فصل: (الِاقْتِصَارُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ دُونَ فَهْمِهِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


‏[‏الِاقْتِصَارُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ دُونَ فَهْمِهِ‏]‏

‏(‏وَلَا تَكُنْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا‏)‏ الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ، ‏(‏وَكَتْبَهُ‏)‏ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ؛ أَيْ‏:‏ لَا تَقْتَصِرْ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ ‏(‏مِنْ دُونِ فَهْمٍ‏)‏ لِمَا فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ ‏(‏نَفَعَا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ نَافِعٍ، فَتَكُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ قَدْ أَتْعَبْتَ نَفْسَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَظْفَرَ بِطَائِلٍ، وَلَا تَحْصُلَ بِذَلِكَ فِي عِدَادِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْأَمَاثِلِ، بَلْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ صِرْتَ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ الْمَنْقُوصِينَ الْمُتَحَلِّينَ بِمَا هُمْ مِنْهُ عَاطِلُونَ‏.‏

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ‏:‏

إِنَّ الَّذِي يَرْوِي وَلَكِنَّهُ *** يَجْهَلُ مَا يَرْوِي وَمَا يَكْتُبُ

كَصَخْرَةٍ تَنْبُعُ أَمْوَاهُهَا *** تَسْقِي الْأَرَاضِيَ وَهْيَ لَا تَشْرَبُ

وَقَدْ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ‏:‏ الرِّيَاسَةُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا دِرَايَةٍ رِيَاسَةُ نَزْلَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ الْخَطِيبُ‏:‏ هِيَ اجْتِمَاعُ الطَّلَبَةِ عَلَى الرَّاوِي لِلسَّمَاعِ عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِ، يَعْنِي فَإِنَّ سَنَدَهُ لَا يَعْلُو وَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ غَالِبًا إِلَّا حِينَ تَقَدُّمِهِ فِي السِّنِّ، قَالَ‏:‏ فَإِذَا تَمَيَّزَ الطَّالِبُ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتِهِ تَعَجَّلَ بَرَكَةَ ذَلِكَ فِي شَبِيبِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَخْلِيدِهِ الصُّحُفَ دُونَ التَّمْيِيزِ بِمَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِ إِلَّا تَلْقِيبَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ مَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ بِالْحَشْوِيَّةِ- يَعْنِي بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا، فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ حَشْوِ الطَّلَبَةِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَشُّونَ فِي حَاشِيَةِ حَلْقَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- لَوَجَبَ عَلَى الطَّالِبِ الْأَنَفَةُ لِنَفْسِهِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَيُرْوَى كَمَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي ‏(‏تَارِيخِ أَصْبَهَانَ‏)‏ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ آبَائِهِ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏كُونُوا دُرَاةً وَلَا تَكُونُوا رُوَاةً، حَدِيثٌ تَعْرِفُونَ فِقْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوُونَهُ‏)‏‏.‏ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ‏(‏الْحِلْيَةِ‏)‏ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً‏)‏‏.‏ وَكَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْأَدِيبِ الْفَاضِلِ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ‏:‏

يَا طَالِبَ الْعِلْمِ الَّذِي *** ذَهَبَتْ بِمُدَّتِهِ الرِّوَايَهْ

كُنْ فِي الرِّوَايَةِ ذَا الْعِنَايَهْ *** بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَهْ

وَارْوِ الْقَلِيلَ وَرَاعِهِ *** فَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَهْ

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ‏:‏

وَاظِبْ عَلَى جَمْعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ *** وَاجْهَدْ عَلَى تَصْحِيحِهِ فِي كُتْبِهْ

وَاسْمَعْهُ مِنْ أَرْبَابِهِ نَقْلًا كَمَا *** سَمِعُوهُ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ تَسْعَدْ بِهِ

وَاعْرِفْ ثِقَاتَ رُوَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ *** كَيْمَا تُمَيِّزَ صِدْقَهُ مِنْ كِذْبِهِ

فَهُوَ الْمُفَسِّرُ لِلْكِتَابِ وَإِنَّمَا *** نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ

وَتَفَهَّمِ الْأَخْبَارَ تَعْرِفْ حِلَّهُ *** مِنْ حُرْمِهِ مَعَ فَرْضِهِ مِنْ نَدْبِهِ

وَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِلْعِبَادِ بِشَرْحِهِ *** سِيَرَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مَعَ صَحْبِهِ

وَتَتَبَّعِ الْعَالِيَ الصَّحِيحَ فَإِنَّهُ *** قُرَبٌ إِلَى الرَّحْمَنِ تَحْظَ بِقُرْبِهِ‏.‏

وَتَجَنَّبِ التَّصْحِيفَ فِيهِ فَرُبَّمَا *** أَدَّى إِلَى تَحْرِيفِهِ بَلْ قَلْبِهِ

وَاتْرُكْ مَقَالَةَ مَنْ لَحَاكَ بِجَهْلِهِ *** عَنْ كَتْبِهِ أَوْ بِدْعَةٍ فِي قَلْبِهِ

فَكَفَى الْمُحَدِّثَ رِفْعَةً أَنْ يُرْتَضَى *** وَيُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحِزْبِهِ

725- وَاقْرَأْ كِتَابًا فِي عُلُومِ الْأَثَرِ *** كَابْنِ الصَّلَاحِ أَوْ كَذَا الْمُخْتَصَرِ

726- وَبِالصَّحِيحَيْنِ ابْدَأَنْ ثُمَّ السُّنَنْ *** وَالْبَيْهَقِي ضَبْطًا وَفَهْمًا ثُمَّ ثَنْ

727- بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ مُسْنَدِ *** أَحْمَدَ وَالْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ

728- وَعِلَلٍ وَخَيْرُهَا لَأَحْمَدَا *** وَالدَّارَقُطْنِي وَالتَّوَارِيخُ غَدَا

729- مِنْ خَيْرِهَا الْكَبِيرُ لِلْجُعْفِيِّ *** وَالْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لِلْرَازِيِّ

730- وَكُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ الْمَشْهُورِ *** وَالْأَكْمَلُ الْإِكْمَالُ لِلْأَمِيرِ

731- وَاحْفَظْهُ بِالتَّدْرِيجِ ثُمَّ ذَاكِرِ *** بِهِ وَالِاتْقَانَ اصْحَبَنْ وَبَادِرِ

732- إِذَا تَأَهَّلْتَ إِلَى التَّأْلِيفِ *** تَمْهَرْ وَتُذْكَرْ وَهْوَ فِي التَّصْنِيفِ

733- طَرِيقَتَانِ جَمْعُهُ أَبْوَابَا *** أَوْ مُسْنَدًا تُفْرِدُهُ صِحَابَا

734- وَجَمْعُهُ مُعَلَّلَا كَمَا فَعَلْ *** يَعْقُوبُ أَعْلَى رُتْبَةً وَمَا كَمُلْ

735- وَجَمَعُوا أَبْوَابًا اوْ شُيُوخًا اوْ *** تَرَاجِمًا أَوْ طُرُقًا وَقَدْ رَأَوْا

736- كَرَاهَةَ الْجَمْعِ لِذِي تَقْصِيرِ *** كَذَاكَ الْإِخْرَاجُ بِلَا تَحْرِيرِ

‏[‏الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ‏]‏

‏(‏وَاقْرَأْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ عِنْدَ شُرُوعِكَ فِي الطَّلَبِ لِهَذَا الشَّأْنِ ‏(‏كِتَابًا فِي‏)‏ مَعْرِفَةِ ‏(‏عُلُومِ الْأَثَرِ‏)‏ تَعْرِفُ بِهِ أَدَبَ التَّحَمُّلِ، وَكَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَالطَّلَبِ، وَمَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ، وَسَائِرَ مُصْطَلَحِ أَهْلِهِ، ‏(‏كَـ‏)‏ كِتَابِ عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبِي عَمْرٍو ‏(‏ابْنِ الصَّلَاحِ‏)‏، الَّذِي قَالَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ‏:‏ إِنَّهُ مَدْخَلٌ إِلَى هَذَا الشَّأْنِ مُفْصِحٌ عَنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، شَارِحٌ لِمُصَنَّفَاتِ أَهْلِهِ وَمَقَاصِدِهِمْ وَمُهِمَّاتِهِمُ الَّتِي يَنْقُصُ الْمُحَدِّثُ بِالْجَهْلِ بِهَا نَقْصًا فَاحِشًا، قَالَ‏:‏ فَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ تُقَدِّمَ الْعِنَايَةُ بِهِ، وَعَلَيْهِ مُعَوَّلُ كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ‏.‏

