فصل: بَابُ: الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح منتهى الإرادات ***


بَابُ‏:‏ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ

أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الْآيَةَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ‏{‏تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا‏}‏ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ‏(‏وَشُرُوطُهُ‏)‏ أَيْ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ‏(‏ثَمَانِيَةٌ أَحَدُهَا السَّرِقَةُ‏)‏ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ السَّرِقَةُ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ سَارِقًا ‏(‏وَهِيَ‏)‏ أَيْ السَّرِقَةُ ‏(‏أَخَذُ مَالٍ مُحْتَرَمٍ لِغَيْرِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّارِقِ ‏(‏عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ مِنْ مَالِكِهِ أَوْ‏)‏ مِنْ ‏(‏نَائِبِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَالِكِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَمُسَارَقَةِ النَّظَرِ إذَا اسْتَخْفَى بِذَلِكَ ‏(‏فَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ‏)‏ مِنْ الطَّرِّ بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ‏:‏ الْقَطْعِ ‏(‏وَهُوَ مَنْ بَطَّ‏)‏ أَيْ شَقَّ ‏(‏جَيْبًا أَوْ كُمًّا أَوْ غَيْرَهُمَا‏)‏ كَصُفْنٍ بِالْفَاءِ شَيْءٌ مِنْ جِلْدَةٍ ‏(‏وَيَأْخُذُ مِنْهُ‏)‏ نِصَابًا ‏(‏أَوْ‏)‏ يَأْخُذُ ‏(‏بَعْدَ سُقُوطِهِ‏)‏ مِنْ نَحْوِ جَيْبٍ ‏(‏نِصَابًا‏)‏ لِأَنَّهُ سَرِقَةٌ مِنْ حِرْزٍ‏.‏

‏(‏وَكَذَا‏)‏ يُقْطَعُ ‏(‏جَاحِدُ عَارِيَّةٍ‏)‏ يُمْكِنُ إخْفَاؤُهَا ‏(‏قِيمَتُهَا نِصَابٌ‏)‏ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ‏{‏كَانَتْ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا قَالَ أَحْمَدُ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ هُوَ حُكْمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ يَدْفَعُهُ شَيْء‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يُقْطَعُ جَاحِدُ ‏(‏وَدِيعَةٍ وَلَا‏)‏ يُقْطَعُ ‏(‏مُنْتَهِبٌ‏)‏ يَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏مُخْتَلِسٌ‏)‏ يَخْتَلِسُ الشَّيْءُ وَيَمُرُّ بِهِ ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏غَاصِبٌ وَ‏)‏ لَا ‏(‏خَائِنٌ‏)‏ يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْء فَيُخْفِيهِ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ يَجْحَدُهُ، مِنْ التَّخَوُّنِ وَهُوَ التَّنْقِيصُ لِحَدِيثِ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَالْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو دَاوُد بَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ إنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ مِنْ نَوْعِ النَّهْبِ وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ الْخَائِنُ وَالْمُخْتَلِسُ فَالْغَاصِبُ أَوْلَى‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏الثَّانِي كَوْنُ سَارِقٍ مُكَلَّفًا‏)‏ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ ‏(‏مُخْتَارًا‏)‏ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مَعْذُورٌ ‏(‏عَالِمًا بِمَسْرُوقٍ وَبِتَحْرِيمِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَسْرُوقِ ‏(‏عَلَيْهِ فَلَا قَطْعَ عَلَى صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ‏)‏ عَلَى السَّرِقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ ‏(‏وَلَا بِسَرِقَةِ مِنْدِيلٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْمِيمِ ‏(‏بِطَرَفِهِ نِصَابٌ مَشْدُودٌ لَمْ يَعْلَمْهُ‏)‏ سَارِقُهُ أَيْ‏:‏ النِّصَابَ الْمَشْدُودَ بِطَرَفِهِ ‏(‏وَلَا بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏جَوْهَرٍ يَظُنُّ قِيمَتَهُ دُونَ نِصَابٍ‏)‏ فَبَانَتْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ ‏(‏وَلَا‏)‏ قَطْعَ ‏(‏عَلَى جَاهِلِ تَحْرِيمِ‏)‏ سَرِقَةٍ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى جَهْلِ ذَلِكَ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏الثَّالِثُ كَوْنُ مَسْرُوقٍ مَالًا‏)‏ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَالِ وَلَا يُسَاوِيهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَالْأَخْبَارُ مُقَيِّدَةٌ لِلْآيَةِ ‏(‏مُحْتَرَمًا‏)‏ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْتَرَمِ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ تَجُوزُ سَرِقَتُهُ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَ الْمَسْرُوقُ ‏(‏مِنْ غَلَّةِ وَقْفٍ وَلَيْسَ‏)‏ السَّارِقُ ‏(‏مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ‏)‏ أَيْ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُحْتَرَمٌ لِغَيْرِهِ وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ أَشْبَهَ غَيْرَ مَالِ الْوَقْفِ و‏(‏لَا‏)‏ يُقْطَعُ إنْ سَرَقَ ‏(‏مِنْ سَارِقٍ أَوْ غَاصِبٍ مَا سَرَقَهُ‏)‏ السَّارِقُ ‏(‏أَوْ غَصَبَهُ‏)‏ الْغَاصِبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْهُ مِنْ مَالِكِهِ وَلَا نَائِبِهِ ‏(‏وَثَمِينٌ‏)‏ مُبْتَدَأٌ ‏(‏كَجَوْهَرٍ وَمَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ كَفَاكِهَةٍ‏)‏ كَغَيْرِهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏فِي التَّمْرِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ‏.‏

وَرَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ ‏"‏ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ أُتْرُجَّةً فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ ‏"‏ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ هِيَ الْأُتْرُجَّةُ الَّتِي تَأْكُلُهَا النَّاسُ‏.‏

‏(‏وَمَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ كَمِلْحٍ وَتُرَابٍ وَحَجَرٍ وَلَبِنٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْبَاءِ ‏(‏وَكَلَإٍ وَشَوْكٍ وَثَلْجٍ وَصَيْدٍ كَغَيْرِهِ‏)‏‏:‏ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا لِلْعُمُومَاتِ ‏(‏سِوَى مَاءٍ‏)‏ فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً ‏(‏وَ‏)‏ سِوَى ‏(‏سِرْجِينٍ نَجِسٍ‏)‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ‏.‏

‏(‏وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ إنَاءِ نَقْدٍ‏)‏ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ بِسَرِقَةِ ‏(‏دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ فِيهَا تَمَاثِيلُ‏)‏ لِأَنَّ صِنَاعَتَهَا الْمُحَرَّمَةَ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مَالًا مُحْتَرَمًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ‏(‏كُتُبِ عِلْمٍ‏)‏ وَلَوْ مُبَاحًا لِأَنَّهَا مَالٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا لَا مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا ‏(‏وَ‏)‏ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ‏(‏قِنٍّ نَائِمٍ أَوْ أَعْجَمِيٍّ وَلَوْ‏)‏ كَانَا ‏(‏كَبِيرَيْنِ‏)‏ لَا كَبِيرٍ غَيْرِ نَائِمٍ وَلَا غَيْرِ أَعْجَمِيٍّ لِأَنَّهُ لَا يُسْرَقُ وَإِنَّمَا يُخْدَعُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ قِنٍّ ‏(‏صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ‏)‏ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا أَشْبَهَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ‏{‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فَيَبِيعُهُمْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَقُطِعَتْ‏}‏‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ‏(‏مُكَاتَبٍ‏)‏ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَلَا اسْتِخْدَامَهُ وَلَا أَخْذَ أُرُوشِ جِنَايَاتٍ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَشْبَهَ الْحُرَّ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ‏(‏أُمِّ وَلَدٍ‏)‏ لِأَنَّهَا لَا يَحِلُّ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا أَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ ‏(‏وَلَا‏)‏ بِسَرِقَةِ ‏(‏حُرٍّ وَلَوْ صَغِيرًا‏)‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَشْبَهَ الْكَبِيرَ النَّائِمَ ‏(‏وَلَا‏)‏ بِسَرِقَةِ ‏(‏مُصْحَفٍ‏)‏ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَحِلُّ أَخَذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ‏(‏وَلَا بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏مَا عَلَيْهِمَا‏)‏ أَيْ الْحُرِّ وَالْمُصْحَفِ ‏(‏مِنْ حُلِيٍّ وَنَحْوِهِ‏)‏ كَثَوْبِ صَغِيرٍ وَكِيسِ مُصْحَفٍ وَلَوْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ‏(‏وَلَا‏)‏ يُقْطَعُ ‏(‏بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏كُتُبِ بِدَعٍ وَ‏)‏ كُتُبٍ ‏(‏تَصَاوِيرَ‏)‏ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِتْلَافِ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ ‏(‏وَلَا بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏آلَةِ لَهْوٍ‏)‏ كَمِزْمَارٍ وَطَبْلِ غَيْرِ حَرْبٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ كَالْخَمْرِ وَمِثْلُهُ نَرْدٌ، وَشِطْرَنْجٌ وَلِأَنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي أَخْذِهَا لِكَسْرِهَا فَهُوَ شُبْهَةٌ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يُقْطَعُ بِهِ ‏(‏وَلَا‏)‏ يُقْطَعُ ‏(‏بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏صَلِيبِ‏)‏ نَقْدٍ ‏(‏أَوْ صَنَمِ نَقْدٍ‏)‏ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تَبَعًا لِلصِّنَاعَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ صِنَاعَةِ الْآنِيَةِ أَشْبَهَتْ الْأَوْتَارَ الَّتِي بِالطُّنْبُورِ ‏(‏وَلَا بِآنِيَةٍ فِيهَا خَمْرٌ أَوْ‏)‏ فِيهَا ‏(‏مَاءٌ‏)‏ لِاتِّصَالِهَا بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏الرَّابِعُ كَوْنُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَسْرُوقِ ‏(‏نِصَابًا وَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ نِصَابُ السَّرِقَةِ ‏(‏ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ خَالِصَةٍ أَوْ‏)‏ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ‏(‏تَخْلُصُ مِنْ‏)‏ فِضَّةٍ ‏(‏مَغْشُوشَةٍ‏)‏ بِنَحْوِ نُحَاسٍ ‏(‏أَوْ رُبْعِ دِينَارٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِثْقَالِ ذَهَبٍ، وَيَكْفِي الْوَزْنُ مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ أَوْ التِّبْرِ الْخَالِصِ ‏(‏وَلَوْ لَمْ يُضْرَبَا‏)‏ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ‏{‏لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ‏.‏

وَحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ‏{‏اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ‏}‏ وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا‏.‏

رَوَاهُ أَحْمَدُ وَهَذَانِ يَخُصَّانِ عُمُومَ الْآيَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏{‏لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَبْلٍ يُسَاوِي ذَلِكَ وَكَذَا الْبَيْضَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ، أَنْ يُرَادَ بِهَا بَيْضَةُ السِّلَاحِ وَهِيَ تُسَاوِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ‏(‏وَيُكَمَّلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ‏)‏ فَلَوْ سَرَقَ دِرْهَمًا وَنِصْفَ دِرْهَمٍ مِنْ خَالِصِ الْفِضَّةِ وَثُمُنَ دِينَارٍ مِنْ خَالِصِ الذَّهَبِ قُطِعَ لِأَنَّهُ قَدْ سَرَقَ نِصَابًا‏.‏

‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ أَحَدِهِمَا‏)‏ أَيْ نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ‏(‏مِنْ غَيْرِهِمَا‏)‏ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ يُسَاوِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ سَرَقَ تُرْسًا مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ‏.‏

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ‏}‏ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏{‏لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ‏.‏

قِيلَ لِعَائِشَةَ‏:‏ مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ قَالَتْ رُبْعُ دِينَارٍ‏}‏ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ وَالْمِجَنُّ التُّرْسُ ‏(‏وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ‏)‏ أَيْ‏:‏ قِيمَةُ مَسْرُوقٍ لَيْسَ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً ‏(‏حَالَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ‏)‏ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ لِوُجُوبِ السَّبَبِ فِيهِ لَا مَا حَدَثَ بَعْدُ ‏(‏فَلَوْ نَقَصَتْ‏)‏ قِيمَةُ مَسْرُوقٍ ‏(‏بَعْدَ إخْرَاجِهِ قُطِعَ‏)‏ لِوُجُودِ النَّقْصِ بَعْدَ السَّرِقَةِ كَمَا لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يُقْطَعُ ‏(‏إنْ أَتْلَفَهُ‏)‏ أَيْ الْمَسْرُوقَ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ الْحِرْزِ ‏(‏بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ‏)‏ كَإِرَاقَةِ مَائِعٍ ‏(‏أَوْ نَقْصِهِ بِذَبْحٍ‏)‏ كَشَاةٍ قِيمَتُهَا نِصَابٌ فَذَبَحَهَا فِي الْحِرْزِ فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنْهُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْحِرْزِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا ‏(‏أَوْ‏)‏ نَقَصَهُ بِ ‏(‏غَيْرِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الذَّبْحِ بِأَنْ شَقَّ فِيهِ ثَوْبًا فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ النِّصَابِ ‏(‏ثُمَّ أَخْرَجَهُ‏)‏ فَلَا قَطْعَ لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

‏(‏وَإِنْ مَلَكَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ ‏(‏سَارِقٌ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا‏)‏ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزِهِ ‏(‏لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ‏)‏ بَعْدَ رَفْعِهِ لِلْحَاكِمِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْ السَّارِقِ نَصًّا لِحَدِيثِ ‏{‏صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَنَّهُ نَامَ عَلَى رِدَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَأُخِذَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَجَاءَ بِسَارِقِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرِدْ، هَذَا رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ‏}‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ وَفِي لَفْظٍ قَالَ ‏"‏ فَأَتَيْته فَقُلْت أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا قَالَ فَهَلَّا كَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ‏"‏ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُد فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الرَّفْعِ لَدَرَأَ الْقَطْعَ لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، وَهُوَ الطَّلَبُ، وَقَدْ ذَكَرْت مَا فِيهِ فِي الْحَاشِيَةِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ سَرَقَ فَرْدَ خُفٍّ قِيمَةُ كُلِّ‏)‏ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ‏(‏مُنْفَرِدًا دِرْهَمَانِ وَ‏)‏ قِيمَةُ الْمُنْفَرِدَيْنِ ‏(‏مَعًا عَشَرَةُ‏)‏ دَرَاهِمَ ‏(‏لَمْ يُقْطَعْ‏)‏ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ‏(‏وَعَلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّارِقِ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْفَرْدِ وَهُوَ الَّذِي سَرَقَهُ ‏(‏ثَمَانِيَةُ‏)‏ دَرَاهِمَ ‏(‏قِيمَةُ‏)‏ الْفَرْدِ ‏(‏الْمُتْلَفِ‏)‏ دِرْهَمَانِ ‏(‏وَنَقْصُ التَّفْرِقَةِ‏)‏ سِتَّةُ دَرَاهِمَ ‏(‏وَكَذَا جُزْءٌ مِنْ كِتَابٍ‏)‏ سَرَقَهُ وَأَتْلَفَهُ وَنَقَصَ بِالتَّفْرِيقِ، وَنَظَائِرُهُ كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ ‏(‏وَيَضْمَنُ‏)‏ مُتَعَدٍّ ‏(‏مَا فِي وَثِيقَةٍ‏)‏ مِنْ نَحْوِ دَيْنٍ ‏(‏أَتْلَفَهَا إنْ تَعَذَّرَ‏)‏ اسْتِيفَاؤُهُ بِدُونِ إحْضَارِهَا، وَكَذَا لَوْ أُتْلِفَتْ بِتَعَدِّيهِ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَتَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ‏.‏

‏(‏وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏نِصَابٍ قُطِعُوا‏)‏ كُلُّهُمْ لِوُجُوبِ سَبَبِ الْقَطْعِ مِنْهُمْ كَالْقَتْلِ ‏(‏حَتَّى مَنْ لَمْ يُخْرِجْ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏نِصَابًا‏)‏ كَامِلًا نَصًّا لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ كَمَا لَوْ كَانَ ثَقِيلًا فَحَمَلُوهُ ‏(‏وَلَوْ لَمْ يُقْطَعْ بَعْضُهُمْ لِشُبْهَةٍ أَوْ غَيْرِهَا‏)‏ كَأَنْ كَانَ شَرِيكًا لِأَبِي رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَبْدًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ ‏(‏قُطِعَ الْبَاقِي‏)‏ إنْ أَخَذَ نِصَابًا وَقِيلَ أَوْ أَقَلَّ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِهِمْ لِمَعْنَى لَيْسَ فِي غَيْرِهِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْغَيْرِ كَشَرِيكِ أَبٍ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ‏.‏

‏(‏وَيُقْطَعُ سَارِقُ نِصَابٍ لِجَمَاعَةٍ‏)‏ لِوُجُودِ السَّرِقَةِ وَالنِّصَابِ كَمَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ وَاحِدًا‏.‏

‏(‏وَإِنْ هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا وَدَخَلَاهُ فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ‏)‏ دُونَ الْآخَرِ قُطِعَا نَصًّا لِأَنَّ الْمُخْرِجَ أَخْرَجَهُ بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ وَمَعُونَتِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا و‏(‏دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَقَرَّبَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ ‏(‏الْمَسْرُوقَ مِنْ النَّقْبِ وَأَدْخَلَ الْآخَرَ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ مِنْ النَّقْبِ قُطِعَا؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ وَأَخْرَجَاهُ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَ ‏(‏وَضَعَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ ‏(‏وَسَطَ النَّقْبِ فَأَخَذَهُ الْخَارِجُ‏)‏ مِنْهُمَا ‏(‏قُطِعَا‏)‏ لِمَا سَبَقَ ‏(‏وَإِنْ رَمَاهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمَا ‏(‏إلَى‏)‏ رَفِيقِهِ ‏(‏الْخَارِجِ‏)‏ مِنْ الْحِرْزِ ‏(‏أَوْ نَاوَلَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ لِرَفِيقِهِ ‏(‏فَأَخَذَهُ‏)‏ رَفِيقُهُ وَهُوَ خَارِجُ الْحِرْزِ ‏(‏أَوْ لَا‏)‏ أَيْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ ‏(‏أَوْ أَعَادَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابَ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ الْحِرْزِ ‏(‏أَحَدُهُمَا قُطِعَ الدَّاخِلُ‏)‏ مِنْهُمَا الْحِرْزَ ‏(‏وَحْدَهُ‏)‏ لِأَنَّهُ الْمُخْرِجُ لِلنِّصَابِ وَحْدَهُ فَاخْتُصَّ الْقَطْعُ بِهِ ‏(‏وَإِنْ هَتَكَهُ‏)‏ أَيْ الْحِرْزَ ‏(‏أَحَدُهُمَا‏)‏ وَحْدَهُ ‏(‏وَدَخَلَ الْآخَرُ فَأَخْرَجَ الْمَالَ‏)‏ وَحْدَهُ ‏(‏فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْرِقْ‏.‏

وَالثَّانِي لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ ‏(‏وَلَوْ تَوَاطَآ‏)‏ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدِهِمَا فِيمَا فَعَلَهُ الْآخَرُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ وَالْقَصْدُ إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ الْفِعْلُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ‏.‏

