فصل: الجزء الرابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


‏(‏الغريبُ والعزيزُ والمشهورُ‏)‏

748- وما بِهِ مُطْلَقاً الرَّاوِي انْفَرَدْ *** فَهْوَ الغريبُ وابنُ مَنْدَةٍ فَحَدّ

749- بالانفرادِ عنْ إمامٍ يُجْمَعُ *** حديثُهُ فإنْ عليهِ يُتْبَعُ

750- مِنْ واحِدٍ واثْنَيْنِ فالعزيزُ أَوْ *** فَوْقُ فَمَشْهُورٌ وكُلٌّ قَدْ رَأَوْا

751- منهُ الصَّحِيحَ والضعيفَ ثمَّ قَدْ *** يُغْرِبُ مُطْلَقاً أَوِ اسْنَاداً فَقَدْ

752- كذلكَ المشهورُ أيضاً قَسَّمُوا *** لِشُهْرَةٍ مُطْلَقَةٍ كالمُسْلِمُ

753- مَنْ سَلِمَ الحديثَ والمقصورِ *** على الْمُحَدِّثينَ مِنْ مَشهورِ

754- قُنُوتُهُ بعدَ الرُّكوعِ شَهْرَا *** ومنهُ ذُو تَوَاتُرٍ مُسْتَقْرَا

755- في طَبقاتِهِ كَمَتْنِ مَنْ كَذَبْ *** فَفَوْقَ سِتِّينَ رَوَوْهُ والعجَبْ

756- بأنَّ مِنْ رُواتِهِ لَلْعَشَرَهْ *** وخُصَّ بالأمرَيْنِ فيما ذَكَرَهْ

757- الشيْخُ عنْ بعضِهمُ قُلْتُ‏:‏ بَلَى *** مَسْحُ الْخِفافِ وابنُ مَنْدَةٍ إِلَى

758- عَشْرَتِهِمْ رَفْعَ اليَدَيْنِ نَسَبَا *** ونَيَّفُوا عنْ مِائةٍ مَنْ كَذَبَا

‏(‏الغَريبُ والعزيزُ والمشهورُ‏)‏ ورُتِّبَتْ بالتَّرَقِّي معَ تقديمِ ابنِ الصَّلاحِ لآخرِها في نَوْعٍ مُستقِلٍّ، ثمَّ إِرْدَافِهِ بالآخَرَيْنِ في آخَرَ‏.‏ وكانَ الأنْسَبُ تَقْدِيمَهَا إلى الأنواعِ السابقةِ، وضَمَّ الغريبِ إلى الأفرادِ، ولَكِنْ لكونِهِ أمْلَى كتابَهُ شيئاً فشيئاً لم يَحْصُلْ تَرْتِيبُهُ على الوضعِ المُتَنَاسِبِ‏.‏ وتَبِعَهُ في ترتيبِهِ غالِبُ مَن اقْتَفَى أثَرَهُ‏.‏

‏[‏تعريف الغريب وأنواعه‏]‏‏:‏ ‏(‏ومَا بِهِ‏)‏؛ أيْ‏:‏ بالمَرْوِيِّ الذي بهِ، ‏(‏مُطْلقاً‏)‏؛ أيْ‏:‏ عنْ إمامٍ يُجْمَعُ حديثُهُ أوْ لا، ‏(‏الرَّاوِي‏)‏ الذي رَوَاهُ، ‏(‏انْفَرَدْ‏)‏ عنْ كلِّ أحدٍ من الثِّقاتِ وغيرِهم‏.‏

إمَّا بجميعِ المَتْنِ؛ كحديثِ النهْيِ عنْ بيعِ الوَلاءِ وهِبَتِهِ؛ فإنَّهُ لم يَصِحَّ إلاَّ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ عن ابنِ عُمَرَ، وحديثِ‏:‏ ‏(‏السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ‏)‏؛ فإنَّهُ لم يَصِحَّ إلاَّ منْ جِهَةِ مالكٍ عنْ سُمَيٍّ، عنْ أبي صالِحٍ، عنْ أبي هُرَيرَةَ، فِيمَا ذكَرَ غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ‏.‏ لكنَّ الغرابةَ فيهِ مُنْتقِضَةٌ براويَةِ أَبِي مُصْعَبٍ عنْ عبدِ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عنْ سُهيلٍ، عنْ أبيهِ أَبِي صالحٍ، وهيَ صحيحةٌ‏.‏ بلْ وبِطَرِيقِ عصامِ بنِ رَوَّادٍ عنْ أبيهِ، عنْ مالكٍ، عنْ ربيعةَ، عن القاسمِ، عنْ عائشةَ، ولكنَّها ضعيفةٌ، أوْ بِبَعْضِهِ‏.‏

وذلكَ إمَّا في المَتْنِ أوْ في السَّنَدِ، فالأوَّلُ بِأَنْ يَأْتِيَ في مَتْنٍ رواهُ غيرُهُ بزيادةٍ؛ كحديثِ زكاةِ الفِطْرِ، حيثُ قِيلَ مِمَّا هوَ مُنْتَقَدٌ أيضاً‏:‏ إنَّ مَالِكاً تَفرَّدَ عنْ سائرِ مَنْ رَوَاهُ من الحُفَّاظِ بقولِهِ‏:‏ ‏(‏مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏)‏‏.‏ أوْ كحديثِ أُمِّ زَرْعٍ؛ حيثُ رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ في ‏(‏الكبيرِ‏)‏ منْ روايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وعَبَّادِ ابنِ منصورٍ، كِلاهُما عنْ هشامِ بنِ عُرْوةَ، عنْ أبيهِ، عنْ عائشةَ، فجَعَلاهُ مَرْفوعاً كُلَّهُ، وإنَّما المَرْفُوعُ منهُ‏:‏ ‏(‏كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ‏)‏‏.‏

والثاني‏:‏ كحديثِ أُمِّ زَرْعٍ أيضاً المحفوظِ فيهِ رِوَايَةُ عِيسَى بنِ يُونُسَ وسعيدِ بنِ سَلَمَةَ بنِ أَبِي حُسَامٍ، كِلاهُما عنْ هشامِ بنِ عُرْوةَ، عنْ أخيهِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُرْوةَ، عنْ أَبِيهِمَا، عنْ عائشةَ‏.‏ ورَوَاهُ الطبرانيُّ منْ حديثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وعَبَّادٍ كما

أشَرْنا إليْهِ عنْ هشامٍ، بِدُونِ واسطةِ أَخِيهِ‏.‏

‏(‏فَهْوَ‏)‏ أيْ‏:‏ ما حصَلَ التَّفَرُّدُ بهِ بِوَجْهٍ منْ هذهِ الأَوْجُهِ، ‏(‏الغَرِيبُ‏)‏، كما أشارَ إليهِ التِّرمذيُّ في آخِرِ كتابِهِ، وخَصَّهُ الثَّوْرِيُّ بالثِّقَةِ‏.‏

قالَ بعضُ المتأخِّرينَ‏:‏ وكأنَّهُ نظَرَ إلى أنَّ كثرةَ المرويِّ إذْ ذاكَ عنْ غيرِ الثقاتِ‏.‏ ‏(‏وَ‏)‏ أَمَّا أبو عبدِ اللَّهِ ‏(‏ابنُ مَنْدَةٍ‏)‏ بالصَّرْفِ للضَّرُورةِ، ‏(‏فحَدّ‏)‏ ‏(‏بالانفرادِ‏)‏، يعني‏:‏ على الوجْهِ المَشْرُوحِ أَوَّلاً، لَكِنْ ‏(‏عنْ إِمَامٍ‏)‏ من الأئمَّةِ؛ كالزُّهْرِيِّ وقتادةَ وغيرِهما مِمَّنْ ‏(‏يُجْمَعُ حديثُهُ‏)‏‏.‏ والحاصِلُ أنَّ الغريبَ على قِسْمَيْنِ‏:‏ مُطْلقٌ، ونِسْبِيٌّ؛ كما سَتَأْتِي الإشارةُ إليهِ‏.‏ وحينَئذٍ فهوَ والأفرادُ كما سَلَفَ في بَابِها على حَدٍّ سَواءٍ، فَلِمَ حَصَلَت المُغَايَرَةُ بينَهُما‏؟‏‏.‏

ولذلكَ قالَ بعضُ المُتأخِّرِينَ‏:‏ إنَّ الأحسنَ في تعريفِهِ ما قالَهُ الميانشيُّ‏:‏ وإِنَّهُ ما شَذَّ طريقُهُ ولم يُعْرَفْ رَاوِيهِ بكثرةِ الروايَةِ، وحينَئذٍ فَهُوَ أخَصُّ منْ ذاكَ؛ لِعَدَمِ التَّقْيِيدِ في رَاوِيهِ بما ذُكِرَ‏.‏

وعرَّفَهُ الشِّهابُ الْخَوِيُّ بأنَّهُ ما يكونُ مَتْنُهُ أو بعضُهُ فَرْداً عنْ جميعِ رُواتِهِ، فيَنفرِدُ بهِ الصحابِيُّ، ثمَّ التابعِيُّ، ثمَّ تابِعُ التابعيِّ، و هَلُمَّ جَرًّا‏.‏ أوْ ما يَكونُ مَرْويًّا بِطُرُقٍ عنْ جماعةٍ من الصحابةِ، ويَنفرِدُ بهِ عنْ بعضِهم تابعيٌّ أوْ بعضُ رُواتِهِ‏.‏

وهذا يَحتمِلُ أنْ يكونَ الغريبُ عندَهُ أيضاً على قسميْنِ‏:‏ مُطْلَقٌ ومُقيَّدٌ‏.‏ ويكونَ افتراقُ أَوَّلِهما عن الفَرْدِ بالنظَرِ لوقوعِ التفرُّدِ في سائرِ طِبَاقِهِ، فهوَ أخَصُّ أيضاً‏.‏ ويَحتمِلُ الترَدُّدَ بينَ التعريفيْنِ، لكنْ قدْ فرَّقَ بينَهما شَيْخُنا بعدَ قولِهِ‏:‏ إنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ لُغةً واصطلاحاً، بأنَّ أهلَ الاصْطِلاحِ غَايَرُوا بينَهما منْ حيثُ كثرةُ الاستعمالِ وقِلَّتُهُ، فالفَرْدُ أكثرُ ما يُطْلِقونَهُ على الفردِ المُطلَقِ، وهوَ الحديثُ الذي لا يُعْرَفُ إلاَّ منْ طريقِ ذلكَ الصحابيِّ، ولوْ تَعدَّدَت الطرُقُ إليهِ، والغريبُ أكثرُ ما يُطلِقونَهُ على الفردِ النِّسْبِيِّ، قالَ‏:‏ وهذا منْ إطلاقِ الاسمِ عَلَيْهِمَا‏.‏ وأمَّا منْ حَيْثُ استعمالُهم الفعلَ المُشتَقَّ فلا يُفَرِّقونَ، فيَقولونَ في النِّسبيِّ‏:‏ تَفَرَّدَ بهِ فلانٌ، أوْ أغْرَبَ بهِ فلانٌ‏.‏ انتهى‏.‏

على أنَّ ابنَ الصلاحِ أشارَ إلى افتراقِهما في بعضِ الصُّوَرِ، فقالَ‏:‏ وليسَ كُلُّ ما يُعَدُّ منْ أنواعِ الأفرادِ مَعْدوداً منْ أنواعِ الغريبِ؛ كما في الأفرادِ المُضَافَةِ إلى البلادِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ إلاَّ أنْ يُرِيدَ بقولِهِ‏:‏ انفرَدَ بهِ أهْلُ البصرةِ مثلاً واحداً منْ أهلِها، فهوَ الغريبُ، وَرُبَّما يُسَمَّى كُلٌّ منْ قِسْمَي الغريبِ ضَيِّقَ المَخْرَجِ‏.‏

قالَ الحاكِمُ في الحديثِ الذي أخرجَهُ البخاريُّ في كتابِ الصلاةِ عنْ عَمْرِو بنِ زُرارَةَ، عنْ عبدِ الواحدِ بنِ وَاصِلٍ أَبِي عُبيدةَ الحدَّادِ، عنْ عُثْمانَ بنِ أَبِي رَوَّادٍ، عن الزُّهْريِّ قالَ‏:‏ ‏(‏دَخَلْتُ على أَنَسٍ بدِمَشْقَ وهوَ يَبْكِي، فقالَ‏:‏ ‏(‏لا أَعْرِفُ شَيْئاً فيما أَدْرَكْتُ إلاَّ هذهِ الصلاةَ، وهذهِ الصلاةُ قَدْ ضَيَّعْتُ‏)‏‏:‏ هوَ أضْيَقُ حديثٍ في البخاريِّ، سَأَلَنِي عنهُ أبو عبدِ اللَّهِ بنُ أَبِي ذُهْلٍ- يعني أحَدَ مَشَايخِهِ- فأخْرَجْتُهُ لهُ، فسَمِعَهُ- يعني‏:‏ سَمِعَهُ شيخُهُ منْهُ- عنْ عَلِيِّ بنِ حَمْشَاذَ، عنْ أحمدَ بنِ سَلَمةَ، عنْ عمرٍو، وكأنَّ ضِيقَهُ مَخْصُوصٌ بروايَةِ الحدَّادِ عن ابنِ أَبِي رَوَّادٍ، وإِلاَّ فَقَدْ عَلَّقَهُ البخاريُّ عَقِبَ تخريجِهِ للروايَةِ الأُولَى منْ طريقِ مُحَمَّدِ بنِ بكرٍ الْبُرْسَانِيِّ عن ابنِ أَبِي رَوَّادٍ، ومنْ طَرِيقِ الْبُرْسَانِيِّ وَصَلَهُ الإسماعيليُّ في مُسْتَخْرَجِهِ، وابنُ أبي خَيْثَمَةَ في تاريخِهِ، وأحمدُ بنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ في جَمْعِهِ لحديثِ الزُّهْريِّ، ومنْ طريقِهِ رواهُ أبو نُعَيْمٍ في ‏(‏المُستخرَجِ‏)‏‏.‏

إذا عُلِمَ هذا فقدْ قالَ بَعْضُهم‏:‏ الغريبُ من الحديثِ على وِزَانِ الغَرِيبِ من الناسِ، فكَما أنَّ غُرْبةَ الإنسانِ في البلدِ تَكونُ حقيقةً بحيثُ لا يَعرِفُهُ فيها أحدٌ بالكُلِّيَّةِ، وتكونُ إضافيَّةً بأنْ يَعْرِفَهُ البعضُ دونَ البعضِ، ثمَّ قدْ يَتفاوتُ معرفةُ الأقلِّ منهم تَارَةً والأكثرِ أُخْرَى، وقدْ يَسْتَوِيَانِ، وكذا الحديثُ‏.‏

