فصل: فَصْلٌ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ:

(وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَاللَّفْظُ بِعُمُومِهِ يَنْتَظِمُ كُلَّ قَرَابَةٍ مُؤَيَّدَةٍ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وِلَادًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِهِ.
لَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ أَوْ لَا يَقْتَضِيه، وَالْأُخُوَّةُ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ أَوْ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكَاتُبُ عَلَى الْمَكَاتِبِ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ وَلَمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ، وَالْوِلَادُ مَلْغِيٌّ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحَرُمَ النِّكَاحُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ.
وَالْمَكَاتِبُ إذَا اشْتَرَى أَخَاهُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ يُقْدِرُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالِافْتِرَاضِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، بِخِلَافِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابَةِ فَامْتَنَعَ الْبَيْعُ فَيَعْتِقُ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ أَيْضًا وَهُوَ قولهُمَا قُلْنَا أَنْ نَمْنَعَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ ابْنَةَ عَمِّهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ مَا ثَبَتَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالصَّبِيُّ جُعِلَ أَهْلًا لِهَذَا الْعِتْقِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ حَتَّى عَتَقَ الْقَرِيبُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَشَابَهَ النَّفَقَةَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ:
أَعْقَبَ الْعِتْقَ الِاخْتِيَارِيَّ بِالِاضْطِرَارِيِّ.
قولهُ: (وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَبَبِ أَنَّ ضَمْرَةَ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَالَ: ضَمْرَةُ ثِقَةٌ، وَإِذَا أَسْنَدَ الْحَدِيثَ ثِقَةٌ فَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِهِ وَلَا إرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ وَلَا وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ، وَصَوَّبَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، وَمِمَّنْ وَثَّقَ ضَمْرَةَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» فَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: وَقَدْ شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إسْمَاعِيلَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا يَحْسِبُ حَمَّادٌ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ انْتَهَى.
وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ وَابْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الثِّقَةِ لَا يَضُرُّهُ إرْسَالُ غَيْرِهِ.
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَ أَخِيهِ مَمْلُوكَتَهُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَوْلَادَهَا فَأَتَى ابْنُ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي زَوَّجَنِي وَلِيدَتَهُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لِي أَوْلَادًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ وَلَدِي، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَذَبَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْتُ السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْتُهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْتَقَهُ».
قولهُ: (وَالشَّافِعِيُّ إلَخْ) وَبِقولنَا قَالَ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ أَنَّهُ قول أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَفِي الْغَايَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادُ وَالْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَاللَّيْثُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ وَإِسْحَاقُ وَالظَّاهِرِيَّةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتِقُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لَا غَيْرُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ قَالَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ: إذَا مَلَكَ قَرِيبَهُ لَا يَعْتِقُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ لِظَاهِرِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَبْقَ لِقولهِ فَيُعْتِقَهُ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَلَا تَمْنَعُ بَقَاءَهُ.
وَلَنَا قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ثَبَتَ بِهِ أَنَّ الِابْنِيَّةَ تُنَافِي الْعَبْدِيَّةَ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الِابْنِيَّةُ انْتَفَتْ الْعَبْدِيَّةُ وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَالتَّعْقِيبُ حَاصِلٌ إذْ الْعِتْقُ يَعْقُبُ الشِّرَاءَ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِهِ لِاسْتِعْقَابِ الْبَيْنُونَةِ قولهُ: (لَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ) فِي الْوِلَادِ (يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ) عَلَى غَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ الْعَبِيدِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضًا وَاخْتِيَارٍ (أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ) الْقِيَاسُ وَلَا يَنْفِيهِ وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْوِلَادِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَالْأُخُوَّةُ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ: أَيْ إلْحَاقُ غَيْرِ الْوِلَادِ بِالْوِلَادِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ: أَيْ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ، بَلْ يَجِبُ الْإِلْحَاقُ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنْ الْقَرَابَاتِ، فَالْقَرَابَاتُ ثَلَاثٌ وِلَادٌ وَغَيْرُهُ مَعَ الْمَحْرَمِيَّةِ وَعَدَمِهَا كَأَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَأَبْنَاءِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ.
وَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ قَرَابَتَيْ الْوِلَادِ وَغَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَهُوَ بِالثَّانِي أَشْبَهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ قَرَابَةُ مُجَاوِرَةٍ فِي الرَّحِمِ، وَقَرَابَةُ الْوِلَادِ قَرَابَةٌ بَعْضِيَّةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّا رَأَيْنَا أَحْكَامَهُمْ مُتَّحِدَةٌ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَوَدِ وَحِلِّ الْحَلِيلَةِ وَامْتِنَاعِ التَّكَاتُبِ فَكَذَا فِي هَذَا الْحُكْمِ.
قولهُ: (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) فَيَضْمَحِلُّ مَعَهُ جَمِيعُ الْمَعَانِي الْمُعَيَّنَةِ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ بَلْ دَلَالَةُ النَّصِّ تَقْرِيرُهُ (مِلْكُ قَرِيبِهِ قَرَابَةً مُؤْثَرَةٍ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ) كَمَا فِي الْوِلَادِ (وَهَذَا) أَعْنِي كَوْنُهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ. وَهُوَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ: يَعْنِي هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فِيهِ وَالْوِلَادُ مَلْغِيٌّ، وَلَوْ سُلِّمَ فَغَايَةُ مَا صَنَعَ أَنَّهُ أَرَانَا عَدَمَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُعَلِّلَ الْأَصْلَ بِأُخْرَى مُتَعَدِّيَةٍ إلَى مَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ تِلْكَ وَهِيَ مَا عَيَّنَّاهُ مِنْ الْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ لِأَنَّهَا قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ دَفْعُ مِلْكِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى الذِّلَّتَيْنِ، فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي دَفْعِ أَعْلَاهُمَا وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ أَوْلَى، وَهَذَا الْمَسْلَكُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ هُوَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ وَالنَّصُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ لِمَا عُرِفَ، وَهَذَا يُفِيدُ إلْغَاءَ مَا عَيَّنَهُ، وَقول الْمُصَنِّفِ (حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ) إلْزَامٌ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ لَكِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ قولهُ تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ خِلَافُهُ وَكَأَنَّهُ ثَابِتٌ اتِّفَاقًا، وَقولهُمْ إنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثِقَةِ الرُّوَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى الِانْفِرَادِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَصِلُ وَكَثِيرًا مَا يُرْسِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاسِطَةٍ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْوَاسِطَةَ مَرَّةً وَتَرَكَ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا كَانَ مِنْ الْمُرْسَلِ الْمَقْبُولِ.
أَمَّا عَلَى قول الْجُمْهُورِ وَهُوَ قولنَا وَقول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيُقْبَلُ بِلَا شَرْطٍ بَعْدَ صِحَّةِ السَّنَدِ وَقَدْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ.
وَأَمَّا عَلَى قول الشَّافِعِيِّ فَيُقْبَلُ إذَا عَمِلَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَفْقِهِ، وَأَنْتَ سَمِعْت أَنَّ الثَّابِتَ قول بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ، فَثَبَتَ بِهَذَا مُشَارَكَةُ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِلْوِلَادِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنْ شَارَكُوا غَيْرَ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ اعْتِبَارُهُمْ بِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إلْحَاقٌ بِالْأَشْبَهِيَّةِ وَلَا أَثَرَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا عِنْدَهُ فَالْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْهُ فَكَيْفَ مَعَ النَّصِّ عَلَى نَفْسِ حُكْمِ الْفَرْعِ.
قولهُ: (وَالِافْتِرَاضُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ لِعَدَمِ التَّكَاتُبِ فَقَالَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الشَّرْعُ افْتِرَاضُ الْوَصْلِ، وَالِافْتِرَاضُ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ قَائِمَةٌ بِالْحُرِّ وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَالْكِتَابَةُ نَوْعُ إعْتَاقٍ فَلَيْسَ كِتَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ مِمَّا تَنْتَظِمُ كِتَابَتُهُ، بِخِلَافِ كِتَابَةِ الْوِلَادِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِ الْجُزْئِيَّةِ قَائِمَةً يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَرِدُ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، عَلَى أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ وَهُوَ قولهُمَا فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِهِمَا فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ نَفْسِهِ وَشَهَادَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْتَفٍ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ.
قولهُ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ الْمَحْرَمِيَّةُ وَقَيَّدَ بِقولهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْ مَلَكَ قَرِيبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمَ قَرِيبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ذُكِرَ الْخِلَافُ فِي الْإِيضَاحِ.
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ عِتْقُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَرِيبَهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا.
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ وَخَلَّاهُ قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِ: يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَقَالَ: لَا وَلَاءَ لَهُ، لَكِنَّ عِتْقَهُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْإِعْتَاقِ فَهُوَ كَالْمُرَاغَمِ ثُمَّ قَالَ: الْمُسْلِمُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى عَبْدًا حَرْبِيًّا فَأَعْتَقَهُ ثَمَّةَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ بِدُونِ التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَا وَلَاءَ لَهُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْوَلَاءُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَذَكَرَ قول مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَعَلَى هَذَا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْإِيضَاحِ أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْلِمِ ثَمَّةَ الَّذِي نَشَأَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُنَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ دَاخِلٌ هُنَاكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ هُنَا فَلِذَا لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِعِلَّةِ الْقَرَابَةِ الْمُورِثَةِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلصَّنَمِ عَتَقَ) لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَوَصْفُ الْقُرْبَةِ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ فَلَا يَخْتَلُّ الْعِتْقُ بِعَدَمِهِ فِي اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
(وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ) لِصُدُورِ الرُّكْنِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ) فِي الْمُكْرَهِ خِلَافَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُزِيلُ إلَّا الرِّضَا وَالْعِتْقُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَلِذَا جَازَ عِتْقُ الْهَازِلِ.
وَفِي السَّكْرَانِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مِلْكٍ أَوْ شَرْطٍ صَحَّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ) أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَيُجْرَى فِيهِ التَّعْلِيقُ بِخِلَافِ التَّمْلِيكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ) كَمَا يَقول: إنْ مَلَكْتُك أَوْ مَلَكْت عَبْدًا وَنَحْوَهُ فَهُوَ حُرٌّ (فَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) أَيْ وَحْدَهُ، فَإِنَّ مَالِكًا يُوَافِقُنَا فِيهِ وَكَذَا عَنْ أَحْمَدَ.
وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ إذْ لَمْ يُجَوِّزْ إضَافَتَهُ إلَى الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأَنَّ الْعِتْقَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ.
وَعِنْدَنَا الْمُصَحَّحُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمْ يَفْتَرِقَا فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (فَيَجْرِي فِيهِ التَّعْلِيقُ) لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ بَقَاءُ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ؛ فَعِنْدَنَا زَوَالُ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ وَعِنْدَهُ يُبْطِلُهُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى انْعِقَادِ الْمُعَلَّقِ سَبَبًا فِي الْحَالِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ حِينَ خَرَجُوا إلَيْهِ مُسْلِمِينَ «هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى» وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا اسْتِرْقَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ) سَوَاءٌ خَرَجَ سَيِّدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا أَوْ لَا.
وَقُيِّدَ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَعْتِقْ، وَبِقولنَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا خَرَجَ سَيِّدُهُ مُسْلِمًا يُرَدُّ إلَيْهِ.
وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ: إذَا أَسْلَمَ عَتَقَ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ.
وَأَوْرَدَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَيْهِ أَنَّ سَلْمَانَ أَسْلَمَ وَسَيِّدُهُ كَافِرٌ وَلَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ.
ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِهَذَا إلَّا لِعِتْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسْلِمًا مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ وَهِيَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِدَهْرٍ.
وَبِدَعْوَى نَسْخِ تَمَلُّكِ الْكَافِرِ لِلْمُؤْمِنِ بِقولهِ تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَا شَكَّ فِي اتِّجَاهِ الْإِيرَادِ وَهُوَ مِمَّا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَنَا.
وَفِي الْجَوَابِ مَا لَا يَخْفَى.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَادِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُد قَالَ: «خَرَجَ عِبْدَانُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ، فَقَالَ مَوَالِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهِ مَا خَرَجُوا رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ، فَقَالَ نَاسٌ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَا أَرَاكُمْ تَنْتَهُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ وَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي جَمَاعَةً مِنْ الْعَبِيدِ خَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا أَبُو بَكْرَةَ وَوَرْدَانُ وَالْمُنْبَعِثُ وَالْأَزْرَقُ وَمُحْسِنُ النِّبَالُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَيَسَارٌ وَنَافِعٌ وَمَرْزُوقٌ، كُلُّ هَؤُلَاءِ أَعْتَقَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلَّمُوا فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يُرَدُّوا إلَى الرِّقِّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّهُ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ الطَّائِفِ بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ الْعُتَقَاءُ».
وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد: «فَلَمَّا أَسْلَمَ مَوَالِيهِمْ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَاءَ إلَيْهِمْ» وَفِيهِ مَجْهُولٌ.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا وَقَال: «ثُمَّ وَفَدَ أَهْلُ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّ عَلَيْنَا رَقِيقَنَا الَّذِينَ أَتَوْكَ فَقَالَ: لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ وَرَدَّ إلَى كُلِّ رَجُلٍ وَلَاءَ عَبْدِهِ» قولهُ (ابْتِدَاءً) احْتِرَازٌ عَنْ بَقَاءِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِطَرِيقِهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا تَبَعًا لَهَا) إذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا (وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ خَاصَّةً عَتَقَ دُونَهَا) لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إعْتَاقِهَا مَقْصُودًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَلَا إلَيْهِ تَبَعًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ صَحِيحٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ نَفْسَهُ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجَنِينِ وَشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِعْتَاقِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (عَتَقَ حَمْلَهَا) بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ لَا يَصِحُّ كَاسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنْهَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ، وَقولهُمْ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ فَأَعْتَقْت لَا يَعْتِقُ هُوَ لِأَنَّهُ كَالْمُنْفَصِلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ.
وَلَوْ مَاتَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَرِثَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ الْأَكْثَرِ.
قولهُ: (ثُمَّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ صَحِيحٌ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ عِتْقَ الْجَنِينِ دُونَ أُمِّهِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ بَلْ قَبْلَهُ وَتَعْتِقُ أُمُّهُ تَبَعًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأُمِّ إذَا عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا وَيَجُوزُ هِبَتُهَا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَا فِي بَطْنِهَا عِنْدَ بَيْعِهَا لَا يَجُوزُ قَصْدًا فَكَذَا حُكْمًا بِخِلَافِ الْهِبَةِ.
قولهُ: (لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ) وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ الْعِتْقَ بِوَلَدِهَا ثُمَّ عِتْقُهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَبِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا إنَّمَا يُرَدُّ نَقْضًا لَوْ كَانَ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ تَبَعًا لِعِتْقِ ابْنِهَا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ هُوَ فَرْعُ عِتْقِهِ وَهُوَ فَرْعُ سَابِقِيَّةِ رِقِّهِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُعَلِّقُ حُرًّا فَلَا يُرَدُّ نَقْضًا أَصْلًا لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهُ خَرَجَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَسَنَذْكُرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْتِقُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ أَعْتَقَهُ.
قولهُ: (وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى التَّسْلِيمِ فَلِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْآبِقِ وَيَجُوزُ عِتْقُهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ عَلَى مَالٍ صَحَّ) وَلَا يَجِبُ الْمَالُ إذْ لَا وَجْهَ إلَى إلْزَامِ الْمَالِ عَلَى الْجَنِينِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا إلَى إلْزَامِهِ الْأُمَّ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ، وَاشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتِقِ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَبَلِ وَقْتَ الْعِتْقِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ (عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ) الْحَوَالَةُ غَيْرُ رَائِجَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْخُلْعِ حَيْثُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَدَلِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى مَالِ مُعَاوَضَةٍ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدُ بِهِ نَفْسَهُ وَتَحْدُثُ لَهَا الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَذَلِكَ أَيْ شَيْءٌ نَفِيسٌ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ إلَّا عَلَى مَنْ يُسَلَّمُ لَهُ الْمُعَوَّضُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَا تَحْدُثُ لَهَا قُوَّةٌ بِهِ وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثَابِتًا لَهَا قَبْلَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهَا جَازَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجَنِينِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، فَلِذَا لَوْ قَالَ لِلْأَمَةِ أَعْتَقْتُ مَا فِي بَطْنِك عَلَى أَلْفٍ عَلَيْك فَقَبِلَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ عَتَقَ بِلَا شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى أَمَتِهِ شَيْءٌ بِسَبَبِ غَيْرِهَا.
قولهُ: (لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ، فَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا تَوْأَمَيْنِ جَاءَتْ بِأَوَّلِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِالثَّانِي لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَمَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ حِينَئِذٍ فَيَعْتِقُ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِوُجُودِهِ حِينَ أَعْتَقَهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَعَلَى هَذَا فَرْعُ مَا لَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ ثُمَّ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، إنْ ضَرَبَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَجِبُ دِيَةُ الْجَنِينِ لِأَبِيهِ إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ حُرٌّ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكُونُ لِعُصْبَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى قَاتِلٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ، وَإِنْ ضَرَبَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ كَذَا ذُكِرَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَوَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ) لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ) التَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَعْلَقُ حُرًّا لَا أَنَّهُ يَعْلَقُ مَمْلُوكًا ثُمَّ يَعْتِقُ كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا حُرًّا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْوَلَدُ يَعْلَقُ حُرًّا مِنْ الْمَاءَيْنِ لِأَنَّ مَاءَهُ حُرٌّ وَمَاءَ جَارِيَتِهِ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ، بِخِلَافِ ابْنِهِ مِنْ جَارِيَةِ الْغَيْرِ فَإِنَّ مَاءَهَا مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهَا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَلِذَا لَا يَنْتَفِي عَنْهَا بِحَالٍ وَقَدْ يَنْتَفِي عَنْ الْأَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِالزِّنَا وَبَعْدَ الْمُلَاعَنَةِ حَتَّى يَتَوَارَثَانِ دُونَ الْأَبِ فَكَانَ مَاؤُهَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَوْ لِاسْتِهْلَاكِ مَائِهِ بِمَائِهَا لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَزْدَادُ قُوَّةً مِنْهَا لِأَمَتِهِ، أَوْ تَرَجَّحَ بِالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ أَوْ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى قَدْ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِهَا وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِرِقِّ الْوَلَدِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِرِقِّهَا وَفِي هَذَا إجْمَاعٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هَاشِمِيًّا كَانَ وَلَدُهُ هَاشِمِيًّا مَرْقُوقًا، بِخِلَافِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَلِذَا قُلْنَا: يَعْلَقُ حُرًّا فِي حَقِّهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ.

متن الهداية:
(وَوَلَدُهَا مِنْ زَوْجِهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا) لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْأُمِّ بِاعْتِبَارِ الْحَضَانَةِ أَوْ لِاسْتِهْلَاكِ مَائِهِ بِمَائِهَا وَالْمُنَافَاةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِأَنَّ الْوَالِدَ مَا رَضِيَ بِهِ.
(وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ) لِأَنَّ جَانِبَهَا رَاجِحٌ فَيَتَّبِعُهَا فِي وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يَتَّبِعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية وَالتَّدْبِيرِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالْكِتَابَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية) أَوْرَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِيُفِيدَ تَغَايُرَ مَفْهُومَيْهِمَا، فَالرِّقُّ هُوَ الذُّلُّ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ جَزَاءَ اسْتِنْكَافِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمِلْكُ هُوَ تَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعُ سَلْبِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ حَقُّهُ، فَأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ الْأَسِيرُ يُوصَفُ بِالرِّقِّ لَا الْمَمْلُوكِيَّةِ حَتَّى يُحْرَزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْمِلْكُ عَامٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالرِّقُّ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ، وَبِالْبَيْعِ يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ وَلَا يَزُولُ الرِّقُّ، وَبِالْعِتْقِ يَزُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا.
لَكِنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ قَصْدًا ثُمَّ يُتْبِعُهُ الرِّقُّ ضَرُورَةً فَرَاغَهُ بِذَلِكَ الزَّوَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِرَقَبَتِهِ فَبَيَّنَ بِهِمَا أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَلِذَا إذَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالْحِمَارِ الْإِنْسِيِّ مَعَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ يُؤْكَلُ، وَإِذَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْوَحْشِ وَالْإِنْسِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ يَنْزُو عَلَيْهَا حِمَارُ وَحْشٍ يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ، وَلِاخْتِلَافِ مَفْهُومَيْهِمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْكَمْيَّةِ فِي شَخْصٍ فَهُمَا كَامِلَانِ فِي الْقِنِّ.
وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ نَاقِصٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ عِتْقُهُمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ وَالْمِلْكُ فِيهِمَا كَامِلٌ.
وَالْمُكَاتَبُ عَكْسُهُ رِقُّهُ كَامِلٌ حَتَّى جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَمِلْكُهُ نَاقِصٌ حَتَّى خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قولهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ.
وَمَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ فَكَيْفَ يَقْبَلُ النُّقْصَانَ يَنْدَفِعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِنُقْصَانِ الرِّقِّ نُقْصَانُ حَالِهِ لَا نُقْصَانُ ذَاتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَحُكْمِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَفِي النَّسَبِ يَتْبَعُ الْأَبَ وَفِي الدِّينِ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ:

(وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ) عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: (يَعْتِقُ كُلُّهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِضَافَتُهُ إلَى الْبَعْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْكُلِّ فَلِهَذَا يَعْتِقُ كُلُّهُ.
لَهُمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَإِثْبَاتُهَا بِإِزَالَةِ ضِدِّهَا وَهُوَ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ وَهُمَا لَا يَتَجَزَّآنِ فَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، أَوْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ وَالرِّقَّ حَقُّ الشَّرْعِ أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ.
وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُوَ إزَالَةُ حَقِّهِ لَا حَقِّ غَيْرِهِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضَافَةِ وَالتَّعَدِّي إلَى مَا وَرَاءَهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجْزِيءِ، وَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَتَجِبُ السِّعَايَةُ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّةِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْبَعْضِ تُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِيَّةِ فِي كُلِّهِ، وَبَقَاءُ الْمِلْكِ فِي بَعْضِهِ يَمْنَعُهُ، فَعَمِلْنَا بِالدَّلِيلَيْنِ بِإِنْزَالِهِ مُكَاتَبًا إذْ هُوَ مَالِكُ يَدٍ إلَّا رَقَبَةً، وَالسِّعَايَةُ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ.
وَلَهُ خِيَارُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا إلَى أَحَدٍ فَلَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَقْصُودَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً، فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمُحَرَّمِ، وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْقِنَّةِ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَكَمُلَ الِاسْتِيلَادُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ) لَا شَكَّ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ عِتْقِ الْكُلِّ وَنُدْرَةِ عِتْقِ الْبَعْضِ، وَفِي أَنَّ مَا كَثُرَ وُجُودُهُ فَالْحَاجَةُ إلَى بَيَانِ أَحْكَامِهِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَى مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ، وَأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ الْمَاسَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّادِرَةِ فَلِذَا أَخَّرَ هَذَا عَمَّا قَبْلَهُ.
قولهُ: (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْحَالِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ فَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ.
ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ السِّعَايَةِ فَعَلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ تَنْفُذُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا إذَا عَيَّنَ مِقْدَارًا كَرُبْعِك حُرٌّ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ قَالَ بَعْضُك حُرٌّ أَوْ جُزْءٌ مِنْك أَوْ شِقْصٌ أُمِرَ بِالْبَيَانِ، وَلَوْ قَالَ: سَهْمٌ مِنْك حُرٌّ فَقِيَاسُهُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْتِقَ سُدُسَهُ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالسَّهْمِ مِنْ عَبْدِهِ فَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ.
وَقولهُ: عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ تَعْبِيرٌ بِالْعِتْقِ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا عَنْ زَوَالِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَقِيقٌ كُلُّهُ بِخِلَافِهِ فِي قول الْمُصَنِّفِ، وَقَالَا: يَعْتِقُ كُلُّهُ فَإِنَّهُ عَنْ زَوَالِ الرِّقِّ: أَيْ وَقَالَا يَزُولُ الرِّقُّ عَنْهُ كُلُّهُ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدُ: وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ: وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ: يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا أَوْ كَانَ لِشَرِيكَيْنِ وَالْمُعْتَقُ مُوسِرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ لِشَرِيكَيْنِ وَالْمُعْتَقُ مُعْسِرٌ فَيَبْقَى مِلْكُ السَّاكِتِ كَمَا كَانَ حَتَّى جَازَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ وَالْمُرَادُ مِنْ تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ تَجْزِيءُ الْمَحَلِّ فِي قَبُولِ حُكْمِهِ فَيَثْبُتُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي التَّجْزِيءِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْقَائِلَ الْعِتْقُ أَوْ الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ لَمْ يُرِدْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ بِهِ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ زَوَالُ الرِّقِّ أَوْ إزَالَتُهُ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَجْزِيئِهِ بَلْ زَوَالُ الْمِلْكِ أَوْ إزَالَتُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي تَجْزِيئِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: اُخْتُلِفَ فِي تَجْزِيءِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ أَوْ الْإِعْتَاقِ، بَلْ الْخِلَافُ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ إلَّا فِيمَا يُوجِبُهُ الْإِعْتَاقُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، فَعِنْدَهُ زَوَالُ الْمِلْكِ وَيَتْبَعُهُ زَوَالُ الرِّقِّ فَلَزِمَ تَجْزِيءُ مُوجَبِهِ، غَيْرَ أَنَّ زَوَالَ الرِّقِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْكُلِّ شَرْعًا كَحُكْمِ الْحَدَثِ لَا يَزُولُ إلَّا عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ الْأَعْضَاءِ وَغَسْلُهَا مُتَجَزِّئٌ، وَهَذَا لِضَرُورَةِ أَنَّ الْعِتْقَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ هِيَ قُدْرَةٌ عَلَى تَصَرُّفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْوِلَايَاتِ كَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ بِنِيَّتِهِ وَنَفْسِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ هَذِهِ فِي بَعْضِهِ شَائِعًا فَقَطَعَ بِعَدَمِ تَجْزِيئِهِ وَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ قَطْعًا.
