فصل: باب وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب‏)‏ فيه تغليب المذكر على المؤنث‏.‏

وقال عياض وتبعه النووي‏:‏ في ‏"‏ قوله أحدكما ‏"‏ رد على من قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد ولا توقع موقعه‏.‏

وقد أجازه المبرد‏.‏

وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد ا هـ‏.‏

قال الفاكهي‏:‏ هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في ‏"‏ أحد ‏"‏ التي للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد، وأما أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏ ونحو ‏(‏فشهادة أحدهم‏)‏ ونحو ‏"‏ أحدكما كاذب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فهل منكما من تائب‏)‏ ‏؟‏ يحتمل أن يكون إرشادا لا أنه لم يحصل منهما ولا من أحدهما اعتراف، ولأن الزوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَقَالَ أَيُّوبُ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان قال عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

وفي رواية الحميدي ‏"‏ عن سفيان أنبأنا عمرو ‏"‏ فذكره‏.‏

وقد بينت ما فيه في الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏قال سفيان حفظته من عمرو‏)‏ هذا كلام علي بن عبد الله يريد بيان سماع سفيان له من عمرو‏.‏

قوله ‏(‏قال أيوب‏)‏ هو موصول بالسند المبدأ به وليس بتعليق، وحاصله أن الحديث كان عند سفيان عن عمرو بن دينار وعن أيوب جميعا عن ابن عمر، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان ‏"‏ قال وحدثنا أيوب في مجلس عمرو بن دينار فحدثه عمرو بحديثه هذا فقال له أيوب‏:‏ أنت أحسن حديثا مني ‏"‏ وقد بينت في الذي قبله سبب ذلك، وهو أن فيه عند عمرو ما ليس عند أيوب‏.‏

قوله ‏(‏فقال بإصبعيه‏)‏ هو من إطلاق القول على الفعل، وقوله ‏"‏وفرق سفيان بين السبابة والوسطى ‏"‏ جملة معترضة أراد بها بيان الكيفية، والذي يظهر أنه لا يجزم بذلك إلا عن توقيف، وقوله فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلخ هو جواب السؤال‏.‏

قوله ‏(‏وقال‏:‏ الله يعلم أن أحدكما كاذب‏)‏ قال عياض ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنه يلزم من كذبه التوبة من ذلك‏.‏

وقال الداودي‏:‏ قال ذلك قبل اللعان تحذيرا لهما منه، والأول أظهر وأولى بسياق الكلام‏.‏

قلت‏:‏ والذي قاله الداودي أولى من جهة أخرى وهي مشروعية الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، وأما سياق الكلام فمحتمل في رواية ابن عمر للأمرين، وأما حديث ابن عباس فسياقه ظاهر فيما قال الداودي، ففي رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي في قصة هلال بن أمية ‏"‏ قال فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة فقال‏:‏ الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب‏؟‏ فقال هلال‏:‏ والله إني لصادق ‏"‏ الحديث، وقد قدمت أن حديث ابن عباس من رواية عكرمة في قصة غير القصة التي في حديث سهل بن سعد وابن عمر، فيصح الأمران معا باعتبار التعدد‏.‏

*3*باب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التفريق بين المتلاعنين‏)‏ ثبتت هذه الترجمة للمستملي، وذكرها الإسماعيلي، وثبت عند النسفي ‏"‏ باب ‏"‏ بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول ‏"‏ فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما ‏"‏ ولفظ الثاني ‏"‏ لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما ‏"‏ ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ ‏"‏ فرق بين المتلاعنين ‏"‏ إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده ‏"‏ لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ‏"‏ ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ‏"‏ فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث‏.‏

وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال‏:‏ إنه غلط‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود‏.‏

قلت‏:‏ تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج ‏"‏ فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا ‏"‏ ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في ‏"‏ باب اللعان ومن طلق‏"‏، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى ‏"‏ لا سبيل لك عليها ‏"‏ وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه‏.‏

ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود ‏"‏ وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها ‏"‏ وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل ‏"‏ فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ‏"‏ أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله ‏"‏ لا يجتمعان أبدا ‏"‏ على أن فرقة اللعان على التأبيد ‏"‏ وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا‏:‏ ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك‏:‏ إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هذا عندي قول ثالث‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله ‏"‏ ردت إليه ‏"‏ أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني‏:‏ لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص‏.‏

وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة‏.‏

قال السمعاني‏:‏ وقد أورد بعض الحنفية أن قوله ‏"‏ المتلاعنان ‏"‏ يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا‏:‏ اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التفريق بين المتلاعنين‏)‏ ثبتت هذه الترجمة للمستملي، وذكرها الإسماعيلي، وثبت عند النسفي ‏"‏ باب ‏"‏ بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول ‏"‏ فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما ‏"‏ ولفظ الثاني ‏"‏ لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما ‏"‏ ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ ‏"‏ فرق بين المتلاعنين ‏"‏ إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده ‏"‏ لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ‏"‏ ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ‏"‏ فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث‏.‏

وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال‏:‏ إنه غلط‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود‏.‏

قلت‏:‏ تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج ‏"‏ فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا ‏"‏ ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في ‏"‏ باب اللعان ومن طلق‏"‏، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى ‏"‏ لا سبيل لك عليها ‏"‏ وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه‏.‏

ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود ‏"‏ وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها ‏"‏ وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل ‏"‏ فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ‏"‏ أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله ‏"‏ لا يجتمعان أبدا ‏"‏ على أن فرقة اللعان على التأبيد ‏"‏ وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا‏:‏ ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك‏:‏ إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هذا عندي قول ثالث‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله ‏"‏ ردت إليه ‏"‏ أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني‏:‏ لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص‏.‏

وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة‏.‏

قال السمعاني‏:‏ وقد أورد بعض الحنفية أن قوله ‏"‏ المتلاعنان ‏"‏ يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا‏:‏ اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَاعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التفريق بين المتلاعنين‏)‏ ثبتت هذه الترجمة للمستملي، وذكرها الإسماعيلي، وثبت عند النسفي ‏"‏ باب ‏"‏ بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول ‏"‏ فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما ‏"‏ ولفظ الثاني ‏"‏ لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما ‏"‏ ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ ‏"‏ فرق بين المتلاعنين ‏"‏ إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده ‏"‏ لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ‏"‏ ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ‏"‏ فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث‏.‏

وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال‏:‏ إنه غلط‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود‏.‏

قلت‏:‏ تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج ‏"‏ فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا ‏"‏ ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في ‏"‏ باب اللعان ومن طلق‏"‏، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى ‏"‏ لا سبيل لك عليها ‏"‏ وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه‏.‏

ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود ‏"‏ وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها ‏"‏ وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل ‏"‏ فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ‏"‏ أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله ‏"‏ لا يجتمعان أبدا ‏"‏ على أن فرقة اللعان على التأبيد ‏"‏ وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا‏:‏ ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك‏:‏ إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هذا عندي قول ثالث‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله ‏"‏ ردت إليه ‏"‏ أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني‏:‏ لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص‏.‏

وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة‏.‏

قال السمعاني‏:‏ وقد أورد بعض الحنفية أن قوله ‏"‏ المتلاعنان ‏"‏ يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا‏:‏ اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان‏.‏

*3*باب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلَاعِنَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يلحق الولد بالملاعنة‏)‏ أي إذا انتفى الزوج منه قبل الوضع أو بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها‏)‏ قال الطيبي‏:‏ الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء، فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ ‏"‏ وانتقى ‏"‏ بالواو لا بالفاء‏.‏

وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك ذكره بلفظ ‏"‏ وانتقل ‏"‏ يعني بقاف بدل الفاء ولام آخره وكأنه تصحيف، وإن كان محفوظا فمعناه قريب من الأول، وقد تقدم الحديث في تفسير النور من وجه آخر عن نافع بلفظ ‏"‏ إن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فتلاعنا ‏"‏ فوضح أن الانتفاء سبب الملاعنة لا العكس، واستدل بهذا الحديث على مشروعية اللعان لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرد اللعان ولو لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان، وفيه نظر لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر لعان الرجل دفع حد القذف عنه وثبوت زنا المرأة ثم يرتفع عنها الحد بالتعانها‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إن نفي الولد في الملاعنة انتفى وإن لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة‏.‏

واستدل به على أنه لا يشترط في نفي الحمل تصريح الرجل بأنها ولدت من زنا، ولا أنه استبرأها بحيضة، وعن المالكية يشترط ذلك، واحتج بعض من خالفهم بأنه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرض لذلك بخلاف اللعان الناشئ عن قذفها، واحتج الشافعي بأن الحامل قد تحيض فلا معنى لاشتراط الاستبراء، قال ابن العربي‏:‏ ليس عن هذا جواب مقنع‏.‏

قوله ‏(‏ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة‏)‏ قال الدار قطني‏:‏ تفرد مالك بهذه الزيادة، قال ابن عبد البر‏:‏ ذكروا أن مالكا تفرد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد كما تقدم من رواية يونس عن الزهري عند أبي داود بلفظ ‏"‏ ثم خرجت حاملا فكان الولد إلى أمه ‏"‏ ومن رواية الأوزاعي عن الزهري ‏"‏ وكان الولد يدعى إلى أمه ‏"‏ ومعنى قوله ألحق الولد بأمه أي صيره لها وحدها ونفاه عن الزوج فلا توارث بينهما، وأما أمه فترث منه ما فرض الله لها كما وقع صريحا في حديث سهل بن سعد كما تقدم في شرح حديثه في آخره، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها‏.‏

وقيل معنى إلحاقه بأمه أنه صيرها له أبا وأما فترث جميع ماله إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه، وهو قول ابن مسعود وواثلة وطائفة ورواية عن أحمد وروى أيضا عن ابن القاسم، وعنه معناه أن عصبة أمه تصير عصبة له وهو قول علي وابن عمر والمشهور عن أحمد، وقيل ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والرد وهو قول أبي عبيد ومحمد بن الحسن ورواية عن أحمد، قال‏:‏ فإن لم يرثه ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه، واستدل به على أن الولد المنفي باللعان لو كان بنتا حل للملاعن نكاحها، وهو وجه شاذ لبعض الشافعية، والأصح كقول الجمهور أنها تحرم لأنها ربيبته في الجملة

