فصل: (اتِّخَاذُ الْمُسْتَمْلِي وَأَوْصَافُهُ وَآدَابُهُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


‏[‏اتِّخَاذُ الْمُسْتَمْلِي وَأَوْصَافُهُ وَآدَابُهُ‏]‏

‏(‏ثُمَّ إِنْ تَكْثُرْ جُمُوعٌ‏)‏ مِنَ الْحَاضِرِينَ ‏(‏فَاتَّخِذْ‏)‏ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، ‏(‏مُسْتَمْلِيًا‏)‏ يَتَلَقَّنُ مِنْكَ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَقِلْ فَلَا؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ غَالِبًا، ثِقَةً ‏(‏مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ‏)‏ وَفَهْمٍ وَبَرَاعَةٍ فِي الْفَنِّ، يُبَلِّغُ عَنْكَ الْإِمْلَاءَ إِلَى مَنْ بَعُدَ فِي الْحَلْقَةِ اقْتِدَاءً بِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ كَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ‏.‏

بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ‏)‏‏.‏

وَالْحَذَرَ أَنْ يَكُونَ مُغَفَّلًا بَلِيدًا، كَالْمُسْتَمْلِي الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ- وَقَدْ قَالَ لَهُ‏:‏ ثَنَا عِدَّةٌ‏.‏ مَا نَصُّهُ-‏:‏ عِدَّةُ ابْنُ مَنْ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي‏:‏ عِدَّةُ ابْنُ فَقَدْتُكَ‏.‏

وَكَالْآخَرِ الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ- وَقَدْ قَالَ لَهُ‏:‏ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولٌ، كَذَا فِي كِتَابِي، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏ مَا نَصُّهُ-‏:‏ قَالَ رَسُولٌ، وَشَكَّ أَبُو عُثْمَانَ- وَهِيَ كُنْيَةُ الْمُمْلِي- فِي اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي‏:‏ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي اللَّهِ قَطُّ‏.‏

وَكَالْآخَرِ الَّذِي كَانَ مُمْلِيهِ يَقُولُ لَهُ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ‏.‏ فَيَكْتُبُهُ‏:‏ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَيَسْتَمْلِيهِ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فَلَا يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ أَصْلًا فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ فَيَضْرِبُهَا، فَتَسْتَغِيثُ الْمَرْأَةُ بِالْمُمْلِي‏.‏ فِي حِكَايَاتٍ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مُضْحِكَةٍ، تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ قَبْلَهُ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ فِي كَاتِبٍ‏:‏

أَقُولُ لَهُ بَكْرًا فَيَسْمَعُ خَالِدًا *** وَيَكْتُبُهُ زَيْدًا وَيَقْرَؤُهُ عَمْرَا

وَأَيْضًا‏:‏

يَعِي غَيْرَ مَا قُلْنَا وَيَكْتُبُ غَيْرَ مَا *** وَعَاهُ وَيَقْرَأُ غَيْرَ مَا هُوَ كَاتِبُ

فَإِنْ تَكَاثَرَ الْجَمْعُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي وَاحِدٌ، فَزِدْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَقَدْ كَانَ لِعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي حُزِرَ مَجْلِسُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، مُسْتَمْلِيَانِ‏.‏ وَلِأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ الَّذِي حُزِرَ بِنَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ سِوَى النَّظَّارَةِ، سَبْعَةٌ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ‏.‏

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمْلِي جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، فَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالطَّبَّالِ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُقَيِّدًا لَهُ بِمَا إِذَا كَثُرَ الْعَدَدُ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ وَجْهَهُ، ‏(‏مُسْتَوِيَا‏)‏ أَيْ‏:‏ جَالِسًا، ‏(‏بِـ‏)‏ مَكَانٍ ‏(‏عَالٍ‏)‏، مِنْ كُرْسِيٍّ وَنَحْوِهِ، ‏(‏أَوْ فَقَائِمًا‏)‏ عَلَى رِجْلَيْهِ كَابْنِ عُلَيَّةَ بِمَجْلِسِ مَالِكٍ، وَآدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ بِمَجْلِسِ شُعْبَةَ، بَلْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقْرَأُ عَلَى شَيْخِنَا وَهُوَ قَائِمٌ، وَفَعَلْتُهُ مَعَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجُلُوسَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ أَوْ قَائِمًا أَبْلَغُ لِلسَّامِعِينَ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْحَدِيثِ وَإِجْلَالٌ لَهُ‏.‏

‏(‏يَتْبَعُ‏)‏ ذَلِكَ الْمُسْتَمْلِي ‏(‏مَا يَسْمَعُهُ‏)‏ مِنْكَ وَيُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى الْوُجُوبِ، وَعِبَارَتُهُمَا مَعًا‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُخَالِفَ لَفْظَ الْمُمْلِي فِي التَّبْلِيغِ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ خَاصَّةً إِذَا كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَحْكَامِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا يُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ‏.‏ إِلَى آخِرِهِ‏.‏

‏(‏مُبَلِّغًا‏)‏ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لَفْظُ الْمُمْلِي، ‏(‏أَوْ مُفْهِمَا‏)‏ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ عَلَى بُعْدٍ وَلَمْ يَتَفَهَّمْهُ، فَيَتَوَصَّلُ بِصَوْتِ الْمُسْتَمْلِي إِلَى تَفَهُّمِهِ وَتَحَقُّقِهِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَمْلِي، دُونَ الْمُمْلِي فِي الْفَرْعِ الْخَامِسِ مِنَ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏[‏آدَابُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِمْلَاءِ‏]‏

‏(‏وَاسْتَحْسَنُوا‏)‏ أَيْ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِلْإِمْلَاءِ ‏(‏الْبَدْءَ‏)‏ فِي مَجَالِسِهِمْ ‏(‏بـِ‏)‏ قِرَاءَةِ ‏(‏قَارِئٍ‏)‏ هُوَ الْمُسْتَمْلِي كَمَا لِلْخَطِيبِ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُمْلِي، كَمَا لِلرَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، ‏(‏تَلَا‏)‏ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّعْيِينِ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ‏.‏

وَعَيَّنَ الرَّافِعِيُّ وَالْخَطِيبُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْلُوُّ سُورَةً، زَادَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ خَفِيفَةً‏.‏ قَالَ‏:‏ وَيُخْفِيهَا فِي نَفْسِهِ‏.‏ كَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِخْلَاصِ‏.‏ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِشَيْخِهِ سُورَةَ “ الْأَعْلَى “ لِذَلِكَ‏.‏ وَكَأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ فِيهَا‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏‏.‏

وَالْأَصْلُ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ، وَقَرَءُوا سُورَةً‏)‏‏.‏

بَلْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ‏(‏رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ‏)‏ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْفِقْهِ يَأْمُرُونَ أَنْ يَقْرَأَ رَجُلٌ سُورَةً‏)‏‏.‏

‏(‏وَبَعْدَهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمَتْلُوِّ، ‏(‏اسْتَنْصَتَ‏)‏ الْمُمْلِي- كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُسْتَمْلِي كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- أَهْلَ الْمَجْلِسِ حَيْثُ احْتِيجَ لِذَلِكَ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَرِيرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ‏:‏ ‏(‏اسْتَنْصِتِ النَّاسَ‏)‏‏.‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ إِنْصَاتِهِمْ ‏(‏بَسْمَلَا‏)‏ الْمُسْتَمْلِي أَيْ قَالَ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏.‏ وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ يَقُولُهُ، ‏(‏فَـ‏)‏ يَلِيهِ ‏(‏الْحَمْدُ‏)‏ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ‏(‏فَـ‏)‏ يَلِيهِ ‏(‏الصَّلَاةُ‏)‏ مَعَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ‏)‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏(‏بِحَمْدِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ ‏(‏وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ‏)‏-‏(‏فَهُوَ أَقْطَعُ‏)‏‏.‏ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الرِّوَايَاتِ وَحَازَ الْأَكْمَلَ فِي فَضِيلَتِهَا‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمُمْلِي ‏(‏يَقُولُ‏)‏ لَهُ‏:‏ ‏(‏مَنْ‏)‏ ذَكَرْتَ مِنَ الشُّيُوخِ ‏(‏أَوْ مَا ذَكَرْتَ‏)‏ مِنَ الْأَحَادِيثِ‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَلَا يَقُولُ‏:‏ مَنْ حَدَّثَكَ‏؟‏ أَوْ مَنْ سَمِعْتَ‏؟‏ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِ لَفْظَةٍ يَبْتَدِئُ‏.‏

لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ‏(‏الِاقْتِرَاحِ‏)‏‏:‏ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ مَنْ حَدَّثَكَ‏؟‏ أَوْ مَنْ أَخْبَرَكَ‏؟‏ إِنْ لَمْ يُقَدِّمِ الشَّيْخُ ذِكْرَ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَادَةً لِلسَّلَفِ مُسْتَمِرَّةً فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى‏.‏ وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ ذَكَرْتَ‏؟‏ أَوْ مَنْ حَدَّثَكَ‏؟‏‏.‏

‏(‏وَابْتَهَلْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَدَعَا الْمُسْتَمْلِي ‏(‏لَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلْمُمْلِي مَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَافِعًا لِصَوْتِهِ‏:‏ رَحِمَكَ اللَّهُ، أَوْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَوْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ‏.‏

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ‏:‏ وَيَقُولُ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ وَعَنْ وَالِدَيْهِ وَعَنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَبَوَيْهِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا حَيْثُ قَالَ لِشَيْخِهِ الْبُرْهَانِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ الْآمِدِيِّ‏:‏ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَنْ وَالِدَيْكُمْ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْبُرْهَانُ‏:‏ لَا تَقُلْ هَكَذَا‏.‏ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ‏.‏

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ‏:‏ فَلَوْ قَالَ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ سَيِّدِنَا‏.‏ جَازَ إِذَا عَرَفَ الْمُمْلِي قَدَرَ نَفْسِهِ‏.‏ يَعْنِي لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ‏)‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ‏.‏ يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْرَاءِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيِّ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، فَقُلْتُ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ فُلَانٍ‏.‏ فَنَهَانِي عَنْهُ وَقَالَ‏:‏ قُلْ‏:‏ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ‏.‏ وَحَرَّمَ شَيْبَتَكَ عَلَى النَّارِ‏.‏ فَقُلْتُهَا وَهُوَ يَبْكِي‏.‏

وَجَرَى ذَلِكَ لَآخَرَ فَقَالَ‏:‏ لَا تُعَظِّمْنِي عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّي‏.‏ قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ‏:‏ نِلْتُ الْقَضَا وَقَضَا الْقُضَاةِ وَالْوَزَارَةِ وَكَذَا وَكَذَا، فَمَا سُرِرْتُ بِشَيْءٍ مِثْلَ قَوْلِ الْمُسْتَمْلِي‏:‏ مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمَأْمُونِ‏:‏ مَا أَشْتَهِي مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عِنْدِي، وَيَجِيءَ الْمُسْتَمْلِي فَيَقُولَ‏:‏ مَنْ ذَكَرْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ‏.‏ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ‏:‏ قِيلَ لِلْمَنْصُورِ‏:‏ هَلْ بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَقِيَتْ خَصْلَةٌ؛ أَنْ أَقْعُدَ فِي مَصْطَبَةٍ وَحَوْلِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَيَقُولَ الْمُسْتَمْلِي‏:‏ مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَغَدَا عَلَيْهِ النُّدَمَاءُ وَأَبْنَاءُ الْوُزَرَاءِ بِالْمَحَابِرِ وَالدَّفَاتِرِ فَقَالَ‏:‏ لَسْتُمْ هُمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُتَشَقِّقَةُ أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ‏.‏ يَرِدُ الْآفَاقَ وَنَقَلَةَ الْحَدِيثِ‏.‏‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏وَ‏)‏ إِذَا انْتَهَى‏.‏ أَيِ الْمُسْتَمْلِي تَبَعًا لِلْمُمْلِي إِلَى ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِسْنَادِ ‏(‏صَلَّى‏)‏ يَعْنِي وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مَرَّ فِيهِ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْبَابًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا إِذَا انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ‏(‏تَرَضَّى‏)‏ عَنْهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏رَافِعَا‏)‏ صَوْتَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏

