فصل: الْمُنْكَرُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


الْمُنْكَرُ

167- وَالْمُنْكَرُ الْفَرْدُ كَذَا الْبَرْدِيجِي *** أَطْلَقَ وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيجِ

168- إِجْرَاءُ تَفْصِيلٍ لَدَى الشُّذُوذِ مَرْ *** فَهْوَ بِمَعْنَاهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ

169- نَحْوُ‏:‏ “ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ “ الْخَبَرْ *** وَمَالِكٌ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ عُمَرْ

170- قُلْتُ‏:‏ فَمَا ذَا بَلْ حَدِيثُ ‏(‏نَزْعِهِ خَاتَمَهُ عِنْدَ الْخَلَا وَوَضْعِهِ‏.‏

‏[‏تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ وَأَنْوَاعُهُ‏]‏ ‏(‏وَالْمُنْكَرُ‏)‏ الْحَدِيثُ ‏(‏الْفَرْدُ‏)‏ وَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَتْنُهُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ رَاوِيهِ، فَلَا مُتَابِعَ لَهُ فِيهِ، بَلْ وَلَا شَاهِدَ، ‏(‏كَذَا‏)‏ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ ‏(‏الْبَرْدِيجِيُّ أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيجِ‏)‏ يَعْنِي الْمَرْوِيَّ كَذَلِكَ ‏(‏إِجْرَاءُ تَفْصِيلٍ لَدَى‏)‏ أَيْ‏:‏ عِنْدَ ‏(‏الشُّذُوذِ مَرَّ‏)‏ بِحَيْثُ يَكُونُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ‏.‏

‏(‏فَهُوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُنْكَرُ ‏(‏بِمَعْنَاهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الشَّاذِّ ‏(‏كَذَا الشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏ذَكَرَ‏)‏ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا جَمْعُ الذَّهَبِيِّ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَقَدْ حَقَّقَ شَيْخُنَا التَّمْيِيزَ بِجِهَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي مَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، فَالصَّدُوقُ إِذَا تَفَرَّدَ بِمَا لَا مُتَابِعَ لَهُ فِيهِ وَلَا شَاهِدَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الضَّبْطِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْبُولِ، فَهَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الشَّاذِّ‏.‏

فَإِنْ خُولِفَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَعَ ذَلِكَ، كَانَ أَشَدَّ فِي شُذُوذِهِ، وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا، وَإِنْ بَلَغَ تِلْكَ الرُّتْبَةَ فِي الضَّبْطِ، لَكِنَّهُ خَالَفَ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ‏.‏

فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الشَّاذِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَسْمِيَتِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ الْمَسْتُورُ، أَوِ الْمَوْصُوفُ بِسُوءِ الْحِفْظِ، أَوِ الْمُضَعَّفُ فِي بَعْضِ مَشَايِخِهِ خَاصَّةً، أَوْ نَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُحْكَمُ لِحَدِيثِهِمْ بِالْقَبُولِ بِغَيْرِ عَاضِدٍ يُعَضِّدُهُ، بِمَا لَا مُتَابِعَ لَهُ وَلَا شَاهِدَ- فَهَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الَّذِي يُوجَدُ إِطْلَاقُ الْمُنْكَرِ عَلَيْهِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ؛ كَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ‏.‏

وَإِنْ خُولِفَ مَعَ ذَلِكَ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فِي تَسْمِيَتِهِ، فَبَانَ بِهَذَا فَصْلُ الْمُنْكَرِ مِنَ الشَّاذِّ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قِسْمَانِ يَجْتَمِعَانِ فِي مُطْلَقِ التَّفَرُّدِ أَوْ مَعَ قَيْدِ الْمُخَالَفَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّاذَّ رَاوِيهِ ثِقَةٌ أَوْ صَدُوقٌ غَيْرُ ضَابِطٍ، وَالْمُنْكَرَ رَاوِيهِ ضَعِيفٌ بِسُوءِ حِفْظِهِ أَوْ جَهَالَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا فَرَّقَ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ مُقْتَصِرًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمِ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ فِي الشَّاذِّ‏:‏ إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الْمَقْبُولُ مُخَالِفًا لِمَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَفِي الْمُنْكَرِ‏:‏ إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الضَّعِيفُ مُخَالِفًا، وَالْمُقَابِلُ لِلْمُنْكَرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَلِلشَّاذِّ كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ الْمَحْفُوظُ‏.‏

قَالَ‏:‏ قَدْ غَفَلَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، زَادَ فِي غَيْرِهِ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ ‏(‏صَحِيحِهِ‏)‏ مَا نَصُّهُ‏:‏ وَعَلَامَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَى، خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ، أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ، كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلَا مُسْتَعْمِلِهِ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ فَالرُّوَاةُ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذَا هُمُ الْمَتْرُوكُونَ، قَالَ‏:‏ فَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْمَتْرُوكِ عِنْدَ مُسْلِمٍ تُسَمَّى مُنْكَرَةً، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلِكُلٍّ مِنْ قِسْمَيِ الْمُنْكَرِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، ‏(‏نَحْوُ‏:‏ “ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ “ الْخَبَرَ‏)‏، وَتَمَامُهُ‏:‏ “ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا أَكَلَهُ غَضِبَ الشَّيْطَانُ “، وَقَالَ‏:‏ “ عَاشَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْجَدِيدَ بِالْخَلِقِ “ فَقَدْ صَرَّحَ النَّسَائِيُّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ‏.‏

‏[‏أَمْثِلَةُ نَوْعَيِ الْمُنْكَرِ‏]‏‏:‏ وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا زُكَيْرٍ- وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْبَصْرِيُّ- رَاوِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، الْمُنْفَرِدَ بِهِ- كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَا قَالَ الْعُقَيْلِيُّ-‏:‏ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَاكِمِ‏:‏ هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبَصْرِيِّينَ عَنِ الْمَدَنِيِّينَ؛ إِذْ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ ضُعِّفَ لِخَطَئِهِ، وَهُوَ فِي عِدَادِ مَنْ يَنْجَبِرُ‏.‏

وَلِذَا قَالَ السَّاجِيُّ‏:‏ إِنَّهُ صَدُوقٌ يَهِمُ، وَفِي حَدِيثِهِ لِينٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ‏:‏ إِنَّهُ يَقْلِبُ الْأَسَانِيدَ، وَيَرْفَعُ الْمَرَاسِيلَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُ الْخَلِيلِيِّ فِيهِ‏:‏ إِنَّهُ شَيْخٌ صَالِحٌ، فَإِنَّمَا أَرَادَ صَلَاحِيَتَهُ فِي دِينِهِ، جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي إِطْلَاقِ الصَّلَاحِيَةِ؛ حَيْثُ يُرِيدُونَ بِهَا الدِّيَانَةَ، أَمَّا حَيْثُ أُرِيدَ فِي الْحَدِيثِ فَيُقَيِّدُونَهَا، وَيَتَأَيَّدُ بِبَاقِي كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ مَنْ يَحْتَمِلُ تَفَرُّدَهُ‏.‏

وَقَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ‏:‏ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، أَيْ‏:‏ فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، وَلِذَا خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَوْضِعًا وَاحِدًا مُتَابَعَةً، بَلْ تَوَسَّعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ نَكَارَةُ مَعْنَاهُ أَيْضًا وَرِكَّةُ لَفْظِهِ، وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِصِحَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ نَحْوُ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ حَيْثُ ‏(‏سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ‏)‏ الَّذِي النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَمْرٌو بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ‏(‏عُمَرَ‏)‏ بِضَمِّهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ خِلَافُهُ؛ وَذَلِكَ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا‏:‏ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْهُ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ- كَمَا قَالَ النَّسَائِيُّ- أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ حَكَمَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يُشِيرُ بِيَدِهِ لِدَارِ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ‏.‏

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ‏:‏ قُلْتُ لِمَالِكٍ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّكَ تُخْطِئُ فِي أَسَامِي الرِّجَالِ، تَقُولُ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَتَقُولُ‏:‏ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو، وَتَقُولُ‏:‏ عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ‏.‏

فَقَالَ مَالِكٌ‏:‏ هَكَذَا حَفِظْنَا، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِي، وَنَحْنُ نُخْطِئُ، وَمَنْ يَسْلَمُ مِنَ الْخَطَأِ‏؟‏‏!‏ ‏(‏قُلْتُ‏:‏ فَمَاذَا‏)‏ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَرُّدِ مَالِكٍ مِنْ بَيْنَ الثِّقَاتِ بِاسْمِ هَذَا الرَّاوِي، مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثِقَةً؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِمَّا يَكُونُ كَذَلِكَ نَكَارَةُ الْمَتْنِ وَلَا شُذُوذُهُ‏.‏

بَلِ الْمَتْنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ تَمْثِيلَ ابْنِ الصَّلَاحِ بِهِ لِمُنْكَرِ السَّنَدِ خَاصَّةً، فَالنَّكَارَةُ تَقَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُعَلَّلِ مِثَالًا لِمَا يَكُونُ مَعْلُولَ السَّنَدِ مَعَ صِحَّةِ مَتْنِهِ‏.‏

وَهُوَ إِبْدَالُ يَعْلَى بْنَ عُبَيْدٍ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، عَلَى أَنَّ هُشَيْمًا قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَخَالَفَ فِيهِ مُخَالَفَةً أَشَدَّ مِمَّا وَقَعَ لِمَالِكٍ مَعَ كَوْنِهَا فِي الْمَتْنِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ‏:‏ ‏(‏لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ‏)‏، وَلِذَا حَكَمَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى هُشَيْمٍ فِيهِ بِالْخَطَأِ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ ‏(‏وَأَظُنُّهُ رَوَاهُ مِنْ حِفْظِهِ بِلَفْظِ ظَنَّ أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَى مَا سَمِعَ، فَلَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَتَى بِهِ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ، وَقَدْ كَانَ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَضْبُطْ عَنْهُ مَا سَمِعَ، فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُ مِنْ حِفْظِهِ فِيهِمْ فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي الْإِسْنَادِ، وَحِينَئِذٍ فَلَوْ مَثَّلَ بِرِوَايَةِ هُشَيْمٍ كَانَ أَسْلَمَ‏)‏‏.‏