فَلَزِمَ مَا قُلْنَا مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْبَعْضِ، وَتَوَقَّفَ زَوَالُ الرِّقِّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْبَاقِي، وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَوَّلًا زَوَالُ الْمِلْكِ أَوْ الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَالْوَجْهُ مُنْتَهِضٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ.
أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى حَقِّهِ وَحَقُّهُ الْمِلْكُ، أَمَّا الرِّقُّ فَحَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَلْزَمُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِعْتَاقِ زَوَالُ الْمِلْكِ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ الرِّقُّ شَرْعًا اتِّفَاقًا إذَا زَالَ لَا إلَى مَالِكٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُسَمَّى إعْتَاقًا وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ إعْتَاقًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِتْقِ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ كَيْفَمَا كَانَ.
وَأَمَّا السَّمْعُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» أَفَادَ تَصَوُّرُ عِتْقِ الْبَعْضِ فَقَطْ.
وَقول أَيُّوبَ: لَا نَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ أَوْ هُوَ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ لَا يَضُرُّ، إذْ الظَّاهِرُ بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّهُ مِنْهُ، إذْ لَا يَجُوزُ إدْرَاجُ مِثْلِ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ قَاطِعٍ فِي إفَادَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُوجِبْ فِي الْحَدِيثِ عِلَّةً قَادِحَةً، وَكَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتَسْعَى بِهِ غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ»، أَيْ لَا يُغْلِي عَلَيْهِ الثَّمَنَ، أَفَادَ عَدَمَ سِرَايَةِ الْعِتْقِ إلَى الْكُلِّ بِمُجَرَّدِ عِتْقِ الْبَعْضِ وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ خَلَصَ قَبْلَ تَخْلِيصِ الْمُعْتَقِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ فَهُوَ عَتِيقٌ» وَفِي لَفْظٍ «فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ» فَإِنَّمَا يَقْتَضِي عِتْقُ كُلِّهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَتَهُ، وَلَيْسَ مُدَّعَاهُمَا ذَلِكَ بَلْ إنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ بِمُجَرَّدِ إعْتَاقِ بَعْضِهِ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَا، فَقَدْ أَفَادَتْ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَقْتَصِرُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ السِّرَايَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقًا لِلْكُلِّ وَإِتْلَافًا لَهُ لَضَمِنَ مُطْلَقًا، كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ بِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ السِّعَايَةَ تَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ، وَحَيْثُ ثَبَتَ الِاقْتِصَارُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِتْقِ فِي قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» زَوَالَ الْمِلْكِ، وَكَذَا يَلْزَمُ فِي قول كُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْقول بِتَجْزِيئِهِ كَالْحَسَنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، بِخِلَافِ مَا قِيلَ: إنَّ قول عُمَرَ قولهُمَا فَقَدْ أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ لَنَا غُلَامٌ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ فَأَبْلَى فِيهَا، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أُمِّي وَأَخِي الْأَسْوَدِ فَأَرَادُوا عِتْقَهُ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا، فَذَكَرَ الْأَسْوَدُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَعْتِقُوا أَنْتُمْ، فَإِذَا بَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبْتُمْ فِيهِ أَعْتَقَ وَإِلَّا ضَمَّنَكُمْ.
أَثْبَتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ بُلُوغِهِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ إعْتَاقُهُمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَتَجَزَّأُ زَوَالًا عِنْدَ أَحَدٍ فَلَزِمَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ أَنَّ النَّازِلَ بِالْإِعْتَاقِ بِالذَّاتِ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَزِمَ فِي إعْتَاقِ بَعْضِ الْعَبْدِ الْخَاصِّ بِهِ أَنْ يَعْتِقَ ذَلِكَ الْقَدْرِ: أَيْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ وَيَبْقَى كَمَالُ الرِّقِّ فِيهِ كُلِّهِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا زَالَ بِالْإِعْتَاقِ هُوَ الْمِلْكُ وَالرِّقُّ ثَابِتٌ فِي كُلِّهِ وَلَازَمَهُ شَرْعًا أَنْ لَا يَبْقَى فِي الرِّقِّ لَزِمَ أَنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي بَاقِي قِيمَتِهِ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّةِ الْبَاقِي عِنْدَهُ، وَمَا لَمْ يُؤَدَّ السِّعَايَةُ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عِتْقُ كُلِّهِ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ، وَكَوْنُهُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَدَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ وَلَا اسْتِخْدَامَ وَكَوْنُهُ رَقِيقًا كُلَّهُ إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ لَا يُرَدُّ إلَى الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى زَالَ الْمِلْكُ عَنْ بَعْضِهِ لَا إلَى مَالِك صَدَقَةٍ عَلَيْهِ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَالُ ضَرُورَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ تَضْمِينُهُ قَسْرًا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ عِتْقَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ بِاخْتِيَارِهِ يُقَالُ وَيُفْسَخُ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ، وَعَلَى هَذَا مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ ثُمَّ وَلَدَتْ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ الْقِيمَةَ عَنْ نَصِيبِهِ يَوْمَ أَعْتَقَ وَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً حِينَ وَلَدَتْ وَالْمُكَاتَبَةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا كَمَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمُكَاتَبِ لِهَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ وَجْهِ الشَّبَهِ فِيهِ، وَإِذَا تَحَقَّقْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ إلْحَاقِهِمْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ إلْحَاقُ إزَالَةِ الرِّقِّ بِهَا فِي عَدَمِ التَّجْزِيءِ فَغَيْرُ مَحَلَّ الْخِلَافِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لَا يَتَجَزَّأُ زَوَالًا أَوْ إلْحَاقَ إزَالَةِ الْمِلْكِ بِهَا فِيهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ لَا يَقولونَ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنْ يُجْعَلَ إلْحَاقًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ فِي عَدَمِ التَّجْزِيءِ بِأَنْ يَتَنَزَّلَ وَيَدَّعِي أَنَّ الْمُتَجَزِّئَ زَوَالُ الْمِلْكِ إلَى مَالِكٍ لَا إلَى غَيْرِ مَالِكٍ إلْحَاقًا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ فِي الطَّلَاقِ زَوَالَ مِلْكٍ لَا إلَى مَالِكٍ وَفِي الْعَفْوِ زَوَالُ حَقٍّ لَا إلَى مُسْتَحَقٍّ آخَرَ وَالِاسْتِيلَادُ زَوَالُ مِلْكٍ كَذَلِكَ: أَعْنِي مَالِكَ بَيْعِهَا وَهِبَتِهَا.
وَالْجَوَابُ أَوَّلًا أَنَّهُ إلْحَاقٌ بِلَا جَامِعٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّجْزِيءِ فِي الْأُصُولِ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ، إذْ لَا يُمْكِنُ نِصْفُ الْمَرْأَةِ مَنْكُوحَةً وَنِصْفُهَا مُطَلَّقَةً، وَلَا نِصْفُهَا مُسْتَوْلَدًا وَنِصْفُهَا لَا، وَلَا إسْقَاطُ نِصْفِ حَقِّ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ بِثُبُوتِ حَقِّهِ لَا نِصْفِهِ، فَمَعَهُ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ مَعْنَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ عَدَمُ التَّجْزِيءِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ لَا إلَى مَالِكٍ، بَلْ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الزَّوَالِ إلَى مَالِكٍ أَوَّلًا إلَيْهِ، بِخِلَافِ زَوَالِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قول الْمُصَنِّفِ: وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً: أَيْ لَيْسَ فِيهِمَا إلَّا زَوَالُ كِلَيْهِمَا أَوْ بَقَاؤُهُمَا، (فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ) أَيْ فَأَثْبَتْنَا زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمُحَرَّمِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِمَا مُوجِبُ الْحُرْمَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَفْوُ وَمُوجِبُ الْحِلِّ وَهُوَ عَدَمُ اتِّصَافِ الْبَعْضِ بِهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَمُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلِدُ تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ عَتَقَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا كَمُلَ فِي الْقِنَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ الِاسْتِيلَادِ فَصَارَ مُسْتَوْلِدًا جَارِيَةَ نَفْسِهِ فَثَبَتَ عَدَمُ التَّجْزِيءِ ضَرُورَةً.
(وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ)، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ) أَيْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ (فَإِنْ كَانَ) الْمُعْتِقُ (مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ) مُنْجَزًا أَوْ مُضَافًا، وَيَنْبَغِي إذَا أَضَافَهُ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُ إضَافَتُهُ إلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّدْبِيرِ مَعْنًى، وَلَوْ دَبَّرَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الْحَالِ فَيَعْتِقُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مُدَّةٍ تُشَاكِلُ مُدَّةَ الِاسْتِسْعَاءِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ) قِيمَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَهُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) فِيهَا.

متن الهداية:
فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ (وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْإِعْتَاقِ وَالسِّعَايَةِ (وَهَذَا) كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ خَمْسَ خِيَارَاتٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَأَنْ يُدْبِرَهُ وَعَلِمْتَ حُكْمَهُ أَنْ يُسْتَسْعَى وَأَنْ يُكَاتِبَهُ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ، وَلَوْ عَجَزَ اسْتَسْعَى، وَلَوْ امْتَنَعَ الْعَبْدُ عَنْ السِّعَايَةِ يُؤَاجِرُهُ جَبْرًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ فِي مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ السِّعَايَةَ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْأَكْثَرُ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى عِوَضٍ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عُرُوضٍ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ، وَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ صَبِيًّا وَالْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَالْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالسِّعَايَةِ لِوَلِيِّهِ، وَالتَّضْمِينُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْظَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ اُنْتُظِرَ بُلُوغُهُ لِيَخْتَارَ.
قِيلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ نَصَّبَ الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا لِيَخْتَارَ التَّضْمِينَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَالِ الصَّبِيِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّبِيِّ مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَيْسَ لَهُمَا إلَّا التَّضْمِينُ أَوْ الِاسْتِسْعَاءُ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَاتَبَ وَالِاسْتِسْعَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتَبَ، وَلَكِنْ قَالَ: سَبَبُ الِاسْتِسْعَاءِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ عِتْقُ الشَّرِيكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاسْتِسْعَاءُ أَنْفَعُ مِنْ التَّضْمِينِ فَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ ابْتِدَاءً.
وَإِذَا اخْتَارَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ التَّضْمِينَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَوَلَاءُ نَصِيبِهِمَا لِمَوْلَاهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَقْدِيرُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ صَحِيحًا ثُمَّ عَمِيَ يَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ صَحِيحًا، وَقَلْبُهُ لَوْ كَانَ أَعْمَى يَوْمَ الْعِتْقِ فَانْجَلَى بَيَاضُ عَيْنَيْهِ يَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَعْمَى لِأَنَّهُ حَالُ ثُبُوتِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَكَذَا يُعْتَبَرُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَقْتَ الْعِتْقِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْعِتْقِ فَأَعْسَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَيْسَرَ لَا ضَمَانَ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا نَظَرَ إلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ حَتَّى إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى الْعِتْقِ فِيمَا مَضَى يُقَوَّمُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ فَيُحَالُ عَلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ، وَلَوْ تَصَادَقُوا عَلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَاخْتَلَفُوا فِي قِيمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالْقول قول الْمُعْتِقِ كَالْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ وَيُنْكِرُ الزِّيَادَةَ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْتُ وَأَنَا مُعْسِرٌ وَقَالَ الشَّرِيكُ بَلْ وَأَنْتَ مُوسِرٌ، نُظِرَ إلَى الِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ إمَّا لِأَنَّهُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ فِي الْحَالِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا مَضَى يَحْكُمُ الْحَالُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ مُوسِرًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْيَسَارَ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْعُسْرَةَ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ كَالْمُسْتَأْجَرِ مَعَ رَبِّ الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ يَحْكُمُ الْحَالُ.
وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِيهِ فَالْقول قول الْمُعْتِقِ فِي إنْكَارِ يَسَارِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ أَعْتَقَهُ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ ضَمَانَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ وَيَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ رَضِيَ بِهِ الْمُعْتِقُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَهُ.
قِيلَ: مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْإِطْلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَقِيلَ بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ مَاتَ السَّاكِتُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْخِيَارِ مَا كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا تَوْرِيثَ الْخِيَارِ بَلْ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ الْخِيَارَ لِلْمُوَرِّثِ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُعْتَقَ، فَإِنْ ضَمَّنُوهُ فَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ إلَيْهِمْ يَمْلِكُ نَصِيبَهُمْ كَمَا كَانَ يَتَمَلَّكُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ اخْتَارُوا الْإِعْتَاقَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَالْوَلَاءُ فِي هَذَا النَّصِيبِ لِلذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَيِّتِ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يُورَثُ عَيْنُهُ وَإِنَّمَا يُورَثُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَيَعْتِقُ نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَلَاءُ يَكُونُ لَهُ فَيَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ الْإِنَاثِ إذْ الْوَلَاءُ لَا يُورَثُ، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ السِّعَايَةَ وَبَعْضُهُمْ الضَّمَانَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اخْتَارَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا وَرِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُكَاتَبِ لَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ، فَكَذَلِكَ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَصِيبَ السَّاكِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمُوَرِّثِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوَرِّثِ أَنْ يَخْتَارَ التَّضْمِينَ فِي الْبَعْضِ وَالسِّعَايَةَ فِي الْبَعْضِ فَكَذَا الْوَرَثَةُ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ السَّاكِتُ وَلَكِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ السَّاكِتُ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَالضَّمَانَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَى الْمُعْتَقِ مَا لَمْ يَخْتَرْ ضَمَانَهُ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّرَ الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ وَقَدْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الْإِفْسَادُ قَدْ تَحَقَّقَ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَمَوْتُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَضْمِينَهُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ وَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ نَصِيبَهُ أَوْ وَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ كَالتَّضْمِينِ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَحَلٍّ لَهُ.
وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ: لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ مَاتَ لَا يُؤْخَذُ ضَمَانُ الْعِتْقِ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ يَسْقُطُ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ صِلَةً وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ عِنْدَ عُسْرَتِهِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.

متن الهداية:
(وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجْزِيءُ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ سِعَايَةَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ.
لَهُمَا فِي الثَّانِي قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ، إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا سَعَى فِي حِصَّةِ الْآخَرِ، قُسِّمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَا لَيْسَ لَهُ) أَيْ السَّاكِتِ (إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدِهِمَا تُجْزِئُ الْإِعْتَاقِ) عِنْدَهُ (وَعَدَمُهُ) عِنْدَهُمَا فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ (وَالثَّانِي أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتَقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ) لَهُمَا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ النُّصُوصِ الَّتِي ظَاهِرُهَا تُجْزِئُ الْإِعْتَاقِ كَقوله: «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» وَحَدِيثُ «فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ» وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا» فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِم: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَتَقَ» وَاَلَّتِي ظَاهِرُهَا عَدَمُ تَجْزِيئِهِ كَحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيه: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلَامٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، وَأَجَازَ عِتْقَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ رَزِينٌ فِي مَالِهِ.
وَفِي لَفْظٍ «هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ» كُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عِنْدَ يَسَارِهِ التَّضْمِينُ لَيْسَ غَيْرُ، وَلِذَا اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ قولهُمَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَسَّمَ فَجَعَلَ الْحُكْمَ عِنْدَ يَسَارِهِ تَضْمِينَهُ وَعِنْدَ إعْسَارِهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.

متن الهداية:
وَلَهُ أَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ حَتَّى انْصَبَغَ بِهِ فَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ صَبْغِ الْآخَرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَهُنَا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقولهِ (إنَّهُ) أَيْ السَّاكِتُ (احْتَبَسَتْ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ) وَإِنْ وَقَعَ احْتِبَاسُهَا عِنْدَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فَأَلْقَتْ ثَوْبَ إنْسَانٍ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ أَنْ يُضَمِّنَ مَالِكَ الثَّوْبِ قِيمَةَ صَبْغِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ) وَيَأْخُذُ فَضْلَ كَسْبِهِ كَالْمُعْسِرِ الْمَدْيُونِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقِيَاسُ تَضْمِينُ الْعَبْدِ كَانَ تَضْمِينُ غَيْرِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ إفْسَادُ نَصِيبِهِ بِعِتْقِهِ الِاخْتِيَارِيِّ لَكِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَدَمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَتْ لِذَلِكَ دَارُ جَارِهِ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلنُّصُوصِ بِالتَّعْلِيقِ فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ السِّعَايَةُ إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا لَا إذَا كَانَ مُوسِرًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ الِاسْتِسْعَاءِ عِنْدَ نَفْيِ الْإِعْسَارِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ عَدَمِهِ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاحْتِبَاسِ كَذَا أَوْرَدَهُ شَارِحٌ.
وَأَجَابَ: وَالتَّحْقِيقُ فِي إيرَادِهِ أَنَّ النُّصُوصَ قَسَّمَتْ فَأَعْطَتْ حُكْمَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَحُكْمَ عَدَمِهِ فَقَالَ عِنْدَ الْيَسَارِ التَّضْمِينُ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ وَهُوَ الْإِعْسَارُ الِاسْتِسْعَاءُ، وَالْقِسْمَةُ تُفِيدُ اخْتِصَاصَ كُلِّ قِسْمٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُوجَدُ الِاسْتِسْعَاءُ عِنْدَ الْيَسَارِ كَمَا لَا يُوجَدُ التَّضْمِينُ عِنْدَ الْإِعْسَارِ وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ ذَلِكَ الْجَوَابُ.
وَقَدْ أُجِيب أَيْضًا بِنَحْوِهِ وَهُوَ أَنَّ الْقِسْمَةَ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الشَّرْطِ، وَهُوَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ مَنْعُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تُنَافِي الشَّرِكَةَ مُطْلَقًا، بَلْ ذَاكَ إذَا لَمْ تَكُنْ بِشَرْطَيْنِ بَلْ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ مِثْلُ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقولوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا أَثَرَ لِتَعَدُّدِ الشَّرْطِ وَوَحْدَتِهِ فِي اخْتِلَافِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ.
وَفِي الْكَافِي: جَهْلُ فَائِدَةِ الْقِسْمَةِ نَفْيُ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ كَمَا تُفِيدُ نَفْيَ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا تُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِسْعَاءِ لَوْ كَانَ مُوسِرًا بِعَيْنِ الْجِهَةِ الَّتِي تُفِيدُ بِهَا تِلْكَ الْإِفَادَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَفَادَتْ الْقِسْمَةُ نَفْيَ الشَّرِكَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى فِيهَا حُكْمَ الشَّرْطِ وَحُكْمَ نَقِيضِهِ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَ كُلٍّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ تَمَامُ حُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُهُ.
وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اقْتِصَارَ الشَّارِعِ عَلَى التَّضْمِينِ عِنْدَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ يَقْتَضِي قَصْرَ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى عِتْقِ الشَّرِيكِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الْمُعْتِقُ، فَبَيَّنَ الشَّارِعُ مَوْضِعَ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ التَّضْمِينُ فِي صُورَةِ الْيَسَارِ وَتَرْكُ الْآخَرِ وَهُوَ جَوَازُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِيهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَفَادَ جَوَازَ الِاسْتِسْعَاءِ مَقْصُورًا فَنَفَى الْقَصْرَ وَبَقِيَ جَوَازُهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا تَقْلِيلَ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلَيْنِ لِأَنَّهُ فِي قَصْرِ الْجَوَازِ عَلَى الِاسْتِسْعَاءِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي نَفْيِ أَصْلِ جَوَازِهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ مُخَصِّصًا لِلْقِيَاسِ، إذْ بَيَّنَ بِشَرْعِيَّةِ التَّضْمِينِ مَعَ الْيَسَارِ أَنَّ تَعْيِينَ الِاسْتِسْعَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، أَمَّا إذَا كَانَ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إتْمَامِهَا وَجَبَ كَالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ خُصُوصًا وَعَدَمُ إتْمَامِهَا يُوجِبُ إتْعَابًا لِلْآخَرِ وَهُوَ الْعَبْدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْبَةِ.
وَأَمَّا عَلَى قولهِمَا فَالنَّصُّ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ عِنْدَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ الْإِعْسَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ التَّوْجِيهِ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ عِتْقَ مَا يَمْلِكُهُ مَشْرُوعٌ وَعِبَادَةٌ، وَالْإِتْلَافُ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِنَايَةً عَلَى الْغَيْرِ وَإِنْ فَسَدَتْ مَالِيَّةُ بَاقِي الْعَبْدِ، كَمَنْ هَدَمَ جِدَارَهُ فَانْهَدَمَ جِدَارُ غَيْرِهِ.
فَالْحَقُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا الِاسْتِسْعَاءُ وَالنَّصُّ خَصَّصَهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قول الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ أَنَّ السَّاكِتَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَلَا سِعَايَةَ أَصْلًا، وَسَبَبُ هَذَا الْقول إعْلَالُهُمْ لَفْظَ السِّعَايَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ النَّسَائِيّ: أَثْبَتَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ شُعْبَةُ وَهِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ اتَّفَقَ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ عَلَى خِلَافِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: يَعْنِي فِي ذِكْرِ السِّعَايَةِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ هَمَّامًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ فَجَعَلَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ مِنْ قول قَتَادَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَتَبَهَا إمْلَاءً.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقول: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبْطُهُ فَصْلُ قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قول قَتَادَةَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فَجَعَلَا الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسَبُهُمَا وَهِمَا فِيهِ لِمُخَالَفَةِ شُعْبَةَ وَهِشَامٍ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اضْطَرَبَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي السِّعَايَةِ، فَمَرَّةً يَذْكُرُهَا وَمَرَّةً لَا يَذْكُرُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي السِّتَّةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: فِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ الْأَثْبَاتِ فِي قَتَادَةَ، وَلَيْسَ هُوَ بِدُونِ هَمَّامٍ عَنْهُ.
وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ فِيهِ وَرَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَيَحْيَى بْنُ صُبَيْحٍ الْخُرَاسَانِيُّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَحَسْبُك بِذَلِكَ: يَعْنِي بِرَفْعِهِمَا الِاسْتِسْعَاءَ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ: مِثْلُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَوْ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْبَاقِي وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَمْلُوكِيَّتِهِ، وَأَنَّ لَهُ التَّضْمِينَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَهُوَ مَنْقول عَنْ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، لَا يَعْتِقُ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ قول ابْنِ سِيرِينَ.

متن الهداية:
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ الْآخَرِ لَا يَسَارُ الْغِنَى، لِأَنَّ بِهِ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَإِيصَالِ بَدَلِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قولهِمَا ظَاهِرٌ، فَعَدَمُ رُجُوعِ الْمُعْتِقِ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ.
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قولهِ فَخِيَارُ الْإِعْتَاقِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْبَاقِي إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَالتَّضْمِينُ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِهِ نَصِيبَهُ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ السَّاكِتِ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ اسْتَثْنَى الْكَفَافَ وَهُوَ الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ وَثِيَابُ الْبَدَنِ (لَا يَسَارَ الْغِنَى) أَيْ الْغِنَى الْمُحَرِّمِ لِلصَّدَقَةِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (لِأَنَّ بِيَسَارِ التَّيْسِيرِ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) جَانِبِ الْمُعْتِقِ وَجَانِبِ السَّاكِتِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُعْتِقِ الْقُرْبَةُ وَتَتْمِيمُهَا بِضَمَانِهِ وَمَقْصُودُ السَّاكِتِ بَدَلُ حِصَّتِهِ وَتَحْقِيقُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ أَسْرَعَ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ فَكَانَ اعْتِبَارُ نِصَابِ التَّيْسِيرِ أَسْرَعَ فِي تَحْقِيقِ مَقْصُودِهِمَا فَوَجَبَ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ لِلنَّصِّ وَإِلَّا فَصَرِيحُ النَّصِّ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عِنْدَ مُجَرَّدِ تَمَلُّكِ قِيمَتِهِ الْحِصَّةَ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ» بِاتِّفَاقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَيْهِ.
قولهُ: (ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قولهِمَا) أَيْ تَخْرِيجُ تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قولهِمَا (فَعَدَمُ رُجُوعِ الْمُعْتِقِ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ) فَلَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ مَنْقولا إلَيْهِ عَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُهُمَا الْوَلَاءَ كُلَّهُ لِلْمُعْتِقِ لِلْحِصَّةِ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ فَكَانَ إعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقَ كُلِّهِ.