‏(‏أَوْ كَذَا‏)‏ النَّظْمِ ‏(‏الْمُخْتَصَرِ‏)‏ مِنْهُ، الْمُلَخَّصِ فِيهِ مَقَاصِدُهُ مَعَ زِيَادَةِ مَا يُسْتَعْذَبُ كَمَا سَلَفَ فِي الْخُطْبَةِ‏.‏ وَعَوِّلْ عَلَى شَرْحِهِ هَذَا وَاعْتَمِدْهُ، فَلَا تَرَى نَظِيرَهُ فِي الْإِتْقَانِ وَالْجَمْعِ مَعَ التَّلْخِيصِ وَالتَّحْقِيقِ، نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَصَرَفَ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَلْحَظْ مَغْزَاهُ مِنْ صَالِحٍ وَطَالِحٍ، وَحَاسِدٍ وَنَاصِحٍ، وَصَبِيٍّ جَهُولٍ وَغَبِيٍّ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، مُتَفَهِّمًا لِمَا يَلِيقُ بِخَاطِرِكَ مِنْهَا مِمَّنْ يَكُونُ مُمَارِسًا لِلْفَنِّ مَطْبُوعًا فِيهِ عَامِلًا بِهِ، وَأَلَّا تَكُنْ كَخَابِطِ عَشْوَاءَ رَكِبَ مَتْنَ عَمْيَاءَ‏.‏

وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ‏.‏ وَإِذَا عَلِمْتَ كَيْفِيَّةَ الطَّلَبِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ مَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَعِمَلَهُ شِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى السَّمَاعِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُلَازَمَةِ لِلشُّيُوخِ، وَتَبْتَدِئُ بِسَمَاعِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالْأُصُولِ الْجَامِعَةِ لِلسُّنَنِ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ‏.‏

وَهِيَ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْمَسَانِيدِ وَالْمُبَوَّبَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، أَنْفَعُهَا بِالنَّظَرِ؛ لِسُرْعَةِ اسْتِخْرَاجِ الْفَائِدَةِ مِنْهَا، فَقَدِّمْهَا، ‏(‏وَبِالصَّحِيحَيْنِ‏)‏ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْهَا ‏(‏ابْدَأَنْ‏)‏، وَقَدِّمْ أَوَّلَهُمَا لِشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ الْقَصْدُ الْأَعْظَمُ، مَعَ تَقَدِّمِهِ وَرُجْحَانِهِ كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ‏.‏

إِلَّا إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لـِ‏(‏صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏)‏ انْفَرَدَ بِهِ، وَيُخْشَى فَوْتُهُ، وَرُوَاةُ ‏(‏الْبُخَارِيِّ‏)‏ فِيهِمْ كَثْرَةٌ، كَمَا اتَّفَقَ فِي عَصْرِنَا لِلزَّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزَّرْكَشِيِّ الْحَنْبَلِيِّ آخِرِ مَنْ سَمِعَ ‏(‏صَحِيحَ مُسْلِمٍ‏)‏ عَلَى الْبَيَانِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ التَّشَاغُلُ عَنْهُ بِـ‏(‏صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ‏)‏ الَّذِي اسْتَمَرَّ بَعْدَهُ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرُبَّمَا فَاتَ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ أَرْدِفْهُمَا بِكُتُبِ ‏(‏السُّنَنْ‏)‏ الْمُرَاعِي مُصَنِّفُوهَا فِيهَا الِاتِّصَالَ غَالِبًا، وَالْمُقَدَّمُ مِنْهَا كِتَابُ أَبِي دَاوُدَ؛ لِكَثْرَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ كِتَابُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ؛ لِيَتَمَرَّنَ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَشْيِ فِي الْعِلَلِ، ثُمَّ كِتَابُ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ؛ لِاعْتِنَائِهِ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِي الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبَيَانِهِ لِحُكْمِ مَا يُورِدُهُ مِنْ صِحَّةٍ وَحُسْنٍ وَغَيْرِهِمَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَلِيهَا كِتَابُ ‏(‏السُّنَنِ‏)‏ لِلْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ ‏(‏الْبَيْهَقِي‏)‏، فَلَا تَحِدْ عَنْهُ؛ لِاسْتِيعَابِهِ لِأَكْثَرِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، بَلْ لَا نَعْلَمُ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- فِي بَابِهِ مِثْلَهُ‏.‏

وَلِذَا كَانَ حَقُّهُ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ السُّنَنِ، وَلَكِنْ قَدَّمْتُ تِلْكَ لِتَقَدُّمِ مُصَنِّفِيهَا فِي الْوَفَاةِ وَمَزِيدِ جَلَالَتِهِمْ، ‏(‏ضَبْطًا وَفَهْمًا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ بِالضَّبْطِ فِي سَمَاعِكَ لِمُشْكِلِهَا، وَالْفَهْمِ لِخَفِيِ مَعَانِيهَا، بِحَيْثُ إِنَّكَ كُلَّمَا مَرَّ بِكَ اسْمٌ مُشْكِلٌ أَوْ كَلِمَةٌ مِنْ حَدِيثٍ مُشْكِلَةٍ تَبْحَثُ عَنْهَا، وَتُودِعُهَا قَلْبَكَ، فَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ لَكَ عِلْمٌ كَثِيرٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ‏.‏

وَكَذَا اعْتَنِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُبَوَّبَةِ بِسَمَاعِ الصِّحَاحِ لِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ تَامَّا، وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَبِسَمَاعِ الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِـ‏(‏الْمُسْنَدِ‏)‏ لِلدَّارِمِيِّ وَ‏(‏السُّنَنِ‏)‏ لِإِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ مَعَ مُسْنَدِهِ، وَهُوَ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَ‏(‏السُّنَنِ الْكُبْرَى‏)‏ لِلنَّسَائِيِّ؛ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الزِّيَادَاتِ عَلَى تِلْكَ، وَ‏(‏السُّنَنِ‏)‏ لِابْنِ مَاجَهْ وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَبِـ‏(‏شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ‏)‏ لِلطَّحَاوِيِّ‏.‏

‏(‏ثُمَّ ثَنْ بِـ‏)‏ سَمَاعِ ‏(‏مَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ‏)‏ كُتُبِ الْمَسَانِيدِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا؛ كَـ‏(‏مُسْنَدِ‏)‏ الْإِمَامِ ‏(‏أَحْمَدَ‏)‏ وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَالْعَدَنِيِّ وَمُسَدَّدٍ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا أَعْلَى مِنْهَا فِي الَّتِي قَبِلَهَا غَالِبًا‏.‏

وَكَذَا بِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ عَلَى الْأَبْوَابِ أَيْضًا، لَكِنْ كَثُرَ فِيهَا الْإِيرَادُ لِغَيْرِ الْمُسْنَدِ، كَالْمُرْسَلِ وَشِبْهِهِ، مَعَ كَوْنِهَا سَابِقَةً لِتِلْكَ فِي الْوَضْعِ؛ كَـ‏(‏مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ‏)‏ وَ‏(‏السُّنَنِ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ‏)‏ وَ‏(‏الْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ‏)‏ لِمُقْتَفِي السُّنَّةِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ الَّذِي قَالَ أَبُو خُلَيْدٍ عُتْبَةُ بْنُ حَمَّادٍ‏:‏ إِنَّهُ لَمَّا عَرَضَهُ عَلَى مُؤَلِّفِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَيْامٍ قَالَ لَهُ‏:‏ عِلْمٌ جَمَعْتُهُ فِي سِتِّينَ سَنَةً أَخَذْتُمُوهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيْامٍ، وَاللَّهِ لَا يَنْفَعُكُمُ اللَّهُ بِهِ أَبَدًا، وَفِي لَفْظٍ‏:‏ لَا فَقِهْتُمْ أَبَدًا‏.‏ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ‏(‏الْحِلْيَةِ‏)‏‏.‏

وَكَكُتُبِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَهُشَيْمٍ وَابْنِ وَهْبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَوَكِيعٍ، وَ‏(‏الْمُوَطَّأُ‏)‏ قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّمْنَا فِي أَصَحِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ‏:‏ إِنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي هَذَا النَّوْعِ، فَيَجِبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَضَهُ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ تَابِعِيًّا، فَكُلُّهُمْ وَاطَأَهُ عَلَى صِحَّتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الطَّحَّانِ فِي ‏(‏تَارِيخِ الْمِصْرِيِّينَ‏)‏ لَهُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا جُرِّبَ أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا أَمْسَكَتْهُ بِيَدِهَا تَضَعُ فِي الْحَالِ‏.‏

ثُمَّ بِالْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنَ التَّصَانِيفِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَبْوَابٍ مَخْصُوصَةٍ؛ كَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَالْأَدَبِ وَالْفَضَائِلِ وَالسِّيَرِ، وَذَلِكَ لَا يَنْحَصِرُ كَثْرَةً، وَكَذَا مِنَ الْمَعَاجِمِ الَّتِي عَلَى الصَّحَابَةِ وَالَّتِي عَلَى الشُّيُوخِ، وَالْفَوَائِدِ النَّثْرِيَّةِ، وَالْأَجْزَاءِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَالْأَرْبَعِينِيَّاتِ، وَقَدِّمْ مِنْهُ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَذَلِكَ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا النُّبَهَاءُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالزَّوَائِدِ، وَكُلُّ مَا سَمَّيْتُهُ فَأَكْثَرُهُ بِحَمْدِ اللَّهِ لِي مَسْمُوعٌ، وَمَا لَمْ أُسَمِّهِ فَعِنْدِي بِالسَّمَاعِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُ مَا يَفُوقُ الْوَصْفَ‏.‏

‏[‏كُتُبُ الْعِلَلَ وَأَهَمَّهَا‏]‏

‏(‏وَ‏)‏ اعْتَنِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْحَاجَةُ مِنْ كُتُبِ ‏(‏عِلَلٍ‏)‏؛ كَـ‏(‏الْعِلَلِ‏)‏ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةَ ابْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ، وَلِأَحْمَدَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَشَرَحَهَا ابْنُ رَجَبٍ، وَ‏(‏عِلَلِ الْخَلَّالِ‏)‏ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، مَعَ ضَمِّهِ لِذَلِكَ مَعْرِفَةَ الرِّجَالِ، وَأَبِي بِشْرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، وَ‏(‏التَّمْيِيزِ‏)‏ لِمُسْلِمٍ، ‏(‏وَخَيْرُهَا لِأَحْمَدَا‏)‏ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَكِتَابُهُ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ مُرَتَّبٍ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَقَدْ شَرَعَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي شَرْحِهِ، فَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ مِنْهُ مُجَلَّدًا عَلَى يَسِيرٍ مِنْهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لِأَبِي الْحَسَنِ ‏(‏الدَّارَقُطْنِي‏)‏، وَهُوَ عَلَى الْمَسَانِيدِ مَعَ أَنَّهُ أَجْمَعُهَا، وَلَيْسَ مِنْ جَمْعِهِ، بَلِ الْجَامِعُ لَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الْأَحَادِيثِ، فَيُجِيبُهُ عَنْهَا بِمَا يُقَيِّدُهُ عَنْهُ بِالْكِتَابَةِ، فَلَمَّا مَاتَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَدَ الْبَرْقَانِيُّ قِمَطْرَهُ امْتَلَأَ مِنْ صُكُوكٍ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ، فَاسْتَخْرَجَهَا وَجَمَعَهَا فِي تَأْلِيفٍ نَسَبَهُ لِشَيْخِهِ‏.‏

ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ خِيَرَةَ فِي تَرْجَمَةِ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ بِرْنَامِجِ شُيُوخِهِ، قَالَ‏:‏ وَمِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ فِي ‏(‏الْبَارِعِ‏)‏ فِي اللُّغَةِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ؛ فَإِنَّهُ جَمَعَهُ بِخَطِّهِ مِنْ صُكُوكٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُهُ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ‏.‏

عَلَى أَنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ قَالَ فِي ‏(‏فَوَائِدِ الرِّحْلَةِ‏)‏ لَهُ‏:‏ سَمِعْتُ الْإِمَامَ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ كِتَابَ ‏(‏الْعِلَلَ‏)‏ الَّذِي خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، يَعْنِي الْآتِي ذِكْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِعَدَمِ وُجُودِ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِمَا‏.‏

لَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بِقَوْلِهِ‏:‏ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُثْبِتُ الْمُدَّعَى، وَمَنْ تَأَمَّلَ ‏(‏الْعِلَلَ‏)‏ عَرَفَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ نَظَرَ فِي عِلَلِ يَعْقُوبَ أَصْلًا، قَالَ‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّهُ يَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شُيُوخِهِ أَوْ شُيُوخِ شُيُوخِهِ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكْهُمْ يَعْقُوبُ، وَيَسُوقُ كَثِيرًا بِأَسَانِيدِهِ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ أَيْضًا‏.‏

وَقَدْ أَفْرَدَ شَيْخُنَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مَا لَهُ لَقَبٌ خَاصٌّ؛ كَالْمَقْلُوبِ وَالْمُدْرَجِ وَالْمَوْقُوفِ، فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهَا فِي تَصْنِيفٍ مُفْرَدٍ، وَجَعَلَ الْعِلَلَ الْمُجَرَّدَةَ فِي تَصْنِيفٍ مُسْتَقِلٍّ‏.‏

وَأَمَّا أَنَا فَشَرَعْتُ فِي تَلْخِيصِ جَمِيعِ الْكِتَابِ مَعَ زِيَادَاتٍ وَعَزْوٍ، فَانْتَهَى مِنْهُ الرُّبْعُ، يَسَّرَ اللَّهُ إِكْمَالَهُ‏.‏ هَذَا كُلُّهُ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ هُوَ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلَلِ لِي بِالسَّمَاعِ، بَلْ وَلَا لِشَيْخِي مِنْ قَبْلِي، بَلَى أَرْوِي كِتَابَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدٍ عَالٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلِيلِيِّ عَنِ الصَّدْرِ الْمَيْدُومِيِّ عَنْ أَبِي عِيسَى بْنِ عَلَّاقٍ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ سَعْدِ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَتْ‏:‏ أَنَا بِهِ أَبِي وَأَنَا فِي الْخَامِسَةِ، أَنَا بِهِ أَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنِ الْبَرْقَانِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ؛ لِسَمَاعِهِمَا مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ‏.‏

