فصل: باب وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏)‏ استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل، وكأنه أشار إلى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله، وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع‏.‏

وأصل التوكل الوكول، يقال وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا استكفاه أمره ثقة بكفايته‏.‏

والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية ‏(‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏)‏ وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل‏.‏

وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال‏:‏ هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي ‏"‏ وقال ‏"‏ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ‏"‏ فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال‏:‏ وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم‏.‏

انتهى‏.‏

والحديث الأول سبق الكلام عليه في الجهاد، والثاني أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه‏.‏

قوله ‏(‏وقال الربيع بن خثيم‏)‏ بمعجمة ومثلثة مصغر‏.‏

قوله ‏(‏من كان ما ضاق على الناس‏)‏ وصله الطبراني وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن منذر الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى ‏(‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏)‏ الآية قال‏:‏ من كل شيء ضاق على الناس‏.‏

والربيع المذكور من كبار التابعين، صحب ابن مسعود، وكان يقول له‏:‏ لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك‏.‏

أورد ذلك أحمد في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند جيد، وحديثه مخرج في الصحيحين وغيرهما، والربيع بن منذر لم يخرجوا عنه، لكن ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه متفق على توثيقه والتخريج عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ هو ابن منصور كما أوضحته في المقدمة، وغلط من قال إنه ابن إبراهيم وسيأتي شرح الحديث مستوفي في ‏"‏ باب يدخل الجنة سبعون ألفا ‏"‏ بعد ثمانية وعشرين بابا إن شاء الله تعالى

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من قيل وقال‏)‏ ذكر فيه حديث المغيرة بن شعبة في ذلك، قال أبو عبيد‏:‏ جعل القال مصدرا كأنه قال نهى عن قيل وقول تقول قلت قولا وقيلا وقالا، والمراد أنه نهى عن الإكثار بما لا فائدة فيه من الكلام، وهذا على أن الرواية فيه بالتنوين‏.‏

وقال غيره اسمان يقال كثير القيل والقال، وفي حرف ابن مسعود ‏"‏ ذلك عيسى بن مريم قال الحق ‏"‏ بضم اللام‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الأشهر منه فتح اللام فيهما على سبيل الحكاية وهو الذي يقتضيه المعنى، لأن القيل والقال إذا كانا اسمين كانا بمعنى واحد كالقول فلا يكون في عطف أحدهما على الآخر كبير فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ إذا كانا اسمين يكون الثاني تأكيدا‏.‏

والحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ، قلت‏:‏ وفي الترجمة إشارة إلى أن جميع ذلك لا يكره لأن من عمومه ما يكون في الخبر المحض فلا يكره والله أعلم‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن المراد حكاية أقاويل الناس والبحث عنها كما يقال قال فلان كذا وقيل عنه كذا مما يكره حكايته عنه، وقيل هو أن يذكر للحادثة عن العلماء أقوالا كثيرة ثم يعمل بأحدها بغير مرجح أو يطلقها من غير تثبت ولا احتياط لبيان الراجح، والنهي عن كثرة السؤال يتناول الإلحاف في الطلب والسؤال عما لا يعني السائل‏.‏

وقيل المراد بالنهي المسائل التي نزل فيها ‏(‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏)‏ وقيل يتناول الإكثار من تفريع المسائل، ونقل عن مالك أنه قال‏:‏ والله إني لأخشى أن يكون هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل‏.‏

ومن ثم كره جماعة من السلف السؤال عما لم يقع لما يتضمن من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة‏.‏

وقد تقدم كثير من هذه المباحث عند شرح الحديث في كتاب الصلاة، وأن المراد بالنهي عن كثرة السؤال في المال‏.‏

ورجحه بعضهم لمناسبته لقوله ‏"‏ وإضاعة المال ‏"‏ وتقدم شيء من هذا في كتاب الزكاة‏.‏

وأما من فسره بكثرة سؤال الناس عن أحوالهم وما في أيديهم أو عن أحداث الزمان وما لا يعني السائل فإنه بعيد، لأنه داخل في قوله ‏"‏ نهى عن قيل وقال ‏"‏ والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ وَفُلَانٌ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ وَعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَعَنْ هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا علي بن مسلم‏)‏ كذا للأكثر ووقع للكشميهني وحده ‏"‏ وقال علي بن مسلم ‏"‏ جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ بما عليه الجمهور‏.‏

قوله ‏(‏أنبأنا غير واحد منهم مغيرة‏)‏ هو ابن مقسم الضبي وفلان ورجل ثالث، المراد بفلان مجالد بن سعيد فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن زياد بن أيوب ويعقوب بن إبراهيم الدورقي قالا ‏"‏ حدثنا هشيم أنبأنا غير واحد منهم مغيرة ومجالد ‏"‏ وكذا أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق أبي خثيمة عن هشيم، وكذا أخرجه أحمد عن هشيم، وأخرجه النسائي عن يعقوب الدورقي لكن قال في روايته ‏"‏ عن غير واحد منهم مغيرة ‏"‏ ولم يسم مجالدا‏.‏

وأخرجه أيضا عن الحسن بن إسماعيل عن هشيم أنبأنا مغيرة وذكر آخر ولم يسمه وكأنه مجالد، وأخرجه أبو يعلى عن زكريا بن يحيى عن هشيم عن مغيرة عن الشعبي ولم يذكر مع مغيرة أحدا وأما الرجل الثالث فيحتمل أنه داود بن أبي هند، فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي بكير الكرماني عن هشيم قال أنبأنا داود بن أبي هند وغيره عن الشعبي به، ويحتمل أن يكون زكريا بن أبي زائدة أو إسماعيل بن أبي خالد فقد أخرجه الطبراني من طريق الحسن بن علي بن راشد الواسطي عن هشيم عن مغيرة وزكريا بن أبي زائدة ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الشعبي، والحسن المذكور ثقة من شيوخ أبي داود تكلم فيه عبدان بما لا يقدح فيه‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ لم أر حديثا منكرا‏.‏