وَيَسْعَى فِي حَالَةِ إعْسَارِهِ حُرًّا مَدْيُونًا.
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ فَإِثْبَاتُهُ خِيَارَ الْإِعْتَاقِ لِلسَّاكِتِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْبَاقِي إذْ الْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ عِنْدَهُ فَلَا يَعْتِقُ الْبَاقِي بِعِتْقِ الْمُعْتِقِ نَصِيبَهُ (وَالتَّضْمِينِ) بِالْجَرِّ: أَيْ وَخِيَارُ التَّضْمِينِ لِلْمُعْتِقِ (لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِمْهَارِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ) مِنْ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ.
وَقولهُ (وَالِاسْتِسْعَاءِ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى التَّضْمِينِ: أَيْ وَإِثْبَاتُ خِيَارِ الِاسْتِسْعَاءِ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ احْتَبَسَ مَالِيَّةَ نَصِيبِهِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كَالسَّاكِتِ وَلِلسَّاكِتِ وِلَايَةُ الِاسْتِسْعَاءِ، فَكَذَا لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ لِلْمَالِكِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَلِلْمَالِكِ التَّضْمِينُ، فَكَذَا لِلْغَاصِبِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ كَعَبْدٍ خَاصٍّ بِهِ أَعْتَقَ بَعْضَهُ فَلَهُ عِتْقُ الْبَاقِي أَوْ اسْتِسْعَاؤُهُ.

متن الهداية:
وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَقَدْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاسْتِسْعَاءِ فَكَذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ضِمْنًا فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكُلَّ لَهُ وَقَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْبَاقِيَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ إنْ شَاءَ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ.
وَفِي حَالِ إعْسَارِ الْمُعْتِقِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا، وَالْوَلَاءُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعِي عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا أَدَّى بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا لِأَنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ أَوْ لَا يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الْمُعْتَقِ إذْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعُسْرَتِهِ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ الْمُعْسِرُ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ أَوْ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَقول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوسِرِ كَقولهِمَا.
وَقَالَ فِي الْمُعْسِرِ: يَبْقَى نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ يُبَاعُ وَيُوهَبُ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَضْمِينِ الشَّرِيكِ لِإِعْسَارِهِ وَلَا إلَى السِّعَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِجَانٍ وَلَا رَاضٍ بِهِ، وَلَا إلَى إعْتَاقِ الْكُلِّ لِلْإِضْرَارِ بِالسَّاكِتِ فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَاهُ.
قُلْنَا: إلَى الِاسْتِسْعَاءِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجِنَايَةِ بَلْ تُبْتَنَى السِّعَايَةُ عَلَى احْتِبَاسِ الْمَالِيَّةِ فَلَا يُصَارُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالضَّعْفِ السَّالِبِ لَهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
الشَّرْحُ:
وَقولهُ: (ضَمِنَا) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ قَصْدًا حَتَّى لَوْ بَاعَ السَّاكِتُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتَقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ قَصْدًا عَدَمُهُ ضِمْنًا (وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ) غَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُ بِبَدَلٍ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْوَلَاءَ (وَ) أَمَّا (فِي حَالِ إعْسَارِ الْمُعْتِقِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ احْتِبَاسِ مِلْكِهِ (وَالْوَلَاءُ لَهُ) أَيْ لِلسَّاكِتِ: أَيْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْتِقِ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعَى) عَلَى الْمَفْعُولِ: أَيْ الْعَبْدُ (عَلَى الْمُعْتِقِ بِشَيْءٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا) خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عِنْدَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا أَيْسَرَ، وَإِنَّمَا لَا يَرْجِعُ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عَلَى قولهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى قولهِمَا فَلِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ سَاعِيًا لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِسِعَايَتِهِ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الْمُعْتِقِ إذْ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا (بِخِلَافِ) الْعَبْدِ (الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ الْمُعْسِرُ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ أَوْ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ فَلِذَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعْتِقِ) إذَا أَيْسَرَ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَأَبَتْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى خَمْرٍ مَثَلًا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ فَاسْتَحَقَّتْ عَتَقَ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَهُوَ حُرٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَإِنَّهُ يَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ (وَقول الشَّافِعِيِّ فِي الْمُوسِرِ كَقولهِمَا وَقَالَ فِي الْمُعْسِرِ يَبْقَى نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ يُبَاعُ وَيُوهَبُ) وَهَذَا قول لِلشَّافِعِيِّ (وَجْهُهُ) عِنْدَهُ (أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَضْمِينِ الشَّرِيكِ لِإِعْسَارِهِ وَلَا لِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَانٍ وَلَا رَاضٍ بِهِ، وَلَا لِإِعْتَاقِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِالسَّاكِتِ فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَاهُ. قُلْنَا: نَخْتَارُ أَنْ يُسْتَسْعَى) قولهُ غَيْرُ جَانٍ إلَخْ.
قُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجِنَايَةِ، بَلْ مَدَارُ لُزُومِهِ احْتِبَاسُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْغِ الثَّوْبِ الْمُطَارِ، وَقَدْ يُتَمَسَّكُ لَهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي قوله: «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مَا رَقَّ».
وَيُدْفَعُ بِأَنَّهَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الشَّأْنِ ضَعِيفَةٌ مَكْذُوبَةٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالرِّقِّ فِيهَا الْمِلْكَ مَجَازًا لِامْتِنَاعِ اتِّصَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ بِالْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالضَّعْفِ السَّالِبِ لَهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ بِقوله: «عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» كِفَايَةً، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتِقْ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ، إنْ لَمْ يَلْزَمْ بَقَاءُ الْبَاقِي رَقِيقًا يَلْزَمُ بَقَاؤُهُ مَمْلُوكًا وَالْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلَقُ لِلتَّصَرُّفِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قوله: «فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» يُوجِبُ اسْتِسْعَاءَهُ عِنْدَ إعْسَارِهِ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الشَّارِعِ مَعَ أَنَّ وَجْهَهُ مَا قَدَّمْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ النَّافِينَ صِحَّةَ رِوَايَةِ الِاسْتِسْعَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ يُسْتَسْعَى إنْ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قولهِ غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.
وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قوله: «لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ كُلِّهِ كَمَا قَالَا أَوْ عَدَمَ تَقَرُّرِهِ وَهُوَ الْأَوْلَى.
وَإِذَا لَمْ يُقَرَّرْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْسِرِ لَزِمَ الِاسْتِسْعَاءُ وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ مَجَّانًا جَبْرًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ بِلَا جِنَايَةٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٌ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ الْمُعْسِرُ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ اضْطَرَّهُ إلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ حَيْثُ حَكَمَ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ بِنَفَاذِ عِتْقِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَأَنْ لَا يُقِرَّ الْبَاقِي فِي الْمِلْكِ وَلَا يُذْهِبَ مَالَ السَّاكِتِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُخْتَارٍ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قول آخَرُ هُوَ كَقولهِمَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ مِنْ أَصْحَابِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَصَارَ مُكَاتِبًا فِي زَعْمِهِ عِنْدَهُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِرْقَاقُ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ وَيَسْتَسْعِيه لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيَانِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْحَالَيْنِ فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهُوَ السِّعَايَةُ، وَالْوَلَاءُ لَهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقول عَتَقَ نَصِيبُ صَاحِبِي عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَعَتَقَ نَصِيبِي بِالسِّعَايَةِ وَوَلَاؤُهُ لِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَعَتَقَ (وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَصَارَ) الْعَبْدُ بِذَلِكَ (مُكَاتَبًا لَهُ) أَيْ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ (وَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ اسْتِرْقَاقُهُ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ وَيَسْتَسْعِيه) إنْ شَاءَ أَوْ يُعْتِقُهُ (لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ) فِي دَعْوَاهُ عِتْقُ الشَّرِيكِ (أَوْ صَادِقًا لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ) إنْ كَانَ صَادِقًا (أَوْ مَمْلُوكَهُ) إنْ كَانَ كَاذِبًا (فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيَانِهِ) أَمَّا فِي الصِّدْقِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْكَذِبِ فَلِتَمَكُّنِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْرِ عَبْدِهِ أَنْ يَسْعَى وَيَأْتِيَهُ بِأَكْسَابِهِ (وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّهُ) أَيْ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا (فِي الْحَالَيْنِ) حَالِ يَسَارٍ الْآخَرِ وَإِعْسَارِهِ (فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ) السِّعَايَةِ أَوْ التَّضْمِينِ إلَّا أَنَّ فِي الْيَسَارِ حَقَّهُ فِي أَحَدِهِمَا مِنْ التَّضْمِينِ وَالسِّعَايَةِ غَيْرُ عَيْنٍ وَفِي الْإِعْسَارِ حَقُّهُ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ السِّعَايَةُ، وَهَذَا (لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ) الْإِعْتَاقَ، وَشَهَادَةُ الْآخَرِ لَيْسَتْ نَافِذَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ وَيَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ أَعْتَقَ لَمْ تُقْبَلْ لِلْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا حَقَّ التَّضْمِينِ أَوْ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِهِمَا، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا مَا أَثْبَتْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِاعْتِرَافِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِحُرْمَةِ اسْتِرْقَاقِهِ ضِمْنًا لِلشَّهَادَةِ (فَتَعَيَّنَ السِّعَايَةُ) وَهُوَ عَبْدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ التَّضْمِينَ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ يَحْلِفُ، فَإِنْ نَكَلَ جَازَ التَّضْمِينُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُ كُلٍّ أَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ يَحْلِفُ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحْلِيفِ لِأَنَّ الْمَآلَ إلَى السِّعَايَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنْ لَا تَحْلِيفَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِقولهِ فِي الْكِتَابِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِصِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَالَ شَارِحٌ: هَذَا كُلُّهُ أَيْ تَعَيُّنُ اسْتِسْعَائِهِمَا الْعَبْدَ إلَخْ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلًّا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ الضَّمَانَ وَالضَّمَانُ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ فَيُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوْجَهُ، فَيَجِبُ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ لُزُومُ اسْتِسْعَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ أَنَّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَرَافَعَا إلَى قَاضٍ بَلْ خَاطَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِأَنَّك أَعْتَقْت نَصِيبَك وَهُوَ يُنْكِرُ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَ حُكْمُهَا إلَّا الِاسْتِسْعَاءَ، أَمًّا لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا التَّضْمِينَ أَوْ أَرَادَاهُ وَنَصِيبُهُمَا مُتَفَاوِتٌ فَتَرَافَعَا أَوْ رَفَعَهُمَا ذُو حِسْبَةٍ فِيمَا لَوْ اسْتَرَقَّاهُ بَعْدَ قولهِمَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ سَأَلَهُمَا فَأَجَابَا بِالْإِنْكَارِ فَحَلَفَا لَا يَسْتَرِقُّ لِأَنَّ كُلًّا يَقول: إنَّ صَاحِبَهُ حَلَفَ كَاذِبًا وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُهُ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِسْعَاؤُهُ، وَلَوْ اعْتَرَفَا أَنَّهُمَا عَتَقَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ كُلٌّ الْآخَرَ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَلَا يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَلَوْ اعْتَرَفَ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ يَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً، فَإِنَّهُ إنْ نَكَلَ صَارَ مُعْتَرِفًا أَوْ بَاذِلًا فَصَارَا مُعْتَرِفَيْنِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ سِعَايَةٌ كَمَا قُلْنَا.

متن الهداية:
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْرَأُ عَنْ سِعَايَتِهِ بِدَعْوَى الْعَتَاقِ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَثْبُتْ لِإِنْكَارِ الْآخَرِ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ السِّعَايَةِ قَدْ ثَبَتَتْ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ (وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إذْ الْمُعْتِقُ مُعْسِرٌ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِإِعْسَارِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فَلَا يَتَبَرَّأُ عَنْهُ (وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسَارِهِ فَيَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْعَبْدِ عَنْ السِّعَايَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحِيلُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ عَنْهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ) لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ عَنْ سِعَايَتِهِ) وَإِنَّمَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ (لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ السِّعَايَةِ قَدْ ثَبَتَتْ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) بِثُبُوتِ سَبَبِهَا حَيْثُ أَقَرَّ بِعِتْقِ الشَّرِيكِ مَعَ يَسَارِهِ (وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا) لِفَرْضِ أَنَّ الْمُعْتِقَ مُعْسِرٌ.
وَقولهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا بَلْ حُرٌّ مَدْيُونٌ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِإِعْسَارِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَبَرَّأُ عَنْهُ، وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسَارِهِ فَيَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْعَبْدِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحِيلُهُ) أَيْ يُثْبِتُهُ (لِصَاحِبِهِ) حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ وَالْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ: أَيْ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا مَا لَا يَتَجَزَّأُ أَصْلًا مِنْ زَوَالِ الرِّقِّ (وَهُوَ) أَيْ صَاحِبُهُ (يَتَبَرَّأُ عَنْهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا) فَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا حَتَّى مَاتَ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَيْتُ الْمَالِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الْمُقْضَى عَلَيْهِ بِسُقُوطِ السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ، كَذَا هَذَا.
وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ، وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِسُقُوطِ النِّصْفِ كَيْفَ يُقْضَى بِوُجُوبِ الْكُلِّ، وَالْجَهَالَةُ تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ وَالتَّوْزِيعِ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ وَمَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ أَوْ الْبَيَانِ، وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ أَوْ لَا يَمْنَعُهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) فِي عَبْدٍ (إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ) يَعْنِي الْعَبْدَ (الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ دَخَلَهَا غَدًا فَهُوَ حُرٌّ، فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ) بَيْنَهُمَا (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) عَلَى تَفْصِيلٍ يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى فِي النِّصْفِ لَهُمَا إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا يَسْعَى فِي الرُّبْعِ لِلْمُوسِرِ، وَلَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى لِأَحَدٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا بِقولهِ وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ أَوْ لَا يَمْنَعُهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، فَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قول أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا النِّصْفُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ) لَهُمَا إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَبِنِصْفِهِ لِلْمُوسِرِ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا، وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَهَذِهِ عَلَى وِزَانِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ أَعْنِي إقْرَارَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ، وَهُنَاكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا وَالْآخَرُ مُوسِرًا لَا يَسْعَى إلَّا لِلْمُوسِرِ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُ السِّعَايَةَ أَبَدًا يَكُونُ هُوَ السَّاكِتُ وَالْآخَرُ مُعْتِقٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا فَإِنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ تَضْمِينِ الْمُعْسِرِ فَيَأْخُذُ السِّعَايَةَ وَعَلَى إنْزَالِ الْمُعْسِرِ هُوَ السَّاكِتُ فَزَعْمُهُ أَنْ لَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ الْمُوسِرِ وَتَضْمِينُهُ مُتَعَذِّرٌ لِلشَّكِّ فِي أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى شَيْءٍ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَإِنَّ كُلًّا يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ تَضْمِينُ الْآخَرِ لَيْسَ غَيْرُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا تَضْمِينَ وَلَا سِعَايَةَ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِسُقُوطِ السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ) وَهُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ شَرْطُهُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ عِتْقُ الْعَبْدِ (وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ) وَلَا التَّوْزِيعُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَقَعْ شَرْطُهُ وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ مِنْ جِهَتِهِ وَإِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ شَرْطُهُ وَعَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْمُعَيَّنِ فَلَمْ يُنَافِهِ التَّوْزِيعُ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ) فَكَذَا لَا يُقْضَى بِسُقُوطِ شَيْءٍ لِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ وَجَبَ الْكُلُّ.
قولهُ: (وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ. وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِالسُّقُوطِ كَيْفَ يُقْضَى بِهِ، وَالْجَهَالَةُ) الْمَانِعَةُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالسُّقُوطِ (تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ) أَيْ شُيُوعِ النِّصْفِ الَّذِي عَتَقَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ (وَتَوْزِيعُهُ) عَلَيْهِمَا فَصَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالسُّقُوطِ الْمَوْلَيَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ لَوْ قُضِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِلضَّرُورَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوْزِيعِ وَهُوَ عَدَمُ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِتَمَامِهِ وَكَوْنُ التَّعْيِينِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَمْنَعُ التَّوْزِيعَ مُنْتَفٍ بِمَا فِي كِتَابِ التَّحَرِّي: عَشْرَةُ رِجَالٍ لِكُلٍّ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ جَارِيَتَهُ ثُمَّ صَارَ لَا يُدْرَى الْمُعْتِقُ وَلَا الْمُعْتَقَةُ ثُمَّ اجْتَمَعْنَ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِنَّ وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِ قِيمَتِهَا، وَصَارَ (كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ وَمَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ) فِي الثَّانِي (أَوْ الْبَيَانُ) فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يُوَزَّعُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ نِصْفَهُ وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهِ لِلْوَرَثَةِ.
وَقَيْدُ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمُتْ إنَّمَا يُطَالَبُ بِالْبَيَانِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فِي قول، وَفِي قول الْوَارِثِ يُقَامُ مَقَامُهُ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْوِرَاثَةِ فِيمَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ فِيهِ وِرَاثَةً فِي الثَّانِي وَإِسْقَاطُ جَمِيعِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ فِي الْأَوَّلِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا.
وَقِيلَ: إنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقْضَى عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَاتَ بِلَا بَيَانٍ سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُقْضَى عَلَيْهَا مِنْهُنَّ مَجْهُولَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومًا جَازَ الْقَضَاءُ، كَذَا هُنَا الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَبْدُ.
وَهَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكُلٍّ إلَى آخِرِ النَّهَارِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ الْمَقْضِيَّ لَهُ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ، وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ مَعْلُومٌ فَغَلَبَ الْمَعْلُومُ الْمَجْهُولَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ إلَخْ) يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى عَبْدٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ كُلٌّ عَلَى عَبْدٍ لَهُ غَيْرِ الْآخَرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ دَخَلَ فُلَانٌ غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ الْآخَرُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يَدْرِ الدُّخُولَ وَعَدَمَهُ (لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) وَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا فِي قول الْكُلِّ (لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ) بِعِتْقِ عَبْدِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ (مَجْهُولٌ وَالْمَقْضِيَّ لَهُ وَهُوَ الْمُعْتِقُ مَجْهُولٌ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ) وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا يَحْنَثُ أَحَدُ الْمَالِكَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَبِيعُ عَبْدَهُ، وَزَعْمَ الْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ وَمَوْلَاهُ يُنْكِرُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ، وَإِذَا صَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُمَا وَاجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ الْآنَ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ.
وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ ثُمَّ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كَانَ دَخَلَ الْيَوْمَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ، لِأَنَّ بِالْيَمِينِ الْأَوَّلِ هُوَ مُقِرٌّ بِوُجُودِ شَرْطِ الثَّانِيَةِ، وَبِالثَّانِيَةِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُودِ شَرْطِ الْأُولَى.
وَقِيلَ لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالْآخَرَ بِوُجُودِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ تَحَقُّقُهُ وَعَدَمُ تَحَقُّقِهِ.
قُلْنَا: ذَاكَ فِي مِثْلِ قولهِ: إنْ لَمْ يَدْخُلْ فَعَبْدِي حُرٌّ، بِخِلَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ الْمُمَارِي فِي الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ فِي الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ شَرْطِهِ ظُهُورُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَاضِي، وَكَذَا إنْ كَانَ دَخَلَ بِخِلَافِ إنْ دَخَلَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتِقُ وَلَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُقِرًّا بِنُزُولِ الْعِتْقِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الثَّانِيَةِ مَا يُوجِبُ إقْرَارَهُ بِنُزُولِ الطَّلَاقِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ ابْنَ أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ) لِأَنَّهُ مَلَكَ شِقْصَ قَرِيبِهِ وَشِرَاؤُهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَا مَرَّ (وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) عَلِمَ الْآخَرُ أَنَّهُ ابْنُ شَرِيكِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (وَكَذَا إذَا وَرِثَاهُ، وَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: فِي الشِّرَاءِ يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَلَكَا، بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَاهُ رَجُلَانِ وَأَحَدُهُمَا قَدْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ.
لَهُمَا أَنَّهُ أَبْطَلَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ فَلَا يُضَمِّنُهُ، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ صَرِيحًا، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ فِي ظَاهِرِ قولهِمَا حَتَّى يَخْتَلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيَسْقُطَ بِالرِّضَا، وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِمِلْكِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ ابْنَ أَحَدِهِمَا) بِعَقْدٍ وَاحِدٍ بِأَنْ خَاطَبَ الْبَائِعُ الْأَبَ وَالْآخَرَ مَعًا بِأَنْ قَالَ بِعْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَقَبِلَا (عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَلَكَ شِقْصًا مِنْ ابْنِهِ) فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مُوسِرًا سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّرِيكُ أَنَّهُ ابْنُ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَأَجْمَعُوا أَنَّهُمَا لَوْ وَرِثَاهُ لَا يَضْمَنُ الْأَبُ، وَكَذَا فِي كُلِّ قَرِيبٍ يَعْتِقُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: أَعْنِي قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ» إلَخْ يُفِيدُ كَوْنَ الْعِتْقِ اخْتِيَارِيًّا (وَقَالَ: فِي الشِّرَاءِ يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الِابْنُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ) مَعًا (أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَعَلَى هَذَا) الْخِلَافُ أَيْضًا (إذَا اشْتَرَاهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ) أَمَّا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَاهُ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ شِرَاءُ كُلِّهِ (لَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ الْأَبَ (أَبْطَلَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ) الِاخْتِيَارِيِّ لِتَرَتُّبِهِ عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ (وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ) لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ وُقُوعُ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ مُخْتَارًا فِيهِ.
وَلَهُ أَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ مَعَ الْعِتْقِ الِاخْتِيَارِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ بِرِضَا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ، وَلَمَّا بَاشَرَ الْعَقْدَ مَعَهُ مُخْتَارًا وَهُوَ عِلَّةُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ كَانَ رَاضِيًا بِإِفْسَادِ نَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِهِ صَرِيحًا.
وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلَّةِ فِي قولهِ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إعْتَاقَهُ يَثْبُتُ اخْتِيَارِيًّا بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ إذَا نَوَى بِالشِّرَاءِ عِتْقَهُ عَنْهَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ إنْ ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَاهُ بِمُبَاشَرَتِهِ شَرْطَ الْعِتْقِ رِضًا بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَيْسَ عِلَّةَ الْوُقُوعِ بَلْ الْعِلَّةُ هِيَ قول الشَّرِيكِ هُوَ حُرٌّ الْوَاقِعُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَبُولِ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْعَقْدُ، وَكُلُّ مَنْ بَاشَرَهُ فَهُوَ مُبَاشِرٌ عِلَّةَ الْعِتْقِ.
وَلَوْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ أَلَيْسَ أَنَّهُ يُفِيدُ رِضَاهُ بِوُقُوعِ الْجَزَاءِ وَالْمَدَارُ هُوَ وُجُودُ دَلَالَةِ الرِّضَا.
قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ لَهُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ إذَا اقْتَضَاهُ حَالُهُ، وَمَنْعُهُ مِنْهُ ضَرَرٌ لَا يَلْزَمُهُ بِإِلْزَامِهِ إيَّاهُ، فَحَلِفُهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ ظُلْمٌ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ يَبْطُلْ حَقُّهُ فِي التَّضْمِينِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ ضَرَبْت هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ ظُلْمًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ حَتَّى عَتَقَ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَ مِنْ مَنْعِ أَنَّ مُبَاشَرَتَهُ لِلْعَقْدِ رِضًا لِأَنَّهُ ضَرَرٌ وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِهِ وَلِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِثْبَاتِ مِلْكِهِ لَا لِزَوَالِهِ فَمَدْفُوعٌ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَ فِعْلِ كَذَا يَثْبُتُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَهُ مُخْتَارًا جَزَمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ رِضًا مِنْهُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ الْمِلْكِ قَدْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ إثْبَاتَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَلِلْعَاقِلِ فِي ذَلِكَ أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ اسْتِفَادَةِ الْمَدْحِ وَالْوَلَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَأُخْرَوِيَّةٍ مِنْ الْأَجْرِ.
لَا يُقَالُ: رِضَا الْأَبِ بِالشِّرَاءِ رِضًا بِالْإِعْتَاقِ وَالرِّضَا بِالْإِعْتَاقِ رِضًا بِالضَّمَانِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُثْبِتُهُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَاخْتَارَ السَّاكِتُ التَّضْمِينَ فَكَيْفَ يَنْفِيهِ؟ لِأَنَّا نَقول: كَوْنُهُ رِضًا بِالضَّمَانِ لَا يُوجِبُ إمْكَانَ تَضْمِينِ الْآخَرِ لَهُ، إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ رِضًا بِإِعْتَاقِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا إيرَادُهُ عَلَى قولهِمَا هَكَذَا الْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قولهِمَا فَإِعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقُ الْكُلِّ، وَلَا يُمْكِنُ إعْتَاقُ الْكُلِّ إلَّا بِتَمَلُّكِ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالضَّمَانِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَمَلُّكٌ ضِمْنِيٌّ فَلَا تَوَجُّهَ لَهُ هُنَا.