‏[‏ذِكْرُ أَفْضَلِ كُتُبِ التَّارِيخِ‏]‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا اعْتَنِ بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ كُتُبِ ‏(‏التَّوَارِيخُ‏)‏ لِلْمُحَدِّثِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ كَابْنِ مَعِينٍ رِوَايَةَ كُلٍّ مِنْ الْحُسَيْنِ بْنِ حِبَّانَ وَعَبَاسٍ الدُّورِيِّ وَالْمُفَضَّلِ بْنِ غَسَّانَ الْغَلَّابِيِّ عَنْهُ، وَكَأَبِي خَلِيفَةَ وَأَبِي حَسَّانَ الزِّيَادِيِّ وَيَعْقُوبَ الْفَسَوِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَبِي زُرْعَةَ الدِّمِشْقِيِّ وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالسَّرَّاجِ، الَّتِي ‏(‏غَدَا مِنْ خَيْرِهَا‏)‏ التَّارِيخُ ‏(‏الْكَبِيرُ‏)‏ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوْسَطَ وَصَغِيرٍ ‏(‏لِلْجُعْفِيِّ‏)‏ بِضَمِ الْجِيمِ؛ نِسْبَةً لِجَدِّ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ مَوْلًى لِيَمَانٍ الْجُعْفِيِّ، وَإِلَى بُخَارَى هُوَ إِمَامُ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيُّ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ يُرْبِي عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ كُلِّهَا‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ‏:‏ لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ ‏(‏تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ‏)‏، وَكَـ‏(‏تَارِيخِ مِصْرَ‏)‏ لِابْنِ يُونُسَ، وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ، وَبَغْدَادَ لِلْخَطِيبِ وَالذُّيُولِ عَلَيْهِ، وَدِمَشْقَ لِابْنِ عَسَاكِرَ، وَنَيْسَابُورَ لِلْحَاكِمِ، وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ، وَأَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَهِيَ مِنْ مُهِمَّاتِ التَّوَارِيخِ؛ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالنَّوَادِرِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ خَيْرِهَا أَيْضًا ‏(‏الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لِلرَّازِيِّ‏)‏، هُوَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الَّذِي اقْتَفَى فِيهِ أَثَرَ الْبُخَارِيِّ، كَمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ مِنْ ‏(‏تَارِيخِ نَيْسَابُورَ‏)‏، أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ كُنْتُ بِالرَّيِّ وَهُمْ يَقرَؤُونَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، يَعْنِي كِتَابَهُ هَذَا، فَقُلْتُ لِابْنِ عَبْدَوَيْهِ الْوَرَّاقِ‏:‏ هَذِهِ ضَحْكَةٌ، أَرَاكُمْ تَقْرَؤُونَ عَلَى شَيْخِكُمْ كِتَابَ ‏(‏التَّارِيخِ لِلْبُخَارِيِّ‏)‏ عَلَى الْوَجْهِ، وَقَدْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا أَحْمَدَ، اعْلَمْ أَنَّ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ لَمَّا حُمِلَ إِلَيْهِمَا ‏(‏تَارِيخُ الْبُخَارِيِّ‏)‏ قَالَا‏:‏ هَذَا عِلْمٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَذْكُرَهُ عَنْ غَيْرِنَا، فَأَقْعَدَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ، فَصَارَ يَسْأَلُهُمَا عَنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَجُلٍ، وَهُمَا يُجِيبَانِهِ، وَزَادَا فِيهِ وَنَقَصَا، انْتَهَى، وَالْبَلَاءُ قَدِيمٌ‏.‏

‏[‏ذِكْرُ أَجْوَدَ كُتُبِ ضَبْطِ الْمُشَكَّلِ‏]‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا اعْتَنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَاجَةُ مِنْ ‏(‏كُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ‏)‏ وَالْمُخْتَلِفِ النَّوْعِ ‏(‏الْمَشْهُورِ‏)‏ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْآتِي فِي مَحَلِّهِ مَعَ بَيَانِ التَّصَانِيفِ الَّتِي فِيهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، ‏(‏وَالْأَكْمَلُ‏)‏ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ ‏(‏الْإِكْمَالُ لِلْأَمِيرِ‏)‏ الْمُلَقَّبِ بِذَلِكَ، وَبِالْوَزِيرِ سَعْدِ الْمُلْكِ؛ لِكَوْنِ أَبِيهِ كَانَ وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ، وَوَلِيَ عَمُّهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَتَوَجَّهَ هُوَ رَسُولًا عَنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى مَلِكِهَا، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرِ بْنِ مَاكُولَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ عَلَى إِعْوَازٍ فِيهِ‏.‏ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الضَّبْطِ وَالْفَهْمِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

‏[‏حِفْظُ الْكُتُبِ وَالْمُذَاكَرَةِ بَعْدَهُ‏]‏

‏(‏وَاحْفَظْهُ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثَ، ‏(‏بِالتَّدْرِيجِ‏)‏ قَلِيلًا قَلِيلًا مَعَ الْأَيْامِ وَاللَّيَالِي، فَذَلِكَ أَحْرَى بِأَنْ تُمَتَّعَ بِمَحْفُوظِكَ، أَوْ أَدْعَى لِعَدَمِ نِسْيَانِهِ، وَلَا تَنْشُرْهُ فِي كَثْرَةِ كَمِّيَّةِ الْمَحْفُوظِ مَعَ قِلَّةِ مَرَّاتِ الدَّرْسِ وَقِلَّةِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ الْمَحْفُوظِ‏.‏ وَكَذَا لَا تَأْخُذْ نَفْسَكَ بِمَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، بَلِ اقْتَصِرْ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي تَضْبِطُهُ وَتُحْكِمُ حِفْظَهُ وَإِتْقَانَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ‏)‏‏.‏

وَلِذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ‏:‏ كُنْتُ آتِي الْأَعْمَشَ وَمَنْصُورًا فَأَسْمَعُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ خَمْسَةً، ثُمَّ أَنْصَرِفُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَكْثُرَ وَتُفْلِتَ‏.‏ رُوِّينَاهُ فِي ‏(‏الْجَامِعِ‏)‏ لِلْخَطِيبِ‏.‏ وَعِنْدَهُ عَنْ شُعْبَةَ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَمَعْمَرٍ نَحْوُهُ‏.‏

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْعِلْمُ حَدِيثٌ وَحَدِيثَانِ‏.‏ وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِنْ أَخَذْتَهُ بِالْمُكَاثَرَةِ لَهُ غَلَبَكَ، وَلَكِنْ خُذْهُ مَعَ الْأَيْامِ وَاللَّيَالِي أَخْذًا رَفِيقًا تَظْفَرْ بِهِ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ حِفْظِكَ لَهُ ‏(‏ذَاكِرْ بِهِ‏)‏ الطَّلَبَةَ وَنَحْوَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ تُذَاكِرُهُ فَذَاكِرْ مَعَ نَفْسِكَ، وَكَرِّرْهُ عَلَى قَلْبِكَ، فَالْمُذَاكَرَةُ تُعِينُكَ عَلَى ثُبُوتِ الْمَحْفُوظِ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الِانْتِفَاعِ بِهِ‏.‏

وَالْأَصْلُ فِيهَا مُعَارَضَةُ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْحَدِيثَ، فَإِذَا قُمْنَا تَذَاكَرْنَاهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظَهُ‏)‏‏.‏ وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَسَّاءٌ إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ‏)‏‏.‏

وَقَالَ عَلِيٌّ‏:‏ ‏(‏تَذَاكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ، إِنْ لَا تَفْعَلُوا يَدْرُسْ‏)‏، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّ حَيَاتَهُ مُذَاكَرَتُهُ‏)‏، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏ وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ‏:‏ ذَاكِرْ بِعِلْمِكَ تَذْكُرُ مَا عِنْدَكَ، وَتَسْتَفِيدُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ‏.‏ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ‏:‏ مَنْ أَكْثَرَ مُذَاكَرَةَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ، وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏.‏

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ‏:‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَدِيثَ فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَلَوْ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ مَنْ لَا يَشْتَهِيهِ‏.‏ وَقَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَجَاءٍ يَجْمَعُ صِبْيَانَ الْكِتَابِ، وَيُحَدِّثُهُمْ كَيْ لَا يَنْسَى حَدِيثَهُ‏.‏ وَنَحْوُهُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ ابْنُ الْمَجْدِيِّ عَنِ الْقَايَاتِيِّ فِي إِقْرَائِهِ مُشْكِلَ الْكُتُبِ لِلْمُبْتَدِئِينَ، أَنَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْفَكَّ إِدْمَانُهُ فِي تَقْرِيرِهَا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ حُبُّ التَّذَاكُرِ أَنْفَعُ مِنْ حُبِ الْبَلَاذِرِ‏.‏ وَقِيلَ أَيْضًا‏:‏ حِفْظُ سَطْرَيْنِ خَيْرٌ مِنْ كِتَابَةِ وِقْرَيْنِ، وَخَيْرٌ مِنْهُمَا مُذَاكَرَةُ اثْنَيْنِ‏.‏

وَلِبَعْضِهِمْ‏:‏

مَنْ حَازَ الْعِلْمَ وَذَاكَرَهُ *** صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتُهْ

فَأَدِمْ لِلْعِلْمِ مُذَاكَرَةً *** فَحَيَاةُ الْعِلْمِ مُذَاكَرَتُهْ

‏(‏وَ‏)‏ لَا تَتَسَاهَلَنَّ فِي الْمُذَاكَرَةِ، بَلْ ‏(‏الِاتْقَانَ‏)‏ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، فِيهَا وَفِي شَأْنِكَ كُلِّهِ ‏(‏اصْحَبَنْ‏)‏ بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، فَالْحِفْظُ- كَمَا قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ- الْإِتْقَانُ‏.‏