قوله ‏(‏فكتب إليه المغيرة‏)‏ ظاهره أن المغيرة باشر الكتابة، وليس كذلك، فقد أخرجه ابن حبان من طريق عاصم الأحول عن الشعبي ‏"‏ إن معاوية كتب إلى المغيرة اكتب إلي بحديث سمعته، فدعا غلامه ورادا فقال‏:‏ اكتب ‏"‏ فذكره‏.‏

وقوله لا إله إلا الله - إلى قوله - وهو على كل شيء قدير زاد في نسخة الصغاني هنا ‏"‏ ثلاث مرات ‏"‏ وأخرجه الطبراني من طريق عبد الملك بن عمير عن وراد ‏"‏ كتب معاوية إلى المغيرة‏:‏ اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فكتبت إليه بخطي ‏"‏ ولم أقف على تسمية من كتب لمعاوية صريحا إلا أن المغيرة كان معاوية أمره على الكوفة في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة خمسين أو في التي بعدها وكان كاتب معاوية إذ ذاك عبيد بن أوس الغساني‏.‏

وفي الحديث حجة على من لم يعمل في الرواية بالمكاتبة، واعتل بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلغ الكتاب كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب وأن يبلغ ما فيه مشافهة، وتعقب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده فتكون الرواية عن مجهول ولو فرض أنه ثقة عند من أرسله ومن أرسل إليه، فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام والمرجح عدم الاعتداد به‏.‏

قوله ‏(‏وعن هشيم أنبأنا عبد الملك بن عمير‏)‏ هو موصول بالطريق التي قبله، وقد وصله الإسماعيلي من رواية يعقوب الدورقي وزياد بن أيوب قالا ‏"‏ حدثنا هشيم عن عبد الملك به‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا أطلق، وظاهره أن الرواية كالتي قبلها، وهو كذلك عند الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي الربيع الزهراني عن هشيم فقال في سياقه ‏"‏ كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكره

*3*باب حِفْظِ اللِّسَانِ

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب حفظ اللسان‏)‏ أي عن النطق بما لا يسوغ شرعا مما لا حاجة للمتكلم به‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الثواب ‏"‏ والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث أبي جحيفة رفعه ‏"‏ أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ومن كان يؤمن بالله إلخ‏)‏ وقع عند أبي ذر ‏"‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بالله إلخ ‏"‏ وقد أورده موصولا في الباب بلفظه‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏)‏ كذا لأبي ذر، وللأكثر ‏"‏ وقوله ما يلفظ إلخ ‏"‏ ولابن بطال ‏"‏ وقد أنزل الله تعالى ما يلفظ الآية ‏"‏ وقد تقدم ما يتعلق بتفسيرها في تفسير سورة ق‏.‏

وقال ابن بطال جاء عن الحسن أنهما يكتبان كل شيء، وعن عكرمة يكتبان الخير والشر فقط، ويقوى الأول تفسير أبي صالح في قوله تعالى ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏)‏ قال‏:‏ تكتب الملائكة كل ما يتلفظ به الإنسان ثم يثبت الله من ذلك ما له وما عليه ويمحو ما عدا ذلك‏.‏

قلت‏:‏ هذا لو ثبت كان نصا في ذلك، ولكنه من رواية الكلبي وهو ضعيف جدا، والرقيب هو الحافظ والعتيد هو الحاضر وورد في فضل الصمت عدة أحاديث منها حديث سفيان بن عبد الله الثقفي ‏"‏ قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي‏؟‏ قال‏:‏ هذا، وأخذ بلسانه ‏"‏ أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وتقدم في الإيمان حديث ‏"‏ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء ‏"‏ وكف لسانك إلا من خير ‏"‏ وعن عقبة بن عامر ‏"‏ قلت يا رسول الله ما النجاة‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك لسانك ‏"‏ الحديث أخرجه الترمذي وحسنه، وفي حديث معاذ مرفوعا ‏"‏ ألا أخبرك بملاك الأمر كله، كف هذا، وأشار إلى لسانه‏.‏

قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ قال‏:‏ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه كلهم من طريق أبي وائل عن معاذ مطولا، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن معاذ، وزاد الطبراني في رواية مختصرة ‏"‏ ثم إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك ‏"‏ وفي حديث أبي ذر مرفوعا ‏"‏ عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان ‏"‏ أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححاه، وعن ابن عمر رفعه ‏"‏ من صمت نجا ‏"‏ أخرجه الترمذي ورواته ثقات، وعن أبي هريرة رفعه ‏"‏ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ‏"‏ أخرجه الترمذي وحسنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني‏)‏ كذا لأبي ذر وللباقين ‏"‏ حدثنا ‏"‏ وكذا للجميع في هذا السند بعينه في المحاربين، وعمر بن علي المقدمي بفتح القاف وتشديد الدال هو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وقد تقدم أن عمر مدلس لكنه صرح هنا بالسماع‏.‏

قوله ‏(‏عن سهل بن سعد‏)‏ هو الساعدي‏.‏

قوله ‏(‏من يضمن‏)‏ بفتح أوله وسكون الضاد المعجمة والجزم من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام، وسيأتي في المحاربين عن خليفة بن خياط عن عمر بن علي بلفظ ‏"‏ من توكل ‏"‏ وأخرجه الترمذي عن محمد بن عبد الأعلى عن عمر بن علي بلفظ ‏"‏ من تكفل ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان قال ‏"‏ حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي وعمر ابن علي هو الفلاس وغيرهما قالوا‏:‏ حدثنا عمر بن علي ‏"‏ بلفظ ‏"‏ من حفظ ‏"‏ عند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي موسى بسند حسن، وعند الطبراني من حديث أبي رافع بسند جيد لكن قال ‏"‏ فقميه ‏"‏ بدل ‏"‏ لحييه ‏"‏ وهو بمعناه، والفقم بفتح الفاء وسكون القاف‏.‏