*3*باب قَوْلِ الْإِمَامِ اللَّهُمَّ بَيِّنْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الإمام اللهم بين‏)‏ قال ابن العربي‏:‏ ليس معنى هذا الدعاء طلب ثبوت صدق أحدهما فقط بل معناه أن تلد ليظهر الشبه، ولا يمتنع دلالتها بموت الولد مثلا فلا يظهر البيان، والحكمة فيه ردع من شاهد ذلك عن التلبس بمثل ما وقع لما يترتب على ذلك من القبح ولو اندرأ الحد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ذُكِرَ الْمُتَلَاعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا لِقَوْلِي فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الَّذِي وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْدًا قَطَطًا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس ويحيى بن سعيد هو الأنصاري‏.‏

قوله ‏(‏أخبرني عبد الرحمن بن القاسم‏)‏ ثبتت هذه الرواية وكذا رواية الليث السابقة قبل أربعة أبواب أن رواية ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم التي أخرجها الشافعي وغيره وقعت فيها تسوية، ويحيى وإن كان سمع من القاسم لكنه ما سمع هذا الحديث إلا من ولده عبد الرحمن عنه‏.‏

قوله ‏(‏فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما‏)‏ ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن قد أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة التي في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله ‏"‏ فلاعن ‏"‏ معقبة بقوله ‏"‏ فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ‏"‏ وأما قوله ‏"‏ وكان ذلك الرجل مصفرا إلخ ‏"‏ فهو كلام اعترض بين الجملتين، ويحتمل - على بعد - أن تكون الملاعنة وقعت مرة بسبب القذف وأخرى بسبب الانتفاء والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فقال رجل لابن عباس‏)‏ هذا السائل هو عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عباس، سماه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث كما سيأتي في كتاب الحدود‏.‏

قوله ‏(‏كانت تظهر في الإسلام السوء‏)‏ أي كانت تعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا اعتراف‏.‏

قال الداودي‏:‏ فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء، وتعقب بأن ابن عباس لم يسمها‏.‏

فإن أراد إظهار العيب على الإبهام فمحتمل، وقد مضى في التفسير في رواية عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ‏"‏ أي لولا ما سبق من حكم الله، أي أن اللعان يدفع الحد عن المرأة لأقمت عليها الحد من أجل الشبه الظاهر بالذي رميت به، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي خاص فإذا أنزل الوحي بالحكم في تلك المسألة قطع النظر وعمل بما نزل وأجرى الأمر على الظاهر ولو قامت قرينة تقتضي خلاف الظاهر، وفي أحاديث اللعان من الفوائد غير ما تقدم أن المفتي إذا سئل عن واقعة ولم يعلم حكمها ورجا أن يجد فيها نصا لا يبادر إلى الاجتهاد فيها‏.‏

وفيه الرحلة في المسألة النازلة، لأن سعيد بن جبير رحل من العراق إلى مكة من أجل مسألة الملاعنة‏.‏

وفيه إتيان العالم في منزله ولو كان في قائلته إذا عرف الآتي أنه لا يشق عليه‏.‏

وفيه تعظيم العالم ومخاطبته بكنيته‏.‏

وفيه التسبيح عند التعجب، وإشعار بسعة علم سعيد بن جبير لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم عليه، ويحتمل أن يكون تعجبه لعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورا من قبل فتعجب كيف خفي على بعض الناس‏.‏

وفيه بيان أوليات الأشياء والعناية بمعرفتها لقول ابن عمر ‏"‏ أول من سأل عن ذلك فلان ‏"‏ وقوله أنس ‏"‏ أول لعان كان ‏"‏ وفيه أن البلاء موكل بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بمن له به وصلة، وأن الحاكم يردع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة والتذكير والتحذير ويكرر ذلك ليكون أبلغ‏.‏

وفيه ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما، لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلا إلى الراحة منها إما بالطلاق وإما باللعان‏.‏

وفيه أن الاستفهام بأرأيت كان قديما، وأن خبر الواحد يعمل به إذا كان ثقة، وأنه يسن للحاكم وعظ المتلاعنين عند إرادة التلاعن، ويتأكد عند الخامسة، ونقل ابن دقيق العيد عن الفقهاء أنهم خصوه بالمرأة عند إرادة تلفظها بالغضب، واستشكله بما في حديث ابن عمر، لكن قد صرح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب وعظهما معا‏.‏

وفيه ذكر الدليل مع بيان الحكم‏.‏

وفيه كراهة المسائل التي يترتب عليها هتك المسلم أو التوصل إلى أذيته بأي سبب كان، وفي كلام الشافعي إشارة إلى أن كراهة ذلك كانت خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم من أجل نزول الوحي لئلا تقع المسألة عن شيء مباح فيقع التحريم بسبب المسألة، وقد ثبت في الصحيح ‏"‏ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ‏"‏ وقد استمر جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه فلا يحصى ما فرعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها‏.‏

وفيه أن الصحابة كانوا يسألون عن الحكم الذي لم ينزل فيه وحي‏.‏

وفيه أن للعالم إذا كره السؤال أن يعيبه ويهجنه، وأن من لقي شيئا من المكروه بسبب غيره يعاتبه عليه، وأن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يرده كراهة العالم لما سأل عنه ولا غضبه عليه ولا جفاؤه له بل يعاود ملاطفته إلى أن يقضي حاجته، وأن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرا وجهرا، وأن لا عيب في ذلك على السائل ولو كان مما يستقبح‏.‏

وفيه التحريض على التوبة، والعمل بالستر، وانحصار الحق في أحد الجانبين عند تعذر الواسطة لقوله ‏"‏ إن أحدكما كاذب ‏"‏ وأن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما وإن أحاط العلم بكذب أحدهما لا بعينه‏.‏

