فصل: كِتَابُ الْإِبَاقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ اللُّقَطَةِ:

الشرح:
هِيَ فُعَّلَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصْفُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَلُعَنَةٍ وَضُحَكَةٍ لِكَثِيرِ الْهَمْزِ وَغَيْرِهِ، وَبِسُكُونِهَا لِلْمَفْعُولِ كَضُحْكَةٍ وَهُزْأَةٍ لِلَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ وَيُهْزَأُ بِهِ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَالِ لُقَطَةٌ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ طِبَاعَ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ تُبَادِرُ إلَى الْتِقَاطِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ، فَصَارَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَاعٍ إلَى أَخْذِهِ بِمَعْنَى فِيهِ نَفْسُهُ كَأَنَّهُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ مَجَازًا، وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ الْمُلْتَقِطُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ.
وَمَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمَالِ أَيْضًا فَمَحْمُولٌ عَلَى هَذَا: يَعْنِي يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي صِفَةِ رَفْعِهَا فَنُقِلَ عَنْ الْمُتَقَشِّفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ يَحِلُّ، وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بَلْ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ.
وَأَسْنَدَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ» وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ التَّرْكِ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي فَقَدَهَا فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ خُصُوصَ الْمَكَانِ، فَإِذَا تَرَكَهَا كُلُّ أَحَدٍ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَجِدَهَا صَاحِبُهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ عَادَةً أَنْ يَمُرَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَرَّةً أُخْرَى فِي عُمُرِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ سُقُوطَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّرُقَاتِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا أَوْ يَجْلِسُ فِي عَادَةِ أَمْرِهِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إلَيْهِ، وَقَيَّدَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ يَتْرُكُهَا، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ يَدٌ خَائِنَةٌ إلَيْهَا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَفِي الْخُلَاصَةِ يَفْتَرِضُ الرَّفْعَ، وَلَوْ رَفَعَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَضَعَهَا مَكَانَهَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُهُ كِتَابُ اللُّقَطَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقول قولهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقول مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَاللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ أَفْضَلُ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ اشْتِرَاطُ عَدْلَيْنِ إلَى آخِرِهِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي إذَا كَانَ أَشْهَدَ أَوْ إذَا كَانَ أَمَانَةً بِأَنْ أَشْهَدَ (لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ) فَلَوْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي قولهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا وَصَارَ تَصَادُقُهُمَا كَبَيِّنَتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا (وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ضَمِنَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقَالَ أَخَذْتُهَا لِلرَّدِّ لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ ذَكَرَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ (وَالْقول لَهُ) مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا (لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ) إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ (اخْتِيَارُهُ الْحِسْبَةَ لَا الْمَعْصِيَةَ) وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بِقَيْدِ كَوْنِهِ لِلْمَالِكِ فَإِذَا أَخَذَ إنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْمَالِكِ فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ لَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالشَّكِّ (وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ، وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ. وَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ التَّصَرُّفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ) فَإِنْ قَالَ كَوْنُ أَخْذِ الْمَالِ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَأَمَّا بِإِذْنِهِ فَمَمْنُوعٌ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ سَبَبُ الضَّمَانِ لَمْ يَقَعْ الشَّكُّ فِي الْبَرَاءَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِ الضَّمَانِ حَتَّى يَنْفَعَ مَا ذَكَرْتُمْ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: «مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ» وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ الْإِشْهَادُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ إنْ أَشْهَدَ أَخَذَهَا مِنْهُ ظَالِمٌ فَتَرَكَهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْقول قولهُ مَعَ يَمِينِهِ كَوْنِي مَنَعَنِي مِنْ الْإِشْهَادِ كَذَا (قَالَ: وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقول مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَدِلُّوهُ عَلَيَّ) أَوْ عِنْدِي ضَالَّةٌ أَوْ شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ إلَى آخِرِهِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا يَطْلُبُهَا فَقَالَ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ اللُّقَطَةِ (وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ) أَيْ اللُّقَطَةَ بِتَأْوِيلِ الْمُلْتَقِطِ (اسْمُ جِنْسٍ) وَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الْأَخْذِ وَيَقول أَخَذْتهَا لِأَرُدَّهَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَرِّفْهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَى فَجَعَلَ التَّعْرِيفَ إشْهَادًا.
وَقول الْمُصَنِّفِ يَكْفِيهِ مِنْ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقول إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ مِثْلَهُ، فَاقْتَضَى هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ التَّعْرِيفُ، وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَصَابَ ضَالَّةً فَلْيُشْهِدْ» مَعْنَاهُ فَلْيُعَرِّفْهَا.
وَيَكُونُ قولهُ ذَا عَدْلٍ لِيُفِيدَ عِنْدَ جَحْدِ الْمَالِكِ التَّعْرِيفَ: أَيْ الْإِشْهَادَ.
فَإِنَّهُ إذَا اسْتَشْهَدَ ثُمَّ عَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، وَإِلَّا فَالتَّعْرِيفُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، وَعَلَى هَذَا فَخِلَافِيَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا أَصْلًا حَتَّى ادَّعَى ضَيَاعَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا وَأَخَذَهَا كَذَلِكَ.
وَقولهُمَا إنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ أَيْ بِالتَّعْرِيفِ، فَإِذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا فَقَدْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا فِي الْأَخْذِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْإِشْهَادُ: أَيْ التَّعْرِيفُ وَقْتَ الْأَخْذِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُ قَبْلَ هَلَاكِهَا لِيُعَرِّفَ بِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا لَا لِنَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا لَا يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِكَوْنِهِ رَدَّهَا فِي مَكَانِهَا أَوْ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِالرَّدِّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِمَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ بِهَا، فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا ضَمِنَ، وَبَعْضُهُمْ ضَمِنَهُ ذَهَبَ بِهَا أَوْ لَا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَمَا ذَكَرْنَا لَا يَنْفِي وَجْهَ التَّضْمِينِ بِكَوْنِهِ مُضَيِّعًا مَالَ غَيْرِهِ بِطَرْحِهِ بَعْدَمَا لَزِمَهُ حِفْظُهُ بِالْأَخْذِ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقولهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى.
وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ».
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا.
وَفِي الْجَامِعِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ: (فَإِنْ) (جَاءَ صَاحِبُهَا) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ (فَإِنْ كَانَتْ) اللُّقَطَةُ (أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا أَيَّامًا) وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا شَهْرًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ يُعَرِّفُهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا: يَعْنِي إلَى الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا: يَعْنِي إلَى ثَلَاثَةٍ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ دَانِقًا فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهَا يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الدَّانِقِ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً ثُمَّ يَضَعُهُ فِي كَفِّ فَقِيرٍ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ يُعَرِّفُ الْقَلِيلَ بِقَدْرِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَخْذٌ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ جَيِّدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ بِذَلِكَ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْقَلِيلِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَنَّ الْمَالِكَ فِي تِلْكَ التَّقَادِيرِ لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَدِ فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ غَلَبَةَ ظَنِّ تَرْكِهَا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ تَقْدِيرُهُ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَيُذْكَرُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
وَفِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً» وَمَعْنَى لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ: أَيْ لَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ تَمَلُّكُهَا، وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلِالْتِقَاطِ نَفْسِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ» (وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمَ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ) إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهَا احْتِيَاطًا (وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا) التَّعْرِيفَ فِيهَا (إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ) وَالْمُرَادُ بِقولهِ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَال: «أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْت بِهَا فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ حَدِيثِ الْعَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالتَّعْرِيفِ سَنَةً فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مُطْلَقًا عَنْ صُورَةِ الْمِائَةِ دِينَارٍ كَمَا قَدَّمْنَا وَغَيْرُهُ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.
قولهُ: (وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ) وَلَا التَّقْدِيرُ بِالْعَامِ (وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ يُعَرِّفُهُ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا) وَهَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الثَّلَاثِ سِنِينَ فِي الْمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ لَيْسَ السَّنَةُ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ مَا يَقَعُ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُهُ أَوْ لَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ خَطَرِ الْمَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَمَّا كَانَ ذَا خَطَرٍ كَبِيرٍ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى يَخَافَ فَسَادَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ وَفِي الْجَامِعِ) يَعْنِي الْأَسْوَاقَ وَأَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ فَيُنَادِي مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ فَلْيَطْلُبْهُ عِنْدِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِتَعْرِيفِهَا سَنَةً يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّعْرِيفِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ كَانَ ظَرْفِيَّةُ السَّنَةِ لِلتَّعْرِيفِ يَصْدُقُ بِوُقُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّمَا وَجَدَ مَظِنَّةً، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قول الْوَلْوَالِجِيِّ مِمَّا يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ هُوَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْهُ، أَمَّا الْوَاجِبُ فَأَنْ يَذْكُرَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهُ كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا) لِلْوَاجِدِ (بِلَا تَعْرِيفٍ).
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ رَأَى تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا» وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا، حَتَّى إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ لَهُ أَخْذُهَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا إلْقَاؤُهَا إبَاحَةٌ لَا تَمْلِيكٌ (لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ) وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَهَا لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالْجَمْعِ، وَعَلَى هَذَا الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَقْيِيدِ هَذَا الْجَوَابِ: أَعْنِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِمَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي مَكَان فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا بَلْ سَقَطَتْ مِنْهُ أَوْ وَضَعَهَا لِيَرْفَعَهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالتُّفَّاحُ وَالْكُمَّثْرَى وَالْحَطَبُ فِي الْمَاءِ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ.
قولهُ: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) أَوْ أَكَلَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ اسْتَقْرَضَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَتَمَلَّكُهَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَإِذَا خَشِيَ الْمَوْتَ يُوصِي بِهَا كَيْ لَا تَدْخُلَ فِي الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ أَيْضًا يُعَرِّفُونَهَا، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعَرِّفُوهَا حَتَّى هَلَكَتْ وَجَاءَ صَاحِبُهَا أَنْ يَضْمَنُوا لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى لُقَطَةٍ وَلَمْ يُشْهِدُوا: أَيْ لَمْ يُعَرِّفُوا، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِذَلِكَ أَنَّ قَصْدَهُمْ تَعْمِيَتُهَا عَنْ صَاحِبِهَا، وَيَجْرِي فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا (بَعْدَ التَّصَدُّقِ فَهُوَ) بِأَحَدِ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ (إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ) أَيْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَحُصُولُ الثَّوَابِ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ لُحُوقِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا فَبِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِرِضَاهُ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ وَقَدْ يَكُونُ مَجِيءُ الْمَالِكِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْفَقِيرِ لَهَا؟ أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ الْمِلْكُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، أَمَّا هُنَا فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ قَبْلَ ذَلِكَ شَرْعًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الْمَالِكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَهُ دُونَ مِلْكِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَحَالُ الْفَقِيرِ يَقْتَضِي سُرْعَةَ اسْتِهْلَاكِهَا ثَبَتَ عَدَمُ تَوَقُّفِ اعْتِبَارِهَا عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ بَعْدَ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ شَرْعًا إجْمَاعًا حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَيْهِ الثَّوَابُ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) فَإِنْ قُلْت: لَكِنَّهُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِبَاحَةٌ مِنْهُ.
قُلْنَا: الثَّابِتُ مِنْ الشَّارِعِ إذْنُهُ فِي التَّصَدُّقِ لَا إيجَابُهُ (هَذَا) الْقَدْرُ (لَا يُنَافِي) وُجُوبَ الضَّمَانِ (حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي) إذْنِهِ (فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ) وَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ ثُبُوتِ الضَّمَانِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُثْبِتَ إذْنَهُ مُقَيَّدًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ ضَمَانِ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ) إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ (هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ) فَإِنْ قُلْت: إذَا قَبَضَهَا الْفَقِيرُ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسْتَرْجِعُهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا فِي الْهِبَةِ.