قوله ‏(‏لحييه‏)‏ بفتح اللام وسكون المهملة والتثنية هما العظمان في جانبي الفم والمراد بما بينهما اللسان وما يتأتى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج‏.‏

وقال الداودي المراد بما بين اللحيين الفم، قال‏:‏ فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل، قال‏:‏ ومن تحفظ من ذلك أمن من الشر كله لأنه لم يبق إلا السمع والبصر، كذا قال وخفي عليه أنه بقي البطش باليدين، وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر‏.‏

قوله ‏(‏أضمن له‏)‏ بالجزم جواب الشرط‏.‏

وفي رواية خليفة ‏"‏ توكلت له بالجنة ‏"‏ ووقع في رواية الحسن ‏"‏ تكفلت له ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث سهل بن سعد حسن صحيح، وأشار إلى أن أبا حازم تفرد به عن سهل فأخرجه من طريق محمد بن عجلان عن أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة ‏"‏ وحسنه، ونبه على أن أبا حازم الراوي عن سهل غير أبي حازم الراوي عن أبي هريرة‏.‏

قلت‏:‏ وهما مدنيان تابعيان، لكن الراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان وهو أكبر من الراوي عن سهل واسمه سلمة؛ ولهذا اللفظ شاهد من مرسل عطاء بن يسار في الموطأ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة تقدم شرحه في أوائل كتاب الأدب، وفيه الحث على إكرام الضيف ومنع أذى الجار، وفيه ‏"‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ قِيلَ مَا جَائِزَتُهُ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ

الشرح‏:‏

حديث أبي شريح، وقد تقدم شرحه أيضا هناك، وفيه ‏"‏ فليقل خيرا أو ليسكت ‏"‏ وفيه إكرام الضيف أيضا، وتوقيت الضيافة بثلاثة أيام، وقوله ‏"‏الضيافة ثلاثة أيام جائزته، قيل وما جائزته‏؟‏ قال‏:‏ يوم وليلة ‏"‏ وقد تقدم في الأدب بلفظ ‏"‏ فليكرم ضيفه جائزته، قال‏:‏ وما جائزته‏؟‏ قال‏:‏ يوم وليلة ‏"‏ وعلى ما هنا فالمعنى أعطوه جائزته، فإن الرواية بالنصب، وإن جاءت بالرفع فالمعنى تتوجه عليكم جائزته، وقد تقدم بيان الاختلاف في توجيهه، ووقع قوله ‏"‏ يوم وليلة ‏"‏ خبرا عن الجائزة وفيه حذف تقديره زمان جائزته أو تضييف يوم وليلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة أورده من طريقين‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره ‏"‏ حدثني ‏"‏ بالإفراد في الموضعين‏.‏

قوله ‏(‏ابن أبي حازم‏)‏ هو عبد العزيز بن دينار، ووقع عند أبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه ‏"‏ أن عبد العزيز بن أبي حازم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي حدثاه عن يزد ‏"‏ فيحتمل أن يكون إبراهيم لما حدث به البخاري اقتصر على ابن أبي حازم، ويحتمل أن يكون حدث عنهما فحذف البخاري ذكر عبد العزيز الدراوردي، وعلى الأول لا إشكال، وعلى الثاني يتوقف الجواز على أن اللفظ للاثنين سواء وإن المذكور ليس هو لفظ المحذوف، أو أن المعنى عليهما متحد تفريعا على جواز الرواية بالمعنى، ويؤيد الاحتمال الأول أن البخاري أخرج بهذا الإسناد بعينه إلى محمد بن إبراهيم حديثا جمع فيه بين ابن أبي حازم والدراوردي وهو في ‏"‏ باب فضل الصلاة ‏"‏ في أوائل كتاب الصلاة‏.‏

قوله ‏(‏عن يزيد‏)‏ هو ابن عبد الله المعروف بابن الهاد، ووقع منسوبا في رواية إسماعيل المذكورة، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وعيسى بن طلحة هو ابن عبيد الله التيمي، وثبت كذلك في رواية أبي ذر، وطلحة هو أحد العشرة‏.‏

قوله ‏(‏إن العبد ليتكلم‏)‏ كذا للأكثر، ولأبي ذر ‏"‏ يتكلم ‏"‏ بحذف اللام‏.‏

قوله ‏(‏بالكلمة‏)‏ أي الكلام المشتمل على ما يفهم الخير أو الشر سواء طال أم قصر، كما يقال كلمة الشهادة، وكما يقال للقصيدة كلمة فلان‏.‏

قوله ‏(‏ما يتبين فيها‏)‏ أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول‏.‏

وقال بعض الشراح‏:‏ المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة، وهذا يلزم منه أن يكون بين وتبين بمعنى واحد‏.‏

ووقع في رواية الدراوردي عن يزيد بن الهاد عند مسلم ‏"‏ ما يتبين ما فيها ‏"‏ وهذه أوضح، و ‏"‏ ما ‏"‏ الأولى نافية و ‏"‏ ما ‏"‏ الثانية موصولة أو موصوفة ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ ما يتقي بها ‏"‏ ومعناها يؤول لما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏يزل بها‏)‏ بفتح أوله وكسر الزاي بعدها لام أي يسقط‏.‏

قوله ‏(‏أبعد ما بين المشرق‏)‏ كذا في جميع النسخ التي وقعت لنا في البخاري، وكذا في رواية إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه عند أبي نعيم، وأخرجه مسلم والإسماعيلي من رواية بكر بن مضر عن يزيد بن الهاد بلفظ ‏"‏ أبعد ما بين المشرق والمغرب ‏"‏ وكذا وقع عند ابن بطال وشرحه الكرماني على ما وقع عند البخاري فقال‏:‏ قوله ‏"‏ ما بين المشرق ‏"‏ لفظ بين يقتضي دخوله على المتعدد والمشرق متعدد معنى إذ مشرق الصيف غير مشرق الشتاء وبينهما بعد كبير، ويحتمل أن يكون اكتفى بأحد المتقابلين عن الآخر مثل ‏(‏سرابيل تقيكم الحر‏)‏ قال‏:‏ وقد ثبت في بعضها بلفظ ‏"‏ بين المشرق والمغرب ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال‏:‏ بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما‏.‏