وفيه أن اللعان إذا وقع سقط حد القذف عن الملاعن للمرأة وللذي رميت به، لأنه صرح في بعض طرقه بتسمية المقذوف، ومع ذلك لم ينقل أن القاذف حد، قال الداودي‏:‏ لم يقل به مالك لأنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لقال به وأجاب بعض من قال يحد من المالكية والحنفية بأن المقذوف لم يطلب وهو حقه فلذلك لم ينقل أن القاذف حد لأن الحد سقط من أصله باللعان‏.‏

وذكر عياض أن بعض أصحابهم اعتذر عن ذلك بأن شريكا كان يهوديا، وقد بينت ما فيه في ‏"‏ باب يبدأ الرجل بالتلاعن‏"‏‏.‏

وفيه أنه ليس على الإمام أن يعلم المقذوف بما وقع من قاذفه‏.‏

وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع لقوله في الحديث ‏"‏ انظروا فإن جاءت به إلخ ‏"‏ كما تقدم في حديث سهل وفي حديث ابن عباس‏.‏

وعند مسلم من حديث ابن مسعود ‏"‏ فجاء يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعلها أن تجيء به أسود جعدا، فجاءت به أسود جعدا ‏"‏ وبه قال الجمهور خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم لأنه قد يكون نفخة، وحجة الجمهور أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ودفع حد الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، ولذلك يشرع اللعان مع الآيسة‏.‏

وقد اختلف في الصغيرة‏:‏ فالجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها‏.‏

واستدل به على أن لا كفارة في اليمين الغموس لأنها لو وجبت لبينت في هذه القصة، وتعقب بأنه لم يتعين الحانث، وأجيب بأنه لو كان واجبا لبينه مجملا بأن يقول مثلا فليكفر الحانث منكما عن يمينه كما أرشد أحدهما إلى التوبة‏.‏

وفي قوله عليه السلام ‏"‏ البينة وإلا حد في ظهرك ‏"‏ دلالة على أن القاذف لو عجز عن البينة فطلب تحليف المقذوف لا يجاب، لأن الحصر المذكور لم يتغير منه إلا زيادة مشروعية اللعان‏.‏

وفيه جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، واستدل به على أن اللعان لا يشرع إلا لمن ليست له بينة، وفيه نظر لأنه لو استطاع إقامة البينة على زناها ساغ له أن يلاعنها لنفي الولد لأنه لا ينحصر في الزنا، وبه قال مالك والشافعي ومن تبعهما‏.‏

وفيه أن الحكم يتعلق بالظاهر وأمر السرائر موكول إلى الله تعالى، قال ابن التين وبه احتج الشافعي على قبول توبة الزنديق، وفيه نظر لأن الحكم يتعلق بالظاهر فيما لا يتعلق فيه حكم للباطن، والزنديق قد علم باطنه بما تقدم فلا يقبل منه ظاهر ما يبديه بعد ذلك كذا قال، وحجة الشافعي ظاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحقق أن أحدهما كاذب وكان قادرا على الاطلاع على عين الكاذب لكن أخبر أن الحكم بظاهر الشرع يقتضي أنه لا ينقب عن البواطن، وقد لاحت القرائن بتعيين الكاذب في المتلاعنين ومع ذلك فأجراهما على حكم الظاهر ولم يعاقب المرأة‏.‏

ويستفاد منه أن الحاكم لا يكتفي بالمظنة والإشارة في الحدود إذا خالفت الحكم الظاهر كيمين المدعى عليه إذا أنكر ولا بينة، واستدل به الشافعي على إبطال الاستحسان لقوله ‏"‏ لولا الأيمان لكان لي ولها شأن‏"‏‏.‏

وفيه أن الحاكم إذا بذل وسعه واستوفى الشرائط لا ينقض حكمه إلا إن ظهر عليه إخلال شرط أو تفريط في سبب‏.‏

وفيه أن اللعان يشرع في كل امرأة دخل بها أو لم يدخل، ونقل فيه ابن المنذر الإجماع، وفي صداق غير المدخول بها خلاف للحنابلة تقدمت الإشارة إليه في بابه‏.‏

فلو نكح فاسدا أو طلق بائنا فولدت فأراد نفي الولد فله الملاعنة‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يلحقه الولد ولا نفي ولا لعان لأنها أجنبية‏.‏

وكذا لو قذفها ثم أبانها بثلاث فله اللعان‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة قال الشعبي إذا طلقها ثلاثا فوضعت فانتفى منه فله أن يلاعن، فقال له الحارث‏:‏ إن الله يقول ‏(‏والذين يرمون أزواجهم‏)‏ أفتراها له زوجة‏؟‏ فقال الشعبي‏:‏ إني لأستحي من الله إذا رأيت الحق أن لا أرجع إليه، فلو التعن ثلاث مرات فقط فالتعنت المرأة مثله ففرق الحاكم بينهما لم تقع الفرقة عند الجمهور لأن ظاهر القرآن أن الحد وجب عليهما وأنه لا يندفع إلا بما ذكر فيتعين الإتيان بجميعه‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ أخطأ السنة وتحصل الفرقة لأنه أتى بالأكثر فتعلق به الحكم، واستدل به على أن الالتعان ينتفي به الحمل خلافا لأبي حنيفة ورواية عن أحمد لقوله ‏"‏ انظروا فإن جاءت به ‏"‏ إلخ، فإن الحديث ظاهر في أنها كانت حاملا وقد ألحق الولد مع ذلك بأمه‏.‏