زَادَ غَيْرُهُ‏:‏ فَإِنْ كَانَ ذَاكَ الصَّحَابِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏.‏ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابِيَّيْنِ‏.‏ وَذَكَرَهُمَا كَعَائِشَةَ قَالَ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَذَكَرَهُمَا‏)‏‏.‏ يَتَأَيَّدُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَارِئِ مِنْ أَئِمَّةِ شُيُوخِنَا إِذَا مَرَّ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَيْثُ يَقُولُ‏:‏ وَعَنْ أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَأَخِيهَا‏.‏ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ أَوْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي الْمَجْلِسِ بَعْضَ الرَّافِضَةِ مِمَّا الْوَاقِعُ خِلَافُهُ‏.‏

وَكَذَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى فِي “ أَحْمَدَ “ وَ “ أَبِي دَاوُدَ “ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏ تَارِكًا لِذَلِكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ أَيْضًا، وَعِنْدِي تَوَقُّفٌ فِي الْمُقْتَضِي لِلتَّخْصِيصِ بِذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ مِمَّنْ بَعَدَ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ- يَعْنِي التَّرَضِّيَ- حَدِيثُ جَابِرٍ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا بَكْرٍ، أَعْطَاكَ اللَّهُ الرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ‏)‏‏.‏

وَحَدِيثُ أَنَسٍ‏:‏ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ غُلَامٌ فَأَخَذَ نَعْلَهُ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَرَدْتَ رِضَا رَبِّكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ‏)‏ قَالَ‏:‏ فَاسْتُشْهِدَ‏.‏

وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، فَقَدْ قَالَ الْقَارِئُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَوْمًا‏:‏ حَدَّثَكُمُ الشَّافِعِيُّ‏؟‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ فَقَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ وَلَا حَرْفَ حَتَّى يُقَالَ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَالصَّلَاةُ وَالرِّضْوَانُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّا نَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِلصَّحَابِيِّ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ وَلِلنَّبِيِّ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا‏.‏

‏[‏حُكْمُ ذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشُّيُوخِ‏]‏

‏(‏وَالشَّيْخُ‏)‏ الْمُمْلِي ‏(‏تَرْجَمَ الشُّيُوخَ‏)‏ الَّذِي رَوَى أَوْ أَفَادَ عَنْهُمْ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِمُ الْجَمِيلَةِ، ‏(‏وَدَعَا‏)‏ أَيْضًا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذْ هُمْ آبَاؤُهُمْ فِي الدِّينِ، وَوُصْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَبِرِّهِمْ وَذِكْرِ مَآثِرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَشُكْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ‏:‏ قَلَّ لَيْلَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَدْعُو فِيهَا لِمَنْ كَتَبَ عَنَّا، وَلِمَنْ كَتَبْنَا عَنْهُ‏.‏

وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏سَمِعْتُ خَلِيلِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَحَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ‏:‏ ‏(‏ثَنَا الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ‏)‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ- أَمَّا هُوَ إِلَيَّ فَحَبِيبٌ وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ- عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ‏)‏‏.‏

وَقَالَ مَسْرُوقٌ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ ابْنَةُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ عَائِشَةُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنِي الْبَحْرُ‏.‏ يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ‏)‏‏.‏

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ ‏(‏ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَكَانَ مِنْ مَعَادِنَ الصِّدْقِ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ‏:‏ ‏(‏ثَنَا أَوْثَقُ النَّاسِ أَيُّوبُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ شُعْبَةُ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنِي سَيِّدُ الْفُقَهَاءِ أَيُّوبُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ‏)‏‏.‏

وَقَالَ وَكِيعٌ‏:‏ ‏(‏ثَنَا سُفْيَانُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ‏)‏‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ‏:‏ ‏(‏ثَنَا الثِّقَةُ الصَّدُوقُ الْمَأْمُونُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ‏)‏‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ‏:‏ ‏(‏ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ شَيْخُنَا وَسَيِّدُنَا‏)‏‏.‏

وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ‏:‏ ‏(‏ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَمَا لَقِيتُ أَنْصَحَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْهُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ‏:‏ ‏(‏ثَنَا مَنْ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ‏)‏‏.‏ وَقَالَ الْعَلَائِيُّ‏:‏ ‏(‏ثَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ أَجَلُّ شَيْخٍ لَقِيتُهُ‏.‏ فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ‏)‏‏.‏

وَلْيَحْذَرْ مِنَ التَّجَاوُزِ إِلَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّيْخُ، كَأَنَّ يَصِفَهُ بِالْحِفْظِ وَهُوَ غَيْرُ حَافِظٍ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضِّرَرِ‏.‏

وَكَذَا يُتَرْجِمُ شُيُوخَهُ بِذِكْرِ أَنْسَابِهِمْ، فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَإِذَا فَعَلَ الْمُسْتَمْلِي مَا ذَكَرْتُهُ، يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ مَنْ ذَكَرْتُ‏.‏ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ الرَّاوِي‏:‏ ثَنَا فُلَانٌ، ثُمَّ نَسَبَ شَيْخَهُ الَّذِي سَمَّاهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِنَسَبِهِ مُنْتَهَاهُ، كَقَوْلِ شَاذَانَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ بَنِي تَمِيمٍ، وَثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَرِيكِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، وَثَنًا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْهَمْدَانِيُّ ثُمَّ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ هَمْدَانَ، وَثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَبُو بَسْطَامَ مَوْلَى الْأَزْدِ، وَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الشَّيْخِ وَكُنْيَتِهِ أَبْلَغُ فِي إِعْظَامِهِ، وَأَحْسَنُ فِي تَكْرِمَتِهِ‏.‏

قَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ‏:‏ قَلَّمَا سَمَعِتُ أَحْمَدَ يُسَمِّي ابْنَ مَعِينٍ بِاسْمِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَجِبُ لِلْعَالِمِ ثَلَاثُ خِصَالٍ‏:‏ تَخُصُّهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَتَعُمُّهُ بِالسَّلَامِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَلَا تَقُلْ‏:‏ ثَنَا فُلَانٌ‏.‏ بَلْ قُلْ‏:‏ ثَنَا أَبُو فُلَانٍ‏.‏ وَإِذَا قَرَأَ فَمَلَّ لَا يَضْجَرْ‏.‏

وَلِلْبُخَارِيِّ فِي ‏(‏الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ‏)‏ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تُسَمِّ أَبَاكَ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ‏)‏‏.‏

وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ‏:‏ الصَّلَاةَ يَا أَبَا عَبْدٍ الرَّحْمَنِ‏)‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَكِنَّ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ يَقْضِي‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَجَمَاعَةٌ يَقْتَصِرُونَ عَلَى اسْمِ الرَّاوِي دُونَ نَسَبِهِ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ لَا يُشْكِلُ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنَ الْعِلْمِ لَا تُجْهَلُ، كَعَامَّةِ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ حَيْثُ يَرْوُونَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فَقَطْ لَا يَنْسُبُونَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ اسْمُهُ مُفْرَدًا عَنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ لِحُصُولِ الْأَمَانِ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ فِي تَسْمِيَتِهِ؛ كَقَتَادَةَ وَمِسْعَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى شُهْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ وَلَا يُسَمِّيهِ، كَابْنِ لَهِيعَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ‏.‏

‏[‏حُكْمُ ذِكْرِ أَلْقَابِ الرَّاوِي‏]‏

‏(‏وَ‏)‏ أَمَّا ‏(‏ذِكْرُ‏)‏ رَاوٍ ‏(‏مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ‏)‏ بِحَيْثُ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ ‏(‏كَغُنْدَرٍ‏)‏ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ، لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَيَأْتِي مَعَ جُمْلَةِ أَلْقَابٍ فِي بَابِهَا، أَوْ مَعْرُوفٍ بِوَصْفٍ لَيْسَ نَقْصًا فِي خِلْقَتِهِ كَالْحُمْرَةِ وَالزُّرْقَةِ وَالشُّقْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالطُّولِ‏.‏

‏(‏أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ‏)‏ كَالْإِقْعَادِ لِأَبِي مَعْمَرٍ، وَالْحَوَلِ لِعَاصِمٍ، وَالشَّلَلِ لِمَنْصُورٍ، وَالْعَرَجِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْعَمَى لِأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَالْعَمَشِ لَسُلَيْمَانَ، وَالْعَوَرِ لِهَارُونَ بْنِ مُوسَى، وَالْقِصَرِ لَعِمْرَانَ‏.‏

‏(‏أَوْ نَسَبْ لِأُمِّهِ‏)‏ كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَابْنِ بُحَيْنَةَ، وَالْحَارِثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ، وَيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ، وَإِسْمَاعِيلِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ‏.‏

‏(‏فَجَائِزٌ‏)‏ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، ‏(‏مَا لَمْ يَكُنْ‏)‏ فِي اللَّقَبِ إِطْرَاءٌ مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْصُوفُ بِهِ ‏(‏يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةَ‏)‏ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ، وَعُلَيٍّ- بِالتَّصْغِيرِ- بْنِ رَبَاحٍ، وَابْنِهِ مُوسَى، وَمَسْلَمَةَ بْنِ عُلَيٍّ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَخَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيِّ، فَالْقَطَوَانِيِّ لَقَبُهُ، وَكَانَ أَيْضًا يَغْضَبُ مِنْهَا، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ الْبَغْدَادِيِّ دَلَّوَيْهِ، قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَنْ سَمَّانِي دَلَّوَيَهِ لَا أَجْعَلُهُ فِي حِلٍّ‏.‏

وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ الْأَصَمُّ‏.‏ وَجُوزِيٍّ، وَهُوَ لَقَبٌ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأصْبَهَانِيِّ صَاحِبِ ‏(‏التَّرْغِيبِ‏)‏، وَكَانَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يَكْرَهُهُ، وَغَيْرِهِمْ ‏(‏فَصُنْ‏)‏ حِينَئِذٍ نَفْسَكَ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ وَالرَّاوِيَ عَنْ وَصْفِهِ بِذَلِكَ، إِذْ هُوَ حَرَامٌ حَسْبَمَا اسْتَثْنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مُتَمَسِّكًا بِنَهْيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ابْنَ مَعِينٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ‏.‏

وَقَالَ لَهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ‏.‏ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أُمِّهِ‏.‏ وَلَمْ يُخَالِفْهُ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ، بَلْ قَالَ‏:‏ قَبِلْنَاهُ مِنْكَ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ‏.‏

وَقَدْ أَقَرَّ النَّاظِمَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَلْقَابِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ‏:‏ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا اللُّزُومِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ تَوَاضُعًا لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّزْكِيَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَسْتُ أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ لَقَّبَنِي مُحْيِيَ الدِّينِ‏.‏ فَالْأُولَى تَجَنُّبُهُ‏.‏

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ‏:‏ ‏(‏أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ‏؟‏‏)‏‏.‏ وَلِذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ،أَيْ بِأَوْصَافِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِمُ‏:‏ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ‏؟‏‏)‏‏.‏ فَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ كَالْجُمْهُورِ‏.‏

وَشَذَّ قَوْمٌ فَشَدَّدُوا، حَتَّى نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا‏:‏ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ‏.‏ غِيبَةً‏.‏

وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّحَ بِذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ فِيهَا‏:‏ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ‏:‏ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ لِلْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّنْقِيصِ لَمْ يَجُزْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏اغْتَبْتِيهَا‏)‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ بَيَانًا، وَإِنَّمَا قَصَدَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ صِفَتِهَا فَكَانَ كَالِاغْتِيَابِ‏.‏

وَمِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ‏}‏‏.‏ وَكَانَ نُزُولُهَا حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَلِلرَّجُلِ مِنْهُمُ اللَّقَبُ وَاللَّقَبَانِ‏.‏ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ التَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرِهِ فَذَاكَ فِيمَنْ عُرِفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعْرَفْ بِغَيْرِهِ فَلَا‏.‏

وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ‏:‏ سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ فَقَالَ‏:‏ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِهِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ الْأَعْمَشُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا‏.‏ فَسَهَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا شُهِرَ بِهِ‏.‏ وَمَا أَحْسَنَ صَنِيعَ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ‏:‏ ابْنُ عُلَيَّةَ‏.‏

وَكَانَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ إِسْحَاقَ الصِّبْغِيُّ إِذَا رَوَى عَنْ شَيْخِهِ الْأَصَمِّ يَقُولُ فِيهِ‏:‏ الْمَعْقِلِيُّ نِسْبَةً لِجَدِّهِ مَعْقِلٍ‏.‏ وَلَا يَقُولُ‏:‏ الْأَصَمُّ‏.‏ لِكَرَاهَتِهِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏ وَقَدْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إِنَّهُ إِنْ وَجَدَ طَرِيقًا إِلَى الْعُدُولِ عَنِ الْوَصْفِ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَهُوَ أَوْلَى‏.‏

‏[‏الْأَخْذُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَقْدِيمُ أَوْلَاهُمْ‏]‏‏:‏

‏(‏وَارْوِ فِي الْإِمْلَا‏)‏ بِالنَّقْلِ وَالْقَصْرِ، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ ‏(‏عَنْ شُيُوخٍ‏)‏ مِمَّنْ أَخَذْتَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ الْخَطِيبِ، وَلَا تَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ، إِذِ التَّعَدُّدُ أَكْثَرُ فَائِدَةً‏.‏

وَأَسْنَدَ الْخَطِيبُ عَنْ مَطَرٍ قَالَ‏:‏ الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ عَالِمٍ وَاحِدٍ كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَاضَتْ بَقِيَ‏.‏

وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ شَيْخٌ وَاحِدٌ رُبَّمَا احْتَاجَ مِنَ الْحَدِيثِ لِمَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ شَيْخِهِ فَيَصِيرُ حَائِرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ يَتَّفِقُ تَوَقَانُهُ إِلَى النِّكَاحِ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَيَصِيرُ حَائِرًا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى أَوْ أَمَةٌ، حَصَلَ الْغَرَضُ‏.‏

وَفِي ‏(‏مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِينَ‏)‏ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَجَدْتُ صَاحِبَ الْوَاحِدَةِ إِنْ زَارَتْ زَارَ، وَإِنْ حَاضَتْ حَاضَ، وَإِنْ نَفِسَتْ نَفِسَ، وَكُلَّمَا اعْتَلَّتِ اعْتَلَّ مَعَهَا بِانْتِظَارِهِ لَهَا ‏(‏‏.‏ ثُمَّ ذَكَرَ صَاحِبَ الثِّنْتَيْنِ وَصَاحِبَ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَ‏(‏قَدِّمِ‏)‏ مِنَ الشُّيُوخِ ‏(‏أَوْلَاهُمْ‏)‏ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، يَعْنِي عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْعُلُوِّ‏.‏

زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ أَوْ فِي غَيْرِهِ، يَعْنِي إِنِ اتَّحَدَ الْعُلُوُّ كَالْأَحْفَظِ وَالْأَسَنِّ وَالنَّسِيبِ، وَلَا تَرْوِ عَنْ كَذَّابٍ وَلَا مُتَظَاهِرٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِفِسْقٍ، بَلِ انْتَقِ لِلرِّوَايَةِ ثِقَاتِ شُيُوخِكَ مِمَّنْ حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَعَلَا سَنَدُهُ‏.‏ كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

‏[‏انْتِقَاءُ الْمَرْوِيِّ وَفَهْمُ الْفَائِدَةِ فِيهِ‏]‏‏:‏ ‏(‏وَانْتَقِهِ‏)‏ أَيِ الْمَرْوِيَّ أَيْضًا بِحَيْثُ يَكُونُ أَبْلَغَ نَفْعًا، وَأَعَمَّ فَائِدَةً، وَأَنْفَعَهُ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- الْأَحَادِيثُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ، فَفِي حَدِيثٍ‏:‏ ‏(‏مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ‏)‏‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إِمْلَاءُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُصُولِ الْمَعَارِفِ وَالدِّيَانَاتِ، وَأَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَمَا يَحُثُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ‏.‏

زَادَ غَيْرُهُ‏:‏ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْأَنْسَبُ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِجُمْهُورِ النَّاسِ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ وَنَحْوَهَا، وَلِلْمُتَفَقِّهَةِ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ‏.‏

‏(‏وَأَفْهِمِ‏)‏ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، السَّامِعِينَ ‏(‏مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ‏)‏ فِي مَتْنِهِ أَوْ سَنَدِهِ؛ مِنْ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ أَوْ غَرَابَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَأَظْهِرْ غَامِضَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَ الْغَرِيبِ، وَتَحَرِّ إِيضَاحَ ذَلِكَ وَبَيَانَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَكَتَبْتُ بِجَنْبِ كُلِّ حَدِيثٍ تَفْسِيرَهُ‏.‏ وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ‏:‏ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَمَاعِهِ‏.‏

وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا‏)‏ مَا مَعْنَاهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ‏.‏ وَسَأَلَ رَجُلٌ مَطَرًا عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ زَامِلَةٍ خَيْرًا، فَإِنَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَحَامِضٍ‏.‏

وَسُئِلَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ، فَقَالَ‏:‏ لَيْتَنَا نَقْدِرُ أَنْ نُحَدِّثَ كَمَا سَمِعْنَا، فَكَيْفَ نُفَسِّرُ‏؟‏‏!‏ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى فَضْلِ مَا يَرْوِيهِ، وَيُبَيِّنَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْحُفَّاظُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَذَوِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ كَتَبَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، أَوْ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عَالِيًا عُلُوًّا مُتَفَاوِتًا أَرْشَدَ بِوَصْفِهِ إِلَيْهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَصْفَ بِالْعُلُوِّ الْمُتَفَاوِتِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْعُلُوِّ شُمُولُ أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ، وَبِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ تَمْيِيزُ الْمُتَنَاهِي‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَذَا إِذَا كَانَ رَاوِيهِ غَايَةً فِي الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا، أَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مِنْ عُيُونِ السُّنَنِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَصَفَهُ بِذَلِكَ، وَيُعَيِّنُ تَارِيخَ السَّمَاعِ الْقَدِيمِ، وَتَفَرُّدَهُ بِذَاكَ الْحَدِيثِ، وَكَوْنَهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَهُ، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ مَعْلُولًا بَيَّنَ عِلَّتَهُ، أَوْ فِي إِسْنَادِهِ اسْمٌ يُشَاكِلُ غَيْرَهُ فِي الصُّورَةِ، ضَبَطَهُ بِالْحُرُوفِ لِيَزُولَ الْإِلْبَاسُ‏.‏

‏(‏وَلَا تَزِدْ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ‏)‏ مِنْ شُيُوخِكَ ‏(‏فَوْقَ مَتْنٍ‏)‏ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ لِلْفَائِدَةِ وَأَكْثَرُ لِلْمَنْفَعَةِ‏.‏

‏[‏اعْتِمَادُ عَالِي الْإِسْنَادِ وَاجْتِنَابُ الْمُشْكِلُ‏]‏‏:‏ ‏(‏وَاعْتَمِدْ‏)‏ فِيمَا تَرْوِيهِ ‏(‏عَالِيَ إِسْنَادٍ‏)‏ لِمَا فِي الْعُلُوِّ مِنَ الْفَضْلِ، وَكَذَا اعْتَمِدْ ‏(‏قَصِيرَ مَتْنٍ‏)‏ لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، يَعْنِي بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، حَتَّى قَالَ أَبُو عَاصِمٍ‏:‏ الْأَحَادِيثُ الْقِصَارُ هِيَ اللُّؤْلُؤُ‏.‏ بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَالِبًا‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ‏:‏ قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ‏:‏ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوِ السِّقَاءِ، وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ‏)‏‏.‏ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيُنْزِلَ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مَنْزِلَةَ حَدِيثٍ وَاحِدٍ‏.‏ قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ‏:‏

وَظِيفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيبِ *** فِي كُلِّ يَوْمٍ سِوَى مَا يُعَادُ

شَرِيكِيَّةٌ أَوْ هُشَيْمِيَّةٌ *** أَحَادِيثُ فِقْهٍ قِصَارٌ جِيَادُ

وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِ انْفَرَدَ بِشَرِيكٍ وَهُشَيْمٍ‏.‏

‏(‏وَاجْتَنِبِ‏)‏ فِي إِمْلَاءِكَ ‏(‏الْمُشْكِلَ‏)‏ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَامِّ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ وَإِثْبَاتَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ لِلْأَزَلِيِّ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ فِي نَفْسِهَا صِحَاحًا، وَلَهَا فِي التَّأْوِيلِ طُرُقٌ وَوُجُوهٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَلَّا تُرْوَى إِلَّا لِأَهْلِهَا‏.‏

‏(‏خَوْفَ الْفَتْنِ‏)‏ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ مَصْدَرُ‏:‏ فَتَنَ، أَيِ الِافْتِتَانِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّهُ لِجَهْلِ مَعَانِيهَا يَحْمِلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَوْ يَسْتَنْكِرُهَا فَيَرُدُّهَا وَيُكَذِّبُ رُوَاتِهَا وَنَقَلَتَهَا‏.‏

وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ‏)‏‏.‏ وَقَوْلُ عَلِيٍّ‏:‏ ‏(‏حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏؟‏‏)‏‏.‏

وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَبْلُغُ عَقْلُهُ فَهْمَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِتْنَةً‏)‏‏.‏

وَقَوْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ‏:‏ ‏(‏لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَتَضُرُّوهُمْ‏)‏‏.‏

وَقَوْلُ مَالِكٍ‏:‏ ‏(‏شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِيمُ‏)‏‏.‏

وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِمَّا رَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الصُّدُوفَ عَنْ رِوَايَتِهِ لِلْعَوَامِّ أَوْلَى أَحَادِيثِ الرُّخَصِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا دُونَ الْأُصُولِ، كَحَدِيثِ الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ‏)‏‏.‏ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِطْرَاحَ أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاجِبٌ، وَالصُّدُوفَ عَنْهُ لَازِمٌ، وَأَمَّا مَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ، فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، وَنَقْلَهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ‏.‏

ثُمَّ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ‏:‏ ‏(‏حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ‏)‏ أَيْ لَا بَأْسَ أَنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ تَطُولُ، وَالنَّارُ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَلَا حَرَجَ‏)‏ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ‏:‏ حَدِّثُوا عَنْهُمْ حَالَ كَوْنِهِ لَا حَرَجَ فِي التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ بِمَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي‏:‏ وَعَنْ صَحَابَتِهِ وَالْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ؛ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِي ‏(‏الْأَصْلِ الْأصَيْلِ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏)‏‏.‏

وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَلْيَجْتَنِبْ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيُمْسِكْ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَ فِيهِمْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ فِي ‏(‏الْقَوْلِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ‏)‏، رَفَعَهُ‏:‏ ‏(‏إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا‏)‏‏.‏ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ‏.‏

وَقَدْ قَالَ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ‏:‏ أَدْرَكْتُ أَرْبَعِينَ شَيْخًا مِنَ التَّابِعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَا عَنِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحَبَّ جَمِيعَ أَصْحَابِي وَتَوَلَّاهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ جَعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وَقَالَ الضَّحَّاكُ‏:‏ لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيُحْدِثُونَ مَا أَحْدَثُوا‏.‏ وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ‏:‏ أَدْرَكْتُ مَا أَدْرَكْتُ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضِهِمُ‏:‏ اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِتَأْتَلِفَ عَلَيْهَا الْقُلُوبُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ لِلْمُمْلِي مَا تَقَرَّرَ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا؛ حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِكِتَابٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ، كَمَا فَعَلَ النَّاظِمُ فِي تَخْرِيجِ ‏(‏الْمُسْتَدْرَكِ‏)‏ وَ ‏(‏أَمَالِي الرَّافِعِيِّ‏)‏، وَشَيْخُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَ ‏(‏الْأَذْكَارِ‏)‏ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- تَابِعٌ لِأَصْلِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْهَضُ لَهُ إِلَّا مَنْ قَوِيَتْ فِي الْعِلْمِ بَرَاعَتُهُ، وَاتَّسَعَتْ رِوَايَتُهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ‏.‏