وقال غيره في الأولى‏:‏ هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله، قال ابن التين‏:‏ هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يأتي منه ذلك‏.‏

ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك‏.‏

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام‏:‏ هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال‏:‏ فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب‏.‏

وقال النووي‏:‏ في هذا الحديث حث على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك‏.‏

قلت‏:‏ وهو صريح الحديث الثاني والثالث‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية أبي ذر تأخير طريق عيسى بن طلحة عن الطريق الأخرى، ولغيره بالعكس، وسقط طريق عيسى بن طلحة عند النسفي أصلا‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْني ابْنَ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ

الشرح‏:‏

قوله في الطريق الثانية ‏(‏سمع أبا النضر‏)‏ هو هاشم بن القاسم، والتقدير أنه سمع، ويحذف لفظ أنه في الكتابة غالبا‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي صالح‏)‏ هو ذكوان، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

قوله ‏(‏لا يلقي لها بالا‏)‏ بالقاف في جميع الروايات أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئا، وهو من نحو قوله تعالى ‏(‏وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم‏)‏ وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ ‏"‏ إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة ‏"‏ وقال في السخط مثل ذلك‏.‏

قوله ‏(‏يرفع الله بها درجات‏)‏ كذا في رواية المستملي والسرخسي، وللنسفي والأكثر ‏"‏ يرفع الله له بها درجات ‏"‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ يرفعه الله بها درجات‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يهوى‏)‏ بفتح أوله وسكون الهاء وكسر الواو، قال عياض‏:‏ المعنى ينزل فيها ساقطا‏.‏

وقد جاء بلفظ ‏"‏ ينزل بها في النار ‏"‏ لأن درجات النار إلى أسفل، فهو نزول سقوط‏.‏

وقيل أهوى من قريب وهوى من بعيد‏.‏

وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق قال ‏"‏ حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ‏"‏ بلفظ ‏"‏ لا يرى بها بأسا يهوى بها في النار سبعين خريفا‏"‏

*3*باب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب البكاء من خشية الله عز وجل‏)‏ ذكر فيه طرفا من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ولفظه ‏"‏ رجل ذكر الله ففاضت عيناه ‏"‏ كذا اقتصر عليه، وتقدم بتمامه في أبواب المساجد مع شرحه وفيه ‏"‏ ذكر الله خاليا ‏"‏ وورد هنا بدونها، وثبتت في رواية ابن خزيمة عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه الإسماعيلي عنه مختصرا كما هنا، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بمعجمة وموحدتين مصغر، ووقع هنا ‏"‏ في ظله ‏"‏ وبينت هناك من رواه بلفظ ‏"‏ في ظل عرشه ‏"‏ وظل كل شيء بحسبه ويطلق أيضا بمعنى النعيم ومنه ‏(‏أكلها دائم وظلها‏)‏ وبمعنى الجانب ومنه ‏"‏ يسير الراكب في ظلها مائة عام ‏"‏ وبمعنى الستر والكنف والخاصة ومنه‏:‏ أنا في ظلك، وبمعنى العز ومنه‏:‏ أسبغ الله ظلك‏.‏

وقد ورد في البكاء من خشية الله على وفق لفظ الترجمة حديث أبي ريحانة رفعه ‏"‏ حرمت النار على عين بكت من خشية الله ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، والترمذي نحوه عن ابن عباس ولفظه ‏"‏ لا تمسها النار ‏"‏ وقال حسن غريب، وعن أنس نحوه عن أبي يعلى، وعن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يلج النار رجل بكى من خشية الله ‏"‏ الحديث وصححه الترمذي والحاكم

*3*باب الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الخوف من الله عز وجل‏)‏ هو من المقامات العلية، وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى ‏{‏وخافون إن كنتم مؤمنين‏}‏ وقال تعالى ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ وقال تعالى ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ وتقدم حديث ‏"‏ أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ‏"‏ وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ والأنبياء بقوله ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله‏}‏ وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة، ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيما فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى ‏{‏يحول بين المرء وقلبه‏}‏ أو نقصان الدرجة بالنسبة، وإن كان مائلا فخوفه من سوء فعله‏.‏

وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له‏.‏

ويدخل في هذا الباب الحديث الذي قبله، وفيه أيضا ‏"‏ ورجل دعته امرأة ذات جمال ومال فقال إني أخاف الله‏"‏، وحديث الثلاثة أصحاب الغار فإن أحدهم الذي عف عن المرأة خوفا من الله وترك لها المال الذي أعطاها، وقد تقدم بيانه في ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء‏.‏

وأخرج الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة قصة الكفل وكان من بني إسرائيل، وفيه أيضا أنه عف عن المرأة وترك المال الذي أعطاها خوفا من الله ثم ذكر قصة الذي أوصى بأن يحرق بعد موته من حديث حذيفة وأبي سعيد، وقد تقدم شرحه في ذكر بني إسرائيل أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا بِهِ فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ قَالَ مَا حَمَلَنِي إِلَّا مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر‏.‏

وربعي هو ابن حراش بالحاء المهملة وآخره شين معجمة، والسند كله كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ تقدم في ذكر بني إسرائيل تصريح حذيفة بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في صحيح أبي عوانة من طريق والان العبدي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذكر هذه القصة بعد ذكر حديث الشفاعة بطوله، وذكر فيه أن الرجل المذكور آخر أهل النار خروجا منها، وسيأتي التنبيه عليه في الشفاعة إن شاء الله تعالى، ويتبين شذوذ هذه الرواية من حيث المتن كما ظهر شذوذها من حيث السند‏.‏

قوله ‏(‏كان رجل ممن كان قبلكم‏)‏ تقدم أنه من بني إسرائيل، ومن ثم أورده المصنف هناك‏.‏