‏(‏بَلْ‏)‏ مِنْ أَمْثِلَتِهِ كَمَا لِلنَّاظِمِ ‏(‏حَدِيثُ نَزْعِهِ‏)‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏خَاتَمَهُ عِنْدَ‏)‏ دُخُولِ ‏(‏الْخَلَا‏)‏ بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ ‏(‏وَوَضْعِهِ‏)‏، الَّذِي رَوَاهُ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَهُ‏:‏ إِنَّهُ مُنْكَرٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ‏:‏ إِنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهَمَّامٌ ثِقَةٌ احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ النَّاسَ، قَالَهُ الشَّارِحُ، وَلَمْ يُوَافِقْ أَبُو دَاوُدَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنَّكَارَةِ، فَقَدْ قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ‏:‏ لَا أَدْفَعُ أَنْ يَكُونَا حَدِيثَيْنِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ، فَصَحَّحَهُمَا مَعًا‏.‏

وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ أَخْرَجَ بِهَذَا السَّنَدِ أَنَّ أَنَسًا نَقَشَ فِي خَاتَمِهِ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْخَلَاءَ وَضَعَهُ، لَا سِيَّمَا وَهَمَّامٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ؛ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا لِهَمَّامٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَإِنْ أَخْرَجَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ‏.‏

وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ‏:‏ إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، فِيهِ نَظَرٌ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ عِنْدِي إِلَّا تَدْلِيسَ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنْ وُجِدَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ، فَلَا مَانِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ فِي نَقْدِي‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَيْشُونَ، ثَنَا أَبُو قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ- يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَمِينِهِ، أَوْ قَالَ‏:‏ كَانَ يَنْزِعُ خَاتَمَهُ إِذَا أَرَادَ الْجَنَابَةَ‏.‏

وَلَكِنْ أَبُو قَتَادَةَ- وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ- مَعَ كَوْنِهِ صَدُوقًا كَانَ يُخْطِئُ، وَلِذَا أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَضْعِيفَهُ‏.‏

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ‏:‏ ‏(‏مُنْكَرُ الْحَدِيثِ تَرَكُوهُ‏)‏، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ‏:‏ ‏(‏أَظُنُّهُ كَانَ يُدَلِّسُ‏)‏، وَأَوْرَدَهُ شَيْخُنَا فِي الْمُدَلِّسِينَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ‏)‏، وَوَصَفَهُ أَحْمَدُ بِالتَّدْلِيسِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

فَرِوَايَتُهُ لَا تَعِلُّ رِوَايَةَ هَمَّامٍ، ‏[‏بَلْ قَدْ تَشْهَدُ لَهَا‏]‏، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالتَّمْثِيلُ بِهِ لِلْمُنْكَرِ، وَكَذَا بِقَوْلِ مَالِكٍ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاذِّ‏.‏

الِاعْتِبَارُ وَالْمُتَابِعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ

171- الِاعْتِبَارُ سَبْرُكَ الْحَدِيثَ هَلْ *** شَارَكَ رَاوٍ غَيْرَهُ فِيمَا حَمَلْ

172- عَنْ شَيْخِهِ فَإِنْ يَكُنْ شُورِكَ مِنْ *** مُعْتَبَرٍ بِهِ فَتَابِعٌ وَإِنْ

173- شُورِكَ شَيْخُهُ فَفَوْقُ فَكَذَا *** وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدًا ثُمَّ إِذَا

174- مَتْنٌ بِمَعْنَاهُ أَتَى فَالشَّاهِدُ *** وَمَا خَلَا عَنْ كُلِّ ذَا مُفَارِدُ

175- مِثَالُهُ‏:‏ “ لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا “ *** فَلَفْظَةُ الدِّبَاغِ مَا أَتَى بِهَا

176- عَنْ عَمْرٍو إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ *** تُوبِعَ عَمْرٌو فِي الدِّبَاغِ فَاعْتَضَدْ

177- ثُمَّ وَجَدْنَا‏:‏ “ أَيُّمَا إِهَابِ “ *** فَكَانَ فِيهِ شَاهِدًا فِي الْبَابِ

لَمَّا انْتَهَى الشَّاذُّ وَالْمُنْكَرُ الْمُجْتَمِعَانِ فِي الِانْفِرَادِ، أُرْدِفَا بِبَيَانِ الطَّرِيقِ الْمُبَيِّنِ لِلِانْفِرَادِ وَعَدَمِهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أُخِّرَ عَنِ الْأَفْرَادِ وَالْغَرِيبِ الْآتِيَيْنِ، كَانَ أَنْسَبَ‏.‏

‏[‏التَّعْرِيفُ بِالِاعْتِبَارِ‏]‏‏:‏ وَ‏(‏الِاعْتِبَارُ سَبْرُكَ‏)‏ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ، أَيِ‏:‏ اخْتِبَارُكَ وَنَظَرُكَ ‏(‏الْحَدِيثَ‏)‏ مِنَ الدَّوَاوِينِ الْمُبَوَّبَةِ وَالْمُسْنَدَةِ وَغَيْرِهِمَا، كَالْمَعَاجِمِ، وَالْمَشْيَخَاتِ وَالْفَوَائِدِ، لِتَنْظُرَ ‏(‏هَلْ شَارَكَ‏)‏ رَاوِيَهُ الَّذِي يُظَنُّ تَفَرُّدُهُ بِهِ ‏(‏رَاوٍ غَيْرُهُ‏)‏ أَوْ فَقُلْ‏:‏ هَلْ شَارَكَ رَاوٍ مِنْ رُوَاتِهِ غَيْرَهُ‏.‏

‏(‏فِيمَا حَمَلَ عَنْ شَيْخِهِ‏)‏ سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي رِوَايَةِ ذَاكَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا‏؟‏

فَبَانَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ قَسِيمًا لِمَا مَعَهُ كَمَا قَدْ تُوهِمُهُ التَّرْجَمَةُ، بَلْ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَشْفِ عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ شَرْحُ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ؛ لِوُقُوعِهَا فِي كَلَامِ أَئِمَّتِهِمْ‏.‏

‏[‏حَقِيقَةُ الشَّاهِدِ وَالْمُتَابِعِ‏]‏ ‏(‏فَإِنْ يَكُنْ‏)‏ ذَاكَ الرَّاوِي ‏(‏شُورِكَ مِنْ‏)‏ رَاوٍ ‏(‏مُعْتَبَرٍ بِهِ‏)‏ بِأَنَّ لَمْ يُتَّهَمْ بِكَذِبٍ وَضَعْفٍ، إِمَّا بِسُوءِ حِفْظِهِ أَوْ غَلَطِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، حَسَبَ مَا يَجِيءُ إِيضَاحُهُ فِي مَرَاتِبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُ فِي الْوَصْفِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ‏(‏فـَ‏)‏ هُوَ ‏(‏تَابِعٌ‏)‏ حَقِيقَةً، وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ التَّامَّةُ إِنِ اتَّفَقَا فِي رِجَالِ السَّنَدِ كُلِّهِمْ‏.‏

‏(‏وَإِنْ شُورِكَ شَيْخُهُ‏)‏ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ شَيْخِهِ ‏(‏فَفَوْقُ‏)‏ بِضَمِّ الْقَافِ مَبْنِيًّا؛ أَيْ‏:‏ أَوْ شُورِكَ مَنْ فَوْقَ شَيْخِهِ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى الصَّحَابِيِّ، ‏(‏فَكَذَا‏)‏ أَيْ‏:‏ فَهُوَ تَابِعٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ قَاصِرٌ عَنْ مُشَارَكَتِهِ هُوَ، وَكُلَّمَا بَعُدَ فِيهِ الْمُتَابِعُ كَانَ أَنْقَصَ‏.‏

‏(‏وَقَدْ يُسَمَّى‏)‏ أَيْ‏:‏ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَابِعِ لِشَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ ‏(‏شَاهِدًا‏)‏، وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهُ تَابِعًا أَكْثَرُ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ فَقْدِ الْمُتَابِعَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ ‏(‏إِذَا مَتْنٌ‏)‏ آخَرُ فِي الْبَابِ إِمَّا عَنْ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏بِمَعْنَاهُ أَتَى فَهُوَ الشَّاهِدُ‏)‏، وَأَفْهَمَ اخْتِصَاصَ التَّابِعِ بِاللَّفْظِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ أَمْ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ حَكَاهُ شَيْخُنَا مَعَ اخْتِصَاصِ الشَّاهِدِ بِالْمَعْنَى كَذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ- يَعْنِي كَالْبَيْهَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ- وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ لَا اقْتِصَارَ فِي التَّابِعِ عَلَى اللَّفْظِ، وَلَا فِي الشَّاهِدِ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا بِالصَّحَابِيِّ فَقَطْ، فَكُلُّ مَا جَاءَ عَنْ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ فَتَابِعٌ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ فَشَاهِدٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُتَابَعَةُ عَلَى الشَّاهِدِ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّقْوِيَةُ‏.‏

‏(‏وَمَا خَلَا عَنْ كُلِّ ذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمَذْكُورِ مِنْ تَابِعٍ وَشَاهِدٍ فَهُوَ ‏(‏مُفَارِدُ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَفْرَادٌ، وَيَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِقِسْمَيِ الْمُنْكَرِ وَالشَّاذِّ كَمَا تَقَرَّرَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاعْتِبَارِ ابْنُ حِبَّانَ؛ حَيْثُ قَالَ‏:‏ مِثَالُهُ أَنْ يَرْوِيَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدِيثًا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَيُنْظَرُ هَلْ رَوَى ذَلِكَ ثِقَةٌ غَيْرُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ‏؟‏ فَإِنْ وُجِدَ عَلِمَ أَنَّ لِلْخَبَرِ أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَثِقَةٌ غَيْرُ ابْنِ سِيرِينَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِلَّا فَصَحَابِيٌّ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَيُّ ذَلِكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَكَمَا أَنَّهُ لَا انْحِصَارَ لِلْمُتَابِعَاتِ فِي الثِّقَةِ، كَذَلِكَ الشَّوَاهِدُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ رِوَايَةُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَحْدَهُ، بَلْ يَكُونُ مَعْدُودًا فِي الضُّعَفَاءِ، وَفِي كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ ذَكَرَاهُمْ فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضَعِيفٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ‏.‏

وَلِهَذَا يَقُولُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ‏:‏ فُلَانٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَفُلَانٌ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ‏.‏

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ‏:‏ “ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا- أَيْ إِدْخَالَ الضُّعَفَاءِ فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ- لِكَوْنِ الْمُتَابَعِ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ “‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَلَا انْحِصَارَ لَهُ فِي هَذَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُتَابِعِ وَالْمُتَابَعِ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ؛ فَبِاجْتِمَاعِهِمَا تَحْصُلُ الْقُوَّةُ‏.‏

