِذَا قُطِّعَ فِي الْأَبْوَابِ *** فَهْوَ إِلَى الْجَوَازِ ذُو اقْتِرَابِ

‏[‏عَدَمُ جَوَازِ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ‏]‏‏:‏

الْفَصْلُ الرَّابِعُ‏:‏ الِاقْتِصَارُ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَرُبَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالِاخْتِصَارِ مَجَازًا، وَتَفْرِيقُ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ عَلَى الْأَبْوَابِ‏.‏

‏(‏وَحَذْفَ‏)‏ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ ‏(‏بَعْضِ الْمَتْنِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمُثْبَتِ ‏(‏فَامْنَعْ‏)‏ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَكٍّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ لَهُ تَامًّا أَمْ لَا، كَانَ عَارِفًا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَلُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، بِنَاءً- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ- عَلَى مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَلَى النُّقْصَانِ، وَالْحَذْفَ لِبَعْضِ مَتْنِهِ، تَقْطَعُ الْخَبَرَ وَتُغَيِّرُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَرُبَّمَا حَصَلَ الْخَلَلُ وَالْمُخْتَصِرُ لَا يَشْعُرُ‏.‏

قَالَ عَنْبَسَةُ‏:‏ قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ‏:‏ عَلِمْتُ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصِرَ الْحَدِيثَ فَيَقْلِبَ مَعْنَاهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَقَالَ لِي‏:‏ أَوَ فَطِنْتَ لَهُ‏؟‏ وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ‏:‏ إِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فَحُسِمَتِ الْمَادَّةُ لِذَلِكَ‏.‏ هَذَا الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ، وَنَاهِيكَ بِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏‏:‏ “ إِيجَابُ دُخُولِ النَّارِ لِمَنْ أَسْمَعَ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا يَكْرَهُونَ “، وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏مَنْ سَمِعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا دَخَلَ النَّارَ‏)‏‏.‏ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ، وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ، فَلَفْظُ الْحَدِيثِ‏:‏ ‏(‏مَنْ سَمِعَ بِي مِنْ أُمَّتِي أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي دَخَلَ النَّارَ‏)‏‏.‏

وَكَذَا تَرْجَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي ‏(‏أَحْكَامِهِ‏)‏ “ الْوَلِيمَةُ عَلَى الْأُخُوَّةِ “، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ‏:‏ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، لِكَوْنِ الْبُخَارِيِّ أَوْرَدَهُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ مِنْ ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏ بِاخْتِصَارِ قِصَّةِ التَّزْوِيجِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْإِخَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْوَلِيمَةِ، فَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لِلْأُخُوَّةِ، وَلَيْسَ كَذِلِكَ، وَالْحَدِيثُ قَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ تَامًّا فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ، وَلَيْسَتِ الْوَلِيمَةُ فِيهِ إِلَّا لِلنِّكَاحِ جَزْمًا‏.‏

وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ‏.‏ وَاحْتُجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ‏)‏‏.‏ وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى أَنْ يُخْتَصَرَ الْحَدِيثُ إِذَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ يَعْنِي دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَشْهَبُ إِذْ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْأَحَادِيثِ يُقَدَّمُ فِيهَا وَيُؤَخَّرُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ‏:‏ أَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُزَادَ فِيهَا وَيُنْقَصَ مِنْهَا، وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا‏.‏ بَلْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُ لَا يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ‏.‏

فَإِنْ كَانَ لِشَكٍّ فَهُوَ- كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَتَبِعَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ- سَائِغٌ، كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُهُ كَثِيرًا تَوَرُّعًا، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ إِذَا شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، نَعَمْ إِنْ تَعَلَّقَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ بِالْمُثْبَتِ كَقَوْلِ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي حَدِيثِ الرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَا‏:‏ ‏(‏فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةٍ أَوْسُقٍ‏)‏، فَلَا‏.‏