وفيه جواز الحلف على ما يغلب على الظن ويكون المستند التمسك بالأصل أو قوة الرجاء من الله عند تحقق الصدق لقول من سأله هلال ‏"‏ والله ليجلدنك ‏"‏ ولقول هلال ‏"‏ والله لا يضربني وقد علم أني رأيت حتى استفتيت‏"‏‏.‏

وفيه أن اليمين التي يعتد بها في الحكم ما يقع بعد إذن الحاكم لأن هلالا قال ‏"‏ والله إني لصادق ‏"‏ ثم لم يحتسب بها من كلمات اللعان الخمس‏.‏

وتمسك به من قال بإلغاء حكم القافة، وتعقب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يعتبر حكم القافة حيث لا يوجد ظاهر يتمسك به، ويقع الاشتباه فيرجع حينئذ إلى القافة، والله أعلم

*3*باب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها‏)‏ أي هل تحل للأول إن طلقها الثاني بغير مسيس‏؟‏ ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يفرد كتاب العدة عن كتاب اللعان فيما وقفت عليه من النسخ‏.‏

ووقع في شرح ابن بطال قبل الباب الذي يلي هذا وهو ‏"‏ باب واللائي يئسن من المحيض ‏"‏‏:‏ ‏"‏ كتاب العدة ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ أبواب العدة ‏"‏ والأولى إثبات ذلك هنا، فإن هذا الباب لا تعلق له باللعان لأن الملاعنة لا تعود للذي لاعن منها ولو تزوجت غيره سواء جامعها أم لم يجامع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ فَقَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن عروة‏.‏

وقوله ‏"‏حدثني عثمان بن أبي شيبة إلخ ‏"‏ ساقه على لفظ عبدة، وإنما احتاج إلى رواية يحيى لتصريح هشام في روايته بقوله ‏"‏ حدثني أبي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إن رفاعة القرظي‏)‏ هو رفاعة القرظي بن سموأل بفتح المهملة والميم وسكون الواو بعدها همزة ثم لام، والقرظي بالقاف والظاء المعجمة وقد تقدم ضبط قريظة والنضير في أوائل المغازي‏.‏

قوله ‏(‏تزوج امرأة‏)‏ في رواية عمرو بن علي عند الإسماعيلي ‏"‏ امرأة من بني قريظة ‏"‏ وسماها مالك من حديث عبد الرحمن بن الزبير نفسه كما أخرجه ابن وهب والطبراني والدار قطني في ‏"‏ الغرائب ‏"‏ موصولا وهو في الموطأ مرسل تميمة بنت وهب، وهي بمثناة واختلف هل هي بفتحها أو بالتصغير والثاني أرجح ووقع مجزوما به في النكاح لسعيد بن أبي عروبة من روايته عن قتادة، وقيل اسمها سهيمة بسين مهملة مصغر أخرجه أبو نعيم وكأنه تصحيف، وعند ابن منده أميمة بألف أخرجها من طريق أبي صالح عن ابن عباس وسمي أباها الحارث، وهي واحدة اختلف في التلفظ باسمها والراجح الأول‏.‏

قوله ‏(‏ثم طلقها فتزوجت آخر‏)‏ سماه مالك في روايته عبد الرحمن بن الزبير وأبوه بفتح الزاي، واتفقت الروايات كلها عن هشام بن عروة أن الزوج الأول رفاعة والثاني عبد الرحمن، وكذا قال عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النكاح له عن قتادة أن تميمة بنت أبي عبيد القرظية كانت تحت رفاعة فطلقها فخلف عليها عبد الرحمن بن الزبير، وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد إلا ما وقع عند ابن إسحاق في المغازي من رواية سلمة بن الفضل عنه وتفرد به عنه عن هشام عن أبيه قال كانت امرأة من قريظة يقال لها تميمة تحت عبد الرحمن بن الزبير فطلقها‏.‏

فتزوجها رفاعة ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهو مع إرساله مقلوب، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام، وقد وقع لامرأة أخرى قريب من قصتها فأخرج النسائي من طريق سليمان بن يسار عن عبيد الله بن العباس أي ابن عبد المطلب ‏"‏ أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء فقال‏:‏ إنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال‏:‏ ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته ‏"‏ ورجاله ثقات لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار‏.‏

ووقع عند شيخنا في شرح الترمذي ‏"‏ عبد الله بن عباس ‏"‏ مكبر وتعقب على ابن عساكر والمزي أنهما لم يذكرا هذا الحديث في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ ولا تعقب عليهما فإنهما ذكراه في مسند عبيد الله بالتصغير وهو الصواب، وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ولد في عصره فذكر لذلك في الصحابة، واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم أخرجه الطبراني وأبو مسلم الكجي وأبو نعيم في الصحابة من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فتزوجها رجل قبل أن يمسها فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول الحديث ولم أعرف اسم زوجها الثاني، ووقعت لثالثة قصة أخرى مع رفاعة رجل آخر غير الأول والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضا أخرجه مقاتل بن حيان في تفسيره ومن طريقه ابن شاهين في ‏"‏ الصحابة ‏"‏ ثم أبو موسى قوله تعالى ‏(‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏)‏ قال ‏"‏ نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ الحديث وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب فقال اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر الاختلاف في النطق بتميمة وضم إليها عائشة والتحقيق ما تقدم‏.‏