‏[‏تعريف العزيز‏]‏‏:‏ ‏(‏فإِنْ عَلَيْهِ‏)‏؛ أي‏:‏ المَرْوِيِّ منْ طَرِيقِ إمامٍ يُجْمَعُ حديثُهُ، ‏(‏يُتْبَعُ‏)‏ رَاوِيهِ، ‏(‏مِنْ وَاحِدٍ‏)‏ فقطْ، ‏(‏وَ‏)‏ كذا من ‏(‏اثْنَيْنِ فَـ‏)‏ـهُوَ كما قالَ ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لابنِ مَنْدَهْ‏:‏ النوعُ الذي يُقالُ لهُ‏:‏ ‏(‏الْعَزِيزُ‏)‏‏.‏ وسُمِّيَ بذلكَ إمَّا لِقِلَّةِ وُجودِهِ؛ لأنَّهُ يُقالُ‏:‏ عَزَّ الشيءُ يَعِزُّ، بكسرِ العينِ في المضارعِ، عِزًّا وَعَزَازةً؛ إذا قَلَّ بحيثُ لا يَكادُ يُوجَدُ، وإمَّا لكونِهِ قَوِيَ واشْتَدَّ بمجيئِهِ منْ طريقٍ آخَرَ، مِنْ قولِهم‏:‏ عَزَّ يَعَزُّ، بفتحِ العينِ في المضارعِ، عِزًّا وَعَزَازَةً أيضاً؛ إذا اشْتَدَّ وقَوِيَ‏.‏ ومنهُ قولُهُ تعالى‏:‏ ‏(‏فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ‏)‏ ‏[‏يس‏:‏ 145‏]‏؛ أيْ‏:‏ قَوَّيْنا وشَدَدْنا‏.‏ وجَمْعُ العَزِيزِ عِزَازٌ، مثلُ‏:‏ كَرِيمٍ وكِرامٍ؛ كما قالَ الشاعرُ‏:‏

بِيضُ الْوُجُوهِ أَلِبَّةٌ ومَعَاقِلُ *** فِي كُلِّ نَائبةٍ عِزَازُ الأنْفُسِ

ثمَّ هوَ ظاهرٌ في الاكتفاءِ بوجودِ ذلكَ في طبقةٍ واحدةٍ، بحيثُ لا يَمْتنِعُ أنْ يكونَ في غيرِها منْ طِبَاقِهِ غَرِيباً، بأنْ يَنْفرِدَ بهِ رَاوٍ آخَرُ عنْ شيخِهِ، بلْ ولا يكونُ مشهوراً لاجتماعِ ثلاثةٍ فَأَكْثَرَ على رِوَايَتِهِ في بعضِ طِباقِهِ أيضاً‏.‏ ومَشَى على ذلكَ شَيْخُنا؛ حيثُ وصَفَ حديثَ شُعْبةَ عنْ وَاقدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ زيدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، عنْ أَبِيهِ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ مَرْفُوعاً‏:‏ ‏(‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ‏)‏، بأنَّهُ غَرِيبٌ؛ لِتَفَرُّدِ شُعْبَةَ بهِ عنْ وَاقِدٍ، ثمَّ لِتَفَرُّدِ أبي غَسَّانَ الْمِسْمَعِيِّ بهِ عنْ عبدِ الملكِ بنِ الصَّبَّاحِ رَاوِيهِ، عنْ شُعْبَةَ‏.‏ وعَزِيزٌ؛ لِتَفَرُّدِ حَرَمِيِّ بنِ عُمارَةَ وعبدِ الملكِ بنِ الصَّبَّاحِ بهِ عنْ شُعْبَةَ، ثمَّ لِتَفَرُّدِ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ وإبراهيمَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَرْعَرَةَ بهِ عنْ حَرَمِيٍّ‏.‏

وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ ابنُ الصلاحِ؛ حيثُ مَثَّلَ للمشهورِ بحديثِ‏:‏ ‏(‏الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ‏)‏، معَ كَوْنِ أَوَّلِ سَنَدِهِ فَرْداً، والشُّهْرَةُ إنَّما طَرَأَتْ لهُ منْ عندِ يَحْيَى بنِ سعيدٍ‏.‏ بلْ قالَ في الغريبِ عنْ هذا الحديثِ‏:‏ إِنَّهُ غريبٌ مَشْهورٌ، وذلكَ بِوَجْهَيْنِ واعتباريْنِ‏.‏

وقالَ أبو نُعَيْمٍ في حديثِ سُفْيانَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيلٍ، عن ابنِ الحَنَفِيَّةِ، عنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ‏:‏ ‏(‏مِفْتَاحُ الصَّلاةِ التَّكْبِيرُ‏)‏‏:‏ إنَّهُ مشهورٌ، لا نَعْرِفُهُ إلاَّ منْ حديثِ ابنِ عَقِيلٍ‏.‏ فقالَ شيخُنا‏:‏ إنَّ مُرَادَهُ أنَّهُ مشهورٌ منْ حديثِ ابنِ عَقِيلٍ‏.‏ فهذهِ الشُّهْرَةُ النِّسْبيَّةُ نظيرُ الغَرَابَةِ النِّسْبِيَّةِ في قولِهِ فيما يَنْفَرِدُ بهِ الرَّاوِي عنْ شيخِهِ‏:‏ غريبٌ‏.‏ وإنَّما المرادُ أنَّهُ فَرْدٌ عنْ ذلكَ الشيخِ منْ روايَةِ هذا بخصوصِهِ عنهُ، معَ أنَّ الشيخَ قدْ يكونُ تُوبِعَ عليهِ عنْ شيخِهِ‏.‏

وعلَى هذا فيَخْرُجُ الحُكْمُ على حديثِ الأعمالِ بأنَّهُ فَرْدٌ في أوَّلِهِ، مشهورٌ في آخرِهِ، يُرِيدُ أنَّهُ اشْتُهِرَ عمَّن انفرَدَ بهِ، فَهِيَ شُهْرَةٌ نسبيَّةٌ لا مُطلَقةٌ‏.‏ وعلى هذا مَشَى بعضُ المُتأخِّرينَ مِمَّنْ أخَذْتُ عنهُ، فَعَرَّفَ العزيزَ اصطلاحاً‏:‏ بأنَّهُ الذي يكونُ في طَبَقةٍ منْ طِباقِهِ رَاوِيَانِ فقطْ‏.‏ ولكنْ لم يَمْشِ شيخُنا في توضيحِ النُّخْبةِ على هذا؛ فإنَّهُ وإنْ خَصَّهُ بِوُرودِهِ منْ طريقِ رَاوِيَيْنِ فقَطْ، عَنَى بهِ كَوْنَهُ كذلكَ في جميعِ طِباقِهِ، وقالَ معَ ذلكَ‏:‏ إِنَّ مُرادَهُ أنْ لا يَرِدَ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا، فإنْ وَرَدَ بأكْثَرَ في بعضِ المواضعِ من السَّنَدِ الواحدِ لا يَضُرُّ؛ إذ الأقلُّ في هذا يَقْضِي على الأكثرِ‏.‏

وإذا تَقرَّرَ هذا فما كانَت العِزَّةُ فيهِ بالنِّسبةِ لِرَاوٍ واحدٍ انفَرَدَ رَاوِيَانِ عنهُ يُقَيَّدُ فيُقالُ‏:‏ عَزيزٌ منْ حديثِ فلانٍ‏.‏ وأمَّا عندَ الإِطْلاقِ فيَنصرِفُ لِمَا أكثرُ طِباقِهِ كذلكَ؛ لأنَّ وُجودَ سَنَدٍ على وتيرةٍ واحدةٍ بروايَةِ اثنيْنِ قد ادَّعَى فيهِ ابنُ حِبَّانَ عدمَ وُجُودِهِ، وكادَ شيخُنا أنْ يُوافقَهُ؛ حيثُ قالَ‏:‏ إِنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُسَلَّمَ بخلافِهِ في الصُّورَةِ التي قَرَّرْناهَا، وهيَ أنْ لا يَروِيَهُ أقلُّ من اثنيْنِ عنْ أقَلَّ من اثنيْنِ، يَعْنِي كما حَرَّرَهُ هوَ فإِنَّهُ مَوْجُودٌ‏.‏ مثالُهُ ما رَوَاهُ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا منْ حديثِ أَنَسٍ، والبخاريُّ فقطْ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ‏:‏ ‏(‏لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ‏)‏ الحديثَ‏.‏

ورَوَاهُ عنْ أنسٍ كما في الصحيحيْنِ أيضاً قتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ‏.‏ ورَوَاهُ عنْ قَتادَةَ شُعْبَةُ كما في الصحيحيْنِ وسعيدٌ علَى ما يُحَرَّرُ؛ فإِنِّي قَلَّدْتُ شيخَنا فيهِ معَ وُقوفِي عليهِ بعدَ الفَحْصِ‏.‏ ورَوَاهُ عنْ عبدِ العزيزِ إسماعيلُ ابنُ عُلَيَّةَ كما في الصحيحيْنِ، وعبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ كما في مُسلمٍ، ورَوَاهُ عنْ كُلٍّ جماعةٌ‏.‏

‏[‏تعريف المشهور والمستفيض‏]‏ ‏(‏أَوْ‏)‏ أنْ يُتْبَعَ رَاوِيهِ عنْ ذاكَ الإمامِ مَنْ ‏(‏فَوْقُ‏)‏ بالبناءِ على الضمِّ- أَيْ‏:‏ فَوْقَ ذلكَ- كَثَلاثةٍ فأكثرَ، ما لم يَبْلُغْ حدَّ التواتُرِ، ‏(‏فمَشْهُورٌ‏)‏؛ أي‏:‏ النوعُ الذي يقالُ لهُ‏:‏ المشهورُ‏.‏

وعبارةُ ابنِ الصلاحِ في تعريفِهِ تَبعاً لابنِ مَنْدَهْ‏:‏ فإذا رَوَى الجماعةُ عنهم- أيْ‏:‏ عنْ واحدٍ من الأئمَّةِ الذينَ يُجْمَعُ حديثُهم حَدِيثاً سُمِّيَ مَشْهوراً‏.‏

وبمُقْتَضَى ما عَرَّفَا بهِ العزيزَ أيضاً يَجْتَمِعَانِ فيما إذا رَوَاهُ ثلاثةٌ، ويَخْتَصُّ العزيزُ باثنيْنِ، والمشهورُ بأكثرَ من الثلاثةِ‏.‏

وأمَّا بالنَّظَرِ لِمَا عَرَّفَهُ بهِ شيخُنا فلا يَجْتمعانِ‏.‏ ثمَّ إنَّهُ لا انحصارَ لهما أيضاً في كَوْنِ المُنفرِدِ عنهُ مِمَّنْ يُجْمَعُ حديثُهُ، بلْ يَشْمَلُ كلٌّ منهما ما لا يكونُ رَاوِيهِ كذلكَ، وكذا ما يَنْفرِدُ بهِ الرَّاوِيَانِ في العزيزِ عنْ رَاوِيَيْنِ، والرواةُ في المشهورِ عنْ ثلاثةٍ أوْ عن اثنيْنِ، وما تكونُ الشهرةُ في غالبِ طِباقِهِ، بحيثُ يَحْسُنُ إِطْلاقُهما حينَئذٍ دُونَها في بعضِ طِبَاقِهِ، كما قَدَّمْتُهُ في العزيزِ إلى غيرِها من الصُّوَرِ، فاعْلَمْهُ‏.‏

وسُمِّيَ مشهوراً؛ لِوُضُوحِ أمْرِهِ، يُقَالُ‏:‏ شَهَرْتُ الأمْرَ أَشْهَرُهُ شَهْراً وشُهْرةً فاشْتَهَرَ‏.‏ وهوَ المُسْتَفِيضُ على رَأْيِ جماعةٍ منْ أئمَّةِ الفقهاءِ والأُصُولِيِّينَ وبعضِ المُحدِّثِينَ‏.‏ سُمِّيَ بذلكَ لانتشارِهِ وَشِيَاعِهِ في الناسِ، مِنْ فَاضَ الماءُ يَفِيضُ فَيْضاً وفَيْضُوضَةً؛ إذا كَثُرَ حتَّى سالَ على ضَفَّةِ الوادي‏.‏

قالَ شَيْخُنا‏:‏ ومنهم مَنْ غايَرَ بينَهما بِأَنَّ المُستفِيضَ يكونُ في ابتدائِهِ وانتهائِهِ، يَعْنِي وفيما بَيْنَهما سَوَاءٌ، والمشهورُ أعَمُّ منْ ذلكَ، بحيثُ يَشْمَلُ ما كانَ أوَّلُهُ مَنْقولاً عن الواحدِ؛ كحديثِ الأعمالِ، وإن انتقَدَ ابنُ الصلاحِ في التمثيلِ بهِ، ولا انتقادَ بالنَّظَرِ لِمَا اقتصَرَ عليهِ في تعريفِهِ؛ إذ الشُّهْرةُ فيهِ نِسْبِيَّةٌ، وقدْ ثبَتَ عنْ أَبِي إسماعيلَ الهَرَوِيِّ المُلقَّبِ شيخَ الإسلامِ أنَّهُ كَتَبَهُ عنْ سَبْعِمِائةِ رجُلٍ منْ أصحابِ يحيَى بنِ سعيدٍ، واعْتَنَى الحافظُ أبو القاسمِ بنُ مَنْدَهْ بجَمْعِهم وتَرْتِيبِهم،

بحيثُ جمَعَ نَحْوَ النِّصْفِ منْ ذلكَ‏.‏

ومنهم مَنْ غايَرَ على كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، يَعْنِي بأنَّ المُسْتفِيضَ ما تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبُولِ دونَ اعتبارِ عَدَدٍ‏.‏

ولذا قَالَ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ والقَفَّالُ‏:‏ إنَّهُ هوَ والمُتَوَاترُ بمعنًى واحدٍ‏.‏ ونحوُهُ قولُ شيخِنا في المُستفيضِ‏:‏ إنَّهُ ليسَ منْ مَبَاحِثِ هذا الفَنِّ‏.‏ يعني كَمَا في المُتواتِرِ على ما سَيَأْتِي، بخلافِ المشهورِ؛ فإنَّهُ قد اعْتُبِرَ فيهِ هذا العددُ المخصوصُ، سواءٌ كانَ صحيحاً أمْ لا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لكنْ لا اختصاصَ لهُ بشُمولِهِ الصحيحَ وغيرَهُ، بلْ ‏(‏كُلٌّ‏)‏ من الأنواعِ الثلاثةِ المشروحةِ، ‏(‏قدْ رَأَوْا‏)‏؛ أيْ‏:‏ أهلُ الحديثِ، ‏(‏مِنْهُ الصحيحَ‏)‏؛ يعني المُحتَّجَ بهِ الشامِلَ الحَسَنَ، ‏(‏والضَّعِيفَ‏)‏‏.‏ ولا يُنَافِي وَاحِدٌ مِنْهَا واحداً مِنْهُمَا، وإنْ لم يُصَرِّح ابنُ الصلاحِ بذلكَ في العزيزِ، ولكنَّ الضَّعْفَ في الغريبِ أكثرُ؛ ولذا كَرِهَ جَمْعٌ من الأئمَّةِ تَتَبُّعَ الغرائبِ، فقالَ أحمدُ‏:‏ لا تَكْتُبُوها؛ فإنَّها مَنَاكِيرُ، وعامَّتُها عن الضُّعفاءِ‏.‏ وسُئِلَ عنْ حديثِ ابنِ جُرَيجٍ عنْ عطاءٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ‏)‏، فقالَ‏:‏ إنَّما هوَ مُرْسَلٌ‏.‏ فقيلَ لَهُ‏:‏ إنَّ ابنَ أَبِي شَيْبَةَ زعَمَ أنَّهُ غريبٌ‏.‏ فقالَ أحمدُ‏:‏ صَدَقَ، إذا كَانَ خَطَأً فهوَ غريبٌ‏.‏