‏(‏وَمَنْ نَقَبَ وَدَخَلَ‏)‏ الْحِرْزَ ‏(‏فَابْتَلَعَ‏)‏ فِيهِ ‏(‏جَوَاهِرَ أَوْ ذَهَبًا‏)‏ أَوْ نَحْوَهُمَا ‏(‏وَخَرَجَ بِهِ‏)‏ قُطِعَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ فِي كُمِّهِ ‏(‏أَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ‏)‏ فِي الْحِرْزِ ‏(‏عَلَى بَهِيمَةٍ فَخَرَجَتْ بِهِ‏)‏ الْبَهِيمَةُ وَلَوْ بِلَا سَوْقٍ قُطِعَ لِأَنَّ الْعَادَةَ مَشْيُ الْبَهِيمَةِ بِمَا يُوضَعُ عَلَيْهَا ‏(‏أَوْ‏)‏ تَرَكَ الْمَتَاعَ ‏(‏فِي مَاءٍ جَارٍ‏)‏ فَأَخْرَجَهُ الْمَاءُ قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ وَالْمَاءَ لَا إرَادَةَ لَهُمَا فِي الْإِخْرَاجِ ‏(‏أَوْ أَمَرَ‏)‏ مَنْ هَتَكَ الْحِرْزَ ‏(‏غَيْرَ مُكَلَّفٍ‏)‏ كَصَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ‏(‏بِإِخْرَاجِهِ‏)‏ أَيْ النِّصَابِ ‏(‏فَأَخْرَجَهُ‏)‏ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ قُطِعَ الْآمِرُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَهِيمَةِ ‏(‏أَوْ‏)‏ تَرَكَ هَاتِكُ الْحِرْزِ الْمَتَاعَ ‏(‏عَلَى جِدَارٍ‏)‏ دَاخِلَ الْحِرْزِ ‏(‏فَأَخْرَجَهُ رِيحٌ‏)‏ قُطِعَ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ مِنْهُ فَلَا أَثَرَ لِلرِّيحِ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ الْحِرْزَ و‏(‏رَمَى بِهِ‏)‏ أَيْ الْمَتَاعَ ‏(‏خَارِجًا‏)‏ عَنْ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ الْحِرْزَ و‏(‏جَذَبَهُ‏)‏ أَيْ الْمَتَاعَ ‏(‏بِشَيْءٍ‏)‏ وَهُوَ خَارِجُ الْحِرْزِ قُطِعَ لِمُبَاشَرَتِهِ إخْرَاجَهُ ‏(‏أَوْ اسْتَتْبَعَ سَخْلَ شَاةٍ‏)‏ بِأَنْ قَرَّبَ إلَيْهِ أُمَّهُ وَهُوَ فِي حِرْزِ مِثْلِهِ فَتَبِعَهَا وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا قُطِعَ لَا إنْ تَبِعَهَا السَّخْلُ بِلَا اسْتِتْبَاعٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَكَذَا عَكْسُهَا ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ الْحِرْزَ و‏(‏تَطَيَّبَ فِيهِ‏)‏ بِطِيبٍ كَانَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ ‏(‏وَ‏)‏ كَانَ مَا تَطَيَّبَ بِهِ ‏(‏لَوْ اجْتَمَعَ بَلَغَ‏)‏ مَا يُسَاوِي ‏(‏نِصَابًا‏)‏ قُطِعَ لِهَتْكِهِ الْحِرْزَ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ طِيبٍ‏.‏

‏(‏أَوْ هَتَكَ الْحِرْزَ‏)‏ وَقْتًا ‏(‏وَأَخَذَ الْمَالَ وَقْتًا آخَرَ‏)‏ وَقَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا قُطِعَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ عَقِبَ الْهَتْكِ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ الْحِرْزَ و‏(‏أَخَذَ بَعْضَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابِ ‏(‏ثُمَّ أَخَذَ بَقِيَّتَهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابِ ‏(‏وَقَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا‏)‏ مِنْ الزَّمَنِ قُطِعَ لِأَنَّهَا سَرِقَةٌ‏.‏

وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ بِنَاءَ فِعْلِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ بِنَاءِ فِعْلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا فِي لَيْلَتَيْنِ فَلَا قَطْعَ لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ مِنْهُمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَإِنْ عَلِمَ الْمَالِكُ هَتْكَ الْحِرْزِ وَأَهْمَلَهُ فَلَا قَطْعَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّرِقَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ هَتَكَ أَوْ ‏(‏فَتَحَ أَسْفَلَ كِوَارَةٍ فَخَرَجَ الْعَسَلُ شَيْئًا فَشَيْئًا‏)‏ أَوْ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا قُطِعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ الْأَخْذَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ جُمْلَةً ‏(‏أَوْ أَخْرَجَهُ‏)‏ السَّارِقُ أَيْ الْمَتَاعَ ‏(‏إلَى سَاحَةِ دَارٍ مِنْ بَيْتٍ مُغْلَقٍ مِنْهَا‏)‏ أَيْ الدَّارِ ‏(‏وَلَوْ أَنَّ بَابَهَا‏)‏ أَيْ الدَّارِ الَّتِي بِهَا الْبَيْتُ ‏(‏مُغْلَقٌ قُطِعَ‏)‏ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ مِنْهُ نِصَابًا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّارِ بَابٌ آخَرُ ‏(‏وَلَوْ عَلَّمَ إنْسَانٌ قِرْدًا‏)‏ أَوْ عُصْفُورًا وَنَحْوَهُ ‏(‏السَّرِقَةَ‏)‏ فَسَرَقَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ‏(‏فَ‏)‏ عَلَى مُعَلِّمِهِ ‏(‏الْغُرْمُ‏)‏ أَيْ‏:‏ غُرْمُ قِيمَةِ مَا أَخَذَهُ ‏(‏فَقَطْ‏)‏ أَيْ‏:‏ دُونَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏الْخَامِسُ إخْرَاجُهُ‏)‏ أَيْ النِّصَابِ ‏(‏مِنْ حِرْزٍ‏)‏ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ‏{‏أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الثِّمَارِ فَقَالَ مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَكْمَامِهِ وَاحْتُمِلَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ الْجَرِينِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِلْآيَةِ‏.‏

‏(‏فَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ‏)‏ بِأَنْ وَجَدَ حِرْزًا مَهْتُوكًا أَوْ بَابًا مَفْتُوحًا فَأَخَذَ مِنْهُ نِصَابًا ‏(‏فَلَا قَطْعَ‏)‏ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ‏.‏

‏(‏وَمَنْ أَخْرَجَ بَعْضَ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ بَعْضِ الثَّوْبِ ‏(‏نِصَابٌ قُطِعَ بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْبَعْضِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ‏(‏إنْ قَطَعَهُ‏)‏ مِنْ الثَّوْبِ لِتَحَقُّقِ إخْرَاجِهِ إذَنْ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَقْطَعْ مَا أَخْرَجَهُ ‏(‏فَلَا قَطْعَ‏)‏ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ خَشَبَةٍ وَبَاقِيهَا دَاخِلَ الْحِرْزِ وَلَمْ يَقْطَعْهَا لِلتَّبَعِيَّةِ وَمَنْ هَتَكَ حِرْزًا وَاحْتَلَبَ لَبَنَ مَاشِيَةٍ فَإِنْ أَخْرَجَهُ وَبَلَغَ نِصَابًا قُطِعَ وَإِنْ شَرِبَهُ دَاخِلَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ دُونَ نِصَابٍ فَلَا‏.‏

‏(‏وَحِرْزُ كُلِّ مَالٍ مَا حُفِظَ فِيهِ‏)‏ ذَلِكَ الْمَالُ ‏(‏عَادَةً‏)‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ الْحِفْظُ وَمِنْهُ احْتَرَزَ مِنْ كَذَا وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ بَيَانُهُ وَلِأَنَّهُ عُرْفٌ لُغَوِيٌّ يَتَقَدَّرُ بِهِ كَالْقَبْضِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ ‏(‏وَيَخْتَلِفُ‏)‏ الْحِرْزُ ‏(‏بِاخْتِلَافِ جِنْسِ‏)‏ الْمَالِ ‏(‏وَ‏)‏ بِاخْتِلَافِ ‏(‏بَلَدٍ‏)‏ كِبَرًا وَصِغَرًا لِخَفَاءِ السَّارِقِ بِالْبَلَدِ الْكَبِيرِ لِسَعَةِ أَقْطَارِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ الصَّغِيرِ ‏(‏وَ‏)‏ يَخْتَلِفُ الْحِرْزُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ ‏(‏عَدْلِ السُّلْطَانِ وَقُوَّتِهِ وَضِدِّهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ جَوْرِهِ وَضَعْفِهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْعَدْلَ يُقِيمُ الْحُدُودَ فَتَقِلُّ السُّرَّاقُ خَوْفًا مِنْ الرَّفْعِ إلَيْهِ فَيَقْطَعُ فَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى زِيَادَةِ حِرْزٍ وَإِنْ كَانَ جَائِرًا يُشَارِكُ مَنْ الْتَجَأَ إلَيْهِ مِنْ الذُّعَّارِ وَيَذُبُّ عَنْهُمْ قَوِيَتْ صَوْلَتُهُمْ فَيَحْتَاجُ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِزِيَادَةِ التَّحَفُّظِ وَكَذَا الْحَالُ مَعَ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ ‏(‏فَحِرْزُ جَوْهَرٍ‏)‏ وَنَحْوِهِ ‏(‏وَنَقْدٍ‏)‏ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ‏(‏وَقُمَاشٍ فِي الْعُمْرَانِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْأَبْنِيَةِ الْحَصِينَةِ فِي الْمَحَالِّ الْمَسْكُونَةِ مِنْ الْبَلَدِ ‏(‏بِدَارٍ وَدُكَّانٍ وَرَاءَ غَلْقٍ وَثِيقٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ قُفْلٍ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَبْوَابُ مُفَتَّحَةً وَلَا حَافِظَ فِيهَا فَلَيْسَتْ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَزَائِنُ مُغْلَقَةٌ، فَالْخَزَائِنُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا ‏(‏وَصُنْدُوقٌ‏)‏ مُبْتَدَأٌ ‏(‏بِسُوقٍ وَثَمَّ‏)‏ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ ‏(‏حَارِسٌ‏)‏ بِالسُّوقِ ‏(‏حِرْزٌ‏)‏ خَبَرٌ لِمَا فِي الصُّنْدُوقِ، فَمَنْ أَخَذَ نِصَابًا قُطِعَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَارِسٌ فَلَيْسَ حِرْزًا‏.‏

‏(‏وَحِرْزُ بَقْلٍ وَقُدُورِ بَاقِلَّا وَ‏)‏ قُدُورِ ‏(‏طَبِيخٍ وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏خَزَفٍ وَثَمَّ حَارِسٌ وَرَاءَ الشَّرَائِجِ‏)‏‏:‏ جَمْعُ شَرِيجَةٍ، شَيْءٌ يُعْمَلُ مِنْ نَحْوِ قَصَبٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ بِنَحْوِ حَبْلٍ، لِأَنَّ الْعَادَةَ إحْرَازُ ذَلِكَ كَذَلِكَ ‏(‏وَحِرْزُ خَشَبٍ وَحَطَبٍ الْحَظَائِرُ‏)‏ جَمْعُ حَظِيرَةٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ‏.‏

مَا يُعْمَلُ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مِنْ الشَّجَرِ تَأْوِي إلَيْهِ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَيُرْبَطُ بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَخْذُ شَيْء مِنْهُ وَأَصْلُ الْحَظْرِ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَتْ بِخَانٍ مُغْلَقٍ فَهُوَ أَحْرَزُ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏مَاشِيَةٍ‏)‏ مِنْ إبِلٍ، وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ ‏(‏الصَّيْرِ‏)‏ جَمْعُ صَيْرَةٍ وَهِيَ حَظِيرَةُ الْغَنَمِ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ مَاشِيَةٍ ‏(‏فِي مَرْعًى بِرَاعٍ يَرَاهَا غَالِبًا‏)‏ لِأَنَّ الْعَادَةَ حِرْزُهَا بِذَلِكَ فَمَا غَابَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ خَرَجَ عَنْ الْحِرْزِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏سُفُنٍ فِي شَطِّ بِرَبْطِهَا‏)‏ بِهِ عَلَى الْعَادَةِ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏إبِلٍ بَارِكَةٍ مَعْقُولَةٍ بِحَافِظٍ حَتَّى نَائِمٍ‏)‏ لِأَنَّ عَادَةَ مُلَّاكِهَا عَقْلُهَا إذَا نَامُوا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فَبِحَافِظٍ يَقْظَانَ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏حَمُولَتِهَا‏)‏ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ‏:‏ الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ ‏(‏بِتَقْطِيرِهَا مَعَ قَائِدٍ يَرَاهَا‏)‏ إذَا الْتَفَتَ وَكَذَا مَعَ سَائِقٍ يَرَاهَا بَلْ أَوْلَى ‏(‏وَمَعَ عَدَمِ تَقْطِيرِ‏)‏ الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ ‏(‏سَائِقٌ يَرَاهَا‏)‏ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ فِي حِفْظِهَا وَمَنْ سَرَقَ جَمَلًا بِمَا عَلَيْهِ وَصَاحِبُهُ عَلَيْهِ نَائِمٌ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ قُطِعَ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏بُيُوتٍ فِي صَحْرَاءَ وَ‏)‏ حِرْزُ بُيُوتٍ ‏(‏فِي بَسَاتِينَ بِمُلَاحِظٍ‏)‏ يَرَاهَا إنْ كَانَتْ مَفْتُوحَةً ‏(‏فَإِنْ كَانَتْ مُغْلَقَةً فَبِنَائِمٍ‏)‏ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا مُلَاحِظٌ ثَمَّ يَرَاهَا فَلَيْسَتْ حِرْزًا مُغْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مَفْتُوحَةً ‏(‏وَكَذَا‏)‏ أَيْ كَالْبُيُوتِ فِي صَحْرَاءَ وَبَسَاتِينَ ‏(‏خَيْمَةٌ وَخَرْكَاةٌ وَنَحْوُهُمَا‏)‏ كَبَيْتِ شَعْرٍ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُلَاحِظٌ وَكَانَتْ مُغْلَقَةً وَفِيهَا نَائِمٌ فَمُحْرَزَةٌ وَإِلَّا فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا وَلَا عَلَى سَارِقٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ عَادَةً ‏(‏وَحِرْزُ ثِيَابٍ فِي حَمَّامٍ وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏أَعْدَالٍ‏)‏ بِسُوقٍ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏غَزْلٍ بِسُوقٍ أَوْ‏)‏ فِي ‏(‏خَانٍ وَمَا كَانَ مُشْتَرَكًا فِي دُخُولٍ‏)‏ كَرِبَاطٍ ‏(‏بِحَافِظٍ‏)‏ يَرَاهَا ‏(‏كَقُعُودِهِ عَلَى مَتَاعٍ‏)‏‏.‏

وَتَوَسُّدِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُتَوَسِّدُهُ‏.‏

‏(‏وَإِنْ فَرَّطَ حَافِظٌ‏)‏ فِي حَمَّامٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَكَانٍ مُشْتَرَكِ الدُّخُولِ كَالْمَصْبَغَةِ وَالتَّكِيَّةِ وَالْخَانِكَاهِ ‏(‏فَنَامَ أَوْ اشْتَغَلَ فَلَا قَطْعَ‏)‏ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ ‏(‏وَضَمِنَ الْمَسْرُوقَ حَافِظٌ‏)‏ مُعَدٌّ لِلْحِفْظِ ‏(‏وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْفِظْهُ‏)‏ لِتَفْرِيطِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْحِفْظِ كَجَالِسٍ بِمَسْجِدٍ وُضِعَ عِنْدَهُ مَتَاعٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْتَحْفِظْهُ وَيَقْبَلْ صَرِيحًا وَيُفَرِّطْ‏.‏

‏(‏وَحِرْزُ كَفَنٍ مَشْرُوعٍ يُقْبَرُ عَلَى مَيِّتٍ‏)‏ فَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا وَأَخَذَ مِنْهُ كَفَنًا أَوْ بَعْضَهُ يُسَاوِي نِصَابًا قُطِعَ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَقَوْلِ عَائِشَةَ‏:‏ سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا، فَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَأَنْ كُفِّنَ الرَّجُلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَفَائِفَ أَوْ امْرَأَةٌ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ فَسَرَقَ الزَّائِدَ عَنْ الْمَشْرُوعِ أَوْ تُرِكَ الْمَيِّتُ فِي تَابُوتٍ فَأَخَذَ التَّابُوتَ أَوْ تُرِكَ مَعَهُ طِيبٌ مَجْمُوعٌ أَوْ نَحْوُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَأَخَذَ فَلَا قَطْعَ لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ فَلَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِالْقَبْرِ وَكَذَا إنْ لَمْ يُخْرِجْ الْكَفَنَ مِنْ الْقَبْرِ بَلْ مِنْ اللَّحْدِ وَوَضَعَهُ فِي الْقَبْرِ كَنَقْلِ الْمَتَاعِ فِي الْبَيْتِ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ وَكَذَا إنْ أُكِلَ الْمَيِّتُ وَنَحْوُهُ وَبَقِيَ الْكَفَنُ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ كَمَا لَوْ زَالَ نَائِمٌ بِنَحْوِ مَسْجِدٍ عَنْ رِدَائِهِ ثُمَّ سُرِقَ ‏(‏وَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْكَفَنُ ‏(‏مِلْكٌ لَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَيِّتِ اسْتِصْحَابًا لِلْحَيَاةِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا عَمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ ‏(‏وَالْخَصْمُ فِيهِ الْوَرَثَةُ‏)‏ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ كَوَلِيِّ غَيْرِ مُكَلَّفٍ ‏(‏فَإِنْ عُدِمُوا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْوَرَثَةُ ‏(‏فَ‏)‏ الْخَصْمُ فِيهِ ‏(‏نَائِبُ الْإِمَامِ‏)‏ لِأَنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ كَالْقَوَدِ وَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ مُتَبَرِّعًا فَكَذَلِكَ وَهُوَ الْخَصْمُ فِيهِ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ لِانْتِفَاءِ صِحَّةِ تَمْلِيكِ الْمَيِّتِ بَلْ هُوَ إبَاحَةٌ‏.‏

‏(‏وَحِرْزُ بَابٍ تَرْكِيبُهُ بِمَوْضِعِهِ‏)‏ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا لِأَنَّهُ الْعَادَةُ ‏(‏وَ‏)‏ حِرْزُ ‏(‏حَلْقَتِهِ‏)‏ أَيْ الْبَابِ ‏(‏بِتَرْكِيبِهَا فِيهِ‏)‏ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ كَبَعْضِهِ فَمَنْ أَخَذَ بَابًا مَنْصُوبًا أَوْ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا قُطِعَ ‏(‏وَتَأْزِيرٌ‏)‏ أَيْ مَا يُجْعَلُ فِي أَسْفَلِ الْحَائِطِ مِنْ لِبَادٍ أَوْ زُفُوفٍ وَنَحْوِهَا ‏(‏وَجِدَارٌ وَسَقْفٌ كَبَابٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَحِرْزُهُ وَضْعُهُ بِمَحَلِّهِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قُطِعَ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعِهِ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا لَا قَطْعَ إنْ فَكَّ التَّأْزِيرَ وَهَدَمَ الْجِدَارَ أَوْ فَكَّ خَشَبًا مِنْ السَّقْفِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ‏(‏وَنَوْمٌ‏)‏ مُبْتَدَأٌ ‏(‏عَلَى رِدَاءٍ‏)‏ بِمَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ عَلَى ‏(‏مَجْرِ فَرَسِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الرِّدَاءِ أَوْ مَجْرِ الْفَرَسِ ‏(‏وَنَعْلٌ بِرِجْلٍ‏)‏ وَمِثْلُهُ خُفٌّ وَنَحْوُهُ ‏(‏حِرْزٌ‏)‏ خَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُحَرَّزُ عَادَةً، وَلِقِصَّةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ فَإِنْ زَالَ عَنْ الرِّدَاءِ أَوْ مَجْرِ الْفَرَسِ أَوْ كَانَ النَّعْلُ بِغَيْرِ رِجْلِهِ فَلَا قَطْعَ إنْ لَمْ يَكُنْ بِنَحْوِ دَارٍ‏.‏