ووقعت لأبي ركانة قصة أخرى سأذكرها آخر هذا الباب‏.‏

قوله ‏(‏فأتت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في الكلام حذف تقديره يظهر من الروايات الأخرى، فعند المصنف من طريق أبي معاوية عن هشام ‏"‏ فتزوجت زوجا غيره فلم يصل منها إلى شيء يريده ‏"‏ وعند أبي عوانة من طريق الدراوردي عن هشام ‏"‏ فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها ‏"‏ وكذا في رواية مالك بن عبد الرحمن ابن الزبير نفسه وزاد ‏"‏ فلم يستطع أن يمسها ‏"‏ وقوله فاعترض بضم المثناة وآخره ضاد معجمة أي حصل له عارض حال بينه وبين إتيانها إما من الجن وإما من المرض‏.‏

قوله ‏(‏فذكرت له أنه لا يأتيها‏)‏ وقع في رواية أبي معاوية عن هشام ‏"‏ فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء ‏"‏ والهنة بفتح الهاء وتخفيف النون المرة الواحدة الحقيرة‏.‏

قوله ‏(‏وإنه ليس معه إلا مثل هدبة‏)‏ بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة مفتوحة هو طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار، واستدل به على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشرا فلو كان ذكره أشل أو كان هو عنينا أو طفلا لم يكف على أصح قولي العلماء، وهو الأصح عند الشافعية أيضا‏.‏

قوله ‏(‏فقال لا‏)‏ هكذا وقع من هذا الوجه مختصرا، ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة كما تقدم قريبا في ‏"‏ باب من قال لامرأته أنت علي حرام ‏"‏‏:‏ ‏"‏ ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء أفأحل لزوجي الأول‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تحلين لزوجك الأول ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي رواية الزهري عن عروة كما تقدم أيضا في أوائل الطلاق ‏"‏ وإنما معه مثل الهدبة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي في اللباس من طريق أيوب عن عكرمة ‏"‏ أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، قالت عائشة‏:‏ فجاءت وعليها خمار أخضر فشكت إليها - أي إلى عائشة - من زوجها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء يبصرن بعضهن بعضا قالت عائشة ‏"‏ ما رأيت ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها‏.‏

وسمع زوجها فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت‏:‏ والله مالي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه - وأخذت هدبة من ثوبها - فقال‏:‏ كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة تريد رفاعة‏.‏

قال‏:‏ فإن كان ذلك لم تحل له ‏"‏ الحديث‏.‏

وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزهري عن عروة فإن في آخر الحديث كما سيأتي في كتاب اللباس من طريق شعيب عنه ‏"‏ قال فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب فقال‏:‏ يا أبا بكر ألا تنهي هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم‏"‏‏.‏

وفيه ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصديق وهو جالس ‏"‏ ألا تنهي هذه ‏"‏‏؟‏ وإنما قال خالد ذلك لأنه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر لكونه كان جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم مشاهدا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسمه صلى الله عليه وسلم كان تعجبا منها، إما لتصريحها بما يستحي النساء من التصريح به غالبا، وإما لضعف عقل النساء لكون الحامل لها على ذلك شدة بغضها في الزوج الثاني ومحبتها في الرجوع إلى الزوج الأول، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في جميع الطرق من قول خالد بن سعيد لأبي بكر ‏"‏ ألا تنهي هذه عما تجهر به ‏"‏‏؟‏ أي ترفع به صوتها، وذكره الداودي بلفظ ‏"‏ تهجر ‏"‏ بتقديم التاء على الجيم، والهجر بضم الهاء الفحش من القول، والمعنى هنا عليه، لكن الثابت في الروايات ما ذكرته، وذكر عياض أنه وقع كذلك في غير الصحيح‏.‏

وتقدم البحث في الشهادات مع من استدل بكلام خالد هذا لجواز الشهادة على الصوت‏.‏

قوله ‏(‏حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏)‏ كذا في الموضعين بالتصغير، واختلف في توجيهه فقيل‏:‏ هي تصغير العسل لأن العسل مؤنث، جزم به القزاز ثم قال وأحسب التذكير لغة‏.‏

وقال الأزهري يذكر ويؤنث، وقيل لأن العرب إذا حفرت الشيء أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم دريهمات فجمعوا الدرهم جمع المؤنث عند إرادة التحقير‏.‏

وقالوا أيضا في تصغير هند هنيدة‏.‏

وقيل التأنيث باعتبار الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول، وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل الحل، قال الأزهري‏:‏ الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنث تشبيها بقطعة من عسل‏.‏

وقال الداودي‏:‏ صغرت لشدة شبهها بالعسل وقيل‏:‏ معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري‏.‏

وقال جمهور العلماء‏:‏ ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصري‏:‏ حصول الإنزال‏.‏

وهذا الشرط انفرد به عن الجماعة قاله ابن المنذر وآخرون‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ شذ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا‏:‏ يكفي من ذلك ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق ويفسد الحج والصوم‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلا، وهو في التشديد يقابل قول سعيد بن المسيب في الرخصة، ويرد قول الحسن أن الإنزال لو كان شرطا لكان كافيا، وليس كذلك لأن كلا منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلا أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كل منهما قبل تمام الإيلاج لم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فسرت العسيلة بالإمناء ولا بلذة الجماع قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب‏.‏