‏[‏أَمْثِلَةُ التَّابِعِ وَالشَّاهِدِ‏]‏ ‏(‏مِثَالُهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّابِعِ وَالشَّاهِدِ ‏(‏لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا، فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ‏)‏ الْمَرْوِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةَ مَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ وَذَكَرَهُ‏.‏

‏(‏فَلَفْظَةُ الدِّبَاغِ‏)‏ فِيهِ ‏(‏مَا أَتَى بِهَا عَنْ عَمْرٍو‏)‏ مِنْ أَصْحَابِهِ ‏(‏إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةٍ‏)‏ بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِهَا وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا‏.‏

‏(‏وَقَدْ تُوبِعَ‏)‏ شَيْخُهُ ‏(‏عَمْرٌو‏)‏ عَنْ عَطَاءٍ ‏(‏فِي الدِّبَاغِ‏)‏، فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ شَاةٍ مَاتَتْ‏:‏ “ الْأَ نَزَعْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ “‏.‏

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ‏:‏ وَهَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، فَهَذِهِ مُتَابِعَاتٌ لِابْنِ عُيَيْنَةَ فِي شَيْخِ شَيْخِهِ ‏(‏فَاعْتَضَدْ‏)‏ بِهَا‏.‏

‏(‏ثُمَّ وَجَدْنَا‏)‏ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا إِهَابٍ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ‏:‏ جِلْدٍ دُبِغَ- فَقَدَ طَهُرَ‏)‏‏.‏ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ‏:‏ ‏(‏إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

‏(‏فَكَانَ فِيهِ‏)‏ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، ‏(‏شَاهِدًا فِي الْبَابِ‏)‏ أَيْ‏:‏ عِنْدَ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، بَلْ يُكْتَفَى بِالْمَعْنَى‏.‏

وَأَمَّا مَنْ يَقْصُرُ الشَّاهِدَ عَلَى الْآتِي مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَعْلَةَ هَذِهِ مُتَابِعَةٌ لِعَطَاءِ، وَلِهَذَا عَدَلَ شَيْخُنَا عَنِ التَّمْثِيلِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِحَدِيثٍ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ التَّامَّةُ، وَالْقَاصِرَةُ، وَالشَّاهِدُ بِاللَّفْظِ، وَالشَّاهِدُ بِالْمَعْنَى جَمِيعًا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ “ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ “؛ فَإِنَّهُ فِي جَمِيعِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ‏:‏ “ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ “‏.‏

وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَالِكٍ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، ثَنَا مَالِكٌ بِهِ بِلَفْظِ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ، فَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ تَامَّةٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَالِكًا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِاللَّفْظَيْنِ مَعًا‏.‏

وَقَدْ تُوبِعَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ‏:‏ “ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ “‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ‏:‏ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَكَمِّلُوا ثَلَاثِينَ‏.‏ فَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَلَهُ شَاهِدَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ‏:‏ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ‏.‏

وَثَانِيهِمَا‏:‏ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَوَاءٌ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْتُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْحَاشِيَةِ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏

زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ

178- وَاقْبَلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُمُ *** وَمَنْ سِوَاهُمْ فَعَلَيْهِ الْمُعْظَمُ

179- وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ لَا مِنْهُمْ وَقَدْ *** قَسَّمَهُ الشَّيْخُ فَقَالَ‏:‏ مَا انْفَرَدْ

180- دُونَ الثِّقَاتِ ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ *** فِيهِ صَرِيحًا فَهْوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ

181- أَوْ لَمْ يُخَالِفْ فَاقْبَلَنْهُ وَادَّعَى *** فِيهِ الْخَطِيبُ الِاتِّفَاقَ مُجْمَعَا

182- أَوْ خَالَفَ الْإِطْلَاقَ نَحْوُ‏:‏ “ جُعِلَتْ *** تُرْبَةُ الْأَرْضِ “ فَهِيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ

183- فَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا *** وَالْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا

184- لَكِنَّ فِي الْإِرْسَالِ جَرْحًا فَاقْتَضَى *** تَقْدِيمَهُ وَرُدَّ أَنَّ مُقْتَضَى

185- هَذَا قَبُولُ الْوَصْلِ إِذْ فِيهِ وَفِي *** الْجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِي

وَهُوَ فَنٌّ لَطِيفٌ تُسْتَحْسَنُ الْعِنَايَةُ بِهِ، يُعْرَفُ بِجَمْعِ الطُّرُقِ وَالْأَبْوَابِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ- كَمَا قَدَّمْنَا- ذِكْرَهُ مَعَ تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ‏.‏

وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مُشَارًا إِلَيْهِ بِهِ؛ بِحَيْثُ قَالَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حِبَّانَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مَنْ يَحْفَظُ الصِّحَاحَ بِأَلْفَاظِهَا، وَيَقُومُ بِزِيَادَةِ كُلِّ لَفْظَةٍ زَادَ فِي الْخَبَرِ ثِقَةً، حَتَّى كَأَنَّ السُّنَنَ كُلَّهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ- غَيْرَهُ‏.‏

وَكَذَا كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَأَبُو الْوَلِيدِ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ النَّيْسَابُورِيَّانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ كَأَبِي نُعَيْمِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُرْجَانِيِّ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِمَعْرِفَةِ زِيَادَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الْمُتُونِ‏.‏

‏[‏أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ‏]‏ ‏(‏وَاقْبَلْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏زِيادَاتِ الثِّقَاتِ‏)‏ مِنَ التَّابِعِينَ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا ‏(‏مِنْهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ الثِّقَاتِ الرَّاوِينَ لِلْحَدِيثِ بِدُونِهَا، بِأَنْ رَوَاهُ أَحَدُهُمْ مَرَّةً نَاقِصًا وَمَرَّةً بِالزِّيَادَةِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ سِوَاهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَنْ سِوَى الرَّاوِينَ بِدُونِهَا مِنَ الثِّقَاتِ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى، تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا، غَيَّرَتِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ أَمْ لَا، أَوْجَبَتْ نَقْصًا مِنْ أَحْكَامٍ ثَبَتَتْ بِخَبَرٍ آخَرَ أَمْ لَا، عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا، كَثُرَ السَّاكِتُونَ عَنْهَا أَمْ لَا‏.‏

‏(‏فـَ‏)‏ـهَذَا- كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ- هُوَ الَّذِي مَشَى ‏(‏عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ‏)‏ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ؛ كَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَجَرَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ‏.‏

وَقَيَّدَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ عَدَدًا أَوْ وَاحِدًا أَحْفَظَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حَافِظًا، وَلَوْ كَانَ صَدُوقًا فَلَا‏.‏

وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ‏:‏ «إِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ رَاوِيهَا أَحْفَظَ، وَأَتْقَنَ مِمَّنْ قَصَّرَ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْحِفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حَافِظٍ وَلَا مُتْقِنٍ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا»، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ‏:‏ «الَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِيهَا عَدْلًا حَافِظًا وَمُتْقِنًا ضَابِطًا»‏.‏

وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ إِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ عَلَى حِفْظِهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ‏:‏ إِنَّمَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مِنَ الثِّقَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ‏.‏

وَكَذَا قَيَّدَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعِدَّةِ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِي النَّاقِصَةِ أَكْثَرَ بِتَعَدُّدِ مَجْلِسِ التَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا‏.‏

وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، بِمَا إِذَا سَكَتَ الْبَاقُونَ عَنْ نَفْيِهِ، أَمَّا مَعَ النَّفْيِ عَلَى وَجْهٍ يُقْبَلُ فَلَا، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ‏:‏ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لِلْإِعْرَابِ، وَإِلَّا كَانَا مُتَعَارِضَيْنِ أَيْ فِي اللَّفْظِ، وَإِنْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَعْنَى‏.‏

وَفَرِيقٌ بِمَا إِذَا أَفَادَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَآخَرُونَ بِمَا إِذَا كَانَتْ فِي اللَّفْظِ خَاصَّةً؛ كَزِيَادَةِ «أَحَاقِيفُ جُرْذَانٍ» فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْضِعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، حَكَاهُمَا الْخَطِيبُ‏.‏

‏[‏وَقَالَ‏:‏ إِنَّ أَوَّلَهُمَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ إِذِ الْأَحْكَامُ مَحَلُّ التَّشَدُّدِ، فَقَبُولُهَا فِي غَيْرِهَا أَوْلَى، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ الْحَاجَةَ فِي الْقَبُولِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا وَلَا لِمَا قَصَرَهُ الْآخَرُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ حَاجَةً فِي الْجُمْلَةِ؛ بِحَيْثُ صَارَا كَطَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي التَّسَاهُلِ وَغَيْرِهِ‏]‏‏.‏

وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّاكِتُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ‏.‏

وَخَرَّجَ شَيْخُنَا مِنْ تَفْرِقَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي مُقَدِّمَةِ ‏(‏الضُّعَفَاءِ‏)‏ لَهُ بَيْنَ الْمُحَدِّثِ وَالْفَقِيهِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى التَّفْرِقَةَ أَيْضًا هُنَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، فَتُقْبَلُ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِي السَّنَدِ لَا الْمَتْنِ، وَمِنَ الْفَقِيهِ عَكْسُهُ؛ لِزِيَادَةِ اعْتِنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا قُبِلَ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ بَلْ سِيَاقُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏:‏ لَا‏)‏ تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا لَا مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ قَالُوا‏:‏ لِأَنَّ تَرْكَ الْحُفَّاظِ لِنَقْلِهَا وَذَهَابَهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا يُوهِنُهَا وَيُضْعِفُ أَمْرَهَا، وَيَكُونُ مُعَارِضًا لَهَا، وَلَيْسَتْ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ؛ إِذْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْعَادَةِ سَمَاعُ وَاحِدٍ فَقَطْ لِلْحَدِيثِ مِنَ الرَّاوِي وَانْفِرَادُهُ بِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِيهَا سَمَاعُ الْجَمَاعَةِ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَذَهَابُ زِيَادَةٍ فِيهِ عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانُهَا إِلَّا الْوَاحِدَ‏.‏

‏(‏وَقِيلَ‏:‏ لَا‏)‏ تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ ‏(‏مِنْهُمْ‏)‏ فَقَطْ؛ أَيْ‏:‏ مِمَّنْ رَوَاهُ بِدُونِهَا ثُمَّ رَوَاهُ بِهَا؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ نَاقِصًا أَوْرَثَتْ شَكًّا فِي الزِّيَادَةِ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ‏.‏