قولهُ: (وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَوْنُهُ رَضِيَ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ لَا يُوجِبُ إسْقَاطَ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ يَصِحُّ وَيَجِبُ الضَّمَانُ فَقَالَ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ التَّمَلُّكِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ ضَمَانُ إفْسَادٍ، وَبَسْطُهُ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْعِتْقِ ضَمَانَانِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَلَا يُسْقِطُهُ الرِّضَا بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ ضَمَانُ الِاسْتِيلَادِ، فَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ لَا يَسْقُطُ ضَمَانُهَا لَهُ، وَمِنْ حُكْمِ ضَمَانِ التَّمَلُّكِ أَيْضًا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ لِأَنَّ وَضْعَ الِاسْتِيلَادِ لِطَلَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي التَّمَلُّكَ فَأَثْبَتْنَاهُ.
وَضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ، وَيُقَالُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ فِي عِتْقِ الْإِنْسَانِ مَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى يُثَابَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُفْسِدُ بِهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَضَمَانُ إفْسَادٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي هَذَا الْإِفْسَادِ نَعَمْ لَوْ قَصَدَ بِعِتْقِهِ قَصْدًا فَاسِدًا أَثِمَ بِهِ أَمَّا وَضْعُ الْعِتْقِ فَلَيْسَ مُقْتَضِيًا لُزُومَهُ، ثُمَّ كَوْنُ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ ضَمَانَ إتْلَافٍ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا وَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ عِلْمِ الشَّرِيكِ بِالْإبْنِيَّةِ وَعَدَمِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّرِيكِ عَالِمًا بِالْإبْنِيَّةِ فَلَا يَضْمَنُ الْأَبُ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَنُضَمِّنُهُ، لِأَنَّ رِضَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِحَقِّهِ فِي التَّضْمِينِ مُبَاشَرَتُهُ لِسَبَبِ إسْقَاطِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِعِلْمِهِ وَجَهْلِهِ، كَمَا إذَا أَطْعَمَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالُهُ سَقَطَ تَضْمِينُهُ الْغَاصِبَ.
وَالنَّظِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْآكِلُ إذَا عَلِمَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، أَلَّا يُرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لَا يَتَقَيَّدُ ضَمَانُهُ بِكَوْنِهِ مُوسِرًا.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَسْلَفْت أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا الِاسْتِسْعَاءُ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ مُحْتَبَسُ حَقِّ السَّاكِتِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا أَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ التَّضْمِينُ لِلْإِتْلَافِ.
قُلْنَا: قَدْ حُكِيَ خِلَافٌ فِي الْقِيَاسِ مَا هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الِاسْتِسْعَاءَ هُوَ أَقْرَبُ الْقِيَاسَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاحْتِبَاسِ عِنْدَ الْعَبْدِ وَعَدَمِ جِنَايَةِ الْمُعْتِقِ وَلِذَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِفَرْضِ وُرُودِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِ إطْلَاقِ مُقْتَضَاهُمَا مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ وَإِنَّمَا التَّضْمِينُ دَائِمًا.
وَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَهُ النَّصُّ فَهُوَ بَاطِلٌ سَوَاءٌ ظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِلنَّصِّ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُنَا هُوَ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَلَاتِهِ قَادِرًا عَلَى إتْمَامِهِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَمْ يَجِبْ وَوَجَبَ لَهُ أَجْرٌ قَدْرَ عَمَلِهِ وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَارْجِعْ إلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ نِصْفَهُ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَبَ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ) لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ.
وَقَالَا: لَا خِيَارَ لَهُ وَيَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَبَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ) لِأَنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ مَا كَانَ إلَّا قَبُولُهُ الْبَيْعَ مَعَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا فَلِذَا وَقَعَ اتِّفَاقُهُمْ هُنَا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ (وَقَالَا: لَا خِيَارَ لَهُ) أَيْ لِلْأَجْنَبِيِّ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّضْمِينُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُوسِرًا) وَمَعْنَاهُ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ فَلَا يَضْمَنُ لِبَائِعِهِ شَيْئًا عِنْدَهُ، وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِلْبَائِعِ (وَقَالَا: إنْ كَانَ مُوسِرًا يَضْمَنُ، وَمَعْنَاهُ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ وَالرِّضَا بِعِتْقِ نَصِيبِهِ يَمْنَعُ التَّضْمِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقولهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ رِضًا بِعِتْقِ نَصِيبِهِ بَلْ ذَكَرَ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ أَنَّ الرِّضَا يَمْنَعُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ) فَأَرَادُوا الضَّمَانَ فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ قِنًّا وَلَا يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ) فَأَرَادَ كُلٌّ مِنْ السَّاكِتِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ يُدَبِّرْ وَالْمُدَبِّرُ الضَّمَانَ وَهُمَا الْمُرَادُ بِقولهِ (فَأَرَادُوا الضَّمَانَ فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ) ثُلُثَ قِيمَةِ الْعَبْدِ قِنًّا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ شَيْئًا، وَإِذَا ضَمِنَ الْمُدَبِّرُ الثُّلُثَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ إنْ شَاءَ عَلَى وَزَانَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ حِصَّتَهُ فَضَمَّنَهُ السَّاكِتُ حَيْثُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

متن الهداية:
(وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِهِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَقَدْ أَفْسَدَ بِالتَّدْبِيرِ نَصِيبَ الْآخَرَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُدَبِّرَ نَصِيبَهُ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَاسِدٌ بِإِفْسَادِ شَرِيكِهِ حَيْثُ سَدَّ عَلَيْهِ طُرُقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ بَيْعًا وَهِبَةً عَلَى مَا مَرَّ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهُ غَيْرَهُ فَتَوَجَّهَ لِلسَّاكِتِ سَبَبُ ضَمَانِ تَدْبِيرِ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقِ هَذَا الْمُعْتَقِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى جُعِلَ الْغَصْبُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَقْتَ التَّدْبِيرِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُكَاتَبٌ أَوْ حُرٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَكَاتِبِ بِفَسْخِهِ حَتَّى يَقْبَلَ الِانْتِقَالَ فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ، ثُمَّ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مُدَبَّرًا، وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ، وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا عَلَى مَا قَالُوا.
الشَّرْحُ:
(وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ) أَعْنِي ثُلُثَهُ قِنًّا (وَهَذَا) كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ أَوَّلًا وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَأَصْلُ هَذَا) الْخِلَافِ (أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْعِتْقِ) إذْ هُوَ عِتْقٌ مُضَافٌ (فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ وَقَدْ أَفْسَدَ بِالتَّدْبِيرِ نَصِيبَ الْآخَرَيْنِ) حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَيْعُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْهَارِ (فَثَبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُ خِيَارَاتٍ) أَنْ يُدَبِّرَ نَصِيبَهُ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَاسِدٌ بِإِفْسَادِ شَرِيكِهِ حَيْثُ سَدَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، (فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهُ غَيْرَهُ فَتَوَجَّهَ لِلسَّاكِتِ) هُوَ الثَّالِثُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ يُدَبِّرْ (سَبَبَا ضَمَانٍ) أَحَدُهُمَا (تَدْبِيرُ الْمُدَبِّرِ) الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ مَا أَفْسَدَ (وَ) الْآخَرُ (عِتْقُ هَذَا الْمُعْتِقِ) فَإِنَّهُ تَغَيُّرُ نَصِيبِ الْمُدَبِّرِ وَالسَّاكِتِ حَيْثُ كَانَ لَهُمَا وِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَبَطَلَ ذَلِكَ بِعِتْقِ الْمُعْتِقِ حَيْثُ اسْتَحَقَّ بِهِ الْعَبْدُ خُرُوجَهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ التَّضْمِينِ (غَيْرَ أَنَّ) السَّاكِتَ لَهُ (تَضْمِينُ الْمُدَبِّرِ) لَيْسَ غَيْرُ (لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ هُوَ الْأَصْلُ) فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْتَدِلُ جَانِبَا الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ.
فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْمَضْمُونُ لَهُ بَدَلَ مِلْكِهِ وَجَبَ فِي تَحْقِيقِ الْمُعَادَلَةِ أَنْ يَمْلِكَ مُعْطِيهِ وَهُوَ الضَّامِنُ مَا دَفَعَ بَدَلَهُ، فَحَيْثُ أَمْكَنَ هَذَا لَا يَعْدِلُ عَنْهُ (وَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ جَعَلَهُ ضَمَانَ إتْلَافٍ، فَإِذَا جَعَلَ الضَّمَانَ فِيمَا هُوَ عُدْوَانٌ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ فَفِي الْعِتْقِ وَشُعَبِهِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى، وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْت لَك فِي قولهِمْ ضَمَانُ جِنَايَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِمْ إيَّاهُ ضَمَانَ جِنَايَةٍ مَا فِي قَاضِي خَانْ: لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ وَقَضَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ مُرَابَحَةً عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي أَدَّاهَا، وَالْمُرَابَحَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، وَكَذَا لَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَاكْتَسَبَ عِنْدَهُ أَكْسَابًا ثُمَّ أَبَقَ وَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ الْأَكْسَابُ لِلْغَاصِبِ لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِحَّةُ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالْغَصْبِ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِتْلَافَاتِ مُؤَخَّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ ضَمَانِ الْمُعَاوَضَةِ مَا أَمْكَنَ وَجَبَ هُنَا لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ (لِكَوْنِهِ) أَيْ نَصِيبِ السَّاكِتِ (قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ) فِي الْمَضْمُونِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَامْتَنَعَ جَعْلُ الْعِتْقِ الْكَائِنِ بَعْدَهُ سَبَبًا لِضَمَانِ الْمُعَاوَضَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَبْدَ (عِنْدَ ذَلِكَ مُدَبَّرٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حُرٌّ (أَوْ مُكَاتَبٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَكَاتِبِ بِفَسْخِهِ حَتَّى يَقْبَلَ الِانْتِقَالَ).
فَقَالَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ وَلَدُ الْمُصَنِّفِ: هُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ لَيْسَ حُرًّا وَلَا مُكَاتَبًا، بَلْ بَعْدَ الْعِتْقِ يَصِيرُ كَذَلِكَ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَكِنْ لَا تَنْفَسِخُ هَذِهِ الْكِتَابَةُ بِالْعَجْزِ وَلَا بِالتَّفَاسُخِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ لِلسَّاكِتِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ لَا يُمْكِنُ مِلْكُ هَذَا الْمَضْمُونِ فَكَانَ ضَمَانَ إفْسَادٍ (فَلِهَذَا يُضَمِّنُ) السَّاكِتُ (الْمُدَبِّرَ) لَيْسَ غَيْرُ (ثُمَّ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ إنَّمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مُدَبَّرًا) فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ كَانَ مُتَمَكِّنًا قَبْلَ عِتْقِهِ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ إلَى مَوْتِهِ فَامْتَنَعَ بِعِتْقِهِ كُلُّ ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَفْسَدَهُ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِشَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ضَمِنَ نَصِيبَ الْآخَرِ مُدَبِّرًا وَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِالضَّمَانِ.
قولهُ: (وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا) فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِنًّا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا ضَمِنَ لَهُ سِتَّةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّ ثُلُثَيْهَا وَهِيَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثُهَا وَهُوَ الْمَضْمُونُ سِتَّةٌ.
قولهُ: (عَلَى مَا قَالُوا) طَرِيقَتُهُ فِي مِثْلِهِ الْإِشْعَارُ بِالْخِلَافِ، فَقِيلَ قِيمَتُهُ قِيمَتُهُ قِنًّا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقِيَمَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَنَافِعِ الْمُمْكِنَةِ، وَقِيلَ نِصْفُ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِالْمَمْلُوكِ بِعَيْنِهِ وَبَدَلِهِ وَفَاتَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: تَقُومُ خِدْمَتُهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ حَزْرًا فِيهِ فَمَا بَلَغَتْ فَهِيَ قِيمَتُهُ، وَقِيلَ ثُلُثُ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْوَطْءِ وَالسِّعَايَةِ وَالْبَدَلِ، وَإِنَّمَا زَالَ الْأَخِيرُ فَقَطْ وَإِلَيْهِ مَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ يَخُصُّ الْمُدَبَّرَةَ دُونَ الْمُدَبَّرِ، وَقِيلَ: يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ جَوَّزُوا بَيْعَ هَذَا فَائِتَ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمْ يَبْلُغُ فَمَا ذَكَرَ فَهُوَ قِيمَتُهُ، وَهَذَا حَسَنٌ عِنْدِي وَأَمَّا قِيمَةُ أُمِّ الْوَلَدِ فَثُلُثُ قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالِاسْتِسْعَاءَ قَدْ انْتَفَيَا وَبَقِيَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَقِيلَ قِيمَةُ خِدْمَتِهَا مُدَّةَ عُمْرِهَا عَلَى الْحَزْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ مُدَّةَ عُمْرِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا وَمِنْ مَوْلَاهَا، وَقِيلَ يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ جَوَّزُوا بَيْعَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ نِصْفُ قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّهُ حَرِيدًا وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّقَبَةُ.