ثم ساق بسنده الصحيح عنه قال‏:‏ يقول الناس لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول‏:‏ إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها للأول فلا بأس أن يتزوجها الأول‏.‏

وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وفيه تعقب على من استبعد صحته عن سعيد، قال ابن المنذر‏:‏ وهذا القول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن‏.‏

قلت‏:‏ سياق كلامه يشعر بذلك‏.‏

وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك‏.‏

وهو ما أخرجه النسائي من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب ‏"‏ عن ابن عمر رفعه في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى الأول، فقال‏:‏ لا، حتى تذوق العسيلة، وقد أخرجه النسائي أيضا من رواية سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد فقال عن رزين بن سليمان الأحمري عن ابن عمر نحوه، قال النسائي‏:‏ هذا أولى بالصواب، وإنما قال ذلك لأن الثوري أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين‏:‏ أحدهما أن شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن رزين كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثقات‏.‏

ثانيهما أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم، ويؤخذ من كلام ابن المنذر أن نقل أبي جعفر النحاس في ‏"‏ معاني القرآن ‏"‏ وتبعه عبد الوهاب المالكي في ‏"‏ شرح الرسالة ‏"‏ القول بذلك عن سعيد بن جبير وهم، وأعجب منه أن أبا حبان جزم به عن السعيد بن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، ولا يعرف له سند عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات، وكفى قول ابن المنذر حجة في ذلك‏.‏

وحكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق سعيد بن المسيب على ذلك، قال القرطبي‏:‏ ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم، خلافا لمن قال لا بد من حصول جميعه‏.‏

وفي قوله ‏"‏ حتى تذوقي عسيلته إلخ ‏"‏ إشعار بإمكان ذلك، لكن قولها ‏"‏ ليس معه إلا مثل هذه الهدبة ‏"‏ ظاهر في تعذر الجماع المشترط، فأجاب الكرماني بأن مرادها بالهدبة التشبيه بها في الدقة والرقة لا في الرخاوة وعدم الحركة واستبعد ما قال، وسياق الخبر يعطي بأنها شكت منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏حتى تذوقي ‏"‏ لأنه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع، فكأنه قال صبري حتى يتأتى منه ذلك، وإن تفارقا فلا بد لها من إرادة الرجوع إلى رفاعة من زوج آخر يحصل لها منه ذلك‏.‏

واستدل بإطلاق وجود الذوق منهما لاشتراط على الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ولو أنزل هو‏.‏

وبالغ ابن المنذر فنقله عن جميع الفقهاء‏.‏

وتعقب وقال القرطبي‏:‏ فيه حجة لأحد القولين في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل‏.‏

وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب، واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن شرط المالكية ونقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة تحليلها للأول‏.‏

وقال الأكثر‏:‏ إن شرط ذلك في العقد فسد وإلا فلا، واتفقوا على أنه إذا كان في نكاح فاسد لم يحلل، وشذ الحكم فقال يكفي، وأن من تزوج أمة ثم بت طلاقها ثم ملكها لم يحل له أن يطأها حتى تتزوج غيره‏.‏

وقال ابن عباس وبعض أصحابه والحسن البصري‏:‏ تحل له بملك اليمين، واختلفوا فيما إذا وطئها حائضا أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر أو أحدهما صائم أو محرم‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ أخذ الحنفية بالشرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات لأنه زائد على ما في القرآن، فيلزمهم الأخذ به أو ترك حديث الباب، وأجابوا بأن النكاح عندهم حقيقة في الوطء فالحديث موافق لظاهر القرآن، واستدل بقولها ‏"‏ بت طلاقي ‏"‏ على أن البتة ثلاث تطليقات، وهو عجب ممن استدل به فإن البت بمعنى القطع والمراد به قطع العصمة، وهو أعم من أن يكون بالثلاث مجموعة أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، وسيأتي في اللباس صريحا أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات فبطل الاحتجاج به‏.‏

ونقل ابن العربي عن بعضهم أنه أورد على حديث الباب ما ملخصه أنه يلزم من القول به إما الزيادة بخير الواحد على ما في القرآن فيستلزم نسخ القرآن بالسنة التي لم تتواتر، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس‏.‏

والجواب عن الأول أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لم تكن إضافته نسخا ولا زيادة، وعن الثاني أن النكاح في الآية أضيف إليها وهي لا تتولى العقد بمجردها فتعين أن المراد به في حقها الوطء، ومن شرطه اتفاقا أن يكون وطأ مباحا فيحتاج إلى سبق العقد‏.‏

ويمكن أن يقال‏:‏ لما كان اللفظ محتملا للمعنيين بينت السنة أنه لا بد من حصولهما، فاستدل به على أن المرأة لا حق لها في الجماع لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها وأن ذكره لا ينتشر وأنه ليس معه ما يغني عنها ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك، ومن ثم قال إبراهيم بن إسماعيل بن علية وداود بن علي‏:‏ لا يفسخ بالعنة ولا يضرب للعنين أجل‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ إن ترك جماعها لعلة أجل له سنة، وإن كان لغير علة فلا تأجيل‏.‏

وقال عياض، اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقا في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنين أجل سنة لاحتمال زوال‏.‏