قوله ‏(‏يسيء الظن بعمله‏)‏ تقدم هناك أنه كان نباشا‏.‏

قوله ‏(‏فذروني‏)‏ قدمت هناك فيه ثلاث روايات بالتخفيف بمعنى الترك والتشديد بمعنى التفريق، وهو ثلاثي مضاعف تقول ذررت الملح أذره ومنه الذريرة نوع من الطيب‏.‏

قال ابن التين‏:‏ ويحتمل أن يكون بفتح أوله، وكذا قرأناه ورويناه بضمها وعلى الأول هو من الذر وعلى الثاني من التذرية وبهمزة قطع وسكون المعجمة من أذرت العين دمعها وأذريت الرجل عن الفرس وبالوصل من ذروت الشيء ومنه تذروه الرياح‏.‏

قوله ‏(‏في البحر‏)‏ سيأتي نظيره في حديث سلمان وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ في الريح ‏"‏ ووقع في حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد ‏"‏ وأذروا نصفه في البر ونصفه في البحر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏في يوم صائف‏)‏ تقدم في رواية عبد الملك بن عمير عن ربعي بلفظ ‏"‏ فذروني في اليم في يوم حاز ‏"‏ بحاء مهملة وزاي ثقيلة كذا للمروزي والأصيلي، ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي وكريمة عن الكشميهني بالراء المهملة وهو المناسب لرواية الباب، ووجهت الأولى بأن المعنى أنه يحز البدن لشدة حره، ووقع في حديث أبي سعيد الذي بعده ‏"‏ حتى إذا كان ريح عاصف ‏"‏ وذكر بعضهم رواية المروزي بنون بدل الزاي أي حان ريحه، قال ابن فارس‏:‏ الحون ريح تحن كحنين الإبل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ أَوْ قَبْلَكُمْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا يَعْنِي أَعْطَاهُ قَالَ فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ لَمْ يَدَّخِرْ وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ فَاسْهَكُونِي ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَأَذْرُونِي فِيهَا فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي فَفَعَلُوا فَقَالَ اللَّهُ كُنْ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ قَالَ مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ فَحَدَّثْتُ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ سَمِعْتُ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فَأَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ أَوْ كَمَا حَدَّثَ وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله في الحديث ‏(‏عن أبي سعيد‏)‏ يقدم القول في تابعيه، وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي، ومعتمر هو ابن سليمان التيمي، والسند كله بصريون‏.‏

قوله ‏(‏فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم‏)‏ شك من الراوي عن قتادة، وتقدم في رواية أبي عوانة عن قتادة بلفظ ‏"‏ أن رجلا كان قبلكم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏آتاه الله مالا وولدا‏)‏ يعني أعطاه كذا للأكثر وهو تفسير للفظ آتاه، وهي بالمد بمعنى العطاء وبالقصر بمعنى المجيء، ووقع في رواية الكشميهني هنا ‏"‏ مالا ‏"‏ ولا معنى لإعادتها بمفردها‏.‏

قوله ‏(‏فإنه لم يبتئر عند الله خيرا فسرها قتادة لم يدخر‏)‏ كذا وقع هنا يبتئر بفتح أوله وسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها تحتانية مهموزة ثم راء مهملة، وتفسير قتادة صحيح وأصله من البئيرة بمعنى الذخيرة والخبيئة، قال أهل اللغة‏:‏ بأرت الشيء وابتأرته أبأره وأبتئره إذا خبأته، ووقع في رواية ابن السكن ‏"‏ لم يأبتر ‏"‏ بتقديم الهمزة على الموحدة حكاه عياض، وما صحيحان بمعنى والأول أشهر، ومعناه لم يقدم خيرا كما جاء مفسرا في الحديث، يقال بأرت الشيء وابتأرته وائبترته إذا ادخرته، ومنه قيل للحفرة البئر ووقع في التوحيد وفي رواية أبي زيد المروزي فيما اقتصر عليه عياض وقد ثبت عندنا كذلك في رواية أبي ذر ‏"‏ لم يبتئر أو لم يبتئز ‏"‏ بالشك في الزاي أو الراء‏.‏

وفي رواية الجرجاني بنون بدل الموحدة والزاي قال‏:‏ وكلاهما غير صحيح وفي بعض الروايات في غير البخاري ينتهز بالهاء بدل الهمزة وبالزاي، ويمتئر بالميم بدل الموحدة وبالراء أيضا قال وكلاهما صحيح أيضا كالأولين‏.‏

قوله ‏(‏وإن يقدم على الله يعذبه‏)‏ كذا هنا بفتح الدال وسكون القاف من القدوم وهو بالجزم على الشرطية، وكذا يعذبه بالجزم على الجزاء، والمعنى إن بعث يوم القيامة على هيئته يعرفه كل أحد فإذا صار رمادا مبثوثا في الماء والريح لعله يخفى، ووقع في حديث حذيفة عند الإسماعيلي من رواية أبي خيثمة عن جرير بسند حديث الباب ‏"‏ فإنه إن يقدر على ربي لا يغفر لي ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة ‏"‏ لئن قدر الله علي ‏"‏ وتقدم توجيهه مستوفى في ذكر بني إسرائيل‏.‏

ومن اللطائف أن من جملة الأجوبة عن ذلك ما ذكره شيخنا ابن الملقن في شرحه أن الرجل قال ذلك لما غلبه من الخوف وغطى على فهمه من الجزع فيعذر في ذلك، وهو نظير الخبر المروي في قصة الذي يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال‏:‏ إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها فيقول للفرح الذي دخله‏:‏ أنت عبدي وأنا ربك‏.‏

أخطأ من شدة الفرح‏.‏

قلت وتمام هذا أن أبا عوانة أخرج في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق أن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل الجنة دخولا الجنة، فعلى هذا يكون وقع له من الخطأ بعد دخول الجنة نظير ما وقع له من الخطأ عند حضور الموت، لكن أحدهما من غلبة الخوف والآخر من غلبة الفرح‏.‏