‏(‏فَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا أَوْ أَخَذَ الْكَفَنَ‏)‏ الْمَشْرُوعَ وَبَلَغَ نِصَابًا قُطِعَ، لَا مَنْ وَجَدَ قَبْرًا مَنْبُوشًا فَأَخَذَ مِنْهُ كَفَنًا‏.‏

‏(‏أَوْ سَرَقَ رِتَاجَ الْكَعْبَةِ‏)‏ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ‏:‏ بَابَهَا الْعَظِيمِ قُطِعَ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏بَابَ مَسْجِدٍ‏)‏ أَوْ رِبَاطٍ ‏(‏أَوْ سَقْفِهِ أَوْ تَأْزِيرِهِ‏)‏ قُطِعَ ‏(‏أَوْ سَحَبَ رِدَاءَهُ‏)‏ أَيْ النَّائِمِ مِنْ تَحْتِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَحَبَ ‏(‏مَجْرَ فَرَسِهِ مِنْ تَحْتِهِ أَوْ‏)‏ سَحَبَ ‏(‏نَعْلًا مِنْ رِجْلِ‏)‏ لَابِسِهِ ‏(‏وَبَلَغَ‏)‏ مَا أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ ‏(‏نِصَابًا قُطِعَ‏)‏ سَارِقُهُ لِسَرِقَتِهِ نِصَابًا حِرْزُ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِلْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ‏(‏سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ الْخَارِجَةِ‏)‏ نَصًّا ‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَتْ ‏(‏مُخَيَّطَةً عَلَيْهَا‏)‏ كَغَيْرِ الْمُخَيَّطَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّزَةٍ ‏(‏وَلَا بِ‏)‏ سَرِقَةِ ‏(‏قَنَادِيلِ الْمَسْجِدِ وَحُصُرِهِ وَنَحْوِهِمَا‏)‏ مِمَّا هُوَ لِنَفْعِ الْمُصَلِّينَ كَقَفَصٍ يَضَعُونَ نِعَالَهُمْ فِيهِ وَخَابِيَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْهَا ‏(‏إنْ كَانَ‏)‏ السَّارِقُ ‏(‏مُسْلِمًا‏)‏ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا كَسَرِقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا قُطِعَ‏.‏

‏(‏وَمَنْ سَرَقَ تَمْرًا أَوْ طَلْعًا أَوْ جُمَّارًا أَوْ مَاشِيَةً‏)‏ فِي الْمَرْعَى ‏(‏مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ كَمِنْ شَجَرَةٍ وَلَوْ‏)‏ كَانَتْ الشَّجَرَةُ ‏(‏بِبُسْتَانٍ مُحَوَّطٍ‏)‏ عَلَيْهِ و‏(‏فِيهِ حَافِظٌ فَلَا قَطْعَ‏)‏ لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا ‏{‏لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فَإِنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ بِدَارٍ مُحْرِزَةٍ قُطِعَ‏.‏

‏(‏وَضُعِّفَتْ‏)‏ عَلَى سَارِقِهِ ‏(‏قِيمَتُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمَسْرُوقِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ طَلْعٍ أَوْ جُمَّارٍ أَوْ مَاشِيَةٍ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَيَضْمَنُ عِوَضَ مَا سَرَقَهُ مَرَّتَيْنِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ‏"‏ قَالَ ‏{‏سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ لَهُ‏.‏

قَالَ أَحْمَدُ‏:‏ لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ‏.‏

وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ غَرَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ نَحَرَ غِلْمَانُهُ نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةُ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا‏.‏

رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَالْخُبْنَةُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ، ثُمَّ نُونٍ‏:‏ الْحُجْزَةُ ‏(‏وَلَا تُضَعَّفُ‏)‏ قِيمَتُهَا ‏(‏فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ‏)‏ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ‏.‏

‏(‏وَلَا قَطْعَ‏)‏ بِسَرِقَةٍ ‏(‏عَامِ مَجَاعَةٍ غِلَال لَمْ يَجِدْ‏)‏ سَارِقٌ ‏(‏مَا يَشْتَرِيهِ أَوْ‏)‏ مَا ‏(‏يَشْتَرِي بِهِ‏)‏ نَصًّا قَالَ جَمَاعَةٌ مَا لَمْ يُبْذَلْ لَهُ وَلَوْ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَفِي التَّرْغِيبِ‏:‏ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏السَّادِسُ انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةٍ مِنْ‏)‏ مَالِ ‏(‏عَمُودَيْ نَسَبِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّارِقِ، أَمَّا سَرِقَتُهُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَلِحَدِيثِ ‏{‏أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك‏}‏، وَأَمَّا سَرِقَتُهُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ مِنْ مَالِ وَلَدِ ابْنِهِ أَوْ وَلَدِ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفَلَا؛ فَلِأَنَّ بَيْنَهُمْ قَرَابَةً تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِأَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ حِفْظًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ حِفْظًا لِلْمَالِ ‏(‏وَلَا‏)‏ قَطْعَ بِسَرِقَةٍ ‏(‏مِنْ مَالٍ لَهُ‏)‏ أَيْ السَّارِقِ ‏(‏شِرْكٌ فِيهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ لَا يُقْطَعُ‏)‏ السَّارِقُ ‏(‏بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ‏)‏ شِرْكٌ فِيهِ كَأَبِيهِ وَوَلَدِهِ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِالْبَعْضِ الَّذِي لَا يَجِبُ بِسَرِقَتِهِ قَطْعٌ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَا قَطْعَ بِسَرِقَةٍ ‏(‏مِنْ غَنِيمَةٍ لِأَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ‏)‏ مِنْ سَارِقٍ وَعَمُودَيْ نَسَبِهِ ‏(‏فِيهَا حَقٌّ‏)‏ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَكَذَا قِنٌّ سَرَقَ مِنْ غَنِيمَةٍ لِسَيِّدِهِ فِيهَا حَقٌّ ‏(‏وَلَا‏)‏ قَطْعَ بِسَرِقَةِ ‏(‏مُسْلِمٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ‏)‏ لِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا قَطْعَ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ‏.‏

وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ عَلِيٍّ لَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَطْعٌ ‏(‏إلَّا الْقِنَّ‏)‏ نَصًّا ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ قَالَ ‏(‏الْمُنَقِّحُ‏:‏ وَالصَّحِيحُ لَا قَطْعَ انْتَهَى لِأَنَّهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْقِنَّ ‏(‏لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُقْطَعُ بِهِ سَيِّدُهُ‏)‏ وَسَيِّدُهُ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا هُوَ وَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مُكَاتِبٍ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَعَكْسِهِ كَقِنِّهِ، إذْ الْمُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ فَرُفِعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَقَالَ‏:‏ مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا‏}‏ ‏(‏وَلَا‏)‏‏.‏

قَطْعَ ‏(‏بِسَرِقَةِ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ مَالِ الْآخَرِ وَلَوْ أُحْرِزَ عَنْهُ‏)‏ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ بِغَيْرِ حَجْبٍ وَيَبْسُطُ فِي مَالِهِ أَشْبَهَ الْوَلَدَ مَعَ الْوَالِدِ، وَكَمَا لَوْ مَنَعَهَا نَفَقَتَهَا ‏(‏وَلَا‏)‏ قَطْعَ ‏(‏بِسَرِقَةِ مَسْرُوقٍ مِنْهُ أَوْ‏)‏ بِسَرِقَةِ ‏(‏مَغْصُوبٍ مِنْهُ مَالُ سَارِقٍ أَوْ‏)‏ مَالُ ‏(‏غَاصِبٍ مِنْ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ أَوْ‏)‏ مِنْ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ ‏(‏الْمَغْصُوبَةُ‏)‏ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةً فِي هَتْكِ الْحِرْزِ إذَنْ لِأَخْذِهِ عَيْنَ مَالٍ، فَإِذَا هَتَكَ صَارَ كَأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ‏(‏وَإِنْ سَرَقَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ سَرَقَ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ أَوْ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ مِنْ مَالِ سَارِقٍ أَوْ غَاصِبٍ ‏(‏مِنْ حِرْزِ آخَرَ‏)‏ غَيْرِ الَّذِي بِهِ مَا سَرَقَ مِنْهُ أَوْ غَصَبَ مِنْهُ قُطِعَ لِسَرِقَتِهِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏مَالَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ‏)‏ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا الْحِرْزِ ‏(‏لَا‏)‏ إنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ ‏(‏بِقَدْرِهِ‏)‏ أَيْ الدَّيْنِ ‏(‏لِعَجْزِهِ‏)‏ عَنْ اسْتِخْلَاصِهِ بِحَاكِمٍ لِإِبَاحَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَهُ الْأَخْذَ إذَنْ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَإِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ وَبَلَغَ الزَّائِدُ نِصَابًا قُطِعَ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏عَيْنًا قُطِعَ بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِسَرِقَتِهَا ‏(‏فِي سَرِقَةٍ أُخْرَى‏)‏ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ حِرْزِهَا الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ أَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ غَيْرَهَا بِخِلَافِ حَدِّ قَذْفٍ فَلَا يُعَادُ بِإِعَادَةِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إظْهَارُ كَذِبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ‏.‏

‏(‏أَوْ أَجَّرَ‏)‏ إنْسَانٌ دَارِهِ ‏(‏أَوْ أَعَارَ دَارِهِ ثُمَّ سَرَقَ‏)‏ مُؤَجِّرٌ ‏(‏مِنْهَا مَالُ مُسْتَأْجِرٍ أَوْ‏)‏ سَرَقَ مُعِيرٌ مِنْهَا مَالَ ‏(‏مُسْتَعِيرٍ‏)‏ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ، كَمَا لَوْ سَرَقَهُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ الْمُسْتَعِيرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارُهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ مِنْهَا ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏مِنْ‏)‏ مَالِ ‏(‏قَرَابَةٍ‏)‏ لَهُ ‏(‏غَيْرَ عَمُودَيْ نَسَبِهِ كَأَخِيهِ وَنَحْوِهِ‏)‏ كَعَمِّهِ وَخَالِهِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَلَا تَمْنَعُ الْقَطْعَ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ‏)‏ مِنْ ‏(‏مُسْتَأْمَنٍ‏)‏ قُطِعَ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ ‏(‏أَحَدُهُمَا‏)‏ أَيْ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ ‏(‏مِنْهُ‏)‏ أَيْ الْمُسْلِمِ ‏(‏قُطِعَ‏)‏ سَارِقٌ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ كَسَرِقَةِ مُسْلِمٍ مِنْ مُسْلِمٍ‏.‏

‏(‏وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا وَادَّعَى مِلْكَهَا أَوْ‏)‏ مِلْكَ ‏(‏بَعْضِهَا‏)‏ لَمْ يُقْطَعْ، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ السَّارِقَ الظَّرِيفَ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ فَهُوَ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَرَقَ عَيْنًا وَادَّعَى ‏(‏الْإِذْنَ‏)‏ مِنْ صَاحِبِ الْحِرْزِ ‏(‏فِي دُخُولِ الْحِرْزِ لَمْ يُقْطَعْ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ ‏(‏وَيَأْخُذُهَا‏)‏ أَيْ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِنْ سَارِقٍ ادَّعَى مِلْكَهَا أَوْ بَعْضَهَا ‏(‏مَسْرُوقٌ مِنْهُ بِيَمِينِهِ‏)‏ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَحْدَهُ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ‏.‏

الشَّرْطُ‏.‏

‏(‏السَّابِعُ ثُبُوتُهَا‏)‏ أَيْ السَّرِقَةِ ‏(‏بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ وَالْأَصْلُ عُمُومُهُ لَكِنْ خُولِفَ فِيمَا فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ لِلدَّلِيلِ فَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى عُمُومِهِ ‏(‏بِصِفَاتِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّرِقَةِ فِي شَهَادَتِهِمَا وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فَيُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا ‏(‏وَلَا تُسْمَعُ‏)‏ شَهَادَتُهُمَا ‏(‏قَبْلَ الدَّعْوَى‏)‏ مِنْ مَالِكٍ مَسْرُوقٍ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ‏(‏أَوْ بِإِقْرَارِ‏)‏ السَّارِقِ ‏(‏مَرَّتَيْنِ‏)‏ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا فَاعْتُبِرَ تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ فِيهِ كَالزِّنَا أَوْ يُقَالُ‏:‏ الْإِقْرَارُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّكْرَارُ كَالشَّهَادَةِ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا بِمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ‏:‏ لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ ‏(‏وَيَصِفَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّرِقَةَ السَّارِقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِاحْتِمَالِ ظَنِّهِ وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَيْهِ مَعَ فَقْدِ بَعْضِ شُرُوطِهِ ‏(‏وَلَا يَنْزِعُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَرْجِعُ عَنْ إقْرَارِهِ ‏(‏حَتَّى يُقْطَعَ‏)‏ فَإِنْ رَجَعَ تُرِكَ ‏(‏وَلَا بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ‏)‏ أَيْ السَّارِقِ ‏(‏الْإِنْكَارَ‏)‏ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ فَقَالَ‏:‏ مَا أَخَالُك سَرَقْت‏؟‏ قَالَ بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏

فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد‏.‏

الشَّرْطُ ‏(‏الثَّامِنُ مُطَالَبَةُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ أَوْ‏)‏ مُطَالَبَةُ ‏(‏وَكِيلِهِ أَوْ‏)‏ مُطَالَبَةُ ‏(‏وَلِيِّهِ‏)‏ أَيْ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِحَظِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ فَيُحْتَمَلُ إبَاحَةُ مَالِكِهِ إيَّاهُ أَوْ إذْنُهُ لَهُ فِي دُخُولِ حِرْزِهِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَإِذَا طَالَبَ رَبُّ الْمَالِ بِهِ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ ‏(‏فَلَوْ أَقَرَّ‏)‏ شَخْصٌ ‏(‏بِسَرِقَةٍ مِنْ غَائِبٍ أَوْ قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ اُنْتُظِرَ حُضُورُهُ وَدَعْوَاهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْغَائِبِ بِأَنْ يُطَالِبَ السَّارِقَ لِتَكْمُلَ شُرُوطُ الْقَطْعِ ‏(‏فَيُحْبَسُ‏)‏ السَّارِقُ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ وَطَلَبِهِ أَوْ تَرْكِهِ ‏(‏وَتُعَادُ‏)‏ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ دَعْوَاهُ لِأَنَّ تَقَدُّمَهَا عَلَيْهِ شَرْطٌ لِلِاعْتِدَادِ بِهَا ‏(‏وَإِنْ كَذَّبَ مُدَّعٍ نَفْسَهُ‏)‏ فِي شَيْء مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ سَقَطَ الْقَطْعُ لِفَوَاتِ شُرُوطِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ َإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى

وَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ‏"‏ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ‏"‏ وَهُوَ إمَّا قِرَاءَةٌ أَوْ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ جِنَايَةُ الْيُمْنَى غَالِبًا فَتُقْطَعُ ‏(‏مِنْ مِفْصَلِ كَفِّهِ‏)‏ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ‏:‏ تُقْطَعُ يُمْنَى السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ‏.‏

وَلِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَيْهَا إلَى الْكُوعِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ وَإِلَى الْمَنْكِبِ وَإِرَادَةُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُقْطَعُ مَعَ الشَّكِّ ‏(‏وَحُسِمَتْ وُجُوبًا‏)‏ ‏{‏لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَارِقٍ اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ‏}‏‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي إسْنَادِهِ مَقَالًا، وَحَسْمُهَا ‏(‏بِغَمْسِهَا فِي زَيْتٍ مَغْلِيٍّ‏)‏ لِتَسْتَدَّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ فَيَنْقَطِعُ الدَّمُ إذْ لَوْ تُرِكَ بِلَا حَسْمٍ لَنَزَفَ الدَّمُ فَأَدَّى إلَى مَوْتِهِ‏.‏

‏(‏وَسُنَّ تَعْلِيقُهَا‏)‏ أَيْ يَدِ السَّارِقِ الْمَقْطُوعَةِ ‏(‏فِي عُنُقِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنْ رَآهُ الْإِمَامُ‏)‏ أَيْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ لِتَتَّعِظَ السُّرَّاقُ بِهِ‏.‏

‏(‏فَإِنْ عَادَ‏)‏ مَنْ قُطِعَتْ يُمْنَاهُ إلَى السَّرِقَةِ ‏(‏قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ كَعْبِهِ بِتَرْكِ عَقِبِهِ‏)‏ أَمَّا قَطْعُ الرِّجْلِ فَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏{‏فِي السَّارِقِ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ‏}‏ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا الْيُسْرَى فَقِيَاسًا عَلَى الْمُحَارَبَةِ، وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الرِّجْلِ الْيُمْنَى أَسْهَلُ وَأَمْكَنُ لَهُ مِنْ الْيُسْرَى، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ مَفْصِلِ كَعْبِهِ وَتَرْكِ عَقِبِهِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ وَيَتْرُكُ عَقِبَهَا يَمْشِي عَلَيْهَا ‏(‏وَحُسِمَتْ‏)‏ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَدِهِ وَيَنْبَغِي فِي قَطْعِهِ أَنْ يُقْطَعَ بِأَسْهَلَ مَا يُمْكِنُ بِأَنْ يُجْلَسَ وَيُضْبَطَ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَتَشْدِيدِهِ بِحَبْلٍ وَتُجَرَّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الْمَفْصِلَ ثُمَّ تُوضَعُ السِّكِّينُ وَتُجَرَّ بِقُوَّةٍ لِيَقْطَعَ فِي مَرَّةٍ‏.‏

‏(‏فَإِنْ عَادَ‏)‏ فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ ‏(‏حُبِسَ حَتَّى يَتُوبَ وَيَحْرُمُ أَنْ يُقْطَعَ‏)‏ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ‏"‏ حَضَرْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَتَى بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا‏؟‏ قَالُوا اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ‏:‏ أَقْتُلُهُ إذَنْ وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ، بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ‏؟‏ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ‏؟‏ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ إلَى حَاجَتِهِ‏؟‏ فَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ ‏"‏ رَوَاهُ سَعِيدٌ‏.‏

وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ يَدِهِ الْأُخْرَى تَفْوِيتًا لِمَنْفَعَةِ جِنْسِ الْيَدِ وَذَهَابَ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ، وَحِكْمَةُ حَبْسِهِ كَفُّهُ عَنْ السَّرِقَةِ وَتَعْزِيرُهُ‏.‏

