فصل: فَصْلٌ: (حَكَّمَ اثْنَانِ رَجُلًا صَالِحًا لِلْقَضَاءِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح منتهى الإرادات ***


كتاب‏:‏ القضاء والفتيا

قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَبَدَأَ بِأَحْكَامِهَا قَبْلَهُ لِطُولِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ‏(‏وَهِيَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْفُتْيَا اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَفْتَى يُفْتِي إفْتَاءً ‏(‏تَبَيَّنَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ‏)‏ لِلسَّائِلِ عَنْهُ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَهَابُونَ الْفُتْيَا كَثِيرًا وَيُشَدِّدُونَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَهَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ عَلَى مَنْ يَهْجُمُ عَلَى الْجَوَابِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى فِيهِ وَقَالَ إذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ عَلَى أَنْ يَقُولَهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي حِفْظُ الْأَدَبِ مَعَ الْمُفْتِي وَيُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَلَا يَفْعَلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَوَامّ بِهِ كَإِيمَاءٍ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَقُولُ لَهُ مَا مَذْهَبُ إمَامِك فِي كَذَا أَوْ مَا تَحْفَظُ فِي كَذَا أَوْ أَفْتَانِي فُلَانٌ غَيْرُك بِكَذَا وَكَذَا قُلْت أَنَا وَإِنْ كَانَ جَوَابُك مُوَافِقًا فَاكْتُبْ وَإِلَّا فَلَا تَكْتُبُ لَكِنْ إنْ عَلِمَ مُفْتٍ غَرَضَ سَائِلٍ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ بِغَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلَهُ عِنْدَ هَمٍّ أَوْ ضَجَرٍ أَوْ قِيَامٍ وَنَحْوِهِ وَلَا يُطَالِبُ بِالْحُجَّةِ ‏(‏وَلَا يَلْزَمُ‏)‏ الْمُفْتِيَ ‏(‏جَوَابُ مَا لَمْ يَقَعْ‏)‏ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ‏(‏لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ‏)‏ وَلَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَنْ الصَّحَابَةِ ‏"‏ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ ‏"‏ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ ‏"‏ وَفِي لَفْظٍ ‏{‏إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ذَلِكَ‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يَلْزَمُ جَوَابُ ‏(‏مَا لَا يَحْتَمِلُهُ سَائِلٌ‏)‏ قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيٌّ ‏"‏ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ‏"‏ وَفِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ‏{‏مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ‏}‏‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يَلْزَمُ جَوَابُ ‏(‏مَا لَا نَفْعَ فِيهِ‏)‏ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ ‏"‏ مَنْ سَأَلَك عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ ‏"‏ وَسَأَلَ مُهَنَّا أَحْمَدَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَغَضِبَ وَقَالَ ‏"‏ خُذْ وَيْحَك فِيمَا تَنْتَفِعُ بِهِ وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُحْدَثَةَ وَخُذْ فِيمَا فِيهِ حَدِيثٌ ‏"‏‏.‏

‏(‏وَمَنْ عَدِمَ مُفْتِيًا فِي بَلَدِهِ وَغَيْرِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ‏)‏ مِنْ إبَاحَةٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ وَقْفٍ عَلَى الْخِلَافِ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ تَسَاهُلُ مُفْتٍ‏)‏ فِي الْإِفْتَاءِ لِئَلَّا يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ ‏(‏تَقْلِيدُ مَعْرُوفٍ بِهِ‏)‏ أَيْ التَّسَاهُلُ فِي الْإِفْتَاءِ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ ‏(‏وَيُقَلَّدُ‏)‏ الْمُجْتَهِدُ ‏(‏الْعَدْلُ وَلَوْ مَيْتًا‏)‏ لِبَقَاءِ قَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَكَالْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ بِمَوْتِهِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا ‏(‏وَيُفْتِي مُجْتَهِدٌ فَاسِقٌ نَفْسَهُ‏)‏ فَقَطْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ عَلَى مَا يَقُولُ‏.‏

وَفِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ الصَّوَابُ جَوَازُ اسْتِفْتَاءِ الْفَاسِقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ دَاعِيًا إلَى بِدْعَتِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَجُوزُ أَنْ ‏(‏يُقَلِّدَ عَامِّيٌّ مَنْ ظَنَّهُ عَالِمًا‏)‏ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى أَوْ أَخْرَسَ بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ وَكَذَا مَنْ رَآهُ مُنْتَصِبًا لِلْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ مُعَظَّمًا لِأَنَّهُ دَلِيلُ عِلْمِهِ ‏(‏لَا إنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ‏)‏ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِاحْتِمَالِ فِسْقِهِ‏.‏

قُلْت وَفِيهِ حَرَجٌ كَبِيرٌ خُصُوصًا السَّائِلُ الْغَرِيبُ وَتَقَدَّمَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ‏.‏

‏(‏وَلِمُفْتٍ رَدُّ الْفُتْيَا إنْ‏)‏ خَافَ غَائِلَتَهَا أَوْ ‏(‏كَانَ بِالْبَلَدِ‏)‏ أَهْلٌ لِلْفُتْيَا ‏(‏عَالِمٌ قَائِمٌ مَقَامَهُ‏)‏ لِفِعْلِ السَّلَفِ وَلِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْإِفْتَاءِ إذَنْ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَكُنْ بِالْبَلَدِ عَالِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ ‏(‏لَمْ يَجُزْ‏)‏ لَهُ رَدُّ الْفُتْيَا لِتَعَيُّنِهَا عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏كَ‏)‏ مَا لَا يَجُوزُ ‏(‏قَوْلُ حَاكِمٍ لِمَنْ ارْتَفَعَ إلَيْهِ‏)‏ فِي حُكُومَةٍ ‏(‏امْضِ إلَى غَيْرِي‏)‏ وَلَوْ كَانَ بِالْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ لِأَنَّ تَدَافُعَ الْحُكُومَاتِ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ‏)‏ عَلَى مُفْتٍ ‏(‏إطْلَاقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ‏)‏ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إجْمَاعًا ‏(‏فَمَنْ سُئِلَ أَيُؤْكَلُ‏)‏ أَوْ يُشْرَبُ أَوْ نَحْوُهُ ‏(‏بِرَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ‏)‏ الْفَجْرُ ‏(‏الْأَوَّلُ أَوْ‏)‏ الْفَجْرُ ‏(‏الثَّانِي‏)‏ وَمِثْلُهُ مَا اُمْتُحِنَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ وَجَحَدَهُ هَلْ لَهُ أُجْرَةٌ إنْ عَادَ وَسَلَّمَهُ لِرَبِّهِ فَقَالَ إنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ جُحُودِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ قَصَرَهُ لِنَفْسِهِ وَمِثْلُهُ مَنْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ رِطْلِ تَمْرٍ بِرِطْلِ تَمْرٍ هَلْ يَصِحُّ‏؟‏ وَجَوَابُهُ إنْ تَسَاوَيَا كَيْلًا صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ وَمِثْلُهُ شُرُوطُ إرْثٍ وَمَوَانِعُهُ وَنَحْوُهَا وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِخَطِّ الْمُفْتِي لِإِمْلَائِهِ وَتَهْذِيبِهِ‏.‏

‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ الْمُفْتِي ‏(‏تَخْيِيرُ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مُخَالِفِهِ‏)‏ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏وَيَتَخَيَّرُ‏)‏ مُسْتَفْتٍ ‏(‏وَإِنْ لَمْ يُخَيِّرْهُ‏)‏ مُفْتٍ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلٍ مُعَيَّنٍ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَجُوزُ ‏(‏لِمَنْ يَنْتَسِبُ لِمَذْهَبِ إمَامٍ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ‏)‏ لِإِمَامَةٍ أَوْ وَجْهَيْنِ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِحَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَوْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فَيَعْمَلُ بِهِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مُفْتِيًا‏)‏ وَاحِدًا ‏(‏لَزِمَ أَخْذُهُ بِقَوْلِهِ‏)‏ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ حَاكِمٌ‏.‏

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ ‏(‏وَكَذَا مُلْتَزَمُ قَوْلِ مُفْتٍ وَثَمَّ غَيَّرَهُ‏)‏ قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ لَوْ أَفْتَى الْمُقَلِّدَ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَعَمِلَ بِهِ الْمُقَلِّدُ لَزِمَهُ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا إجْمَاعًا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ هَذَا الْأَشْهَرُ‏.‏

‏(‏وَيَجُوزُ تَقْلِيدُ مَفْضُولٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ‏)‏ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ‏.‏

وَفِيهِ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَانَ الْمَفْضُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ يُفْتِي مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ بِلَا نَكِيرٍ خُصُوصًا وَالْعَامِّيُّ يَقْصُرُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ‏.‏

وَقَدْ ذَمَّ تَعَالَى التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَهِيَ فِيمَا يُطْلَبُ لِلْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ فِي الْفُرُوعِ‏.‏

‏(‏وَالْقَضَاءُ‏)‏ لُغَةً إحْكَامُ الشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ‏}‏ وَبِمَعْنَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ‏}‏ أَيْ‏:‏ أَمْضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا وَسُمِّيَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا لِأَنَّهُ يُمْضِي الْأَحْكَامَ وَيُحْكِمُهَا أَوْ لَا يُجَابِهُ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ‏.‏

وَاصْطِلَاحًا ‏(‏تَبَيُّنُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ‏(‏وَالْإِلْزَامُ بِهِ وَفَصْلُ الْحُكُومَاتِ‏)‏ أَيْ الْخُصُومَاتِ‏.‏

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى‏}‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَصْبِ الْقَضَاءِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ ‏(‏وَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَضَاءُ ‏(‏فَرْضُ كِفَايَةٍ‏)‏ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ ‏(‏كَالْإِمَامَةِ‏)‏ وَالْجِهَادِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ الْحَقَّ فِيهِ وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُهَا دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ وَإِنَّمَا فَسَدَ حَالُ بَعْضِهِمْ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ بِهَا وَمِنْ فِعْلِ مَا يُمَكِّنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ ‏(‏فَ‏)‏ يَجِبُ ‏(‏عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَ بِكُلِّ إقْلِيمٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَحَدُ الْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ ‏(‏قَاضِيًا‏)‏ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْإِمَامِ تَوَلِّي الْخُصُومَاتِ وَالنَّظَرِ فِيهَا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَلِئَلَّا تَضِيعَ الْحُقُوقُ بِتَوَقُّفِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ عَلَى السَّفَرِ لِلْإِمَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَكُلْفَةِ النَّفَقَةِ‏.‏

وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْقُضَاةَ لِلْأَمْصَارِ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا أَيْضًا وَوَلَّى عُمَرُ شُرَيْحًا قَضَاءَ الْكُوفَةِ وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ يَأْمُرُهُمَا بِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ فِي الشَّامِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ ‏(‏يَخْتَارَ لِذَلِكَ‏)‏ أَيْ‏:‏ نَصْبِ الْقُضَاةِ ‏(‏أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُ عِلْمًا وَوَرَعًا‏)‏ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَحَرِّي الْأَصْلَحِ لَهُمْ ‏(‏وَيَأْمُرُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْإِمَامُ إذَا وَلَّاهُ ‏(‏بِالتَّقْوَى‏)‏ لِأَنَّهَا رَأْسُ الْأَمْرِ وَمِلَاكُهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَأْمُرُهُ ‏(‏بِتَحَرِّي الْعَدْلِ‏)‏ أَيْ‏:‏ إعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ بِلَا مَيْلٍ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَضَاءِ ‏(‏وَ‏)‏ يَأْمُرُهُ ‏(‏أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي كُلِّ صُقْعٍ‏)‏ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ‏:‏ نَاحِيَةٌ مِنْ عَمَلِهِ ‏(‏أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُهُمْ‏)‏ عِلْمًا وَوَرَعًا لِحَدِيثِ ‏{‏مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ‏.‏

‏(‏وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ‏)‏ لِلْقَضَاءِ ‏(‏إذَا طُلِبَ‏)‏ لَهُ ‏(‏وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ‏)‏ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلَا قُدْرَةَ لِغَيْرِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ إذَنْ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَلِئَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُ النَّاسِ فَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ لَهُ أَوْ وُجِدَ مَوْثُوقٌ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدُّخُولُ فِيهِ ‏(‏إنْ لَمْ يَشْغَلْهُ‏)‏ الدُّخُولُ فِي الْقَضَاءِ ‏(‏عَمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ‏)‏ فَلَا يَلْزَمُهُ إذَنْ الدُّخُولُ فِيهِ لِحَدِيثِ ‏{‏لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ‏}‏ ‏(‏وَمَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ‏)‏ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ‏(‏الْأَفْضَلُ‏)‏ لَهُ ‏(‏أَنْ لَا يُجِيبَ‏)‏ إذَا طُلِبَ لِلْقَضَاءِ؛ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ وَدَفْعًا لِلْخَطَرِ وَاتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ وَالتَّوَقِّي لَهُ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا ‏{‏مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا حُبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يُوقِعَهُ عَلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَى اللَّهِ فَإِنْ قَالَ أَلْقِهِ أَلْقَاهُ فِي مَهْوًى فَهَوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ‏.‏

‏(‏وَكُرِهَ لَهُ طَلَبُهُ‏)‏ أَيْ الْقَضَاءِ ‏(‏إذَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مَعَ وُجُودِ صَالِحٍ لَهُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ‏}‏ ‏"‏ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏إنَّا وَاَللَّهِ لَا نُوَلِّي هَذَا الْعَمَلَ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرِيصًا عَلَيْهِ‏}‏ ‏"‏ ‏(‏وَيَحْرُمُ بَذْلُ مَالٍ فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَضَاءِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ بُذِلَ لَهُ الْمَالُ فِي الْقَضَاءِ ‏(‏أَخْذُهُ‏)‏ وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ ‏(‏طَلَبُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَضَاءِ ‏(‏وَفِيهِ مُبَاشِرٌ أَهْلٌ‏)‏ أَيْ‏:‏ صَالِحٌ لَهُ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَهْلًا فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ لِلْمُبَاشِرِ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرُهُ أَهْلًا جَازَ لِلْأَهْلِ طَلَبُهُ بِلَا مَالٍ وَيَحْرُمُ الدُّخُولُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُهُ وَلَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ شُرُوطُهُ وَالشَّفَاعَةُ لَهُ وَإِعَانَتُهُ عَلَى التَّوْلِيَةِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ‏.‏