وقالَ أبو حنيفةَ‏:‏ مَنْ طَلَبَها كَذَبَ‏.‏ وقالَ مالِكٌ‏:‏ شَرُّ العِلْمِ الغَرِيبُ، وخَيْرُهُ الظاهرُ الذي قدْ رَوَاهُ الناسُ‏.‏

وعنْ عبدِ الرزَّاقِ قالَ‏:‏ كُنَّا نَرَى أنَّ الغريبَ خيرٌ، فإذا هوَ شَرٌّ‏.‏

‏[‏أنواع الغريب‏]‏‏:‏ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ إنَّهُ ‏(‏قَدْ يُغْرِبُ مُطْلَقاً‏)‏؛ يعني في المتنِ والإسنادِ معاً؛ كالحديثِ الذي تَفرَّدَ بروايَةِ مَتْنِهِ راوٍ واحدٌ؛ كما قَدَّمْناهُ أوَّلاً‏.‏ ‏(‏أَو‏)‏ يُغْرِبُ مُقَيَّداً؛ حيثُ يُغْرِبُ ‏(‏إسْنَاداً‏)‏ بالنَّقْلِ‏.‏ ‏(‏فقَدْ‏)‏؛ أيْ‏:‏ حَسْبُ‏.‏ كَأَنْ يكونَ مَعْرُوفاً براويَةِ جماعةٍ من الصحابةِ، فيَنْفرِدُ بهِ رَاوٍ منْ حديثِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فهوَ منْ جِهَتِهِ غريبٌ، معَ أنَّ مَتْنَهُ غيرُ غريبٍ‏.‏

ومنْ أمثلتِهِ حديثُ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوسَى عنْ أبيهِ رفَعَهُ‏:‏ ‏(‏الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ‏)‏؛ فإنَّهُ غريبٌ منْ حديثِ أبي موسى، معَ كونِهِ مَعْرُوفاً منْ حديثِ غيرِهِ‏.‏

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ومنْ ذلكَ غَرَائِبُ الشيوخِ في أسانيدِ المُتونِ الصحيحةِ، يَعْنِي كأنْ يَنفرِدَ بهِ منْ حديثِ شُعْبةَ بخُصُوصِهِ غُنْدَرٌ‏.‏ قالَ‏:‏ وهوَ الذي يَقولُ فيهِ التِّرْمذيُّ‏:‏ غريبٌ منْ هذا الوَجْهِ‏.‏ قالَ‏:‏ ولا أَرَى- يعني القِسْمَ الثانِيَ- يَنْعَكِسُ، فلا يُوجَدُ إذاً، يَعْنِي فيما يَصِحُّ ما هُوَ غريبٌ مَتْناً لا سَنَداً، إلاَّ إذا اشْتَهَرَ الحديثُ الفَرْدُ عَمَّنْ تَفرَّدَ بهِ، فَرَوَاهُ عنهُ عددٌ كثيرونَ؛ فإنَّهُ يَصِيرُ غَرِيباً مَشْهوراً، وغَرِيباً مَتْناً، وغيرَ غَرِيبٍ إسناداً، لَكِنْ بالنظَرِ إلى أحَدِ طَرَفَي الإسنادِ فإنَّ إسنادَهُ مُتَّصِفٌ بالغرابةِ في طَرَفِهِ الأوَّلِ، ومُتَّصِفٌ بالشُّهرةِ في طَرَفِهِ الآخَرِ؛ كَحدِيثِ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ‏)‏، وكسائرِ الغرائبِ التي اشتملَتْ عليها التَّصانِيفُ المشهورةُ‏.‏

وممَّنْ ذَكَرَ هذهِ الأقسامَ الثلاثةَ ابنُ سَيِّدِ الناسِ فيما شرَحَهُ من التِّرمذيِّ تَبَعاً لابنِ طَاهِرٍ، فِيمَا أفادَهُ شَيْخُنا، ولم يُقَيِّدْ ثَالِثَها بآخِرِ السَّنَدِ؛ كابنِ الصلاحِ، بلْ أطْلَقَهُ، ولكنَّهُ لم يَذْكُرْ لهُ مثالاً؛ لأنَّهُ لا يُوجَدُ، وإنَّما القِسْمةُ اقْتَضَتْ لهُ ذِكْرَهُ‏.‏ وذكَرَ رَابِعاً، وهوَ غريبٌ في بعضِ السَّنَدِ؛ كالطَّرِيقِ التي قَدَّمْتُها لحديثِ أُمِّ زَرْعٍ بإسقاطِ الواسطةِ بينَ هشامِ بنِ عُرْوةَ وأبيهِ، وقالَ‏:‏ فهذهِ غَرَابَةٌ تَخُصُّ موضعاً من السَّنَدِ، والحديثُ صحيحٌ‏.‏ وخامساً وهوَ غَرِيبٌ في بَعْضِ المَتْنِ؛ كَرَفْعِ جميعِ الحديثِ المذكورِ‏.‏

‏[‏أقسام المشهور‏]‏‏:‏ ‏(‏كَذَلِكَ المشهورُ أيضاً‏)‏ يَقَعُ على ما يُرْوَى بأكثرَ من اثنيْنِ عنْ بعضِ رواتِهِ أوْ في جميعِ طِباقِهِ أوْ مُعظَمِها، أوْ على ما اشْتَهَرَ على الألسنةِ، فيَشمَلُ ما لهُ إسنادٌ واحدٌ فصاعداً، بلْ ما لا يُوجَدُ لهُ إسنادٌ أصلاً؛ كَـ‏:‏ ‏(‏عُلَمَاءُ أُمَّتِي أَنْبِياءُ بَنِي إسْرَائِيلَ‏)‏، وَ‏:‏ ‏(‏وُلِدْتُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ كِسْرَى‏)‏، وتَسْلِيمِ الغَزَالَةِ؛ فقد اشْتَهَرَ على الألسنةِ وفي المدائحِ النبويَّةِ‏.‏

ومنهُ قولُ الإمامِ أحمدَ، كما أخْرَجَهُ ابنُ الْجَوْزِيِّ في آخِرِ الجهادِ منْ مَوْضُوعَاتِهِ‏:‏ أربعةُ أحاديثَ تَدُورُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في الأسواقِ، لَيْسَ لها أصْلٌ، وذكَرَ منها‏:‏ ‏(‏مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ‏)‏، وَ‏:‏ ‏(‏نَحْرُكُمْ يَوْمُ صَوْمِكُمْ‏)‏‏.‏ ولَكِنْ قدْ قيلَ‏:‏ إنَّ هذا لا يَصِحُّ عنْ أحمدَ؛ لأنَّ الحَدِيثَيْنِ المَطْوِيَّيْنِ أحَدُهما عندَهُ في مُسْنَدِهِ، وسَنَدُهُ جَيِّدٌ معَ مَجِيئِهِ منْ طُرُقٍ أُخْرَى، وثَانيهما عندَ صاحبِهِ أبي دَاوُدَ بسندٍ جيِّدٍ أيضاً، هذا معَ نَظْمِ العلامَّةِ أبي شَامَةَ الدِّمَشْقِيِّ المَقْدِسيِّ لهذهِ المقالةِ فقالَ‏:‏

أَرْبعةٌ عنْ أحمدَ شَاعَتْ ولا *** أصْلَ لها من الحديثِ الوَاصِلِ

خُروجُ آذَارَ ويَوْمُ صَوْمِكم *** ثُمَّ أَذَى الذِّمِّيِّ وَرَدُّ السَّائِل ِ

وقدْ يَشْتَهِرُ بينَ الناسِ أحاديثُ هيَ موضوعةٌ بالكُلِّيَّةِ، وذلكَ كثيرٌ جِدًّا‏.‏ ومَنْ نظَرَ في الموضوعاتِ لابنِ الجَوْزِيِّ عَرَفَ الكثيرَ منْ ذلكَ‏.‏ بلْ و‏(‏قَسَّمُوا‏)‏؛ أيْ‏:‏ أهلُ الحديثِ، المشهورَ أيضاً ‏(‏لشُهْرَةٍ مُطْلَقةٍ‏)‏ بينَ المُحدَّثِينَ وغيرِهم؛ ‏(‏كَـ‏)‏ حديثِ‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ‏)‏، ‏(‏الحَدِيثَ وَ‏)‏ للمُشْتَهِرِ، ‏(‏المَقْصُورِ على المُحَدِّثِينَ‏)‏ مَعْرِفَتُهُ، ‏(‏مِنْ‏)‏ نحوِ ‏(‏مَشْهُورِ قُنُوتُهُ‏)‏ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ‏(‏بعدَ الرُّكوعِ شَهْرَا‏)‏؛ فقدْ رَوَاهُ عنْ أنسٍ جَماعةٌ؛ منهم أَنَسُ بنُ سِيرينَ وعَاصِمٌ وقتادَةُ وأبو مِجْلَزٍ لاحِقُ بنُ حُمَيْدٍ، ثمَّ عن التابعِينَ جماعةٌ؛ منهم سُليمانُ التَّيْمِيُّ عنْ أبي مِجْلَزٍ، ورَوَاهُ عن التَّيْمِيِّ جماعةٌ، بحيثُ اشْتَهَرَ، لَكِنْ بينَ أهلِ الحديثِ خَاصَّةً‏.‏

وأمَّا غيرُهم فقَدْ يَسْتَغْرِبُونَهُ؛ لِكَوْنِ الغالِبِ على رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ عنْ أنسٍ كَوْنُها بلا واسطةٍ‏.‏ وإلى مَشْهُورٍ مقصورٍ على غيرِ المُحدِّثِينَ؛ كالأمثلةِ التي قَدَّمْتُها، ولكِنْ لا اعتبارَ إلاَّ بما هوَ مَشْهُورٌ عندَ علماءِ الحديثِ‏.‏

وقدْ أَفْرَدْتُ في الحديثِ المشهورِ بالنَّظَرِ لِمَا تَقَرَّرَ منْ أقسامِهِ كتاباً‏.‏ وكذا يَنْقسِمُ أيضاً باعتبارٍ آخَرَ، فيَكُونُ منهُ ما لم يَرْتَقِ إلى التَّوَاتُرِ، وهوَ الأغلبُ فيهِ‏.‏

‏[‏تعريف التواتر لغة واصطلاحا‏]‏ ‏(‏ومنهُ ذُو تَواتُرٍ‏)‏، بلْ قالَ شَيْخُنا‏:‏ إنَّ كلَّ متواترٍ مشهورٌ، ولا يَنْعكِسُ‏.‏ يعني فإنَّهُ لا يَرْتَقِي للتَّوَاتُرِ إلاَّ بعدَ الشُّهْرَةِ، فهوَ لُغَةً‏:‏ ترادُفُ الأشياءِ المُتعاقِبَةِ واحداً بعدَ واحدٍ، بينَهما فَتْرَةٌ، ومنهُ قولُهُ تعالى‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏)‏؛ أيْ‏:‏ رَسُولاً بعدَ رَسُولٍ، بينَهما فترةٌ‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ هوَ ما يَكُونُ ‏(‏مُسْتَقْرَا فِي‏)‏ جميعِ ‏(‏طَبَقاتِهِ‏)‏، أنَّهُ من الابتداءِ إلى الانتهاءِ ورَدَ عنْ جماعةٍ غيرِ مَحصورِينَ في عددٍ مُعيَّنٍ، ولا صفةٍ مَخْصُوصَةٍ، بلْ بحيثُ يَرْتَقُونَ إلى حَدٍّ تُحِيلُ العادَةُ مَعَهُ تَوَاطُؤَهم على الكَذِبِ، أوْ وُقُوعَ الغَلَطِ منهم اتِّفاقاً منْ غيرِ قَصْدٍ‏.‏ وبالنظَرِ لهذا خاصَّةً يكونُ العددُ في طبقةٍ كثيراً، وفي أُخْرَى قليلاً؛ إذ الصِّفاتُ العَلِيَّةُ في الرُّوَاةِ تقومُ مَقَامَ العددِ أوْ تَزِيدُ عليهِ‏.‏

هذا كُلُّهُ معَ كونِ مُسْتَنَدِ انتهائِهِ الحِسَّ؛ منْ مشاهدةٍ أوْ سماعٍ؛ لأنَّ ما لا يَكونُ كذلكَ يَحْتَمِلُ دخولَ الغَلَطِ فيهِ، ونحوُهُ كما اتَّفَقَ أنَّ سائلاً سَأَلَ مَوْلَى أَبِي عَوَانَةَ بمِنًى، فلَمْ يُعْطِهِ شيئاً، فلَمَّا وَلَّى لَحِقَهُ أبو عَوانَةَ فأَعْطَاهُ دِيناراً، فقالَ لهُ السائِلُ‏:‏ واللَّهِ لأنْفَعَنَّكَ بها يا أبا عَوانَةَ‏.‏ فلَمَّا أَصْبَحُوا وأَرَادُوا الدَّفْعَ من المُزْدَلِفَةِ، وقَفَ ذلكَ السَّائِلُ على طريقِ الناسِ وجعَلَ يُنَادِي إذا رَأَى رُفْقَةً منْ أهلِ العراقِ‏:‏ يا أيُّها الناسُ، اشْكُروا يَزِيدَ بنَ عَطاءٍ اللَّيْثيَّ، يَعْنِي مَوْلَى أَبِي عَوانَةَ؛ فَإِنَّهُ تَقرَّبَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ اليومَ بأَبِي عَوانَةَ فَأَعْتَقَهَ‏.‏ فجعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ فَوْجاً فَوْجاً إلى يَزِيدَ، يَشْكُرونَ لهُ ذلكَ وهوَ يُنْكِرُهُ، فلَمَّا كَثُرَ هذا الصنيعُ منهم قَالَ‏:‏ ومَنْ يَقْدِرُ على رَدِّ هؤلاءِ كُلِّهم‏؟‏‏!‏ اذْهَبْ فأنتَ حُرٌّ‏.‏