‏(‏فَلَوْ سَرَقَ‏)‏ شَخْصٌ ‏(‏وَيَمِينُهُ‏)‏ أَيْ يُمْنَى يَدِهِ ذَاهِبَةٌ ‏(‏أَوْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ذَاهِبَةٌ قُطِعَ الْبَاقِي مِنْهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ يُمْنَى يَدَيْهِ وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ لَا تَتَعَطَّلُ بِذَلِكَ وَلَيْسَا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ ‏(‏وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ‏)‏ مِنْ السَّارِقِ ‏(‏يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ‏)‏ مِنْهُ شَيْءٌ ‏(‏لِتَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ وَذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ‏)‏ بِذَلِكَ الْقَطْعِ لَوْ فَعَلَ ‏(‏وَلَوْ كَانَ‏)‏ الذَّاهِبُ ‏(‏يَدَيْهِ أَوْ يُسْرَاهُمَا لَمْ تُقْطَعْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى‏)‏ لِذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ ‏(‏وَلَوْ كَانَ‏)‏ الذَّاهِبُ ‏(‏رِجْلَيْهِ أَوْ يُمْنَاهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ يَمِينَ رِجْلَيْهِ ‏(‏قُطِعَتْ يُمْنَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهَا الْآلَةُ وَمَحَلُّ النَّصِّ‏)‏ وَلَا يَذْهَبُ بِقَطْعِهَا مَنْفَعَةُ جِنْسِهَا‏.‏

‏(‏وَلَوْ ذَهَبَتْ بَعْدَ سَرِقَتِهِ يُمْنَى‏)‏ يَدَيْهِ ‏(‏أَوْ يُسْرَى يَدَيْهِ أَوْ‏)‏ ذَهَبَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ يُمْنَى ‏(‏أَوْ‏)‏ يُسْرَى يَدَيْهِ مَعَ رِجْلَيْهِ أَوْ ذَهَبَتْ يُمْنَى أَوْ يُسْرَى يَدَيْهِ مَعَ ‏(‏إحْدَاهُمَا‏)‏ أَيْ إحْدَى رِجْلَيْهِ ‏(‏سَقَطَ الْقَطْعُ‏)‏ أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِتَلَفِ مَحَلِّ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ‏.‏

وَأَمَّا سُقُوطُهُ فِي الثَّانِيَةِ فَلِذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ بِقَطْعِ يُمْنَاهُ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَكَذَلِكَ وَأَوْلَى و‏(‏لَا‏)‏ يَسْقُطُ الْقَطْعُ ‏(‏إنْ كَانَ الذَّاهِبُ‏)‏ بَعْدَ سَرِقَتِهِ ‏(‏يُمْنَى رِجْلَيْهِ أَوْ يُسْرَى رِجْلَيْهِ أَوْ هُمَا‏)‏ أَيْ رِجْلَيْهِ لِبَقَاءِ مَنْفَعَةِ جِنْسِ الْمَقْطُوعَةِ ‏(‏وَالشَّلَا‏)‏ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ ‏(‏وَلَوْ أُمِنَ التَّلَفُ بِقَطْعِهَا‏)‏ كَمَعْدُومَةٍ ‏(‏وَمَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا‏)‏ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ ‏(‏كَمَعْدُومَةٍ‏)‏ كَأَنْ ذَهَبَ مِنْهَا ثَلَاثُ أَصَابِعَ ‏(‏لَا مَا‏)‏ أَيْ‏:‏ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ ‏(‏ذَهَبَ مِنْهَا خِنْصِرٌ وَبِنْصِرٌ‏)‏ بِكَسْرِ الصَّادِ فِيهِمَا فَقَطْ أَوْ ذَهَبَ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ ‏(‏أُصْبُعٌ سِوَاهُمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْخِنْصِرِ وَالْبِنْصِرِ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَتْ الْأُصْبُعُ الذَّاهِبَةُ ‏(‏الْإِبْهَامَ‏)‏ فَلَيْسَتْ كَالْمَعْدُومَةِ لِبَقَاءِ مُعْظَمِ نَفْعِهَا فَيُقْطَعُ مِنْ السَّارِقِ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ‏.‏

‏(‏وَإِنْ وَجَبَ قَطْعُ يُمْنَاهُ‏)‏ أَيْ السَّارِقِ ‏(‏فَقَطَعَ قَاطِعٌ يُسْرَاهُ بِلَا إذْنِهِ عَمْدًا‏)‏ ‏(‏فَ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏الْقَوَدُ‏)‏ لِقَطْعِهِ عُضْوًا مَعْصُومًا كَمَا لَوْ لَمْ يَجِبْ قَطْعُ يُمْنَاهُ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَتَعَمَّدْ قَاطِعٌ يُسْرَاهُ ‏(‏فَ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏الدِّيَةُ‏)‏ أَيْ‏:‏ دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ ‏(‏وَلَا تُقْطَعُ يُمْنَى السَّارِقِ‏)‏ بَعْدَ قَطْعِ يُسْرَاهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ‏(‏وَفِي التَّنْقِيحِ بَلَى‏)‏ قَالَ‏:‏ وَإِنْ قَطَعَ الْقَاطِعُ يُسْرَاهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً قُطِعَتْ يُمْنَاهُ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَاخْتَارَ الْمُوَفَّقُ‏:‏ تُجْزِئُ وَلَا ضَمَانَ‏.‏

‏(‏وَيَجْتَمِعُ‏)‏ عَلَى سَارِقٍ ‏(‏الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ‏)‏ أَيْ‏:‏ ضَمَانُ مَا سَرَقَهُ نَصًّا؛ لِأَنَّهُ مَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ‏(‏فَيَرُدُّ‏)‏ سَارِقٌ ‏(‏مَا سَرَقَهُ لِمَالِكِهِ‏)‏ إنْ بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ تَلِفَ‏)‏ مَسْرُوقٌ ‏(‏فَ‏)‏ عَلَى سَارِقِهِ ‏(‏مِثْلُ مِثْلَيْ قِيمَةِ غَيْرِهِ‏)‏ كَمَغْصُوبٍ ‏(‏وَيُعِيدُ مَا خَرَّبَ مِنْ حِرْزٍ‏)‏ لِتَعَدِّيهِ وَالْقِيَاسُ‏:‏ يَضْمَنُ أَرْشَ نَقْصِهِ ‏(‏وَعَلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ السَّارِقِ ‏(‏أُجْرَةُ قَاطِعِ‏)‏ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ‏(‏وَ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏ثَمَنُ زَيْتِ حَسْمٍ‏)‏ حِفْظًا لِنَفْسِهِ إذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا التَّلَفُ بِدُونِهِ وَقِيلَ‏:‏ هُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ‏.‏

بَابُ‏:‏ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ ‏{‏إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ‏}‏ وَالْكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَقَبْلَهَا وَأَمَّا الْحَدُّ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ‏(‏وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ الْمُلْتَزِمُونَ‏)‏ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَيُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَ الْمُكَلَّفُ الْمُلْتَزِمُ ‏(‏أُنْثَى‏)‏ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ فَلَزِمَهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ كَالرَّجُلِ بِجَامِعِ التَّكْلِيفِ ‏(‏الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِسِلَاحٍ وَلَوْ‏)‏ كَانَ سِلَاحُهُمْ ‏(‏عَصًا أَوْ حَجَرًا فِي صَحْرَاءَ أَوْ بُنْيَانٍ أَوْ بَحْرٍ‏)‏ لِعُمُومِ الْآيَةِ‏.‏

بَلْ ضَرَرُهُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَعْظَمُ ‏(‏فَيَغْصِبُونَ مَالًا مُحْتَرَمًا مُجَاهَرَةً‏)‏ فَخَرَجَ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْحَرْبِيُّ وَمَنْ يَعْرِضُ لِنَحْوِ صَيْدٍ أَوْ يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِلَا سِلَاحٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ قَصْدِهِمْ، وَخَرَجَ أَيْضًا مَنْ يَغْصِبُ نَحْوَ كَلْبٍ أَوْ سِرْجِينٍ نَجِسٍ أَوْ مَالِ حَرْبِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَمَنْ يَأْخُذُ خِفْيَةً لِأَنَّهُ سَارِقٌ وَأَمَّا الْمُحَارِبُ فَيَعْتَصِمُ بِالْقِتَالِ دُونَ الْخِفْيَةِ‏.‏

‏(‏وَيُعْتَبَرُ‏)‏ لِوُجُوبِ حَدِّ الْمُحَارِبِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا ‏(‏ثُبُوتُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ قَطْعِ الطَّرِيقِ ‏(‏بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ‏)‏ كَالسَّرِقَةِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ الثَّانِي ‏(‏الْحِرْزُ‏)‏ بِأَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ مُسْتَحِقِّهِ وَهُوَ بِالْقَافِلَةِ؛ فَلَوْ وَجَدَهُ مَطْرُوحًا أَوْ أَخَذَهُ مِنْ سَارِقِهِ أَوْ غَاصِبِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا عَنْ قَافِلَةٍ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ الثَّالِثُ ‏(‏النِّصَابُ‏)‏ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ‏.‏

‏(‏فَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ‏)‏ مِنْ الْمُحَارِبِينَ ‏(‏وَقَدْ قَتَلَ‏)‏ إنْسَانًا فِي الْمُحَارَبَةِ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ كَانَ الْقَتْلُ بِمُثْقَلٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا، أَوْ قَتْلَ ‏(‏مَنْ لَا يُقَادُ بِهِ‏)‏ الْمُحَارِبُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ‏(‏كَوَلَدِهِ وَقِنٍّ‏)‏ يَقْتُلُهُ حُرٌّ ‏(‏وَ‏)‏ كَ ‏(‏ذِمِّيٍّ‏)‏ يَقْتُلُهُ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُ كُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ ‏(‏لِقَصْدِ مَالِهِ وَأَخَذَ مَالًا قُتِلَ حَتْمًا‏)‏ لِوُجُوبِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ‏(‏ثُمَّ صُلِبَ قَاتِلُ مَنْ يُقَادُ بِهِ‏)‏ لَوْ قَتَلَهُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا‏}‏ ‏(‏حَتَّى يُشْتَهَرَ‏)‏ لِيَرْتَدِعَ غَيْرُهُ ثُمَّ يُنْزَلُ وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ، ذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ ‏(‏وَلَا يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَعَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ ‏"‏ إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ ‏"‏ وَرَوَى نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ عُقُوبَتَانِ تَتَضَمَّنُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَدَنِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَاكْتُفِيَ بِقَتْلِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَرِجْلَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ فِي الْحَالِ‏.‏

‏(‏وَلَوْ مَاتَ‏)‏ مُحَارِبٌ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ‏(‏أَوْ قُتِلَ قَبْلَ قَتْلِهِ لِلْمُحَارَبَةِ لَمْ يُصَلَّبْ‏)‏ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ وَهِيَ اشْتِهَارُ أَمْرِهِ فِي الْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ فِيهَا، وَكَذَا قَاتِلُ مَنْ لَا يُكَافِئُهُ كَوَلَدِهِ وَذِمِّيٍّ وَقِنٍّ‏.‏

‏(‏وَلَا يَتَحَتَّمُ قَوَدٌ فِيمَا دُونَ نَفْسٍ‏)‏ عَلَى مُحَارِبٍ، فَإِنْ قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ نَحْوَهُمَا، فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْقَوَدُ أَوْ الْعَفْوُ لِأَنَّ الْقَوَدَ إنَّمَا تَحَتَّمَ إذَا قَتَلَ لِأَنَّهُ حَدُّ الْمُحَارَبَةِ بِخِلَافِ الطَّرَفِ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى قِصَاصًا لَا حَدًّا‏.‏

‏(‏وَرِدْءُ‏)‏ مُحَارِبٍ‏:‏ مُبْتَدَأٌ، أَيْ‏:‏ مُسَاعِدُهُ وَمُغِيثُهُ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ‏(‏وَطَلِيعٍ‏)‏ يَكْشِفُ لِلْمُحَارِبِ حَالَ الْقَافِلَةِ لِيَأْتُوا إلَيْهَا ‏(‏كَمُبَاشِرٍ‏)‏ خَبَرٌ كَاشْتِرَاكِ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَبَاشَرَ بَعْضُهُمْ الْقِتَالَ وَوَقَفَ الْبَاقُونَ لِلْحِرَاسَةِ مِمَّنْ يَدْهَمُهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَكَذَا الْعَيْنُ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْإِمَامُ لِيَعْرِفَ أَحْوَالَ الْعَدُوِّ، وَظَاهِرُهُ حَتَّى فِي الْمَالِ‏.‏

وَفِي الْمُغْنِي وَالْوَجِيزِ، إلَّا فِي ضَمَانِ الْمَالِ فَيَتَعَلَّقُ بِآخِذِهِ خَاصَّةً‏.‏

وَحَكَاهُ فِي الْفُرُوعِ بِقِيلَ ‏(‏فَرِدْءٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُبَاشِرِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَيَضْمَنُ الرِّدْءُ الْمُكَلَّفُ مَا بَاشَرَ أَخْذَهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَلَا حَدَّ لِأَنَّ الرِّدْءَ تَبَعٌ لِلْمُبَاشِرِ وَدِيَةُ قَتِيلِ غَيْرِ مُكَلَّفٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ‏.‏

‏(‏وَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ‏)‏ أَيْ الْمُحَارِبِينَ الْمُكَلَّفِينَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا ‏(‏ثَبَتَ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمْ‏)‏ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الرِّدْءِ ‏(‏وَإِنْ قَتَلَ بَعْضٌ‏)‏ لِأَخْذِ الْمَالِ ‏(‏وَأَخَذَ الْمَالَ بَعْضٌ‏)‏ آخَرَ ‏(‏تَحَتَّمَ قَتْلُ الْجَمِيعِ وَصَلْبُهُمْ‏)‏ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ‏.‏

‏(‏وَإِنْ قَتَلَ‏)‏ مُحَارِبٌ ‏(‏فَقَطْ لِقَصْدِ الْمَالِ قُتِلَ حَتْمًا وَلَمْ يُصَلَّبْ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ تَزِيدُ عَلَى جِنَايَتِهِمْ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَتَيْنِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ‏)‏ مُحَارِبٌ ‏(‏وَأَخَذَ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ‏)‏ مِنْ بَيْنِ الْقَافِلَةِ ‏(‏لَا مِنْ مُنْفَرِدٍ عَنْ قَافِلَةٍ قُطِعَتْ يَدُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَدُ كُلٍّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ ‏(‏الْيُمْنَى ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ خِلَافٍ‏}‏ وَرِفْقًا بِهِ فِي إمْكَانِ مَشْيِهِ ‏(‏فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ حَتْمًا‏)‏ فَلَا يُنْظَرُ بِقَطْعِ إحْدَاهُمَا انْدِمَالُ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقَطْعِهِمَا بِلَا تَعَرُّضٍ لِلتَّأْخِيرِ وَالْأَمْرُ لِلْفَوْرِ فَتُقْطَعُ يُمْنَى يَدَيْهِ وَتُحْسَمُ ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَتُحْسَمُ ‏(‏وَحُسِمَتَا‏)‏ وُجُوبًا لِحَدِيثِ ‏{‏اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ‏}‏ ‏(‏وَيُخْلَى‏)‏ سَبِيلُهُ لِاسْتِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ كَالْمَدِينِ يُوفِي دَيْنَهُ ‏(‏فَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مَفْقُودَةً‏)‏ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَقَطْ ‏(‏أَوْ‏)‏ كَانَتْ يَمِينُهُ شَلَّاءَ ‏(‏أَوْ‏)‏ كَانَتْ يَمِينُهُ ‏(‏مَقْطُوعَةً أَوْ‏)‏ كَانَتْ يَمِينُهُ ‏(‏مُسْتَحَقَّةً فِي قَوَدٍ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَقَطْ‏)‏ لِئَلَّا تَذْهَبَ مَنْفَعَةُ جِنْسِ الْيَدِ ‏(‏وَإِنْ عَدِمَ يُمْنَى يَدَيْهِ لَمْ تُقْطَعْ يُمْنَى رِجْلَيْهِ‏)‏ بَلْ يُسْرَاهُمَا فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ ‏(‏وَإِنْ حَارَبَ‏)‏ مَرَّةً ‏(‏ثَانِيَةً‏)‏ بَعْدَ قَطْعِ يُمْنَى يَدَيْهِ وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ ‏(‏لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ فِي السَّارِقِ وَقِيَاسُهُ أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى يَتُوبَ‏.‏

‏(‏وَتَتَعَيَّنُ دِيَةٌ لِقَوَدٍ لَزِمَ بَعْدَ مُحَارَبَتِهِ‏)‏ بِأَنْ قَتَلَ بَعْدَهَا عَمْدًا مُكَافِئًا ‏(‏لِتَقْدِيمِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُحَارَبَةِ ‏(‏بِسَبْقِهَا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ‏)‏ مُحَارِبٌ لَزِمَهُ قَوَدٌ بَعْدَ مُحَارَبَتِهِ ‏(‏قَبْلَ قَتْلِهِ لِلْمُحَارَبَةِ‏)‏ فَتَتَعَيَّنُ الدِّيَةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْقَوَدِ‏.‏

‏(‏وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ‏)‏ أَحَدٌ مِنْ الْمُحَارِبِينَ أَحَدًا ‏(‏وَلَا أَخَذَ مَالًا‏)‏ يَبْلُغُ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ مِنْ حِرْزِهِ ‏(‏نُفِيَ وَشُرِّدَ وَلَوْ قِنًّا‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ‏}‏ وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏"‏ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ بِإِزَاءِ الْأَخَفِّ، وَمِنْهُ عُلِمَ أَنَّ أَوْ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ وَلَا لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّنْوِيعِ ‏(‏فَلَا يُتْرَكُ يَأْوِي إلَى بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ‏)‏ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ‏(‏وَتُنْفَى الْجَمَاعَةُ مُتَفَرِّقَةً‏)‏ كُلٌّ إلَى جِهَةٍ لِئَلَّا يَجْتَمِعُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ ثَانِيًا‏.‏

‏(‏وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏مِنْ صَلْبٍ وَقَطْعِ‏)‏ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ ‏(‏وَنَفْيٍ وَتَحَتَّمَ قَتْلٌ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏(‏وَكَذَا خَارِجِيٌّ وَبَاغٍ وَمُرْتَدٌّ وَمُحَارِبٌ‏)‏ تَابَ قَبْلَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ بَعْدَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْء مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ‏}‏ وَلِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ أَنَّ تَوْبَتَهُ تَوْبَةُ إخْلَاصٍ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَوْبَةُ تَقِيَّةٍ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ تَرْغِيبًا لَهُ فِيهَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَرْغِيبِهِ فِيهَا‏.‏

‏(‏وَيُؤْخَذُ غَيْرُ حَرْبِيٍّ‏)‏ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ ‏(‏أَسْلَمَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى‏)‏ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَالَ كُفْرِهِ كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ لَا حَدِّ زِنًا وَنَحْوِهِ ‏(‏وَحَقِّ آدَمِيٍّ طَلَبَهُ‏)‏ مِنْ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ دُونَهَا، وَغَرَامَةِ مَالٍ وَدِيَةِ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَحَدِّ قَذْفٍ كَمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ‏.‏

وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ وَحَدِيثِ ‏{‏الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فِي الْحَرْبِيِّينَ‏}‏ أَوْ خَاصٌّ بِالْكُفْرِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ سَرِقَةٍ أَوْ‏)‏ حَدُّ ‏(‏زِنًا أَوْ‏)‏ حَدُّ ‏(‏شُرْبٍ فَتَابَ‏)‏ مِنْهُ ‏(‏قَبْلَ ثُبُوتِهِ‏)‏ عِنْدَ حَاكِمٍ ‏(‏سَقَطَ‏)‏ عَنْهُ ‏(‏بِمُجَرَّدِ تَوْبَتِهِ قَبْلَ إصْلَاحِ عَمَلٍ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا‏}‏ وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِّ السَّارِقِ ‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ‏}‏ وَلِإِعْرَاضِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا ‏(‏حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعًا فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ ‏"‏ لِحَدِيثِ ‏{‏تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ‏(‏كَ‏)‏ مَا يَسْقُطُ حَدٌّ مُطْلَقًا ‏(‏بِمَوْتٍ‏)‏ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ كَسُقُوطِ غُسْلِ مَا ذَهَبَ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دفع الصائل‏]‏