‏[‏خَتْمُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ بِالْحِكَايَاتِ وَالنَّوَادِرِ‏]‏

‏(‏وَاسْتُحْسِنَ‏)‏ لِلْمُمْلِي ‏(‏الْإِنْشَادُ‏)‏ الْمُبَاحُ الْمُرَقَّقُ ‏(‏فِي الْأَوَاخِرِ‏)‏ مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ ‏(‏بَعْدَ الْحِكَايَاتِ‏)‏ اللَّطِيفَةِ ‏(‏مَعَ النَّوَادِرِ‏)‏ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِمَا أَمْلَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَحْسَنُ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ، فَعَادَةُ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يُنْشِدُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ نَظْمِهِ، وَكَذَا النَّاظِمُ، وَرُبَّمَا فَعَلَهُ شَيْخُنَا‏.‏

وَقَدْ بَوَّبَ لَهُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ، وَسَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قُرِئَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنٌ، وَأُنْشِدَ شِعْرٌ، فَقِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُرْآنٌ وَشِعْرٌ فِي مَجْلِسِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ يُنْشِدُهُ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْقُرْآنُ أَوِ الشِّعْرُ‏؟‏‏!‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا بَكْرَةَ، هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً‏)‏‏.‏ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَوِّحُوا الْقُلُوبَ، وَابْتَغُوا لَهَا طَرَفَ الْحِكْمَةِ‏)‏‏.‏ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكِمْ، هَاتُوا مِنْ حَدِيثِكُمْ؛ فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ، وَالْقَلْبُ حَمْضٌ‏.‏

وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ‏:‏ آخِرُ مَجْلِسٍ جَالَسْنَا فِيهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَنَاشَدْنَا فِيهِ الشِّعْرَ‏.‏ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ حَدَّثَ بِأحَادِيثَ، ثُمَّ قَالَ لَنَا‏:‏ خُذُوا فِي أَبْزَارِ الْجَنَّةِ، فَحَدَّثَنَا بِالْحِكَايَاتِ‏.‏ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ الْحِكَايَاتُ تُحَفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏.‏

وَسَاقَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ الْقُلُوبُ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ، فَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَفَاضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ‏:‏ أَحْمِضُوا بِنَا، أَيْ‏:‏ خُوضُوا فِي الشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ‏.‏

‏[‏اسْتِعَانَةُ الْقَاصِرِ بِبَعْضِ الْحُفَّاظِ وَالْآدَابِ الْأُخْرَى‏]‏‏:‏

ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِفِ غَيْرِ الْعَاجِزِ، ‏(‏وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ‏)‏ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَاخْتِلَافِ وُجُوهِهِ وَطُرُقِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ التَّخْرِيجِ وَالتَّفْتِيشِ؛ إِمَّا لِكِبَرِ سِنٍّ وَضَعْفِ بَدَنٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلنَّاظِمِ فِي إِمْلَاءِهِ بِآخِرِهِ لِذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا خَرَّجَهُ لَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِمَّا لِطُرُوِّ عَمًى وَنَحْوِهِ، ‏(‏مُتْقِنُ‏)‏ مِنْ حُفَّاظِ وَقْتِهِمْ ‏(‏مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ‏)‏ الَّتِي يُرِيدُونَ إِمْلَاءَهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَلْحَقُ بِهَا‏.‏

إِمَّا بِسُؤَالٍ مِنْهُمْ لَهُ أَوِ ابْتِدَاءً، ‏(‏فَهْوَ حَسَنُ‏)‏، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاصِرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِبَعْضِ حُفَّاظِ وَقْتِهِ، فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِنَا كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرَانَ، وَالْقَاضِي أَبِي عُمَرَ الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ السَّرَّاجِ وَغَيْرِهِمْ يَسْتَعِينُونَ بِمَنْ يُخَرِّجُ لَهُمْ‏.‏

‏(‏وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ غِنًى عَنِ الْعَرْضِ‏)‏ وَالْمُقَابَلَةِ ‏(‏لِـ‏)‏ إِصْلَاحِ ‏(‏زَيْغٍ‏)‏، أَوْ طُغْيَانِ قَلَمٍ ‏(‏يَحْصُلُ‏)‏؛ يَعْنِي‏:‏ فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَاجِبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهَا حِكَايَةً عَنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ، وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي الْقَوْلُ بِجَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْفَرْعِ غَيْرِ الْمُقَابَلِ لِلشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمَةِ، بَلْ كَانَ شَيْخُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ الْإِمْلَاءَ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ هَمَّ أَنْ يَجْعَلَ بِكُلِّ جَانِبٍ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ بِالْفَنِّ إِلْمَامٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِيَخْتَبِرَ كِتَابَتَهُمْ وَيُرَاجِعُونَهُ، فَمَا تَيَسَّرَ‏.‏

وَالتَّبْكِيرُ بِالْمَجْلِسِ أَوْلَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الشِّتَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَصْبِرَ سَاعَةً حَتَّى يَرْتَفِعَ النَّهَارُ‏.‏

وَاسْتُحِبَّ لِلطَّالِبِ السَّبْقُ بِالْمَجِيءِ؛ لِئَلَّا يَفُوتَهُ شَيْءٌ، فَتَشُقُّ إِعَادَتُهُ، فَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- بِكَرَاهَةِ تَكْرِيرِ مَاضِيهِ، وَاسْتِثْقَالِ الْإِعَادَةِ لِفَائِتِهِ وَمُنْقَضِيهِ، حَتَّى قَالَ الثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُمَا‏:‏ مَنْ غَابَ خَابَ، وَأَكَلَ نَصِيبَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَمْ نُعِدْ لَهُ حَدِيثًا‏.‏ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ‏:‏ نَقْلُ الصَّخْرِ أَهْوَنُ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ‏.‏ وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ يُخَاطِبُ ثَقِيلًا مِنْ أَبْيَاتٍ‏:‏

خَلٍ عَنَّا فَإِنَّمَا أَنْتَ فِينَا *** وَاوُ عَمْرٍو وَكَالْحَدِيثِ الْمُعَادِ

وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّيْخِ وَقْتَ الِانْصِرَافِ، فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ‏:‏

وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلٍ

وَلِذَا كَانَ خَلْقٌ يَبِيتُونَ لَيْلَةَ الْإِمْلَاءِ عَلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ بِمَحَلِّ جُلُوسِهِ؛ حِرْصًا عَلَى السَّمَاعِ، وَتَخَوُّفًا مِنَ الْفَوَاتِ‏.‏

آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ

713- وَأَخْلِصِ النِّيَّةَ فِي طَلَبِكَا *** وَجِدَّ وَابْدَأْ بِعَوَالِي مِصْرِكَا

714- وَمَا يُهِمُّ ثُمَّ شُدَّ الرَّحْلَا *** لِغَيْرِهِ وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا

715- وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ *** وَالشَّيْخَ بَجِّلْهُ وَلَا تَثَاقَلِ

716- عَلَيْهِ تَطْوِيلًا بِحَيْثُ يَضْجَرُ *** وَلَا تَكُنْ يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ

717- أَوِ الْحَيَا عَنْ طَلَبٍ وَاجْتَنِبِ *** كَتْمَ السَّمَاعِ فَهْوَ لُؤْمٌ وَاكْتُبِ

718- مَا تَسْتَفِيدُ عَالِيًا وَنَازِلًا *** لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ صِيتًا عَاطِلًا

719- وَمَنْ يَقُلْ إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ *** ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشْ

720- فَلَيْسَ مِنْ ذَا وَالْكِتَابَ تَمِّمِ *** سَمَاعَهُ لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ

721- وَإِنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ *** لِعَارِفٍ أَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ

722- أَوْ قَصُرَ اسْتَعَانَ ذَا حِفْظٍ فَقَدْ *** كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ يُعِدْ

723- وَعَلَّمُوا فِي الْأَصْلِ إِمَّا خَطَّا *** أَوْ هَمْزَتَيْنِ أَوْ بِصَادٍ أَوْ طَا

724- وَلَا تَكُنْ مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا *** وَكَتْبَهُ مِنْ دُونِ فَهْمٍ نَفَعَا

‏[‏تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ‏]‏

‏(‏آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ‏)‏ سِوَى مَا تَقَدَّمَ‏:‏ ‏(‏وَأَخْلِصِ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏النِّيَّةَ‏)‏ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏(‏فِي طَلَبِكَا‏)‏ لِلْحَدِيثِ، فَالنَّفْعُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِخْلَاصِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّرْبِ صَفْحًا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ؛ لِتَسْلَمَ مِنْ غَوَائِلَ الْأَمْرَاضِ، وَدَسَائِسَ الْأَعْوَاضِ كَمَا سَلَفَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مَعَ كَثِيرٍ مِمَّا سَيَأْتِي هُنَا‏.‏

وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ تَزْدَادُ عِلْمًا وَشَرَفًا فِي الدَّارَيْنِ، وَاتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ فِيهِ، وَالْمُبَاهَاةَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُكَ مِنْ طَلَبِكَ نَيْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْوَظَائِفِ، وَاتِّخَاذَ الْأَتْبَاعِ، وَعَقْدَ الْمَجَالِسِ‏.‏

قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ‏:‏ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ‏.‏ وَقَالَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ‏:‏ مَنْ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِلَّهِ شَرُفَ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لِلَّهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ‏.‏

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ- أَيْ‏:‏ رِيحَهَا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏ وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ‏:‏ مَنَ الْغَوْغَاءُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ يَتَأَكَّلُونَ بِهِ النَّاسَ‏.‏ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَكَرَ بِهِ‏.‏ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ‏:‏ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْحَدِيثِ اسْتَخَفَّ بِهِ الْحَدِيثُ‏.‏ وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ بِطَلَبِهِ لِلْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ‏.‏

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ أَخْشَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ‏.‏ وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ‏:‏ إِنَّمَا يَحْسُنُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَطْلُبُ الْمُخْبِرَ بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهُ لِيُزَيِّنَ بِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ بُعْدًا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

وَسَأَلَ أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ أَبَا عَمْرٍو بْنَ حَمْدَانَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ‏:‏ بِأَيِ نِيَّةٍ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ الصَّالِحِينَ‏.‏

فَإِذَا حَضَرَتْكَ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَعَزَمْتَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ، وَلَا تَحْدِيدَ لِذَلِكَ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلِ الْمُعْتَمَدُ الْفَهْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ‏(‏مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ‏؟‏‏)‏ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ الْمَسْأَلَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَكَ فِيهِ، وَيُعِينَكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ثُمَّ بَادِرْ إِلَى السَّمَاعِ، ‏(‏وَجِدَّ‏)‏ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فِي الطَّلَبِ، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، فَمَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ‏:‏ لَا يُسْتَطَاعُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ‏.‏

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ‏)‏، وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ ‏(‏التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ‏)‏‏.‏

وَمِنْ أَبْلَغِ مَا يُحْكَى عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ صَبِيٌّ تَحْتَ أَقْدَامِ الرِّجَالِ، فَقَالَ يَزِيدُ‏:‏ اتَّقُوا اللَّهَ، وَانْظُرُوا مَا حَالُ الصَّبِيِّ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَتْ حَدَقَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ يَا أَبَا خَالِدٍ، زِدْنَا، فَقَالَ يَزِيدُ‏:‏ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَدْ نَزَلَ بِهَذَا الْغُلَامِ مَا نَزَلَ وَهُوَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ‏.‏

وَامْتَهِنْ نَفْسَكَ بِالتَّقَنُّعِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالتَّوَاضُعِ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالتَّمَلُّكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحَ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالتَّوَاضُعِ أَفْلَحَ‏.‏

‏[‏اخْتِيَارُ الشُّيُوخِ وَالرِّحْلَةِ لِلْحَدِيثِ‏]‏

‏(‏وَابْدَأْ بِـ‏)‏ أَخْذِ ‏(‏عَوَالِي‏)‏ شُيُوخِ ‏(‏مِصْرِكَا‏)‏، وَلَا تَنْفَكَّ عَنْ مُلَازَمَتِهِمْ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهَا، ‏(‏وَ‏)‏ ابْدَأْ مِنْهَا بِـ‏(‏مَا يُهِمُّ‏)‏ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ؛ كَالْمَرْوِيِّ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ- كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ- بِغَيْرِ الْمُهِمِّ أَضَرَّ بِالْمُهِمِّ‏.‏