وأنْ لا يَكونَ مُستنَدُهُ ما ثَبَتَ بقضيَّةِ العقلِ الصِّرْفِ؛ كَـ‏:‏ الواحدُ نِصْفُ الاثنيْنِ، والأُمُورِ النَّظَرِيَّاتِ؛ إذْ كلُّ واحدٍ منهم يُخبِرُ عنْ نَظَرِهِ، وكُلُّهُ مقبولٌ؛ لإفادتِهِ القطعَ بصِدْقِ مُخْبِرِهِ، بخلافِ غيرِهِ منْ أخبارِ الآحادِ كما سلَفَ، وليسَ منْ مَباحِثِ هذا الفنِّ؛ فإنَّهُ لا يُبْحَثُ عنْ رجالِهِ؛ لِكَوْنِهِ لا دَخْلَ لصفاتِ المُخْبِرينَ فيهِ؛ ولذلكَ لم يَذْكُرْهُ من المُحدِّثِينَ إلاَّ القليلُ؛ كالحاكمِ، والخطيبِ في أوائلِ ‏(‏الكِفَايَةِ‏)‏، وابنِ عبدِ البرِّ، وابنِ حَزْمٍ‏.‏

وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّ أهلَ الحديثِ لا يَذْكُرونَهُ باسمِهِ الخاصِّ المُشعِرِ بمعناهُ الخاصِّ‏.‏ وإنْ كانَ الخطيبُ قدْ ذكَرَهُ، ففي كلامِهِ ما يُشْعِرُ بأنَّهُ اتَّبَعَ فيهِ غيرَ أهلِ الحديثِ، ولَعَلَّ ذلكَ لكونِهِ لا يَشمَلُهُ صِنَاعَتُهم، ولا يَكادُ يُوجَدُ في رواياتِهم‏.‏

‏[‏أمثلة التواتر‏]‏ ولَهُ أَمْثِلَةٌ؛ ‏(‏كمَتْنِ‏)‏ ‏(‏مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ‏)‏، الَّذِي اعْتَنَى غيرُ واحدٍ من الحُفَّاظِ؛ منهم الطَّبرانِيُّ ويُوسُفُ بنُ خليلٍ بجَمْعِ طُرُقِهِ،

وبَلَغَتْ عِدَّةُ مَنْ رَوَاهُ عندَ عَلِيِّ بنِ المَدينيِّ وتَبِعَهُ يَعقوبُ بنُ شَيْبَةَ عِشْرِينَ، بل ارْتَقَتْ عندَ كلٍّ من البَزَّارِ وإبراهيمَ الحَرْبِيِّ لأربعينَ، وزادَ عَلَيْهِمَا أبو مُحَمَّدِ بنُ صَاعِدٍ عدداً قليلاً‏.‏

وعندَ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ شارِحِ ‏(‏الرسالةِ‏)‏ لِسِتِّينَ‏.‏ ‏(‏فـ‏)‏ـارْتَقَتْ ‏(‏فَوْقَ سِتِّينَ‏)‏ صَحابِيًّا باثنيْنِ ‏(‏رَوَوْهُ‏)‏ كما عندَ ابنِ الجَوْزيِّ في مُقدِّمةِ موضوعاتِهِ، ولِبَعْضِ الأحاديثِ عندَهُ أَكْثَرُ منْ طريقٍ، بحيثُ زادَت الطُّرُقُ عندَهُ على التِّسْعِينَ‏.‏ وجزَمَ بذلكَ ابنُ دِحْيَةَ‏.‏ وقدْ سبَقَ ابنَ الجَوزيِّ لزيادةِ عَدِّ الصحابةِ على السِّتِّينَ أَبُو القاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ‏.‏ ‏(‏والعَجَبْ بأنَّ مِنْ رُوَاتِهِ لَلْعَشَرَهْ‏)‏ المشهودِ لهم بالجَنَّةِ‏.‏ ‏(‏وَ‏)‏ أنَّهُ ‏(‏خُصَّ بالأَمْرَيْنِ‏)‏ المذكورَيْنِ؛ وهما اجتماعُ أَزْيَدَ منْ سِتِّينَ صحابِيًّا على روايتِهِ، وكَوْنُ العَشَرَةِ منهم، ‏(‏فِيمَا ذَكَرَه الشَّيْخُ‏)‏ ابنُ الصلاحِ حِكايَةً ‏(‏عنْ بَعْضِهِمُ‏)‏ مِمَّنْ لم يَسْمَعْ، وهوَ موجودٌ في مُقدِّمَةِ إحْدَى النُّسْختيْنِ من الموضوعاتِ لابنِ الْجَوزيِّ، الأوَّلُ منْ كلامِهِ نفسِهِ، والثاني نَقْلاً عنْ أبي بكرٍ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الوهَّابِ الإِسْفَرَائِينِيِّ‏.‏ وكذا قالَهُ الحاكِمُ فيما نقلَهُ عنهُ صَاحِبُهُ البَيْهَقِيُّ ووافَقَهُ عليهِ‏.‏ بلْ أَشَعَرَ كلامُ ابنِ الصلاحِ باختصاصِهِ بكونِهِ مِثالاً للمتواتِرِ؛ فإنَّهُ قالَ‏:‏ ومَنْ سُئِلَ عنْ إبرازِ مِثالٍ لذلكَ فيما يُرْوَى من الحديثِ، أَعْيَاهُ تَطَلُّبُهُ‏.‏ قالَ‏:‏ وحديثُ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ‏)‏ ليسَ منْ ذلكَ بِسَبِيلٍ، وإنْ نَقَلَهُ عددُ التواتُرِ وزيادةً؛ لأنَّ ذلكَ طَرَأَ عليهِ في وَسَطِ إسنادِهِ، ولم يُوجَدْ في أوائلِهِ على ما سبَقَ ذِكْرُهُ‏.‏ نَعَمْ، حَدِيثُ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ‏)‏ نَرَاهُ مثالاً لذلكَ؛ فإنَّهُ نقَلَهُ عن الصحابةِ العَدَدُ الجَمُّ، ووَافَقَهُ غيرُ واحدٍ على إطلاقِ التواتُرِ عليهِ، ولكنْ نازَعَ غيرُ واحدٍ في اجتماعِ العَشَرةِ على روايتِهِ، وبعضُ شُيوخِ شُيوخِنا في كونِهِ مُتَوَاتِراً؛ لأنَّ شَرْطَهُ كما قَدَّمْنا استواءُ طَرَفَيْهِ وما بينَهما في الكثرةِ، وليسَتْ موجودةً في كُلِّ طريقٍ منْ طُرُقِهِ بمُفْرَدِها‏.‏

وأُجِيبَ عن الأوَّلِ بأنَّ الطُّرَقَ عن العَشَرةِ موجودةٌ في مُقدِّمَةِ الموضوعاتِ لابنِ الجوزيِّ وابنِ عَوْفٍ في النُّسخةِ الأخيرةِ منها، وكذا مَوْجُودةٌ عندَ مَنْ بعدَهُ، والثابتُ منها كما سَيَأْتِي من الصِّحاحِ عَلِيٌّ والزُّبَيْرُ، ومن الحِسَانِ طَلْحَةُ وسَعْدٌ وسَعِيدٌ وأبو عُبَيدةَ، ومن الضعيفِ المُتماسِكِ طَرِيقُ عُثْمانَ، وبَقِيَّتُها ضعيفٌ أوْ سَاقِطٌ‏.‏ وعلى كلِّ حَالٍ فقدْ ورَدَتْ في الجُملةِ‏.‏ وعن الثاني بأنَّ المُرَادَ بإطلاقِ كونِهِ مُتواتراً راويَةُ المجموعِ عن المجموعِ من ابتدائِهِ إلى انتهائِهم في كلِّ عَصْرٍ، وهذا كَافٍ في ذلكَ‏.‏ وأيضاً فَطَرِيقُ أنسٍ وحدَها قدْ رَوَاهَا عنهُ العددُ الكثيرُ وتَوَاتَرَتْ عنهم‏.‏ وحديثُ عَلِيٍّ رَوَاهُ عنهُ سِتَّةٌ منْ مشاهيرِ التابعِينَ وثقاتِهم‏.‏

وكذا حديثُ ابنِ مسعودٍ وأَبِي هُريرةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو‏.‏

فلوْ قِيلَ في كلٍّ منهما‏:‏ إنَّهُ مُتواتِرٌ عنْ صَاحِبَيْهِ، لَكَانَ صَحِيحاً‏.‏ وقدْ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وفي بعضِ ما جُمِعَ منْ طُرُقِهِ عددُ التواتِرِ‏.‏ ‏(‏قُلْتُ‏:‏ بَلَى‏)‏، لم يُخَصَّ هذا المَتْنُ بالأَمْرَيْنِ، بلْ ‏(‏مَسْحُ الْخِفَافِ‏)‏ قدْ رَوَاهُ أيضاً- فيما ذكَرَهُ أَبُو القاسمِ ابنُ مَنْدَهْ في كتابِهِ‏:‏ ‏(‏المُسْتخرَجُ منْ كُتُبِ الناسِ للفائدةِ‏)‏- أكثرُ منْ سِتِّينَ صَحابِيًّا، ومنهم العَشَرَةُ‏.‏ بلْ عندَ ابنِ أبي شَيْبَةَ وابنِ المُنذِرِ وغيرِهما منْ طَرِيقِ الحسَنِ البَصْرِيِّ أنَّهُ قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَبْعُونَ من الصحابةِ بالمسحِ على الخُفَّيْنِ‏.‏ ولكنْ في هذا مقالٌ‏.‏ نَعَمْ، جَمَعَ بعضُ الحُفَّاظِ رُوَاتَهُ من الصحابةِ فجَاوَزُوا الثمانِينَ‏.‏

وصرَّحَ جمعٌ من الحُفَّاظِ بأنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْنِ متواترٌ‏.‏ وعبارةُ ابنِ عبدِ البرِّ منهم‏:‏ رَوَى المَسْحَ على الخُفَّيْنِ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ نَحْوُ أربعينَ من الصحابةِ، واستفاضَ وتَواتَرَ‏.‏ وسبَقَهُ أحمدُ فقالَ‏:‏ ليسَ في قَلْبي من المسحِ شيءٌ، فيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثاً عنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما رَفَعُوا إلى النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وما وَقَفُوا‏.‏

وقالَ مهنَّا‏:‏ سَأَلْتُ أحمدَ عنْ أجودِ الأحاديثِ في المسحِ، فقالَ‏:‏ حديثُ شُرَيْحِ بنِ هَانِئٍ‏:‏ سَأَلْتُ عَائِشَةَ‏.‏‏.‏‏.‏، وحديثُ خُزَيْمَةَ بنِ ثابتٍ، وحديثُ عوفِ بنِ مالكٍ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وحديثُ صَفْوانَ بنِ عَسَّالٍ‏؟‏ قالَ‏:‏ ليسَ في ذلكَ تَوْقِيتٌ للمُقيمِ‏.‏

وكذا الوضوءُ منْ مَسِّ الذَّكَرِ، قِيلَ‏:‏ إنَّ رُواتَهُ زادَتْ على سِتِّينَ، وكذلكَ الوُضُوءُ مِمَّا مَسَّت النارُ وعَدَمُهُ‏.‏

وأيضاً فَأَبُو القاسِمِ ‏(‏ابْنُ مَنْدَةٍ‏)‏ المَذْكُورُ بالصَّرْفِ، والحاكِمُ أَبُو عبدِ اللَّهِ وغيرُهما من الأئمَّةِ، ‏(‏إلى عَشْرَتِهمْ‏)‏ بإسكانِ المُعْجمةِ؛ أي‏:‏ الصحابةِ، ‏(‏رَفْعَ‏)‏ بالنصْبِ ‏(‏الْيَديْنِ نَسَبَا‏)‏، بلْ خَصَّهُ الحاكمُ بذلكَ فيما سَمِعَهُ صَاحِبُهُ البَيْهَقِيُّ منهُ، فقالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ لا نَعْلَمُ سُنَّةً اتَّفَقَ على روايتِها عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الخُلَفَاءُ الأربعةُ ثمَّ العَشَرَةُ فَمَنْ بعدَهم منْ أَكَابِرِ الأئمَّةِ على تَفَرُّقِهم في البلادِ الشاسعةِ غيرَ هَذِهِ السُّنَّةِ‏.‏

قالَ البَيْهقِيُّ‏:‏ وهوَ كما قالَ أُسْتَاذُنا أَبُو عبدِ اللَّهِ رحِمَهُ اللَّهُ؛ فقدْ رُوِيَتْ هذهِ السُّنَّةُ عن العَشَرةِ وغيرِهم‏.‏

وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ في ‏(‏التمهيدِ‏)‏‏:‏ إنَّهُ رَوَاهُ ثَلاثَةَ عَشَرَ صحابيًّا‏.‏ وأمَّا البخاريُّ فعَزَاهُ لسبعَةَ عشَرَ نَفْساً، وكذا السِّلَفِيُّ‏.‏ وعِدَّتُهم عندَ ابنِ الجوزيِّ في الموضوعاتِ اثنانِ وعشرونُ‏.‏

وتَتبَّعَ المُصنِّفُ مَنْ رَوَاهُ من الصحابةِ،

فبلَغَ بهم نَحْوَ الخمسينَ‏.‏ ووصَفَهُ ابنُ حَزْمٍ بالتواتُرِ‏.‏

وبالجملةِ فالحديثُ الأوَّلُ أَكْثَرُها عن الصحابةِ وُروداً؛ ولِذَا لَمَّا حكَى ابنُ الصلاحِ كونَهُ يُرْوَى عنْ أكثرَ منْ سِتِّينَ قالَ‏:‏ وقدْ بَلَغَ بهم بَعْضُ أهلِ الحديثِ أكْثَرَ منْ هذا العددِ‏.‏ قالَ‏:‏ ثمَّ لم يَزَلْ عَدَدُ رُوَاتِهِ في ازْدِيَادٍ، وهَلُمَّ جَرًّا على التَّوَالِي والاستمرارِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ قد ارْتَقَتْ عِدَّتُهم لأكثرَ منْ ثمانِينَ نَفْساً فيما قالَهُ أبو القاسِمِ ابنُ مَنْدَهْ أيضاً، وخَرَّجَها بعضُ النَّيْسَابُورِيِّينَ بزيادةٍ قليلةٍ على ذلكَ‏.‏ وبلَغَ بهم ابنُ الجوزيِّ كما في النُّسخةِ المُتأخِّرةِ من الموضوعاتِ، وهيَ بخطِّ وَلَدِهِ عَلِيٍّ نَقْلاً عنْ خَطِّ أَبِيهِ، ثَمَانيَةً وتِسْعِينَ‏.‏ وأمَّا أبو موسى الْمَدِينِيُّ فقالَ‏:‏ إنَّهم نَحْوُ المائةِ‏.‏ بَلْ ‏(‏ونَيَّفُوا‏)‏؛ أيْ‏:‏ زَادُوا، ‏(‏عنْ مِائَةٍ‏)‏ مِن الصحابةِ باثنيْنِ ‏(‏مَنْ كَذَبَا‏)‏، وذلكَ بالنَّظَرِ لمجموعِ ما عندَهم، وإنْ كانَ الناظِمُ عَزَى العِدَّةَ المذكورةَ لِمُصَنَّفِ الحافظِ أَبِي الحَجَّاجِ يُوسُفَ بنِ خليلٍ الدِّمَشْقِيِّ، وهوَ في جُزْأَيْنِ؛ فإنَّ ظاهرَ كلامِ شيخِنا خِلافُهُ؛ حيثُ قالَ‏:‏ إنَّ الحَافِظَيْنِ؛ يُوسُفَ بنَ خَليلٍ، وأَبَا عَلِيٍّ البَكْريَّ- وهما مُتَعَاصِرَانِ- وقَعَ لكلٍّ منهما في تصنيفِهِ ما ليسَ عندَ الآخَرِ، بحيثُ تُكُمِّلَت المائةُ منْ مجموعِ ما عندَهم‏.‏