‏(‏وَتَصِحُّ تَوْلِيَةُ مَفْضُولٍ‏)‏ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يُوَلَّى مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ وَاشْتُهِرَ وَتَكَرَّرَ وَلَمْ يُنْكَرْ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ تَصِحُّ تَوْلِيَةُ ‏(‏حَرِيصٍ عَلَيْهَا‏)‏ بِلَا كَرَاهَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَصِحُّ ‏(‏تَعْلِيقُ وِلَايَةِ قَضَاءٍ‏)‏ وَتَعْلِيقُ وِلَايَةِ ‏(‏إمَارَةِ‏)‏ بَلَدٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ ‏(‏بِشَرْطٍ‏)‏ نَحْوِ قَوْلِ الْإِمَامِ‏:‏ إنْ مَاتَ فُلَانٌ الْقَاضِي أَوْ الْأَمِيرُ فَفُلَانٌ عِوَضُهُ لِحَدِيثِ ‏"‏ ‏{‏أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ‏}‏‏.‏

‏(‏وَشُرِطَ لِصِحَّتِهَا‏)‏ أَيْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ ‏(‏كَوْنُهَا مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ‏(‏وَأَنْ يَعْرِفَ‏)‏ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي الْقَضَاءِ ‏(‏أَنَّ الْمُوَلَّى‏)‏ بِفَتْحِ اللَّامِ ‏(‏صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ‏)‏ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِصَلَاحِيَتِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ سَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ ‏(‏وَتَعَيَّنَ مَا يُوَلِّيه‏)‏ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي الْقَضَاءِ ‏(‏الْحُكْمَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا يَجْمَعُ بِلَادًا أَوْ قُرًى مُتَفَرِّقَةً كَمِصْرِ وَنَوَاحِيهَا وَبَلَدًا كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِيَعْلَمَ مَحَلَّ وِلَايَتِهِ فَيَحْكُمَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَبَعَثَ عُمَرُ فِي كُلِّ مِصْرٍ قَاضِيًا وَالِيًا ‏(‏وَمُشَافَهَتُهُ بِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْوِلَايَةِ إنْ كَانَ بِمَجْلِسِهِ ‏(‏أَوْ مُكَاتَبَتُهُ‏)‏ بِالْوِلَايَةِ إنْ كَانَ غَائِبًا كَالْوَكَالَةِ فَيَكْتُبُ لَهُ الْإِمَامُ عَهْدًا بِمَا وَلَّاهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ لِلْيَمَنِ وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَمَّا بَعْدُ‏:‏ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْت إلَيْكُمْ عَمَّارًا أَمِيرًا وَعَبْدَ اللَّهِ قَاضِيًا فَاسْمَعُوا لَهُمَا وَأَطِيعُوا ‏(‏وَإِشْهَادُ عَدْلَيْنِ عَلَيْهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ التَّوْلِيَةِ إنْ بَعُدَ مَا وَلَّاهُ فِيهِ عَنْ بَلَدِ الْإِمَامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَيَكْتُبُ الْعَهْدَ وَيَقْرَأُ عَلَى الْعَدْلَيْنِ وَيَقُولُ الْمُوَلِّي لَهُمَا اشْهَدَا عَلَيَّ أَنِّي قَدْ وَلَّيْت فُلَانًا قَضَاءَ كَذَا وَتَقَدَّمْت إلَيْهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْعَهْدُ لِيَمْضِيَ إلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَيُقِيمَا لَهُ الشَّهَادَةَ هُنَاكَ ‏(‏أَوْ اسْتِفَاضَتُهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْوِلَايَةِ ‏(‏إذَا كَانَ بَلَدُ الْإِمَامِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونُ‏)‏ بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ بِحَذْفِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَنِيَّةُ مَعْنَاهُ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي وُلِّيَ فِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ آكَدُ مِنْ‏.‏

الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ وَالْمَوْتُ فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا إلَى الشَّهَادَةِ و‏(‏لَا‏)‏ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ ‏(‏عَدَالَةُ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ‏)‏ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَعَذُّرِ التَّوْلِيَةِ‏.‏

‏(‏وَأَلْفَاظُهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ التَّوْلِيَةِ ‏(‏الصَّرِيحَةُ سَبْعَةٌ‏:‏ وَلَّيْتُك الْحُكْمَ وَقَلَّدْتُك‏)‏ الْحُكْمَ ‏(‏وَفَوَّضْت‏)‏ إلَيْك الْحُكْمَ ‏(‏وَرَدَدْت‏)‏ إلَيْكَ الْحُكْمَ ‏(‏وَجَعَلْت إلَيْكَ الْحُكْمَ وَاسْتَخْلَفْتُك‏)‏ فِي الْحُكْمِ ‏(‏وَاسْتَنْبَتُك فِي الْحُكْمِ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ أَحَدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ ‏(‏وَقَبِلَ مُوَلًّى‏)‏ بِفَتْحِ اللَّامِ ‏(‏حَاضِرٌ بِالْمَجْلِسِ‏)‏ انْعَقَدَتْ الْوِلَايَةُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ‏(‏أَوْ‏)‏ قَبِلَ التَّوْلِيَةَ ‏(‏غَائِبٌ‏)‏ عَنْ الْمَجْلِسِ ‏(‏بَعْدَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَعْدَ بُلُوغِ الْوِلَايَةِ بِهِ ‏(‏أَوْ شَرَعَ الْغَائِبُ فِي الْعَمَلِ انْعَقَدَتْ‏)‏ لِدَلَالَةِ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ عَلَى الْقَبُولِ كَالْوَكَالَةِ ‏(‏وَالْكِنَايَةُ‏)‏ مِنْ أَلْفَاظِ التَّوْلِيَةِ ‏(‏نَحْوُ اعْتَمَدْت‏)‏ عَلَيْك ‏(‏أَوْ عَوَّلْت عَلَيْك أَوْ وَكَّلْت‏)‏ إلَيْكَ ‏(‏أَوْ اسْتَنَدْت إلَيْكَ لَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ بِهَا‏)‏ أَيْ الْكِنَايَةِ ‏(‏إلَّا بِقَرِينَةٍ نَحْوُ فَاحْكُمْ‏)‏ أَوْ اقْضِ فِيهِ ‏(‏أَوْ فَتَوَلَّ مَا عَوَّلْت عَلَيْك فِيهِ‏)‏ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الْوِلَايَةَ وَغَيْرَهَا كَالْأَخْذِ بِرَأْيِهِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَنْصَرِفُ إلَى التَّوْلِيَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ تَنْفِي الِاحْتِمَالَ‏.‏

‏(‏وَإِنْ قَالَ‏)‏ مَنْ لَهُ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ ‏(‏مَنْ نَظَرَ فِي الْحُكْمِ فِي بَلَدِ كَذَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَدْ وَلَّيْته لَمْ تَنْعَقِدْ‏)‏ الْوِلَايَةُ ‏(‏لِمَنْ نَظَرَ لِجَهَالَتِهِ‏)‏ حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ بِالْوِلَايَةِ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ بِعْتُك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ ‏(‏وَإِنْ قَالَ وَلَّيْت فُلَانًا وَفُلَانًا فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمَا فَهُوَ خَلِيفَتِي انْعَقَدَتْ‏)‏ الْوِلَايَةُ ‏(‏لَهُمَا‏)‏ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ وَلَّيْت فُلَانًا وَفُلَانًا ‏(‏وَيَتَعَيَّنُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا‏)‏ بِالنَّظَرِ بِقَوْلِهِ مَنْ نَظَرَ مِنْهُمَا فَهُوَ خَلِيفَتِي‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ما تفيده ولاية القضاء‏]‏

وَتُفِيدُ وِلَايَةُ حُكْمٍ عَامَّةٍ أَيْ لَمْ تُفِدْ بِحَالٍ دُونَ أُخْرَى ‏(‏النَّظَرَ فِي أَشْيَاءَ وَالْإِلْزَامَ بِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ بِأَشْيَاءَ وَهِيَ ‏(‏فَصْلُ الْحُكُومَةِ وَأَخَذَ الْحَقِّ‏)‏ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ ‏(‏وَدَفْعُهُ لِرَبِّهِ وَالنَّظَرُ فِي مَالِ يَتِيمٍ وَ‏)‏ مَالِ ‏(‏مَجْنُونٍ وَ‏)‏ مَالِ ‏(‏سَفِيهٍ‏)‏ لَا وَلِيَّ لَهُمْ غَيْرُهُ ‏(‏وَ‏)‏ مَالِ ‏(‏غَائِبٍ وَالْحَجْرُ لِسَفَهٍ وَ‏)‏ وَالْحَجْرُ ‏(‏لِفَلَسٍ وَالنَّظَرُ فِي وُقُوفِ عَمَلِهِ لِتَجْرِيَ عَلَى شَرْطِهَا وَ‏)‏ النَّظَرُ ‏(‏فِي مَصَالِحِ طُرُقِ عَمَلِهِ وَأَفْنِيَتِهِ‏)‏ جَمْعُ فِنَاءٍ مَا اتَّسَعَ أَمَامَ دُورِ عَمَلِهِ ‏(‏وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا وَتَزْوِيجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا‏)‏ مِنْ النِّسَاءِ ‏(‏وَتَصَفُّحُ‏)‏ حَالِ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ لِيَسْتَبْدِلَ بِمَنْ ‏(‏يُثْبِتُ جَرَّ حَدٍّ وَإِقَامَةَ حَدٍّ وَ‏)‏ إقَامَةَ ‏(‏إمَامَةِ جُمُعَةٍ وَ‏)‏ إمَامَةِ ‏(‏عِيدٍ مَا لَمْ يُخَصَّا بِإِمَامٍ‏)‏ فَيُقِيمُهَا عَمَلًا عَلَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ ‏(‏وَجِبَايَةُ خَرَاجٍ وَ‏)‏ جِبَايَةُ ‏(‏زَكَاةٍ مَا لَمْ يُخَصَّا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْخَرَاجُ وَالزَّكَاةُ ‏(‏بِعَامِلٍ‏)‏ يَجْبِيهِمَا كَالْأَذَانِ و‏(‏لَا‏)‏ تُفِيدُ وِلَايَةُ ‏(‏حُكْمِ الِاحْتِسَابِ عَلَى الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ وَإِلْزَامُهُمْ بِالشَّرْعِ‏)‏ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِتَوَلِّي الْقَاضِي لِذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏طَلَبُ رِزْقٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ وَأُمَنَائِهِ وَحُلَفَائِهِ‏)‏ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ‏"‏ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَفَرَضَ لَهُ رِزْقًا وَرَزَقَ شُرَيْحًا فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَعَثَ إلَى الْكُوفَةِ عَمَّارًا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَرِزْقُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ شَاةٍ نِصْفُهَا لِعَمَّارٍ وَنِصْفُهَا لِابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ ‏"‏ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَاضِيَهُمْ وَمُعَلِّمَهُمْ وَكَتَبَ إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الشَّامِ أَنْ اُنْظُرَا رِجَالًا مِنْ صَالِحِي مَنْ قَبْلَكُمْ فَاسْتَعْمِلُوهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ وَأَوْسِعُوا عَلَيْهِمْ وَارْزُقُوهُمْ وَاكْفُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى ‏"‏ ‏(‏حَتَّى مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْفَرْضُ لَهُمْ لَتَعَطَّلَ الْقَضَاءُ وَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ فَرَضُوا لَهُ رِزْقًا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ‏.‏

‏(‏فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَاضِي ‏(‏شَيْءٌ‏)‏ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ‏(‏وَلَيْسَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ‏)‏ وَيَكْفِي عِيَالَهُ ‏(‏وَقَالَ لِلْخَصْمَيْنِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا إلَّا بِجُعْلٍ جَازَ‏)‏ لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ لَا الْأُجْرَةِ قَالَ عُمَرُ لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَخْتَصُّ بِهِ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ أَشْبَهَ الصَّلَاةَ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ أَيْضًا ‏(‏لَا مَنْ تَعَيَّنَ أَنْ يُفْتِيَ وَلَهُ كِفَايَةٌ‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى الْإِفْتَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِأَنْ كَانَ بِالْبَلَدِ عَالِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ جَازَ ‏(‏وَمَنْ أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ‏)‏ مِنْ الْمُفْتِينَ ‏(‏لَمْ يَأْخُذْ‏)‏ مِنْ مُسْتَفْتٍ ‏(‏أُجْرَةً لِفُتْيَاهُ وَلَا لِخَطِّهِ‏)‏ اكْتِفَاءً بِمَا يَأْخُذْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ للإمام أن يولي القاضي عموم النظر في عموم العمل

وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ ‏(‏أَنْ يُوَلِّيَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِيَ ‏(‏عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ‏)‏ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلَادِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَجُوزُ ‏(‏أَنْ يُوَلِّيَهُ خَاصًّا فِي أَحَدِهَا أَوْ‏)‏ خَاصًّا ‏(‏فِيهَا فَيُوَلِّيهِ عُمُومَ النَّظَرِ‏)‏ بِمَحَلَّةٍ خَاصَّةٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ يُوَلِّيهِ ‏(‏خَاصًّا‏)‏ كَعُقُودِ الْأَنْكِحَةِ مَثَلًا ‏(‏بِمَحَلَّةٍ خَاصَّةٍ فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي مُقِيمٍ بِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ ‏(‏وَ‏)‏ فِي ‏(‏طَارِئٍ إلَيْهَا‏)‏ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلِذَلِكَ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ‏(‏فَقَطْ‏)‏ فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ لَيْسَ مُقِيمًا بِهَا وَلَا طَارِئًا إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ ‏(‏لَكِنْ لَوْ أَذِنَتْ لَهُ‏)‏ امْرَأَةٌ ‏(‏فِي تَزْوِيجِهَا‏)‏ وَهُوَ فِي عَمَلِهِ ‏(‏فَلَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصِحَّ‏)‏ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَيْسَتْ فِي وِلَايَتِهِ ‏(‏كَمَا لَوْ أَذِنَتْ لَهُ‏)‏ فِي تَزْوِيجِهَا ‏(‏وَهِيَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ ثُمَّ‏)‏ زَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ ‏(‏دَخَلَتْ إلَى عَمَلِهِ‏)‏ فَلَا يَصِحُّ إذْ لَا أَثَرَ لِإِذْنِهَا بِغَيْرِ عَمَلِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا، إذَنْ كَمَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ إلَى عَمَلِهِ بَعْدَ إذْنِهَا لَهُ‏.‏