وَالْمُرْتَدُّ: الرَّاجِعُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَ أَخْذِ الْوَرَثَةِ مَالَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللِّحَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَ كَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ) وَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إذَا تَصَدَّقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، أَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ رَدُّوهُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَهُ إذَا جَاءَ فَضْلًا عَنْ الْمُلْتَقِطِ الْمُتَصَدِّقِ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِي نَاظِرٌ لِلْغَيْبِ فِي أَمْوَالِهِمْ حِفْظًا لَهَا لَا إتْلَافًا فَلَا يَنْفُذُ مِنْ إتْلَافِهِ إلَّا مَا لَزِمَهُ شَرْعًا الْقِيَامُ وَالتَّصَدُّقُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ.
لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ.
وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ (وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، قَالُوا: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ.
وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقول الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا.
وَقولهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَ) يَعْنِي (الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ (إذَا وُجِدَ الْبَقَرُ وَالْبَعِيرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ) لَهُمَا (أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَإِبَاحَةُ الِالْتِقَاطِ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِهِ) كَالْقَرْنِ مَعَ الْقُوَّةِ فِي الْبَقَرِ وَالرَّفْسِ مَعَ الْكَدْمِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ (يَقِلُّ) ظَنُّ (الضَّيَاعِ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ فِي الْأَخْذِ وَالنَّدْبِ إلَى التَّرْكِ) هَذَا، وَلَكِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَحِلِّهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
(وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ) لَكِنَّ هَذَا قِيَاسٌ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا، قُلْت: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَالَك وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ بِبَقَرَةٍ حَتَّى تَوَارَتْ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّ ضَالَّةَ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
أَجَابَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَأْمَنُ وُصُولَ يَدٍ خَائِنَةٍ إلَيْهَا بَعْدَهُ، فَفِي أَخْذِهَا إحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ أَنْ يَجِبَ الِالْتِقَاطُ وَهَذَا أَحَقُّ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وُصُولُهَا إلَى رَبِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ الْوُصُولِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَصَارَ طَرِيقُ التَّلَفِ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُ بِلَا شَكٍّ خِلَافُهُ وَهُوَ الِالْتِقَاطُ لِلْحِفْظِ وَالرَّدِّ.
وَأَقْصَى مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَوْقَاتِ خَصَّ مِنْهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِنْ الدَّيْنِ لَوْ لَمْ يَتَأَيَّدْ بِحَدِيثٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّالَّةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ»، فَتَأَيَّدَ بِهِ زِيَادَةٌ بَعْدَ تَمَامِ الْوَجْهِ.
قولهُ: (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ) أَيْ عَنْ أَنْ يَشْغَلَهَا بِالدَّيْنِ بِلَا أَمْرِهِ.
(وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ) الْآنَ فَإِذَا رَفَعَ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ، وَثَمَّ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا (آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا بِلَا إلْزَامِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ) أَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا (وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً) فَإِنَّ الثَّمَنَ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ إذْ يَصِلُ بِهِ إلَى مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ) لَهُ (فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَيْهِ) إذْ (فِيهِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ (قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى قَدْرِ مَا يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا)، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ لِلْعَيْنِ مَعْنًى، بَلْ رُبَّمَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ وَيَفْضُلُ الدَّيْنُ عَلَى مَالِكِهَا، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَمِ النَّظَرِ، وَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَى الْمُلْتَقِطَ مِنْ ثَمَنِهَا مَا أَنْفَقَ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَاءَ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ.
وَإِنْ جَاءَ وَهِيَ هَالِكَةٌ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْبَائِعُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ نَفَذَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ اللُّقَطَةَ مِنْ حِينِ أَخَذَهَا وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ (وَفِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ (يَشْتَرِطُ الْبَيِّنَةَ) فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ غَصَبَهَا، وَلَا يَأْمُرُ بِالنَّفَقَةِ إلَّا فِي الْوَدِيعَةِ) وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ (لِكَشْفِ الْحَالِ) أَيْ لِيَنْكَشِفَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ الْتَقَطَهَا لَا لِلْقَضَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ لَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: الْإِمَامُ خَصْمٌ فِيهَا عَنْ صَاحِبِهَا (وَإِنْ قَالَ) الْمُلْتَقِطُ (لَا بَيِّنَةَ لِي يَقول لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا) وَفِي الذَّخِيرَةِ: يَقول لَهُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدِي الثِّقَاتِ بِأَنْ يَقول أَمَرْته بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِنْفَاقِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ: (وَقولهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ (إذَا شَرَطَ الْقَاضِي) ذَلِكَ (وَهَذَا رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَقِيلَ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي اللَّقِيطِ (وَإِذْ حَضَرَ الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ. وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَبِيعِ (وَلَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ كَالرَّهْنِ) مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ سَقَطَ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْحَبْسِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَحَافِظُ الدِّينِ فِي الْكَافِي أَيْضًا، فَيُفْهَمُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ.
وَجَعَلَ الْقُدُورِيُّ هَذَا قول زُفَرَ.
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَحَبَسَهَا بِالنَّفَقَةِ فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهَا دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ عَيْنٍ وَلَا عَنْ عَمَلٍ مِنْهُ فِيهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا: أَيْ الْعَيْنَ عَقْدٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَصَرَّحَ فِي الْيَنَابِيعِ بِعَدَمِ السُّقُوطِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: لَوْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَحَبَسَهَا لِيَأْخُذَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي التَّقْرِيبِ نَفْيُ الْحُكْمِ: أَعْنِي السُّقُوطَ لِعَدَمِ دَلِيلِ السُّقُوطِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ وَلَيْسَتْ الْعَيْنُ الْمُلْتَقَطَةُ رَهْنًا لِيَسْقُطَ بِهَلَاكِهَا إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الرَّهْنِ.
وَالْمُصَنِّفُ أَوْجَدَ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْإِلْحَاقُ بِالرَّهْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَكِنَّ النَّقْلَ كَمَا رَأَيْت.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا أَصْلًا فَأَبْلَغُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَم: «وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:«اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَامِ سَوَاءٌ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قول، وَفِي قول يُعَرِّفُهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا لَا حُكْمَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ مَنْ تَصَدَّقَ وَلَا تُمْلَكُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» الْحَدِيثَ.