وأعْلَى منْ هذا كُلِّهِ قولُ النَّوويِّ في شرحِ مُقدِّمةِ مُسلمٍ‏:‏ إنَّهُ جاءَ عنْ مِائَتَيْنِ من الصَّحابةِ، ولم يَزَلْ في ازديادٍ‏.‏ واستبعَدَ المُصنِّفُ ذلكَ، ووَجَّهَهُ غيرُهُ بأنَّها في مُطلَقِ الكَذِبِ؛ كحديثِ‏:‏ ‏(‏مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ‏)‏ ونحوِهِ‏.‏ ولكنْ لعَلَّهُ- كما قالَ شيخُنا- سَبْقُ قَلَمٍ منْ مِائَةٍ، وفيها المَقبولُ والمردودُ‏.‏

وبيانُ ذلكَ إجمالاً أنَّهُ اتَّفَقَ الشيخانِ منها على حديثِ عليٍّ وأنسٍ وأبي هُريرةَ والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ‏.‏ وانفرَدَ البخاريُّ منها بحديثِ الزُّبَيرِ وسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ ووَاثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ‏.‏ وانفرَدَ مسلمٌ منها بحديثِ أبي سعيدٍ‏.‏

وصحَّ أيضاً في غيرِهما منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ وأبي قَتادةَ وجابرٍ وزيدِ بنِ أرْقَمَ‏.‏ ووَرَدَ بأسانيدَ حِسانٍ منْ حديثِ طَلْحةَ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ وسعدٍ وسعيدِ بنِ زَيْدٍ وأبي عُبَيدةَ بنِ الجرَّاحِ ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ وعُقْبَةَ بنِ عَامرٍ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ وسَلْمانَ الفَارِسِيِّ ومُعاويَةَ بنِ أبي سُفْيانَ ورَافِعِ بن خَدِيجٍ وطارِقٍ الأشْجَعِيِّ والسائِبِ بنِ يَزِيدَ وخالدِ بنِ عُرْفُطَةَ وأبي أُمامَةَ وأبي قِرْصَافَةَ وأبي مُوسَى الْغَافِقِيِّ وعائشةَ‏.‏

فهؤلاءِ واحدٌ وثلاثونَ نَفْساً من الصحابةِ‏.‏ وورَدَ عنْ نحوِ خَمْسِينَ غَيْرِهم بأسانيدَ ضعيفةٍ مُتماسِكَةٍ؛ منهم عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ‏.‏ وعن نحوِ عشرينَ آخَرِينَ بأسانيدَ سَاقطةٍ‏.‏

على أنَّ شَيْخَنا قدْ نازَعَ ابنَ الصلاحِ فيما أشْعَرَ بهِ كَلامُهُ منْ عِزَّةِ وُجودِ مثالٍ للمُتواتِرِ، فَضْلاً عنْ دَعْوَى غَيْرِهِ العَدَمَ، يعني كَابْنِ حِبَّانَ والحَازِمِيِّ‏.‏ وقرَرَّ أنَّ ذلكَ منْ قائلِهِ نَشَأَ عنْ قِلَّةِ اطِّلاعٍ على كثرةِ الطُّرُقِ وأحوالِ الرِّجَالِ وصفاتِهم المُقتضيَةِ لإبعادِ العادةِ أنْ يَتواطَئُوا على كَذِبٍ أوْ يحصُلَ منهم اتِّفاقاً‏.‏

قالَ‏:‏ ومِنْ أحْسَنِ ما يُقرَّرُ بهِ كَوْنُ المتواترِ موجوداً وجودَ كثرةٍ في الأحاديثِ، أنَّ الكُتُبَ المشهورةَ المتداولَةَ بأَيْدِي أهْلِ العلمِ شرقاً وغرباً، المَقْطُوعَ عندَهم بصِحَّةِ نِسْبَتِها إلى مُصنِّفِيها إذا اجْتَمَعَتْ على إِخْرَاجِ حديثٍ، وتَعدَّدَتْ طُرُقُهُ تَعَدُّداً تُحِيلُ العَادَةُ تَواطُؤَهم معَهُ على الكذبِ إلى آخرِ الشروطِ، أفادَ العِلْمَ اليَقِينيَّ بصِحَّتِهِ إلى قائلِهِ، ومثلُ ذلكَ في الكُتُبِ المَشهورةِ كثيرٌ‏.‏

وقدْ تَوقَّفَ بعضُ الآخذِينَ عنهُ من الحَنفيَّةِ في أوَّلِ مَقَالتِهِ هذهِ، معَ ما سَلَفَ منْ أنَّهُ لا دَخْلَ لصفاتِ المُخبرِينَ في المتواتِرِ‏.‏ وهوَ واضِحُ الالْتِيَامِ، فما هنا بالنظرِ إلى كَوْنِ أهلِ هذهِ الطبقةِ مثلاً تَبْعُدُ العادةُ- لجَلالَتِهم- تَوَاطُأَ ثَلاثَةٍ منهم على كَذَبٍ أوْ غَلَطٍ، وكَوْنِ غيرِها لانْحِطَاطِ أهْلِها عنْ هؤلاءِ لا يَحْصُلُ ذلكَ إلاَّ بعَشَرةٍ مثلاً، وغيرِها لعَدَمِ اتِّصَافِ أهْلِها بالعدالةِ ومَعْرِفَتِهم بالفِسْقِ ونحوِهِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بمزيدِ كثيرٍ من العددِ‏.‏

نعَمْ، يُمْكِنُ بالنَّظَرِ لِمَا أَشَرْتُ إليهِ أنْ يَكُونَ المتواتِرُ منْ مَباحِثِنا، فاللَّهُ أعلَمُ‏.‏

‏[‏الأحاديث المتواترة‏]‏ وذكَرَ شيخُنا من الأحاديثِ التي وُصِفَتْ بالتواترِ حديثَ الشَّفاعةِ والحَوْضِ، وأنَّ عَدَدَ رُوَاتِهما من الصحابةِ زادَ على أربعينَ‏.‏ ومِمَّنْ وصَفَهُما بذلكَ عِياضٌ في ‏(‏الشِّفَا‏)‏‏.‏ وحديثَ‏:‏ ‏(‏مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً‏)‏، وَرُؤْيَةَ اللَّهِ في الآخرةِ، وَ‏:‏ ‏(‏الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ‏)‏‏.‏

وكذا ذكَرَ عياضٌ في ‏(‏الشِّفَا‏)‏ حديثَ حَنِينِ الجِذْعِ‏.‏ وابنُ حَزْمٍ حديثَ النهْيِ عن الصلاةِ في مَعاطِنِ الإبلِ، وعن اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ، والقولِ عندَ الرفْعِ من الركوعِ‏.‏ والآبُرِيُّ في مَناقِبِ الشافعيِّ حديثَ المَهْدِيِّ‏.‏ وابنُ عبدِ البرِّ حديثَ‏:‏ ‏(‏اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ‏)‏‏.‏ والحاكِمُ حديثَ خُطْبةِ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، والإِسْرَاءِ، وأنَّ إدْرِيسَ في الرابعةِ‏.‏ وغيرُهُ حديثَ انشقاقِ القَمَرِ، والنُّزُولِ‏.‏ وابنُ بَطَّالٍ حديثَ النهْيِ عن الصلاةِ بعدَ الصُّبحِ وبعدَ العصرِ‏.‏ والشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرَازِيُّ قالَ بعدَ ذِكْرِ الأحاديثِ المرويَّةِ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ‏:‏ لا يُقالُ‏:‏ إِنَّها أَخْبارُ آحادٍ؛ لأنَّ مجموعَها تَواتَرَ معناهُ‏.‏ وكذا ذَكَرَ غَيْرَهُ في التواتُرِ المعنويِّ؛ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَجُودِ حَاتِمٍ، وأَخْبَارِ الدَّجَّالِ‏.‏ وشَيْخُنا حديثَ‏:‏ ‏(‏خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي‏)‏‏.‏ وقدْ أُفْرِدَ ما وُصِفَ بذلكَ في تأليفٍ؛ إمَّا للزَّرْكَشِيِّ أوْ غيرِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ‏.‏

‏(‏غَرِيبُ أَلْفَاظِ الحديثِ‏)‏

759- والنَّضْرُ أوْ مَعْمَرُ خُلْفٌ أَوَّلُ *** مَنْ صَنَّفَ الغريبَ فيما نَقَلُوا

760- ثمَّ تَلَى أَبُو عُبيدٍ وَاقْتَفَى *** القُتَبِيُّ ثمَّ حَمْدٌ صَنَّفَا

761- فَاعْنَ بهِ ولا تَخُضْ بالظَّنِّ *** ولا تُقَلِّدْ غَيْرَ أَهْلِ الفَنِّ

762- وخَيْرُ ما فَسَّرْتَهُ بالوارِدِ *** كالدُّخِّ بالدُّخَانِ لابْنِ صَائِدِ

763- كذاكَ عندَ التِّرمذِي والحَاكِمُ *** فسَّرَهُ الْجِمَاعَ وَهْوَ وَاهِمُ

‏[‏تعريف غريب الحديث وأمثلته‏]‏

‏(‏غَرِيبُ ألفاظِ الحديثِ‏)‏ النَّبَوِيِّ، وهوَ خلافُ الغريبِ الماضي قريباً، فذاكَ يَرْجِعُ إلى الانفرادِ منْ جهةِ الروايَةِ، وأمَّا هنا فهوَ ما يَخْفَى معناهُ من المُتونِ؛ لقِلَّةِ استعمالِهِ ودَوَرَانِهِ، بحيثُ يَبْعُدُ فَهْمُهُ ولا يَظْهَرُ إلاَّ بالتَّنْقِيرِ عنهُ منْ كُتُبِ اللغةِ، وهوَ منْ مُهمَّاتِ الفنِّ؛ لِتَوَقُّفِ التلفُّظِ ببعضِ الألفاظِ، فَضْلاً عنْ فَهمِها، عليهِ‏.‏ وتتأكَّدُ العنايَةُ بهِ لِمَنْ يَروِي بالمعنَى‏.‏ والقَصْدُ منْ هذا النوعِ بيانُ التصانيفِ فيهِ، ولوْ أُضِيفَ لذلكَ أَمْثِلَةٌ كغيرِهِ من الأنواعِ، بلْ كما فعَلَهُ البرشنسيُّ في ألفِيَّتِهِ الاصطلاحيَّةِ في هذا نفسِهِ؛ حيثُ ذَكَرَ جانباً منهُ‏.‏ بَلْ وابنُ الْجَزَرِيِّ في هِدَايتِهِ التي شَرَحْتُها، وأشارَ إلى أنَّهُ كالأَسْمَاءِ، منهُ ما هوَ فَرْدٌ كالْجَعْظَرِيِّ‏:‏ الفَظُّ الغليظُ، ومنهُ ما هوَ كالمُؤتَلِفِ والمُختلِفِ، كأنْ تَأْتِيَ كلمةٌ لمعنًى ويُصَحِّفَها لمعنًى آخرَ، فَيَأْتَلِفَا في الخطِّ ويَخْتَلِفا في النُّطْقِ؛ كَقَدَحِ الرَّاكِبِ بِفَتْحَتَيْنِ‏:‏ الآنيَةُ المعروفةُ معَ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ، كَالقِدْحِ بالكسرِ ثمَّ سُكونٍ‏:‏ السَّهْمُ‏.‏ وكالمَِنْصَفِ، فهوَ بفتحِ الميمِ‏:‏ الْمَوْضِعُ الوَسَطُ بينَ المَوْضُوعَيْنِ، وبكسرِها‏:‏ الخَادِمُ‏.‏ وكَحَذَفٍ بتَحْرِيكِ الذالِ المُعْجمَةِ في قولِهِ‏:‏ كَبَناتِ حَذَفٍ، وهيَ الغَنَمُ الصِّغارُ الحِجازِيَّةُ، وبإِسْكَانِها في قولِهِ‏:‏ ‏(‏حَذْفُ السَّلامِ سُنَّةٌ‏)‏، وهوَ تَخْفِيفُهُ وعَدَمُ إِطَالَتِهِ‏.‏ وكَالشَّعَفَةِ وهيَ بالشينِ المُعجمَةِ والعينِ المُهْملَةِ المَفْتُوحَتَيْنِ في قولِهِ‏:‏ ‏(‏وَرَجُلٌ فِي شَعَفَةٍ مِنَ الشِّعَافِ‏)‏، يُرِيدُ بهِ رَأْسَ جبلٍ من الجبالِ، معَ السَّعْفَةِ وهيَ بالسِّينِ المُهملةِ المفتوحةِ والعينِ المُهملةِ الساكنةِ في قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ رَأَى جَارِيَةً بِهَا سَعْفَةٌ‏)‏؛ أيْ‏:‏ قُروحٌ تَخرُجُ على رَأْسِ الصَّبِيِّ‏.‏ والسَّعَفَةُ مثلُهُ، لكنْ بتحريكِ العينِ‏:‏ أغصانُ النخيلِ‏.‏ ومنهُ ما هوَ كَالمُتَّفِقِ والمُفْترِقِ، بأنْ تَأْتِيَ كلمةٌ في مَوْضِعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ، كالطَّبَقِ في قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَجَاءَ طَبَقٌ مِنْ جَرَادٍ‏)‏‏:‏ الْقَطِيعُ، وفي قولِهِ‏:‏ ‏(‏بَدَأَ طَبَقُ الْقَرْنِ‏)‏‏.‏ ومنهُ ما فيهِ الإِعْجَامُ والإهمالُ؛ كالتَّشْمِيتِ، وَ‏:‏ ‏(‏مَضْمِضُوا من اللَّبَنِ‏)‏- لَكانَ أفْيَدَ‏.‏ ونحوُهُ تقديمُ بعضِ حروفِ الكلمةِ وتأخيرُها؛ كَالطَّبِيخِ والبِطِّيخِ، وجَذَبَ في جَبَذَ، وأَنْعَمَ في أَمْعَنَ‏.‏