قلت‏:‏ والمحفوظ أن الذي قال أنت عبدي هو الذي وجد راحلته بعد أن ضلت، وقد نبهت عليه فيما مضى‏.‏

قوله ‏(‏فأحرقوني‏)‏ في حديث حذيفة هناك ‏"‏ فاجمعوا لي حطبا كثيرا ثم أوروا نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فاسحقوني، أو قال فاسهكوني‏)‏ هو شك من الراوي ووقع في رواية أبي عوانة، ‏"‏ اسحقوني ‏"‏ بغير شك، والسهك بمعنى السحق ويقال هو دونه؛ ووقع في حديث حذيفة عند الإسماعيلي ‏"‏ أحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم إذا كان‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ حتى إذ كان‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي‏)‏ هو من القسم المحذوف جوابه، ويحتمل أن يكون حكاية الميثاق الذي أخذه، أي قال لمن أوصاه قل وربي لأفعلن ذلك، ويؤيده أن عند مسلم ‏"‏ فأخذ منهم يمينا ‏"‏ لكن يؤيد الأول أنه وقع في رواية مسلم أيضا ‏"‏ ففعلوا به ذلك وربي ‏"‏ فتعين أنه قسم من المخبر، وزعم بعضهم أن الذي في البخاري هو الصواب، ولا يخفى أن الذي عند مسلم لعله أصوب، ووقع في بعض النسخ من مسلم ‏"‏ وذري ‏"‏ بضم المعجمة وتشديد الراء المكسورة بدل ‏"‏ وربي ‏"‏ أي فعلوا ما أمرهم به من التذرية، قال عياض‏:‏ إن كانت محفوظة فهي الوجه، ولعل الذال سقطت لبعض النساخ ثم صحفت اللفظة، كذا قال‏.‏

ولا يخفى أن الأول أوجه لأنه يلزم من تصويب هذه الرواية تخطئة الحفاظ بغير دليل، ولأن غايتها أن تكون تفسيرا أو تأكيدا لقوله ‏"‏ ففعلوا به ذلك ‏"‏ بخلاف قوله ‏"‏ وربي ‏"‏ فإنها تزيد معنى آخر غير قوله ‏"‏ وذري ‏"‏ وأبعد الكرماني فجوز أن يكون قوله في رواية البخاري ‏"‏ وربي ‏"‏ بصيغة الماضي من التربية أي ربي أخذ المواثيق بالتأكيدات والمبالغات، قال لكنه موقوف على الرواية‏.‏

قوله ‏(‏فقال الله كن‏)‏ في رواية أبي عوانة وكذا في حديث حذيفة الذي قبله ‏"‏ فجمعه الله ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإذا رجل قائم‏)‏ قال ابن مالك جاز وقوع المبتدأ نكرة محضة بعد إذا المفاجأة لأنها من القرائن التي تحصل بها الفائدة كقولك‏:‏ خرجت فإذا سبع‏.‏

قوله ‏(‏مخافتك، أو فرق منك‏)‏ بفتح الفاء والراء وهو شك من الراوي‏.‏

وفي رواية أبي عوانة ‏"‏ مخافتك ‏"‏ بغير شك، وتقدم بلفظ ‏"‏ خشيتك ‏"‏ في حديث حذيفة‏.‏

وبيان الاختلاف فيه فيما مضى وهو بالرفع، ووقع في حديث حذيفة ‏"‏ من خشيتك ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ خشيتك ‏"‏ بغير من وهي بفتح التاء، وجوزوا الكسر على تقدير حذفها وإبقاء عملها‏.‏

قوله ‏(‏فما تلافاه أن رحمه‏)‏ أي تداركه و ‏"‏ ما ‏"‏ موصولة أي الذي تلافاه هو الرحمة، أو نافية وصيغة الاستثناء محذوفة، أو الضمير في تلافاه لعمل الرجل، وقد تقدم بيان الاختلاف في هذه اللفظة هناك، وفي حديث حذيفة ‏"‏ فغفر له ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة، قالت المعتزلة‏:‏ غفر له لأنه تاب عند موته وندم على فعله‏.‏

وقالت المرجئة‏:‏ غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية، وتعقب الأول بأنه لم يرد أنه رد المظلمة فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظالم، وقد ثبت أنه كان نباشا‏.‏

وتعقب الثاني بأنه وقع في حديث أبي بكر الصديق المشار إليه أولا أنه عذب، فعلى هذا فتحمل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار، وبهذا يرد على الطائفتين معا‏:‏ على المرجئة في أصل دخول النار وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها‏.‏

وفيه أيضا رد على من زعم من المعتزلة أنه بذلك الكلام تاب فوجب على الله قبول توبته، قال ابن أبي جمرة‏:‏ كان الرجل مؤمنا لأنه قد أيقن بالحساب وأن السيئات يعاقب عليها‏.‏

وأما ما أوصى به فلعله كان جائزا في شرعهم ذلك لتصحيح التوبة، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم لصحة التوبة‏.‏

قال‏:‏ وفي الحديث جواز تسمية الشيء بما قرب منه، لأنه قال حضره الموت وإنما الذي حضره في تلك الحالة علاماته، وفيه فضل الأمة المحمدية لما خفف عنهم من وضع مثل هذه الآصار، ومن عليهم بالحنيفية السمحة، وفيه عظم قدرة الله تعالى أن جمع جسد المذكور بعد أن تفرق ذلك التفريق الشديد‏.‏

قلت وقد تقدم أن ذلك إخبار عما يكون يوم القيامة، وتقرير ذلك مستوفى‏.‏

قوله ‏(‏قال فحدثت أبا عثمان‏)‏ القائل هو سليمان التيمي والد معتمر وأبو عثمان هو النهدي عبد الرحمن بن مل، وقوله ‏"‏سمعت سلمان غير أنه زاد ‏"‏ حذف المسموع الذي استثنى منه ما ذكر، والتقدير سمعت سلمان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث غير أنه زاد‏.‏