الْمُنْشِدُ: الْمُعَرِّفُ، وَالنَّاشِدُ: الطَّالِبُ.
قَالَ الْمُثَقَّبُ:
يَسِيخُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ ** إسَاخَةَ الْمُنْشِدِ لِلنَّاشِدِ

وَيُرْوَى يَصِيخُ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، فَالْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنْشَدَ الضَّالَّةَ يَنْشُدُهَا، وَأَنْشَدَهَا إنْشَادًا: إذَا أَعْرَفْتَهَا، وَمِنْ الثَّانِي نَشَدْتهَا أَنْشُدُهَا نَشْدًا وَنِشْدَانًا بِكَسْرِ النُّونِ: إذَا طَلَبْتهَا (وَلَنَا إطْلَاقُ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَغَيْرِهِ وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا» أَيْ وِعَاءَهَا مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا «وَوِكَاءَهَا» أَيْ رِبَاطَهَا الَّذِي شُدَّتْ بِهِ وَعَرِّفْهَا سَنَةً وَتَقَدَّمَ، فَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا فَيُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى مَحْمَلٍ وَهُوَ أَوْلَى، لَكِنْ لَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُ وَلَا يَحِلُّ لِنَفْسِهِ.
وَتَخْصِيصُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ لِدَفْعِ وَهْمِ سُقُوطِ التَّعْرِيفِ بِهَا بِسَبَبِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا وُجِدَ بِهَا مِنْ لُقَطَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا فَلَا يُفِيدُ التَّعْرِيفُ فَيَسْقُطُ كَمَا يَسْقُطُ فِيمَا يَظْهَرُ إبَاحَتُهُ، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فِي وُجُوبِ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِم: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ».
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفُشُوِّ السَّرِقَةِ بِمَكَّةَ مِنْ حَوَالِي الْكَعْبَةِ فَضْلًا عَنْ الْمَتْرُوكِ، وَالْأَحْكَامُ إذَا عُلِمَ شَرْعِيَّتُهَا بِاعْتِبَارِ شَرْطٍ ثُمَّ عُلِمَ ثُبُوتُ ضِدِّهِ مُتَضَمِّنًا مَفْسَدَةً بِتَقْدِيرِ شَرْعِيَّتِهِ مَعَهُ عُلِمَ انْقِطَاعُهَا، بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِشَرْعِيَّتِهَا لِسَبَبٍ إذَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ كَالرَّمْلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ).
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُجْبَرُ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا.
لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ.
وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْحَدِيثَ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ.
وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ.
وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا، «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا» وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ.
وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا) لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ) وَأَحْمَدَ (يُجْبَرُ) وَإِعْطَاءُ عَلَامَتِهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ وَزْنِهَا وَعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَيُصِيبُ فِي ذَلِكَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ قول الشَّافِعِيِّ كَقولنَا، وَالْمُوجِبُ لِلدَّفْعِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاحْتَجُّوا بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «عَرِّفْهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَوِعَائِهَا فَأَعْطِهِ إيَّاهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَفِيه: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَك» وَأَيْضًا (فَإِنَّ صَاحِبَ الْيَدِ) وَهُوَ الْمُلْتَقِطُ (إنَّمَا يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ لَا فِي الْمِلْكِ) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ فَكَانَتْ مُنَازَعَتُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ مَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَفِي الْوَصْفِ الْمُطَابِقِ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ (وَلَا يُشْتَرَطُ الْبَيِّنَةُ لِعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ) مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا (وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ) حَتَّى أَنَّ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَمْ يُفَوِّتْ غَيْرَ الْيَدِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ غَيْرَ أَنَّا أَبَحْنَا لَهُ الدَّفْعَ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدَّعْوَى، وَالْمُدَّعِي هُنَا صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهَا بِالْعَلَامَةِ فَقَطْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا اسْتِيثَاقًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا قُسِمَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ الْوَرَثَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَرِيمِ وَلَا مِنْ الْوَارِثِ كَفِيلٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ هُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ فَيَجِيءُ وَيَتَوَارَى الْآخِذُ فَيُحْتَاطُ بِالْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ، وَكَوْنُ غَيْرِهِ أَيْضًا لَهُ حَقٌّ أَمْرٌ مَوْهُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَقِّ الثَّابِتِ إلَى زَمَانِ تَحْصِيلِ الْكَفِيلِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَفْعَ الْمُلْتَقِطِ لَوْ كَانَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَذُكِرَ فِي جَامِعِ قَاضِي خَان أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ.
وَأُورِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ نَفَى الْخِلَافَ فِي التَّكْفِيلِ فِي اللُّقَطَةِ.
وَقَالَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فِيهِ: أَيْ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَ رَفْعِ اللُّقَطَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ.
عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ وَعَلَى قولهِمَا يَأْخُذُ، هَذَا إذَا دَفَعَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَلَامَةِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَعَ الْعَلَامَةِ أَوْ لَا مَعَهَا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ دَفْعِهِ إلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ يُجْبَرُ؟ قِيلَ يُجْبَرُ كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ كَالْوَكِيلِ يَقْبِضُ الْوَدِيعَةَ إذَا صَدَّقَهُ الْمُودِعُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ، وَدَفَعَ بِالْفَرْقِ (بِأَنَّ الْمَالِكَ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ) أَيْ الْمَالِكُ الْآخِذُ لِهَذِهِ اللُّقَطَةِ الَّتِي صَدَّقَ الْمُلْتَقِطُ مُدَّعِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْمُودِعُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ مَالِكٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِلْحَاضِرِ بِحَقِّ قَبْضِهَا وَإِقْرَارُهُ بِحَقِّ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ إقْبَاضُهُ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِذَا دَفَعَ بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْعَلَامَةِ وَجَاءَ آخَرُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي قَضَى لَهُ بِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْقَابِضُ أَوْ الْمُلْتَقِطُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ فَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ قول الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِتَصْدِيقِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَجْهُ قول أَحْمَدَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ فَلَا يَظْلِمُهُ هُوَ وَصَارَ كَالْمُودِعِ إذَا صَدَّقَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَالْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ لَكِنَّهُ لَمَّا قَضَى بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِتَكْذِيبِ الْقَاضِي فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ بِلَا تَصْدِيقٍ، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ كَإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِبَيِّنَةٍ فَقَضَى لَهُ بِهِ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ.