‏(‏وَلَا يَسْمَعُ‏)‏ قَاضٍ ‏(‏بَيِّنَةً فِي غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَمَلُهُ ‏(‏مَحَلُّ‏)‏ نُفُوذِ ‏(‏حُكْمِهِ‏)‏ فَمَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمَجْلِسٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ إلَّا فِيهِ وَلَا يَسْمَعُ بَيِّنَةً إلَّا فِيهِ وَلَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ فِي غَيْرِ عَمَلِ قَاضٍ إذَا دَخَلْت فِي عَمَلِهِ فَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي تَزْوِيجِي وَنَحْوِهِ، وَزَوَّجَهَا، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي عَمَلِهِ صَحَّ لِصِحَّةِ تَعْلِيقِ الْإِذْنِ بِالشَّرْطِ كَالْوَكَالَةِ ‏(‏وَتَجِبُ إعَادَةُ الشَّهَادَةِ‏)‏ إذَا سَمِعَهَا فِي غَيْرِ عَمَلِهِ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي عَمَلِهِ ‏(‏كَتَعْدِيلِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْمَعُهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ فَإِنْ سَمِعَهُ فِي غَيْرِهِ أَعَادَهُ فِيهِ كَالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ عَمَلِهِ كَسَمَاعِهِ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ ‏(‏أَوْ يُوَلِّيهِ‏)‏ أَيْ يُوَلِّي الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِيهِ الْقَاضِيَ ‏(‏الْحُكْمَ فِي الْمَدِينَاتِ خَاصَّةً أَوْ‏)‏ يُوَلِّيهِ الْحُكْمَ ‏(‏فِي قَدْرٍ مِنْ الْمَالِ لَا يَتَجَاوَزُهُ أَوْ يَجْعَلُ‏)‏ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِيهِ ‏(‏إلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَاضِي ‏(‏عُقُودَ الْأَنْكِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا‏)‏ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ أَوْ فِي بَلَدٍ خَاصٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ فَمَلَكَ الِاسْتِنَابَةَ فِي جَمِيعِهِ وَبَعْضِهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ كَانَ يَسْتَنِيبُ أَصْحَابَهُ كُلًّا فِي شَيْءٍ، فَوَلِيَ عُمَرُ الْقَضَاءَ وَبَعَثَ عَلِيًّا قَاضِيًا إلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ ‏"‏‏.‏

‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ ‏(‏أَنْ يُوَلِّيَ‏)‏ قَاضِيًا ‏(‏مِنْ غَيْرِ مَذْهَبِهِ‏)‏ فَإِنْ نَهَاهُ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ فَفِي الرِّعَايَةِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ‏.‏

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ‏:‏ وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ ‏(‏قَاضِيَيْنِ فَأَكْثَرَ بِبَلَدٍ‏)‏ وَاحِدٍ ‏(‏وَإِنْ اتَّحَدَ عَمَلُهُمَا‏)‏ لِأَنَّ الْغَرَضُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَإِيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ وَخُلَفَاءَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ ‏(‏وَيُقَدَّمُ قَوْلُ طَالِبٍ‏)‏ إذَا تَنَازَعَ خَصْمَانِ وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْحُكْمَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَيُقَدَّمُ مُدَّعٍ ‏(‏وَلَوْ عِنْدَ نَائِبٍ‏)‏ وَالْآخَرُ عِنْدَ مُسْتَنِيبٍ لِأَنَّ الدَّعْوَى حَقٌّ لِلْمُدَّعِي ‏(‏فَإِنْ اسْتَوَيَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْخَصْمَانِ فِي الطَّلَبِ ‏(‏كَمُدَّعِيَيْنِ اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ مَبِيعٍ بَاقٍ فَأَقْرَبُ الْحَاكِمَيْنِ‏)‏ يُقَدَّمُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى كُلْفَةِ الْمُضِيِّ لِلْأَبْعَدِ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ إنْ اسْتَوَى الْحَاكِمَانِ أَيْضًا فِي الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مِنْ الْحَاكِمَيْنِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ ‏(‏الْقُرْعَةُ‏)‏ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ غَيْرُهَا‏.‏

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءُ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ‏}‏ وَالْحَقُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَطَلَ الشَّرْطُ فَقَطْ ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ إمَامٍ بِعَيْنِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِنْ قَالَ يَعْنِي كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا قَالَ وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِإِمَامِهِ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ أَوْ لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا أَعْلَمَ وَأَتْقَى فَقَدْ أَحْسَنَ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ‏.‏

‏(‏وَإِنْ زَالَتْ وِلَايَةُ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ‏)‏ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏أَوْ عَزَلَ‏)‏ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ ‏(‏الْمُوَلَّى بِفَتْحِهَا مَعَ صَلَاحِيَتِهِ‏)‏ لِلْقَضَاءِ ‏(‏لَمْ تَبْطُلْ وِلَايَتُهُ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ لَا الْإِمَامُ‏)‏ إذْ تَوْلِيَةُ الْإِمَامِ الْقَاضِيَ عَقْدٌ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تَبْطُلْ لِزَوَالِهِ وَلَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهُ كَعُقْدَةِ النِّكَاحِ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَانِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ وَلِمَا فِي عَزْلٍ بِمَوْتِ الْإِمَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَعَطُّلِ الْأَحْكَامِ وَتَوَقُّفِهَا إلَى أَنْ يُوَلَّى الثَّانِي ‏(‏وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَنِيبُ قَاضِيًا فَعَزَلَ نُوَّابَهُ أَوْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ انْعَزَلُوا‏)‏ لِأَنَّهُمْ نُوَّابُهُ كَالْوُكَلَاءِ لَهُ بِخِلَافِ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَاضِيًا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَايَا النَّاسِ وَأَحْكَامُهُمْ عِنْدَهُ وَعِنْدَ نُوَّابِهِ بِالْبُلْدَانِ فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ‏(‏وَكَذَا وَالٍ وَمُحْتَسِبٌ وَأَمِير جِهَادٍ وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ وَمَنْ نُصِّبَ لِجِبَايَةِ مَالٍ‏)‏ كَخَرَاجٍ ‏(‏وَصَرْفِهِ‏)‏ إذَا وَلَّاهُمْ الْإِمَامُ فَلَا يَنْعَزِلُونَ بِعَزْلِهِ وَلَا مَوْتِهِ لِأَنَّهَا عُقُودٌ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

‏(‏وَلَا يَبْطُلُ مَا فَرَضَهُ فَارِضٌ‏)‏ مِنْ نَحْوِ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَأُجْرَةِ مَسْكَنٍ وَخَرَاجٍ وَجِزْيَةٍ وَعَطَاءٍ مِنْ دِيوَانٍ لِمَصْلَحَةٍ ‏(‏فِي الْمُسْتَقْبَلِ‏)‏ إذَا مَاتَ مَنْ فَرَضَهُ أَوْ عُزِلَ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ تَغْيِيرُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ السَّبَبُ‏.‏

‏(‏وَمَنْ عَزَلَ نَفْسَهُ‏)‏ مِنْ إمَامٍ وَقَاضٍ وَوَالٍ وَمُحْتَسِبٍ وَنَحْوِهِمْ ‏(‏انْعَزَلَ‏)‏ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ‏.‏

وَقَالَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ إنْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ و‏(‏لَا‏)‏ يَنْعَزِلُ قَاضٍ ‏(‏بِعَزْلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ‏)‏ لِتَعَلُّقِ قَضَايَا النَّاسِ وَأَحْكَامِهِمْ بِهِ فَيَشُقُّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ‏.‏

‏(‏وَمَنْ أُخْبِرَ بِمَوْتِ‏)‏ نَحْوِ قَاضٍ ‏(‏مُوَلًّى بِبَلَدٍ وَوَلَّى غَيْرَهُ فَبَانَ حَيًّا لَمْ يَنْعَزِلْ‏)‏ وَكَذَا مَنْ أَنْهَى شَيْئًا فَوُلِّيَ بِسَبَبِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ لِأَنَّهَا كَالْمُعَلَّقَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْهَاءِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ فِي شُرُوطِ الْقَاضِي

وَهِيَ عَشَرَةٌ ‏(‏وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ قَاضٍ بَالِغًا عَاقِلًا‏)‏ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ وِلَايَةِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا عَلَى غَيْرِهِ ‏(‏ذَكَرًا‏)‏ لِحَدِيثِ‏:‏ ‏{‏مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً‏}‏ وَلِأَنَّهَا ضَعِيفَةُ الرَّأْي نَاقِصَةُ الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْحُضُورِ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَلَمْ يُوَلِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ امْرَأَةً قَضَاءً ‏(‏حُرًّا‏)‏ كُلُّهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ مَشْغُولٌ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ ‏(‏مُسْلِمًا عَدْلًا وَلَوْ تَائِبًا مِنْ قَذْفٍ‏)‏ نَصًّا فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَجِبُ التَّبْيِينُ عِنْدَ حُكْمِهِ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْفَاسِقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَاضِيًا ‏(‏سَمِيعًا‏)‏ لِأَنَّ الْأَصَمَّ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ ‏(‏بَصِيرًا‏)‏ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُمَيِّزُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا الْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ‏(‏مُتَكَلِّمًا‏)‏ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ وَلَا يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إشَارَتَهُ ‏(‏مُجْتَهِدًا‏)‏ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ‏}‏‏.‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَ اجْتِهَادُهُ ‏(‏فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ لِلضَّرُورَةِ‏)‏ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ وَاخْتَارَ فِي الْإِفْصَاحِ وَالرِّعَايَةِ أَوْ مُقَلِّدًا‏.‏

وَفِي الْإِنْصَافِ قُلْت وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ أَحْكَامُ النَّاسِ انْتَهَى‏.‏

وَفِي الْإِفْصَاحِ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى تَقْلِيدِ كُلٍّ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ وَفِي خُطْبَةِ الْمُغْنِي النِّسْبَةُ إلَى إمَامٍ فِي الْفُرُوعِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمْ‏.‏

رَحْمَةٌ وَاتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ‏(‏فَيُرَاعِي‏)‏ الْمُجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ ‏(‏أَلْفَاظَ إمَامِهِ وَمُتَأَخِّرَهَا وَيُقَلِّدُ كِبَارَ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي كَوْنِ ذَلِكَ لَفْظَ إمَامِهِ فِي الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ أَدْرَى بِهِ ‏(‏وَيَحْكُمُ بِهِ وَلَوْ اعْتَقَدَ خِلَافَهُ‏)‏ لِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الظَّاهِرِ مِنْهُ وَيَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفَتْوَى بِالْهَوَى إجْمَاعًا وَبِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إجْمَاعًا قَالَ شَيْخُنَا ذَكَرَهُ فِي الْفُرُوعِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ هَذِهِ الشُّرُوطُ تُعْتَبَرُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ وَتَجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَيُوَلَّى لِعَدَمٍ أَنْفَعُ الْفَاسِقَيْنِ وَأَقَلُّهُمَا شَرًّا وَأَعْدَلُ الْمُقَلِّدَيْنِ وَأَعْرَفُهُمَا بِالتَّقْلِيدِ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيَّ الْوِلَايَةُ أُنْثَى تَصْغُرُ وَتَكْبُرُ بِوَلِيِّهَا كَمَطِيَّةٍ تَحْسُنُ وَتَقْبُحُ بِمُمْتَطِيهَا فَالْأَعْمَالُ بِالْعُمَّالِ كَمَا أَنَّ النِّسَاءَ بِالرِّجَالِ وَالصُّدُورُ مَجَالِسُ ذَوِي الْكَمَالِ و‏(‏لَا‏)‏ يُشْتَرَطُ ‏(‏كَوْنُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَاضِي ‏(‏كَاتِبًا‏)‏ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا وَهُوَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ الْكِتَابَةُ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ‏(‏وَرِعًا أَوْ زَاهِدًا أَوْ يَقِظًا أَوْ مُثْبِتًا لِلْقِيَاسِ أَوْ حَسَنَ الْخُلُقِ‏)‏ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ‏.‏

‏(‏وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ كَذَلِكَ‏)‏ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ كَالْأَسَنِّ إذَا سَاوَى الشَّابَّ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ‏(‏وَمَا يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً‏)‏ كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى ‏(‏يَمْنَعُهَا دَوَامًا‏)‏ فَيَنْعَزِلُ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَنَحْوِهَا لِفَقْدِ شَرْطِ التَّوْلِيَةِ ‏(‏إلَّا فَقْدَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ‏)‏ وَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ‏)‏ حَتَّى عَمِيَ أَوْ طَرِشَ ‏(‏فَإِنَّ وِلَايَةَ حُكْمِهِ بَاقِيَةٌ فِيهِ‏)‏ لِأَنَّ‏.‏

فَقْدَهُمَا لَيْسَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالْحُكْمُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ فِي حَالٍ يَسْمَعُ فِيهِ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ وَيُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْفِسْقِ وَالْجُنُونِ وَالرِّدَّةِ وَنَحْوِهَا ‏(‏وَيَتَعَيَّنُ عَزْلُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَاضِي ‏(‏مَعَ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ الْقَضَاءَ‏)‏ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَةِ غَيْرِهِ ‏(‏وَيَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى عَبْدٌ إمَارَةَ سَرِيَّةٍ وَقَسْمَ صَدَقَةٍ وَ‏)‏ قَسْمَ ‏(‏فَيْءٍ وَإِمَامَةَ صَلَاةٍ‏)‏ غَيْرَ جُمُعَةٍ وَعِيدٍ ‏(‏وَالْمُجْتَهِدُ‏)‏ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ‏(‏مَنْ يَعْرِفُ مِنْ الْكِتَابِ‏)‏ أَيْ‏:‏ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ ‏(‏السُّنَّةِ‏)‏ أَيْ‏:‏ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏الْحَقِيقَةَ‏)‏ أَيْ‏:‏ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي وَضْعٍ أَوَّلَ ‏(‏وَالْمَجَازَ‏)‏ أَيْ‏:‏ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي غَيْرِ وَضْعٍ أَوَّلَ الْعَلَاقَةِ ‏(‏وَالْأَمْرَ‏)‏ أَيْ‏:‏ اقْتِضَاءَ الطَّلَبِ ‏(‏وَالنَّهْيَ‏)‏ أَيْ‏:‏ اقْتِضَاءَ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ لَا يَقُولُ كُفَّ ‏(‏وَالْمُجْمَلَ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ شَيْءٌ‏.‏

‏(‏وَالْمُبَيَّنَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُخْرَجَ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ الْوُضُوحِ وَالتَّجَلِّي ‏(‏وَالْمُحْكَمَ‏)‏ أَيْ‏:‏ اللَّفْظَ الْمُتَّضِحَ الْمَعْنَى ‏(‏وَالْمُتَشَابِهَ‏)‏ مُقَابِلُهُ أَمَّا الِاشْتِرَاكُ أَوْ ظُهُورُ شَبِيهٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَوَائِلَ السُّوَرِ ‏(‏وَالْعَامَّ‏)‏ مَا دَلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ مُطْلَقًا ‏(‏وَالْخَاصَّ‏)‏ مُقَابِلُهُ ‏(‏وَالْمُطْلَقَ‏)‏ مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ ‏(‏وَالْمُقَيَّدَ‏)‏ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنَى‏.‏

‏(‏وَالنَّاسِخَ‏)‏ أَيْ الرَّافِعُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ‏(‏وَالْمَنْسُوخَ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا نُسِخَ حُكْمُهُ شَرْعًا بَعْدَ ثُبُوتِهِ شَرْعًا ‏(‏وَالْمُسْتَثْنَى‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُخْرَجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا ‏(‏وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ‏)‏ وَيَعْرِفُ ‏(‏صَحِيحَ السُّنَّةِ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا نَقَلَهُ‏.‏

الْعَدْلُ الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلَا عِلَّةٍ قَادِحَةٍ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْحَسَنَ بِدَلِيلِ الْمُقَابَلَةِ ‏(‏وَسَقِيمُهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا لَا تُوجَدُ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ كَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُنْكَرِ وَالشَّاذِّ وَنَحْوِهَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏مُتَوَاتِرَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ مِثْلِهِمْ إلَى انْتِهَاءِ إسْنَادِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِحُصُولِ الْعِلْمِ عَلَى حُصُولِ الْعَدَدِ وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْهُ ضَرُورِيٌّ ‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏آحَادَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ السُّنَّةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا رَاوِيهِ وَاحِدٌ بَلْ مَا لَمْ يَبْلُغْ التَّوَاتُرَ فَهُوَ آحَادٌ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏مُسْنَدَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ السُّنَّةِ أَيْ‏:‏ مَا اتَّصَلَ إسْنَادُهُ مِنْ رَاوِيهِ إلَى مُنْتَهَاهُ وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَرْفُوعِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏الْمُنْقَطِعَ‏)‏ مِنْ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا لَا يَتَّصِلُ سَنَدُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الِانْقِطَاعُ ‏(‏مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ‏)‏ فَقَطْ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ حِفْظُ الْقُرْآنِ بَلْ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ نَقَلَهُ الْمُعْظَمُ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ الصَّوَابَ بِدَلِيلِهِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ وَلِكُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ دَلَالَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ فَوَجَبَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ لِتُعْرَفَ دَلَالَتُهُ وَوَقَفَ الِاجْتِهَادُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفَ فِيهِ‏)‏ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ لِئَلَّا يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَخْرُجُ عَنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَعْضِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏الْقِيَاسَ‏)‏ وَهُوَ رَدُّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ ‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏شُرُوطَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقِيَاسِ لِيَرُدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ إلَى أَصْلِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏كَيْفَ يَسْتَنْبِطُ‏)‏ الْأَحْكَامَ مِنْ أَدِلَّتِهَا وَمَحَلُّ بَسْطِ ذَلِكَ كُتُبُ‏.‏

أُصُولِ الْفِقْهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَعْرِفُ ‏(‏الْعَرَبِيَّةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ‏)‏ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْمُحَرَّرِ وَالْيَمَنِ ‏(‏وَمَا يُوَالِيهِمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَمَنْ يُوَالِي هَذِهِ الْبِلَادَ مِنْ الْعَرَبِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْإِعْرَابُ وَالْأَلْفَاظُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهَا اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصُهَا بِأَحْوَالٍ هِيَ الْإِعْرَابُ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ اللُّغَاتِ لِيَعْرِفَ بِذَلِكَ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَصْنَافِ عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ‏(‏فَمَنْ عَرَفَ أَكْثَرَ ذَلِكَ فَقَدْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ‏)‏ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِذَلِكَ لِشُبْهَةٍ أَوْ إشْكَالٍ لَكِنْ يَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا وَزَادَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي التَّذْكِرَةِ وَيَعْرِفُ الِاسْتِدْلَالَ وَاسْتِصْحَابَ الْحَالِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى إبْطَالِ شُبَهِ الْمُخَالِفِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَذْهَبِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏حَكَّمَ اثْنَانِ رَجُلًا صَالِحًا لِلْقَضَاءِ‏]‏

وَإِنْ حَكَّمَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ ‏(‏اثْنَانِ‏)‏ فَأَكْثَرَ ‏(‏بَيْنَهُمَا‏)‏ رَجُلًا ‏(‏صَالِحًا لِلْقَضَاءِ‏)‏ بِأَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِ الْقَاضِي وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْعَشْرُ صِفَاتٍ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ فِي الْقَاضِي لَا تُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحَكِّمُ الْخَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا ‏(‏نَفَذَ حُكْمُهُ فِي كُلِّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ وَلَّاهُ إمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ‏)‏ لِحَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ ‏{‏‏:‏ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ‏.‏

قَالَ‏:‏ مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَنْ أَكْبَرُ وَلَدِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ شُرَيْحٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ‏}‏ ‏"‏ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا بِهِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَلْعُونٌ‏}‏ ‏"‏ وَتَحَاكَمَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَاضِيًا ‏(‏لَكِنْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُتَحَاكِمَيْنِ ‏(‏الرُّجُوعُ‏)‏ عَنْ تَحْكِيمِهِ ‏(‏قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ‏)‏ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ كَرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ تَصَرُّفِ وَكِيلِهِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ وَلَهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِحُكْمِهِ وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ قَبُولُهُ وَكِتَابُهُ كَكِتَابِ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالرِّضَا بِحُكْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يَجْحَدَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ حُكْمُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ‏.‏

وَفِي عُمَدِ الْأَدِلَّةِ وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى مُتَقَدِّمُو الْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْوَسَاطَاتِ وَالصُّلْحِ عِنْدَ الْغَوْرَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ‏.‏

باب‏:‏ آداب القاضي

الْأَدَبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ يُقَالُ أَدُبَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا أَيْ‏:‏ صَارَ أَدِيبًا فِي خُلُقٍ وَعِلْمٍ ‏(‏وَهُوَ أَخْلَاقُهُ الَّتِي يَنْبَغِي‏)‏ لَهُ ‏(‏التَّخَلُّقُ بِهَا وَالْخُلُقُ‏)‏ بِالضَّمِّ ‏(‏صُورَتُهُ الْبَاطِنَةُ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَوْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ تَأْخُذَ بِهِ نَفْسُهُ أَوْ أَعْوَانُهُ مِنْ الْآدَابِ وَالْقَوَانِينِ الَّتِي تَضْبِطُ أُمُورَ الْقُضَاةِ وَتَحْفَظُهُمْ عَنْ الْمَيْلِ ‏(‏يُسَنُّ كَوْنُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏قَوِيًّا بِلَا عُنْفٍ‏)‏ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ الظَّالِمُ ‏(‏لَيِّنًا بِلَا ضَعْفٍ‏)‏ لِئَلَّا يَهَابَهُ الْمُحِقُّ ‏(‏حَلِيمًا‏)‏ لِئَلَّا يَغْضَبَ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَيَمْنَعُهُ الْحُكْمَ ‏(‏مُتَأَنِّيًا‏)‏ مِنْ التَّأَنِّي وَهُوَ ضِدُّ الْعَجَلَةِ لِئَلَّا تُؤَدِّيَ عَجَلَتُهُ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي ‏(‏مُتَفَطِّنًا‏)‏ لِئَلَّا يُخْدَعَ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ لِغِرَّةٍ قَالَ فِي الشَّرْحِ‏:‏ عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ ‏(‏عَفِيفًا‏)‏ أَيْ‏:‏ كَافًّا نَفْسَهُ عَنْ الْحَرَامِ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِي مَيْلِهِ بِأَطْمَاعِهِ ‏(‏بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْحُكَّامِ قَبْلَهُ‏)‏ لِقَوْلِ عَلِيٍّ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى تَكْمُلَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ‏:‏ عَفِيفٌ حَلِيمٌ عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَتَتَّضِحُ لَهُ طَرِيقُهُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُسَنُّ ‏(‏سُؤَالُهُ إنْ وَلِيَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ عَنْ عُلَمَائِهِ‏)‏ لِيُشَاوِرَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ وَيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى قَضَائِهِ ‏(‏وَ‏)‏ عَنْ ‏(‏عُدُولِهِ‏)‏ لِاسْتِنَادِ أَحْكَامِهِ إلَيْهِمْ وَثُبُوتِ الْحُقُوقِ عِنْدَهُ بِهِمْ فَيَقْبَلُ أَوْ يَرُدُّ مَنْ يَرَاهُ لِذَلِكَ أَهْلًا وَلِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُسَنُّ ‏(‏إعْلَامُهُمْ‏)‏ بِأَنْ يُنْفِذَ عِنْدَ مَسِيرِهِ مَنْ يُعْلِمُهُمْ ‏(‏يَوْمَ دُخُولِهِ‏)‏ الْبَلَدَ ‏(‏لِيَتَلَقَّوْهُ‏)‏ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ لَهُ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمُ لِحِشْمَتِهِ ‏(‏مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَلَقِّيهِ‏)‏ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمَقَامِهِ ‏(‏وَ‏)‏ يُسَنُّ ‏(‏دُخُولُهُ‏)‏ بَلَدًا وَلِيَ الْحُكْمَ فِيهِ ‏(‏يَوْمَ اثْنَيْنِ أَوْ‏)‏ يَوْمَ ‏(‏خَمِيسٍ أَوْ‏)‏ يَوْمَ ‏(‏سَبْتٍ‏)‏ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي الْهِجْرَةِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَكَذَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ ‏"‏ ‏{‏بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي سَبْتِهَا وَخَمِيسِهَا‏}‏ ‏"‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَهَا ‏(‏ضَحْوَةً‏)‏ تَفَاؤُلًا لِاسْتِقْبَالِ الشَّهْرِ ‏(‏لَابِسًا أَجْمَلَ ثِيَابِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَحْسَنَهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْجَمَالَ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏"‏ لِأَنَّهَا مَجَامِعُ النَّاسِ وَهُنَا يَجْتَمِعُ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَسَاجِدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالزِّينَةِ ‏(‏وَكَذَا أَصْحَابُهُ‏)‏ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ لَهُ وَلَهُمْ فِي النُّفُوسِ ‏(‏وَلَا يَتَطَيَّرُ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا يَتَشَاءَمُ ‏(‏وَإِنْ تَفَاءَلَ فَحَسَنٌ‏)‏ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَيَنْهَى عَنْ الطِّيَرَةِ‏.‏

‏(‏فَيَأْتِي الْجَامِعَ فَيُصَلِّيَ‏)‏ فِيهِ ‏(‏رَكْعَتَيْنِ‏)‏ تَحِيَّتَهُ ‏(‏وَيَجْلِسُ مُسْتَقْبِلًا‏)‏ الْقِبْلَةَ لِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ ‏(‏وَيَأْمُرُ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏بِعَهْدِهِ فَيُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ‏)‏ لِيَعْلَمُوا تَوْلِيَتَهُ وَاحْتِفَاظَ الْإِمَامِ عَلَى اتِّبَاعِ الْأَحْكَامِ وَقَدْرَ الْمُوَلَّى بِفَتْحِ اللَّامِ عِنْدَهُ وَحُدُودَ وِلَايَتِهِ وَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَأْمُرُ بِمَنْ يُنَادِيهِمْ بِيَوْمِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ لِيَعْلَمَهُ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فَيَأْتِيَ فِيهِ ‏(‏وَيُقِلُّ مِنْ كَلَامِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ‏)‏ لِلْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ ‏(‏ثُمَّ يَمْضِي إلَى مَنْزِلِهِ‏)‏ الْمُعَدِّ لَهُ لِيَسْتَرِيحَ‏.‏

‏(‏وَيُنْفِذُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَبْعَثُ ثِقَةً ‏(‏لِيَتَسَلَّمَ دِيوَانَ الْحُكْمِ‏)‏ بِكَسْرِ الدَّالِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَهُوَ الدَّفْتَرُ الْمُعَدُّ لِكَتْبِ الْوَثَائِقِ وَالسِّجِلَّاتِ وَالْوَدَائِعِ ‏(‏مِمَّنْ كَانَ قَاضِيًا قَبْلَهُ‏)‏ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ وَهُوَ فِي يَدِ الْحَاكِمِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَقَدْ صَارَتْ إلَيْهِ ‏(‏وَيَأْمُرُ كَاتِبًا ثِقَةً يُثْبِتُ مَا تَسَلَّمَهُ بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ‏)‏ احْتِيَاطًا ‏(‏ثُمَّ يَخْرُجُ يَوْمَ الْوَعْدِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الَّذِي وَعَدَ النَّاسِ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْحُكْمِ ‏(‏بِأَعْدَلِ أَحْوَالِهِ غَيْرَ غَضْبَانَ وَلَا جَائِعٍ وَلَا حَاقِنٍ وَلَا مَهْمُومٍ بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْفَهْمِ‏)‏ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِقَلْبِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ ‏(‏فَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ وَلَوْ صَبِيًّا‏)‏ لِأَنَّهُ إمَّا رَاكِبٌ أَوْ مَاشٍ وَالسُّنَّةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ يُسَلِّمُ ‏(‏عَلَى مَنْ بِمَجْلِسِهِ‏)‏ لِحَدِيثِ ‏"‏ ‏{‏مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ‏}‏ ‏"‏ ‏(‏وَيُصَلِّي إنْ كَانَ بِمَسْجِدٍ تَحِيَّتَهُ‏)‏ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نَهْيٍ كَغَيْرِهِ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَكُنْ مَسْجِدًا ‏(‏خُيِّرَ‏)‏ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَتَرْكِهَا كَسَائِرِ الْمَجَالِسِ ‏(‏وَالْأَفْضَلُ الصَّلَاةُ‏)‏ لِيَنَالَ ثَوَابَهَا ‏(‏وَيَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ نَحْوِهِ‏)‏ يَخْتَصُّ بِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ جُلَسَائِهِ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ لَهُ لِأَنَّهُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَجِبُ فِيهِ إظْهَارُ الْحُرْمَةِ تَعْظِيمًا لِلشَّرْعِ ‏(‏وَيَدْعُو‏)‏ اللَّهَ تَعَالَى ‏(‏بِالتَّوْفِيقِ‏)‏ لِلْحَقِّ ‏(‏وَالْعِصْمَةِ‏)‏ مِنْ زَلَلِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُ مَقَامُ خَطَرٍ وَكَانَ مَنْ دُعَاءِ عُمَرَ اللَّهُمَّ أَرِنِي الْحَقَّ حَقًّا وَوَفِّقْنِي لِاتِّبَاعِهِ وَأَرِنِي الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَوَفِّقْنِي لِاجْتِنَابِهِ ‏(‏مُسْتَعِينًا‏)‏ أَيْ‏:‏ طَالِبًا الْمَعُونَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏مُتَوَكِّلًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مُفَوِّضًا أَمْرَهُ إلَيْهِ ‏(‏وَيَدْعُو سِرًّا‏)‏ لِأَنَّهُ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ ‏(‏وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَأَذَّى‏.‏