وَإِنِ اسْتَوَى جَمَاعَةٌ فِي السَّنَدِ وَأَرَدْتَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَخَيَّرَ الْمَشْهُورَ مِنْهُمْ بِالطَّلَبِ، وَالْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْإِتْقَانِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَتَخَيَّرَ الْأَشْرَافَ وَذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْهُمْ؛ لِحَدِيثِ‏:‏ ‏(‏قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا‏)‏، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ فَالْأَسَنُّ؛ لِحَدِيثِ‏:‏ ‏(‏كَبِّرْ كَبِّرْ‏)‏‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ اسْتِيفَائِكَ أَخْذَ مَا بِبَلَدِكَ مِنَ الْمَرْوِيِّ، وَتَمَهُّرِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَاسْتِيعَابِكَ بِاقِيَ الشُّيُوخِ مِمَّنْ قَنِعْتَ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَرْوِيِّ بِغَيْرِهِمْ بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ لِمَا قَلَّ، بِحَيْثُ لَا يَفُوتُكَ مِنْ كُلٍّ مِنْ مَرْوِيِّهَا وَشُيُوخِهَا أَحَدٌ، وَأَخْذِ الْفَنِّ عَنِ الْحَافِظِ الْعَارِفِ بِهِ مِنْهُمْ، ‏(‏شُدَّ الرَّحْلَا‏)‏، أَوِ ارْكَبِ الْبَحْرَ حَيْثُ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ فِيهِ، أَوِ امْشِ حَيْثُ اسْتَطَعْتَ بِلَا مَزِيدِ مَشَقَّةٍ، ‏(‏لِغَيْرِهِ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ لِغَيْرِ مِصْرِكَ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى؛ لِتَجْمَعَ بَيْنَ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْنِ، وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْنِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلُّ صَاحِبِ عِلْمٍ غَرْثَانُ‏)‏‏.‏

وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ‏:‏ مَنْ قَنِعَ بِمَا عِنْدَهُ لَمْ يَعْرِفْ سَعَةَ الْعِلْمِ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ‏:‏ أَرْبَعَةٌ لَا تُؤْنِسُ مِنْهُمْ رُشْدًا، وَذَكَرَ مِنْهُمْ‏:‏ رَجُلٌ يَكْتُبُ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَرْحَلُ‏.‏ وَسَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَبَاهُ‏:‏ هَلْ تَرَى لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ فَيَكْتُبَ عَنْهُ، أَوْ يَرْحَلَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعِلْمُ فَيَسْمَعَ فِيهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَرْحَلُ فَيَكْتُبُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، يُشَامُّ النَّاسَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ‏.‏

وَقِيلَ لِأَحْمَدَ أَيْضًا‏:‏ أَيَرْحَلُ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ بَلَى وَاللَّهِ شَدِيدًا، لَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ يَبْلُغُهُمَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ فَلَا يُقْنِعُهُمَا حَتَّى يَخْرُجَا إِلَيْهِ فَيَسْمَعَانِهِ مِنْهُ‏.‏ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ مُتَأَكَّدٌ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَّ مِنَ الْمَرْوِيِّ مَا لَيْسَ بِبَلَدِكَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ‏.‏

بَلْ قَدْ يَجِبُ إِذَا كَانَ فِي وَاجِبِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتِمِّ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْمَقَاصِدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ذَلِكَ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ هَذَا الشَّأْنِ‏.‏ وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ‏)‏‏.‏ وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اتَّخِذْ نَعْلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَصًى مِنْ حَدِيدٍ، وَاطْلُبِ الْعِلْمَ حَتَّى تَنْكَسِرَ الْعَصَى وَتَنْخَرِقَ النَّعْلَانِ‏.‏

وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ‏:‏ وَاللَّهِ لَوْ رَحَلْتُمْ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ لَكَانَ قَلِيلًا‏.‏ وَقِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لِقَاءِ الْخَضِرِ، بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ مِنْ شَوَاهِدِهِ‏.‏

وَكَفَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ‏)‏ تَرْغِيبًا فِي ذَلِكَ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ‏.‏ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْبَلَاءَ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ‏.‏

وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ‏:‏ رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ غَفَرَ لِي بِرِحْلَتِي فِي الْحَدِيثِ‏.‏ إِلَى غَيْرِ هَذَا بِمَا أَوْدَعَهُ الْخَطِيبُ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ قَدْ قَرَأْتُهُ‏.‏

وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا رَحَلَ غَيْرُهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ‏.‏ وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ‏:‏ لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، مَا لِي حَاجَةٌ إِلَّا رَجُلٌ عِنْدَهُ حَدِيثٌ يَقْدَمُ فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ‏.‏ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ كُنَّا نَسْمَعُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ‏.‏

وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَعْتَنُونَ بِالرِّحْلَةِ‏.‏ وَالْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي ‏(‏الْفَاصِلِ‏)‏ عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ فِي عَدَمِ جَوَازِهَا شَاذٌّ مَهْجُورٌ‏.‏

وَقَدِ اقْتَفَيْتُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ كَالْوَاجِبَةِ، وَهُوَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَدْرَكْتُ فِي الرِّحْلَةِ بَقَايَا مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَمَا بَقِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ سِنِينَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ بِيَقِينٍ‏.‏

وَحَيْثُ وُجِدَ وَرَحَلْتَ فَبَادِرْ فِيهَا لِلِقَاءِ مَنْ يُخْشَى فَوْتُهُ، وَلَا تَتَوَانَ فَتَنْدَمَ كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي مَوْتِ بَعْضِ مَنْ قَصَدُوهُ بِالرِّحْلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَلَدِهِ، وَاقْتَدِ بِالْحَافِظِ السِّلَفِيِّ الْأَصْفَهَانِيِّ؛ فَإِنَّهُ سَاعَةَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُضِيَّ لِأَبِي الْخَطَّابِ ابْنِ الْبَطِرِ، هَذَا مَعَ عِلَّتِهِ بِدَمَامِيلَ كَانَتْ فِي مَقْعَدَتِهِ مِنَ الرُّكُوبِ، بِحَيْثُ صَارَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ لِلْخَوْفِ مِنْ فَقْدِهِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ الْمَرْحُولَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ فِي الْإِسْنَادِ‏.‏

وَلَمَّا رَحَلَ شَيْخُنَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ قَصَدَ الِابْتِدَاءَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِيَأْخُذَ عَنِ ابْنِ الْحَافِظِ الْعَلَائِيِّ سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ؛ لِكَوْنِهِ سَمِعَهُ عَلَى الْحَجَّارِ، فَبَلَغَهُ- وَهُوَ بِالرَّمْلَةِ- مَوْتُهُ، فَعَرَجَ عَنْهُ إِلَى دِمِشْقَ؛ لِكَوْنِهَا بَعْدَ فَوَاتِهِ أَهَمَّ‏.‏

وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدٌ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ‏:‏ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلَ مَا جَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ‏:‏ ثَنَا بِهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ كَانَ مِنْ كِتَابِكَ، فَقُمْتُ لِأُخْرِجَ كِتَابِي، فَقَبَضَ عَلَى ثَوْبِي ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمْلِهِ عَلَيَّ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَلْقَاكَ، قَالَ‏:‏ فَأَمْلَيْتُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَجْتُ كِتَابِي فَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَاحْذَرْ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُبَادَرَةِ بِحَيْثُ تَرْتَكِبُ مَا لَا يَجُوزُ، فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَافَى الْبَصْرَةَ لِيَسْمَعَ مِنْ شُعْبَةَ وَيُكْثِرَ عَنْهُ، فَصَادَفَ الْمَجْلِسَ قَدِ انْقَضَى، وَانْصَرَفَ شُعْبَةُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَادَرَ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ فَوَجَدَ الْبَابَ مَفْتُوحًا، فَحَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلَى أَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرَآهُ جَالِسًا عَلَى الْبَالُوعَةِ يَبُولُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، رَجُلٌ غَرِيبٌ قَدِمْتُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ تُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَعْظَمَ شُعْبَةُ هَذَا، وَقَالَ‏:‏ يَا هَذَا دَخَلْتَ مَنْزِلِي بِغَيْرِ إِذْنِي، وَتُكَلِّمُنِي وَأَنَا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، تَأَخَّرْ عَنِّي حَتَّى أُصْلِحَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِلْحَاحِ، وَشُعْبَةُ مُمْسِكٌ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ لِيَسْتَبْرِئَ، فَلَمْا أَكْثَرَ قَالَ لَهُ‏:‏ اكْتُبْ‏:‏ ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى‏:‏ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِغَيْرِهِ، وَلَا حَدَّثْتُ قَوْمًا تَكُونُ فِيهِمْ، انْتَهَى‏.‏

وَاسْلُكْ مَا سَلَكْتَهُ فِي بَلَدِكَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَا تَكُنْ كَمَنْ رَحَلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَقَرَأَ بِهَا عَلَى مُسْنِدِ الْوَقْتِ الْعِزِّ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي انْفَرَدَ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ غَيْرُهُ ‏(‏الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ‏)‏ لِلْبُخَارِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنَ الْعِزِّ بْنِ جُمَاعَةَ لِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ الْبَدْرِ، مَعَ كَوْنِ فِي مُسْنَدَيِ الْقَاهِرَةِ مَنْ سَمِعَهُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى الْبَدْرِ، بَلْ وَكَذَا فِي بَلَدِهِ الَّتِي رَحَلَ مِنْهَا‏.‏

وَلَا يَتَشَاغَلْ فِي الْغُرْبَةِ إِلَّا بِمَا تَحِقُّ الرِّحْلَةُ لِأَجْلِهِ، فَشَهْوَةُ السَّمَاعِ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- لَا تَنْتَهِي، وَالنَّهْمَةُ مِنَ الطَّلَبِ لَا تَنْقَضِي، وَالْعِلْمُ كَالْبِحَارِ الْمُتَعَذَّرِ كَيْلُهَا، وَالْمَعَادِنِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَيْلُهَا‏.‏

كُلُّ ذَلِكَ مَعَ مُصَاحَبَتِكَ التَّحَرِّيَ فِي الضَّبْطِ، فَلَا تُقَلِّدْ إِلَّا الثِّقَاتِ، ‏(‏وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ وَلَا تَتَسَاهَلْ فِي الْحَمْلِ وَالسَّمَاعِ بِحَيْثُ تُخِلُّ بِمَا عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْمُتَسَاهِلُ مَرْدُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ‏.‏

‏[‏الْعَمَلُ بِالْأَحَادِيثِ وَتَوْقِيرُ الشِّيوْخِ‏]‏

‏(‏وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ‏)‏ بِبَلَدِكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا ‏(‏فِي الْفَضَائِلِ‏)‏ وَالتَّرْغِيبَاتِ؛ لِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ‏:‏ قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَنْفِي عَنِّي حُجَّةَ الْعِلْمِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْعَمَلُ‏)‏‏.‏

وَلِقَوْلِ مَالِكِ بْنَ مِغْوَلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ‏.‏ وَلِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ‏:‏ إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا فِي آدَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ وَحِفْظِهِ وَنُمُوِّهِ وَالِاحْتِيَاجِ فِيهِ إِلَيْهِ‏.‏

قَالَ الشَّعْبِيُّ وَوَكِيعٌ‏:‏ كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ، زَادَ وَكِيعٌ‏:‏ وَكُنَّا نَسْتَعِينُ فِي طَلَبِهِ بِالصَّوْمِ، حَكَاهُمَا أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ‏(‏جَامِعِ الْعِلْمِ‏)‏‏.‏

وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهُ خَاصَّةً الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ‏.‏ وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ‏:‏ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ‏.‏ وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏)‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ‏:‏ مَنْ عَمِلَ بِعُشْرِ مَا يَعْلَمُ عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا يَجْهَلُ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا عَمِلَ أَحَدٌ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِلَّا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى مَا عِنْدَهُ‏.‏ وَرُوِّينَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ‏.‏