وَكَذَا قَالَ بِهِ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ‏.‏ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ سَوَاءٌ كَانَتْ رِوَايَتُهُ لِلزَّائِدَةِ سَابِقَةً، أَوْ لَاحِقَةً‏.‏

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ بِوُجُوبِ التَّوَقُّفِ؛ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ نَسِيَهَا، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِوَايَتُهُ نَاقِصًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِالزِّيَادَةِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَهَا قُبِلَتْ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ‏.‏

وَرَدَّ ابْنُ الْخَطِيبِ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ وَسَهْوُ الرَّاوِي فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى النَّاقِصَةِ فِي أَحَدِهِمَا، أَوِ اكْتِفَاؤُهُ بِكَوْنِهِ كَانَ أَتَمَّهُ قَبْلُ، وَضَبَطَهُ الثِّقَةُ عَنْهُ، فَنَقَلَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا سَمِعَهُ، وَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَضَرَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، أَوْ فَارَقَ قَبْلَ انْتِهَائِهِ، أَوْ عَرَضَ لَهُ شَاغِلٌ مِنْ نَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا‏.‏

وَالثَّالِثَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ رَاوٍ تَامًّا، وَمِنْ آخَرَ نَاقِصًا، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ عَنْ وَاحِدٍ، أَوْ يَرْوِيَهُ بِدُونِهَا لِشَكٍّ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتَيَقَّنَهَا أَوْ يَتَذَكَّرَهَا‏.‏

وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى قَبُولِهَا مِنْهُ نَفْسِهِ، بِقَبُولِهِ إِذَا رَوَى حَدِيثًا مُثْبِتًا لِحُكْمٍ، وَحَدِيثًا نَاسِخًا لَهُ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ مَعَ التَّنَافِي، فَتَصْرِيحُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِرَدِّهَا عَنْهُ نَفَى الْبَاقِينَ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُمَا كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ- قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّقْيِيدُ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِهَا كَوْنَهَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ رَاوِيهَا‏.‏

وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ الْمَاضِي فِي الْمُرْسَلِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْإِطْلَا قِ‏.‏

‏[‏تَقْسِيمُ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ‏]‏ ‏(‏وَقَدْ قَسَّمَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ ‏(‏الشَّيْخُ‏)‏ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏فَقَالَ‏)‏‏:‏ حَسْبَمَا حَرَّرَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ‏:‏ قَدْ رَأَيْتُ تَقْسِيمَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏ ‏(‏مَا انْفَرَدْ‏)‏ بِرِوَايَتِهِ ‏(‏دُونَ الثِّقَاتِ‏)‏ أَوْ ثِقَةٍ أَحْفَظَ ‏(‏ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ‏)‏ أَوْ خَالَفَ الْوَاحِدُ الْأَحْفَظَ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ ‏(‏صَرِيحًا‏)‏ فِي الْمُخَالَفَةِ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهَا رَدُّ الْأُخْرَى ‏(‏فَهُوَ رَدٌّ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَرْدُودٌ ‏(‏عِنْدَهُمْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ‏.‏

‏(‏أَوْ لَمْ يُخَالِفْ‏)‏ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ مَا رَوَوْهُ أَوِ الْأَحْفَظَ أَصْلًا ‏(‏فَاقْبَلَنْهُ‏)‏ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِمَا رَوَاهُ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا مُعَارِضَ لِرِوَايَتِهِ؛ إِذِ السَّاكِتُ عَنْهَا لَمْ يَنْفِهَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، وَلَا فِي سُكُوتِهِ دَلَالَةٌ عَلَى وَهْمِهَا، بَلْ هِيَ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي تَفَرَّدَ بِجُمْلَتِهِ ثِقَةٌ، وَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ أَصْلًا كَمَا سَبَقَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي الشَّاذِّ‏.‏

‏(‏وَادَّعَى فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي قَبُولِ هَذَا الْقِسْمِ ‏(‏الْخَطِيبُ الِاتِّفَاقَ‏)‏ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏مُجْمَعًا‏)‏ وَلَكِنَّ عَزْوَ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ، فَعِبَارَتُهُ‏:‏ «وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ- أَيِ‏:‏ الْقَوْلِ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ- أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ اتِّفَاقُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِنَقْلِ حَدِيثٍ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُهُ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الرُّوَاةِ لِنَقْلِهِ إِنْ كَانُوا عَرَفُوهُ وَذَهَابُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ مُعَارِضًا لَهُ وَلَا قَادِحًا فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ، وَلَا مُبْطِلًا لَهُ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الِانْفِرَادِ بِالزِّيَادَةِ»‏.‏

‏(‏أَوْ خَالَفَ الْإِطْلَاقَ‏)‏ فَزَادَ لَفْظَةً مَعْنَوِيَّةً فِي حَدِيثٍ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ ‏(‏نَحْوُ‏:‏ «جُعِلَتْ تُرْبَةُ الْأَرْضِ»‏)‏ بِالنَّقْلِ لَنَا، طَهُورًا فِي حَدِيثِ‏:‏ “ فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ‏:‏ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا‏.‏‏.‏‏.‏ “‏.‏

‏(‏فَهِي‏)‏ أَيْ‏:‏ زِيَادَةُ التُّرْبَةِ ‏(‏فَرْدٌ نُقِلَتْ‏)‏ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهَا أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ ‏(‏التُّرَابُ‏)‏، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ لَفْظُهَا‏:‏ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا‏.‏

قَالَ‏:‏ “ فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ يُشْبِهُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَامٌّ، يَعْنِي لِشُمُولِهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَمَا رَوَاهُ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ مَخْصُوصٌ، يَعْنِي بِالتُّرَابِ‏.‏

وَفِي ذَلِكَ مُغَايَرَةٌ فِي الصِّفَةِ، وَنَوْعُ مُخَالَفَةٍ يَخْتَلِفُ بِهَا الْحُكْمُ، وَيُشْبِهُ أَيْضًا الْقِسْمَ الثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ‏(‏فَالشَّافِعِيْ‏)‏ بِالْإِسْكَانِ، وَ‏(‏أَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا‏)‏ أَيْ‏:‏ بِاللَّفْظِ الْمَزِيدِ هُنَا؛ حَيْثُ خَصَّا التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ‏.‏

وَكَذَا بِزِيَادَةِ “ مِنَ الْمُسْلِمِينَ “ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، الَّذِي شُوحِحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِاحْتِجَاجِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَا فِيهِ خَاصَّةً، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِحُكْمٍ، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ‏:‏ كَذَا قَالَ- يَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ- وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ‏.‏

وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ حَقَّقَ تَبَعًا لِلْعَلَائِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مُطَّرِدٍ مِنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، بَلْ يُرَجِّحُونَ بِالْقَرَائِنِ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ‏.‏

وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيهِمَا سَوَاءٌ، بَلْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ‏:‏ ‏(‏وَالْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ‏)‏ فِي تَعَارُضِهِمَا ‏(‏مِنْ ذَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الثِّقَاتِ ‏(‏أُخِذَا‏)‏، فَالْوَصْلُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ نَحْوُ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي ثَالِثِ الْأَقْسَامِ، وَبَيَانُهُ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَاضِحٌ‏.‏

وَأَمَّا فِي الثَّانِي‏:‏ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏لَكِنَّ‏)‏ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ ‏(‏فِي الْإِرْسَالِ‏)‏ فَقَطْ ‏(‏جَرْحًا‏)‏ فِي الْحَدِيثِ ‏(‏فَاقْتَضَى تَقْدِيمَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلْأَكْثَرِ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، يَعْنَى‏:‏ فَافْتَرَقَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ‏:‏ الْإِرْسَالُ عِلَّةٌ فِي السَّنَدِ، فَكَانَ وُجُودُهَا قَادِحًا فِي الْوَصْلِ، وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَتْنِ كَذَلِكَ‏.‏

وَلَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ وَتَعَسُّفٍ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ بَانَ تَبَايُنُ مَأْخَذِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِئَلَّا يَكُونَ تَنَاقُضًا؛ حَيْثُ يَحْكِي الْخَطِيبُ هُنَاكَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ، وَهُنَا عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَبُولَ الزِّيَادَةِ، مَعَ أَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةُ ثِقَةٍ‏.‏

وَإِلَى الِاسْتِشْكَالِ أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا بَعْدَ الْحِكَايَةِ عَنِ الْخَطِيبِ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَقَدْ قَدَّمْنَا- أَيْ‏:‏ عَنِ الْخَطِيبِ- حِكَايَةً عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِإِلْزَامِهِمْ مُقَابِلَهُ؛ لِكَوْنِهِ رَجَّحَهُ هُنَاكَ‏.‏

فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ‏:‏ ‏(‏وَرُدَّ‏)‏ أَيْ‏:‏ تَقْدِيمُ الْإِرْسَالِ بِـ ‏(‏أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ تَقْدِيمَهُ ‏(‏قَبُولُ الْوَصْلِ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏إِذْ فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي الْوَصْلِ ‏(‏وَفِي الْجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِي‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلْمُتَّبِعِ‏.‏

وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجِيحِ الْإِرْسَالِ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ‏.‏

وَالْحَقُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مَعَ الْوَاصِلِ، وَأَنَّ الْإِرْسَالَ نَقْصٌ فِي الْحِفْظِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ عَنِ الْخَطِيبِ‏:‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَاكَ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا هُنَا فَعَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، فَالْأَكْثَرِيَّةُ بِالنَّظَرِ لِلْمَجْمُوعِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَكْثَرِيَّةِ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ مَقْبُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ‏.‏

الْأَفْرَادُ

186- الْفَرْدُ قِسْمَانِ فَفَرْدٌ مُطْلَقَا *** وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوذِ سَبَقَا

187- وَالْفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ مَا قَيَّدْتَهُ *** بِثِقَةٍ أَوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ

188- أَوْ عَنْ فُلَانٍ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلْ *** لَمْ يَرْوِهِ عَنْ بَكْرٍ الَّا وَائِلْ

189- لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ إِلَّا ضَمْرَهْ *** لَمْ يَرْوِ هَذَا غَيْرُ أَهْلِ الْبَصْرَهْ

190- فَإِنْ يُرِيدُوا وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهَا *** تَجَوُّزًا فَاجْعَلْهُ مِنْ أَوَّلِهَا

191- وَلَيْسَ فِي أَفْرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ *** ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّهْ

192- لَكِنْ إِذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ *** فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أَطْلَقَهْ