ومِمَّا رَأَيْتُهُ مُفَرَّقاً وَهُوَ نَافِعٌ معَ مُشَاحَحَةٍ في بعضِهِ‏:‏ لا تُحَرِّك الإِبْطَ فَيَفُوحَ، ولا تَفْتَحِ الجِرَابَ، ولا تَكْسِرِ القَصْعَةَ، ولا تَمُدَّ الْقَفَا، وإذا دَخَلْتَ كَوًى فَافْتَحْ، وإذا خَرَجْتَ فَضُمَّ، والجَِنازَةُ بالفتحِ والكسرِ، فالأعلَى للأَعْلَى والأسفلُ للأسفلِ‏.‏ ومَلِكٌ بكسرِ اللاَّمِ في الأرضِ، وبفتحِها في السماءِ‏.‏

‏[‏أول من صنف في غريب الحديث‏]‏ ‏(‏والنَّضْرُ‏)‏ بنُ شُمَيْلٍ أبو الحسنِ المازنيُّ، ‏(‏أَوْ‏)‏ أبو عُبَيْدَةَ ‏(‏مَعْمَرُ‏)‏ بنُ المُثنَّى، ‏(‏خُلْفٌ أَوَّلُ‏)‏؛ أي‏:‏ اخْتُلِفَ في أَوَّلِ ‏(‏مَنْ صَنَّفَ‏)‏

منهما في الإسلامِ ‏(‏الْغَرِيبَ‏)‏ المُشَارَ إليهِ، ‏(‏فِيمَا نَقَلُوا‏)‏‏.‏ فجزَمَ الحاكمُ في عُلُومِهِ بأَوَّلِهما‏.‏ وهوَ الظاهرُ؛ فإنَّهُ ماتَ في سنةِ ثلاثٍ وثمانينَ ومائةٍ‏.‏ ومَشَى ابنُ الأثيرِ في خُطْبةِ النِّهَايَةِ ثمَّ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ في ‏(‏تَقْريبِ المَرامِ‏)‏ لهُ على الثاني، لكنْ بصيغةِ التمريضِ منهما، معَ أنَّ وَفاتَهُ كانَتْ في سنةِ عَشْرٍ ومِائتَيْنِ بعدَ الأوَّلِ بسبعٍ وعشرينَ عَاماً، وكِتابَاهما معَ جلالَتِهما صَغِيرَانِ؛ لِجَرَيَانِ العادةِ بذلكَ في المُبْتدِئِ بما لم يُسْبَقْ إليهِ، لا سِيَّما والعلمُ إذْ ذَاكَ أكثرُ فُشُوًّا منْ نقيضِهِ، وأَكْبَرُهما كِتابُ أَوَّلِهما‏.‏ ولقدْ بالغَ إبراهيمُ الحَرْبيِّ حيثُ قالَ‏:‏ إنَّهُ لا يَصِحُّ مِمَّا أَوْرَدَهُ ثَانِيهِمَا في غَرِيبِهِ سِوَى أَرْبَعِينَ حديثاً‏.‏

‏[‏ذكر أمهات الكتب في هذا الفن‏]‏ ومِمَّنْ جمَعَ في ذلكَ اليسيرَ أيضاً الحسينُ بنُ عَيَّاشٍ أبو بَكْرٍ السُّلَمِيُّ ومُحمَّدُ بنُ المُستنِيرِ أبو عَلِيٍّ المعروفُ بقُطْرُبٍ‏.‏ وكانَتْ وَفاتُهما قبلَ مَعْمرٍ، الأوَّلُ بسِتِّ سِنِينَ، والثاني بأربعٍ‏.‏ ثمَّ جمَعَ عبدُ المَلِكِ بنُ قُرَيْبٍ الأصْمَعِيُّ عَصْرِيُّ مَعْمَرٍ، بَل المُتوَفَّى بعدَهُ في سنةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ ومائتيْنِ، كتاباً، فزادَ وأحْسَنَ‏.‏ في آخَرِينَ منْ أئِمَّةِ الفِقْهِ واللغةِ جَمَعُوا أحاديثَ تَكَلَّمُوا على لُغتِها ومَعْنَاهَا في أَوْرَاقٍ ذَوَاتِ عَدَدٍ‏.‏ ولَمْ يَكَدْ أحدٌ منهم يَنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ بكبيرِ أَمْرٍ لم يَذْكُرْهُ الآخَرُ، وكَذَا صَنَّفَ أبو عبدِ الرحمنِ الْيَزِيدِيُّ في ذلكَ‏.‏

‏(‏ثُمَّ تَلَى‏)‏ الجميعَ قريباً منْ هذا الآنَ ‏(‏أَبُو عُبَيْدٍ‏)‏ القاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ، المُتوَفَّى في سنةِ أربعٍ وعِشرِينَ ومائتيْنِ ‏(‏224هـ‏)‏، فجمَعَ كتابَهُ المشهورَ في غَرِيبِ الحديثِ والآثارِ، تَعِبَ فيهِ جِدًّا؛ فإنَّهُ أقامَ فيهِ أربعينَ سَنَةً بحيثُ اسْتَقْصَى وأجادَ بالنِّسْبَةِ لمَنْ قبلَهُ، ووقَعَ منْ أهْلِ العلمِ بمَوْقِعٍ جليلٍ، وصارَ قُدْوةً في هذا الشأنِ كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ وغيرُهُ، حَتَّى إنَّ ابنَ كثيرٍ قالَ‏:‏ إِنَّهُ أحْسَنُ شيءٍ وُضِعَ فيهِ، يعني قَبْلَهُ‏.‏ ولكنَّهُ غَيْرُ مُرتَّبٍ، فَرَتَّبَهُ الشيخُ مُوفَّقُ الدِّينِ بنُ قُدَامَةَ على الحروفِ، ولم يَزَل الناسُ يَنتفِعونَ بكتابِ أبي عُبَيدٍ‏.‏

وعَمِلَ أبو سعيدٍ الضَّرِيرُ كتاباً في التَّعَقُّبِ عليهِ‏.‏

وكذا مِمَّنْ جمَعَ الغريبَ في هذا الوقتِ الإمامُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ المَدينِيِّ، وأحمدُ بنُ الحسنِ الكِنْديُّ البغداديُّ تلميذُ مَعْمَرٍ، وأبو عَمْرٍو شَمِرُ بنُ حَمْدَوَيْهِ المُتوفَّى في سنةِ سِتٍّ وخمسينَ ومائتيْنِ ‏(‏256هـ‏)‏‏.‏ وكِتَابُهُ يُقَالُ‏:‏ إنَّهُ قَدْرُ كتابِ أبي عُبَيْدٍ مِراراً‏.‏

‏(‏وَاقْتَفَى‏)‏ أثَرَ أبي عُبَيْدٍ وحَذَا حَذْوَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عبدُ اللَّهِ بنُ مُسلمِ بنِ قُتَيبةَ الدَّيْنَوَرِيُّ ‏(‏القُتَبِيُّ‏)‏ بضَمِّ القافِ وفتحِ المُثنَّاةِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ، وكانَتْ وفاتُهُ في سنةِ سِتٍّ وسبعِينَ ومائتيْنِ، فصَنَّفَ كتابَهُ المشهورَ وجعلَهُ ذَيْلاً على كتابِ أبي عُبَيْدٍ، فكانَ أكبرَ حَجْماً منْ أصْلِهِ، معَ أنَّهُ أَضَافَ إليهِ التنبيهَ على كثيرٍ منْ أَوْهَامِهِ، بلْ وأفْرَدَ للاعتراضِ عليهِ كِتاباً سَمَّاهُ إصلاحَ الغَلَطِ‏.‏

وقد انتَصَرَ لأبي عُبَيْدٍ أَبُو عبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ في جُزءٍ لطيفٍ رَدَّ فيهِ على ابنِ قُتيبَةَ، لَكِنْ قالَ لنا شَيْخُنا عنْ شيخِهِ المُصَنِّفِ‏:‏ إنَّ ابنَ قُتيبةَ كانَ كثيرَ الغَلَطِ‏.‏

وكذا صَنَّفَ فيهِ أبو إِسْحَاقَ الحَرْبِيُّ أحدُ مُعاصرِي ابنِ قُتَيبةَ، والمُتوَفَّى بعدَهُ في سنةِ خَمْسٍ وثمانِينَ، كتاباً حافلاً، أطَالَهُ بالأسانيدِ وسِيَاقِ المُتُونِ بتَمَامِها، ولوْ لم يَكُنْ في المتنِ من الغريبِ إلاَّ كلمةٌ، فَهُجِرَ لذلكَ كِتَابُهُ معَ جلالةِ مُصَنِّفِهِ وكثرةِ فوائدِ كِتَابِهِ‏.‏ ثمَّ صَنَّفَ فيهِ غيرُ واحدٍ من المائةِ الثالثةِ أيضاً؛ كَأَبِي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ المُتوفَّى سنةَ خَمْسٍ وثمانِينَ، وثَعْلَبٍ المُتوَفَّى سنةَ إحْدَى وتسعينَ، وأبي الحسنِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ السلامِ الخُشِّيِّ المُتوفَّى سنةَ سِتٍّ وثمانِينَ‏.‏

ومن المِائَةِ الرابعةِ؛ كَأَبِي مُحَمَّدٍ قاسِمِ بنِ ثَابِتِ بنِ حَزْمٍ السَّرَقُسْطِيِّ، المُتوَفَّى سنةَ اثنتيْنِ‏.‏ وكِتَابُهُ، واسمُهُ ‏(‏الدَّلائِلُ‏)‏، ذَيْلٌ على كِتَابِ الْقُتَيْبِيِّ، وكانَ قَاسِمٌ قد ابتَدَأَهُ، ثمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ يُكْمِلَهُ، فَأَكْمَلَهُ أَبُوهُ؛ لِتَأَخُّرِ وفاتِهِ عنهُ مُدَّةً؛ فإنَّهُ ماتَ سنةَ ثلاثَ عَشْرَةَ‏.‏ وكَأَبِي بَكْرِ بنِ الأَنْبَارِيِّ المُتوفَّى سنةَ ثَمانٍ وعشرينَ، وأَبِي عُمَرَ الزاهدِ غُلامِ ثَعْلَبٍ، المُتوَفَّى سنةَ خَمْسٍ وأربعينَ‏.‏ وغَرِيبُهُ صَنَّفَهُ على مُسْنَدِ أحمدَ خَاصَّةً، وهوَ حَسَنٌ جِدًّا فيما قِيلَ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَهم أبو سُلْيمانَ ‏(‏حَمْدٌ‏)‏ هوَ ابنُ مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ الخَطَّابِيُّ البُسْتِيُّ

المُتوَفَّى سنةَ ثمانٍ وثمانِينَ وثلاثمائةٍ ‏(‏388هـ‏)‏، ‏(‏صَنَّفَا‏)‏ كِتَابَهُ المعروفَ، وهوَ أَيْضاً ذَيْلٌ على القُتَيْبِيِّ معَ التنبيهِ على أَغَالِيطِهِ‏.‏

فهذهِ الثلاثةُ- أَعْنِي كُتُبَ الخطَّابِيِّ والقُتَيْبِيِّ وأَبِي عُبَيْدٍ- أُمَّهاتُ الكُتُبِ المُؤلَّفَةِ في ذلكَ، وإليها المرجِعُ في تلكَ الأعصارِ‏.‏ وورَاءَها- كما قالَ ابنُ الصلاحِ- مَجامِيعُ تَشتمِلُ منْ ذلكَ على زَوَائِدَ وفوائدَ كثيرةٍ، بحيثُ كما قالَ ابنُ الأثيرِ‏:‏ لم يَخْلُ زَمَنٌ مِنْ مُصَنِّفٍ فيهِ‏.‏

ومنها في المائةِ الخامسةِ كتابُ أبي عُبَيْدٍ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الهَرَويِّ صاحبِ أبي مَنْصورٍ الأزْهَرِيِّ اللُّغويِّ وعَصْرِيِّ الخَطَّابِيِّ، بلْ والمُتَأَخِّرِ بعدَهُ؛ فإنَّهُ ماتَ سنةَ إحدَى وأربعمِائةٍ ‏(‏401هـ‏)‏، جمَعَ فيهِ بينَ كِتَابَيْ أبي عُبيدٍ وابنِ قُتَيبةَ وغيرِهما مِمَّن تَقَدَّمَ، معَ زِيَادَاتٍ جَمَّةٍ، وإضافتِهِ لذلكَ غريبَ القرآنِ، مُرَتِّباً لذلكَ كُلِّهِ على حُرُوفِ المُعْجَمِ، فكانَ أجْمَعَ مُصَنَّفٍ في ذلكَ قبلَهُ‏.‏ واخْتَصَرَهُ الفقيهُ أبو الفتحِ سُلَيْمُ بنُ أَيُّوبَ الرازيُّ المُتوَفَّى سنةَ سبعٍ وأربعينَ ‏(‏47هـ‏)‏، وسَمَّاهُ ‏(‏تَقْرِيبَ الْغَرِيبَيْنِ‏)‏‏.‏ وكذا اخْتَصَرَهُ معَ زياداتٍ يسيرةٍ الحافظُ أبو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ المُتوَفَّى في أواخرِ المائةِ السادسةِ سنةَ سبعٍ وتسعينَ‏.‏ بلْ وجمَعَ الحافظُ أبو الفَضْلِ مُحَمَّدُ بنُ ناصرٍ البغداديُّ- وكانَتْ وفَاتُهُ سنةَ خَمْسينَ وخمسِمائةٍ ‏(‏550هـ‏)‏- أَوْهَامَهُ في تصنيفٍ مُستقِلٍّ‏.‏ وذَيَّلَ عليهِ على طريقتِهِ في الغَرِيبَيْنِ والترتيبِ

الحافظُ أبو مُوسَى المَدينِيُّ ذَيْلاً حَسَناً، ثمَّ جمَعَ بَيْنَهما- أَعْنِي كتابَ الهَرَوِيِّ والذَّيْلَ عليهِ لأَبِي مُوسَى مُقْتصِراً على الحديثِ خاصَّةً- المَجْدُ أَبُو السَّعاداتِ المُبارَكُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الأثيرِ الجَزريُّ معَ زياداتٍ جَمَّةٍ، فكانَ كتابُهُ النهايَةَ كَاسْمِهِ، وعَوَّلَ عليهِ كُلُّ مَنْ بعدَهُ؛ لِجَمْعِهِ وسهولةِ التَّنَاوُلِ منهُ، معَ إِعْوَازٍ قَلِيلٍ فيهِ‏.‏ ويقالُ‏:‏ إنَّ الصَّفِيَّ محمودَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ حامدٍ الأُرْمَوِيَّ ذَيَّلَ عليهِ أوْ كَتَبَ على نُسختِهِ منهُ حَوَاشِيَ، فَأَفْرَدَها غيرُهُ، كما أَنَّ للمُصنِّفِ على نُسختِهِ منهُ أيضاً حَواشِيَ كثيرةً، كانَ عَزْمُهُ تَجْرِيدَها في ذَيْلٍ كبيرٍ، وما أَظُنُّهُ تَيَسَّرَ، وقد اختَصَرَها غيرُ واحدٍ‏.‏