قوله ‏(‏أو كما حدث‏)‏ شك من الراوي يشير إلى أنه بمعنى حديث أبي سعيد لا بلفظه كله، وقد أخرج الإسماعيلي حديث سلمان من طريق صالح بن حاتم بن وردان وحميد بن مسعدة قالا ‏"‏ حدثنا معتمر سمعت أبي سمعت أبا عثمان سمعت هذا من سلمان ‏"‏ فذكره‏.‏

قوله ‏(‏وقال معاذ إلخ‏)‏ وصله مسلم، وقد مضى التنبيه عليه أيضا هناك‏.‏

*3*باب الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الانتهاء عن المعاصي‏)‏ أي تركها أصلا ورأسا والإعراض عنها بعد الوقوع فيها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَا النَّجَاءَ فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بريد‏)‏ بموحدة وراء مهملة مصغر‏.‏

قوله ‏(‏مثلي‏)‏ بفتح الميم والمثلثة، والمثل الصفة العجيبة الشأن يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم‏.‏

قوله ‏(‏ما بعثني الله‏)‏ العائد محذوف والتقدير بعثني الله به إليكم‏.‏

قوله ‏(‏أتى قوما‏)‏ التنكير فيه للشيوع‏.‏

قوله ‏(‏رأيت الجيش‏)‏ بالجيم والشين المعجمة واللام فيه للعهد‏.‏

قوله ‏(‏بعيني‏)‏ بالإفراد، وللكشميهني بالتثنية بفتح النون والتشديد، قيل ذكر العينين إرشادا إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر عنه تحقق من رأى شيئا بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك‏.‏

قوله ‏(‏وإني أنا النذير العريان‏)‏ قال ابن بطال النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة فقطع يده ويد امرأته فانصرف إلى قومه فحذرهم فضرب به المثل في تحقيق الخبر‏.‏

قلت‏:‏ وسبق إلى ذلك يعقوب ابن السكيت وغيره، وسمي الذي حمل عليه عوف بن عامر اليشكري، وأن المرأة كانت من بني كنانة‏.‏

وتعقب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا‏.‏

وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن كعب لما قتل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود وكان جار المنذر خشيت على قومها فركبت جملا ولحقت بهم وقالت‏:‏ أنا النذير العريان‏.‏

ويقال أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة ورجع إلى اليمن، وقد سقط لحمه وذكر أبو بشر الآمدي أن زنبرا بزاي ونون ساكنة ثم موحدة ابن عمرو الخثعمي كان ناكحا في آل زبيد، فأرادوا أن يغروا قومه وخشوا أن ينذر بهم فحرسه أربعة نفر، فصادف منهم غرة فقذف ثيابه وعدا وكان من أشد الناس عدوا فأنذر قومه‏.‏

وقال غيره‏:‏ الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال‏:‏ إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقه تقريبا لأفهام المخاطيين بما يألفونه ويعرفونه‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده ما أخرجه الرامهرمزي في ‏"‏ الأمثال ‏"‏ وهو عند أحمد أيضا بسند جيد من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنادى ثلاث مرات‏:‏ أيها الناس مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو فأقبل لينذر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم ثلاث مرات‏"‏‏.‏

وأحسن ما فسر به الحديث من الحديث، وهذا كله يدل على أن العريان من التعري وهو المعروف في الرواية، وحكى الخطابي أن محمد بن خالد رواه بالموحدة قال‏:‏ فإن كان محفوظا فمعناه الفصيح بالإنذار لا يكنى ولا يورى، يقال رجل عريان أي فصيح اللسان‏.‏

قوله ‏(‏فالنجاء النجاء‏)‏ بالمد فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية وبالقصر فيهما تخفيفا‏.‏

وهو منصوب على الإغراء، أي اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش‏.‏

قال الطيبي‏:‏ في كلامه أنواع من التأكيدات أحدها ‏"‏ بعيني ‏"‏ ثانيها قوله ‏"‏ وإني أنا ‏"‏ ثالثها قوله ‏"‏ العريان ‏"‏ لأنه الغاية في قرب العدو، ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق‏.‏

قوله ‏(‏فأطاعه طائفة‏)‏ كذا فيه بالتذكير لأن المراد بعض القوم‏.‏

قوله ‏(‏فأدلجوا‏)‏ بهمزة قطع ثم سكون أي ساروا أول الليل أو ساروا الليل كله على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، وإما بالوصل والتشديد على أن المراد به سير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام‏.‏

قوله ‏(‏على مهلهم‏)‏ بفتحتين والمراد به الهينة والسكون، وبفتح أوله وسكون ثانيه الإمهال وليس مرادا هنا‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ على مهلتهم ‏"‏ بزيادة تاء تأنيث، وضبطه النووي بضم الميم وسكون الهاء وفتح اللام‏.‏

قوله ‏(‏وكذبته طائفة‏)‏ قال الطيبي‏:‏ عبر في الفرقة الأولى بالطاعة وفي الثانية بالتكذيب ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق وبشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان‏.‏

قوله ‏(‏فصبحهم الجيش‏)‏ أي أتاهم صباحا، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان‏.‏

قوله ‏(‏فاجتاحهم‏)‏ بجيم ثم حاء مهملة أي استأصلهم من جحت الشيء أجرحه إذا استأصلته، والاسم الجائحة وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة لأنها مهلكة، قال الطيبي‏:‏ شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل وإنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره ومن صدقه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة، جزم المزي في الأطراف، بأن البخاري ذكره في أحاديث الأنبياء ولم يذكر أنه أورده في الرقاق، فوجدته في أحاديث الأنبياء في ترجمة سليمان عليه السلام لكنه لم يذكر إلا طرفا منه ولم أستحضره إذ ذاك في الرقاق فشرحته هناك، ثم ظفرت به هنا فأذكر الآن من شرحه ما لم يتقدم‏.‏