‏[‏جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا‏]‏‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ هُوَ الْقَوَلُ الثَّانِي ‏(‏أَجِزْ‏)‏ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَاجَ إِلَى تَغْيِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى أَمْ لَا، تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ لَهُ تَامًّا أَمْ لَا، لِمَا سَيَجِيءُ قَرِيبًا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ حَيْثُ قَالَ‏:‏ انْقُصْ مِنَ الْحَدِيثِ مَا شِئْتَ، وَلَا تَزِدْ فِيهِ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ‏:‏ إِذَا خِفْتَ أَنْ تُخْطِئَ فِي الْحَدِيثِ فَانْقُصْ مِنْهُ وَلَا تَزِدْ‏.‏ وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ لِمُسْلِمٍ، وَالْمَوْجُودُ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي‏.‏

‏[‏جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ مَعَ الشُّرُوطِ‏]‏‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ‏:‏ التَّفْصِيلُ، فَأَجِزْهُ ‏(‏إِنْ أُتِمَّ‏)‏ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، إِيرَادُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَرَّةً بِحَيْثُ أُمِنَ بِذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ حُكْمٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ جَازَتْ عِنْدَ قَائِلِهِ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ- الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ‏:‏ فَأَجِزْهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، إِنْ وَقَعَ ‏(‏لِعَالِمٍ‏)‏ عَارِفٍ، وَإِلَّا فَلَا، ‏(‏وَمِزْ‏)‏‏.‏ أَيْ‏:‏ مَيِّزْ ‏(‏ذَا‏)‏ الْقَوْلَ عَنْ سَائِرِهَا بِوَصْفِهِ ‏(‏بِالصَّحِيحِ إِنْ يَكُنْ مَا اخَتَصَرَهُ‏)‏ بِالْحَذْفِ مِنَ الْمَتْنِ ‏(‏مُنْفَصِلًا عَنِ‏)‏ الْقَدْرِ ‏(‏الَّذِي قَدْ ذَكَرَهُ‏)‏ مِنْهُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، بِحَيْثُ لَا يَخْتَلُّ الْبَيَانُ وَلَا تَخْتَلِفُ الدَّلَالَةُ فِيمَا نَقَلَهُ بِتَرْكِ مَا حَذَفَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا يُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ‏)‏‏.‏ وَالْغَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا يُبَاعُ النَّخْلُ حَتَّى تَزْهَى‏)‏‏.‏ وَالشَّرْطِ وَنَحْوِهَا‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏(‏الْمُسْتَصْفَى‏)‏‏:‏ وَمَنْ جَوَّزَهُ شَرَطَ عَدَمَ تَعَلُّقِ الْمَذْكُورِ بِالْمَتْرُوكِ تَعَلُّقًا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ، كَشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَوْ رُكْنِهَا، فَنَقْلُ الْبَعْضِ تَحْرِيفٌ وَتَلْبِيسٌ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَرْكًا لِنَقْلِ الْعِبَادَةِ، كَنَقْلِ بَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، أَوْ تَرْكًا لِنَقْلِ فَرْضٍ آخَرَ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ، كَتَرْكِ نَقْلِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا يَحِلُّ الِاخْتِصَارُ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ لِبَعْضِ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي بِهِمَا فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا رِجْسٌ، ابْغِ لِي ثَالِثًا‏)‏ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا عَدَا قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏ابْغِ لِي ثَالِثًا‏)‏‏.‏

وَإِنْ كَانَ لَا يُخِلُّ بِرَمْيِ الرَّوْثَةِ وَأَنَّهَا رِجْسٌ، لِإِيهَامِهِ الِاكْتِفَاءَ بِحَجَرَيْنِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْإِمَامُ لِمِثْلِ هَذَا بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الرَّاوِي الِاحْتِجَاجَ بِهِ لِمَنْعِ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ، فَيَسُوغُ حِينَئِذٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ غَرَضًا خَاصًّا فَلَا‏.‏ وَفِيهِ تَوَقُّفٌ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُجِزِ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ، وَالَّذِي حَذَفَهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ فِي أَمْرَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ فِي مُقَدِّمَةِ ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏‏:‏ إِنَّهُ لَا يُكَرَّرُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تِرْدَادِ حَدِيثٍ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى، أَوْ إِسْنَادٌ يَقَعُ إِلَى جَنْبِ إِسْنَادٍ لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ يَفْصِلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَارِهِ إِذَا أَمْكَنَ، وَلَكِنَّ تَفْصِيلَهُ رُبَّمَا عَسَّرَ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ‏.‏

فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ فَلَا نَتَوَلَّى فِعْلَهُ‏.‏ وَالْقَصْدُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ إِذَا أَمْكَنَ “ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ وَلَكِنَّ تَفْصِيلَهُ “ إِلَى آخِرِهِ‏.‏ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُ لَا يَفْصِلُ إِلَّا مَا لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْبَاقِي، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الِارْتِبَاطِ أَوْ عَدِمِهِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ وَهَيْئَتِهِ لِيَكُونَ أَسْلَمَ، مَخَافَةً مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ‏.‏ قَالَهُ النَّوَوِيُّ‏.‏

وَسَوَاءٌ فِي الْجَوَازِ لِلْعَارِفِ بِشَرْطِهِ، رَوَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، تَامًّا أَمْ لَا، قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، لَكِنَّ مَحَلَّ تَسْوِيغِ رِوَايَتِهِ أَيْضًا نَاقِصًا إِذَا كَانَ رَفِيعَ الْمَنْزِلَةِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالثِّقَةِ بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ بِهِ زِيَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، أَوْ نِسْيَانُ مَا سَمِعَهُ لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ، ‏(‏وَ‏)‏ إِلَّا فَـ ‏(‏مَا لِذِي‏)‏ بِكَسْرِ اللَّامِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ‏:‏ صَاحِبِ خَوْفٍ مِنْ تَطَرُّقِ ‏(‏تُهْمَةٍ‏)‏ إِلَيْهِ بِذَلِكَ ‏(‏أَنْ يَفْعَلَهُ‏)‏ سَوَاءٌ رَوَاهُ كَذَلِكَ ابْتِدَاءً حَيْثُ عَلِمَ مِنْ رِوَايَتِهِ لَهُ أَيْضًا بَعْدُ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَنَّهُ عِنْدَهُ بِأَزْيَدَ، أَوْ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ تَامًّا، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذِهِ الظِّنَّةَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِي فِي ‏(‏الْمُسْتَصْفَى‏)‏ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْجَوَازِ رِوَايَتَهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ‏:‏ إِنَّ شَرْطَهُ أَلَّا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُتَّهَمُ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ‏.‏

وَمِمَّنْ أَشَارَ لِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ لِلْخَوْفِ مِنْ إِسَاءَةِ الظَّنِّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَعِبَارَتُهُ‏:‏ إِنَّ التَّحَرُّزَ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ الظَّنَّ السُّوءَ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى إِبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ‏.‏ وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْخَرَائِطِيِّ مَا يَشْهَدُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏.‏

‏(‏فَإِنْ‏)‏ خَالَفَ ‏(‏وَأَبَى‏)‏ إِلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِعَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، ‏(‏فَجَازَ‏)‏ لِهَذَا الْعُذْرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ‏:‏ إِذَا لَمْ يَكُنْ رَوَاهُ قَبْلُ تَامًّا ‏(‏أَلَّا يُكْمِلَهُ‏)‏ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَكْتُمَ الزِّيَادَةَ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُرَتَّبَةَ عَلَى الْكَتْمِ وَتَضْيِيعِ الْحُكْمِ أَشَدُّ مِنَ الِاتِّهَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَشَدُّ الْمَفْسَدَتَيْنِ يُتْرَكُ بِارْتِكَابِ الْأَخَفِّ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا خُصُوصًا‏.‏

وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ، وَأَخَصُّ مِنْهُ إِذَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا مَقْبُولَةٌ‏.‏ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي شَيْءٍ تَحَمَّلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْعُذْرُ عَلَى أَنَّهُ عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِهْمَالِ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى هَذَا أَيْضًا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ بِاعْتِبَارِ التَّأْخِيرِ عَنْهَا‏.‏

نَعَمْ قَيَّدَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْمَنْعَ مِنَ الِاخْتِصَارِ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ بِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتَطَرُّقِ الِاتِّهَامِ إِلَيْهِ وَكَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تَمَامِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ ابْتِدَاءً نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعَرِّضُ الزَّائِدَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ حَيِّزِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوِ الْمُتَابَعَةِ وَنَحْوِهَا‏.‏