‏[‏مَعْنَى التَّأْلِيفِ وَفَوَائِدِهِ‏]‏

‏(‏وَبَادِرْ إِذَا تَأَهَّلْتَ‏)‏ وَاسْتَعْدَدْتَ ‏(‏إِلَى التَّألِيفِ‏)‏ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّخْرِيجِ وَالتَّصْنِيفِ وَالِانْتِقَاءِ؛ إِذِ التَّأْلِيفُ مُطْلَقُ الضَّمِّ، وَالتَّخْرِيجُ إِخْرَاجُ الْمُحَدِّثِ الْأَحَادِيثَ مِنْ بُطُونِ الْأَجْزَاءِ وَالْمَشْيَخَاتِ وَالْكُتُبِ وَنَحْوِهَا، وَسِيَاقُهَا مِنْ مَرْوِيَّاتِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَوْ أَقْرَانِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا وَعَزْوُهَا لِمَنْ رَوَاهَا مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ وَالدَّوَاوِينِ مَعَ بَيَانِ الْبَدَلِ وَالْمُوَافَقَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا سَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ، وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخْرَاجِ وَالْعَزْوِ‏.‏

وَالتَّصْنِيفُ جَعْلُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ، وَالِانْتِقَاءُ الْتِقَاطُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمَسَانِيدِ وَنَحْوِهَا مَعَ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهَا عُرْفًا مَكَانَ الْآخَرِ، فَبِاشْتِغَالِكَ بِالتَّأْلِيفِ ‏(‏تَمْهَرْ‏)‏- بِالْجَزْمِ مَعَ مَا بَعْدَهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَنْوِيِّ فِي الْأَمْرِ- فِي الصِّنَاعَةِ، وَتَقِفْ عَلَى غَوَامِضِهَا، وَتَسْتَبِنْ لَكَ الْخَفِيَّ مِنْ فَوَائِدِهَا، ‏(‏وَتُذْكَرْ‏)‏ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَصِّلِينَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَيُرْجَى لَكَ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ الرُّقِيُّ إِلَى أَوْجِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّةِ الْجَسِيمَةِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ، كَمَا رُوِّينَاهُ فِي جَامِعِهِ‏:‏ قَلَّمَا يَتَمَهَّرُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَيَقِفُ عَلَى غَوَامِضِهِ، وَيَسْتَبِينُ الْخَفِيَّ مِنْ فَوَائِدِهِ إِلَّا مَنْ جَمَعَ مُتَفَرِّقَهُ، وَأَلَّفَ مُشَتَّتَهُ، وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَاشْتَغَلَ بِتَصْنِيفِ أَبْوَابِهِ وَتَرْتِيبِ أَصْنَافِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِمَّا يُقَوِّي النَّفْسَ، وَيُثَبِّتُ الْحِفْظَ، وَيُذَكِّي الْقَلْبَ، وَيُشْحِذُ الطَّبْعَ، وَيَبْسُطُ اللِّسَانَ، وَيُجِيدُ الْبَنَانَ، وَيَكْشِفُ الْمُشْتَبِهَ، وَيُوَضِّحُ الْمُلْتَبِسَ، وَيُكْسِبُ أَيْضًا جَمِيلَ الذِّكْرِ، وَتَخْلِيدَهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي الْعِلْمُ ذِكْرَهُمُ *** وَالْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءً بِأَمْوَاتِ

انْتَهَى‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ‏:‏

الْعِلْمُ أَفْضَلُ شَيْءٍ أَنْتَ كَاسِبُهُ *** فَكُنْ لَهُ طَالِبًا مَا عِشْتَ مُكْتَسِبَا

وَالْجَاهِلُ الْحَيُّ مَيْتٌ حِينَ تَنْسُبُهُ *** وَالْعَالِمُ الْمَيِّتُ حَيٌّ كُلَّمَا نُسِبَا

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ التَّاجِ السُّبْكِيِّ‏:‏ الْعَالِمُ وَإِنِ امْتَدَّ بَاعُهُ، وَاشْتَدَّ فِي مَيَادِينِ الْجِدَالِ دِفَاعُهُ، وَاسْتَدَّ سَاعِدُهُ حَتَّى خَرَقَ بِهِ كُلَّ سَدٍّ سَدَّ بَابَهُ، وَأَحْكَمَ امْتِنَاعَهُ، فَنَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى مُدَّةِ حَيَاتِهِ، مَا لَمْ يُصَنِّفْ كِتَابًا يَخْلُدُ بَعْدَهُ، أَوْ يُورِقْ عِلْمًا يَنْقُلُهُ عَنْهُ تِلْمِيذٌ إِذَا وَجَدَ النَّاسُ فَقْدَهُ، أَوْ تَهْتَدِي بِهِ فِئَةٌ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ أَلْبَسَهَا بِهِ الرَّشَادَ بُرْدُهُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ التَّصْنِيفَ لَأَرْفَعُهَا مَكَانًا؛ لِأَنَّهُ أَطْوَلُهَا زَمَانًا، وَأَدْوَمُهَا إِذَا مَاتَ أَحْيَانًا‏.‏

وَلِذَلِكَ لَا يَخْلُو لَنَا وَقْتٌ يَمُرُّ بِنَا خَالِيًا عَنِ التَّصْنِيفِ، وَلَا يَخْلُو لَنَا زَمَنٌ إِلَّا وَقَدْ تَقَلَّدَ عُقَدُهُ جَوَاهِرَ التَّأْلِيفِ، وَلَا يَجْلُو عَلَيْنَا الدَّهْرُ سَاعَةَ فَرَاغٍ إِلَّا وَنُعْمِلُ فِيهَا الْقَلَمَ بِالتَّرْتِيبِ وَالتَّرْصِيفِ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّغَ الْمُصَنِّفُ لِلتَّصْنِيفِ قَلْبَهُ، وَيَجْمَعَ لَهُ هَمَّهُ، وَيَصْرِفَ إِلَيْهِ شُغْلَهُ، وَيَقْطَعَ بِهِ وَقْتَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ‏:‏ مَنْ أَرَادَ الْفَائِدَةَ فَلْيَكْسِرْ قَلَمَ النَّسْخِ، وَلْيَأْخُذْ قَلَمَ التَّخْرِيجِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظَ فِي الْمَنَامِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، خَرِّجْ وَصَنِّفْ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، هَذَا أَنَا تَرَانِي قَدْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ‏.‏

وَسَاقَ قَبْلَ يَسِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ عِلْمُ الْإِنْسَانِ وَلَدُهُ الْمُخَلَّدُ‏.‏ وَعَنْ أَبِي الْفَتْحِ الْبَسْتِيِّ الشَّاعِرِ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ نَظْمِهِ‏:‏

يَقُولُونَ‏:‏ ذِكْرُ الْمَرْءِ يَبْقَى بِنَسْلِهِ *** وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ

فَقُلْتُ لَهُمْ‏:‏ نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي *** فَمَنْ سَرَّهُ نَسْلٌ فَإِنَّا بِذَا نَسَلُوا

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ‏:‏ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ‏)‏‏.‏

‏[‏التَّصْنِيفُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْمَسَانِيدِ‏]‏

‏(‏وَهْوَ‏)‏ التَّأْلِيفُ الْأَعَمُّ ‏(‏فِي التَّصْنِيفِ‏)‏ فِي الْحَدِيثِ ‏(‏طَرِيقَتَانِ‏)‏ مَأْلُوفَتَانِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ ‏(‏جَمْعُهُ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ التَّصْنِيفِ بِالسَّنَدِ، ‏(‏أَبْوَابَا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ عَلَى الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَتَنْوِيعُهُ أَنْوَاعًا، وَجَمْعُ مَا وَرَدَ فِي كُلِّ حُكْمٍ وَكُلِّ نَوْعٍ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا فِي بَابٍ فَبَابٍ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ مَا يَدْخُلُ فِي الْجِهَادِ مَثَلًا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ‏.‏

وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَقَيَّدُ بِالصَّحِيحِ؛ كَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِذَلِكَ؛ كَبَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ قَرِيبًا، وَمَا لَا يَنْحَصِرُ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ‏.‏

وَرُبَّمَا لَمْ يُذْكَرِ الْإِسْنَادُ وَاقْتُصِرَ عَلَى الْمَتْنِ فَقَطْ؛ كَـ‏(‏الْمَصَابِيحِ‏)‏ لِلْبَغَوِيِّ، ثُمَّ ‏(‏الْمِشْكَاةِ‏)‏، وَزَادَ عَلَى الْأَوَّلِ عَزْوَ الْمَتْنِ، وَهُمَا نَافِعَانِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُقَصِّرِ أَهْلُهَا، ثُمَّ مِنَ الْمُبَوِّبِينَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكُمُ عَلَى الْحَدِيثِ صَرِيحًا؛ كَالتِّرْمِذِيِّ أَوْ إِجْمَالًا كَأَبِي دَاوُدَ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ جَمْعُهُ ‏(‏مُسْنَدًا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ عَلَى الْمَسَانِيدِ، ‏(‏تُفْرِدُهُ صِحَابَا‏)‏؛ أَيْ‏:‏ لِلصَّحَابَةِ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ أَنْوَاعُ أَحَادِيثِهِ، وَذَلِكَ كَـ‏(‏مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ‏)‏ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ قَرِيبًا، وَكَذَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ؛ كَـ‏(‏مُسْنَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ‏)‏، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ ‏(‏مُسْنَدِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ‏)‏، وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ- كَمَا سَيَأْتِي- الْقَلِيلُ، وَ ‏(‏مُسْنَدِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي‏)‏، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَوْجُودٍ الْآنَ، وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ‏.‏

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ مُسْنَدًا وَتَتَبَّعَهُ، وَأَسَدِ بْنِ مُوسَى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ نُعَيْمٍ سِنًّا، وَأَقْدَمَ سَمَاعًا، فَيُحْتَمَلُ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- أَنْ يَكُونَ تَصْنِيفُ نُعَيْمٍ لَهُ فِي حَدَاثَتِهِ، وَتَصْنِيفُ أَسَدٍ بَعْدَهُ فِي كِبَرِهِ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَلَوْلَا أَنَّ الْجَامِعَ لِـ‏(‏مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ‏)‏ غَيْرُهُ بِحَسَبِ مَا وَقَعَ لَهُ بِخُصُوصِهِ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ لِجَمِيعِ مَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ؛ فَإِنَّهُ مُكْثِرٌ جِدًّا، لَكَانَ أَوَّلَ مُسْنَدٍ؛ فَإِنَّ الطَّيَالِسِيَّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَؤُلَاءِ‏.‏ وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ، وَالْقَصْدُ مِنْهَا- كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ- تَدْوِينُ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا؛ لِيُحْفَظَ لَفْظُهُ وَيُسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْحُكْمُ، يَعْنِي فِي الْجُمْلَةِ‏.‏

وَأَهْلُهَا مِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ أَسْمَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بِأَنْ يَجْعَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَأُسَامَةَ فِي الْهَمْزَةِ؛ كَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، ثُمَّ الضِّيَاءِ فِي مُخْتَارَاتِهِ الَّتِي لَمْ تَكْمُلْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى الْقَبَائِلِ، فَيُقَدِّمُ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّسَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى السَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَدِّمُ الْعَشَرَةَ، ثُمَّ أَهْلَ بَدْرٍ، ثُمَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ مَنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، ثُمَّ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ الْأَصَاغِرَ الْأَسْنَانِ كَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِي الطُّفَيْلِ، ثُمَّ بِالنِّسَاءِ، وَيَبْدَأُ مِنْهُنَّ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏وَهِيَ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهَا أَحْسَنُ، يَعْنِي لِتَقْدِيمِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَاللَّتَانِ قَبْلَهَا أَسْهَلُ تَنَاوُلًا مِنْهَا، وَأَسْهَلُهُمَا أَوْلَاهُمَا‏)‏‏.‏

ثُمَّ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ يَجْمَعُ فِي تَرْجَمَةِ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَا عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِصِحَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الصَّالِحِ لِلْحُجَّةِ؛ كَالضِّيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ؛ كَمُسْنَدٍ أَبِي بَكْرٍ مَثَلًا، أَوْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى طَرَفِ الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى بَقِيَّتِهِ، وَيَجْمَعُ أَسَانِيدَهُ إِمَّا مُسْتَوْعِبًا، وَإِمَّا مُقَيِّدًا بِكُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ شِبْهَ مَا فَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّرَقِيُّ- بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَقَافٍ- فِي ‏(‏أَطْرَافِ الْخَمْسَةِ‏)‏، وَالْمِزِّيُّ فِي ‏(‏أَطْرَافِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ‏)‏، وَشَيْخُنَا فِي ‏(‏أَطْرَافِ الْكُتُبِ الْعَشَرَةِ‏)‏‏.‏

وَطَرِيقَةُ الْمِزِّيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّحَابِيُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ رَتَّبَ حَدِيثَهُ عَلَى الْحُرُوفِ أَيْضًا فِي الرُّوَاةِ عَنْهُ، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي التَّابِعِينَ حَيْثُ يَكُونُ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، وَهَكَذَا‏.‏

وَقَدْ طَرَّفَ ابْنُ طَاهِرٍ أَحَادِيثَ الْأَفْرَادِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَسَلَكَ ابْنُ حِبَّانَ طَرِيقَةً ثَالِثَةً، فَرَتَّبَ صَحِيحَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ‏:‏ الْأَوَامِرُ، وَالنَّوَاهِي، وَالْإِخْبَارُ عَمَّا احْتِيجَ لِمَعْرِفَتِهِ؛ كَبَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْإِسْرَاءِ، وَمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْإِبَاحَاتِ، وَأَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي انْفَرَدَ بِفِعْلِهَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ وَشَبَهُهُ، وَنَوَّعَ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهَا أَنْوَاعًا، وَلَعَمْرِي إِنَّهُ وَعْرُ الْمَسْلَكِ، صَعْبُ الْمُرْتَقَى، بِحَيْثُ سَمِعْتُ شَيْخَنَا يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ رَامَ تَقْرِيبَهُ فَبَعَّدَهُ‏.‏

‏[‏تَصْنِيفُ الْحَدِيثِ مُعَلِّلًا‏]‏

‏(‏وَجَمْعُهُ‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ فِي الطَّرِيقَيْنِ أَوِ الطُّرُقِ، ‏(‏مُعَلَّلَا‏)‏ يَعْنِي عَلَى الْعِلَلِ بِأَنْ يَجْمَعَ فِي كُلِّ مَتْنٍ طُرُقَهُ، وَاخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَّضِحُ إِرْسَالُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا، أَوْ وَقْفُ مَا يَكُونُ مَرْفُوعًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا قُرِّرَ فِي بَابِهِ‏.‏

فَفِي الْأَبْوَابِ كَمَا فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ، وَفِي الْمَسَانِيدِ ‏(‏كَمَا فَعَلْ‏)‏ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو يُوسُفَ ‏(‏يَعْقُوبُ‏)‏ بْنُ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ عُصْفُورٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، وَتِلْمِيذُ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ مَعِينٍ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ‏(‏262‏)‏، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجِسِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، فَلَهُ مُسْنَدٌ مُعَلَّلٌ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقَةً ثَانِيَةً فِي الطَّرِيقَتَيْنِ‏.‏

وَهِيَ ‏(‏أَعْلَى رُتْبَةً‏)‏ مِنْهُ فِيهِمَا، أَوْ فِيهَا بِدُونِهَا؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْعِلَلِ أَجَلُّ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ‏:‏ لَأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ حَدِيثٍ هُوَ عِنْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْتُبَ عِشْرِينَ حَدِيثًا لَيْسَ عِنْدِي‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ مُسْنَدُ يَعْقُوبَ حَسْبَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ ‏(‏مَا كَمُلْ‏)‏، بَلِ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ- مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ، وَالْعَبَّاسِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَبَعْضِ الْمَوَالِي، وَعَمَّارٍ، وَاتَّصَلَ الْأَوَّلُ مِنْ عَمَّارٍ، خَاصَّةً لِلذَّهَبِيِّ وَشَيْخِنَا وَمُؤَلِّفِهِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ‏.‏

قَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ ‏(‏وَبَلَغَنِي أَنَّ مُسْنَدَ عَلِيٍّ مِنْهُ فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ‏.‏ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ‏:‏ وَقِيلَ لِي‏:‏ إِنَّ نُسْخَةً لِمُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْهُ شُوهِدَتْ بِمِصْرَ، فَكَانَتْ مِائَتَيْ جُزْءٍ، قَالَ‏:‏ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ أَرْبَعُونَ لِحَافًا أَعَدَّهَا لِمَنْ كَانَ يَبِيتُ عِنْدَهُ مِنَ الْوَرَّاقِينَ الَّذِينَ يُبَيِّضُونَ الْمُسْنَدَ، وَلَزِمَهُ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، يَعْنِي لِمَنْ يُبَيِّضُهُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إِنَّهُ لَوْ تَمَّ لَكَانَ فِي مِائَتَيْ مُجَلَّدٍ، وَلِنَفَاسَتِهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ‏:‏ لَوْ كَانَ مَسْطُورًا عَلَى حَمَامٍ لَوَجَبَ أَنْ يُكْتَبَ، يَعْنِي‏:‏ لَا يَحْتَاجُ إِلَى سَمَاعٍ‏.‏ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ‏:‏ سَمِعْتُ الشُّيُوخَ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَتْمُمْ مُسْنَدٌ مُعَلَّلٌ‏.‏

وَلَهُمْ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي جَمْعِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ جَمْعُهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَيَجْعَلُ حَدِيثَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ‏)‏ فِي الْهَمْزَةِ، كَأَبِي مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيِّ فِي ‏(‏مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ‏)‏، كَذَا عَمِلَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي أَحَادِيثِ ‏(‏الْكَامِلِ‏)‏ لِابْنِ عَدِيٍّ، وَسَلَكْتُ ذَلِكَ فِي مَا اشْتَهَرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى الْكَلِمَاتِ، لَكِنْ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، مُقْتَصِرًا عَلَى أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ فَقَطْ، كـَ‏(‏الشِّهَابِ‏)‏ وَ ‏(‏الْمَشَارِقِ‏)‏ لِلصَّغَانِيِّ، وَهُوَ أَحْسَنُهُمَا وَأَجْمَعُهُمَا مَعَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الصَّحِيحِ خَاصَّةً‏.‏

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُلِمُّ بِغَرِيبِ الْحَدِيثِ وَإِعْرَابِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ‏.‏

‏[‏جَمْعُ الْأَبْوَابِ وَالشُّيُوخِ‏]‏

‏(‏وَجَمَعُوا‏)‏ أَيْضًا ‏(‏أَبْوَابًا‏)‏ مِنْ أَبْوَابِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، فَأَفْرَدُوهَا بِالتَّأْلِيفِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَاكَ الْكِتَابُ كِتَابًا مُفْرَدًا؛ كَكِتَابٍ ‏(‏التَّصْدِيقِ بِالنَّظَرِ لِلَّهِ تَعَالَى‏)‏ لِلْآجُرِّيِّ، وَ ‏(‏الْإِخْلَاصِ‏)‏ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ ‏(‏الطَّهُورِ‏)‏ لِأَبِي عُبَيْدٍ وَلِابْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَ ‏(‏الصَّلَاةِ‏)‏ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ‏.‏

وَ‏(‏الْآذَانِ وَالْمَوَاقِيتِ‏)‏ فِي تَصْنِيفَيْنِ لِأَبِي الشَّيْخِ، وَ ‏(‏الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ‏)‏ فِي تَصْنِيفَيْنِ لِلْبُخَارِيِّ، وَ‏(‏الْبَسْمَلَةِ‏)‏ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ، وَ‏(‏الْقُنُوتِ‏)‏ لِابْنِ مَنْدَهْ، وَ ‏(‏سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ‏)‏ لِلْحَرْبِيِّ، وَ ‏(‏التَّهَجُّدِ‏)‏ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ ‏(‏الْعِيدَيْنِ‏)‏ لَهُ، وَ ‏(‏الْجَنَائِزِ‏)‏ لِعُمَرَ بْنِ شَاهِينَ، وَ ‏(‏ذِكْرِ الْمَوْتِ‏)‏ لِلْمَرَنْدِيِّ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ ‏(‏الْعَزَاءِ‏)‏ لَهُ، وَ ‏(‏الْمُحْتَضَرِينَ‏)‏ لَهُ‏.‏

وَ ‏(‏الزَّكَاةِ‏)‏ لِيُوسُفَ الْقَاضِي، وَ ‏(‏الْأَمْوَالِ‏)‏ لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَ ‏(‏الصِّيَامِ‏)‏ لِجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ وَلِيُوسُفَ الْقَاضِي، وَ ‏(‏الْمَنَاسِكِ‏)‏ لِلْحَرْبِيِّ وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَمَا يَفُوقُ الْوَصْفَ كـَ‏(‏الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ‏)‏ لِلدَّارَقُطْنِيِّ‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَكَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ كِتَابِنَا هَذَا قَدْ أَفْرَدُوا أَحَادِيثَهُ بِالْجَمْعِ وَالتَّصْنِيفِ‏.‏

‏(‏اوْ‏)‏ جَمَعُوا ‏(‏شُيُوخًا‏)‏ مَخْصُوصِينَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ؛ كَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، وَالنَّسَائِيِّ فِي الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ‏.‏

قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ‏:‏ يُقَالُ‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَجْمَعْ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ فَهُوَ مُفْلِسٌ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُمْ أُصُولُ الدِّينِ‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَجْمَعُونَ حَدِيثَ خَلْقٍ كَثِيرٍ سِوَاهُمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ قَدْ سَرَدَ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ جُمْلَةً، وَهَذَا غَيْرُ جَمْعِ الرَّاوِي شُيُوخَ نَفْسِهِ؛ كَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ الْمُرَتَّبِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي شُيُوخِهِ، وَكَذَا لَهُ الْمُعْجَمُ الصَّغِيرُ، لَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ غَالِبًا عَلَى حَدِيثٍ فِي كُلِّ شَيْخٍ‏.‏

‏[‏جَمْعُ التَّرَاجِمِ وَالطَّرْقِ‏]‏

‏(‏اوْ‏)‏ جَمَعُوا ‏(‏تَرَاجِمًا‏)‏ مَخْصُوصَةً كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ جَمَعُوا ‏(‏طُرُقًا‏)‏ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ؛ كَطُرُقِ حَدِيثِ قَبْضِ الْعِلْمِ لِلطُّوسِيِّ وَنَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَطُرُقِ حَدِيثِ ‏(‏طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ‏)‏ لِبَعْضِهِمْ، وَطُرُقِ حَدِيثِ ‏(‏مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ‏)‏ لِلطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فِي مَقَاصِدَ لَهُمْ فِي التَّصْنِيفِ يَطُولُ شَرْحُهَا‏.‏

وَإِذَا جَمَعْتَ عَلَى الْمَسَانِيدِ فَمَيِّزِ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، وَتَحَرَّزْ مِنْ إِدْخَالِ الْمَرَاسِيلِ لِظَنِّكَ صُحْبَةَ الْمُرْسَلِ، أَوْ عَلَى الْأَبْوَابِ الَّذِي هُوَ أَسْهَلُ مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْخَطِيبُ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَابْنُ الْأَثِيرِ وَقَالَ‏:‏ لِكَوْنِ الْمَرْءِ غَالِبًا قَدْ يَعْرِفُ الْمَعْنَى الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ لِأَجْلِهِ دُونَ رَاوِيهِ، وَلِكِفَايَتِهِ الْمَؤُونَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ ذَاكَ الْحُكْمِ الْمُتَرْجَمِ بِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ فِيهِ‏.‏