وَاَلَّذِي فَرَّقَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُودِعُ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ، بَلْ الْمُودِعُ ظَلَمَهُ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ مُوهِنًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ انْتَهَى.
قولهُ: (وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّدَقَةُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ: يَعْنِي صَاحِبَهَا، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ) وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُمَيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ» وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ.
وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ إذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَا فَرْضًا فَيَكُونُ فِيهِ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمَالِكِ بِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى فَقِيرٍ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ كَانَ أَبَا الْمُلْتَقِطِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا») قَالُوا (وَأُبَيُّ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ) بِدَلِيلِ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك».
فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَالًا، قُلْنَا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ، فَإِنَّهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي اللُّقَطَةِ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ، إلَى أَنْ قَالَ: فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَحْكِي قولهُ لِسَائِلٍ يَسْأَلُهُ، وَجَازَ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ فَقِيرًا.
ثُمَّ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَقْرِ أُبَيٍّ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ قَرَابَتِك، فَجَعَلَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أُبَيٍّ وَحَسَّانٍ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُبَيًّا كَانَ فَقِيرًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ قَضَايَا الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال.
وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ «جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ، إلَى أَنْ قَالَ وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَهِيَ لَك» فَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، إذْ يَجُوزُ كَوْنُ السَّائِلِ فَقِيرًا، لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ ذَاتِ الِاحْتِمَالِ، إذْ الْمَالُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ نِصَابًا، وَكَوْنُهُ خَالِيًا عَنْ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ نِصَابًا فَجَازَ كَوْنُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَكَوْنُهُ مَدْيُونًا.
قَالُوا: لَوْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ لَا تَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ إلَّا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ فَيَمْتَنِعُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَمَّا أَكَلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ.
وَقَدْ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهَا فِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالَتْ: الْجُوعُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَ دِينَارًا بِالسُّوقِ، فَجَاءَ فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَخُذْ لَنَا دَقِيقًا، فَجَاءَ الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ دِينَارَك وَالدَّقِيقُ لَك، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْجَزَّارِ وَخُذْ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، فَذَهَبَ فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمٍ بِلَحْمٍ، فَعَجَنَتْ وَخَبَزَتْ وَأَرْسَلَتْ إلَى أَبِيهَا فَجَاءَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَك فَإِنْ رَأَيْته حَلَالًا لَنَا أَكَلْنَاهُ، مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ مَكَانَهُمْ إذَا غُلَامٌ يَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ الدِّينَارَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَدُعِيَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَقَطَ مِنِّي فِي السُّوقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ اذْهَبْ إلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ لَهُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول لَك: أَرْسِلْ إلَيَّ بِالدِّينَارِ وَدِرْهَمُك عَلَيَّ، فَأَرْسَلَ بِهِ فَدَفَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْغُلَامِ».
قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ تُكُلِّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ إنْفَاقَهُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَقول الْمُنْذِرِيِّ: وَلَعَلَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا فَمُرَاجَعَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْخَلْقِ إعْلَانٌ بِهِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاكْتِفَاءَ فِي التَّعْرِيفِ بِمَرَّةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَخَبَزُوا وَأَحْضَرُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَكْلِ.
نَعَمْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِأَنَّ عَلِيًّا عَرَّفَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فَاطِمَةَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ.
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، وَفِيه: «أَنَّهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَرِّفْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَعَرَّفَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: شَأْنُك بِهِ».
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمُخْتَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِحَوْلٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إلَى أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ إلَى أَنَّ طَالِبَهُ قَطَعَ نَظَرَهُ عَنْهُ.
وَفِي سَنَدِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ الْبَزَّارُ عَلَى الظَّنِّ: هُوَ عِنْدِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هُوَ مَتْرُوكٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَمِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَابِ، لِأَنَّ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْلَمُوهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَصَارَ مُهَيَّئًا لِلْأَكْلِ يُنَاقِضُ مَا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ فَأَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ.
وَفِي الْأُولَى أَنَّهُ دَفَعَ عَيْنَهُ لِلْمُنْشِدِ.
وَفِي الثَّانِيَةِ «أَنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَالَ: إذَا جَاءَنَا أَدَّيْنَاهُ إلَيْك» وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ.
ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا حُجِّيَّتَهُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَحِلُّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ جَوَازُ افْتِرَاضِ الْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ، فَلَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّدَقَةِ بِنَاءً عَلَى تَضْعِيفِ السَّمْتِيِّ كَفَانَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هُوَ يُثْبِتُ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ فِيهَا حُكْمًا آخَرَ، وَنَحْنُ نُطَالِبُهُ فِي إثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَيَبْقَى عَلَى الِانْتِفَاءِ.

.كِتَابُ الْإِبَاقِ:

(الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الضَّالِّ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْإِبَاقِ:
كُلٌّ مِنْ الْإِبَاقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ تَحَقَّقَ فِيهِ عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالتَّلَفِ، إلَّا أَنَّ التَّعَرُّفَ لَهُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٌ فِي الْإِبَاقِ فَكَانَ الْأَنْسَبُ تَعْقِيبَ الْجِهَادِ بِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ، وَكَذَا الْأَوْلَى فِيهِ، وَفِي اللُّقَطَةِ التَّرْجَمَةُ بِالْبَابِ لَا بِالْكِتَابِ.
وَالْإِبَاقُ فِي اللُّغَةِ: الْهَرَبُ، أَبَقَ يَأْبِقُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْهَرَبُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَصْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا قِيلَ هُوَ الْهَرَبُ قَصْدًا.