ما به‏.‏

وأما استدلال داود ومن يقول بقوله بقصة امرأة رفاعة فلا حجة فيها، لأن في بعض طرقه أن الزوج الثاني كان أيضا طلقها كما وقع عند مسلم صريحا من طريق القاسم عن عائشة قالت ‏"‏ طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل آخر فطلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ لا ‏"‏ الحديث، وأصله عند البخاري وقد تقدم في أوائل الطلاق‏.‏

ووقع في حديث الزهري عن عروة كما سيأتي في اللباس في آخر الحديث بعد قوله‏:‏ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ‏"‏ قال ففارقته بعد ‏"‏ زاد ابن جريج عن الزهري في هذا الحديث أنها ‏"‏ جاءت بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه - يعني زوجها الثاني - مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول ‏"‏ وصرح مقاتل بن حيان في تفسيره مرسلا أنها ‏"‏ قالت‏:‏ يا رسول الله إنه كان مسني، فقال كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر، وأنها أتت أبا بكر ثم عمر فمنعاها ‏"‏ وكذا وقعت هذه الزيادة الأخيرة في رواية ابن جريج المذكورة أخرجها عبد الرزاق عنه، ووقع عند مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن المسور بن رفاعة عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، زاد خارج الموطأ فيما رواه ابن وهب عنه وتابعه إبراهيم بن طهمان عن مالك عند الدار قطني في ‏"‏ الغرائب ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوجها ‏"‏ الحديث‏.‏

ووقع عند أبي داود من طريق الأسود عن عائشة ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت غيره فدخل بها وطلقها قبل أن يواقعها أتحل للأول‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج الطبري وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة نحوه، والطبري أيضا والبيهقي من حديث أنس كذلك، وكذا وقع في رواية حماد ابن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ‏"‏ أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل أن يمسها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته ‏"‏ وأخرجه الطبراني ورواته ثقات، فإن كان حماد بن سلمة حفظه فهو حديث آخر لعائشة في قصة أخرى غير قصة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عبيد الله - بالتصغير - ابن عباس عند النسائي في ذكره الغميصاء، لكن سياقه يشبه قصة رفاعة كما تقدم في أول شرح هذا الحديث، وقد قدمت أنه وقع لكل من رفاعة بن سموأل ورفاعة بن وهب أنه طلق امرأته وأن كلا منهما تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وأن كلا منهما شكت أنه ليس معه إلا مثل الهدبة، فلعل إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها والأخرى بعد أن فارقها، ويحتمل أن تكون القصة واحدة ووقع الوهم من بعض الرواة في التسمية أو في النسبة وتكون المرأة شكت مرتين من قبل المفارقة ومن بعدها، والله أعلم‏.‏

وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس قال ‏"‏ طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرق بيني وبينه، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد‏:‏ طلقها وراجع أم ركانة، ففعل ‏"‏ فليس فيه حجة لمسألة العنين، والله أعلم بالصواب‏.‏

*3*باب وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ

قَالَ مُجَاهِدٌ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لَا يَحِضْنَ وَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنْ الْمَحِيضِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ لأبي ذر وكريمة وثبت للباقين، ووقع عند ابن بطال ‏"‏ كتاب العدة - باب قول الله إلخ ‏"‏ والعدة اسم لمدة تتربض بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها إما بالولادة أو بالإقراء أو الأشهر‏.‏

قوله ‏(‏قال مجاهد‏:‏ إن لم تعلموا يحضن أو لا يحضن‏)‏ ‏.‏

أي فسر قوله تعالى ‏(‏إن ارتبتم‏)‏ أي لم تعلموا، وقوله ‏(‏واللائي قعدن عن الحيض‏)‏ أي حكمهن حكم اللائي يئسن‏.‏

وقوله ‏(‏واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر‏)‏ أي أن حكم اللائي لم يحضن أصلا ورأسا حكمهن في العدة حكم اللائي يئسن، فكان تقدير الآية واللائي لم يحضن كذلك، لأنها وقعت بعد قوله ‏(‏فعدتهن ثلاثة أشهر‏)‏ ‏.‏

وأثر مجاهد هذا وصله الفريابي، تقدم بيانه في تفسير سورة الطلاق‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق يونس عن الزهري قال‏:‏ الارتياب والله أعلم في المرأة التي تشك في قعودها عن الولد وفي حيضها أتحيض أو لا، وتشك في انقطاع حيضها بعد أن كانت تحيض وتشك في صغرها هل بلغت المحيض أم لا‏؟‏ وتشك في حملها أبلغت أن تحمل أو لا‏؟‏ فما ارتبتم فيه من ذلك فالعدة فيه ثلاثة أشهر، وهذا الذي جزم به الزهري مختلف فيه فمن انقطع حيضها بعد أن كانت تحيض، فذهب أكثر فقهاء الأمصار إلى أنها تنتظر الحيض إلى أن تدخل في السن الذي لا يحيض فيه مثلها فتعتد حينئذ تسعة أشهر‏.‏

وعن مالك والأوزاعي تربص تسعة أشهر، فإن حاضت وإلا اعتدت ثلاثة‏.‏

وعن الأوزاعي إن كانت شابة فسنة، وحجة الشافعي والجمهور ظاهر القرآن، فإنه صريح في الحكم للآيسة والصغيرة، وأما التي تحيض ويتأخر حيضها فليست آيسة، لكن لمالك في قوله سلف وهو عمر، فقد صح عنه ذلك‏.‏

وذهب الجمهور إلى أن المعنى في قوله ‏(‏إن ارتبتم‏)‏ أي في الحكم لا في اليأس‏.‏