فِيهِ بِشَيْءٍ‏)‏ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بَالُهُ بِمَا يُؤْذِيهِ ‏(‏فَسِيحًا كَجَامِعٍ‏)‏ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ وَأَمَّا الْجُنُبُ فَيَغْتَسِلُ وَالْحَائِضُ تُوَكِّلُ أَوْ تَأْتِي الْقَاضِيَ فِي مَنْزِلِهِ ‏(‏وَيَصُونُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَسْجِدَ ‏(‏عَمَّا يُكْرَهُ فِيهِ‏)‏ مِنْ نَحْوِ رَفْعِ صَوْتٍ ‏(‏وَكَدَارٍ وَاسِعَةٍ وَسْطَ الْبَلَدِ إنْ أَمْكَنَ‏)‏ لِتَسْتَوِيَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي الْمُضِيِّ إلَيْهِ‏.‏

‏(‏وَلَا يَتَّخِذُ حَاجِبًا وَلَا بَوَّابًا بِلَا عُذْرٍ إلَّا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ‏)‏ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ‏}‏ ‏"‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلِأَنَّهُمَا رُبَّمَا مَنَعَا ذَا الْحَاجَةِ لِغَرَضِ النَّفْسِ أَوْ غَرَضِ الْحُطَامِ‏.‏

‏(‏وَيُعْرَضُ الْقَصَصُ وَيَجِبُ تَقْدِيمُ سَابِقٍ‏)‏ لِسَبْقِهِ إلَى مُبَاحٍ وَفِي مَعْنَاهُ الْمُعَلِّمُ إذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ الطَّلَبَةُ و‏(‏لَا‏)‏ يُقَدَّمُ سَابِقٌ ‏(‏فِي أَكْثَرَ مِنْ حُكُومَةٍ‏)‏ لِئَلَّا يَسْتَوْعِبَ الْمَجْلِسَ فَيَضُرَّ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي حَكَمَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ الْأَوَّلَ فِي الدَّعْوَى لَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ‏(‏وَيُقْرِعُ‏)‏ بَيْنَهُمْ ‏(‏إنْ حَضَرُوا دَفْعَةً‏)‏ وَاحِدَةً ‏(‏وَتَشَاحُّوا‏)‏ فِي التَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ غَيْرُهَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَجِبُ ‏(‏عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقَاضِي ‏(‏الْعَدْلُ بَيْنَ مُتَحَاكِمَيْنِ‏)‏ تَرَافَعَا إلَيْهِ ‏(‏فِي لَحْظِهِ‏)‏ أَيْ مُلَاحَظَتِهِ ‏(‏وَلَفْظِهِ‏)‏ أَيْ كَلَامِهِ لَهُمَا ‏(‏وَمَجْلِسِهِ وَدُخُولٍ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏فَيَرُدُّ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏وَلَا يَنْتَظِرُ سَلَامَ الثَّانِي‏)‏ لِوُجُوبِ الرَّدِّ فَوْرًا ‏(‏وَإِلَّا الْمُسْلِمُ‏)‏ إذَا تَرَافَعَ إلَيْهِ ‏(‏مَعَ كَافِرٍ فَيُقَدَّمُ‏)‏ الْمُسْلِمُ ‏(‏دُخُولًا‏)‏ عَلَى الْقَاضِي ‏(‏وَيُرْفَعُ جُلُوسًا‏)‏ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ‏}‏ وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ وَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ ‏"‏ وَلِأَنَّهُ إذَا مَيَّزَ أَحَدَهُمَا حَصَرَ الْآخَرِ وَانْكَسَرَ وَرُبَّمَا لَمْ تَقُمْ حُجَّتُهُ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى ظُلْمِهِ‏.‏

‏(‏وَلَا يُكْرَهُ قِيَامُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏لِلْخَصْمَيْنِ‏)‏ فَإِذَا قَامَ لِأَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يَقُومَ لِلْآخَرِ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ أَنْ يُسَارَّ أَحَدَهُمَا أَوْ يُلَقِّنَهُ حُجَّةً أَوْ يُضَيِّفَهُ‏)‏ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ وَكَسْرِ قَلْبِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ أَلَك خَصْمٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ تَحَوَّلْ عَنَّا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَا تُضَيِّفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ‏}‏ ‏(‏أَوْ يُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَدَّعِي إلَّا أَنْ يَتْرُكَ مَا يَلْزَمُ ذِكْرُهُ‏)‏ فِي الدَّعْوَى ‏(‏كَشَرْطِ عَقْدٍ وَ‏)‏ سَبَبِ إرْثٍ و‏(‏نَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ‏)‏ ضَرُورَةً تَحْرِيرًا لِلدَّعْوَى وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَر الْخُصُومِ لَا يَعْلَمُهُ وَلِيَتَّضِح لِلْقَاضِي وَجْهُ الْحُكْمِ‏.‏

‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏أَنْ يَزِنَ‏)‏ عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِخَصْمِهِ ‏(‏وَ‏)‏ لَهُ أَنْ ‏(‏يَشْفَعَ لَهُ‏)‏ عِنْدَ خَصْمِهِ ‏(‏لِيَضَعَ عَنْ خَصْمِهِ شَيْئًا‏)‏ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا‏}‏ وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ‏"‏ أَنَّهُ ‏{‏تَقَاضَى ابْنَ أُبَيٍّ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ فَقُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ‏:‏ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ‏.‏

قَالَ قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ قُمْ فَاقْضِهِ‏}‏‏.‏

رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ ‏(‏لِيُنْظِرَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يُمْهِلَ الْمَدِينَ بِدَيْنِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْوَضْعِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لِلْقَاضِي ‏(‏أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ‏)‏ كَقَوْلِهِ ارْتَشَيْت عَلَيَّ أَوْ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ وَحَبْسٍ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ‏(‏وَلَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ افْتِيَاتَهُ عَلَيْهِ ‏(‏بِبَيِّنَةٍ‏)‏ لِأَنَّ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ جَرْحًا وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَرِيعَةً لِلِافْتِيَاتِ ‏(‏وَ‏)‏ لَهُ ‏(‏أَنْ يَنْتَهِرَهُ إذَا الْتَوَى‏)‏ عَنْ الْحَقِّ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ‏.‏

‏(‏وَيُسَنُّ‏)‏ لِلْقَاضِي ‏(‏أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ وَمُشَاوَرَتُهُمْ فِيمَا يَشْكُلُ‏)‏ إنْ أَمْكَنَ وَسُؤَالُهُمْ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لِيَذْكُرُوا جَوَابَهُمْ وَأَدَاتَهُمْ فِيهَا فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لِاجْتِهَادِهِ وَأَقْرَبُ لِصَوَابِهِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏ قَالَ الْحَسَنُ إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَغَنِيٌّ عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِذَلِكَ الْحَاكِمُ بَعْدَهُ ‏(‏فَإِنْ اتَّضَحَ‏)‏ لَهُ الْحُكْمُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ افْتِيَاتٌ عَلَيْهِ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَتَّضِحْ لَهُ الْحُكْمُ ‏(‏أَخَّرَهُ‏)‏ حَتَّى يَتَّضِحَ ‏(‏فَلَوْ حَكَمَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ لَمْ يَصِحَّ‏)‏ حُكْمُهُ ‏(‏وَلَوْ أَصَابَ الْحَقَّ‏)‏ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏تَقْلِيدُ غَيْرِهِ‏)‏ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ ‏(‏أَعْلَمَ‏)‏ مِنْهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ لَا تُقَلِّدْ أَمْرَك أَحَدًا وَعَلَيْك بِالْأَثَرِ وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَلَا تُقَلِّدْ دِينَكَ الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ عَلَى قَاضٍ ‏(‏الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَان كَثِيرًا‏)‏ لِخَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ‏}‏ ‏"‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَضَبٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ فَهْمَ الْحُكْمِ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَيَحْرُمُ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ ‏(‏حَاقِنٌ أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ‏)‏ فِي شِدَّةِ ‏(‏عَطَشٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ مَلَلٍ أَوْ كَسَلٍ أَوْ نُعَاسٍ أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ‏)‏ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْفِكْرَ الْمُوصِلَ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ غَالِبًا ‏(‏وَإِنْ خَالَفَ‏)‏ وَحَكَمَ وَهُوَ غَضْبَان وَنَحْوُهُ ‏(‏فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ‏)‏ حُكْمُهُ وَإِلَّا لَمْ يَنْفُذْ ‏(‏وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْغَضَبِ وَنَحْوِهِ لِحَدِيثِ مُخَاصَمَةِ الْأَنْصَارِيِّ وَالزُّبَيْرِ فِي الشِّرَاجِ الْحُرَّةِ لَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ‏:‏ ‏"‏ اسْبِقْ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجِدَارِ ‏"‏ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فَلَمْ يَمْنَعْهُ الْغَضَبُ الْحُكْمَ ‏(‏لِأَنَّهُ‏)‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ غَلَطٌ يُقَرُّ‏)‏ أَيْ‏:‏ يُقِرُّهُ اللَّهُ تَعَالَى ‏(‏عَلَيْهِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فِي حُكْمٍ‏)‏ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ، وَقَوْلُهُ فِي حُكْمٍ احْتِرَازٌ عَمَّا وَقَعَ لَمَّا ‏{‏مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ حَالُهُ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ‏:‏ مَا لِنَخْلِكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ‏:‏ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ‏}‏ ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ‏)‏ عَلَى الْحَاكِمِ ‏(‏قَبُولُهُ رِشْوَةً‏)‏ بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ‏"‏ ‏{‏لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِي الْحُكْمِ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ وَزَادَ‏:‏ وَالرَّائِشَ‏.‏

وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْتَشِي لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَوْ يُوقِفَ الْحُكْمَ عَنْ الْحَقِّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ ‏(‏وَكَذَا‏)‏ يَحْرُمُ عَلَى حَاكِمٍ قَبُولُ ‏(‏هَدِيَّةٍ‏)‏ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ‏}‏ ‏"‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا غَالِبًا اسْتِمَالَةُ الْحَاكِمِ لِيَعْتَنِيَ بِهِ فِي الْحُكْمِ فَتُشْبِهُ الرِّشْوَةَ ‏(‏إلَّا‏)‏ الْهَدِيَّةَ ‏(‏مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ فَيُبَاحُ‏)‏ لَهُ أَخْذُهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ إذَنْ ‏(‏كَ‏)‏ مَا يُبَاحُ ‏(‏لِمُفْتٍ‏)‏ أَخْذُ الْهَدِيَّةِ ‏(‏وَرَدُّهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْحَاكِمِ ‏(‏أَوْلَى‏)‏‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْهَا ‏(‏فَإِنْ خَالَفَ‏)‏ الْحَاكِمُ فَأَخَذَ الرِّشْوَةَ أَوْ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حُرِّمَتْ ‏(‏رُدَّتَا لِمُعْطٍ‏)‏ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ أَخَذَهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْمَأْخُوذِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ‏.‏

‏(‏وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏وَشِرَاؤُهُ إلَّا بِوَكِيلٍ لَا يُعْرَفُ بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَنَّهُ وَكِيلُهُ لِئَلَّا يُحَابِيَ وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ ‏(‏وَلَيْسَ لَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏وَلَا لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ‏)‏ لِحَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا ‏"‏ ‏{‏مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا‏}‏ ‏"‏ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التِّجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ لَمْ تُكْرَهْ لَهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصَدَ السُّوقَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ حَتَّى فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَلِوُجُوبِ الْقِيَامِ بِعِيَالِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِوَهْمِ مَضَرَّةٍ‏.‏

‏(‏وَتُسَنُّ لَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشَهَادَةُ الْجَنَائِزِ وَتَوْدِيعُ غَازٍ وَحَاجٍّ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ‏)‏ ذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرَبِ وَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلَهُ حُضُورُ بَعْضِ ذَلِكَ وَتَرْكُ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ بِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالْقُرْبَةِ، بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ فَإِنَّهُ يُرَاعِي فِيهَا حَقَّ الدَّاعِي فَيَنْكَسِرُ فِيهَا قَلْبُ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ إذَا أَجَابَ غَيْرَهُ ‏(‏وَهُوَ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏فِي دَعَوَاتِ‏)‏ الْوَلَائِمِ ‏(‏كَغَيْرِهِ‏)‏؛؛ ‏{‏لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْضُرُهَا وَأَمَرَ بِحُضُورِهَا وَقَالَ‏:‏ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ وَمَتَى كَثُرَتْ وَازْدَحَمَتْ تَرَكَهَا كُلَّهَا ‏(‏وَلَا يُجِيبُ قَوْمًا وَيَدَعُ قَوْمًا بِلَا عُذْرٍ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا عُذْرٌ كَمُنْكَرٍ أَوْ بُعْدِ مَكَان أَوْ اشْتَغَلَ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا دُونَ الْأُخْرَى أَجَابَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِهَا‏.‏