وَمَدَحَهُ وَكِيعٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ إِنْ أَرَدْتَ الْآخِرَةَ فَصَنِّفِ الْأَبْوَابَ‏.‏ وَقَالَ فِيهِ الشَّعْبِيُّ‏:‏ بَابٌ مِنَ الطَّلَاقِ جَسِيمٌ‏.‏ وَكَانَ الثَّوْرِيُّ صَاحِبَ أَبْوَابٍ، فَقَدَّمَ مِنْهَا- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- الْأَحَادِيثَ الْمُسْنَدَاتِ، ثُمَّ الْمَرَاسِيلَ وَالْمَوْقُوفَاتِ وَمَذَاهِبَ الْقُدَمَاءِ مِنْ مَشْهُورِي الْفُقَهَاءِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ‏:‏ الْأَبْوَابُ تُبْنَى عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ؛ فَطَبَقَةِ الْمُسْنَدِ، وَطَبَقَةِ الصَّحَابَةِ، وَطَبَقَةِ التَّابِعِينَ، وَيُقَدِّمُ قَوْمٌ الْكِبَارَ مِنْهُمْ؛ مِثْلَ شُرَيْحٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ، وَبَعْدَ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعَ التَّابِعِينَ؛ مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ هُرْمُزٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏وَلَا تُورِدْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ رِجَالِهِ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ رُوَاتِهِ، يَعْنِي فَإِنَّكَ بِصَدَدِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمَطْلُوبِ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ بِخِلَافِ الْمَسَانِيدِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ أَعْلَى رُتْبَةً كَمَا سَبَقَ قُبَيْلِ الضَّعِيفِ‏)‏‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَصِحْ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ فَاقْتَصِرْ عَلَى إِيرَادِ الْمَوْقُوفِ وَالْمُرْسَلِ، قَالَ‏:‏ وَهَذَانَ النَّوْعَانِ أَكْثَرُ مَا فِي كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ إِذْ كَانُوا لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُسْنَدَاتِ مُسْتَنْكِرِينَ‏)‏‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ‏:‏ ‏(‏سَلْنِي وَلَا تَسْأَلْنِي عَنِ الطَّوِيلِ وَلَا الْمُسْنَدِ، أَمَّا الطَّوِيلُ فَكُنَّا لَا نَحْفَظُ، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا وَالَى بَيْنَ حَدِيثَيْنِ مُسْنَدَيْنِ رَفَعْنَا إِلَيْهِ رُؤُوسَنَا اسْتِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَالِاقْتِصَارُ فِي الْأَبْوَابِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ هُوَ الْأَوْلَى، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ شَيْخُنَا، فَقَالَ‏:‏ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ، فَإِنْ جَمَعَ الْجَمِيعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضَّعِيفِ‏.‏

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ وَلْتَكُنْ عِنَايَتُهُ بِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ أَهَمَّهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ صَحِيحِ الْحَدِيثِ، قَالَ‏:‏ وَمِنَ الْخَطَأِ الِاشْتِغَالُ بِالتَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِيلَاتِ مَعَ تَضْيِيعِ الْمُهِمَّاتِ‏.‏

وَلْيَتَحَرَّ الْعِبَارَاتِ الْوَاضِحَةَ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ، وَلَا يَقْصِدْ بِشَيْءٍ مِنْهُ الْمُكَاثَرَةَ‏.‏ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، وَالْحَذَرُ مِنْ قَصْدِ الْمُكَاثَرَةِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ أَنَّهُ خَرَّجَ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَرَأَى يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي مَنَامِهِ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا تَحْتَ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏‏.‏

‏(‏وَقَدْ رَأَوْا‏)‏؛ أَيِ‏:‏ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، ‏(‏كَرَاهَةَ الْجَمْعِ‏)‏ وَالتَّأْلِيفِ ‏(‏لِذِي تَقْصِيرِ‏)‏ عَنْ بُلُوغِ مَرْتَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَتَشَاغَلَ بِمَا سَبَقَ بِهِ، أَوْ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى، أَوْ بِمَا لَمْ يَتَأَهَّلْ بَعْدُ لِاجْتِنَاءِ ثَمَرَتِهِ، وَاقْتِنَاصِ فَائِدَةِ جَمْعِهِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ‏:‏ إِذَا رَأَيْتَ الْحَدَثَ، أَوَّلَ مَا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، يَجْمَعُ حَدِيثَ الْغُسْلِ وَحَدِيثَ ‏(‏مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ‏)‏ فَاكْتُبْ عَلَى قَفَاهُ‏:‏ ‏(‏لَا يُفْلِحُ‏)‏‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ‏:‏ إِذَا رَأَيْتَ الْمُحَدِّثَ يَفْرَحُ بِعَوَالِي أَبِي هُدْبَةَ، وَيَعْلَى بْنَ الْأَشْدَقِ- وَسَمَّى غَيْرَهُمَا- فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامِّيٌّ بَعْدُ‏.‏ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ‏:‏ وَلَا يَنْبَغِي لِحَصِيفٍ يَتَصَدَّى إِلَى تَصْنِيفٍ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ غَرَضَيْنِ‏:‏ إِمَّا أَنْ يَخْتَرِعَ مَعْنًى، أَوْ يُبْدِعَ وَضْعًا وَمَبْنًى، وَمَا سِوَى هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ تَسْوِيدُ الْوَرَقِ، وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ السَّرَقِ‏.‏

‏[‏كَرَاهَةُ الْإِخْرَاجِ بِدُونِ التَّحْرِيرِ‏]‏

وَ‏(‏كَذَاكَ‏)‏ رَأَى الْأَئِمَّةُ كَرَاهَةً ‏(‏الْإِخْرَاجِ‏)‏ مِمَّنْ يُصَنِّفُ لِشَيْءٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ إِلَى النَّاسِ ‏(‏بِلَا تَحْرِيرِ‏)‏ وَتَهْذِيبٍ وَتَكْرِيرٍ لِنَظَرٍ فِيهِ وَتَنْقِيبٍ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ‏:‏ لَحْظَةُ الْقَلْبِ أَسْرَعُ خُطْوَةً مِنْ لَحْظَةِ الْعَيْنِ، وَأَبْعَدُ غَايَةً، وَأَوْسَعُ مَجَالًا، وَهِيَ الْغَائِصَةُ فِي أَعْمَاقِ أَوْدِيَةِ الْفِكْرِ، وَالْمُتَأَمِّلَةُ لِوُجُوهِ الْعَوَاقِبِ، وَالْجَامِعَةِ بَيْنَ مَا غَابَ وَحَضَرَ، وَالْمِيزَانُ الشَّاهِدُ عَلَى مَا نَفَعَ وَضَرَّ، وَالْقَلْبُ كَالْمُمْلِي لِلْكَلَامِ عَلَى اللِّسَانِ إِذَا نَطَقَ، وَالْيَدِ إِذَا كَتَبَتْ، فَالْعَاقِلُ يَكْسُو الْمَعَانِيَ وَشْيَ الْكَلَامِ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ يُبْدِيهَا بِأَلْفَاظٍ كَوَاشٍ فِي أَحْسَنِ زِينَةٍ، وَالْجَاهِلُ يَسْتَعْجِلُ بِإِظْهَارِ الْمَعَانِي قَبْلَ الْعِنَايَةِ بِتَزْيِينِ مَعَارِضِهَا، وَاسْتِكْمَالِ مَحَاسِنِهَا‏.‏

وَلْيَعْلَمْ كَمَا قَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ‏:‏ إِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِتَصْنِيفِهِ، أَوْ شِعْرِهِ، أَوْ رِسَالَتِهِ‏.‏ وَكَمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي سَلَامَةٍ مِنْ أَفْوَاهِ النَّاسِ مَا لَمْ يَضَعْ كِتَابًا أَوْ يَقُلْ شِعْرًا‏)‏‏.‏

وَكَمَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مَنْ صَنَّفَ فَقَدِ اسْتَشْرَفَ الْمَدِيحَ وَالذَّمَّ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ لِلْحَسَدِ وَالْغِيبَةِ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّتْمِ، وَاسْتَقْذَفَ بِكُلِّ لِسَانٍ‏)‏‏.‏

وَنَحْوُهُ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُقَفَّعِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ صَنَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدِ اسْتَعْطَفَ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدَ اسْتَقْذَفَ‏)‏‏.‏