وكذا لابنِ الأثيرِ كتابٌ آخرُ سَمَّاهُ ‏(‏مَنَالَ الطَّالِبِ في شَرْحِ طِوَالِ الغَرائبِ‏)‏ في مُجلَّدٍ‏.‏ بلْ ولهُ شَرْحُ غَرِيبِ كتابِهِ ‏(‏جَامِعِ الأُصولِ‏)‏ في مُجلَّدٍ‏.‏ وكانَتْ وفاتُهُ آخرَ يومٍ منْ سَنَةِ سِتٍّ وسِتِّمائةٍ ‏(‏606هـ‏)‏‏.‏ ومنها كِتابُ ‏(‏الفَائِقِ‏)‏ لأبي القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ منْ أَنْفَسِ الكُتُبِ؛ لِجَمْعِهِ المُتفَرِّقَ في مكانٍ واحدٍ معَ حُسْنِ الاختصارِ وصِحَّةِ النَّقْلِ‏.‏ وهوَ وَإنْ كانَ على حُرُوفِ المُعجَمِ فهوَ مُلْتزِمٌ استيفاءَ ما في كلِّ حديثٍ منْ غريبٍ في حرفٍ منْ حُرُوفِ بعضِ كلماتِهِ، فَعَسُرَ لذلكَ الكشْفُ منهُ بالنِّسْبَةِ لكتابِ الهَرَوِيِّ، ولكنَّهُ أسْهَلُ تَناوُلاً منْ كثيرٍ مِمَّنْ قبلَهُ‏.‏ وكانَتْ وفاةُ مُؤَلِّفِهِ سَنَةَ ثمانٍ وثلاثينَ وخمسِمائةٍ ‏(‏538هـ‏)‏‏.‏

ومنها ‏(‏مَجْمَعُ الغرائبِ‏)‏ للحافظِ أبي الحُسَيْنِ عبدِ الغافرِ بنِ إسماعيلَ بنِ أبي الحُسَيْنِ عبدِ الغافرِ بنِ مُحَمَّدٍ الفارسيِّ ثمَّ النَّيْسَابُورِيِّ، المُتوَفَّى سنةَ تِسْعٍ وعشرينَ وخمسِمائةٍ ‏(‏529هـ‏)‏‏.‏ ورَأَيْتُ في كلامِ الزَّرْكَشِيِّ بعدَ أنْ ذكَرَ النهايَةَ ما نَصُّهُ‏:‏ وزَادَ

عليهِ الْكَاشْغَرِيُّ في مَجْمَعِ الغرائبِ، فَيُنْظَرُ‏.‏

ومنها كتابُ ‏(‏المَشارقِ‏)‏ للقاضِي عِيَاضٍ المُتوَفَّى سنةَ أربعٍ وأربعِينَ وخَمْسمائةٍ ‏(‏544هـ‏)‏‏.‏ وهوَ أجَلُّ كتابٍ، جَمَعَ فيهِ بينَ ضَبْطِ الألفاظِ واختلافِ الرواياتِ وبيانِ المعنَى، لكنَّهُ خَصَّهُ بالمُوَطَّأِ والصحيحيْنِ معَ ما أَضَافَ إليهِ منْ مُشْتَبِهِ الأسماءِ والأنسابِ‏.‏ ويُنْسَبُ لأبي إسحاقَ بنِ قُرْقُولٍ تلميذِ القاضي عِياضٍ المُتوَفَّى بعدَهُ في سَنَةِ تسعٍ وسِتِّينَ كتابُ ‏(‏الْمَطَالِعِ‏)‏‏.‏

والظاهِرُ أنَّهُ مُنْتَزَعٌ منْ ‏(‏المَشارِقِ‏)‏ لشيخِهِ، معَ التوَقُّفِ في كونِهِ نَسَبَهُ لنفسِهِ، وقدْ نَظَمَهُ الإمامُ شَمسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الكريمِ بنِ الْمَوْصِليِّ فأحْسَنَ ما شاءَ‏.‏ وكذا في الغريبِ ‏(‏الْمُجَرَّدُ‏)‏ لعبدِ اللَّهِ بنِ يُوسُفَ البغداديِّ، و‏(‏قَنْعَةُ الأَرِيبِ في تفسيرِ الغريبِ‏)‏ لبعضِهم، وغيرُهُ لمُحَمَّدِ بنِ جعفرٍ النَّحْوِيِّ، وما لا يُحْصَى كثرةً، وغَرِيبُ البُخَارِيِّ خَاصَّةً لأبي الوَليدِ بنِ الصَّابُونِيِّ، وغريبُ المُوطَّأِ لبعضِهم‏.‏ وكذا جَرَّدَ بعضُهم منْ بعضِ شُرُوحِ

مُسلمٍ غَرِيبَهُ، فَهَذَا ما عَلِمْتُهُ الآنَ منْ كُتُبِ غَرِيبِ الحديثِ‏.‏

قالَ ابنُ كثيرٍ‏:‏ وأجَلُّ كتابٍ يُوجَدُ فيهِ مَجامِعُ ذلكَ كتابُ ‏(‏الصِّحاحِ‏)‏ للجَوْهَرِيِّ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ و‏(‏القاموسُ‏)‏ للمَجْدِ الشِّيرازيِّ شيخِ شُيوخِنا‏.‏ وهوَ- كما قالَ ابنُ الصلاحِ- يَقْبُحُ جَهْلُهُ بأهلِ الحديثِ خَاصَّةً، ثمَّ بِأَهْلِ العلمِ عامَّةً‏.‏

‏[‏الاعتناء بهذا الفن وأهله‏]‏ ‏(‏فاعْنَ‏)‏ أيُّها المُقْبِلُ على هذا الشأنِ، ‏(‏بِهِ‏)‏؛ أيْ‏:‏ بعِلْمِ الغريبِ تَحَفُّظاً وتَدبُّراً، والْزَم النهايَةَ منْ كُتُبِهِ، ‏(‏وَلا تَخُضْ‏)‏ فيهِ رَجْماً ‏(‏بالظَّنِّ‏)‏؛ فإنَّهُ ليسَ بالهَيِّنِ، والخائضُ فيهِ حَقِيقٌ بالتحَرِّي، جَرِيرٌ بالتَّوَقِّي‏.‏

وقدْ قالَ أحمدُ، ونَاهِيكَ بهِ حيثُ سُئِلَ عنْ حَرْفٍ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏سَلُوا أصحابَ الغريبِ؛ فَإِنِّي أَكْرَهُ أنْ أتَكلَّمَ في قولِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بالظَّنِّ، فأُخْطِئَ‏)‏‏.‏ وقالَ شُعْبَةُ في لفظِهِ‏:‏ ‏(‏خُذُوها عن الأصْمَعِيِّ؛ فإِنَّهُ أعْلَمُ بهذا مِنَّا‏)‏‏.‏ كما قَدَّمْتُهُ معَ غيرِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ في الفصلِ السادسِ منْ صِفةِ روايَةِ الحديثِ‏.‏

‏(‏ولا تُقَلِّدْ غَيْرَ أهلِ الفنِّ‏)‏ وأَجِلاَّئِهِ إنْ كَانُوا، وإلاَّ فَكُتُبُهم؛ لأنَّ مَنْ لم يَكُنْ منْ أهلِهِ أخْطَأَ في تَصَرُّفِهِ‏.‏ وإذا كانَ مثلُ الأصمعيِّ، وهوَ مِمَّنْ عَلِمْتَ جَلالَتَهُ يَقولُ‏:‏ أَنَا لا أُفَسِّرُ حديثَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ولكنَّ العربَ تَزْعُمُ أنَّ السَّقْبَ اللَّزِيقُ‏.‏ فكيفَ بغيرِهِ مِمَّنْ لا يُعْرَفُ بالفنِّ‏؟‏‏!‏ أمْ كَيْفَ بما يُرَى منْ ذلكَ بهوامشِ الكُتُبِ مِمَّا يُجْهَلُ كاتِبُهُ‏؟‏‏!‏ بلْ شَرَطَ بعضُهم فِيمَنْ يُقَلِّدُ اطِّلاعَهُ على أكثرِ استعمالاتِ ألفاظِ الشارعِ حِقيقةً ومَجازاً‏.‏

فقالَ‏:‏ ولا يَجُوزُ حملُ الألفاظِ الغريبةِ من الشارعِ على ما وُجِدَ في أصلِ كلامِ العربِ، بلْ لا بُدَّ منْ تَتَبُّعِ كلامِ الشارعِ، والمعرفةِ بأنَّهُ ليسَ مُرَادُ الشارعِ منْ هذهِ الألفاظِ إِلاَّ ما في لُغةِ العَرَبِ‏.‏ وأمَّا إذا وُجِدَ في كلامِ الشارعِ قَرَائِنُ بأنَّ مُرادَهُ منْ هذهِ الألفاظِ مَعَانٍ اخْتَرَعَها هوَ، فيُحْمَلُ عليها ولا يُحْمَلُ على الموضوعاتِ اللُّغويَةِ، كما هوَ في أكثرِ الألفاظِ الواردةِ في كلامِ الشارعِ‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا هوَ المُسَمَّى عندَ الأُصولِيِّينَ بالحقيقةِ الشرعيَّةِ‏.‏

ثمَّ إنَّ المذكورَ هنا لا يُنافي ما سَلَفَ في إصلاحِ اللَّحْنِ والخَطَأِ منْ أنَّهُ إذا وَجَدَ كلمةً منْ غريبِ العربيَةِ أوْ غيرِها غيرَ مُقيَّدَةٍ وأُشْكِلَتْ عليهِ حيثُ جازَ لهُ أنْ يَسْأَلَ عنها أهْلَ العلمِ بهَا- أيْ‏:‏ بالعرَبِيَّةِ- ويَرْوِيَها على ما يُخْبِرونَهُ بهِ، كما رُوِيَ مثلُهُ عنْ أحمدَ وإسحاقَ وغيرِهما‏.‏

‏[‏تفسير الغريب بما ورد في بعض طرقه‏]‏ ‏(‏وخيرُ مَا فَسَّرْتَهُ‏)‏؛ أي‏:‏ الغريبَ، ‏(‏بـ‏)‏ المعنَى ‏(‏الوَارِدِ‏)‏ في بعضِ الرواياتِ مُفَسِّراً لذلكَ اللفظِ؛ ‏(‏كالدُّخِّ‏)‏ بضمِّ الدالِ المُهمَلةِ عندَ الأكثرِ، وحَكَى ابنُ السَّيِّدِ فيها الفتحَ أيضاً، بعدَها مُعْجَمَةٌ؛ فإِنَّهُ جاءَ في روايَةٍ أُخْرَى ما يَقْتَضِي تَفْسِيرَهُ ‏(‏بالدُّخَانِ‏)‏ معَ كونِهِ لُغَةً حَكَاها ابنُ الدُّرَيْدِ وابنُ السَّيِّدِ والجَوْهَرِيُّ وآخَرُونَ، قالَ الشاعرُ‏:‏

عندَ رِوَاقِ البيتِ يَغْشَى الدُّخَّا

في القِصَّةِ المُتَّفَقِ عليها، ‏(‏لابْنِ صَايِدِ‏)‏ بمُهْمَلتيْنِ بينَهما ألِفٌ ثمَّ مُثنَّاةٌ‏:‏ أبي عُمارَةَ عبدِ اللَّهِ، الذي يُقَالُ لهُ‏:‏ ابنُ صَيَّادٍ أيضاً، وكانَ يُقالُ‏:‏ إنَّهُ الدَّجَّالُ‏.‏ فالبُخارِيُّ أخْرَجَها منْ حديثِ هِشَامِ بنِ يُوسُفَ، ومُسلمٌ منْ حديثِ عبدِ الرزَّاقِ، كِلاهُما عنْ مَعْمَرٍ، عن

الزُّهْريِّ، عنْ سَالِمٍ، عن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لَمَّا قالَ لهُ‏:‏ ‏(‏خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئاً‏)‏‏.‏ قالَ ابنُ صَائِدٍ‏:‏ هوَ الدُّخُّ‏.‏ ‏(‏كَذاكَ‏)‏؛ أيْ‏:‏ كَوْنُهُ الدُّخَانَ، ثَبَتَ ‏(‏عندَ التِّرْمِذِي‏)‏ في جامعِهِ وقالَ‏:‏ إنَّهُ صحيحٌ‏.‏ وكذا عندَ أبي دَاوُدَ، كِلاهُما منْ حديثِ عبدِ الرزَّاقِ، وأخْرَجَهُ أحمدُ عنهُ أيضاً‏.‏ واتَّفَقَ الثلاثةُ على قَوْلِهم‏:‏ وخَبَّأَ لَهُ، يعني النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ‏:‏ ‏(‏يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ‏)‏‏.‏

بلْ فِي روايَةٍ أُخْرَى عندَ أحمدَ والبَزَّارِ منْ حديثِ أبي ذَرٍّ‏:‏ فَأَرَادَ ابنُ صَيَّادٍ أَنْ يقولَ‏:‏ الدُّخَانُ‏.‏ فلم يَسْتَطِعْ، فقالَ‏:‏ الدُّخُّ الدُّخُّ‏.‏ وذلكَ كما قالَ ابنُ الصلاحِ على عادةِ الكُهَّانِ في اختطافِ بعضِ الشيءِ من الشياطِينِ منْ غيرِ وُقوفٍ على تَمَامِ البيانِ؛ ولهذا قالَ لهُ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ‏:‏ ‏(‏اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ‏)‏؛ أيْ‏:‏ فلا مَزِيدَ لكَ على قَدْرِ إِدْرَاكِ الكُهَّانِ‏.‏

ووقَعَ في روايَةٍ أخْرَى عندَ البَزَّارِ أيضاً، والطَّبرانِيِّ في الأوسطِ منْ حديثِ أبي الطُّفَيْلِ، عنْ زيدِ بنِ حَارِثَةَ قالَ‏:‏ ‏(‏كانَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَبَّأَ لهُ سُورَةَ الدُّخَانِ‏)‏‏:‏ إ‏.‏ وكأنَّهُ أطلَقَ السورةَ وأرادَ بَعْضَها‏.‏