‏(‏وَيُوصِي‏)‏ الْقَاضِي وُجُوبًا ‏(‏الْوُكَلَاءَ وَالْأَعْوَانَ بِبَابِهِ بِالرِّفْقِ بِالْخُصُومِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ‏)‏ لِئَلَّا يَضُرُّوا بِالنَّاسِ ‏(‏وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونُوا شُيُوخًا أَوْ كُهُولًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ‏)‏، لِيَكُونُوا أَقَلَّ شَرًّا، فَإِنَّ الشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ وَالْحَاكِمُ تَأْتِيهِ النِّسَاءُ وَفِي اجْتِمَاعِ الشَّبَابِ بِهِنَّ مَفْسَدَةٌ‏.‏

‏(‏وَيُبَاحُ‏)‏ لِقَاضٍ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ‏:‏ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ ‏(‏أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا‏)‏؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرَهُمَا‏}‏ وَلِكَثْرَةِ اشْتِغَالِ الْحَاكِمِ بِنَفْسِهِ وَنَظَرِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ ‏(‏وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ كَاتِبِ الْقَاضِي ‏(‏مُسْلِمًا‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏ وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لَا تُؤَمِّنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ ‏(‏عَدْلًا‏)‏؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ أَمَانَةٍ، ‏(‏وَيُسَنُّ كَوْنُهُ حَافِظًا عَالِمًا‏)‏؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى أَمْرِهِ، وَكَوْنُهُ حُرًّا خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَكَوْنُهُ جَيِّدَ اللَّحْظِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَكَوْنُهُ عَارِفًا قَالَهُ فِي الْكَافِي، لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا يَكْتُبُهُ بِجَهْلِهِ، ‏(‏وَيَجْلِسُ‏)‏ الْكَاتِبُ ‏(‏بِحَيْثُ يُشَاهِدُ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏مَا يَكْتُبُهُ‏)‏؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِإِمْلَائِهِ عَلَيْهِ وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ، ‏(‏وَيَجْعَلُ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏الْقِمَطْرَ‏)‏ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، ‏(‏وَهُوَ مَا يَجْمَعُ فِيهِ الْقَضَايَا مَخْتُومًا بَيْنَ يَدَيْهِ‏)‏ لِيُحْفَظَ عَنْ التَّغْيِيرِ‏.‏

‏(‏وَيُسَنُّ حُكْمُهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ‏)‏ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِمْ الْحُقُوقَ، وَتَثْبُتَ بِهِمْ الْحُجَجُ وَالْمَحَاضِرُ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ‏)‏ عَلَى قَاضٍ ‏(‏تَعْيِينُهُ قَوْمًا بِالْقَبُولِ‏)‏ أَيْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ لِوُجُوبِ قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ‏.‏

‏(‏وَلَا يَصِحُّ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏عَلَى عَدُوِّهِ‏)‏ كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ‏(‏بَلْ يُفْتِي عَلَى عَدُوِّهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِي الْفُتْيَا بِخِلَافِ الْقَضَاءِ، ‏(‏وَلَا‏)‏ يَصِحُّ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ‏(‏لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ‏)‏ كَزَوْجَتِهِ وَعَمُودَيْ نَسَبِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ أَوْ بَيْنَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ عَرَضَتْ لِلْقَاضِي أَوْ لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ حُكُومَةٌ تَحَاكَمَا إلَى بَعْضِ خُلَفَائِهِ أَوْ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ حَاكَمَ أُبَيًّا إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَاكَمَ رَجُلًا عِرَاقِيًّا إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عَلِيٌّ رَجُلًا يَهُودِيًّا إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عُثْمَانُ طَلْحَةَ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، ‏(‏وَلَهُ اسْتِخْلَافُهُمْ‏)‏ أَيْ لِلْقَاضِي اسْتِنَابَةُ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِمَا عَنْهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ صَلَاحِيَتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ ‏(‏كَحُكْمِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ ‏(‏لِغَيْرِهِمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِغَيْرِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ‏(‏بِشَهَادَتِهِمْ‏)‏ كَأَنْ حَكَمَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِشَهَادَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، ‏(‏وَ‏)‏ كَحُكْمِهِ ‏(‏عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَيَصِحُّ حُكْمُهُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَنَحْوِهِمْ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ‏)‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏القَاضي يَبْدَأ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ

‏(‏وَيُسَنُّ لِقَاضٍ أَنْ يَبْدَأَ بِ‏)‏ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَقَاءَ فِيهِ، ‏(‏فَيُنْفِذَ ثِقَةً‏)‏ إلَى الْحَبْسِ فَ ‏(‏يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ و‏)‏ أَسْمَاءَ ‏(‏مَنْ حَبَسَهُمْ وَفِيمَ ذَلِكَ‏)‏‏؟‏ أَيْ حَبْسُهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُقْعَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْأَوَّلِ لَوْ كُتِبُوا فِي رُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُخْرِجُ وَاحِدَةً مِنْ الرِّقَاعِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْقُرْعَةِ، ‏(‏ثُمَّ يُنَادِي فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَحْبُوسِينَ فِي يَوْمِ كَذَا، فَمَنْ لَهُ خَصْمٌ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِحُضُورِهِمْ مِنْ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِمْ، ‏(‏فَإِذَا جَلَسَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏لِوَعْدِهِ‏)‏ نَظَرَ ابْتِدَاءً فِي رِقَاعِ الْمَحْبُوسِينَ فَتُخْرَجُ رُقْعَةٌ مِنْهَا وَيُقَالُ‏:‏ هَذِهِ رُقْعَةُ فُلَانٍ فَمَنْ خَصْمُهُ‏؟‏ ‏(‏فَمَنْ حَضَرَ لَهُ خَصْمٌ نَظَرَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ‏)‏ الْمَحْبُوسُ ‏(‏حُبِسَ لِتُعَدَّلَ الْبَيِّنَةُ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَيِّنَةُ خَصْمِهِ عَلَيْهِ ‏(‏فَإِعَادَتُهُ‏)‏ إلَى الْحَبْسِ ‏(‏مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَبْسِهِ فِي ذَلِكَ‏)‏، وَالْأَصَحُّ حَبْسُهُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَدٍّ فَيُعَادُ لِلْحَبْسِ ‏(‏وَيُقْبَلُ قَوْلُ خَصْمِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَحْبُوسِ ‏(‏فِي أَنَّهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏حَبَسَهُ بَعْدَ تَكْمِيلِ بَيِّنَتِهِ وَ‏)‏ بَعْدَ ‏(‏تَعْدِيلِهَا‏)‏؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا حَبَسَهُ لِحَقٍّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، ‏(‏وَإِنْ ذَكَرَ‏)‏ مَحْبُوسٌ أَنَّهُ ‏(‏حَبَسَهُ بِقِيمَةِ كَلْبٍ أَوْ خَمْرِ ذِمِّيٍّ وَصَدَّقَهُ غَرِيمٌ‏)‏ فِي ذَلِكَ ‏(‏خَلَّى‏)‏ سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمَهُ وَقَالَ‏:‏ بَلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ غَيْرِ هَذَا فَقَوْلَهُ‏:‏ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ ‏(‏وَإِنْ بَانَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ أَوْ تَعْزِيرٍ كَافْتِيَاتٍ عَلَى الْقَاضِي قَبْلَهُ وَنَحْوَهُ‏)‏ كَكَوْنِهِ غَائِبًا ‏(‏خَلَّاهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَطْلَقَهُ، ‏(‏أَوْ أَبْقَاهُ‏)‏ فِي الْحَبْسِ ‏(‏بِقَدْرِ مَا يَرَى‏)‏ بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ ‏(‏فَإِطْلَاقُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَحْبُوسِ‏.‏

‏(‏وَإِذْنُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏وَلَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَ‏)‏ فِي ‏(‏نَفَقَةٍ لِيَرْجِعَ‏)‏ قَاضِي الدَّيْنِ وَالْمُنْفِقُ حُكْمٌ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إذْنُهُ فِي ‏(‏وَضْعِ مِيزَابٍ وَ‏)‏ وَضْعِ ‏(‏بِنَاءٍ‏)‏ مِنْ جَنَاحٍ وَسَابَاطٍ بِدَرْبٍ نَافِذٍ بِلَا ضَرَرٍ حُكْمٌ، فَيُمْنَعُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ كَإِذْنِ الْجَمِيعِ، ‏(‏وَ‏)‏ إذْنُهُ ‏(‏فِي غَيْرِهِ‏)‏ كَوَضْعِ خَشَبٍ عَلَى جِدَارِ جَارٍ بِشَرْطِهِ حُكْمٌ، ‏(‏وَأَمْرُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏بِإِرَاقَةِ نَبِيذٍ‏)‏ حُكْمٌ ذَكَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي الْمُحْتَسِبِ، ‏(‏وَقُرْعَتُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إنْ كَانَ‏)‏ ثَمَّ خِلَافٌ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ أَوْ حَكَمَ لِأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ فَعَقَدَ أَوْ فَسَخَ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ بِلَا نِزَاعٍ‏.‏

‏(‏وَكَذَا نَوْعٌ مِنْ فِعْلِهِ‏)‏ أَيْ الْحَاكِمِ ‏(‏كَتَزْوِيجِهِ يَتِيمَةً‏)‏ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ ‏(‏وَشِرَاءِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ‏)‏ مَوْصُوفَةٍ بِمَا يَكْفِي فِي سَلَمٍ لِقَضَاءِ دَيْنِ غَائِبٍ وَمُمْتَنِعٍ ‏(‏وَعَقْدِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ‏)‏، حَيْثُ رَآهُ وَفَسْخٍ لِعُنَّةٍ وَعَيْبٍ وَنَحْوَهُ، فَهُوَ حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إنْ كَانَ، وَكَذَا نَصْبُهُ لِنَحْوِ مِيزَابٍ لِنَصْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيزَابَ الْعَبَّاسِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُهُ لِأَرْضِ الْعَنْوَةِ لِمَصْلَحَةٍ وَتَرْكُهُ لَهَا بِلَا قِسْمَةٍ وَقْفٌ لَهَا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، ‏(‏وَحُكْمُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏بِشَيْءٍ‏)‏ كَبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ ‏(‏حُكْمٌ بِلَازِمِهِ‏)‏ أَيْ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ بِهِ وَهُوَ بُطْلَانُ الْعِتْقِ فِي الْمِثَالِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَلَا يَحْكُمُ غَيْرُهُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِ‏.‏

‏(‏وَإِقْرَارُهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي مُكَلَّفًا ‏(‏غَيْرَهُ عَلَى فِعْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ‏)‏ أَيْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ حِلِّهِ لَيْسَ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ أَوْ حِلِّهِ إنَّهُ الْإِقْرَارُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، ‏(‏وَثُبُوتِ شَيْءٍ عِنْدَهُ‏)‏ أَيْ عِنْدَ الْقَاضِي كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ‏(‏لَيْسَ حُكْمًا بِهِ‏)‏، بِخِلَافِ إثْبَاتِ صِفَةٍ كَعَدَالَةٍ وَأَهْلِيَّةِ وَصِيَّةٍ فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى مَا يَأْتِي، وَكَذَا ثُبُوتُ سَبَبِ الْمُطَالَبَةِ كَفَرْضِهِ مَهْرَ مِثْلٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ أُجْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

‏(‏وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمُنَفَّذِ‏)‏ قَالَهُ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ، ‏(‏وَفِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ‏)‏ أَيْ التَّنْفِيذَ حُكْمٌ، بَلْ قَدْ فُسِّرَ فِي الشَّرْحِ التَّنْفِيذُ بِالْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ‏.‏

وَفِي شَرْحِ الْمُحَرَّرِ نَفْسُ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ، لَكِنْ لَوْ نَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ لَزِمَهُ إنْفَاذُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ صَارَ مَحْكُومًا بِهِ فَلَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ كَغَيْرِهِ، ‏(‏وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ‏)‏ أَيْ الْأَصْحَابِ ‏(‏أَنَّهُ‏)‏ أَيْ التَّنْفِيذَ ‏(‏عَمَلٌ بِالْحُكْمِ‏)‏ الْمُنَفَّذِ ‏(‏وَإِجَازَةٌ لَهُ وَإِمْضَاءٌ كَتَنْفِيذِ‏)‏ الْوَارِثِ ‏(‏الْوَصِيَّةَ‏)‏ حَيْثُ تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَازَةِ‏.‏

قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ‏:‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ بِالْمَحْكُومِ بِهِ، إذْ الْحُكْمُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِالْحُكْمِ وَإِمْضَاءٌ لَهُ كَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَإِجَازَةٌ لَهُ، فَكَأَنَّهُ يُجِيزُ هَذَا الْمَحْكُومَ بِهِ بِعَيْنِهِ لِحُرْمَةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ حَبَسَ ذَلِكَ الْمَحْكُومَ بِهِ غَيْرُهُ انْتَهَى‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ الْحَنَفِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ‏:‏ أَنَّ التَّنْفِيذَ حُكْمٌ إنْ كَانَ التَّرَافُعُ عَنْ خُصُومَةٍ، وَأَنَّ الْحَادِثَةَ الشَّخْصِيَّةَ الْوَاحِدَةَ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ تَتَوَارَدَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ‏.‏

وَأَمَّا التَّنْفِيذُ الْمُتَعَارَفُ الْآنَ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فَمَعْنَاهُ إحَاطَةُ الْقَاضِي عِلْمًا بِحُكْمِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَرَضٍ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى اتِّصَالًا وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ الثُّبُوتِ وَالتَّنْفِيذِ فِيهِ‏.‏

‏(‏وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ قَطْعًا‏)‏، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنًا وَاعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ مَالِكٌ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ‏)‏ بِفَتْحِ الْجِيمِ ‏(‏حُكْمٌ بِمُوجَبِ الدَّعْوَى الثَّابِتَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا‏)‏ كَالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ، ‏(‏فَالدَّعْوَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ‏)‏ مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ ‏(‏الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ‏)‏؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُوجَبِهِ كَسَائِرِ آثَارِهِ‏.‏

قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ‏:‏ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسَعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ الصِّحَّةَ وَآثَارَهَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ الدَّعْوَى ‏(‏غَيْرُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذَلِكَ‏)‏ أَيْ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ كَأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ فَقَطْ ‏(‏الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ لَيْسَ حُكْمًا بِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الصِّحَّةِ، إذْ مُوجَبُ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ حُصُولُ صُورَةِ بَيْعٍ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَشْتَمِلْ الدَّعْوَى عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ؛ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ لِلْبَائِعِ مِلْكًا وَلَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ هُوَ أَيْضًا فِي الْأُولَى لَمْ يَدَّعِ الصِّحَّةَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ لَهُ بِهَا‏؟‏ لِأَنَّ دَعْوَاهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً فَهِيَ وَاقِعَةٌ ضِمْنًا؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي‏.‏