‏[‏تَقْسِيمُ الْأَفْرَادِ إِلَى فَرْدٍ مُطْلَقٍ وَفَرْدٍ نِسْبِيٍّ‏]‏‏:‏ وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ، وَلَكِنْ لَوْ ضُمَّ إِلَى الْمُنْكَرِ وَالشَّاذِّ- كَمَا قَدَّمْنَا- كَانَ أَنْسَبَ‏.‏

‏(‏الْفَرْدُ قِسْمَانِ‏:‏ فَفَرْدٌ‏)‏ يَقَعُ ‏(‏مُطْلَقَا‏)‏ وَهُوَ أَوَّلُهُمَا بِأَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الرَّاوِي الْوَاحِدُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

‏(‏وَحُكْمُهُ‏)‏ مَعَ مِثَالِهِ ‏(‏عِنْدَ‏)‏ نَوْعِ ‏(‏الشُّذُوذِ سَبَقَا، وَالْفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ‏)‏ إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَهُوَ ثَانِيهِمَا وَهُوَ أَنْوَاعٌ ‏(‏مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةٍ أَوْ بَلَدٍ‏)‏ مُعَيَّنٍ؛ كَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ‏(‏ذَكَرْتَهُ‏)‏ صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي التَّمْثِيلُ لَهُمَا ‏(‏أَوْ‏)‏ بِرَاوٍ مَخْصُوصٍ؛ حَيْثُ لَمْ يَرْوِهِ ‏(‏عَنْ فُلَانٍ‏)‏ إِلَّا فُلَانٌ‏.‏

‏[‏أَمْثِلَةُ أَنْوَاعِ الْفَرْدِ النِّسْبِيِّ‏]‏ ‏(‏نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏)‏ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ فِي أَطْرَافِ الْغَرَائِبِ لَهُ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ وَلَدِهِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ

‏(‏لَمْ يَرْوِهِ عَنْ بَكْرٍ الَّا وَائِلْ‏)‏ بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي أَبَاهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ وَائِلٍ غَيْرُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عُيَيَنْةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ- يَعْنِي بِدُونِ وَائِلٍ وَوَلَدِهِ- قَالَ‏:‏ وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ رُبَّمَا دَلَّسَهُمَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ الْمُقْرِئِ، وَصَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَسَمِعْتُهُ مِنْ آخَرَ، وَرَوَاهُ سَهْلُ بْنُ صُقَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِدُونِ بَكْرٍ وَحْدَهُ‏.‏

وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ التَّوَّزِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَجَعَلَ الْوَاسِطَةَ بَدَلَهُمَا زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ‏:‏ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْأَوَّلُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، وَحَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَغَيَّاثُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّحْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ لَهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَالْبُخَارِيِّ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ‏.‏

وَنَحْوُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْكُدْيَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي حَدِيثِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِـ «ق» وَ «اقْتَرَبَتْ» ‏(‏لَمْ يَرْوِهِ‏)‏ أَيِ الْحَدِيثَ ‏(‏ثِقَةٌ الَّا ضَمْرَهْ‏)‏ بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ أَيِ‏:‏ ابْنُ سَعِيدٍ، فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ صَحَابِيِّهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالثِّقَةِ لِرِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ لِاحْتِرَاقِ كُتُبِهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الثَّانِي‏:‏ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابَيْهِ ‏(‏السُّنَنِ‏)‏ وَ‏(‏التَّفَرُّدِ‏)‏ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْهُ، قَالَ‏:‏ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ-‏:‏ ‏(‏لَمْ يَرْوِ هَذَا‏)‏ الْحَدِيثَ ‏(‏غَيْرُ أَهْلِ الْبَصْرَهْ‏)‏؛ فَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ إِنَّهُمْ تَفَرَّدُوا بِذِكْرِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْنَادِ إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَشْرَكْهُمْ فِي لَفْظِهِ سِوَاهُمْ‏.‏

وَكَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “ وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ “ سُنَّةٌ غَرِيبَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَهْلُ مِصْرَ، وَلِمَ يَشْرَكْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ‏.‏

وَحَدِيثُ‏:‏ “ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ “، تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ مَرْوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فِي اللُّقَطَةِ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْهُ‏.‏

‏(‏فَإِنْ يُرِيدُوا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَائِلُونَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ ‏(‏وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهَا‏)‏ بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلَدِ وَاحِدًا فَقَطْ وَهُوَ أَكْثَرُ صَنِيعِهِمْ، وَأَطْلَقُوا الْبَلَدَ ‏(‏تَجَوُّزًا‏)‏ كَمَا يُضَافُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلَةٍ إِلَيْهَا مَجَازًا ‏(‏فَاجْعَلْهُ مِنْ أَوَّلِهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ‏.‏

وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ حَبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ الْحَاكِمُ أَهْلَ الْبَلَدِ وَأَرَادَ وَاحِدًا مِنْهُمْ‏.‏

‏(‏وَلَيْسَ فِي أَفْرَادِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ هَذَا الْبَابِ ‏(‏النِّسْبِيَّهْ‏)‏ وَهِيَ أَنْوَاعُ الْقِسْمِ الثَّانِي ‏(‏ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ جِهَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا يَقْتَضِيهِ ‏(‏لَكِنْ إِذَا قَيَّدَ‏)‏ الْقَائِلُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُفَّاظِ ‏(‏ذَاكَ‏)‏ أَيِ التَّفَرُّدَ ‏(‏بِالثِّقَةِ‏)‏ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ إِلَّا فُلَانٌ-‏.‏

‏(‏فَحُكْمُهُ‏)‏ إِنْ كَانَ رَاوِيهِ الَّذِي لَيْسَ بِثِقَةٍ مِمَّنْ بَلَغَ رُتْبَةَ مَنْ يُعْتَبَرُ حَدِيثُهُ ‏(‏يَقْرُبُ مِمَّا أَطْلَقَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ فَكَالْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ كُلًّا رِوَايَةٌ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا مَا يَشْتَرِكُ الْأَوَّلُ مَعَهُ فِيهِ؛ كَإِطْلَاقِ تَفَرُّدِ أَهْلِ بَلَدٍ بِمَا يَكُونُ رَاوِيهِ مِنْهَا وَاحِدًا فَقَطْ‏.‏

وَتَفَرُّدِ الثِّقَةِ بِمَا يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي رِوَايَتِهِ ضَعِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَهِيَ تَفَرُّدُ شَخْصٍ عَنْ شَخْصٍ أَوْ عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ، أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ عَنْ شَخْصٍ أَوْ عَنْ بَلَدٍ أُخْرَى‏.‏

‏[‏مَظَانُّ الْأَفْرَادِ‏]‏ وَصَنَّفَ فِي الْأَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُمَا، وَكِتَابُ الدَّرَاقُطْنِيِّ حَافِلٌ فِي مِائَةِ جُزْءٍ حَدِيثِيَّةٍ، سُمِعَتْ مِنْهُ عِدَّةُ أَجْزَاءٍ‏.‏

وَعَمِلَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ ‏(‏أَطْرَافَهُ‏)‏، وَمِنْ مَظَانِّهَا ‏(‏الْجَامِعُ‏)‏ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي‏.‏

وَرَدَّهُ شَيْخُنَا بِتَصْرِيحِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ بِالتَّفَرُّدِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَا مِنْ مَظَانِّهَا ‏(‏مُسْنَدُ الْبَزَّارِ‏)‏ وَالْمُعْجَمَانِ ‏(‏الْأَوْسَطِ‏)‏ وَ‏(‏الصَّغِيرِ‏)‏ لِلطَّبَرَانِيِّ‏.‏

وَصَنَّفَ أَبُو دَاوُدَ ‏(‏السُّنَنَ‏)‏ الَّتِي تَفَرَّدَ لِكُلِّ سُنَّةٍ مِنْهَا أَهْلُ بَلَدٍ؛ كَحَدِيثِ طَلْقٍ فِي مَسِ الذَّكَرِ، قَالَ‏:‏ إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ تَفَرَّدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ‏.‏

وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْهَضُ بِهِ إِلَّا مُتَّسِعُ الْبَاعِ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّعَقُّبُ فِي دَعْوَى الْفَرْدِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ نَفْسِ مُدَّعِيهَا الْمُتَابِعِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْجَزْمُ بِالتَّعَقُّبِ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفِ السِّيَاقُ، أَوْ يَكُونُ الْمُتَابِعُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِهِ؛ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِطْلَاقِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ إِذَا قِيلَ فِي حَدِيثٍ‏:‏ تَفَرَّدَ بِهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدًا مُطْلَقًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ خَاصَّةً، وَيَكُونَ مَرْوِيًّا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ، وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ‏)‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏ قَوْلُهُمْ‏:‏ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ فُلَانٍ، جَوَّزَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي “ غَيْرِ “ الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ‏.‏

الْمُعَلَّلُ

193- وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُولُ *** مُعَلَّلًا، وَلَا تَقُلْ‏:‏ مَعْلُولُ

194- وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ طَرَتْ *** فِيهَا غُمُوضٌ وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ

195- تُدْرَكُ بِالْخِلَافِ وَالتَّفَرُّدِ *** مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ يَهْتَدِي

196- جَهْبَذُهَا إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى *** تَصْوِيبِ إِرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلَا

197- أَوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ أَوْ مَتْنٍ دَخَلْ *** فِي غَيْرِهِ، أَوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ

198- ظَنَّ فَأَمْضَى، أَوْ وَقَفَ فَأَحْجَمَا *** مِعْ كَوْنِهِ ظَاهِرُهُ أَنْ سَلِمَا

199- وَهْيَ تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ *** تَقْدَحُ فِي الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ

200- أَوْ وَقْفٍ مَرْفُوعٍ وَقَدْ لَا تَقْدَحُ *** كَالْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ صَرَّحُوا

201- بِوَهْمِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ أَبْدَلَا *** عَمْرًا بِعَبْدِ اللَّهِ حِينَ نَقَلَا

202- وَعِلَّةُ الْمَتْنِ كَنَفْيِ الْبَسْمَلَهْ *** إِذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَهَا فَنَقَلَهْ

203- وَصَحَّ أَنَّ أَنَسًا يَقُولُ لَا *** أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا

204- وَكَثُرَ التَّعْلِيلُ بِالْإِرْسَالِ *** لِلْوَصْلِ إِنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ

205- وَقَدْ يُعِلُّونَ بِكُلِّ قَدْحِ *** فِسْقٍ وَغَفْلَةٍ وَنَوْعِ جَرْحِ

206- وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ *** لِغَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ

207- يَقُولُ مَعْلُولٌ صَحِيحٌ كَالَّذِي *** يَقُولُ‏:‏ صَحَّ مَعْ شُذُوذٍ احْتَذِي

208- وَالنَّسْخَ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ *** فَإِنْ يُرِدْ فِي عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ

وَفِيهِ تَصَانِيفُ عِدَّةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَدَبِ الطَّالِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْفَرْدِ الشَّامِلِ لِلشَّاذِّ ظَاهِرَةٌ؛ لِاشْتِرَاطِ الْجُمْهُورِ نَفْيَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَلِاشْتِرَاطِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي كَثِيرٍ‏.‏

‏[‏التَّعْرِيفُ بِالْمُعَلَّلِ، وَالْبَحْثُ عَنْ مَادَّةِ الْمَعْلُولِ‏]‏ ‏(‏وَسَمِّ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏(‏مَا‏)‏ هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ ‏(‏بِعِلَّةٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ خَفِيَّةٍ مِنْ عِلَلِهِ الْآتِيَةِ فِي سَنَدِهِ أَوْ مَتْنِهِ ‏(‏مَشْمُولٌ مُعَلَّلًا‏)‏ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ‏(‏وَلَا تَقُلْ‏)‏ فِيهِ‏:‏ هُوَ ‏(‏مَعْلُولٌ‏)‏، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَخَلْقٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا‏.‏

وَكَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ؛ حَيْثُ قَالُوا‏:‏ الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي الْمُتَقَارِبِ مِنَ الْعَرُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ مَنْ عَلَّهُ بِالشَّرَابِ أَيْ‏:‏ سَقَاهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى‏.‏

وَمِنْهُ “ مِنْ جَزِيلِ عَطَائِكَ الْمَعْلُولِ “ إِلَّا أَنَّ مِمَّا يُسَاعِدُ صَنِيعَ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمُ اسْتِعْمَالَ الزَّجَّاجِ اللُّغَوِيِّ لَهُ، وَقَوْلَ ‏(‏الصِّحَاحِ‏)‏‏:‏ عَلَّ الشَّيْءُ فَهُوَ مَعْلُولٌ يَعْنِي مِنَ الْعِلَّةِ، وَنَصَّ جَمَاعَةٌ كَابْنِ الْقُوطِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ عَلَّ الْإِنْسَانُ عِلَّةً مَرِضَ، وَالشَّيْءُ أَصَابَتْهُ الْعِلَّةُ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى شَيْخُنَا كِتَابَهُ الزَّهْرَ الْمَطْلُولَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْلُولِ‏.‏

وَلَكِنَّ الْأَعْرَفَ أَنَّ فِعْلَهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمَزِيدِ، تَقُولُ‏:‏ أَعَلَّهُ اللَّهُ فَهُوَ مُعَلٌّ، وَلَا يُقَالُ‏:‏ مُعَلَّلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ عَلَّلَهُ بِمَعْنَى أَلَّهَاهُ بِالشَّيْءِ وَشَغَلَهُ بِهِ، وَمِنْهُ تَعْلِيلُ الصَّبِيِّ بِالطَّعَامِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَهُ؛ حَيْثُ يَقُولُونَ‏:‏ عَلَّلَهُ فُلَانٌ، فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ‏.‏

‏[‏التَّعْرِيفُ بِالْعِلَّةِ الْخَفِيَّةِ وَأَمْثِلَتُهَا‏]‏ ‏(‏وَهِيَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ ‏(‏عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ‏)‏ بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ لُغَةً‏:‏ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَاصْطِلَاحًا‏:‏ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ‏.‏

‏(‏طَرَتْ‏)‏ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا أَيْ‏:‏ طَلَعَتْ، بِمَعْنَى ظَهَرَتْ لِلنَّاقِدِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهَا ‏(‏فِيهَا‏)‏ أَيْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ ‏(‏غُمُوضٌ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَدَمُ وُضُوحٍ ‏(‏وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ‏)‏ أَيْ‏:‏ قَدَحَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ فِي قَبُولِهِ‏.‏

‏(‏تُدْرَكُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَسْبَابُ بَعْدَ جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَالْفَحْصِ عَنْهَا ‏(‏بِالْخِلَافِ‏)‏ مِنْ رَاوِي الْحَدِيثِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ عَلَيْهِ ‏(‏وَ‏)‏ بِـ ‏(‏التَّفَرُّدِ‏)‏ بِذَلِكَ وَعَدَمِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ ‏(‏مَعَ قَرَائِنَ‏)‏ قَدْ يَقْصُرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا ‏(‏تُضَمُّ‏)‏ لِذَلِكَ ‏(‏يَهْتَدِي‏)‏ بِمَجْمُوعِهِ ‏(‏جِهْبِذُهَا‏)‏ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيِ الْحَاذِقُ فِي النَّقْدِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا كُلُّ مُحَدِّثٍ ‏(‏إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى تَصْوِيبٍ إِرْسَالٍ‏)‏ يَعْنِي خَفِيٍّ وَنَحْوِهِ ‏(‏لِمَا قَدْ وُصِلَا‏)‏‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ تَصْوِيبِ ‏(‏وَقْفِ مَا‏)‏ كَانَ ‏(‏يُرْفَعُ أَوْ‏)‏ تَصْوِيبِ فَصْلِ ‏(‏مَتْنٍ‏)‏ أَوْ بَعْضِ مَتْنٍ ‏(‏دَخَلَ‏)‏ مُدْرَجًا ‏(‏فِي‏)‏ مَتْنٍ ‏(‏غَيْرِهِ‏)‏ وَكَذَا بِإِدْرَاجِ لَفْظَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ فِيهِ‏.‏

‏(‏أَوِ‏)‏ اطِّلَاعِهِ عَلَى ‏(‏وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ‏)‏ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ؛ كَإِبْدَالِ رَاوٍ ضَعِيفٍ بِثِقَةٍ كَمَا اتَّفَقَ لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ‏:‏ “ إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ “ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ رَاوِيَهُ غَلِطَ فِي تَسْمِيَتِهِ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَذَاكَ ثِقَةٌ وَابْنُ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ‏.‏

وَكَذَا وَقَعَ لِأَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ الْكُوفِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ؛ حَيْثُ رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَمَّى جَدَّهُ جَابِرًا، فَإِنَّهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ الْمُسَمَّى جَدُّهُ تَمِيمًا، وَالْأَوَّلُ ثِقَةٌ، وَالثَّانِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ‏.‏

‏(‏ظَنَّ‏)‏ الْجِهْبِذُ قُوَّةً مَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ‏(‏فَأَمْضَى‏)‏ الْحُكْمَ بِمَا ظَنَّهُ؛ لِكَوْنِ مَبْنَى هَذَا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ‏(‏أَوْ وَقَفْ‏)‏ بِإِدْغَامِ فَائِهِ فِي فَاءِ ‏(‏فَأَحْجَمَا‏)‏ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، أَيْ‏:‏ كَفَّ عَنِ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِهِ احْتِيَاطًا؛ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ إِعْلَالِهِ بِذَلِكَ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَ ظَنُّ إِعْلَالِهِ أَنْقَصَ، كُلُّ ذَلِكَ ‏(‏مَعَ كَوْنِهِ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْحَدِيثِ الْمُعَلِّ أَوِ الْمُتَوَقَّفِ فِيهِ ‏(‏ظَاهِرُهُ‏)‏ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى الْعِلَّةِ ‏(‏أَنْ سَلِمَا‏)‏ أَيِ السَّلَامَةُ مِنْهَا لِجَمْعِهِ شُرُوطَ الْقَبُولِ الظَّاهِرَةَ، وَلَا يُقَالُ‏:‏ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ؛ إِذْ لَا يَقِينَ هُنَا‏.‏

وَ “ أَنْ “ الْمَصْدَرِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِقَوْلِهِ‏:‏ “ ظَاهِرُهُ “، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، خَبَرًا لِكَوْنِهِ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَلَّلُ أَوِ الْمَعْلُولُ‏:‏ خَبَرٌ ظَاهِرُهُ السَّلَامَةُ اطُّلِعَ فِيهِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَى قَادِحٍ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ مَرْفُوعًا‏:‏ “ مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ “؛ فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إِسْمَاعِيلَ أَبَا سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيَّ رَوَاهُ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ الْبَاهِلِيِّ عَنْ سُهَيْلٍ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ‏:‏ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ التَّابِعِيِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ‏.‏

وَبِذَلِكَ أَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَضَى لِوُهَيْبٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا بِسَنَدِ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَا نَذْكُرُ لِمُوسَى سَمَاعًا مِنْ سُهَيْلٍ‏)‏، وَكَذَا أَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ سُهَيْلٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ نَسِيَ مِنْ أَجْلِهَا بَعْضَ حَدِيثِهِ، وَوُهَيْبٌ أَعْرَفُ بِحَدِيثِهِ مِنَ ابْنِ عُقْبَةَ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ قَدْ خَفِيَتْ عَلَى مُسْلِمٍ حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُ إِمَامُهُ، وَكَذَا اغْتَرَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ بِظَاهِرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَصَحَّحُوا حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ‏.‏

وَحَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ‏:‏ “ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ “ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ بَعْضَ الثِّقَاتِ رَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَالزُّهْرِيُّ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُعَلٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَافِعًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَالثَّانِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالنَّسَائِيُّ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَجَلَّ مِنْهُ، قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ وَهَذِهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ؛ فَإِنَّ عِكْرِمَةَ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا وُجِدَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، كَانَ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةَ‏.‏

وَاعْتَضَدَ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَتَرَجَّحَ بِهِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ، ثُمَّ فَتَّشْنَا فَبَانَ أَنَّ عِكْرِمَةَ سَمِعَهُ مِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَالِمٍ، فَوَضَحَ أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادٍ مُدَلَّسَةٌ أَوْ مُسَوَّاةٌ‏.‏

وَرَجَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ الِاعْتِضَادُ بِهِ إِلَى الْإِسْنَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ‏.‏

وَكَانَ سَبَبُ حُكْمِهِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَوْنَ سَالِمٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ سَلَكَ الْجَادَّةَ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّحَابِيِّ قِيلَ بَعْدَهُ‏:‏ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ هُنَا بَعْدَ الصَّحَابِيِّ ذِكْرُ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَالْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ- كَانَ ظَنًّا غَالِبًا عَلَى أَنَّ مَنْ ضَبَطَهُ هَكَذَا أَتْقَنُ ضَبْطًا‏.‏