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي ‏(‏الْأَذْكَارِ‏)‏‏:‏ يَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً؛ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَتْرُكَهُ مُطْلَقًا، بَلْ يَأْتِي بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَيُرْوَى فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، لَفْظُهُ‏:‏ ‏(‏مَنْ بَلَغَهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأَخَذَ بِهِ إِيمَانًا بِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ‏)‏‏.‏ وَلَهُ شَوَاهِدُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ‏:‏ ‏(‏مَا سَمِعْتُ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَاسْتَعْمَلْتُهُ، حَتَّى الصَّلَاةَ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَهِيَ صَعْبَةٌ‏)‏‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ‏:‏ مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا، فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ اسْمُ أَبِي طَيْبَةَ دِينَارٌ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا يَصِحُّ‏.‏ وَعَنْ أَبِي عِصْمَةَ عَاصِمِ بْنِ عِصَامٍ الْبَيْهَقِيِّ قَالَ‏:‏ بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَحْمَدَ، فَجَاءَ بِالْمَاءِ فَوَضَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَظَرَ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا هُوَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ‏.‏

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي قِصَّةٍ‏:‏ صَاحِبُ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَ‏.‏ وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ‏:‏ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَحُكْ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ، وَصَلَّى رَجُلٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ بِجَنْبِ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، فَلَمْا سَلَّمَ قَالَ لَهُ‏:‏ أَلَمْ تَكْتُبْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَمَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيَكَ فِي تَرْكِكَ لِهَذَا وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ‏؟‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ‏:‏ كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ، فَلَمْا حَضَرَتِ الظُّهْرُ وَأَذَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِلَى أَيْنَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ أَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ، كَانَ ظَنِّي بِكَ غَيْرَ هَذَا، يَدْخُلُ عَلَيْكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ‏.‏

وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ‏:‏ صَلَّى بِنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لَيْلَةً بِمَسْجِدِهِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، فَقُلْتُ لِأَبِي‏:‏ يَا أَبَةُ، أَهُوَ مُحْرِمٌ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا، وَلَكِنَّهُ يَسْمَعُ مِنِّي الْمُسْتَخْرَجَ الَّذِي خَرَّجْتُهُ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ سُنَّةٌ لَمْ يَكُنِ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا مَضَى أَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنَّهُ سَمِعَ فِي جُمْلَةِ مَا قُرِئَ عَلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذِهِ السُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ‏.‏

وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، أَتُؤَدُّونَ زَكَاةَ الْحَدِيثِ‏؟‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا نَصْرٍ، وَلِلْحَدِيثِ زَكَاةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ تَسْبِيحٍ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ نُؤَدِّي زَكَاتَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اعْمَلُوا مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ‏.‏

وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ‏:‏ إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا تَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ‏.‏

وَأَنْشَدَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ النَّاظِمِ أَنَّهُ أَنْشَدَهُمْ لِنَفْسِهِ‏:‏

اعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى *** بَادِرْ إِلَيْهِ لَا تَكُنْ مُقَصِّرًا

إِنْ لَمْ تُطِقْ كُلًّا فَبِالْبَعْضِ اعْمَلَنْ *** وَلَوْ بِرُبْعِ الْعُشْرِ لَا مُحْتَقِرًا

وَذَاكَ فِي فَضَائِلٍ فَوَاجِبٌ *** لَا تَتْرُكَنَّهُ تَلْقَ حَظًّا أَخْسَرًا

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ وَهَدْيِهِ وَلِسَانِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ‏.‏ وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ الْمَشْهُورُ، لَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي كِتَابِ ‏(‏الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ‏)‏ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخُوَارَزْمِيِّ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ‏:‏ إِنَّمَا نَطْلُبُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَسْنَا نَعْمَلُ بِهِ، قَالَ‏:‏ وَأَيُ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ‏.‏ وَكَذَا رُوِيَ نَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ إِلَى مَتَى تَكْتُبُ الْحَدِيثَ، أَفَلَا تَعْمَلُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَالْكِتَابَةُ مِنَ الْعَمَلِ‏.‏

‏(‏وَالشَّيْخَ‏)‏ بِالنَّصْبِ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ ‏(‏بَجِّلْهُ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ عَظِّمْهُ وَاحْتَرِمْهُ وَوَقِّرْهُ؛ لِقَوْلِ طَاوُوسٍ‏:‏ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ، بَلْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا‏)‏، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ وَأَعْظَمُ‏.‏

وَإِجْلَالُهُ مِنْ إِجْلَالِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنَ الْعَيْشُ‏؟‏ وَقَدْ مَكَثَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ يَهَابُ سُؤَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ قُلْتُ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَهَابُكَ‏.‏

وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ثَلَاثَ سِنِينَ فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ‏:‏ مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ‏.‏ وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ‏:‏ كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَأَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُسَوِّدُونَهُ وَيُشَرِّفُونَهُ مِثْلَ الْأَمِيرِ‏.‏ وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَمَرَّ بِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مَوْكِبِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ يُدْعَى إِمَامًا بَعْدَ قَتْلِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَلْتَفِتَ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ هَيْبَةً لِابْنِ عَوْنٍ‏.‏

وَيُحْكَى أَنَّ الْبِسَاطِيِّ الْعَلَّامَةَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْمَجِيءِ لِشَيْخِهِ فِي يَوْمِ اجْتِيَازِ السُّلْطَانِ دُونَ رُفَقَائِهِ؛ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا الدَّرْسَ لِأَجْلِ التَّفَرُّجِ عَلَيْهِ، فَأَبْعَدَهُمُ الشَّيْخُ تَأْدِيبًا وَقَرَّبَهُ‏.‏ وَكَذَا كَانَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْعَجَمِ مِمَّنْ لَقِيتُهُ يُؤَدِّبُ الطَّالِبَ إِذَا انْقَطَعَ عَنِ الْحُضُورِ فِي يَوْمِهِ الْمُعْتَادِ بِتَرْكِ إِقْرَائِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ‏.‏

وَقَالَ إِسْحَاقُ الشَّهِيدِيُّ‏:‏ كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالشَّاذَكُونِيِّ وَالْفَلَّاسُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَسْأَلُونَ عَنِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ‏:‏ اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا‏.‏

وَعَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْقَرَ لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ‏.‏

وَمِمَّا قِيلَ فِي مَالِكٍ‏:‏

يَدَعُ الْجَوَابَ فَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً *** وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى *** فَهْوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ

وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ‏:‏ مَا كَتَبْتُ عَنْ أَحَدٍ حَدِيثًا إِلَّا وَكُنْتُ لَهُ عَبْدًا مَا حَيِيَ، وَفِي لَفْظٍ‏:‏ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَاخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ مَا سَمِعْتُ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ‏:‏ مَا كُنَّا نُسَمِّي رَاوِيَ الْحَدِيثِ وَالْحِكْمَةِ إِلَّا الْعَالِمَ‏.‏

وَاسْتَشِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا، وَكَيْفِيَّةِ مَا تَعْتَمِدُهُ مِنَ اشْتِغَالِكَ وَمَا تَشْتَغِلُ فِيهِ إِذَا كَانَ عَارِفًا بِذَلِكَ، وَاحْذَرْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ، وَمَا يَدْعُو إِلَى الرِّفْعَةِ عَلَيْهِ، وَرَدِّ قَوْلِهِ، فَمَا انْتَفَعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَاعْتَقِدْ كَمَالَهُ؛ فَذَلِكَ أَعْظَمُ سَبَبٍ لِانْتِفَاعِكَ بِهِ‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ اخْفِ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي‏.‏

وَسَيِّدْهُ وَقُمْ لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ، وَاقْضِ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا، وَخُذْ بِرِكَابِهِ، وَقَبِّلْ يَدَهُ، وَوَقِّرْ مَجْلِسَهُ، وَاحْتَمِلْ غَضَبَهُ، وَاصْبِرْ عَلَى جَفَائِهِ، وَارْفُقْ بِهِ‏.‏

‏(‏وَلَا تَثَاقَلْ عَلَيْهِ تَطْوِيلًا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ وَلَا تَتَثَاقَلْ بِالتَّطْوِيلِ، ‏(‏بِحَيْثُ يَضْجَرُ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ يَقْلَقُ مِنْهُ، وَيَمَلُّ مِنَ الْجُلُوسِ، بَلْ تَحَرَّ مَا يُرْضِيهِ، فَالْإِضْجَارُ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- يُغَيِّرُ الْأَفْهَامَ، وَيُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ، وَيُحِيلُ الطِّبَاعَ‏.‏ ثُمَّ سَاقَ عَنْ هُشَيْمٍ قَالَ‏:‏ كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى سَاءَ خُلُقُهُ‏.‏

وَأَوْرَدَ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَاظًا صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي حَقِّ مَنْ أَضْجَرَهُمْ مِنَ الطُّلَّابِ؛ كَقَوْلِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ يُخَاطِبُهُمْ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْكُمْ، تَأْتُونَ بِدُونِ دَعْوَةٍ، وَتَزُورُونَ مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ، وَتُمِلُّونَ بِالْمُجَالَسَةِ، وَتُبْرِمُونَ بِطُولِ الْمُسَاءَلَةِ‏.‏

وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ‏:‏

إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتِنِي مَا لَمْ أُطِقْ *** سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقٍ

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى ابْنِ بِنْتِ السُّدِّيِّ‏:‏ دَخَلْنَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى مَالِكٍ، فَحَدَّثَنَا سَبْعَةَ أَحَادِيثَ، فَاسْتَزَدْنَاهُ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ حَيَاءٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانَصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ‏:‏ يَا غِلْمَانُ، أَقْفَاءَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا بُقْيَا عَلَى قَوْمٍ لَا دِينَ لَهُمْ وَلَا حَيَاءَ وَلَا مُرُوءَةَ‏.‏

وَيُخْشَى كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُحْرَمَ الِانْتِفَاعَ كَمَا وَقَعَ لِلشَّرِيفِ زَيْرَكَ أَحَدِ أَصْحَابِ النَّاظِمِ حِينَ قَرَأَ ‏(‏الْعُمْدَةَ‏)‏ عَلَى الشِّهَابِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرْدَاوِيِّ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْإِسْمَاعِ إِلَّا الْيَسِيرَ بِالْمُلَاطَفَةِ، وَأَطَالَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ أَضْجَرَهُ فَدَعَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ لَا أَحْيَاكَ اللَّهُ أَنْ تَرْوِيَهَا عَنِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ، وَمَاتَ الشَّرِيفُ عَنْ قُرْبٍ، لَا سِيَّمَا وَالْمَجْلِسُ إِذَا طَالَ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يُلَائِمُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلشَّيْخِ عَلَامَةٌ يَتَنَبَّهُ بِهَا الطَّالِبُ لِلْفَرَاغِ، كَمَا جَاءَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْحَدِيثَ مَسَّ أَنْفَهُ، فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ‏.‏ وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ الشُّكْرُ‏.‏ وَلَا تَسْتَعْمِلْ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ‏:‏

اغْثِثِ الشَّيْخَ بِالسُّؤَالِ تَجِدْهُ *** سَلِسًا يَلْتَقِيكَ بِالرَّاحَتَيْنِ

وَإِذَا لَمْ تَصِحْ صِيَاحَ الثَّكَالَى *** رُحْتَ عَنْهُ وَأَنْتَ صِفْرُ الْيَدَيْنِ

‏(‏وَلَا تَكُنْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ أَوِ الْحَيَا‏)‏ بِالْقَصْرِ ‏(‏عَنْ طَلَبٍ‏)‏ لِمَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ؛ فَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ‏:‏ لَا يَنَالُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ- بِإِسْكَانِ الْحَاءِ- وَلَا مُتَكَبِّرٍ‏.‏ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَحْرِيضَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّكَبُّرِ؛ لِمَا يُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النَّقْصِ فِي التَّعَلُّمِ‏.‏

وَرُوِّينَا فِي ‏(‏الْمُجَالَسَةِ‏)‏ لِلدَّيْنَوَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنِ اسْتَتَرَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاءِ لَبِسَ الْجَهْلَ سِرْبَالًا، فَقَطِّعُوا سَرَابِيلَ الْحَيَاءِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ‏.‏

وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ لِلْأَكَابِرِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَالَّذِي هُنَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَذْمُومٌ‏.‏

وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالَا‏:‏ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ‏.‏ وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ‏:‏ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ رَقَّ عِلْمُهُ عِنْدَ الرِّجَالِ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ‏:‏ قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ‏.‏ وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ‏:‏ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا‏.‏ أَسْنَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيمَنِ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَيْلِهِ عَلَى ‏(‏تَارِيخِ بَغْدَادَ‏)‏، وَنَظَمَهُ شَيْخُنَا فَقَالَ‏:‏

عَنِ الْأَصْمَعِيِّ جَاءَتْ إِلَيْنَا مَقَالَهْ *** تُجَدِّدُ بِالْإِحْسَانِ فِي النَّاسِ ذِكْرَهْ

مَتَى يَحْتَمِلُ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَهْ *** وَإِلَّا فَفِي ذُلِّ الْجَهَالَةِ دَهْرَهْ

‏[‏الِاجْتِنَابُ عَنْ كَتْمِ الْمَسْمُوعَاتِ‏]‏

‏(‏وَاجْتَنِبِ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏كَتْمَ السَّمَاعِ‏)‏ الَّذِي ظَفِرْتَ بِهِ لِشَيْخٍ مَعْلُومٍ، أَوْ كَتْمَ شَيْخٍ اخْتُصِصْتَ بِمَعْرِفَتِهِ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِكَ الطَّلَبَةِ؛ رَجَاءَ الِانْفِرَادِ بِهِ عَنْ أَضَرَابِكَ، ‏(‏فَهْوَ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الْكَتْمُ، ‏(‏لُؤْمٌ‏)‏ مِنْ فَاعِلِهِ يَقَعُ مِنْ جَهَلَةِ الطَّلَبَةِ الْوُضَعَاءِ كَثِيرًا، وَيُخَافُ عَلَى مُرْتَكِبِهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ؛ إِذْ بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَتُهُ، وَبِنَشْرِهِ يَنْمَى وَيَعُمُّ نَفْعُهُ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ‏:‏ بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ أَوَّلُ مَنْفَعَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يُفِيدَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا‏.‏ وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، تَعَجَّلُوا بَرَكَةَ هَذَا الْعِلْمِ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ لَا تَبْلُغُونَ مَا تَأْمَلُونَ مِنْهُ، لِيُفِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ‏.‏

بَلْ يُرْوَى كَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي جَامِعِهِ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي ‏(‏رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ‏)‏ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏يَا إِخْوَانِي تَنَاصَحُوا فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْتُمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ فَإِنَّ خِيَانَةَ الرَّجُلِ فِي عِلْمِهِ كَخِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ، وَاللَّهُ سَائِلُكُمْ عَنْهُ‏)‏‏.‏ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي ‏(‏الْحِلْيَةِ‏)‏ بِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّ خِيَانَةً فِي الْعِلْمِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَةٍ فِي الْمَالِ‏)‏‏.‏

وَلِهَذَا قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَالَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إِفَادَةُ الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى رِوَايَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ النُّصْحُ لِلطَّالِبِ، وَالْحِفْظُ لِلْمَطْلُوبِ مَعَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ الْأَجْرِ، وَجَمِيلِ الذِّكْرِ‏.‏

وَأَغْرَبَ ابْنُ مُسَدًّى فَحَكَى عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ سَمَاعَ الْعَالِي لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ أَبَا الرَّبِيعِ بْنِ سَالِمٍ كَتَبَ إِلَى السِّلَفِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَجِيزَ لَهُ بَقَايَا مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ أَصْحَابِ الْخَطِيبِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِانْقِرَاضِهِمْ قَبِلَ السِّتِّمِائَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَآخِرُهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشَرَةٍ وَسِتِّمِائَةٍ، قَالَ‏:‏ وَهَكَذَا رَأَيْتُ نُبَلَاءَ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ يَغَارُونَ عَلَى هَذَا أَشَدَّ الْغَيْرَةِ مَا خَلَا الْأَسْعَدَ بْنَ مُقَرَّبٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُفِيدًا، وَعِنْدِي فِي هَذَا تَوَقُّفٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ أَشَرْتُ لِرَدِّ مَا نَسَبَهُ ابْنُ مَسْدَى إِلَيْهِمَا أَيْضًا مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ‏.‏

وَكَذَا اجْتَنِبْ مَنْعَ عَارِيَةِ الْجُزْءِ أَوِ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ أَوِ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا حَيْثُ لَمْ تَتَعَدَّدْ نُسَخُهُ؛ فَإِنَّهَا تَتَأَكَّدُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ‏)‏، فَهُوَ شَامِلٌ لِهَذَا، وَهَذِهِ الْعَارِيَةُ غَيْرُ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ فَتِلْكَ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُلٍّ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامَنَا مَنَعُوا هَذَا السَّمَاعَ، فَوَاللَّهِ مَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ أَيْضًا‏:‏ وَلَقَدْ شَاهَدْنَا جَمَاعَةً كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالسَّمَاعِ، وَيُخْفُونَ الشُّيُوخَ، وَيَمْنَعُونَ الْأَجْزَاءَ وَالْكُتُبَ عَنِ الطَّلَبَةِ، فَحَرَمَهُمُ اللَّهُ قَصْدَهُمْ، وَذَهَبُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ‏.‏

وَكَذَا أَقُولُ‏:‏ وَكَيْفَ لَا‏؟‏ وَقَدْ قَالَ وَكِيعٌ‏:‏ أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إِعَارَةُ الْكُتُبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكْتُمَ عَمَّنْ لَمْ يَرَهُ أَهْلًا، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الصَّوَابَ إِذَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ مَنْ أَدَّاهُ- لِجَهْلِهِ- فَرْطُ التِّيهِ وَالْإِعْجَابِ إِلَى الْمُحَامَاتِ عَنِ الْخَطَأِ، وَالْمُمَارَاةِ فِي الصَّوَابِ، فَهُوَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ مَذْمُومٌ مَأْثُومٌ، وَمُحْتَجِرُ الْفَائِدَةِ عَنْهُ غَيْرُ مُؤَنَّبٍ وَلَا مَلُومٍ‏.‏

وَسَاقَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى‏:‏ لَا تَرُدَّنَ عَلَى مُعْجَبٍ خَطَا فَيَسْتَفِيدَ مِنْكَ عِلْمًا، وَيَتَّخِذَكَ بِهِ عَدُوًّا‏.‏

وَقَدْ قِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا‏)‏، هُوَ عَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ‏.‏

وَإِذَا أَفَادَكَ أَحَدٌ مِنْ رُفَقَائِكَ وَنَحْوِهِمْ شَيْئًا فَاعْزُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي ‏(‏الْمَدْخَلِ‏)‏ لِلْبَيْهَقِيِّ وَ ‏(‏الْجَامِعِ‏)‏ لِلْخَطِيبِ‏:‏ إِنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمِ أَنْ تَجْلِسَ مَعَ الرَّجُلِ فَتُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا تَعْرِفُهُ فَيَذْكُرُهُ لَكَ، ثُمَّ تَرْوِيهِ وَتَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عِنْدِي فِي هَذَا شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، فَتَعَلَّمْتُهُ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْتَ الْعِلْمَ‏.‏

وَسَأَلَ إِنْسَانٌ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا‏)‏، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَقَّ، إِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ صَاحِبَ ذَا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ‏:‏ يُقَالُ، وَذَكَرَهُ‏.‏ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ رَغْبَةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُجَرَّدِ الْإِرْشَادِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِعَزْوِهِ إِلَيْهِمْ؛ كَالشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ‏:‏ وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ‏.‏

‏[‏الْأَخْذُ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَدُونَهُ وَمِثْلُهُ‏]‏

‏(‏وَاكْتُبِ‏)‏ حَيْثُ لَزِمْتَ تَرْكَ التَّكَبُّرِ بِالسَّنَدِ عَمَّنْ لَقِيتَهُ ‏(‏مَا تَسْتَفِيدُهُ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الَّذِي تَحْصُلُ لَكَ بِهِ فَائِدَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، ‏(‏عَالِيًا‏)‏ كَانَ سَنَدُهُ ‏(‏أَوْ نَازِلًا‏)‏ عَنْ شَيْخِكَ أَوْ رَفِيقِكَ أَوْ مَنْ دُونَكَ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الدِّرَايَةِ أَوِ السِّنِّ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَالْفَائِدَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا الْتَقَطَهَا، بَلْ قَالَ وَكِيعٌ وَسُفْيَانُ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَنْبُلُ الْمُحَدِّثُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَمِثْلَهُ وَدُونَهُ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَكْتُبُ عَمَّنْ دُونَهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ‏:‏ لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ تَقَعْ لِي‏.‏

وَهَكَذَا كَانَتْ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَكَمْ مِنْ كَبِيرٍ رَوَى عَنْ صَغِيرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَأَوْرَدْتُ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِنَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جَمْعٍ مِنْ رُفَقَائِهِ، بَلْ وَتَلَامِذَتِهِ، جُمْلَةً‏.‏

وَفِي ‏(‏صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏)‏ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ مِنْهُمْ‏:‏ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ‏.‏ وَكَذَا كَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقْرَأُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَتُقْرَأُ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ الْخَزْرَجِيِّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا أَهْلَكَنَا التَّكَبُّرُ‏.‏

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قِرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا قَرَأَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسْتَذْكِرْ مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَرْضِ شَيْئًا؛ لِيَتَوَاضَعَ النَّاسُ، وَلَا يَسْتَنْكِفَ الْكَبِيرُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِلْمَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الصَّغِيرِ فِي الِازْدِيَادِ إِذَا رَأَى الْكَبِيرَ يَأْخُذُ عَنْهُ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَ صَبِيًّا فِي مَجْلِسِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ شَيْئًا، فَطَلَبَ الْقَلَمَ وَكَتَبَهُ عَنْهُ، فَلَمْا فَارَقَهُ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُذِيقَهُ حَلَاوَةَ رِيَاسَةِ الْعِلْمِ؛ لِيَبْعَثَهُ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ‏.‏

وَوَقَفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ عَلَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْفَضْلِ الْخُزَاعِيِّ فِيهِ حِكَايَاتٌ مَلِيحَةٌ مِمَّا قَرَأَهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى الشَّرِيفِ عُمَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَسَنِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَوِيِّ، فَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِسْمَاعِهِ لَهُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ هَذَا يَا سَيِّدِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِالسَّمَاعِ مِنْكَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ ذَاكَ بِحَالَةٍ‏.‏

قَالَ أَبُو سَعْدٍ‏:‏ فَقَرَأْتُهُ وَسَمِعَهُ الْقَاضِي مِنِّي مَعَ جَمَاعَةٍ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فَفَعَلُوا، وَكَتَبَ هُوَ بِخَطِّهِ أَوَّلَ الْجُزْءِ‏:‏ ثَنَا أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ‏.‏

وَلَا تَأْنَفْ مِنْ تَحْدِيثِكَ عَمَّنْ دُونَكَ، فَقَدَ رُوِّينَا فِي ‏(‏الْوَصِيَّةِ‏)‏ لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ سَمِعَ حَدِيثَ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَلَمْ يَرْوِهِ فَهُوَ مُرَاءٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ‏.‏ وَفِي رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ وَالْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْأَقْرَانِ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ‏.‏‏.‏

وَتَوَسَّطَ جَمَاعَةٌ فَرَوَوْا عَمَّنْ دُونَهُمْ مَعَ تَغْطِيَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُهُمْ إِلَّا الْحَاذِقُ‏.‏