‏(‏وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏)‏ هُوَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ‏:‏ ‏(‏الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الصِّيغَةِ‏)‏ أَيْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ قَوْلَيْنِ كَانَا أَوْ فِعْلَيْنِ، أَوْ صِيغَةِ الْوَقْفِ أَوْ الْعِتْقِ كَذَلِكَ، ‏(‏وَأَهْلِيَّةَ الْمُتَصَرِّفِ‏)‏ مِنْ بَائِعٍ وَوَاقِفٍ وَنَحْوِهِمَا، ‏(‏وَيَزِيدُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ كَوْنُهُ‏.‏

تَصَرُّفُهُ فِي مَحَلِّهِ‏)‏ بِأَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، ‏(‏وَقَالَهُ‏)‏ السُّبْكِيُّ ‏(‏أَيْضًا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ هُوَ الْأَثَرُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْحُكْمُ بِالْأَثَرِ ‏(‏الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّفْظُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَتَرَتَّبُ عَلَى صِيغَةِ الْعَاقِدِ، ‏(‏وَ‏)‏ الْحُكْمُ ‏(‏بِالصِّحَّةِ كَوْنُ اللَّفْظِ‏)‏ أَيْ الصِّيغَةِ ‏(‏بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ‏)‏ مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَنَحْوِهِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ، لَا حُكْمٌ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، ‏(‏وَهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ ‏(‏مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ إلَّا بِاجْتِمَاعٍ لِشُرُوطٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ شُرُوطِ الْعَقْدِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ، فَهُوَ حُكْمٌ بِالْمُوجَبِ‏.‏

‏(‏وَالْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ كَالْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ‏)‏، إذْ مَعْنَاهُ إلْزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ أَثَرُ إقْرَارِهِ، وَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ، نَقَلَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ وَقَالَ‏:‏ وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا مَعْنًى فَلْيُتَأَمَّلْ، وَقَدْ رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ ‏(‏وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَشْمَلُ الْفَسَادَ انْتَهَى‏)‏، هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا فَائِدَة لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَكَمْت بِصِحَّتِهِ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَبِفَسَادِهِ إنْ كَانَ فَاسِدًا، فَهُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مُوجَبَهُ هِيَ آثَارُهُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالْفَسَادُ لَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَشْمَلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، قَالَ ‏(‏الْمُنَقَّحُ‏:‏ وَالْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَقَالُوا‏)‏ أَيْ الْأَصْحَابُ‏:‏ ‏(‏الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ‏)‏؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْدِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَاهُ فَلَيْسَ لِشَافِعِيٍّ سَمَاعُ دَعْوَى الْوَاقِفِ فِي إبْطَالِ‏.‏

الْوَقْفِ بِمُقْتَضَى كَوْنِهِ وَقْفًا عَلَى النَّفْسِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُوجَبٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ كَكَوْنِ الْمَوْقُوفِ مَرْهُونًا مَثَلًا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي رِسَالَةٍ لَهُ ذَكَرَهَا فِي شَرْحِهِ فُرُوقًا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ مَعَ مُنَاقَشَتِهِ لَهُ، وَذَكَرَ مُلَخَّصَ مَا اخْتَارَهُ غَيْرَ مَا سَبَقَ مِنْهَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَنَاوَلُ الْآثَارَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا لِلْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ عَامٍّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ آثَارِهَا، فَإِنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ هُوَ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ كُلَّ مُوجَبٍ بِخِلَافِ لَفْظِ الصِّحَّةِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْآثَارَ بِالتَّضَمُّنِ لَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَعْلَى، وَهُوَ خِلَافُ الِاصْطِلَاحِ، وَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بَعْدُ؛ لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهِ مَنْعَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِعَدَمِ بَيْعِهِ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ مُكَلَّفٌ طَلَاقَ أَجْنَبِيَّةٍ عَلَى تَزْوِيجِهِ بِهَا وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا وَبَادَرَ شَافِعِيٌّ وَحَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَوْ تَزَوَّجَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ إلَى الْآنَ فَكَيْفَ يَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ‏؟‏، وَمِنْهَا إذَا كَانَ الصَّادِرُ صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مُوجَبِهِ، فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ حَكَمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ بِالْمُوجَبِ، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا الْفَرْقِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ جَاءَ وَقْتُ الْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ فَمَتَى لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ فَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ عِنْدَهُ عِنْدَ‏.‏

مَجِيءِ وَقْتِهِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَقْوَى كَمَا لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ شِرَاءِ دَارٍ فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِشُفْعَتِهَا لِلْجَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشَّافِعِيُّ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ لَمْ يَمْنَعْ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِبَيْعِهِ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ إجَارَةٍ ثُمَّ مَاتَ مُؤَجِّرٌ فَلِلْحَنَفِيِّ إبْطَالُهَا بِالْمَوْتِ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِمُوجَبِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهَا الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ لِلْوَرَثَةِ‏.‏

وَنَازَعَ الْعِرَاقِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ وَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ‏.‏

وَلَوْ وَجَّهَ الْحُكْمَ إلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ حَكَمْتُ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ إذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا، وَكَيْفَ يَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ‏؟‏ قُلْت‏:‏ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ هُوَ مَعْنَى لُزُومِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ مُنْذُ تَفَرَّقَا مِنْ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَمَنْعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْحَنَفِيّ بِلَا فَرْقٍ‏.‏

ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ ضَابِطًا وَهُوَ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ إنْ كَانَ صِحَّةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَكَانَتْ لَوَازِمُهُ لَا تَتَرَتَّبُ إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ، كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ رَافِعًا لِخِلَافٍ وَاسْتَوَيَا حِينَئِذٍ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ الْآثَارَ وَاللَّوَازِمَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْخِلَافِ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ رَافِعًا وَقَوِيَ الْمُوجَبُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهُ تَتَرَتَّبُ مَعَ فَسَادِهِ قَوِيَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، لَكِنْ لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ وَقْفٍ شُرِطَ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، فَهَلْ‏.‏

لِلشَّافِعِيِّ الْمُبَادَرَةُ بَعْدَ التَّغْيِيرِ إلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إلَى الْآنَ لَمْ يَقَعْ كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ‏؟‏ أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَسْأَلَةِ التَّدْبِيرِ وَالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لِلْوَاقِفِ فِي التَّغْيِيرِ، فَقَدْ فَعَلَ مَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ مِنْ حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ مَنْعُهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَالصِّحَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُتَوَجِّهٌ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ صَرِيحًا وَإِلَى آثَارِهِ تَضَمُّنًا، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْآثَارِ صَرِيحًا وَإِلَى نَفْسِ الْعَقْدِ تَضَمُّنًا، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ إلَّا عَلَى مَا بَحَثْتُهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ إلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجَمِيعِ آثَارِهِ صَرِيحًا، فَإِنَّ الصِّحَّةَ مِنْ مُوجَبِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسَعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ الصِّحَّةَ وَآثَارَهَا‏.‏

ثُمَّ رَجَعَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَمْرِ الْمَحَابِيسِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ خَصْمَهُ وَأَنْكَرَهُ‏)‏ الْمَحْبُوسُ بِأَنْ قَالَ حُبِسْتُ ظُلْمًا، وَلَا حَقَّ عَلَيَّ وَلَا خَصْمَ لِي ‏(‏نُودِيَ بِذَلِكَ‏)‏ فِي الْبَلَدِ، قَالَ فِي الْمُقْنِعِ وَمَنْ تَبِعَهُ‏:‏ ثَلَاثًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمَا‏.‏

وَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِالثَّلَاثِ أَنَّهُ يُشْتَهَرُ بِذَلِكَ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْغَرِيمَ إنْ كَانَ غَائِبًا، وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُنَادَى عَلَيْهِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرِيمٌ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ غَالِبًا فِي ثَلَاثٍ‏:‏ فَالْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْإِنْصَافِ، ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ‏)‏ خَصْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ‏(‏خَلَّفَهُ‏)‏ أَيْ الْمَحْبُوسَ ‏(‏حَاكِمٌ وَخَلَّاهُ‏)‏ أَيْ أَطْلَقَهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ لَظَهَرَ، ‏(‏وَمَعَ غَيْبَةِ خَصْمِهِ‏)‏ الْمَعْرُوفِ ‏(‏يَبْعَثُ إلَيْهِ‏)‏ لِيَحْضُرَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَمْرِ الْمَحْبُوسِ، ‏(‏وَمَعَ جَهْلِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ بِلَا عُذْرٍ يُخَلَّى‏)‏ سَبِيلَهُ، ‏(‏وَالْأَوْلَى‏)‏ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ‏(‏بِكَفِيلٍ‏)‏ احْتِيَاطًا‏.‏

قُلْت‏:‏ وَلَعَلَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ شَرْعِيٍّ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ إلَّا إذَا أَدَّى أَوْ ثَبَتَ إعْسَارُهُ كَمَا فِي بَابِ الْحَجْرِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ماذا على القاضي بعد النظر في أمر المحبوسين‏]‏

ثُمَّ إذَا تَمَّ أَمْرُ الْمَحْبُوسِ ‏(‏يُنْظَرُ فِي أَمْرِ أَيْتَامٍ وَمَجَانِينَ وَوُقُوفٍ وَوَصَايَا لَا وَلِيَّ لَهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ ‏(‏وَلَا نَاظِرَ‏)‏ لِلْوَقْفِ وَالْوَصَايَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَمْوَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حِفْظُهَا وَصَرْفُهَا فِي وُجُوهِهَا، فَلَا يَجُوزُ إهْمَالُهَا، وَلَا نَظَرَ لَهُ مَعَ الْوَلِيِّ أَوْ النَّاظِرِ الْخَاصِّ، لَكِنْ لَهُ الِاعْتِرَاضُ إنْ فَعَلَ مَا لَا يُسَوَّغُ، ‏(‏فَلَوْ نَفَّذَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏الْأَوَّلُ وَصِيَّةَ مُوصًى إلَيْهِ أَمْضَاهَا‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏الثَّانِي‏)‏؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُنَفِّذْهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَهْلِيَّتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالٌ بِفِسْقٍ أَوْ ضَعْفٍ ضَمَّ إلَيْهِ قَوِيًّا أَمِينًا يُعِينُهُ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّذْ الْأَوَّلُ وَصِيَّتَهُ نَظَرَ الثَّانِي فِيهِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا أَمِينًا أَقَرَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا ضَعِيفًا ضَمَّ إلَيْهِ قَوِيًّا أَمِينًا، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا عَزَلَهُ وَأَقَامَ غَيْرَهُ‏.‏

وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَقَدَّمَهُ فِي الشَّرْحِ وَقَالَ‏:‏ وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْظُرُ عَلَيْهِ‏.‏ اهـ‏.‏

وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ أَوْ فَرَّقَ الْوَصِيَّةَ، وَهُوَ أَهْلٌ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُمْ بَالِغِينَ عَاقِلِينَ مُعَيَّنِينَ صَحَّ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ لِبَعْضِهِمْ حُقُوقَهُمْ، ‏(‏فَدَلَّ‏)‏ وُجُوبُ إمْضَاءِ الثَّانِي عَلَى مَا نَفَّذَهُ الْأَوَّلُ مِنْ وَصِيَّةِ مُوصًى إلَيْهِ ‏(‏أَنَّ إثْبَاتَ‏)‏ حَاكِمٍ ‏(‏صِفَةً كَعَدَالَةِ وَجَرْحِ وَأَهْلِيَّةِ مُوصًى إلَيْهِ وَنَحْوَهُ‏)‏ كَأَهْلِيَّةِ نَاظِرِ وَقْفٍ وَحَضَانَةٍ ‏(‏حُكْمٌ يَقْبَلُهُ حَاكِمٌ‏)‏ آخَرَ فَيُمْضِيه، وَلَا يَنْقُضُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ، ‏(‏وَمَنْ كَانَ مِنْ أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ لِلْأَطْفَالِ أَوْ الْوَصَايَا الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا وَنَحْوِهِ‏)‏ كَنِظَارَةِ أَوْقَافٍ لَا شَرْطَ فِيهَا ‏(‏بِحَالِهِ أَقَرَّهُ‏)‏؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ إلَيْهِ كَحُكْمِهِ فَلَيْسُوا كَنُوَّابِهِ فِي الْحُكْمِ، ‏(‏وَمَنْ فَسَقَ عَزَلَهُ‏)‏ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ‏(‏وَيُضَمُّ إلَى ضَعِيفٍ‏)‏ قَوِيًّا ‏(‏أَمِينًا‏)‏ لِيُعِينَهُ، ‏(‏وَلَهُ إبْدَالُهُ‏)‏ لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ، ‏(‏وَ‏)‏ لَهُ ‏(‏النَّظَرُ فِي حَالِ قَاضٍ قَبْلَهُ وَلَا يَجِبُ‏)‏ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ أَحْكَامِهِ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ‏)‏ قَاضٍ ‏(‏صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ‏)‏ شَيْئًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَإِلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلًا ‏(‏غَيْرَ مَا‏)‏ أَيْ حُكْمٍ ‏(‏خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ‏)‏ خَالَفَ نَصَّ ‏(‏سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، أَوْ‏)‏ خَالَفَ نَصَّ سُنَّةِ ‏(‏آحَادٍ كَ‏)‏ الْحُكْمِ ‏(‏بِقَتْلِ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ وَ‏)‏ كَالْحُكْمِ بِ ‏(‏جَعْلِ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ‏)‏ بِفَلَسٍ ‏(‏أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ‏)‏ فَيُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ شَرْطَهُ، إذْ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ لِخَبَرِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؛ وَلِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ‏(‏أَوْ‏)‏ خَالَفَ ‏(‏إجْمَاعًا قَطْعِيًّا‏)‏ فَيُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، ‏(‏أَوْ‏)‏ خَالَفَ ‏(‏مَا يَعْتَقِدُهُ‏)‏ بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ ‏(‏فَيَلْزَمُ نَقْضُهُ‏)‏ لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَهُ، فَإِنْ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ لَمْ يُنْقَضْ، لِقَضَاءِ عُمَرَ فِي الْمُشَرَّكَةِ حَيْثُ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ شَرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ بَعْدُ، وَقَالَ‏:‏ تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي، وَقَضَى فِي إرْثِ الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ عُمِلَ بِالْأَخِيرِ لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَ مَا قَبْلَهُ‏.‏