نَعَمْ لَوْ قِيلَ الِانْصِرَافُ وَنَحْوُهُ عَنْ الْمَالِكِ كَانَ قَيْدُ الْقَصْدِ مُفِيدًا وَالضَّالُّ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ التَّغَيُّبِ بَلْ هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَوْلَاهُ لِجَهْلِهِ بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ.
قولهُ: (الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ) مِنْ تَرْكِهِ (فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ) أَيْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْلَاهُ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ وَالضَّعْفَ وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّفْصِيلُ فِي اللُّقَطَةِ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُهُ عَلَى الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مَعَ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَخْذُهُ وَإِلَّا فَلَا.
وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الضَّالِّ، قِيلَ أَخْذُهُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ النُّفُوسِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ (وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ) مُنْتَظِرًا لِمَوْلَاهُ حَتَّى يَجِدَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ انْتِظَارَهُ فِي مَكَان غَيْرِ مُتَزَحْزِحٍ عَنْهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ بَلْ نَجِدُ الضُّلَّالَ يَدُورُونَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَحِلَّ هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَاجِدُ الضَّالِّ مَوْلَاهُ وَلَا مَكَانَهُ، أَمَّا إذَا عَلِمَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي أَفْضَلِيَّةِ أَخْذِهِ وَرَدِّهِ.
قولهُ: (ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ) أَوْ الْقَاضِي فَيَحْبِسُهُ مَنْعًا لَهُ عَنْ الْإِبَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ عَنْ إبَاقِهِ مِنْ الْأَخْذِ إلَّا بِذَلِكَ عَادَةً، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ.
أَمَّا لَوْ فُرِضَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّلْطَانِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَيَّرَهُ الْحَلْوَانِيُّ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ أَوْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا حَبَسَ الْإِمَامُ الْآبِقَ فَجَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَاهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ يَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ بَاقٍ إلَى الْآنِ فِي مِلْكِك لَمْ يَخْرُجْ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، فَإِذَا حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ.
وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَرَضَ بَعْدَ عِلْمِ الشُّهُودِ بِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ زَوَالِهِ بِسَبَبٍ لَا يَعْلَمُونَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُهُ مَعَ عَدَمِ خَصْمٍ يَدَّعِي لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ عَنْ الْخَطَإِ وَنَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ فَفِي أَوْلَوِيَّةِ أَخْذِ الْكَفِيلِ وَتَرْكِهِ رِوَايَتَانِ، وَكَمَا يَدْفَعُهُ بِالْبَيِّنَةِ يَدْفَعُهُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ هُنَا كَفِيلًا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَرُدُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا كَبِرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِفَقْرِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ، بِخِلَافِ مَالِكِ الْعَبْدِ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْفَقَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَ مَالِكُهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَأْخُذُهُ وَلَا يُنْتَقَضُ بَيْعُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَحُكْمِهِ، بِخِلَافِ الضَّالِّ إذَا طَالَتْ مُدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إبَاقَهُ فَلَا يَبِيعُهُ، أَمَّا الْآبِقُ فَيُخْشَى ذَلِكَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ يَبِيعُهُ وَلَا يُؤَاجِرُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ الطُّولَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ لِلْمَالِكِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ.
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا قول مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ.
وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ.
قَالَ: (وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ.
لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جَعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) فِضَّةً بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ (وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ) مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ (فَبِحِسَابِهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ) بِأَنْ يَقول مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا كَمَا إذَا رَدَّ بَهِيمَةً ضَالَّةً أَوْ عَبْدًا ضَالًّا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّادَّ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا فَكَذَا هَذَا.
وَقولنَا قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ (وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْأَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا) وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ الْفَتْوَى بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْفَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْفَيُّومِ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَجُعْلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِين.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدٍ نَفْسِهِ أَيْضًا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي رَبَاحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أَصَبْت غِلْمَانًا إبَاقًا بَالِغِينَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ، قُلْت هَذَا الْأَجْرُ فَمَا الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ كُلِّ رَأْسٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي جُعْلِ الْآبِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَعْطَيْت الْجُعْلَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمً.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمً..
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَأَخْرَجَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ يُوجَدُ فِي خَارِجِ الْحَرَمِ بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ». وَهَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فِي الْمُتَبَادِرِ الْقُرْبِ لَا قَدْرِ مَسِيرَةِ سَفَرٍ عَنْهُ، وَعَنْ هَذَا رَوَى عَمَّارٌ: إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ. لَعَلَّهُ اعْتَبَرَ الْحَرَمَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ دُونَهَا) يُرِيدُ الْمَرْوِيَّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَقَدْ عَلِمْت الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ، وَسَنَدُهُ أَحْسَنُ مِنْ الْأُخْرَى، وَالرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ مُضَعَّفَةٌ بِالْحَرْثِ الْمَذْكُورِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَقْوَى الْكُلِّ فَرَجَّحْنَاهَا، وَكَذَا قول الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنِهِ: هُوَ أَمْثَلُ مَا فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ فِي الْقُوَّةِ.
وَقِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ، وَهُنَا يُمْكِنُ إذْ تُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْأَرْبَعِينَ عَلَى رَدِّهِ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَرِوَايَاتُ الْأَقَلِّ عَلَى مَا دُونَهَا، وَيُحْمَلُ قول عَمَّارٍ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ (وَالتَّلْفِيقُ) الضَّمُّ لَفَقْت الثَّوْبَ أَلْفِقُهُ: إذَا ضَمَمْت شِقَّهُ إلَى شِقِّهِ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُثْبَتًا لِلزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ رَاجِحٌ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا (وَلِأَنَّ إيجَابَ أَصْلِ الْجُعْلِ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ) وَهُوَ رَدُّهُ احْتِسَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ نَادِرَةٌ فَشُرِعَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِبَادِ مِنْ صِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ (وَتَقْدِيرُ الْجُعْلِ) إنَّمَا يُدْرَى (بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ) إلْحَاقُهُ بِهِ قِيَاسًا وَدَلَالَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ فِي رَدِّهِ دُونَهَا فِي رَدِّ الْآبِقِ لِمَا فِي رَدِّهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَفُّظِ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مُرَاعَاتِهِ كَيْ لَا يَأْبِقَ ثَانِيًا مِمَّا لَيْسَ فِي رَدِّ الضَّالِّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْآبِقُ لِرَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا فَالْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ، فَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يُعْطِيَ تَمَامَ الْجُعْلِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِ الْغَائِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيمَا يُعْطِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ إلَّا بِهِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا رَدَّهُ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: إنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَقَ فَإِذَا وَجَدْته خُذْهُ فَوَجَدَهُ فَرَدَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ مَالِكَهُ اسْتَعَانَ بِهِ وَوَعَدَهُ الْإِعَانَةَ وَالْمُعِينُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
وَقولهُ (وَمَا دُونَهُ فِيمَا دُونَهُ) أَيْ أَوْجَبْنَا مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَرَّفْنَا إيجَابَ الْجُعْلِ بِكُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِقْدَارٌ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ، فَإِذَا حَمَلْنَا بَعْضَهُ عَلَى مَا دُونَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، لِأَنَّهُ مَا ذُكِرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ.