قوله ‏(‏استوقد‏)‏ بمعنى أوقد وهو أبلغ، والإضاءة فرط الإنارة‏.‏

قوله ‏(‏فلما أضاءت ما حوله‏)‏ اختصرها المؤلف هناك ونسبتها أنا لتخريج أحمد ومسلم من طريق همام وهي في رواية شعيب كما ترى، وكأنه تبرك بلفظ الآية‏.‏

ووقع في رواية مسلم ‏"‏ ما حولها ‏"‏ والضمير للنار‏:‏ والأول للذي أوقد النار، وحول الشيء جانبه الذي يمكن أن ينتقل إليه، وسمي بذلك إشارة إلى الدوران، ومنه قيل للعام حول‏.‏

قوله ‏(‏الفراش‏)‏ جزم المازري بأنها الجنادب، وتعقبه عياض فقال الجندب هو الصرار، قلت والحق أن الفراش اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته وعطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد، وأغرب ابن قتيبة فقال‏:‏ الفراش ما تهافت في النار من البعوض، ومقتضاه أن بعض البعوض هو الذي يقع في النار ويسمى حينئذ الفراش‏.‏

وقال الخليل الفراش كالبعوض وإنما شبهه به لكونه يلقى نفسه في النار لا أنه يشارك البعوض في القرص‏.‏

قوله ‏(‏وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها‏)‏ القول فيه كالقول في الذي قبله، اختصره هناك فنسبته لتخريج أبي نعيم وهو في رواية شعيب كما ترى، ويدخل فيما يقع في النار البعوض والبرغش، ووقع في كلام بعض الشراح البق والمراد به البعوض‏.‏

قوله ‏(‏فجعل‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وجعل ‏"‏ ومن هذه الكلمة إلى آخر الحديث لم يذكره المصنف هناك‏.‏

قوله ‏(‏فجعل الرجل يزعهن‏)‏ بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة أي يدفعهن‏.‏

وفي رواية ينزعهن بزيادة نون، وعند مسلم من طريق همام عن أبي هريرة ‏"‏ وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيقتحمن فيها‏)‏ أي يدخلن، وأصله القحم وهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة، واقتحم الدار هجم عليها‏.‏

قوله ‏(‏فأنا آخذ‏)‏ قال النووي‏:‏ روى باسم الفاعل، ويروي بصيغة المضارعة من المتكلم‏.‏

قلت‏:‏ هذا في رواية مسلم، والأول هو الذي وقع في البخاري‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الفاء فيه فصيحة، كأنه لما قال ‏"‏ مثلي ومثل الناس ‏"‏ إلخ أتي بما هو أهم وهو قوله ‏"‏ فأنا آخذ بحجزكم ‏"‏ ومن هذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله ‏"‏ مثل الناس ‏"‏ إلى الخطاب في قوله ‏"‏ بحجزكم ‏"‏ كما أن من أخذ في حديث من له بشأنه عناية وهو مشتغل في شيء يورطه في الهلاك يجد لشدة حرصه على نجاته أنه حاضر عنده، وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذير أحوج منه إلى البشير، لأن جبلته مائلة إلى الحظ العاجل دون الحظ الآجل‏.‏

وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى ‏{‏حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم‏}‏‏.‏

قوله ‏(‏بحجزكم‏)‏ بضم المهملة وفتح الجيم بعدها زاي جمع حجزة وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة، ويجوز ضم الجيم في الجمع‏.‏

قوله ‏(‏عن النار‏)‏ وضع المسبب موضع السبب لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار‏.‏

قوله ‏(‏وأنتم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وهم ‏"‏ وعليها شرح الكرماني فقال‏:‏ كان القياس أن يقول وأنتم، ولكنه قال وهم وفيه التفات، وفيه إشارة إلى أن من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجزته لا اقتحام له فيها، قال‏:‏ وفيه أيضا احتراز عن مواجهتهم بذلك‏.‏

قلت والرواية بلفظ ‏"‏ وأنتم ‏"‏ ثابتة تدفع هذا‏.‏

ووقع في رواية مسلم ‏"‏ وأنتم تفلتون ‏"‏ بفتح أوله والفاء واللام الثقيلة وأصله تتفلتون، وبضم أوله وسكون الفاء وفتح اللام ضبطوه بالوجهين وكلاهما صحيح، تقول تفلت مني وأفلت مني لمن كان بيدك فعالج الهرب منك حتى هرب، وقد تقدم بيان هذا التمثيل، وحاصله أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سببا في الوقوع في النار بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعا لشهواتها، وشبه ذبه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذب صاحب النار الفراش عنها‏.‏

وقال عياض‏:‏ شبه تساقط أهل المعاصي في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا‏.‏

قوله ‏(‏تقحمون فيها‏)‏ في رواية همام عند مسلم ‏"‏ فيغلبوني ‏"‏ النون مثقلة لأن أصله فيغلبونني، والفاء سببية، والتقدير أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ‏.‏

قوله ‏(‏تقحمون‏)‏ بفتح المثناة والقاف والمهملة المشددة والأصل تتقحمون فحذفت إحدى التاءين، قال الطيبي‏:‏ تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله ‏{‏ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏}‏ وذلك أن حدود الله محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح ‏"‏ ألا إن حمى الله محارمه ‏"‏ ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها واستيفاء لذتها وشهواتها، فشبه صلى الله عليه وسلم إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستنقاذ الرجال من النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد‏.‏

وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم بالفراش التي تقتحمن في النار وتغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سببا لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم‏.‏

وفي قوله ‏"‏ آخذ بحجزكم ‏"‏ استعارة مثل حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يكاد يهوي في مهواة مهلكة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏زكريا‏)‏ هو ابن أبي زائدة وعامر هو الشعبي‏.‏

قوله ‏(‏المسلم‏)‏ تقدم شرحه في أوائل كتاب الإيمان‏.‏

قوله ‏(‏والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏)‏ قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى الله عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل‏.‏

وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم‏.‏

والله أعلم‏.‏