وَمَنْ أُرِيدَتْ أَيْ قُصِدَتْ ‏(‏نَفْسُهُ‏)‏ لِقَتْلٍ أَوْ يُفْعَلُ بِهَا الْفَاحِشَةُ ‏(‏أَوْ‏)‏ أُرِيدَتْ ‏(‏حُرْمَتُهُ‏)‏ كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَزَوْجَتِهِ وَنَحْوِهِنَّ لِزِنًا أَوْ قَتْلٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ أُرِيدَ أَخْذُ ‏(‏مَالِهِ وَلَوْ قَلَّ‏)‏ مَا أُرِيدَ مِنْ مَالِهِ ‏(‏أَوْ لَمْ يُكَافِئْ‏)‏ مَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ أَوْ حُرْمَتُهُ أَوْ مَالُهُ ‏(‏الْمُرِيدَ‏)‏ لِذَلِكَ ‏(‏فَلَهُ دَفْعُهُ‏)‏ عَنْ نَفْسِهِ وَحُرْمَتِهِ وَمَالِهِ ‏(‏بِأَسْهَلَ مَا‏)‏ أَيْ‏:‏ شَيْءٍ ‏(‏يَظُنُّ انْدِفَاعَهُ بِهِ‏)‏ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَلَفِهِ وَأَذَاهُ وَتَسَلُّطِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَيُفْضِي إلَى الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ‏.‏

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ ‏{‏جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَلَا تُعْطِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْت إنْ قَاتَلَنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَاتِلْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْت إنْ قَتَلَنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَأَنْتَ شَهِيدٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْت إنْ قَتَلْته‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُوَ فِي النَّارِ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ‏.‏

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَوَّلًا‏:‏ أَنْشِدْهُ اللَّهَ‏.‏ قَالَ فَإِنْ أَبَى عَلَيَّ قَالَ‏:‏ قَاتِلْهُ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ الدَّفْعُ، فَإِنْ انْدَفَعَ بِالْأَسْهَلِ حَرُمَ الْأَصْعَبُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِقَتْلٍ أُبِيحَ‏)‏ قَتْلُهُ ‏(‏وَلَا شَيْء عَلَيْهِ‏)‏ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ‏(‏وَإِنْ قُتِلَ‏)‏ الدَّافِعُ ‏(‏كَانَ شَهِيدًا‏)‏ لِلْخَبَرِ ‏(‏وَمَعَ مَزْحٍ يُحَرَّمُ‏)‏ عَلَى دَافِعٍ ‏(‏قَتْلٌ وَيُقَادُ بِهِ‏)‏ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الدَّفْعِ إذَنْ‏.‏

‏(‏وَلَا يَضْمَنُ بَهِيمَةً صَالَتْ عَلَيْهِ‏)‏ وَلَمْ تَنْدَفِعْ بِدُونِ قَتْلٍ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ مَالِهِ، كَصَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ صَائِلٍ بِجَامِعِ الصَّوْلِ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَضْمَنُ ‏(‏وَمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ مُتَلَصِّصًا‏)‏ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِدُونِ قَتْلٍ فَيَأْمُرُهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ أَوَّلًا بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ ضَرَبَهُ بِأَسْهَلَ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ، فَإِنْ انْدَفَعَ بِالْعَصَا لَمْ يَضْرِبْهُ بِحَدِيدٍ، وَإِنْ وَلَّى هَارِبًا لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ كَالْبُغَاةِ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً غَلِيظَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَرْشٌ لِأَنَّهُ كَفَى شَرَّهُ وَإِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ فَوَلَّى هَارِبًا فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ضَمِنَهَا بِخِلَافِ الْيَدِ، فَإِنْ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ قَطْعِ رِجْلِهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى؛ فَالْيَدَانِ غَيْرُ مَضْمُونَتَيْنِ‏.‏

‏(‏وَيَجِبُ‏)‏ الدَّفْعُ ‏(‏عَنْ حُرْمَتِهِ‏)‏ إذَا أُرِيدَتْ نَصًّا فَمَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَنَحْوِهَا رَجُلًا يَزْنِي بِهَا أَوْ مَعَ وَلَدِهِ وَنَحْوَهُ رَجُلًا يَلُوطُ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِدُونِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بِهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفِّ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَحَقَّ نَفْسِهِ بِالْمَنْعِ عَنْ أَهْلِهِ فَلَا يَسَعُهُ إضَاعَةُ الْحَقَّيْنِ ‏(‏وَكَذَا‏)‏ يَجِبُ الدَّفْعُ ‏(‏فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ عَنْ نَفْسِهِ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ فَكَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ إبَاحَةُ قَتْلِهَا ‏(‏وَ‏)‏ كَذَا يَجِبُ الدَّفْعُ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ عَنْ ‏(‏نَفْسِ غَيْرِهِ‏)‏ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ إيثَارُ الشَّهَادَةِ وَكَإِحْيَائِهِ بِبَذْلِ طَعَامِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ فِتْنَةٌ لَمْ يَجِبْ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا نَفْسِ غَيْرِهِ لِقِصَّةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

‏(‏لَا عَنْ مَالِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ مَنْ أَرَادَ مَالَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا فِي النَّفْسِ ‏(‏وَلَا يَلْزَمُهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ رَبَّ الْمَالِ ‏(‏حِفْظُهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ وَلَهُ بَذْلُهُ‏)‏ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُ ظُلْمًا وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الدَّفْعِ عَنْهُ‏.‏

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ أَرَى دَفْعَهُ إلَيْهِ وَلَا يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهَا لَا عِوَضَ لَهَا وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا‏.‏

‏(‏وَيَجِبُ‏)‏ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ الدَّفْعُ ‏(‏عَنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ وَكَذَا‏)‏ عَنْ ‏(‏مَالِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْغَيْرِ لِئَلَّا تَذْهَبَ الْأَنْفُسُ أَوْ الْأَمْوَالُ أَوْ تُسْتَبَاحَ الْحُرَمُ ‏(‏مَعَ ظَنِّ سَلَامَتِهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ، قَالَ فِي الْمَذْهَبِ‏:‏ أَمَّا دَفْعُ الْإِنْسَانِ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الطَّالِبِ أَوْ شَيْء مِنْ أَعْضَائِهِ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ تُظَنَّ سَلَامَتُهُمَا مَعَ الدَّفْعِ ‏(‏حَرُمَ‏)‏ لِإِلْقَائِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ‏.‏

‏(‏وَيَسْقُطُ‏)‏ وُجُوبُ دَفْعٍ حَيْثُ وَجَبَ ‏(‏بِإِيَاسِهِ‏)‏ مِنْ فَائِدَةِ دَفْعِهِ ‏(‏لَا بِظَنِّهِ أَنَّهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ دَفْعَهُ ‏(‏لَا يُفِيدُ‏)‏ لِتَيَقُّنِ الْوُجُوبِ فَلَا يُتْرَكُ بِالظَّنِّ وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْخُرُوجَ إلَى صَيْحَةٍ لَيْلًا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ‏.‏

‏(‏وَمَنْ عَضَّ يَدَ شَخْصٍ وَحَرُمَ‏)‏ الْعَضُّ بِأَنْ تَعَدَّى بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْدِرْ الْعَاضُّ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ مَعْضُوضٍ أَمْسَكَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَتَضَرَّرُ بِإِمْسَاكِهِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ إلَّا بِهِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ ‏(‏فَانْتَزَعَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ ‏(‏وَلَوْ‏)‏ نَزَعَهَا ‏(‏بِعُنْفٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ شِدَّةٍ ‏(‏فَسَقَطَتْ ثَنَايَاهُ‏)‏ أَيْ الْعَاضِّ ‏(‏فَ‏)‏ هِيَ ‏(‏هَدَرٌ‏)‏ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ‏{‏أَنَّ رَجُلًا عَضَّ رَجُلًا فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَعَضُّ أَحَدُكُمْ يَدَ أَخِيهِ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ‏؟‏، لَا دِيَةَ لَك‏}‏ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد وَلِإِتْلَافِهَا لِضَرُورَةِ دَفْعِ شَرِّ صَاحِبِهَا كَالصَّائِلِ ‏(‏وَكَذَا‏)‏ أَيْ‏:‏ كَالْعَضِّ فِي حُكْمِهِ ‏(‏مَا فِي مَعْنَى الْعَضِّ فَإِنْ عَجَزَ‏)‏ مَعْضُوضٌ عَنْ انْتِزَاعِ يَدِهِ مِنْ عَاضِّهِ ‏(‏دَفَعَهُ كَصَائِلٍ‏)‏ عَلَيْهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ‏.‏

وَلَهُ عَصْرُ خُصْيَتَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَبْعَجَ بَطْنَهُ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ تَحْتَطِبُ فَتَبِعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَرَمَتْهُ بِفِهْرٍ- أَيْ حَجَرٍ- فَقَتَلَتْهُ فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ وَاَللَّهُ لَا يُؤَدِّي أَبَدًا، وَمَعْنَى قَتِيلِ اللَّهِ أَنَّهُ أَبَاحَ قَتْلَهُ‏.‏

‏(‏وَمَنْ نَظَرَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ مِنْ خَصَاصِ بَابٍ مُغْلَقٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ‏:‏ الْفُرُوجِ وَالْخُلُلِ الَّذِي فِيهِ ‏(‏وَنَحْوِهِ‏)‏ كَفُرُوجٍ بِحَائِطٍ أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ وَكُوَّةٍ وَنَحْوِهَا ‏(‏وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ‏)‏ النَّاظِرُ الِاطِّلَاعَ ‏(‏لَكِنْ ظَنَّهُ‏)‏ رَبُّ الْبَيْتِ ‏(‏مُتَعَمِّدًا‏)‏ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ أَوْ لَا أَوْ كَانَ مَحْرَمًا أَوْ نَظَرَ مِنْ الطَّرِيقِ أَوْ مِلْكِهِ أَوْ لَا ‏(‏فَخَذَفَ‏)‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ‏(‏عَيْنَهُ أَوْ نَحْوَهَا‏)‏ كَحَاجِبِهِ فَتَلِفَتْ ‏(‏فَ‏)‏ ذَلِكَ ‏(‏هَدَرٌ‏)‏ وَكَذَا لَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ لَا إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَوْ رَشَقَهُ بِسَهْمٍ أَوْ طَعَنَهُ بِحَدِيدَةٍ ‏(‏وَلَا يَتْبَعُهُ‏)‏ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏{‏مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏{‏مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّائِلِ لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ حِمَى سَاكِنِهَا، وَالْقَصْدُ مِنْهَا سَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ عَنْ النَّاسِ وَالْعَيْنُ آلَةُ النَّظَرِ ‏(‏بِخِلَافِ مُسْتَمِعٍ‏)‏ أَعْمَى أَوْ بَصِيرٍ ‏(‏وَضَعَ أُذُنَهُ فِي خَصَاصِهِ‏)‏ أَيْ لِلْبَابِ الْمُغْلَقِ فَلَيْسَ لَهُ قَصْدُ أُذُنِهِ بِطَعْنٍ أَوْ نَحْوِهِ ‏(‏قَبْلَ إنْذَارِهِ‏)‏؛ اقْتِصَارًا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ أَبْلَغُ مِنْ السَّمْعِ فَإِنْ أَنْذَرَهُ فَأَبَى فَلَهُ طَعْنُهُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ ‏(‏وَ‏)‏ بِخِلَافِ نَاظِرٍ ‏(‏مِنْ‏)‏ بَابٍ ‏(‏مُنْفَتِحٍ‏)‏ لِتَفْرِيطِ رَبِّهِ بِتَرْكِهِ مَفْتُوحًا‏.‏

بَابُ‏:‏ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ

أَيْ‏:‏ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ‏.‏

وَالْبَغِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ‏:‏ الزَّانِيَةُ ‏(‏وَهُمْ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَوْ غَيْرَ عَدْلٍ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُطَاعٌ‏)‏ سُمُّوا بُغَاةً لِعُدُولِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَمَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَصْلُ فِي قِتَالِهِمْ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ وَلِحَدِيثِ ‏{‏مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ وَيُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ‏.‏

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ‏{‏مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَاتَلَ عَلِيٌّ أَهْلَ النَّهْرَوَانُ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ‏(‏وَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ‏)‏ بِأَنْ لَمْ يَخْرُجُوا عَلَى إمَامٍ أَوْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيلٍ أَوْ بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ سَائِغٍ أَوْ كَانُوا جَمْعًا يَسِيرًا لَا شَوْكَةَ لَهُمْ كَالْعَشَرَةِ ‏(‏فَ‏)‏ هُمْ ‏(‏قُطَّاعُ طَرِيقٍ‏)‏ وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُمْ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ‏.‏

‏(‏وَنَصْبُ الْإِمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ‏)‏؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ لِذَلِكَ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَوْزَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ تُوجَدُ فِيهِ شَرَائِطُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لَهَا وَتَأْتِيَ شُرُوطُهَا، وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يَخْتَارُوا وَشَرْطُهُمْ‏:‏ الْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ الْمُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ مُسْتَحِقِّ الْإِمَامَةِ وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ الْمُؤَدِّيَيْنِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ ‏(‏وَيَثْبُتُ‏)‏ نَصْبُ إمَامٍ ‏(‏بِإِجْمَاعِ‏)‏ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى اخْتِيَارِ صَالِحٍ لَهَا مَعَ إجَابَتِهِ كَخِلَافَةِ الصِّدِّيقِ فَيَلْزَمُ كَافَّةَ الْأُمَّةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَثْبُتُ أَيْضًا ‏(‏بِ‏)‏ نَصٍّ أَيْ‏:‏ عَهْدِ إمَامٍ بِالْإِمَامَةِ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهَا نَاصًّا عَلَيْهِ بَعْدَهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْخِلَافَةِ ‏(‏وَ‏)‏ يَثْبُتُ أَيْضًا بِ ‏(‏اجْتِهَادٍ‏)‏ لِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ أَمْرَ الْإِمَامَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏(‏وَ‏)‏ يَثْبُتُ أَيْضًا بِ ‏(‏قَهْرِ‏)‏ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا غَيْرَهُ عَلَيْهَا فَتَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا وَدَعَوْهُ إمَامًا وَلِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِالْقَهْرِ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَإِرَاقَةَ دِمَائِهِمْ وَإِذْهَابَ أَمْوَالِهِمْ ‏(‏لِقُرَشِيٍّ‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِيَثْبُتُ لِقَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ لِلْأَنْصَارِ إنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَوَوْا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارَ‏.‏

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ خَلِيفَةٌ ‏(‏حُرٍّ‏)‏‏.‏

فَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ رَقِيقًا وَلَا مُبَعَّضًا لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ فَلَا يَكُونُ مُوَلًّى عَلَيْهِ ‏(‏ذَكَرٍ‏)‏ فَلَا وِلَايَةَ لِأُنْثَى كَالْقَاضِي وَأَوْلَى ‏(‏عَدْلٍ‏)‏ لِمَا سَبَقَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ‏:‏ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ إنْ يَبِيتَ وَلَا يَرَاهُ إمَامًا بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ‏(‏عَالِمٍ‏)‏ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مُرَاعَاتِهَا فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ‏(‏كَافٍ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا‏)‏ أَيْ‏:‏ قَائِمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَلْحَقُهُ رَأْفَةٌ فِي ذَلِكَ وَلِذَبٍّ عَنْ الْأُمَّةِ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَمْنَعُ عَقْدَهَا وَلَا اسْتِدَامَتَهَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ وَيَمْنَعُهَا الْجُنُونُ وَالْخَبَلُ الْمُطْبَقُ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ زَمَانِهِ، وَلَا يَمْنَعُهَا ضَعْفُ الْبَصَرِ إنْ عَرَفَ بِهِ الْأَشْخَاصَ إذَا رَآهَا، وَلَا فَقْدُ الشَّمِّ وَذَوْقُ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، وَلَا تَمْتَمَةُ اللِّسَانِ، وَلَا ثِقَلُ السَّمْعِ مَعَ إدْرَاكِ الصَّوْتِ إذَا عَلَا وَلَا، فَقْدُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ بِخِلَافِ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ مِنْ الْعَمَلِ بِالْيَدِ أَوْ النَّهْضَةِ بِالرِّجْلِ، وَإِنْ قَهَرَهُ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَدْبِيرِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا مُجَاهَرَةٍ بِشِقَاقٍ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِدَامَتِهِ، ثُمَّ إنْ جَرَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِئَلَّا يَعُودَ الْأَمْرُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ مِنْ يَقْبِضُ عَلَى يَدِهِ وَيُزِيلُ تَغَلُّبَهُ‏.‏

‏(‏وَيُجْبَرُ‏)‏ عَلَى إمَامَةٍ ‏(‏مُتَعَيَّنٌ لَهَا‏)‏ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَاكِمٍ لِئَلَّا تَذْهَبَ حُقُوقُ النَّاسِ‏.‏

‏(‏وَهُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْإِمَامُ ‏(‏وَكِيلُ‏)‏ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏فَلَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ‏)‏ مُطْلَقًا كَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ ‏(‏وَلَهُمْ‏)‏ أَيْ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏عَزْلُهُ إنْ سَأَلَهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الْعُزْلَةَ بِمَعْنَى الْعَزْلِ لَا الْإِمَامَةِ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ‏:‏ أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي، قَالُوا‏:‏ لَا نُقِيلُك‏.‏

وَرَدَ فِي الْإِقْنَاعِ كَلَامُ التَّنْقِيحِ هُنَا كَمَا نَقَلْتُهُ فِي الْحَاشِيَةِ وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى مَا أَشَرْت إلَيْهِ لَمْ يُعَارِضْ كَلَامَهُ كَلَامُ غَيْرِهِ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَسْأَلْ الْعَزْلَ ‏(‏فَلَا‏)‏ يَعْزِلُونَهُ سَأَلَ الْإِمَامَةَ أَوْ لَا لِمَا فِيهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ‏.‏

‏(‏وَيَحْرُمُ قِتَالُهُ‏)‏ أَيْ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ ‏{‏مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمْعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ‏}‏‏.‏