قولهُ: (وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا) أَيْ الْمَالِكِ وَالرَّادِّ أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقَدِّرُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالِاعْتِبَارِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (تُقْسَمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قول مُحَمَّدٍ) وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا (لَهُ أَرْبَعُونَ) وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُذْكَرْ قول أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مَعَ مُحَمَّدٍ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ) أَيْ قول ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ وَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُخَالَفَةِ مَنْ سِوَاهُمَا لِوُجُوبِ حَمْلِ قول مَنْ نَقَصَ مِنْهَا عَلَى مَا نَقَصَ مِنْ السَّفَرِ فَلَا يُنْتَقَصُ عَنْهَا (وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ) مِنْ إيجَابِ الْجُعْلِ (حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصَ) مِنْهُ (دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ) أَيْ فَائِدَةِ إيجَابِ الْجُعْلِ، وَتَعْيِينُ الدِّرْهَمِ لِأَنَّ مَا دُونَهُ كُسُورٌ (وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ) وَبِهِ تَحْيَا مَالِيَّتُهُ لَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهَا (وَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ) فَيَقَعُ رَدُّ حُرٍّ لَا مَمْلُوكٍ عَلَى مَالِكِهِ، وَهَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ كَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِيُعْتَقَ وَلَا جُعْلَ فِي رَدِّ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَفِيدُ بِرَدِّهِ مِلْكًا بَلْ اسْتَفَادَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ كَرَدِّ غَرِيمٍ لَهُ وَبِرَدِّ غَرِيمٍ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، بِخِلَافِ الْقِنِّ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ) لَهُ، وَقَيَّدَ فِي عِيَالِهِ إنْ رَجَعَ إلَى الرَّادِّ أَوْ إلَى الِابْنِ اقْتَضَى أَنْ يَتَقَيَّدَ نَفْيُ الْجُعْلِ إذَا كَانَ الرَّادُّ ابْنًا بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ: أَيْ فِي نَفَقَتِهِ وَتَمْوِينِهِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَوْجِبُ جُعْلًا سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِ أَبِيهِ الْمَالِكِ أَوْ لَا، وَجُمْلَةُ الْحَالِ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ وَلَدَ الْمَالِكِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْوَصِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ جُعْلًا مُطْلَقًا، أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّ الرَّادَّ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ وَبِاعْتِبَارِهِ يَجِبُ، وَكَالْأَجِيرِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ، وَالْأَبُ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِيَخْدُمَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ فَوَجَبَ مِنْ وَجْهٍ وَانْتَفَى مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ زَوْجًا فَالْقِيَاسُ يَجِبُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ عَبْدَ امْرَأَتِهِ تَبَرُّعًا فِي الْعُرْفِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَالثَّابِتُ عُرْفًا كَالثَّابِتِ نَصًّا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَةً فَلَا يَجِبُ لِهَذَا، وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِجِهَةِ الْخِدْمَةِ يَمْنَعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بَدَلَ الْخِدْمَةِ عَلَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ، وَلِذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِتَخْدُمَهُ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ؛ وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَإِنَّمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِرَدِّ عَبْدِ الْيَتِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِفْظِ، وَشَأْنُ الْوَصِيِّ أَنْ يَحْفَظَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَبِ وَبَاقِي الْأَقَارِبِ، فَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا يَجِبُ لَهُمْ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ وَجَبَ لَهُمْ لِأَنَّ الْعَادَةَ وَالْعُرْفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَطْلُبُ الْآبِقَ بِمَنْ فِي عِيَالِهِ فَكَانَ التَّبَرُّعُ مِنْهُمْ ثَابِتًا عُرْفًا وَهُوَ كَالثَّابِتِ نَصًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ حِينَئِذٍ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا عُرْفًا.
قولهُ: (وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّادِّ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: لَا شَيْءَ لَهُ أَيْ لَا جُعْلَ لِلرَّادِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ (وَكَذَا إذَا مَاتَ عِنْدَهُ) إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْجُعْلِ يَصِحُّ بِلَا شَرْطٍ لِأَنَّ الْجُعْلَ كَالثَّمَنِ وَالرَّادُّ كَالْبَائِعِ لِلْمَالِكِ، لِأَنَّهُ بِإِبَاقِهِ كَالْهَالِكِ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ جَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ، وَبِالرَّدِّ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِلْكَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ وَلِذَا كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ أَبَقَ وَهُوَ عَبْدٌ سَقَطَ الثَّمَنُ فَكَذَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ أَمَانَةً عِنْدَهُ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ إذَا قَالَ أَخَذْته لِأَرُدَّهُ، وَالْقول قولهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا، فَلَوْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ فَالْقول لَهُ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ظَهَرَ مِنْ الرَّدِّ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُهُ وَهُوَ إذْنُ الشَّارِعِ بِإِبَاقِهِ وَالْمَالِكُ مُنْكِرٌ، وَكَذَا لَا يَجِبُ الْجُعْلُ إذَا جَاءَ بِهِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ أَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى بِإِبَاقِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ) أَيْ رَآهُ قَبْلَ قَبْضِهِ (يَصِيرُ بِالْإِعْتَاقِ قَابِضًا) فَيَجِبُ الْجُعْلُ (كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى) إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَيَجِبُ الثَّمَنُ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ الرَّادِّ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِهِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا (لِسَلَامَةِ بَدَلِهِ) وَهُوَ الثَّمَنُ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِلرَّادِّ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ فَبَيْعُ الْمَالِكِ مِنْ الرَّادِّ قَبْلَ قَبْضِهِ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
أَجَابَ بِقولهِ (لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ) لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ) الْمُطْلَقِ (عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ).