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ لِمُطْلَقِ الْجَوَازِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَلَّى صَلَاةً ابْتَدَأَ فِيهَا بِسُورَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ذِكْرَ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَخَذَتْهُ سُعْلَةٌ فَرَكَعَ‏.‏

وَإِذَا كَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ قَدْ فَعَلَ هَذَا فِي سَيِّدِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَفَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ؛ كَانَ غَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى‏.‏ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ‏:‏ الْعِلَّةُ فِي جَوَازِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ حِفْظُهُ فِي الصُّدُورِ، مَوْجُودَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، حَيْثُ أَمِنَّا الْإِلْبَاسَ مِنْ حَذْفٍ الْبَّاقِي‏.‏

وَنَحْوُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏قَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ‏)‏ قَالَ‏:‏ كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ‏.‏ فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَكَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ- فِيمَا قِيلَ- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏نَضَّرَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي فَلَمْ يَزِدْ فِيهَا‏)‏ إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزِ النَّقْصُ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ، وَأَيْضًا فَعُمْدَةُ الرِّوَايَةِ فِي التَّجْوِيزِ هُوَ الصِّدْقُ، وَعُمْدَتُهَا فِي التَّحْرِيمِ هُوَ الْكَذِبُ، وَفِي مِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ الصِّدْقُ حَاصِلٌ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ‏.‏ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ‏:‏ فَإِنِ احْتَاجَ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَهُوَ خَارِجٌ عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ فِي الرِّوَايَةِ‏.‏

‏[‏تَقْطِيعُ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ فِي الْأَبْوَابِ‏]‏‏:‏

‏(‏أمَّا إِذَا قُطِّعَ‏)‏ الْمَتْنُ الْوَاحِدُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عِدَّةِ أَحْكَامٍ، كَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهِ، ‏(‏فِي الْأَبْوَابِ‏)‏ الْمُتَفَرِّقَةِ بِأَنْ يُورِدَ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهُ فِي الْبَابِ الْمَعْقُودِ لَهَا، ‏(‏فَهُوَ‏)‏ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَابَعَهُ، يَعْنِي‏:‏ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَوَارِضِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَسْرِهَا، ‏(‏إِلَى الْجَوَازِ‏)‏ مِنَ الْخِلَافِ ‏(‏ذُو اقْتِرَابٍ‏)‏، وَمِنَ الْمَنْعِ ذُو ابْتِعَادٍ‏.‏

وَصَرَّحَ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَنْعَ ظَاهِرُ صَنِيعِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ مَا قَصَدَهُ الْبُخَارِيُّ مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ يُورِدُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْطِيعٍ لَهُ وَلَا اخْتِصَارٍ إِذَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ‏.‏ مِثْلَ حَدِيثِ فُلَانٍ أَوْ نَحْوَهُ‏.‏

وَلَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ‏:‏ إِنَّهُ يَبْعُدُ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، بَلْ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَإِنِ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّشِيدِ خِلَافَهُ، وَنُسِبَ أَيْضًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالتَّأْلِيفِ‏.‏

وَكَذَا حَكَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَفْعَلَ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ كَرَاهَةٍ‏.‏ يَعْنِي‏:‏ فَإِنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي أُورِدَ عَلَيْهَا‏.‏ لَكِنْ قَدْ نَازَعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ‏:‏ مَا أَظُنُّ غَيْرَهُ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ بَالَغَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ وَكَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَحَبًّا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لَا سِيَّمَا إِذْا كَانَ الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ تِلْكَ الْقِطْعَةِ يَدِقُّ، فَإِنَّ إِيرَادَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِتَمَامِهِ يَقْتَضِي مَزِيدَ تَعَبٍ فِي اسْتِخْلَاصِهِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ، فَفِيهِ تَخْفِيفٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ‏(‏شَرْحِ الْإِلْمَامِ‏)‏ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ الْمَحْذُوفُ بِالْبَاقِي فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنْ نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَرَتَّبَتِ الْكَرَاهَةُ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِ فِي ظُهُورِ ارْتِبَاطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَخَفَائِهِ‏.‏