‏(‏وَإِنْ تَنَازَعَهَا‏)‏ أَيْ الْإِمَامَةَ ‏(‏مُتَكَافِئَانِ‏)‏ ابْتَدَءُوا دَوَامًا ‏(‏أَقُرِعَ‏)‏ بَيْنَهُمَا فَيُبَايَعُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ‏(‏وَإِنْ بُويِعَا‏)‏ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ‏(‏فَالْإِمَامُ‏)‏ هُوَ ‏(‏الْأَوَّلُ‏)‏ مِنْهُمَا ‏(‏وَ‏)‏ إنْ بُويِعَا ‏(‏مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ‏)‏ مِنْهُمَا ‏(‏بَطَلَ الْعَقْدُ‏)‏ لِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْإِمَامِ وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا، وَصِفَةُ الْعَقْدِ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُلٌّ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ‏:‏ قَدْ بَايَعْنَاك عَلَى إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِفُرُوضِ الْأُمَّةِ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى صَفْقَةِ الْيَدِ فَإِذَا ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ لَزِمَهُ حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا سَلْفُ الْأُمَّةِ فَإِنْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ بَيَّنَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ حِرَاسَةً لِلدِّينِ مِنْ الْخَلَلِ، وَتَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ وَقَطْعُ خُصُومَتِهِمْ وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنْ الْحَوْزَةِ؛ لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ وَيَسِيرُوا فِي الْأَسْفَارِ آمِنِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ عِبَادِهِ، وَتَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَجِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ، وَجِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَتَقْدِيرُ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِلَا سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ وَدَفْعُهُ فِي وَقْتِهِ بِلَا تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَاسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوِّضُهُ إلَيْهِمْ ضَبْطًا لِلْأَعْمَالِ وَحِفْظًا لِلْأَمْوَالِ، وَأَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ وَيَتَصَفَّحَ الْأَحْوَالَ لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى التَّفْوِيضِ فَرُبَّمَا خَانَ الْأَمِينُ وَغَشَّ النَّاصِحُ فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ بِحُقُوقِ الْأُمَّةِ فَلَهُ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ‏:‏ الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ ‏(‏وَتَلْزَمُهُ مُرَاسَلَةُ بُغَاةٍ‏)‏ لِأَنَّهَا طَرِيقٌ إلَى الصُّلْحِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى الْحَقِّ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَلَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَوَاضَعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ تَلْزَمُهُ ‏(‏إزَالَةُ شُبَهِهِمْ‏)‏ لِيَرْجِعُوا إلَى الْحَقِّ ‏(‏وَ‏)‏ تَلْزَمُهُ إزَالَةُ ‏(‏مَا يَدْعُونَهُ مِنْ مَظْلَمَةٌ‏)‏ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الصُّلْحِ الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا‏}‏ فَإِنْ نَقَمُوا مِمَّا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ نَقَمُوا مِمَّا يَحِلُّ فِعْلُهُ لِالْتِبَاسِ الْأَمْرِ فِيهِ عَلَيْهِمْ فَاعْتَقَدُوا مُخَالَفَتَهُ لِلْحَقِّ بَيَّنَ لَهُمْ دَلِيلَهُ وَأَظْهَرَ لَهُمْ وَجْهَهُ؛ لِبَعْثِ عَلِيٍّ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْخَوَارِجِ لَمَّا تَظَاهَرُوا بِالْعِبَادَةِ وَالْخُشُوعِ وَحَمْلِ الْمَصَاحِفِ فِي أَعْنَاقِهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْحُجَّةَ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ‏.‏

‏(‏فَإِنْ فَاءُوا‏)‏ أَيْ رَجَعُوا عَنْ الْبَغْيِ وَطَلَبِ الْقِتَالِ تَرَكَهُمْ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يَفِيئُوا ‏(‏لَزِمَ‏)‏ إمَامًا ‏(‏قَادِرًا قِتَالُهُمْ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يَجِبُ ‏(‏عَلَى رَعِيَّتِهِ مَعُونَتُهُ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا ‏{‏مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَرِبْقَةُ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا اسْتِعَارَةٌ لِمَا يَلْزَمُ الْعُنُقَ مِنْ حُدُودِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ ‏(‏فَإِنْ اسْتَنْظَرُوهُ‏)‏ أَيْ قَالُوا أَنْظِرْنَا ‏(‏مُدَّةً‏)‏ حَتَّى نَرَى رَأْيَنَا ‏(‏وَرَجَا فَيْئَتَهُمْ‏)‏ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ‏(‏أَنْظَرَهُمْ‏)‏ وُجُوبًا حِفْظًا لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏وَإِنْ خَافَ مَكِيدَةً‏)‏ كَمَدَدٍ يَأْتِيهِمْ أَوْ تَحَيُّزِهِمْ إلَى فِئَةٍ تَمْنَعُهُمْ أَوْ يَكْثُرُ جَمْعُهُمْ وَنَحْوُهُ ‏(‏فَلَا‏)‏ يَجُوزُ لَهُ إنْظَارُهُمْ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْحَقِّ ‏(‏وَلَوْ أَعْطَوْهُ مَالًا أَوْ رَهْنًا‏)‏ عَلَى تَأْخِيرِ الْقِتَالِ، أَذِنَ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُخْلِي سَبِيلَهُ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ كَالْأُسَارَى وَإِنْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ أَبَدًا وَيَدَعُهُمْ وَمَا عَلَيْهِ وَيُكَفُّوا عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُمْ وَإِلَّا جَازَ‏.‏

‏(‏وَيُحَرَّمُ قِتَالُهُمْ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ‏)‏ الْمُقَاتِلَ وَغَيْرَهُ وَالْمَالَ ‏(‏كَمَنْجَنِيقِ وَنَارٍ‏)‏ لِأَنَّ إتْلَافَ أَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِ الْمُقَاتِلِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَدْعُوهُ إلَيْهِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرَّمُ ‏(‏اسْتِعَانَةٌ‏)‏ عَلَيْهِمْ ‏(‏بِكَافِرٍ‏)‏ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا‏}‏ ‏(‏إلَّا لِضَرُورَةٍ‏)‏ كَعَجْزِ أَهْلِ الْحَقِّ عَنْهُمْ ‏(‏وَكَفِعْلِهِمْ‏)‏ بِنَا ‏(‏إنْ لَمْ نَفْعَلْهُ‏)‏ بِهِمْ فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ إذَا فَعَلُوهُ بِنَا لَوْ لَمْ نَفْعَلْهُ وَكَذَا الِاسْتِعَانَةُ بِكَافِرٍ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرَّمُ ‏(‏أَخْذُ مَالِهِمْ‏)‏ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرَّمُ أَخْذُ وَقَتْلُ ‏(‏ذُرِّيَّتِهِمْ‏)‏ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ لَا قِتَالَ مِنْهُمْ وَلَا بَغْيَ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرَّمُ ‏(‏قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَ‏)‏ قَتْلُ ‏(‏جَرِيحِهِمْ‏)‏ وَلَوْ مِنْ نَحْوِ خَوَارِجَ، إنْ لَمْ نَقُلْ بِكُفْرِهِمْ وَمَا فِي الْإِقْنَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِهِمْ كَمَا فِي الْكَافِي لِعِصْمَتِهِ وَزَوَالِ قِتَالِهِ وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ مَرْوَانَ قَالَ صَرَخَ صَارِخٌ لِعَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَعَنْ عَمَّارٍ نَحْوُهُ وَكَالصَّائِلِ وَلِأَنَّهُ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ الْمُدْبِرُ‏:‏ مَنْ انْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُ إلَّا الْمُنْحَرِفَ إلَى مَوْضِعٍ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرَّمُ قَتْلُ ‏(‏مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ ‏(‏وَلَا قَوَدَ فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي قَتْلِ مَنْ يُحَرَّمُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ لِلشُّبْهَةِ ‏(‏وَيُضْمَنُ بِالدِّيَةِ‏)‏ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ لِعَدْلٍ ‏(‏قَصْدُ رَحْمَةِ الْبَاغِي‏)‏ كَأَخِيهِ وَعَمِّهِ ‏(‏بِقَتْلٍ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا‏}‏ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ‏{‏كَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ‏.‏

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةُ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ‏}‏‏.‏

‏(‏وَتُبَاحُ اسْتِعَانَةٌ عَلَيْهِمْ‏)‏ أَيْ الْبُغَاةِ ‏(‏بِسِلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ لِضَرُورَةٍ فَقَطْ‏)‏ لِعِصْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمْوَالَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ لِرَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ وَأَمَّا جَوَازُهُ مَعَ الضَّرُورَةِ فَكَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ فِي الْمَخْمَصَةِ‏.‏

‏(‏مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ‏)‏ أَيْ الْبُغَاةِ ‏(‏وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ أُنْثَى حُبِسَ حَتَّى مَنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ وَلَا حَرْبَ‏)‏ دَفْعًا لِضَرَرِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَحْصُلُ مِنْهُمْ مُسَاعَدَةُ الْمُقَاتِلَةِ وَفِي حَبْسِهِمْ كَسْرُ قُلُوبِ الْبُغَاةِ‏.‏

‏(‏وَإِذَا انْقَضَتْ‏)‏ الْحَرْبُ ‏(‏فَمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ‏)‏ أَيْ الْبُغَاةِ ‏(‏مَالَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ‏)‏ مِنْ أَهْلِ عَدْلٍ وَبَغْيٍ ‏(‏أَخَذَهُ‏)‏ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ كَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ‏:‏ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مَعَ أَحَدٍ فَلْيَأْخُذْهُ فَعَرَفَ بَعْضُهُمْ قِدْرًا مَعَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَطْبُخُ فِيهَا فَسَأَلَهُ إمْهَالَهُ حَتَّى يَنْضَجَ الطَّبِيخُ فَأَبَى وَكَبَّهُ وَأَخَذَهَا‏.‏

‏(‏وَلَا يَضْمَنُ بُغَاةٌ مَا أَتْلَفُوهُ‏)‏ عَلَى أَهْلِ عَدْلٍ حَالَ حَرْبٍ ‏(‏كَ‏)‏ مَا لَا يَضْمَنُ ‏(‏أَهْلُ عَدْلٍ‏)‏ مَا أَتْلَفُوهُ لِبُغَاةٍ حَالَ حَرْبٍ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُضَمِّنْ الْبُغَاةَ مَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ، مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ هَاجَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُقَادُ وَاحِدٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا وُجِدَ‏.‏

ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ مُحْتَجًّا بِهِ ‏(‏وَيَضْمَنَانِ‏)‏ أَيْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْبُغَاةُ ‏(‏مَا أَتْلَفَاهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ‏)‏ أَيْ يَضْمَنُ كُلٌّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فِي غَيْرِ حَرْبٍ؛ لِإِتْلَافِهِ مَعْصُومًا بِلَا حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةِ دَفْعٍ‏.‏

‏(‏وَمَا أَخَذُوا‏)‏ أَيْ الْبُغَاةُ ‏(‏حَالَ امْتِنَاعِهِمْ‏)‏ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَيْ‏:‏ حَالَ شَوْكَتِهِمْ ‏(‏مِنْ زَكَاةٍ وَخَرَاجٍ وَجِزْيَةٍ اُعْتُدَّ بِهِ‏)‏ لِدَافِعِهِ إلَيْهِمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَانِيًا إذَا ظَفِرَ بِهِ أَهْلُ الْعَدْلِ لِأَنَّ عَلِيًّا لِمَا ظَفِرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَاهُ الْبُغَاةُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَأْتِيهِمْ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيُّ فَيَدْفَعُونَ إلَيْهِ زَكَاتَهُمْ وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الِاحْتِسَابِ بِذَلِكَ ضَرَرًا عَظِيمًا عَلَى الرَّعَايَا‏.‏

‏(‏وَيُقْبَلُ بِلَا يَمِينٍ‏)‏ مِمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ ‏(‏دَعْوَى دَفْعِ زَكَاةٍ إلَيْهِمْ‏)‏ أَيْ الْبُغَاةِ كَدَعْوَى دَفْعِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ وَلِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهَا كَالصَّلَاةِ و‏(‏لَا‏)‏ تُقْبَلُ دَعْوَى دَفْعِ ‏(‏خَرَاجٍ‏)‏ إلَيْهِمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ‏(‏وَلَا‏)‏ دَعْوَى دَفْعِ ‏(‏جِزْيَةٍ‏)‏ إلَيْهِمْ ‏(‏إلَّا بِبَيِّنَةٍ‏)‏ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِوَضٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الدَّفْعِ‏.‏

‏(‏وَهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْبُغَاةُ ‏(‏فِي شَهَادَتِهِمْ وَ‏)‏ فِي ‏(‏إمْضَاءِ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ كَأَهْلِ الْعَدْلِ‏)‏ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ السَّائِغَ فِي الشَّرْعِ لَا يُفَسَّقُ بِهِ الذَّاهِبُ إلَيْهِ أَشْبَهَ الْمُخْطِئَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْعٍ فَيَقْضِي بِشَهَادَةِ عُدُولِهِمْ وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَ حَاكِمِهِمْ إلَّا مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ قَبُولُ كِتَابِهِ وَإِمْضَاؤُهُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ مَا لَمْ يَكُونُوا دُعَاةً ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ إذَا خَرَجُوا عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ وَلَا يَنْفُذُ لِقَضَائِهِمْ حُكْمٌ لِفِسْقِهِمْ‏.‏

‏(‏وَإِنْ اسْتَعَانُوا‏)‏ أَيْ الْبُغَاةُ ‏(‏بِأَهْلِ ذِمَّةٍ أَوْ أَهْلِ عَهْدٍ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ وَصَارُوا كُلُّهُمْ أَهْلَ حَرْبٍ‏)‏ لِقِتَالِهِمْ لَنَا كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِهِ ‏(‏إلَّا إنْ ادَّعَوْا‏)‏ أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ ‏(‏شُبْهَةً كَ‏)‏ ظَنِّ ‏(‏وُجُوبِ إجَابَتِهِمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْبُغَاةِ لِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ وَقَالُوا لَا نَعْلَمُ الْبُغَاةَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْقِتَالُ مَعَهُمْ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبُ النَّقْضِ ‏(‏وَيَضْمَنُونَ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ ‏(‏مَا أَتْلَفُوهُ‏)‏ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ‏(‏مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ‏)‏ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِإِتْلَافِهِ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّضْمِينُ يُنَافِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْفِيرِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَعَدَاوَتُهُمْ قَائِمَةٌ مَا دَامُوا كَذَلِكَ فَلَا ضَرَرَ فِي تَضْمِينِهِمْ‏.‏

‏(‏وَإِنْ اسْتَعَانُوا‏)‏ أَيْ الْبُغَاةُ ‏(‏بِأَهْلِ حَرْبٍ وَأَمَّنُوهُمْ فَ‏)‏ أَمَانُهُمْ ‏(‏كَعَدَمِهِ‏)‏ لِأَنَّهُمْ عَقَدُوهُ عَلَى قِتَالِنَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِعِصْمَتِهِمْ فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ ‏(‏إلَّا أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى بُغَاةٍ‏)‏ لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُمْ فَلَا يَغْدِرُونَهُمْ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ

وَإِنْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ كَتَكْفِيرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ وَسَبِّ الصَّحَابَةِ ‏(‏وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَمْ يَجْتَمِعُوا لِلْحَرْبِ ‏(‏لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ‏)‏ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ‏"‏ كَانَ يَخْطُبُ فَقَالَ مَنْ بِبَابِ الْمَسْجِدِ‏:‏ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ؛ تَعْرِيضًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ مِنْ تَحْكِيمِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ‏:‏ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ‏:‏ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ ‏"‏ ‏(‏وَتَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْعَدْلِ‏)‏ فِي ضَمَانِ نَفْسٍ وَمَالٍ وَوُجُوبِ حَدٍّ لِلُزُومِ الْإِمَامِ الْحُكْمَ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي قَبْضَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِلَا اعْتِبَارٍ لِاعْتِقَادِهِ فِيهِ ‏(‏وَإِنْ صَرَّحُوا بِسَبِّ إمَامٍ أَوْ‏)‏ بِسَبِّ ‏(‏عَدْلٍ أَوْ عَرَّضُوا بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِسَبِّ إمَامٍ أَوْ عَدْلٍ ‏(‏عُزِّرُوا‏)‏ كَغَيْرِهِمْ‏.‏

‏(‏وَمَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْحَقِّ وَالصَّحَابَةِ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ‏)‏ وَأَمْوَالَهُمْ ‏(‏بِتَأْوِيلٍ فَ‏)‏ هُمْ ‏(‏خَوَارِجُ بُغَاةٌ فَسَقَةٌ‏)‏ قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ‏:‏ نُصُوصُهُ صَرِيحَةٌ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَفَّرَ الْجَهْمِيَّةَ لَا أَعْيَانَهُمْ، قَالَ‏:‏ وَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مُطْلَقًا حَتَّى الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ الْمُفَضِّلَةِ لِعَلِيٍّ ‏(‏وَعَنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا أَهْلَ الْحَقِّ وَالصَّحَابَةَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْوِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏كُفَّارٌ‏)‏ قَالَ ‏(‏الْمُنَقَّحُ وَهُوَ أَظْهَرُ‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏

وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَاَلَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ‏.‏ انتهى‏.‏

وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ عَنْ ‏{‏أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِسْلَامِ‏:‏ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فَقَالَ لَا تُصَلُّوا مَعَهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ‏}‏ وَنَقَلَ الْجَمَاعَةُ مَنْ قَالَ عِلْمُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ كَفَرَ‏.‏

‏(‏وَإِنْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِلْعَصَبِيَّةِ أَوْ‏)‏ طَلَبِ ‏(‏رِئَاسَةٍ فَ‏)‏ هُمَا ‏(‏ظَالِمَتَانِ تَضْمَنُ كُلٌّ‏)‏ مِنْهُمَا ‏(‏مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الْأُخْرَى‏)‏ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ ‏(‏وَضَمِنَتَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الطَّائِفَتَانِ ‏(‏سَوَاءٌ مَا جُهِلَ مُتْلِفُهُ‏)‏ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ‏(‏كَمَا لَوْ قُتِلَ دَاخِلٌ بَيْنَهُمَا لِصُلْحٍ وَجُهِلَ قَاتِلُهُ‏)‏ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنْ عُلِمَ كَوْنُهُ مِنْ طَائِفَةٍ بِعَيْنِهَا وَجُهِلَ عَيْنُهُ ضَمِنَتْهُ وَحْدَهَا بِخِلَافِ الْمَقْتُولِ فِي زِحَامِ جَامِعٍ أَوْ طَوَافٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَعَدٍّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ‏.‏

بَابُ‏:‏ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ

‏(‏وَهُوَ‏)‏ لُغَةً الرَّاجِعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏ وَشَرْعًا ‏(‏مَنْ كَفَرَ وَلَوْ‏)‏ كَانَ ‏(‏مُمَيِّزًا‏)‏ بِنُطْقٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ شَكٍّ ‏(‏طَوْعًا وَلَوْ‏)‏ كَانَ ‏(‏هَازِلًا بَعْدَ إسْلَامِهِ وَلَوْ‏)‏ كَانَ إسْلَامُهُ ‏(‏كُرْهًا بِحَقٍّ‏)‏ كَمَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ إذَا قُوتِلَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَوَلَدِ مُسْلِمَةٍ مِنْ كَافِرٍ إذَا أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَنَطَقَ بِهِمَا ثُمَّ ارْتَدَّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ‏{‏‏:‏ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ‏}‏ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَغَيْرِهِمْ وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ‏.‏

وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ ‏{‏أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَلَغَ أَمْرُهَا النَّبِيَّ فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ‏}‏ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَصْلِيَّةُ، لِأَنَّهُ قَالَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً وَكَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً، وَيُخَالِفُ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ الطَّارِئَ؛ إذْ الْمَرْأَةُ لَا تُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ بِضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ‏.‏

‏(‏فَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ‏)‏ أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهَا كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ وَلِحَدِيثِ ‏{‏لَا نَبِيَّ بَعْدِي‏}‏‏.‏