وحكَى أَبُو مُوسَى المَدِينِيُّ أنَّ السِّرَّ في امتحانِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بهذهِ الآيَةِ الإشارةُ إلى أنَّ عيسى ابنَ مَرْيَمَ عليهِ السلامُ يَقْتُلُ الدجَّالَ بِحَبْلِ الدُّخَانِ، كما في روايَةِ أحمدَ منْ حديثِ أبي الزُّبَيْرِ عنْ جابرٍ، فأرادَ التعريضَ لابنِ صائدٍ بذلكَ؛ لأنَّهُ كانَ يَظُنُّ أنَّهُ الدَّجَّالُ‏.‏ على أنَّ الخَطَّابِيَّ اسْتَبْعَدَ تفسيرَ الدُّخِّ بالدُّخَانِ، وصوَّبَ أنَّهُ خَبَّأَ لهُ الدُّخَّ، وهوَ نبتٌ يكونُ من البَسَاتِينِ‏.‏ وسببُ استبعادِهِ أنَّ الدُّخَانَ لا يُحَطُّ في اليَدِ ولا الكُمِّ، ثمَّ قالَ‏:‏ إِلاَّ أنْ يكونَ خَبَّأَ لهُ اسمَ الدُّخَانِ في ضميرِهِ‏.‏

‏(‏والحاكِمُ‏)‏ أبو عبدِ اللَّهِ ‏(‏فَسَّرَهُ‏)‏ أيضاً في علومِهِ ‏(‏الجِمَاعَ‏)‏؛ أيْ‏:‏ بالجِمَاعِ، ‏(‏وَهْوَ‏)‏ كما اتَّفَقَ عليهِ الأئمَّةُ ‏(‏وَاهِمُ‏)‏ في ذلكَ، حتَّى قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ تَخليطٌ فاحشٌ يَغِيظُ العَالِمَ والمُؤمِنَ‏.‏ ولفظُ الحاكِمِ‏:‏ سَأَلْتُ الأُدباءَ عنْ تفسيرِ الدُّخِّ، فقالَ‏:‏ كذا يَدُخُّها ويَزُخُّها- يعني بالزَّاءِ بَدَلَ الدَّالِ- بمعنًى واحدٍ، الدُّخُّ والزَّخُّ‏.‏ قالَ‏:‏ والمعنَى الذي أشارَ إليهِ ابنُ صائدٍ- خَذَلَهُ اللَّهُ فيهِ- مفهومٌ، ثمَّ أنشَدَ لِعَلِيٍّ رضِيَ اللَّهُ عنهُ‏:‏

طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مَزَخَّهْ *** يَزُخُّهَا ثُمَّ يَنَامُ الفَخَّهْ

فالمَزَخَّةُ بالفتحِ‏:‏ هيَ المرأةُ، قالَهُ الجَوْهرِيُّ‏.‏ ومعنَى يَزُخُّها‏:‏ يُجامِعُها‏.‏ والفَخَّةُ‏:‏ أنْ يَنامَ فَيَنْفُخَ في نومِهِ‏.‏ وَيُؤَيِّدُ وَهْمَ الحاكِمِ روايَةُ أبي ذَرٍّ الماضيَةُ؛ لِمَا فيهِ منْ قولِهِ‏:‏ فأرادَ ابنُ صَائِدٍ أنْ يقولَ‏:‏ الدُّخَانُ‏.‏ فلم يَسْتَطِعْ‏.‏

بلْ قالَ المُصنِّفُ‏:‏ إنَّهُ لم يُرَ في كلامِ أهْلِ اللغةِ أنَّ الدُّخَّ بالدَّالِ هوَ الجِماعُ، وإنَّما ذكَرَهُ بالزَّاءِ فقَطْ‏.‏ وإذا كانَ كُلٌّ من الحاكمِ والخَطَّابِيِّ معَ كونِهِ منْ أئِمَّةِ الفنِّ صَدَرَ منهُ خِلافُ الروايَةِ في معنَى هذا اللفظِ، فكيفَ مِمَّنْ دُونَهما على أنَّ من الغريبِ ما لا يُعْرَفُ تفسيرُهُ إلاَّ من الحديثِ‏؟‏‏!‏‏.‏

وقدْ جمَعَ أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ منْ ذلكَ شيئاً، وإلى ذلكَ أشارَ ابنُ الأثيرِ في النهايَةِ، فقَالَ في ‏(‏هَرَدَ‏)‏‏:‏ قالَ ابنُ الأنباريِّ‏:‏ القولُ عندَنا في الحديثِ‏:‏ ‏(‏بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ‏)‏ يُرْوَى بالدالِ والذالِ؛ أيْ‏:‏ بينَ مُمَصَّرَتيْنِ، على ما جاءَ في الحديثِ، ولم نَسْمَعْهُ إلاَّ فيهِ‏.‏ وكذلكَ أشياءُ كثيرةٌ لم تُسْمَعْ إلاَّ في الحديثِ، ونقَلَ غيرُهُ عن ابنِ الأنباريِّ منها حديثَ‏:‏ ‏(‏مَنِ اطَّلَعَ في صِيرِ بَابٍ فَفَقَيْتَ عَيْنَهُ فَهِيَ هَدَرٌ‏)‏، وحديثَ ابنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ وَمَعَهُ صِيرٌ فَذَاقَ مِنْهُ‏)‏‏.‏ فالأوَّلُ‏:‏ الشِّقُّ، والثاني‏:‏ الصَّحْنَاةُ‏.‏ ومنها أنَّ عُمَرَ سَألَ المَفْقودَ الذي اسْتَهوَتْهُ الجنُّ‏:‏ ما شَرَابُهم‏؟‏ قالَ‏:‏ الجَدَفُ‏.‏ يعني بالجيمِ والمهملةِ المُحرَّكتيْنِ بعدَهما فاءٌ، وهوَ نَباتٌ باليَمنِ لا يَحتاجُ آكِلُهُ شُرْبَ ماءٍ‏.‏ وقيلَ‏:‏ ما لم يُذْكَر اسمُ اللَّهِ عليهِ‏.‏

ونازعَ ابنَ الأنباريِّ صَاحبُهُ القاضي أَبُو الفَرَجِ النَّهْرَوَانِيُّ في جَعْلِهِ الصِّيرَ مِمَّا لا يُعْرَفُ إلاَّ في الحديثِ، بأنَّهُ مَشْهُورٌ بينَ الخاصَّةِ والعامَّةِ‏.‏ وكذا مِمَّا يَنْبغِي أنْ يُعْتَمَدَ في الغريبِ تفسيرُ الرَّاوِي، ولا يُتَخَرَّجَ على الخلافِ في تفسيرِ اللفظِ بأَحَدِ مُحْتَمِلَيْهِ؛ لأنَّ هذا إخبارٌ عنْ مَدْلُولِ اللُّغةِ، وهوَ منْ أَهْلِ اللِّسانِ، وخِطابُ الشَّارِعِ يُحْمَلُ على اللغةِ ما أمْكَنَ مُوَافَقَتُهُ لها‏.‏

ووَرَاءَ الإحاطةِ بما تَقدَّمَ الاشتغالُ بفِقْهِ الحديثِ والتنقيبِ عمَّا تَضمَّنَهُ من الأحكامِ والآدابِ المُستنبَطَةِ منهُ‏.‏ وقدْ تكلَّمَ البدرُ بنُ جماعةَ في مُخْتَصَرِهِ فيما يَتعلَّقُ بِفِقْهِهِ وكيفيَّةِ الاستنباطِ منهُ، ولم يُطِلْ في ذلكَ، والكلامُ فيهِ مُتَعَيَّنٌ، وذكَرَ شُروطَهُ لمَنْ بلَغَ أَهْلِيَّتَهُ ذلكَ‏.‏ وهذهِ صفةُ الأئمَّةِ الفقهاءِ والمُجتهدِينَ الأعلامِ؛ كالشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ والحمَّادَيْنِ والسُّفْيَانَيْنِ وابنِ رَاهْوَيْهِ والأوزاعِيِّ، وخَلْقٍ من المُتقدِّمِينَ والمُتأخِّرِينَ‏.‏ وفي ذلكَ أَيْضاً تصانيفُ كَثِيرةٌ؛ ‏(‏كالتَّمْهِيدِ‏)‏ و‏(‏الاسْتِذْكَارِ‏)‏، كِلاهُمَا لابنِ عبدِ البَرِّ‏.‏ و‏(‏مَعَالِمِ السُّنَنِ‏)‏ و‏(‏إعلامِ الحديثِ على البخاريِّ‏)‏، كِلاهُما للخَطَّابيِّ‏.‏ و‏(‏شَرْحِ السُّنَّةِ‏)‏ للبَغَويِّ مُفِيدٌ في بابِهِ‏.‏ و‏(‏المُحَلَّى‏)‏ لابنِ حزمٍ، كتابٌ جليلٌ، لَوْلا ما فيهِ من الطَّعْنِ على الأئِمَّةِ وانفرادِهِ بظواهرَ خالفَ فيها جماهيرَ الأُمَّةِ‏.‏ و‏(‏شَرْحِ الإِلْمَامِ‏)‏ و‏(‏العُمْدَةِ‏)‏، كِلاهُما لابنِ دَقيقِ العيدِ، وفيهما دليلٌ على ما وهَبَهُ اللَّهُ تعالى لهُ منْ ذلكَ‏.‏ ونِعْمَ الكِتَابُ ‏(‏شَرْحُ مُسْلمٍ‏)‏ لأبي زكَرِيَّا النَّوَوِيِّ، وكذا أَصْلُهُ للقاضي عياضٍ، و‏(‏شَرْحُ البخاريِّ‏)‏ لشيخِنا، و‏(‏الأحْوذِيُّ في شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ‏)‏ للقاضي أبي بَكْرِ بنِ العربيِّ، والقِطْعَةُ التي لابنِ سَيِّدِ الناسِ عليهِ أيضاً، ثمَّ الذَّيلُ عليها للمُصنِّفِ، وانتَهَى فيهِ إلى النِّصْفِ، وقدْ شَرَعْتُ في إكمالِهِ، إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا يَطُولُ إيرادُهُ من الشروحِ التي على الكتبِ السِّتَّةِ، وكُلُّها مشروحةٌ‏.‏

ومِنْ غَرِيبِها ‏(‏شَرْحُ النَّسائيِّ‏)‏ للإمامِ أبي الحسنِ عليِّ بنِ عبدِ اللَّهِ ابنِ النغمةِ، سَمَّاهُ ‏(‏الإِمْعانَ في شَرْحِ مُصنَّفِ النَّسائيِّ أَبِي عبدِ الرحمنِ‏)‏‏.‏ ومنْ مُتَأَخِّرِها شرحُ ابنِ مَاجَهْ للدَّمِيريِّ‏.‏ ولأبي زُرْعَةَ ابنِ المُصَنِّفِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ قِطْعَةٌ حَافِلةٌ، بلْ وشَرَحَهُ بتمامِهِ الشِّهابُ ابنُ رَسْلانَ‏.‏ وكَذَا على ابنِ ماجَهْ لِمُغْلَطَايْ قطعةٌ‏.‏ وعلى ‏(‏المُوطَّأِ‏)‏ و‏(‏مُسندِ الشافعيِّ‏)‏ و‏(‏المَصابيحِ‏)‏ و‏(‏المَشارِقِ‏)‏ و‏(‏المِشْكاةِ‏)‏ و‏(‏الشِّهابِ‏)‏ و‏(‏الأربعينَ النَّوويَّةِ‏)‏ و‏(‏تقريبِ الأحكامِ‏)‏ لِخَلْقٍ، وما لا يَنْحَصِرُ‏.‏

وقدْ روَى ابنُ عَساكِرَ في تأريخِهِ من حديثِ أبي زُرْعةَ الرازيِّ قالَ‏:‏ تَفكَّرْتُ ليلةً في رِجَالٍ، فَأُرِيتُ فيما يَرَى النائِمُ كأنَّ رَجُلاً يُنادِي يا أَبَا زُرْعَةَ‏:‏ فَهْمُ مَتْنِ الحديثِ خيرٌ من التَّفَكُّرِ في المَوْتَى‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ مِمَّا قدْ يَتَّضِحُ بهِ المرادُ من الخبرِ معرفةُ سَبَبِه؛ ولِذَا اعْتَنَى أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ أحدُ شيوخِ القاضي أَبِي يَعْلَى بنِ الفَرَّاءِ الحَنْبليِّ، ثمَّ أبو حَامدٍ مُحَمَّدُ بنُ أبي مسعودٍ الأصْبهانِيُّ، عُرِفَ بِكوتاهْ، بإفرادِهِ بالتصنيفِ‏.‏

وقالَ ابنُ النَّجَّارِ في ثَانِيهِما‏:‏ إنَّهُ حَسَنٌ في معناهُ لم يُسْبَقْ إليهِ‏.‏ وليسَ كذلكَ، فالعُكْبَرِيُّ مُتقَدِّمٌ عليهِ‏.‏ وقولُ ابنِ دقيقِ العيدِ في أثناءِ البحْثِ التاسعِ منْ كلامِهِ على حديثِ‏:‏ ‏(‏الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ‏)‏ منْ ‏(‏شرحِ العُمْدةِ‏)‏‏:‏ شَرَحَ بعضُ المُتأخِّرينَ منْ أهلِ الحديثِ في تصنيفِهِ، كما صَنَّفَ في أسبابِ النزولِ، فَوَقَفْتُ منْ ذلكَ على شَيْءٍ مُشْعِرٍ بعدَمِ الوقوفِ على واحدٍ منهما‏.‏

وقدْ أَفْرَدَهُ بنوعٍ شَيْخُنا تَبَعاً لشيخِهِ البُلْقِينيِّ، وعندَهُ في مَحاسنِهِ منْ أمثلتِهِ الكثيرُ، ومنها حَدِيثُ‏:‏ ‏(‏الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ‏)‏‏.‏ فالجمهورُ رَوَوْهُ كذلكَ فقطْ، وعندَ أبي دَاوُدَ وغيرِهِ سَبَبُهُ، وهوَ أنَّ رَجُلاً ابْتاعَ عبْداً، فَأَقَامَ عندَهُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يُقِيمَ، ثمَّ وَجَدَ بهِ عَيْباً، فخَاصَمَهُ إلى النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فرَدَّهُ عليهِ، فقالَ الرَّجُلُ‏:‏ يا رسولَ اللَّهِ، إنَّهُ قد استَغَلَّ غُلامِي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ‏:‏ ‏(‏الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ‏)‏‏.‏ وأشارَ إليهِ الشافعيُّ رحِمَهُ اللَّهُ‏.‏ والتَّقَيُّدُ بالسَّبَبِ هنا أَوْلَى، وإنْ أخَذَ بِعُمُومِهِ جَمَاعَةٌ من العلماءِ من الْمَدَنِيِّينَ والكُوفِيِّينَ‏.‏