وَأَوْرَدَ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْحُرُمَاتِ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ رِضَا الْمَالِكِ كَانَ الثَّابِتُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَقِيقَةً فَمَعَ عَدَمِ الرِّضَا الثَّابِتِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي أَخْذِ الْآبِقِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْآخِذِ (عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ حَتْمٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ تَسَاهُلٌ وَإِلَّا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بِقَصْدِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِاسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ وَلِسُقُوطِ الضَّمَانِ إنْ مَاتَ عِنْدَهُ أَوْ أَبَقَ (لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ) الرَّادُّ (مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ) مِنْهُ (فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الِاتِّهَابِ قَاصِدٌ لِتَمَلُّكِهِ ظَاهِرًا فَيَكُونُ غَاصِبًا فِي حَقِّ سَيِّدِهِ فَرَدَّهُ لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قولهِ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ وَرِثَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَكُونُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُهُ، فَإِذَا رَدَّهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْآخِذِ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَيْته لِأَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إلَّا بِشِرَائِهِ فَحِينَئِذٍ (يَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ) وَلَا يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ، وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّ بِالرَّدِّ حَيِيَتْ مَالِيَّتُهُ وَمَالِيَّتُهُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْهَا وَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ حَيِيَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِبَاقِ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ كَمَا بِالْمَوْتِ، وَبِالْعَوْدِ عَادَ الدَّيْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءً مِنْ مَالِيَّتِهِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ الشَّاةُ الْمَرْهُونَةُ فَدَبَغَ جِلْدَهَا فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ بِهِ (وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَمَوْتِهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الْجُعْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ (إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ) قُسِمَ الْجُعْلُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَمَا أَصَابَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَا بَقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ مَثَلًا الدَّيْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ثَلَاثُونَ وَعَلَى الرَّاهِنِ عَشَرَةٌ، وَصَارَ الْجُعْلُ كَثَمَنِ دَوَاءِ الرَّهْنِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ انْقَسَمَ انْقِسَامًا عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا) أَيْ إنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا فَلَحِقَهُ فِي التِّجَارَةِ دَيْنٌ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ وَاعْتَرَفَ بِهِ الْمَوْلَى فَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ الدَّيْنِ كَالْمَوْقُوفِ، إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى قَضَاءَ دَيْنِهِ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ اسْتَقَرَّ لَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ الْجُعْلُ فِي الثَّمَنِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّ قول الْمُصَنِّفِ (فَيَجِبُ) أَيْ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْمِلْكُ تَجُوزُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْعَبْدُ (جَانِيًا) أَيْ جَنَى خَطَأً فَلَمْ يَدْفَعْهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَفْدِهِ حَتَّى أَبَقَ فَرَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ يَكُونُ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ سَيَصِيرُ لَهُ إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى فِدَاءَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِمْ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا فَأَبَقَ ثُمَّ رُدَّ لَا جُعْلَ عَلَى أَحَدٍ، أَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ إنْ قَتَلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالرَّدِّ مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِالْعَفْوِ.
وَأَمَّا وَلِيُّ الْقِصَاصِ فَإِنْ قَتَلَ فَالْحَاصِلُ لَهُ التَّشَفِّي لَا الْمَالِيَّةُ، وَإِنْ عَفَا فَظَاهِرٌ (وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا) فَإِنْ أَبَقَ مِمَّنْ وَهَبَ لَهُ ثُمَّ رُدَّ (فَـ) الْجُعْلُ (عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ) سَوَاءٌ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ أَوْ لَا، أَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعْ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إنْ رَجَعَ بَعْدَ الْمَجِيءِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ لَكِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ رَدِّهِ مِمَّا يَمْنَعُ رُجُوعَهُ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ الرَّدِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْكَ آخِرُ جُزْأَيْ الْعِلَّةِ وَإِلَيْهَا يُضَافُ الْحُكْمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْكُلِّ لَا يَكُونُ بِالرَّدِّ وَحْدَهُ فَلَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ يُقَرِّرُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْآبِقُ (لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ (أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ، وَإِنْ رَدَّ وَصِيَّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَكَذَا الْيَتِيمُ يَعُولُهُ رَجُلٌ فَرَدَّ آبِقًا لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَبَرَّعَ لَهُ بِمُؤْنَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ لَا يَتَبَرَّعُ لَهُ بِمَا هُوَ دُونَهُ مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ التَّبَرُّعُ.
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: أَبَقَتْ أَمَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ لَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ ابْنُهَا قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ ثَمَانُونَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُرَاهِقْ لَمْ يُعْتَبَرْ آبِقًا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: لَوْ أَخَذَ آبِقًا فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ وَجَاءَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ وَأَخَذَ جُعْلَهُ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَخَذَهُ يَأْخُذُ الْجُعْلَ مِنْهُ ثَانِيًا وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ، وَلَوْ جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَمَّا دَخَلَ الْبَلَدَ أَبَقَ مِنْ الْأَخْذِ فَوَجَدَهُ آخَرُ فَرَدَّهُ إلَى سَيِّدِهِ، إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَالْجُعْلُ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ لِأَقَلَّ فَجَاءَ بِهِ لَا جُعْلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا جُعْلَ لِلسُّلْطَانِ وَالشِّحْنَةِ أَوْ الْخَفِيرِ فِي رَدِّ الْآبِقِ وَالْمَالِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لِأَخْذِهِمْ الْعَطَاءَ عَلَى ذَلِكَ وَنَصْبِهِمْ لَهُ.