وَفِي الْخَبَرِ ‏{‏لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏أَوْ أَشْرَكَ‏)‏ أَيْ كَفَرَ ‏(‏بِاَللَّهِ تَعَالَى‏)‏ كَفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ‏(‏أَوْ سَبَّهُ‏)‏ أَيْ اللَّهَ تَعَالَى ‏(‏أَوْ‏)‏ سَبَّ ‏(‏رَسُولًا لَهُ أَوْ مَلَكًا‏)‏ لَهُ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُبُّهُ إلَّا وَهُوَ جَاحِدٌ بِهِ ‏(‏أَوْ جَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ‏)‏ أَيْ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏أَوْ‏)‏ جَحَدَ ‏(‏وَحْدَانِيَّتَهُ أَوْ‏)‏ جَحَدَ ‏(‏صِفَةً‏)‏ ذَاتِيَّةً لَهُ تَعَالَى كَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ كَفَرَ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَحَدَ ‏(‏رَسُولًا‏)‏ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ ثَبَتَ تَوَاتُرُ الْآحَادِ كَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَحَدَ ‏(‏كِتَابًا أَوْ مِلْكًا لَهُ‏)‏ أَيْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرُّسُلِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِمْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ جَحْدُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَجَحْدِ الْكُلِّ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَحَدَ الْبَعْثَ أَوْ ‏(‏وُجُوبَ عِبَادَةٍ مِنْ‏)‏ الْعِبَادَاتِ ‏(‏الْخَمْسِ‏)‏ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِحَدِيثِ ‏{‏بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِثْلُهَا ‏(‏الطَّهَارَةُ‏)‏ فَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا وُضُوءًا كَانَتْ أَوْ غُسْلًا أَوْ تَيَمُّمًا ‏(‏أَوْ‏)‏ جَحَدَ ‏(‏حُكْمًا ظَاهِرًا‏)‏ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ فَرْضِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ ‏(‏مُجْمَعًا عَلَيْهِ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا‏)‏ لَا سُكُوتِيًّا لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةً ‏(‏كَ‏)‏ جَحْدِ ‏(‏تَحْرِيمِ زِنًا أَوْ‏)‏ جَحْدِ تَحْرِيمِ ‏(‏لَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ‏)‏ جَحْدِ ‏(‏حِلِّ خُبْزٍ وَنَحْوِهِ‏)‏ كَلَحْمِ مُذَكَّاةِ بَهِيمَةِ‏.‏

الْأَنْعَامِ وَالدَّجَاجِ ‏(‏أَوْ شَكٍّ فِيهِ‏)‏ أَيْ فِي تَحْرِيمِ زِنًا وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ فِي حِلِّ خُبْزٍ وَنَحْوِهِ ‏(‏وَمِثْلُهُ لَا يَجْهَلُهُ‏)‏ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏أَوْ‏)‏ كَانَ ‏(‏يَجْهَلُهُ‏)‏ مِثْلُهُ ‏(‏وَعَرَفَ‏)‏ حُكْمَهُ ‏(‏وَأَصَرَّ‏)‏ عَلَى الْجَحْدِ أَوْ الشَّكِّ كَفَرَ؛ لِمُعَانَدَتِهِ لِلْإِسْلَامِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الْأَحْكَامِ غَيْرَ قَابِلٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَيْ‏:‏ لَا شُبْهَةَ فِيهِ نَحْوُ اسْتِحْلَالِ الْخَوَارِجِ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ لَا يُكَفِّرُونَهُمْ لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ كَمَا‏.‏

قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ يَمْدَحُ ابْنَ مُلْجَمٍ لِقَتْلِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا إنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا‏.‏

بِخِلَافِ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ بِلَا تَأْوِيلٍ ‏(‏أَوْ سَجَدَ لِكَوْكَبٍ‏)‏ كَشَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَجَدَ لِ ‏(‏نَحْوِهِ‏)‏ كَصَنَمٍ كَفَرَ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ‏(‏أَوْ أَتَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ‏)‏ كَفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ‏}‏ قَالَ فِي الْمُغْنِي وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَفَى مِنْ الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ ‏(‏أَوْ امْتَهَنَ الْقُرْآنَ‏)‏ كِتَابَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ‏(‏أَوْ ادَّعَى اخْتِلَافَهُ‏)‏ أَوْ اخْتِلَاقَهُ ‏(‏أَوْ‏)‏ ادَّعَى ‏(‏الْقُدْرَةَ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ أَسْقَطَ حُرْمَتَهُ كَفَرَ‏)‏؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا‏.‏

كَثِيرًا‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ وَكَذَا مَنْ اعْتَقَدَ قِدَمَ الْعَالَمِ أَوْ حُدُوثَ الصَّانِعِ أَوْ سَخِرَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يَكْفُرُ ‏(‏مَنْ حَكَى كُفْرًا سَمِعَهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ‏)‏ وَمَنْ تَزَيَّا بِزِيِّ كُفْرٍ مِنْ لُبْسِ غِيَارٍ وَشَدِّ زُنَّارٍ وَتَعْلِيقِ صَلِيبٍ بِصَدْرِهِ حَرُمَ وَلَمْ يَكْفُرْ قَالَهُ فِي الِانْتِصَارِ ‏(‏وَإِنْ تَرَكَ‏)‏ مُكَلَّفٌ ‏(‏عِبَادَةً مِنْ‏)‏ الْعِبَادَاتِ ‏(‏الْخَمْسِ تَهَاوُنًا‏)‏ مَعَ إقْرَارِهِ بِوُجُوبِهَا ‏(‏لَمْ يَكْفُرْ‏)‏ سَوَاءٌ عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهَا أَبَدًا أَوْ عَلَى تَأْخِيرِهَا إلَى زَمَنٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا ‏{‏مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ مُعَاذٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ‏:‏ إذَنْ يَتَّكِلُوا فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا ‏{‏خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ‏}‏ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَلَوْ كَفَرَ بِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي مَشِيئَةِ الْغُفْرَانِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ ‏(‏إلَّا بِالصَّلَاةِ أَوْ بِشَرْطٍ‏)‏ لَهَا ‏(‏أَوْ رُكْنٍ لَهَا مُجْمَعٍ عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ رُكْنٌ لَهَا ‏(‏إذَا اُدُّعِيَ‏)‏ أَيْ‏:‏ دَعَاهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ‏(‏إلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ‏)‏ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ شَرْطِهَا أَوْ رُكْنِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ‏(‏وَامْتَنَعَ‏)‏ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي دُعِيَ لَهَا فَيُكَفَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْضِيحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ بَعْدَ دُعَاءِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ شَبَهًا بِالْخُرُوجِ عَنْ حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏وَيُسْتَتَابُ كَمُرْتَدٍّ‏)‏ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا ‏(‏فَإِنْ‏)‏ تَابَ بِفِعْلِهَا خَلَّى سَبِيلَهُ ‏(‏وَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ‏)‏ كُفْرًا ‏(‏بِشَرْطِهِ‏)‏ وَهُوَ الِاسْتِتَابَةُ وَدِعَايَةُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لَهُ ‏(‏وَيُقْتَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ‏)‏ الْمَذْكُورِ مِنْ الصَّلَاةِ وَشَرْطِهَا وَرُكْنِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ‏(‏حَدًّا‏)‏ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ‏.‏

‏(‏فَمَنْ ارْتَدَّ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا‏)‏ ‏(‏وَلَوْ أُنْثَى دُعِيَ‏)‏ إلَى الْإِسْلَامِ ‏(‏وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا‏)‏ لِحَدِيثِ أُمِّ مَرْوَانَ وَتَقَدَّمَ وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيّ عَنْ أَبِيهِ ‏"‏ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ هَلْ كَانَ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ قَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ مَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ‏:‏ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَأَسْقَيْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ اللَّهَ، اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي ‏"‏ وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الِاسْتِتَابَةُ لِمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَأَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِ تُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ‏(‏وَيَنْبَغِي أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ‏)‏ مُدَّةَ الِاسْتِتَابَةِ ‏(‏وَيُحْبَسَ‏)‏ لِقَوْلِ عُمَرَ فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَأَسْقَيْتُمُوهُ وَلِئَلَّا يَلْحَقَ بِدَارِ حَرْبٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ دِعَايَتَهُ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ دِينَهُ ‏(‏فَإِنْ تَابَ لَمْ يُعَزَّرْ‏)‏ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ لِأَنَّ فِيهِ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ ‏(‏وَإِنْ أَصَرَّ‏)‏ عَلَى رِدَّتِهِ ‏(‏قُتِلَ بِالسَّيْفِ‏)‏ وَلَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِحَدِيثِ ‏{‏إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ‏}‏ وَحَدِيثِ ‏{‏مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوهُ بِعَذَابِ اللَّهِ- يَعْنِي النَّارَ‏}‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد ‏(‏إلَّا رَسُولَ كُفَّارٍ‏)‏ فَلَا يُقْتَلُ وَلَوْ مُرْتَدًّا ‏(‏بِدَلِيلِ رَسُولِ مُسَيْلِمَةَ‏)‏ حَارَبَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُتِلَ عَلَى يَدِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَكَانَ وَحْشِيًّا يَقُولُ قَتَلْت خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ‏:‏ جَاهِلِيَّتِهِ وَشَرَّهَا فِي الْإِسْلَامِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ- بِكَسْرِ اللَّامِ-‏.‏

وَرَسُولَاهُ وَهُمَا ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ جَاءَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْتُلْهُمَا‏.‏

‏(‏وَلَا يَقْتُلُهُ‏)‏ أَيْ الْمُرْتَدَّ ‏(‏إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ‏)‏ حُرًّا كَانَ الْمُرْتَدُّ أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ كَرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ ‏{‏أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ لِكُفْرِهِ لَا حَدًّا ‏(‏فَإِنْ قَتَلَهُ‏)‏ أَيْ الْمُرْتَدَّ ‏(‏غَيْرُهُمَا‏)‏ أَيْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ‏(‏بِلَا إذْنٍ‏)‏ مِنْ أَحَدِهِمَا ‏(‏أَسَاءَ وَعُزِّرَ‏)‏ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ‏(‏وَلَا ضَمَانَ‏)‏ بِقَتْلِ مُرْتَدٍّ ‏(‏وَلَوْ كَانَ‏)‏ قَتْلُهُ ‏(‏قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِ‏)‏ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ وَرِدَّتُهُ أَبَاحَتْ دَمَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ الضَّمَانُ بِدَلِيلِ نِسَاءِ حَرْبٍ وَذُرِّيَّتِهِمْ ‏(‏إلَّا أَنْ يَلْحَقَ‏)‏ الْمُرْتَدُّ ‏(‏بِدَارِ الْحَرْبِ فَ‏)‏ يَجُوزُ ‏(‏لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ وَأَخْذُ مَا مَعَهُ‏)‏ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا‏.‏

‏(‏وَمَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ‏)‏ أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏كُفْرَهُ كَدَعْوَاهُ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ وَيَتَخَرَّصُ ‏(‏فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَهُوَ تَشْدِيدٌ‏)‏ وَتَأْكِيدٌ نَقَلَ حَنْبَلٌ‏:‏ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ ‏(‏لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ‏)‏ انْتَهَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كُفْرُ نِعْمَةٍ وَقَالَهُ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَقِيلَ‏:‏ قَارَبَ الْكُفْرَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ ‏"‏ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ‏"‏ أَيْ‏:‏ جَحَدَ تَصْدِيقَهُ بِكَذِبِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى هَذَا إذَا اعْتَقَدَ تَصْدِيقَهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ كُفْرًا حَقِيقَةً انْتَهَى‏.‏

قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ‏:‏ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النُّصُوصِ تَوَرُّعًا وَيُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ‏.‏

‏(‏وَيَصِحُّ إسْلَامُ مُمَيِّزٍ‏)‏ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ‏(‏يَعْقِلُهُ‏)‏ أَيْ الْإِسْلَامَ بِأَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيك لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لِأَنَّ ‏{‏عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ‏}‏ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ وَمِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ وَمَنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ‏.‏

وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لِمَا صَحَّ ذَلِكَ لَهُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طَرًّا صَبِيًّا مَا بَلَغْت أَوَانَ حُلُمِي‏.‏

وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَكَوْنِهِ يُوجَبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِهِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا نَفْعٌ لَهُ وَكَذَا إيجَابُهُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَحِرْمَانُ مِيرَاثِهِ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ مَجْبُورٌ بِمِيرَاثِهِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ وَسُقُوطِ نَفَقَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ثُمَّ إنَّهُ ضَرَرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبٍ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ تَصِحُّ ‏(‏رِدَّتُهُ‏)‏ أَيْ الْمُمَيِّزِ كَإِسْلَامِهِ ‏(‏فَإِنْ أَسْلَمَ‏)‏ مُمَيِّزٌ يَعْقِلُهُ ‏(‏حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ‏)‏ صَوْنًا لَهُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ فَرُبَّمَا أَفْسَدُوهُ ‏(‏فَإِنْ قَالَ بَعْدَ‏)‏ إسْلَامِهِ ‏(‏لَمْ أُرِدْ مَا قُلْته فَكَمَا لَوْ ارْتَدَّ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَكُونُ كَالْبَالِغِ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ‏.‏

‏(‏وَلَا يُقْتَلُ هُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُمَيِّزُ حَيْثُ ارْتَدَّ ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏سَكْرَانُ ارْتَدَّا حَتَّى يُسْتَتَابَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الصَّغِيرُ ‏(‏بَعْدَ بُلُوغِهِ وَ‏)‏ السَّكْرَانُ بَعْدَ ‏(‏صَحْوِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏)‏ لِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالصَّحْوَ أَوَّلُ زَمَنٍ صَارَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يَحْتَلِمَ لِلْخَبَرِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ لِلزَّجْرِ وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فِي حَالِ سُكْرِهِ ‏(‏وَإِنْ مَاتَ‏)‏ مَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ ‏(‏فِي سُكْرٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ قَبْلَ أَنْ يَصْحُوَ مَاتَ كَافِرًا لِمَوْتِهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَلَا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ مَعَنَا ‏(‏أَوْ‏)‏ مَاتَ مُمَيِّزًا ارْتَدَّ ‏(‏قَبْلَ بُلُوغٍ‏)‏ وَقَبْلَ تَوْبَتِهِ ‏(‏مَاتَ كَافِرًا‏)‏ لِمَوْتِهِ فِي الرِّدَّةِ‏.‏

‏(‏وَلَا تُقْبَلُ فِي‏)‏ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَتَرْكِ قَتْلٍ وَثُبُوتِ أَحْكَامِ تَوْرِيثٍ وَنَحْوِهَا ‏(‏تَوْبَةُ زِنْدِيقٍ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا‏}‏ وَالزِّنْدِيقُ لَا يُعْلَمُ تَبَيُّنُ رُجُوعِهِ وَتَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي الْكُفْرَ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ‏(‏وَلَا‏)‏ تُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا تَوْبَةُ ‏(‏مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ وَالِازْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا مُتَجَدِّدًا وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ تَكْرَارَ رِدَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْإِسْلَامِ ‏(‏أَوْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى‏)‏ أَيْ صَرِيحًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ جِدًّا فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَبَّ ‏(‏رَسُولًا أَوْ مَلَكًا لَهُ‏)‏ أَيْ لِلَّهِ تَعَالَى ‏(‏صَرِيحًا أَوْ انْتَقَصَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ وَاحِدًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ‏(‏وَلَا‏)‏ تُقْبَلُ تَوْبَةُ ‏(‏سَاحِرٍ مُكَفَّرٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْفَاءِ مُشَدَّدَةً ‏(‏بِسِحْرِهِ‏)‏ كَاَلَّذِي يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ‏.‏

لِحَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا ‏{‏حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ‏}‏ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ‏.‏

فَسَمَّاهُ حَدًّا وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا فِي عِلْمِ إخْلَاصِهِ فِي تَوْبَتِهِ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ السِّحْرَ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الدُّنْيَا عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُخْلِصًا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

لِعُمُومِ حَدِيثِ ‏{‏التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ‏}‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ‏)‏ مِنْ نَفْسِهِ ‏(‏وَأَبْطَنَ الْفِسْقَ فَ‏)‏ هُوَ فِي تَوْبَتِهِ مِنْ فِسْقِهِ ‏(‏كَزِنْدِيقٍ فِي تَوْبَتِهِ‏)‏ مِنْ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إظْهَارِ الْخَيْرِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ توبة المرتد

وَتَوْبَةُ مُرْتَدٍّ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ‏(‏وَ‏)‏ تَوْبَةُ ‏(‏كُلِّ كَافِرٍ‏)‏ مِنْ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِهِ ‏(‏إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ‏)‏ أَيْ‏:‏ قَوْلِهِ‏:‏ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ فَإِذَا هُوَ بِيَهُودِيٍّ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ التَّوْرَاةَ فَقَرَأَ حَتَّى إذَا أَتَى عَلَى صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ صِفَتُك وَصِفَةُ أُمَّتِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لُوا أَخَاكُمْ‏}‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلِحَدِيثِ ‏{‏أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ وَإِذَا ثَبَتَ بِهِمَا إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ جَعَلَ الْإِسْلَامَ اسْمًا لِلْخَمْسَةِ فِي حَدِيثِ ‏"‏ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ ‏"‏ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْلِمًا إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْرِفَ الشَّارِعُ حَقِيقَةً وَيَجْعَلَ بَعْضَ أَجْزَائِهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْحُكْمِ فَفُرِّقَ بَيْنَ النَّظَرِ فِي الشَّيْء مِنْ حَيْثُ بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ مَعْرِفَةُ مَا يُجْزِئُ مِنْهُ ‏(‏مَعَ إقْرَارِ‏)‏ مُرْتَدٍّ ‏(‏جَاحِدٍ لِفَرْضٍ أَوْ‏)‏ جَاحِدٍ لِ ‏(‏تَحْلِيلِ‏)‏ حَلَالٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَاحِدٍ ‏(‏لِتَحْرِيمِ‏)‏ حَرَامٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَاحِدِ ‏(‏نَبِيٍّ‏)‏ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ‏(‏أَوْ‏)‏ جَاحِدِ ‏(‏كِتَابٍ‏)‏ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏أَوْ‏)‏ جَاحِدِ مَلَكٍ أَوْ جَاحِدِ ‏(‏رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ الْعَرَبِ بِمَا جَحَدَهُ‏)‏ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ كُفْرَهُ بِجَحْدِهِ مِنْ حَيْثُ التَّكْذِيبُ فَلَا بُدَّ مِنْ إتْيَانِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْهُ‏.‏

‏(‏أَوْ قَوْلِهِ أَنَا مُسْلِمٌ فَهُوَ تَوْبَةٌ أَيْضًا لِلْمُرْتَدِّ وَلِكُلِّ كَافِرٍ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ‏.‏

بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَضَمَّنَ الشَّهَادَتَيْنِ كَانَ مُخْبِرًا بِهِمَا‏)‏ وَعَنْ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ قَالَ ‏{‏‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ‏:‏ أَسْلَمْتُ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْته فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا‏}‏ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنِّي مُسْلِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَوْ كُنْتَ قُلْتَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ‏}‏ رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ‏.‏

قَالَ فِي الْمُغْنِي‏:‏ وَيُحْتَمَل أَنَّ هَذَا فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَوْ مَنْ جَحَدَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَرِيضَةٍ وَنَحْوَ هَذَا فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ ‏(‏وَلَا يُغْنِي قَوْلُهُ‏)‏ أَيْ الْكَافِرِ ‏(‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ‏(‏وَلَوْ مِنْ مُقِرٍّ بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَا تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِالتَّوْحِيدِ كَعَكْسِهِ فَلَا يَكْفِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏قُلْ‏:‏ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً، أَشْهَدُ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِرِدَّةٍ وَلَوْ‏)‏ شُهِدَ أَنَّ رِدَّتَهُ ‏(‏بِجَحْدِ‏)‏ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ‏(‏فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ‏)‏ وَلَمْ يُنْكِرْ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ ‏(‏لَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْء‏)‏ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ مَعَ ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ ‏(‏فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ‏)‏ مِنْ الرِّدَّةِ ‏(‏لِصِحَّتِهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الشَّهَادَتَيْنِ ‏(‏مِنْ مُسْلِمٍ وَمِنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْمُرْتَدِّ ‏(‏بِخِلَافِ تَوْبَتِهِ مِنْ بِدْعَةٍ‏)‏ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بِهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ لَا يَعْتَقِدُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِدْعَةً‏.‏