‏[‏عِلَّةُ السَّنَدِ وَأَمْثِلَتُهَا‏]‏‏:‏ ‏(‏وَهِيَ‏)‏ أَيِ الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ ‏(‏تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَقَلِيلًا فِي الْمَتْنِ، فَالَّتِي فِي السَّنَدِ ‏(‏تَقْدَحُ فِي‏)‏ قَبُولِ ‏(‏الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ‏)‏ مُتَّصِلٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ بِـ ‏(‏وَقْفِ مَرْفُوعٍ‏)‏، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ لَازِمٌ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الِاخْتِلَافِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، وَرَاوِيهَا أَرْجَحُ وَلَوْ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ‏.‏

وَكَذَا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ رَاوِيَ الطَّرِيقِ الْفَرْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِمَّنْ فَوْقَهُ مَعَ مُعَاصَرَتِهِ لَهُ؛ كَحَدِيثِ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ تَمِيمٍ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَهُ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَتَمِيمٌ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَيُقَالُ قَبْلَهَا‏.‏

وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، وَتَمِيمٌ مَعَ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَكَانَ انْتِقَالُهُ إِلَيْهَا عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ بِخَفِيِّ الْإِرْسَالِ، وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الضِّيَاءِ مَعَ جَلَالَتِهِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْمُخْتَارَةِ لَهُ؛ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ السَّنَدِ فِي الِاتِّصَالِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاصَرَةِ، وَكَوْنِ أَشْعَثَ، وَابْنِ سِيرِينَ أَخْرَجَ لَهُمَا مُسْلِمٌ‏.‏

‏(‏وَقَدْ لَا تَقْدَحُ‏)‏؛ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقٍ، أَوْ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ ثِقَتَيْنِ ‏(‏كَـ‏)‏ حَدِيثِ ‏(‏الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ‏)‏ الْمَرْوِيِّ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرِ، فَقَدَ ‏(‏صَرَّحُوا‏)‏ أَيِ النُّقَّادُ ‏(‏بِوَهْمِ‏)‏ رَاوِيهِ ‏(‏يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ‏)‏ الطَّنَافِسِيِّ إِذْ ‏(‏أَبْدَلَا عَمْرًا‏)‏ هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ ‏(‏بِعَبْدِ اللَّهِ‏)‏ بْنِ دِينَارٍ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ فِي السَّنَدِ، فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ‏.‏

‏(‏حِينَ نَقَلَا‏)‏ أَيْ‏:‏ رَوَى ذَلِكَ يَعْلَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشَذَّ بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ الثَّوْرِيِّ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ، بَلْ تُوبِعَ الثَّوْرِيُّ، فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ أَفْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ طُرُقَهُ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ خَاصَّةً، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ رُوَاتِهِ عَنْهُ نَحْوَ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏.‏

وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ عَلَى يَعْلَى اتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَتَقَارُبُهُمَا فِي الْوَفَاةِ، وَلَكِنْ عَمْرٌو أَشْهَرُهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثِّقَةِ‏.‏

وَنَظِيرُ هَذَا تَسْمِيَةُ مَالِكٍ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُنْكَرِ- عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ، عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهُ فِي الْمَقْلُوبِ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- أَلْيَقُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْخِلَافُ عَلَى تَابِعِيِّ الْحَدِيثِ؛ كَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ ضَابِطَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ؛ بِأَنْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْآخَرُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا سَلَفَ عِنْدَ الصَّحِيحِ‏.‏

‏[‏عِلَّةُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهَا‏]‏ ‏(‏وَعِلَّةُ الْمَتْنِ‏)‏ الْقَادِحَةُ فِيهِ ‏(‏كَـ‏)‏ حَدِيثِ ‏(‏نَفْيِ‏)‏ قِرَاءَةِ ‏(‏الْبَسْمَلَهْ‏)‏ فِي الصَّلَاةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَنَسٍ ‏(‏إِذْ ظَنَّ رَاوٍ‏)‏ مِنْ رُوَاتِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ أَنَسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ‏:‏ “ صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ “ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ “- ‏(‏نَفْيَهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْبَسْمَلَةِ بِذَلِكَ ‏(‏فَنَقَلَهُ‏)‏ مُصَرِّحًا بِمَا ظَنَّهُ، وَقَالَ‏:‏ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا‏.‏

وَفِي لَفْظِ‏:‏ ‏(‏فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ‏)‏، وَصَارَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَالرَّاوِي لِذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي ظَنِّهِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْأُمِّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ‏:‏ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ قَبْلَ مَا يُقْرَأُ بَعْدَهَا، لَا أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْبَسْمَلَةَ أَصْلًا، وَيَتَأَيَّدُ بِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ‏.‏

وَكَذَا بِحَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ سُئِلَ أَنَسٌ‏:‏ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ‏.‏ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ‏.‏

وَكَذَا صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَازِمِيُّ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو شَامَةَ أَنَّ قَتَادَةَ لَمَّا سَأَلَ أَنَسًا عَنِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الصَّلَاةِ بِأَيِ سُورَةٍ‏؟‏ وَأَجَابَهُ بِـ “ الْحَمْدُ لِلَّهِ “، سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ إِبْهَامَ السَّائِلِ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهِ بِقَتَادَةَ خُصُوصًا وَهُوَ السَّائِلُ أَوَّلًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ قَدْ ‏(‏صَحَّ‏)‏ حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ خَطَأُ النَّافِي ‏(‏أَنَّ أَنَسًا‏)‏ رضِيَ اللَّهُ عنهُ ‏(‏يَقُولُ‏:‏ لَا أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا‏)‏ مِنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِـ “ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ بِبِسمِ اللَّهِ‏؟‏ “‏.‏

وَلَكِنْ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُعَلَّ رِوَايَةُ حُمَيْدٍ خَاصَّةً؛ إِذْ رَفْعُهَا وَهْمٌ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، بَلْ وَمِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْهُ، فَإِنَّهَا فِي سَائِرِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ‏:‏ ‏(‏صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمَ اللَّهِ‏)‏، لَا ذِكْرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ‏.‏

وَكَذَا الَّذِي عِنْدَ سَائِرِ حُفَّاظِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ عَنْهُ، إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ خَاصَّةً، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ مَعِينٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ؛ حَيْثُ قَالَ‏:‏ إِنَّ حُمَيْدًا كَانَ إِذَا رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ‏:‏ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ‏.‏

وَأَمَّا رِوَايَةُ قَتَادَةَ، وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ‏:‏ أَنَّ قَتَادَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ‏.‏‏.‏‏.‏ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ‏:‏ “ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا “، فَلَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِلنَّفْيِ فِيهِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِلَفْظِ‏:‏ “ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ “‏.‏

وَمِمَّنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِهِ شُعْبَةُ، فَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ غُنْدُرٌ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ فِيهِ لِلنَّفْيِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فَقَطْ حَسَبَ مَا وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ‏:‏ “ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ “، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، وَكَذَا الطَّيَالِسِيُّ وَغُنْدَرٌ أَيْضًا بِلَفْظِ‏:‏ “ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ “، بَلْ كَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ غَيْرُ قَتَادَةَ مِنْ أَصْحَابِ أَنَسٍ فَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بِاخْتِلَافٍ عَلَيْهِمَا، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَنَسٍ بِدُونِ نَفْيٍ، وَإِسْحَاقُ وَثَابِتٌ أَيْضًا، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو نَعَامَةَ كُلُّهُمْ عَنْهُ بِاللَّفْظِ النَّافِي لِلْجَهْرِ خَاصَّةً، وَلَفْظُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ‏:‏ “ يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ “‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- مُمْكِنٌ يُحْمَلِ نَفْيِ الْقِرَاءَةِ عَلَى نَفْيِ السَّمَاعِ، وَنَفْيِ السَّمَاعِ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ‏:‏ “ فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ “، وَأَصْرَحُ مِنْهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ‏:‏ “ كَانُوا يُسِرُّونَ بِسْمِ اللَّهِ “، وَبِهَذَا الْجَمْعِ زَالَتْ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ، كَمَا أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ مُكَاتَبَةً، مَعَ كَوْنِ قَتَادَةَ وُلِدَ أَكْمَهَ، وَكَاتِبُهُ مَجْهُولٌ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ- لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ أَنَسٍ‏:‏ لَا أَحْفَظُ-‏:‏ بِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا وَقَدْ تَضَمَّنَ النَّفْيُ عَدَمَ اسْتِحْضَارِ أَنَسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ لِأَهَمِّ شَيْءٍ يَسْتَحْضِرُهُ، وَبِإِمْكَانِ نِسْيَانِهِ حِينَ سُؤَالِ أَبِي مَسْلَمَةَ لَهُ، وَتَذَكُّرِهِ لَهُ بَعْدُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ قَتَادَةَ أَيْضًا سَأَلَهُ‏:‏ أَيَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ بِبَسْمِ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ‏.‏

وَنَحْتَاجُ إِذِ اسْتَقَرَّ مُحَصَّلُ حَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ إِلَى دَلِيلٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَبَاحِثِنَا، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الشَّارِحُ دَلِيلًا‏.‏

وَأَرْشَدَ شَيْخُنَا لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ‏:‏ “ صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقَالَ‏:‏ آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ‏:‏ آمِينَ، وَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ وَإِذَا قَامَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ، يَقُولُ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ‏:‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ‏.‏

وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ ‏(‏الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏)‏، وَلَكِنْ تُعُقِّبَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ‏:‏ أَشْبَهُكُمْ فِي مُعْظَمِ الصَّلَاةِ، لَا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ نُعَيْمٍ بِدُونِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ‏.‏

وَالْخَبَرُ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ سَمَاعُ نُعَيْمٍ لَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَالَ مُخَافَتَتِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ فِي الْفَاتِحَةِ‏:‏ ‏(‏رَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمْ يُكَبِّرْ عِنْدَ الْخَفْضِ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ‏:‏ يَا مُعَاوِيَةُ، سَرَقْتَ الصَّلَاةَ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏؟‏‏!‏ أَيْنَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ‏؟‏‏!‏ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ‏)‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ “ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ سُلْطَانًا عَظِيمَ الْقُوَّةِ شَدِيدَ الشَّوْكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ عِنْدَ كُلِّ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- لَمَا قَدَرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَرْكِهِ “‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدُ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا- يَعْنِي الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَاتِرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ‏.‏

وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ إِيرَادِهِ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ بِـ “ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ “‏:‏ حَدِيثُ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ “ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ “، وَوَافَقَهُ عَلَى تَخْرِيجِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ، بَلْ وَقَالَ التَّرْمِذِيُّ‏:‏ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ‏.‏

وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِحَدِيثِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ “ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ “ الْحَدِيثَ‏.‏

وَهُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ‏:‏ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، رَأَوُا الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ‏.‏

‏[‏أُمُورٌ يُعَلُّ بِهَا الْحَدِيثِ‏]‏‏:‏ ‏(‏وَكَثُرَ‏)‏ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَسَبَ مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْعِلَلِ وَغَيْرِهَا ‏(‏التَّعْلِيلُ‏)‏ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوِ الْإِعْلَالُ كَمَا لِغَيْرِهِ ‏(‏بِالْإِرْسَالِ‏)‏ الظَّاهِرِ ‏(‏لِلْوَصْلِ‏)‏ وَبِالْوَقْفِ لِلرَّفْعِ ‏(‏إِنْ يَقْوَ‏)‏ الْإِرْسَالُ، وَكَذَا الْوَقْفُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ أَضْبَطَ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدًا ‏(‏عَلَى اتِّصَالٍ‏)‏ وَرَفْعٍ، وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَيِّدًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ الْوَصْلِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِهِ- مُنَافٍ لِتَعْرِيفِ الْعِلَّةِ‏.‏

وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَصْدَهُمْ جَمْعُ مُطْلَقِ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً كَانَتْ أَوْ ظَاهِرَةً، لَا سِيَّمَا وَهُوَ يُفِيدُ الْإِرْشَادَ لِبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْ غَيْرِهِ بِجَمْعِ الطُّرُقِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ‏:‏ الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ‏:‏ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي مِائَةُ طَرِيقٍ، فَأَنَا فِيهِ يَتِيمٌ‏.‏ وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْإِرْسَالِ مِنَ الْخَفِيِّ لِخَفَاءِ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ لَهُ غَالِبًا ‏(‏وَقَدْ يُعِلُّونَ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَهْلُ الْحَدِيثِ- كَمَا فِي كُتُبِهِمْ- أَيْضًا الْحَدِيثَ ‏(‏بِكُلِّ قَدْحٍ‏)‏ ظَاهِرٍ ‏(‏فِسْقٍ‏)‏ فِي رَاوِيهِ بِكَذِبٍ أَوْ غَيْرِهِ‏.‏

‏(‏وَغَفْلَةٍ‏)‏ مِنْهُ ‏(‏وَنَوْعِ جَرْحٍ‏)‏ فِيهِ؛ كَسُوءِ حِفْظٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي يَأْبَاهَا أَيْضًا كَوْنُ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً، وَلِذَا صَرَّحَ الْحَاكِمُ بِامْتِنَاعِ الْإِعْلَالِ بِالْجَرْحِ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ الْمَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَلَا يُعَلُّ الْحَدِيثُ إِلَّا بِمَا لَيْسَ لِلْجَرْحِ فِيهِ مَدْخَلٌ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِي قَبْلَهُ قَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَفِيِّ؛ لِخَفَاءِ وُجُودِ طَرِيقٍ آخَرَ يَنْجَبِرُ بِهَا مَا فِي هَذَا مِنْ ضَعْفٍ، فَكَأَنَّ الْمُعَلَّلَ أَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِهِ، وَ “ فِسْقٍ “ وَمَا بَعْدَهُ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ ‏(‏وَمِنْهُمُ‏)‏ بِالضَّمِّ، وَهُوَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ ‏(‏مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ‏)‏ تَوَسُّعًا ‏(‏لِـ‏)‏ شَيْءٍ ‏(‏غَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةٍ‏)‏ ضَابِطٍ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ‏.‏

وَلَا مُرَجِّحَ حَيْثُ ‏(‏يَقُولُ‏)‏ فِي إِرْشَادِهِ‏:‏ إِنَّ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْسَامٍ ‏(‏مَعْلُولٌ صَحِيحٌ‏)‏ وَمُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَيْ لَا عِلَّةَ فِيهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا، أَيْ‏:‏ بِالنَّظَرِ لِلِاخْتِلَافِ فِي اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهَا، وَمَثَّلَ لِأَوَّلِهَا بِحَدِيثِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ “ لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ “، حَيْثُ وَصَلَهُ مَالِكٌ خَارِجَ ‏(‏الْمُوَطَّأِ‏)‏ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْضَلِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ فَقَدْ صَارَ الْحَدِيثُ بِتَبْيِينِ الْإِسْنَادِ- أَيْ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ- صَحِيحًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَيِ‏:‏ اتِّفَاقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ‏.‏

وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنَ الصَّحِيحِ الْمُبَيَّنِ بِحُجَّةٍ ظَهَرَتْ، وَمَا سَلَكَهُ الْخَلِيلِيُّ فِي ذَلِكَ هُوَ ‏(‏كَـ‏)‏ الْحَدِيثِ ‏(‏الَّذِي يَقُولُ‏)‏ فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْحَاكِمِ‏:‏ ‏(‏صَحَّ‏)‏ أَيْ‏:‏ يُصَحِّحُهُ ‏(‏مَعَ شُذُوذٍ‏)‏ فِيهِ مُنَافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلصِّحَّةِ ‏(‏احْتُذِي‏)‏ أَيِ‏:‏ اقْتُدِيَ فِي الْأُولَى بِهَذِهِ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ شَيْخُنَا فِي كَوْنِ الشُّذُوذِ يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ، لَا فِي التَّسْمِيَةِ؛ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا‏.‏

‏(‏وَالنَّسْخَ‏)‏ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ ‏(‏سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ‏)‏ زَادَ النَّاظِمُ ‏(‏فَإِنْ يُرِدْ‏)‏ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ ‏(‏فِي عَمَلٍ‏)‏ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسُوخِ، لَا الْعِلَّةَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ ‏(‏فَاجْنَحْ‏)‏ بِالْجِيمِ ثُمَّ نُونٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ‏:‏ مِلْ ‏(‏لَهُ‏)‏؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الصَّحِيحِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، بَلْ وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً؛ فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِرَادَتُهُ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏ هَذَا النَّوْعُ مِنْ أَغْمَضِ الْأَنْوَاعِ وَأَدَقِّهَا، وَلِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ كَمَا سَلَفَ إِلَّا الْجَهَابِذَةُ أَهْلُ الْحِفْظِ وَالْخِبْرَةِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مِثْلُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَيَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ‏.‏

وَلِخَفَائِهِ كَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ‏:‏ مَعْرِفَتُنَا بِهَذَا كَهَانَةٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ، وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ‏:‏ هِيَ إِلْهَامٌ، لَوْ قُلْتَ لِلْقَيِّمِ بِالْعِلَلِ‏:‏ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا‏؟‏ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ، يَعْنِي يُعَبِّرُ بِهَا غَالِبًا، وَ إِلَّا فَفِي نَفْسِهِ حُجَجٌ لِلْقَوْلِ وَلِلدَّفْعِ‏.‏

وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنِ الْحُجَّةِ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ، ثُمَّ تَسْأَلَ عَنْهُ ابْنَ وَارَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ، وَتَسْمَعَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَّا، وَلَا تُخْبِرَ وَاحِدًا مِنَّا بِجَوَابِ الْآخَرِ، فَإِنِ اتَّفَقْنَا فَاعْلَمْ حَقِّيَّةَ مَا قُلْنَا، وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فَاعْلَمْ أَنَّا تَكَلَّمْنَا بِمَا أَرَدْنَا، فَفَعَلَ، فَاتَّفَقُوا، فَقَالَ السَّائِلُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِلْهَامٌ‏.‏

وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ أَحَادِيثَ، فَقَالَ فِي بَعْضِهَا‏:‏ هَذَا خَطَأٌ، دَخَلَ لِصَاحِبِهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا‏؟‏ أَأَخْبَرَكَ الرَّاوِي بِأَنَّهُ غَلَطٌ أَوْ كَذِبٌ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَا، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ أَتَدَّعِي الْغَيْبَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا ادِّعَاءَ غَيْبٍ، قَالَ‏:‏ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرِي مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنِ اتَّفَقْنَا عَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ‏.‏

فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ وَسَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِعَيْنِهَا فَاتَّفَقَا، فَتَعَجَّبَ السَّائِلُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ‏.‏

فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ‏:‏ أَفَعَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ‏؟‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّكَ تَحْمِلُ دِينَارًا بَهْرَجًا إِلَى صَيْرَفِيٍّ، فَإِنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ بَهْرَجٌ، وَقُلْتَ لَهُ‏:‏ أَكُنْتَ حَاضِرًا حِينَ بُهْرِجَ، أَوْ هَلْ أَخْبَرَكَ الَّذِي بَهْرَجَهُ بِذَلِكَ‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ لَا، وَلَكِنْ عِلْمٌ رُزِقْنَا مَعْرِفَتَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلْتَ إِلَى جَوْهَرِيٍّ فَصَّ يَاقُوتٍ، وَفَصَّ زُجَاجٍ يَعْرِفُ ذَا مِنْ ذَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَنَعْرِفُ سُقْمَهُ وَنَكَارَتَهُ بِتَفَرُّدِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ‏.‏

وَهُوَ- كَمَا قَالَ غَيْرُهُ- أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ رَدُّهُ، وَهَيْئَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلِهَذَا تَرَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُشَارِكُهُمْ وَيَحْذُو حَذْوَهُمْ، وَرُبَّمَا يُطَالِبُهُمُ الْفَقِيهُ أَوِ الْأُصُولِيُّ الْعَارِي عَنِ الْحَدِيثِ بِالْأَدِلِّةِ‏.‏

هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ فِي كُلِّ فَنٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ تَعَاطَى تَحْرِيرَ فَنٍّ غَيْرِ فَنِّهِ فَهُوَ مُتَعَنٍّ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِلَطِيفِ عِنَايَتِهِ أَقَامَ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ رِجَالًا نُقَّادًا تَفَرَّغُوا لَهُ، وَأَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ غَوَامِضِهِ، وَعِلَلِهِ، وَرِجَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَاللِّينِ‏.‏

فَتَقْلِيدُهُمْ، وَالْمَشْيُ وَرَاءَهُمْ، وَإِمْعَانُ النَّظَرِ فِي تَوَالِيفِهِمْ، وَكَثْرَةُ مُجَالَسَةِ حُفَّاظِ الْوَقْتِ مَعَ الْفَهْمِ، وَجَوْدَةُ التَّصَوُّرِ، وَمُدَاوَمَةُ الِاشْتِغَالِ، وَمُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ- يُوجِبُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْرِفَةَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