وَلْتَكُنَ الْفَائِدَةُ قَصْدَكَ ‏(‏لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ‏)‏ حَالَ كَوْنِهَا ‏(‏صِيتًا عَاطِلًا‏)‏ مِنَ الْفَائِدَةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَمَنْ حَكَى عَنْهُ الْخَطِيبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ضَيِّعْ وَرَقَةً، وَلَا تُضَيِّعَنَّ شَيْخًا‏.‏ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا جُلُّ أَصْحَابِنَا مِنْ طَلَبَةِ شَيْخِنَا فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ؛ فَإِنَّهُمُ اعْتَنَوْا بِالتَّكْثِيرِ مِنَ الشُّيُوخِ بِحَيْثُ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ‏:‏ أَخَذْتُ عَنْ سِتِّمِائَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، دُونَ التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، هَذَا مَعَ تَصْرِيحِ شَيْخِنَا بِأَنَّ عَكْسَهُ أَوْلَى‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ‏:‏ كَتَبْتُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ سِتَّةَ آلَافِ حَدِيثٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ دِينَارٍ‏.‏

وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا، عَلَى احْتِمَالِ كَلَامِهِ أَيْضًا غَيْرَ هَذَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْمُحَدِّثِ تَكْثِيرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَجَمْعَ أَطْرَافِهِ، فَيَكْثُرُ شُيُوخُهُ لِذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ‏.‏

وَمِنْ هُنَا وُصِفَ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ خَلْقٌ مِنَ الْحُفَّاظِ؛ كَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ الْكُدَيْمِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَكَالْقَاسِمِ بْنِ دَاوُدَ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ‏:‏ كَتَبْتُ عَنْ سِتَّةِ آلَافِ شَيْخٍ‏.‏

وَمِمَّنْ زَادَتْ شُيُوخُهُ عَلَى أَلْفٍ سِوَى هَؤُلَاءِ‏:‏ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ، وَأَبُو الْفِتْيَانِ، وَأَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ، وَأَبُو سَعْدٍ السَّمَّانُ، كَانَ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ شَيْخٍ وَسِتُّمِائَةٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ النَّجَّارِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالدِّمْيَاطِيُّ، وَالْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ، وَالْبِرْزَالِيُّ، فَشُيُوخُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَيْخٍ مِنْهَا أَلْفٌ بِالْإِجَازَةِ، وَعَتِيقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الْمِصْرِيُّ، ذَكَرَ أَنَّ شُيُوخَهُ نَيَّفُوا عَنِ الْأَلْفِ، وَالْفَخْرُ، وَعُثْمَانُ التَّوْزَرِيُّ بَلَغَتْ شُيُوخُهُ نَحْوَ الْأَلْفِ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ رَافِعٍ، وَالْعِزُّ أَبُو عُمَرَ ابْنُ جُمَاعَةَ، وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً‏.‏

وَكَمْ فِي جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ فَائِدَةٍ أَشَرْتُ لِجُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ‏:‏ لَوْ لَمْ نَكْتُبِ الْحَدِيثَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِلَفْظِ‏:‏ ثَلَاثِينَ‏.‏ وَقَالَ غَيْرُهُمَا‏:‏ الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَا يُوقَفُ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا عَلَى سَقَمِهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ ‏(‏الْعُمْدَةِ‏)‏ مِنْ شَرْحِهَا‏:‏ إِذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ، وَيَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَسْلَفْتُ شَيْئًا مِنْهُ فِي أَوَاخِرَ الْمُعَلَّلِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ يَقُلْ‏)‏ كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَكَذَا ابْنُ مَعِينٍ، فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِ السِّلَفِيِّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي شَرْطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشُّيُوخِ‏:‏ ‏(‏إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ اجْمَعْ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ‏:‏ قَمَّاشٌ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ‏:‏ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْقُمَاشَ، وَهُوَ الْكُنَاسَةَ؛ أَيْ‏:‏ يَرْوِي عَمَّنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ‏.‏

‏(‏ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشِ فَلَيْسَ‏)‏ هُوَ ‏(‏مِنْ ذَا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ مِنَ الِاسْتِكْثَارِ الْعَاطِلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا رَوَاهُ السِّلَفِيُّ فِي جُزْءِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أُورَمَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ‏:‏ اكْتُبْ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِذَا حَدَّثْتَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ‏.‏ وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ حَمَلْتُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَرَوَيْتُ عَنِ أَلْفٍ‏.‏

وَصَرَّحَ شَيْخُنَا فِي بَعْضِ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهُ مِنْ شُيُوخِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْأَدَاءَ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ اكْتُبِ الْفَائِدَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَهَا، وَلَا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ فِيمَنْ حَدَّثَكَ أَهْوَ أَهْلٌ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ أَمْ لَا، فَرُبَّمَا فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الشَّيْخِ أَوْ سَفَرِهِ أَوْ سَفَرِكَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ فَفَتِّشْ حِينَئِذٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏بَابُ مَنْ قَالَ‏:‏ يَكْتُبُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ‏)‏، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ وَتَرْكَ انْتِخَابِهِ، أَوِ اسْتِيعَابَ مَا عِنْدَ الشَّيْخِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ أَوِ الْعَمَلِ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ‏.‏

وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ مَهْدِيٍّ مَا يُشِيرُ إِلَى الِاحْتِمَالَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا يَكُونُ إِمَامًا مَنْ حَدَّثَ عَنْ كُلِّ مَنْ رَأَى وَلَا بِكُلِّ مَا سَمِعَ‏.‏

وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي النَّهْيُ عَنِ الِانْتِخَابِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏وَالْكِتَابَ‏)‏، أَوِ الْجُزْءَ، بِالنَّصْبِ ‏(‏تَمِّمْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏سَمَاعَهُ‏)‏ وَكِتَابَتَهُ، وَ ‏(‏لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ‏)‏؛ فَإِنَّكَ قَدْ تَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا تَجِدُهُ فِيمَا انْتَخَبْتَهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ مَا انْتَخَبْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ إِلَّا نَدِمْتُ‏.‏

وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ‏:‏ مَا جَاءَ مِنْ مُنْتَقٍ خَيْرٌ قَطُّ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ‏:‏ سَيَنْدَمُ الْمُنْتَخِبُ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ‏:‏ صَاحِبُ الِانْتِخَابِ يَنْدَمُ، وَصَاحِبُ النَّسْخِ لَا يَنْدَمُ‏.‏

وَقَالَ الْمَجْدُ الصُّرْجَكِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ‏:‏ مَا قَرْمَطْنَا نَدِمْنَا، وَمَا انَتَخَبْنَا نَدِمْنَا، وَمَا لَمْ نُقَابِلْ نَدِمْنَا‏.‏ وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَابَلَةِ‏.‏ وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ‏:‏ كُنَّا نَكْتُبُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ‏.‏

وَلَمْ يَقْنَعِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِانْتِخَابِ كُتُبِ غُنْدَرٍ كَمَا فَعَلَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ‏:‏ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا نَسَخَ كُتُبَهُ غَيْرَنَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ ‏(‏إِنْ يَضِقْ حَالٌ‏)‏ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ ‏(‏عَنِ اسْتِيعَابِهِ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الْكِتَابِ أَوِ الْجُزْءِ؛ لِعُسْرِ الشَّيْخِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَوِ الطَّالِبِ وَارِدًا غَيْرَ مُقِيمٍ، فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لَهُ، أَوْ لِضَيِّقِ يَدِ الطَّالِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏ وَكَذَا إِنِ اتَّسَعَ مَسْمُوعُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ كِتَابَةُ الْكُتُبِ أَوِ الْأَجْزَاءِ كَامِلَةً كَالتِّكْرَارِ، وَاتَّفَقَ شَيْءٌ مِنْهَا ‏(‏لِعَارِفٍ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ بِجَوْدَةِ الِانْتِخَابِ، اجْتَهَدَ ‏(‏وَأَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ‏)‏ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ اتَّفَقَ ذَلِكَ لِمَنْ ‏(‏قَصُرَ‏)‏ عَنْ مَعْرِفَةِ الِانْتِخَابِ ‏(‏اسْتَعَانَ‏)‏ فِي انْتِخَابِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ ‏(‏ذَا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ صَاحِبَ، ‏(‏حِفْظٍ‏)‏ وَمَعْرِفَةٍ؛ ‏(‏فَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ لِلِانْتِخَابِ لِرِفَاقِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ فَضْلًا عَنِ الْقَاصِرِينَ، ‏(‏يُعِدْ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ يُهَيِّئُ بِحَيْثُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ وَيَتَصَدَّى لِفِعْلِهِ؛ كَأَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أُورَمَةَ وَعُبَيْدٍ الْعِجْلِ وَالْجِعَابِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْحَاجِبِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ الْمُظَفَّرِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ واللَّالِكَائِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَخِبُونَ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالطَّلَبَةُ تَسْمَعُ وَتَكْتُبُ بِانْتِخَابِهِمْ‏.‏

وَاقْتَفَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّاظِمِ وَتَلَامِذَتِهِ؛ كَوَلَدِهِ وَالصَّلَاحِ الْأَقْفَهْسِيِّ وَشَيْخِنَا، ثُمَّ طَلَبَتِهِ؛ كَالْجَمَّالِ بْنِ مُوسَى وَمُسْتَمْلِيهِ وَصَاحِبِنَا النَّجْمِ الْهَاشِمِيِّ‏.‏

وَتَوَسَّعَا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدٍّ لَمْ أَرْتَضِهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كُنْتُ سَلَكْتُهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ عَارِفًا وَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَخَلَّ، كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَعِينٍ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ مِمَّا حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ‏:‏ دَفَعَ إِلَيَّ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ سِتَّمِائَةِ حَدِيثٍ، فَانْتَقَيْتُ شِرَارَهَا لِكَوْنِي لَمْ يَكُنْ لِي بِهَا حِينَئِذٍ مَعْرِفَةٌ‏.‏

وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِانْتِخَابِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْتَخِبُ لَهُمْ، فَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَحْضُرُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِعُبَيْدٍ، وَيُلَقَّبُ أَيْضًا ‏(‏الْعِجْلَ‏)‏، عِنْدَ الشُّيُوخِ وَهُوَ شَابٌّ، فَيَنْتَخِبُ لَنَا، فَكَانَ إِذَا أَخَذَ الْكِتَابَ كَلَّمْنَاهُ فَلَا يُجِيبُنَا حَتَّى يَفْرَغَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ إِذَا مَرَّ حَدِيثُ الصَّحَابِيِّ أَحْتَاجُ أَتَفَكَّرُ فِي مُسْنَدِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، هَلِ الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْ لَا‏؟‏ فَلَوْ أَجَبْتُكُمْ خَشِيتُ أَنْ أَزِلَ، فَتَقُولُونَ لِي‏:‏ لِمَ انْتَخَبْتَ هَذَا وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ فُلَانٌ‏.‏

‏(‏وَعَلَّمُوا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ مَنِ انْتَخَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، ‏(‏فِي الْأَصْلِ‏)‏ الْمُنْتَخَبِ مِنْهُ مَا انْتَخَبُوهُ؛ لِأَجْلِ تَيَسُّرِ مُعَارَضَةِ مَا كَتَبُوهُ بِهِ، أَوْ لِإِمْسَاكِ الشَّيْخِ أَصْلَهُ بِيَدِهِ، أَوْ لِلتَّحْدِيثِ مِنْهُ، أَوْ لِكِتَابَةِ فَرْعٍ آخَرَ مِنْهُ؛ حَيْثُ فُقِدَ الْأَوَّلُ، وَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ لَا حَجْرَ فِيهِ، فَعَلَّمُوا ‏(‏إِمَّا خَطَّا‏)‏ بِالْحُمْرَةِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَرِيضًا فِي الْحَاشِيَةِ الْيُسْرَى كَالدَّارَقُطْنِيِّ، أَوْ صَغِيرًا فِي أَوَّلِ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ كَاللَّالَكَائِيِّ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ عَلَّمُوا بِصُورَةِ ‏(‏هَمْزَتَيْنِ‏)‏ بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى؛ كَأَبِي الْفَضْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْفَلَكِيِّ، ‏(‏أَوْ بِصَادٍ‏)‏ مَمْدُودَةٍ بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ أَيْضًا؛ كَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ النُّعَيْمِيِّ، ‏(‏أَوْ بِطَا‏)‏ مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ كَذَلِكَ؛ كَأَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالِ، أَوْ بِحَائَيْنِ إِحْدَاهُمَا إِلَى جَنْبِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ؛ كَمُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ، أَوْ بِجِيمٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى كَالْجَمَاعَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