‏(‏وَيَكْفِي جَحْدُهُ‏)‏ أَيْ الْمُرْتَدِّ ‏(‏الرِّدَّةَ أَقَرَّ بِهَا‏)‏ وَلَمْ يُشْهَدْ بِهَا عَلَيْهِ كَرُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ بِحَدٍّ و‏(‏لَا‏)‏ يَكْفِي جَحْدُهُ لِرِدَّتِهِ ‏(‏إنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الرِّدَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَتَضَمَّنهُمَا وَإِلَّا اُسْتُتِيبَ إِن قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ثُمَّ قُتِلَ لِأَنَّ جَحْدَهُ الرِّدَّةَ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ فَلَا يُقْبَلُ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى‏.‏

‏(‏وَإِنْ شَهِدَ‏)‏ اثْنَانِ عَلَى مُسْلِمٍ ‏(‏أَنَّهُ كَفَرَ‏)‏ وَلَمْ يَذْكُرُوا كَيْفِيَّةً ‏(‏فَادَّعَى الْإِكْرَاهَ‏)‏ عَلَى مَا قَالَ مَثَلًا ‏(‏قُبِلَ‏)‏ مِنْهُ ذَلِكَ ‏(‏مَعَ قَرِينَةٍ‏)‏ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ كَحَبْسٍ وَقَيْدٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ وَلَا يُكَلَّفُ مَعَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ ‏(‏فَقَطْ‏)‏ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْإِكْرَاهِ مِنْهُ بِلَا قَرِينَةٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ‏(‏وَلَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ‏)‏ بِأَنَّهُ نَطَقَ ‏(‏بِكَلِمَةِ كُفْرٍ‏)‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ هُوَ كَافِرٌ أَوْ يَهُودِيٌّ ‏(‏فَادَّعَاهُ‏)‏ أَيْ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهَا ‏(‏قُبِلَ‏)‏ قَوْلُهُ ‏(‏مُطْلَقًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مَعَ قَرِينَةٍ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ‏.‏

وَتَقَدَّمَ لَا يُكَفَّرُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏‏.‏

‏(‏وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ عَلَى إقْرَارٍ بِإِسْلَامٍ‏)‏ فَأَقَرَّ بِهِ ‏(‏لَمْ يَصِحَّ‏)‏ إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ فَحُكْمُهُ كَالْكُفَّارِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفَّارِ لَمْ يُقْتَلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ‏}‏ وَإِنْ قَصَدَ الْإِسْلَامَ لَا دَفْعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَمُسْلِمٌ‏.‏

‏(‏وَقَوْلُ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ‏)‏ بِرِدَّةٍ ‏(‏أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ‏)‏ قَوْلُهُ ‏(‏أَنَا مُسْلِمٌ تَوْبَةٌ‏)‏ كَمَنْ اعْتَرَفَ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

‏(‏وَإِنْ كَتَبَ كَافِرٌ الشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا‏)‏ لِأَنَّ الْخَطَّ كَاللَّفْظِ ‏(‏وَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ أَسْلَمْت أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَنَا مُؤْمِنٌ صَارَ مُسْلِمًا‏)‏ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِمَا تَقَدَّمَ ‏(‏فَلَوْ‏)‏ عَادَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ كَتَبَهُمَا أَوْ تَلَفَّظَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا قَالَهُ أَوْ كَتَبَهُ و‏(‏قَالَ لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ أَوْ‏)‏ قَالَ ‏(‏لَمْ أَعْتَقِدْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْإِسْلَامَ ‏(‏أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَدْ عُلِمَ مَا يُرَادُ مِنْهُ‏)‏ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَا يُخَلَّى وَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

‏(‏وَإِنْ قَالَ‏:‏ أَنَا مُسْلِمٌ وَلَا أَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ‏)‏ لِحَدِيثِ ‏"‏ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ‏"‏‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ مَنْ قَالَ لِكَافِرٍ ‏(‏أَسْلِمْ وَخُذْ‏)‏ مِنِّي ‏(‏أَلْفًا وَنَحْوَهُ‏)‏ كَفَرَسٍ أَوْ بَعِيرٍ ‏(‏فَأَسْلَمَ فَلَمْ يُعْطِهِ‏)‏ مَا وَعَدَهُ ‏(‏فَأَبَى الْإِسْلَامَ قُتِلَ‏)‏ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَعِدْهُ ‏(‏وَيَنْبَغِي‏)‏ لِمَنْ وَعَدَهُ ‏(‏أَنْ يَفِيَ‏)‏ بِوَعْدِهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ‏.‏

وَخُلْفُ الْوَعْدِ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ‏:‏ وَلَمْ يُشَارِطْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤَلَّفَةَ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَيُعْطِيَهُمْ جُعْلًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ عَطَايَا بِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُهُمْ‏.‏

‏(‏وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ‏)‏ الصَّلَوَاتِ ‏(‏الْخَمْسِ‏)‏ كَعَلَى صَلَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ ‏(‏قُبِلَ مِنْهُ‏)‏ الْإِسْلَامُ تَرْغِيبًا لَهُ فِيهِ ‏(‏وَأُمِرَ بِالْخَمْسِ‏)‏ كُلِّهَا كَغَيْرِهِ‏.‏

‏(‏وَإِذَا مَاتَ مُرْتَدٌّ فَأَقَامَ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَهَا‏)‏ أَيْ رِدَّتِهِ ‏(‏حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ‏)‏ وَأُعْطِيَ مِيرَاثُهُ لِحَدِيثِ ‏"‏ مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا ‏"‏ الْخَبَرَ وَتَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَرْبٍ بِخِلَافِ أَدَاءِ زَكَاةٍ وَحَجٍّ وَصَوْمٍ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا‏.‏

وَتَقَدَّمَ تَوْضِيحُهُ فِي الصَّلَاةِ لَهُ وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ قِبْلَتَنَا وَيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَمَحَلُّهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَتَكُونُ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ‏.‏

قَالَهُ فِي الْإِقْنَاعِ‏.‏

‏(‏وَلَا يَبْطُلُ إحْصَانُ مُرْتَدٍّ‏)‏ بِرِدَّتِهِ فَإِذَا أَحْصَنَ فِي إسْلَامِهِ ثُمَّ زَنَى فِي إسْلَامِهِ أَوْ رِدَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الرَّجْمُ وَلَوْ تَابَ، وَكَذَا إحْصَانُ قَذْفٍ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ طَلَبٍ‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ تَبْطُلُ ‏(‏عِبَادَةٌ فَعَلَهَا قَبْلَ رِدَّتِهِ‏)‏ وَلَا صُحْبَةَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏إذَا تَابَ‏)‏ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏ وَلِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْهَا بِفِعْلِهَا عَلَى وَجْهِهَا كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَطَلَتْ لِلْآيَةِ‏.‏

فَصْلُ‏:‏ ‏[‏وزال ملك المرتد عن ماله‏]‏

وَمَنْ ارْتَدَّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ كَزِنَا الْمُحْصَنِ وَكَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ ‏(‏وَيَمْلِكُ‏)‏ مُرْتَدٌّ ‏(‏بِتَمَلُّكٍ‏)‏ مِنْ هِبَةٍ وَاحْتِشَاشٍ وَنَحْوِهِمَا كَغَيْرِهِ ‏(‏وَيُمْنَعُ‏)‏ مُرْتَدٌّ ‏(‏التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ‏)‏ كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَوَقْفٍ وَإِجَارَةٍ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏وَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ، وَلَوْ جَنَاهَا بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ فِي فِئَةٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ جَمَاعَةٍ ‏(‏مُرْتَدَّةٍ مُمْتَنِعَةٍ‏)‏ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ تَحْتَ حُكْمِنَا بِخِلَافِ الْبُغَاةِ ‏(‏وَيُنْفَقُ مِنْهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَالِ الْمُرْتَدِّ ‏(‏عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ‏)‏ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ شَرْعًا كَالدَّيْنِ ‏(‏فَإِنْ أَسْلَمَ‏)‏ الْمُرْتَدُّ فَمَالُهُ لَهُ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ يُسْلِمْ بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا ‏(‏صَارَ‏)‏ مَالُهُ ‏(‏فَيْئًا مِنْ حِينِ مَوْتِهِ مُرْتَدًّا‏)‏ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرِهِ ‏(‏وَإِنْ لَحِقَ‏)‏ مُرْتَدٌّ ‏(‏بِدَارِ حَرْبٍ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ‏)‏ مِنْ مَالِهِ ‏(‏كَحَرْبِيٍّ‏)‏ يُبَاحُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ وَأَخَذُ مَا مَعَهُ دَفْعًا لِفَسَادِهِ وَلِزَوَالِ الْعَاصِمِ لِلْمَالِكِ وَهُوَ دَارُ الْإِسْلَامِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ أَمَّا ‏(‏مَا بِدَارِنَا‏)‏ مِنْ مَالٍ فَهُوَ فَيْءٌ ‏(‏مِنْ حِينِ مَوْتِهِ‏)‏ وَمَا دَامَ حَيًّا فَمِلْكُهُ عَلَيْهِ بَاقٍ، لِأَنَّ حِلَّ دَمِهِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَالِهِ كَالْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ‏.‏

‏(‏وَلَوْ ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَى فِيهِ حُكْمُهُمْ‏)‏ أَيْ الْمُرْتَدِّينَ كَالدُّرُوزِ ‏(‏فَ‏)‏ هُمْ كَأَهْلِ ‏(‏دَارِ حَرْبٍ يُغْنَمُ مَالُهُمْ وَ‏)‏ يُغْنَمُ ‏(‏وَلَدٌ حَدَثَ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏بَعْدَ الرِّدَّةِ‏)‏ وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَاتَلَ الصِّدِّيقُ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَإِذَا قَاتَلَهُمْ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَيُقْتَلُ مُدْبِرُهُمْ وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ‏.‏

‏(‏وَيُؤْخَذُ مُرْتَدٌّ بِحَدٍّ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَا يُوجِبُهُ كَزِنًا وَقَذْفٍ وَسَرِقَةٍ ‏(‏أَتَاهُ فِي رِدَّتِهِ‏)‏ وَإِنْ أَسْلَمَ نَصًّا لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَزِيدُهُ إلَّا تَغْلِيظًا‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يُؤْخَذُ ‏(‏بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ فِيهَا‏)‏ أَيْ الرِّدَّةِ ‏(‏مِنْ عِبَادَةٍ‏)‏ كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ وَلَمْ يَأْمُرْ الصِّدِّيقُ الْمُرْتَدِّينَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُمْ وَكَالْحَرْبِيِّ‏.‏

‏(‏وَإِنْ لَحِقَ زَوْجَانِ مُرْتَدَّانِ بِدَارِ حَرْبٍ لَمْ يُسْتَرَقَّا‏)‏ وَلَا أَحَدُهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ بَلْ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ ‏(‏وَلَا‏)‏ يُسْتَرَقُّ ‏(‏مِنْ وَلَدِهِمَا‏)‏ أَيْ‏:‏ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ رِدَّةٍ إذَا ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِدَارِ حَرْبٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَا يُسْتَرَقُّ ‏(‏حَمْلٌ‏)‏ مِنْهُمَا حَمَلَتْ بِهِ ‏(‏قَبْلَ رِدَّةٍ‏)‏ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَلَا يَتْبَعُهُمَا فِي الرِّدَّةِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، ثُمَّ إنْ ثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ كِبَرِهِمْ فَمُسْلِمُونَ ‏(‏وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ قُتِلَ‏)‏ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ كَآبَائِهِمْ ‏(‏وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ‏)‏ الْوَلَدِ ‏(‏الْحَادِثِ فِيهَا‏)‏ أَيْ رِدَّةِ زَوْجَيْنِ لَحِقَا بِدَارٍ حَرْبٍ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وُلِدَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ وَلَيْسَ بِمُرْتَدٍّ نَصًّا ‏(‏وَ‏)‏ يَجُوزُ أَنْ ‏(‏يُقَرَّ عَلَى كُفْرٍ بِجِزْيَةٍ‏)‏ كَأَوْلَادِ الْحَرْبِيِّينَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ انْتَهَى‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ فِي السِّحْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَاعِلُهُ أَوْ يَكْتُبُهُ أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ مَسْحُورٍ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ، وَلَهُ حَقِيقَةٌ فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ وَمِنْهُ مَا يُمْرِضُ وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ عَنْ وَطْئِهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ وَيُحَبِّبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ‏}‏‏.‏

وَحَدِيثِ عَائِشَةَ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ سُحِرَ حَتَّى أَنَّهُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ‏}‏‏.‏

وَرُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ السَّحَرَةِ مَا لَمْ يُمْكِنْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إبْطَالُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَا يَأْتُونَ بِهِ، فَلَا يَنْتَهِي إلَى أَنْ تَسْعَى الْعَصَا وَالْحِبَالُ، وَيُحَرَّمُ تَعَلُّمُ السِّحْرِ وَتَعْلِيمُهُ ‏(‏وَسَاحِرٌ يَرْكَبُ الْمَكْنَسَةَ فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْوِهِ‏)‏ كَمُدَّعِي أَنَّ الْكَوَاكِبَ تُخَاطِبُهُ ‏(‏كَافِرٌ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ‏}‏ أَيْ مَا كَانَ سَاحِرًا كَفَرَ بِسِحْرِهِ- ‏{‏وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ‏}‏ أَيْ‏:‏ لَا تَتَعَلَّمْهُ فَتَكْفُرْ بِذَلِكَ ‏(‏كَمُعْتَقِدٍ حِلَّهُ‏)‏ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

و‏(‏لَا‏)‏ يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ ‏(‏مَنْ سَحَرَ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيٍ شَيْئًا يَضُرُّ‏)‏ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعِصْمَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُزِيلُهَا ‏(‏وَيُعَزَّرُ‏)‏ سَاحِرٌ بِذَلِكَ ‏(‏بَلِيغًا‏)‏ لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمِثْلُهُ عَنْهُ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَكْفُرُ ‏(‏مَنْ يُعَزِّمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا وَتُطِيعُهُ‏)‏ وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي السَّحَرَةِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَكْفُرُ ‏(‏كَاهِنٌ‏)‏ أَيْ‏:‏ مَنْ لَهُ رِدْءٌ مِنْ الْجِنِّ يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَكْفُرُ ‏(‏عَرَّافٌ‏)‏ أَيْ مِنْ يَحْدُسُ أَوْ يَتَخَرَّصُ ‏(‏وَلَا‏)‏ يَكْفُرُ ‏(‏مُنَجِّمٌ‏)‏ أَيْ‏:‏ نَاظِرٌ فِي النُّجُومِ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْحَوَادِثِ فَإِنْ أَوْهَمَ قَوْمًا بِطَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ‏.‏

‏(‏وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرٌ كِتَابِيٌّ‏)‏ نَصًّا ‏(‏أَوْ‏)‏ سَاحِرٌ ‏(‏نَحْوُهُ‏)‏ كَمَجُوسِيٍّ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا فَيُقْتَلُ قِصَاصًا، ‏{‏لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ‏}‏، وَلِأَنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ سِحْرِهِ وَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَالْأَخْبَارُ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَفَرَ بِسِحْرِهِ ‏(‏وَمُشَعْبِذٌ‏)‏ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ ‏(‏وَقَائِلٍ بِزَجْرِ طَيْرٍ وَضَارِبٌ بِحَصًى أَوْ‏)‏ ضَارِبٌ بِ ‏(‏شَعِيرٍ وَ‏)‏ ضَارِبٌ بِ ‏(‏قِدَاحٍ‏)‏ جَمْعُ قِدْحٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ‏:‏ السَّهْمُ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ وَالنَّظَرُ فِي أَكْتَافِ الْأَلْوَاحِ ‏(‏إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إبَاحَتَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَعَلَ مَا سَبَقَ ‏(‏وَ‏)‏ لَمْ يَعْتَقِدْ ‏(‏أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهِ الْأُمُورَ الْمُغَيَّبَةَ عُزِّرَ‏)‏ لِفِعْلِهِ مَعْصِيَةً ‏(‏وَيُكَفُّ عَنْهُ وَإِلَّا‏)‏ بِأَنْ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ بِهِ الْأُمُورَ الْمُغَيَّبَةَ ‏(‏كَفَرَ‏)‏ فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ‏(‏وَيَحْرُمُ طَلْسَمٌ‏)‏ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ ‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ ‏(‏رُقْيَةٌ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ‏)‏ إنْ لَمْ يَعْرِفْ صِحَّةَ مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبًّا وَكُفْرًا وَكَذَا‏.‏

يُحَرَّمَانِ بِاسْمِ كَوْكَبٍ وَمَا وُضِعَ عَلَى نَجْمٍ مِنْ صُورَةٍ أَوْ غَيْرِهَا‏.‏

‏(‏وَيَجُوزُ الْحَلُّ‏)‏ أَيْ‏:‏ حَلُّ السِّحْرِ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالْأَقْسَامِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ‏.‏

وَيَجُوزُ حَلُّهُ أَيْضًا ‏(‏بِسِحْرٍ ضَرُورَةً‏)‏ أَيْ‏:‏ لِأَجَلِ الضَّرُورَةِ، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ مُهَنَّا عَمَّنْ تَأْتِيهِ مَسْحُورَةً فَيُطْلِقُهُ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ‏.‏

قَالَ الْخَلَّالُ‏:‏ إنَّمَا كَرِهَ فِعَالَهُ وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا كَمَا بَيَّنَهُ مُهَنَّا‏.‏

‏(‏وَالْكُفَّارُ وَأَطْفَالُهُمْ‏)‏ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَدَلٌ مِنْ الْكُفَّارِ ‏(‏وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ‏)‏ أَيْ الْكُفَّارِ ‏(‏مَجْنُونًا مَعَهُمْ‏)‏ أَيْ الْكُفَّارِ أَيْ‏:‏ آبَائِهِ ‏(‏عَلَى النَّارِ‏)‏ تَبَعًا لَهُمْ‏.‏

وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْجَنَّةِ كَأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ مَجْنُونًا‏.‏

وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَكْلِيفَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لِلْأَخْبَارِ‏.‏

‏(‏وَمَنْ وُلِدَ أَعْمَى أَبْكَمَ أَصَمَّ فَ‏)‏ هُوَ ‏(‏مَعَ أَبَوَيْهِ كَافِرَيْنِ‏)‏ كَانَا ‏(‏أَوْ مُسْلِمَيْنِ وَلَوْ أَسْلَمَا بَعْدَ مَا بَلَغَ‏)‏ نَصًّا‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُمَا، أَيْ‏:‏ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، وَمَنْ وُلِدَ أَعْمَى أَبْكَمَ أَصَمَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَى، قَالَهُ شَيْخُنَا وَذُكِرَ فِي الْفُنُونِ عَنْ أَصْحَابِنَا لَا يُعَاقَبُ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ شَرْعًا نَصًّا، وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ وَيَجِبُ قَبْلَهَا النَّظَرُ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ لِغَيْرِهِ وَلَا يَقَعَانِ ضَرُورَةً‏.‏