‏(‏وَلَا يُنْقَضُ حُكْمٌ بِتَزْوِيجِهَا‏)‏ أَيْ الْمَرْأَةِ ‏(‏نَفْسَهَا‏)‏ وَلَوْ مَعَ حُضُورِ وَلِيِّهَا لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي صِحَّتِهِ وَحَدِيثُ ‏"‏ ‏{‏لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ‏}‏ ‏"‏ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يُنْقَضُ حُكْمٌ ‏(‏لِمُخَالَفَةِ قِيَاسٍ‏)‏؛ لِأَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يُنْقَضُ حُكْمٌ ‏(‏لِعَدَمِ عِلْمِهِ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ‏)‏ الْمَحْكُومِ فِيهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ حَيْثُ وَافَقَ الشَّرْعَ وَ‏(‏لَا‏)‏ يُنْقَضُ حُكْمُ قَاضٍ ‏(‏إنْ حَكَمَ بِبَيِّنَةِ خَارِجٍ‏)‏ وَجَهِلَ عِلْمَهُ بِبَيِّنَةٍ تُقَابِلُهَا، ‏(‏أَوْ‏)‏ حَكَمَ بِبَيِّنَةِ ‏(‏دَاخِلٍ وَجَهِلَ عِلْمَهُ‏)‏ بِسَبَبِ بَيِّنَةٍ ‏(‏تُقَابِلُهَا‏)‏، حَيْثُ وَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ ‏(‏وَمَا قُلْنَا إنَّهُ يُنْقَضُ فَالنَّاقِضُ لَهُ حَاكِمُهُ إنْ كَانَ‏)‏ مَوْجُودًا، ‏(‏فَيَثْبُتُ‏)‏ عِنْدَهُ ‏(‏السَّبَبُ‏)‏ الْمُقْتَضِي لِنَقْضِهِ، ‏(‏وَيَنْقُضُهُ‏)‏ وُجُوبًا ‏(‏وَلَا يُعْتَبَرُ‏)‏ لِصِحَّةِ نَقْضِهِ ‏(‏طَلَبُ رَبِّ الْحَقِّ‏)‏ نَقْضَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَلَهُ تَعَالَى‏.‏

‏(‏وَيَنْقُضُهُ‏)‏ أَيْ الْحُكْمَ حَاكِمُهُ ‏(‏إنْ بَانَ مِمَّنْ شَهِدَ عِنْدَهُ مَا‏)‏ أَيْ شَيْءٍ ‏(‏لَا يَرَى‏)‏ الْحَاكِمُ ‏(‏مَعَهُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ‏)‏ كَكَوْنِ الشَّاهِدِ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبٍ مَشْهُودٍ لَهُ‏.‏

‏(‏وَكَذَا كُلُّ مَا صَادَفَ مَا حَكَمَ بِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ‏)‏ صِفَةٌ لِمَا الْأَوْلَى أَيْ لَا يَرَى الْقَاضِي الْحُكْمَ مَعَهُ كَبَيْعِ عَبْدٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَنْذُورٌ عِتْقُهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ، ‏(‏وَلَمْ يَعْلَمْهُ‏)‏ قَاضٍ عِنْدَ حُكْمِهِ فَيَنْقُضُهُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ‏.‏

‏(‏وَتُنْقَضُ أَحْكَامُ مَنْ‏)‏ أَيْ قَاضٍ حَكَمَ ‏(‏لَا يَصْلُحُ‏)‏ لِلْحُكْمِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، ‏(‏وَإِنْ وَافَقَتْ الصَّوَابَ‏)‏؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ قُضَاةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ مَا وَافَقَ كَمَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏َمَنْ اسْتَعْدَاهُ الْقَاضِيَ لزم حضوره‏]‏

وَمَنْ اسْتَعْدَاهُ أَيْ الْقَاضِيَ ‏(‏عَلَى خَصْمِ الْبَلَدِ‏)‏ الَّذِي بِهِ الْقَاضِي أَيْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحْضِرَهُ لَهُ ‏(‏بِمَا‏)‏ أَيْ شَيْءٍ ‏(‏تَتْبَعُهُ التُّهْمَةُ لَزِمَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏إحْضَارُهُ‏)‏ أَيْ الْخَصْمِ، ‏(‏وَلَوْ لَمْ يُحَرِّرْ‏)‏ الْمُسْتَعْدِي ‏(‏الدَّعْوَى‏)‏ نَصًّا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً لِئَلَّا تَضِيعَ الْحُقُوقُ وَيَقْوَى الظُّلْمُ، وَقَدْ يَثْبُتُ حَقُّ الْأَدْنَى عَلَى الْأَرْفَعِ مِنْهُ لِنَحْوِ غَصْبٍ أَوْ شِرَاءٍ وَلَا يُوفِيهِ ثَمَنَهُ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ إعَارَةٍ، وَلَا يُرَدُّ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ ذَهَبَ حَقُّهُ، وَهَذَا أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ لَا نَقْضَ فِيهِ وَقَدْ حَضَرَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَضَرَ عُمَرُ وَآخَرُ عِنْدَ شُرَيْحٍ، وَلِلْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَكِّلَ إنْ كَرِهَ الْحُضُورَ‏.‏

‏(‏وَمَنْ طَلَبَهُ خَصْمُهُ‏)‏ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ ‏(‏أَوْ‏)‏ طَلَبَهُ ‏(‏حَاكِمٌ حَيْثُ يَلْزَمُهُ إحْضَارُهُ بِطَلَبِهِ مِنْهُ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ‏)‏ إلَيْهِ، وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَخَلُّفِهِ فَإِنَّ حَضَرَ ‏(‏وَإِلَّا أَعْلَمَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏الْوَلِيَّ بِهِ‏)‏ أَيْ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْحُضُورِ لِيُحْضِرَهُ، ‏(‏وَمَنْ حَضَرَ‏)‏ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ ‏(‏فَلَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏تَأْدِيبُهُ‏)‏ عَلَى امْتِنَاعِهِ ‏(‏بِمَا يَرَاهُ‏)‏ مِنْ انْتِهَارٍ أَوْ ضَرْبٍ‏.‏

‏(‏وَيُعْتَبَرُ تَحْرِيرُهَا‏)‏ أَيْ الدَّعْوَى فِيمَا إذَا اسْتَعْدَى ‏(‏عَلَى حَاكِمٍ مَعْزُولٍ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ‏)‏ مِنْ ذَوِي الْمَنَاصِبِ كَالْخَلِيفَةِ وَالْعَالِمِ الْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ الْمَتْبُوعِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ، ‏(‏ثُمَّ يُرَاسِلُهُ‏)‏ الْقَاضِي إذَا حَرَّرَ بِدَعْوَى فَذَكَرَ دَيْنًا عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ رِشْوَةٍ، ‏(‏فَإِنَّ خَرَجَ مِنْ الْعُهْدَةِ‏)‏ لِمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَحْتَجْ لِحُضُورِهِ، ‏(‏وَإِلَّا أَحْضَرَهُ‏)‏ كَغَيْرِهِ فَيَدَّعِي عَلَيْهِ خَصْمُهُ وَيَسْأَلُ سُؤَالَهُ عَلَى مَا يَأْتِي مُفَصَّلًا، فَإِنْ قَالَ‏:‏ حُكِمَ عَلَيَّ بِفَاسِقَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً حُكِمَ بِهَا‏.‏

وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ شِكَايَةَ أَحَدٍ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ‏.‏

‏(‏وَلَا يُعْتَبَرُ لِإِحْضَارِ مَنْ‏)‏ أَيْ امْرَأَةٍ ‏(‏تَبْرُزُ لِحَوَائِجِهَا‏)‏ إذَا اسْتَعْدَى عَلَيْهَا ‏(‏مَحْرَمٌ‏)‏ لَهَا يَخْرُجُ مَعَهَا نَصًّا؛ لِأَنَّهُ لَا سَفَرَ ‏(‏وَغَيْرُ الْبَرْزَةِ‏)‏ وَهِيَ الْمُخَدَّرَةُ الَّتِي لَا تَبْرُزُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا إذَا اُسْتُعْدِيَ عَلَيْهَا ‏(‏تُوَكِّلُ كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ‏)‏ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ، ‏(‏وَإِنْ وَجَبَتْ‏)‏ عَلَيْهَا ‏(‏يَمِينٌ أَرْسَلَ‏)‏ الْحَاكِمُ ‏(‏مَنْ‏)‏ أَيْ أَمِينًا مَعَهُ شَاهِدَانِ ‏(‏يُحَلِّفُهَا‏)‏ بِحَضْرَتِهِمَا‏.‏

‏(‏وَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَائِبٍ بِمُوَسَّعٍ‏)‏ مِنْ عَمَلِ الْقَاضِي ‏(‏لَا حَاكِمَ بِهِ بَعَثَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏إلَى مَنْ‏)‏ أَيْ ثِقَةٍ ‏(‏يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا‏)‏ أَيْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، ‏(‏فَإِنْ تَعَذَّرَ‏)‏ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَنْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يَقْبَلَاهُ ‏(‏حَرَّرَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏دَعْوَاهُ‏)‏ أَيْ الْمُسْتَعْدِي لِئَلَّا يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ لَيْسَ حَقًّا كَشُفْعَةِ جِوَارٍ وَقِيمَةِ كَلْبٍ، ‏(‏ثُمَّ أَحْضَرَهُ‏)‏ الْقَاضِي وَلَوْ بَعُدَ مَكَانُهُ إذَا كَانَ ‏(‏بِعَمَلِهِ‏)‏ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلْحَاقُ الْمَشَقَّةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِمَنْ يُنْفِذُهُ الْحَاكِمُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَمَلِ الْقَاضِي لَمْ يُعَدَّ عَلَيْهِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ ادَّعَى قِبَلَ إنْسَانٍ شَهَادَةً لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْلِفْ‏)‏ خِلَافًا لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ قَالَ لِحَاكِمٍ‏:‏ حَكَمْتَ عَلَيَّ‏)‏ بِشَهَادَةِ ‏(‏فَاسِقَيْنِ عَمْدًا فَأَنْكَرَ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏لَمْ يَحْلِفْ‏)‏ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إلَى إبْطَالِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَالْيَمِينُ إنَّمَا تَجِبُ لِلتُّهْمَةِ وَالْقَاضِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا‏.‏

‏(‏وَإِنْ قَالَ‏)‏ قَاضٍ ‏(‏مَعْزُولٌ عَدْلٌ‏)‏ لَا يُتَّهَمُ‏:‏ كُنْتُ ‏(‏حَكَمْتُ فِي وِلَايَتِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا‏)‏ وَبَيَّنَهُ ‏(‏وَهُوَ مِمَّنْ يَسُوغُ الْحُكْمُ لَهُ‏)‏ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِ الْقَاضِي وَنَحْوَهُ ‏(‏قُبِلَ‏)‏ قَوْلُهُ نَصًّا، ‏(‏وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏مُسْتَنَدَهُ‏)‏ فِي حُكْمِهِ مِنْ نَحْوِ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، ‏(‏وَلَوْ أَنَّ الْعَادَةَ تَسْتَحِيلُ أَحْكَامَهُ وَضَبْطَهَا بِشُهُودٍ‏)‏؛ لِأَنَّ عَزْلَهُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ كَتَبَ إلَى قَاضٍ آخَرَ وَوَصَلَ إلَيْهِ كِتَابُهُ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ أَشْبَهَ إخْبَارَهُ حَالَ وِلَايَتِهِ ‏(‏قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏)‏ وَهُوَ الْقَاضِي مَجْدُ الدِّينِ‏:‏ ‏(‏مَا لَمْ يَشْتَمِلْ‏)‏ قَوْلُهُ ‏(‏عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ حَاكِمٍ‏)‏ آخَرَ فَلَا يُقْبَلُ إذْنٌ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِرُجُوعِ وَاقِفٍ عَلَى نَفْسِهِ فَأَخْبَرَ حَنْبَلِيٌّ أَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْوَقْفِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِرُجُوعِهِ، لَمْ يَقْبَلْ الْمُحِبُّ بْنُ نَصْرِ اللَّهِ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ، ‏(‏وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ‏)‏ هُوَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ هَذَا تَقْيِيدٌ حَسَنٌ يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ، وَكَذَا قَالَ فِي الْمُبْدِعِ وَهُوَ حَسَنٌ‏.‏

‏(‏فَإِنْ أَخْبَرَ حَاكِمٌ حَاكِمًا بِحُكْمٍ أَوْ ثُبُوتٍ، وَلَوْ‏)‏ كَانَ الْإِخْبَارُ ‏(‏فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا‏)‏ أَيْ الْحَاكِمَيْنِ ‏(‏قَبِلَ وَعَمِلَ بِهِ‏)‏ الْمُخْبَرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ ‏(‏إذَا بَلَغَ عَمَلَهُ‏)‏ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ بَعْدَ عَزْلِهِ وَأَوْلَى، و‏(‏لَا‏)‏ يَجُوزُ لِلْمُخْبَرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ- أَنْ يَعْمَلَ بِإِخْبَارِ الْآخَرِ ‏(‏مَعَ حُضُورِ الْمُخْبِرِ‏)‏ بِكَسْرِ الْبَاءِ، ‏(‏وَهُمَا‏)‏ أَيْ الْمُخْبَرُ وَالْمُخْبِرُ ‏(‏بِعَمَلِهِمَا‏)‏ إذَا أَخْبَرَهُ ‏(‏بِالثُّبُوتِ‏)‏ عِنْدَهُ بِلَا حُكْمٍ؛ لِأَنَّهُ كَنَقْلِ الشَّهَادَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ وَأَخْبَرَهُ بِهِ أَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَمَلِهِمَا‏.‏

‏(‏وَكَذَا إخْبَارُ أَمِيرِ جِهَادٍ وَأَمِينِ صَدَقَةٍ وَنَاظِرِ وَقْفٍ‏)‏ بَعْدَ عَزْلٍ بِأَمْرٍ صَدَرَ مِنْهُ حَالَ وِلَايَتِهِ، فَيُقْبَلُ مِنْهُ حَيْثُ يُقْبَلُ فِي وِلَايَتِهِ، قَالَ فِي الِانْتِصَارِ‏:‏ كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ إنْشَاءُ أَمْرٍ صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ‏.‏