متن الهداية:
وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَضْمَنُهُ) أَيْ لَا يُضَمِّنُ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ (قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ) وَهُوَ ثُلُثُهُ قِنًّا فَيَكُونُ قَدْ ضَمَّنَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ثُلُثُهَا قِنًّا وَثُلُثُهَا مُدَبَّرًا (لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُلُثِهِ قِنًّا (يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا) إلَى وَقْتِ التَّدْبِيرِ (وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ) وَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى حَالِ أَدَاءِ الضَّمَانِ (دُونَ وَجْهٍ) وَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْحَقِيقَةِ حَالَ التَّدْبِيرِ (فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ) بَلْ الْمِلْكُ الْمُمْكِنُ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الثَّابِتُ حَالَ الْعِتْقِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَمَّنَهُ السَّاكِتُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ مُسْتَنِدًا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ نَصِيبُ السَّاكِتِ إلَيْهِ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ وَكَانَ لِلسَّاكِتِ الِاسْتِسْعَاءُ، فَكَذَا لِلْمُعْتِقِ، أَمَّا هُنَا فَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ تَضْمِينُ الْمُعْتِقِ فَكَذَا لَيْسَ الْقَائِمُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُدَبِّرِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ لِلسَّاكِتِ الْقَائِمِ هُوَ مَقَامَهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى قولهِ: إنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَنِدَ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلتَّضْمِينِ، إذْ قَدْ ثَبَتَ التَّضْمِينُ بِهِ لِلْعَبْدِ غَيْرَ أَنَّ الْمُدَبِّرَ وُجِدَ فِيهِ مَانِعٌ مِنْهُ وَهُوَ قِيَامُ مَقَامِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ، فَكَانَ الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ مِنْ الِابْتِدَاءِ لَا يُضَمِّنُهُ مَا ضَمَّنَ لِلسَّاكِتِ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ لَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ذَلِكَ الثُّلُثَ فَكَذَا لَيْسَ لِلْقَائِمِ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ ثُلُثِ نَفْسِهِ: أَعْنِي ثُلُثَ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِيهِ مَقَامَ أَحَدٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ وُرُودُ أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَنِدَ لَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِضَمَانِ مُفْسِدِهِ كَالْمُعْتِقِ الْمُفْسِدِ بِإِعْتَاقِهِ مِلْكَ الْمُدَبِّرِ فِي نَصِيبِ السَّاكِتِ.
وَالرُّجُوعُ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ تَضْمِينًا لِمُفْسِدِ الْمِلْكِ الْمُسْتَنِدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مُفْسِدًا شَيْئًا بَلْ تَضْمِينُهُ لِقِيَامِهِ بِالضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ مَقَامَ السَّاكِتِ وَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَهُ، فَكَذَا مَنْ صَارَ الْمِلْكُ لَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتِقْ الْمُعْتِقُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْمُدَبِّرِ الضَّمَانَ لِلسَّاكِتِ كَانَ لِلْمُدَبِّرِ تَضْمِينُهُ مَا ضَمَّنَهُ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا مَعَ ثُلُثِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وُجِدَ بَعْدَ تَمَلُّكِ الْمُدَبِّرِ نَصِيبَ السَّاكِتِ فَلَهُ تَضْمِينُ كُلِّ ثُلُثٍ بِصِفَتِهِ، كَذَا عَلَّلُوا.
وَالْوَجْهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ مَا ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ حَالَ عِتْقِ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ الْوَارِدَ أَيْضًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِلْكُهُ حَالَ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا، وَيَحْتَاجُ إلَى تَتْمِيمِهِ بِقولنَا فَيَكُونُ ثَابِتًا حَالَ الْإِعْتَاقِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَيَعُودُ السُّؤَالُ بِعِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَيُدْفَعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وُرُودِهِ.
هَذَا وَأَوْرَدَ الطَّلَبَةُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثُلُثَيْهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ حِينَ مَلَكَ ثُلُثَ السَّاكِتِ بِالضَّمَانِ صَارَ مُدَبَّرًا لَا قِنًّا، وَلِذَا قُلْنَا فِي وَجْهِ كَوْنِ ثُلُثَيْ الْوَلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ صَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَ ثُلُثَيْهِ ابْتِدَاءً.
وَالْجَوَابُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَنْعِ كَوْنِ الثُّلُثِ الَّذِي مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ صَارَ مُدَبَّرًا بَلْ هُوَ قِنٌّ عَلَى مِلْكِهِ، إذْ لَا مُوجِبَ لِصَيْرُورَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ الْآنَ لَا يُوجِبُهُ وَالتَّدْبِيرُ يَتَجَزَّأُ، وَذِكْرُهُمْ إيَّاهُ فِي وَجْهِ كَوْنِ ثُلُثَيْ الْوَلَاءِ لَهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ حِينَ أَعْتَقَ الْآخَرُ وَأَدَّى الضَّمَانَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَلَاؤُهُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا تَمَلُّكٍ.

متن الهداية:
وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبِّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبِّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ) فَإِنَّ أَحَدَ ثُلُثَيْهِ كَانَ نَصِيبُهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرُ تَمَلَّكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَ ثُلُثَيْهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثٌ أَعْتَقَهُ وَثُلُثٌ أَدَّى ضَمَانَهُ لِلْمُدَبِّرِ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْوَلَاءِ لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَيْسَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ وَمُعَاوَضَةٍ بَلْ ضَمَانَ إفْسَادٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُدَبَّرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ وَحِينَ أَعْتَقَهُ كَانَ مُدَبَّرًا، وَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ اخْتَارَ سِعَايَةَ الْعَبْدِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا أَثْلَاثًا لِكُلٍّ ثُلُثُهُ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فِي قولهِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ: أَيْ بَيْنَ عَصَبَةِ الْمُدَبِّرِ وَالْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَسَبَهُ لِقَاضِي خَانْ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُتَجَزِّئَ يُوجِبُ إخْرَاجَهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِتَنْجِيزِ أَحَدِ الْأُمُورِ مِنْ التَّضْمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى مَنَعَ اسْتِخْدَامَ الْمُدَبِّرَ إيَّاهُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ابْتِدَاءً وَدَبَّرَهُ الْآخَرُ السَّاكِتُ فَإِنَّهُ لَا تَتَأَخَّرُ حُرِّيَّةُ بَاقِيهِ إلَى مَوْتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِتْقٌ مُنْجَزٌ بَلْ تَدْبِيرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ كِتَابَةُ الْآخَرِ أَوْ قَلْبُهُ أَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لِشَرِيكَيْنِ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا تَقَيَّدَ فِي نَصِيبِهِ وَبَقِيَ نَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبًا مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَلَا سِعَايَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَا فِي الزِّيَادَاتِ: مُكَاتَبٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا سِعَايَةَ إلَّا بَعْدَ عَجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّ حَاصِلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ اسْتِسْعَاءٌ خَاصٌّ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ مُخْتَارًا أَوْ جَبْرًا بِإِجَارَتِهِ فَهُوَ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ الرِّقُّ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلْمُدَبِّرِ وَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَأَشْبَهَ الِاسْتِيلَادَ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَى هُنَا قول أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قولهِمَا فَلَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ التَّدْبِيرُ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبِّرًا لِشَرِيكِهِ الْمُدَبِّرِ (وَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا) فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ (وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (فَأَشْبَهَ الِاسْتِيلَادَ) أَيْ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ حَيْثُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا (بِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إفْسَادٍ) لَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِيَكُونَ نَصُّ الِاخْتِلَافِ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ وَارِدًا فِيهِ (وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ) عَلَى قولهِمَا (لِلْمُدَبِّرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ) لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى قولهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْإِفْسَادِ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يُنَافِي ضَمَانَ التَّمَلُّكِ لِأَنَّهُمَا حَيْثُ قَالَا: إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ فِي كُلِّ الْعَبْدِ حَتَّى كَانَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ يَلْزَمُهُ الْقول بِانْتِقَالِ مِلْكِ نَصِيبِ السَّاكِتِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْزِلُ عِتْقُهُ فِي جُزْءٍ لَا يَمْلِكُهُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَبْقَى ضَمَانُ التَّدْبِيرِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْآخَرُ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا وَيَوْمًا تَخْدُمُ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا) لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ انْقَلَبَ إقْرَارُ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ كَذَا هَذَا فَتَمْتَنِعُ الْخِدْمَةُ وَنَصِيبُ الْمُنْكِرِ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ فَتَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ صَدَقَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِلْمُنْكِرِ، وَلَوْ كَذَبَ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْخِدْمَةِ فَيَثْبُتُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَلَا خِدْمَةَ لِلشَّرِيكِ الشَّاهِدِ وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالضَّمَانِ، وَالْإِقْرَارُ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَزَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ هِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا) أَيْ لَا تَخْدُمُ فِيهِ أَحَدًا (وَيَوْمًا تَخْدُمُ الْمُنْكِرَ) وَلَوْ مَاتَ الْمُنْكِرُ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ عَتَقَتْ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لَهُ، وَتَسْعَى لِوَرَثَةِ الْمُنْكِرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَوَجْهُ هَذَا التَّفْرِيعِ أَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِ الشَّرِيكِ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ جِهَةِ شَرِيكِي، وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ أَعْتَقَ شَرِيكِي نَصِيبَهُ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَضْمِينِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ مُنْكِرٌ لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الرِّقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إفْسَادِهِ بِإِعْتَاقِهِ اُعْتُبِرَ إقْرَارُهُ بِفَسَادِهِ ثُمَّ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي تَمَامِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُقِرُّ عَلَيْهِ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَعَى لَهُ وَلَمْ يَسْعَ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي السِّعَايَةِ بَلْ فِي تَضْمِينِ الشَّرِيكِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ لِإِنْكَارِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا.
وَضَمَّهُ فِي الْكِتَابِ قول أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ بِقولهِ وَقَالَا بِاعْتِبَارِ قول مَرْجُوعٍ لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ أَنْ يُفْعَلَ إلَّا أَنْ يُقْرَنَ بِالْبَيَانِ فَيُقَالُ فِي قولهِ الْأَوَّلِ مَثَلًا وَإِلَّا أَوْهَمَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الْآنَ مَا لَيْسَ هُوَ قَائِلًا بِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ خِدْمَةَ الْمُنْكِرِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا عَلَى قول مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ؟ الْأَوَّلِ وَالصَّوَابُ أَنْ لَا خِدْمَةَ لَهُ عَلَيْهَا بَلْ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ صَارَ حَقُّ الْمُنْكِرِ فِي سِعَايَتِهَا وَتَخْرُجُ بِهَا إلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَفِي الْمُخْتَلَفِ فِي بَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفَقَتَهَا فِي كَسْبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فِي النَّفَقَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: نِصْفُ كَسْبِهَا لِلْمُنْكِرِ وَنِصْفُهُ مَوْقُوفٌ وَنَفَقَتُهَا مِنْ كَسْبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ فَنِصْفُ نَفَقَتِهَا عَلَى الْمُنْكِرِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ لِلْمُنْكِرِ، وَهَذَا اللَّائِقُ بِقول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيَنْبَغِي عَلَى قول مُحَمَّدٍ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا خِدْمَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا احْتِبَاسَ، وَأَمَّا جِنَايَتُهَا فَتَسْعَى فِيهَا عَلَى قول مُحَمَّدٍ كَالْمُكَاتَبِ وَتَأْخُذُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهَا: أَيْ تَأْخُذُ جِنَايَتَهَا مِمَّنْ جَنَى عَلَيْهَا لِتَسْتَعِينَ بِهَا، وَعَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ جِنَايَتُهَا مَوْقُوفَةٌ إلَى تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ.
قولهُ: (لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ اسْتَوْلَدَهَا. كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ) حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَوْلِدِ امْتَنَعَ الِاسْتِخْدَامُ عَلَى الْمُنْكِرِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا الْمُقِرُّ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ الِاسْتِخْدَامُ، وَالْمُقِرُّ أَيْضًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِخْدَامُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الِاسْتِخْدَامُ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْحَالُ أَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ اسْتِسْعَائِهَا لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهَا وَمَنَافِعِهَا عِنْدَهَا، وَلَا وَجْهَ إلَى تَضْمِينِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا اسْتَسْعَاهَا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُنْكِرَ أَخَذَ حِصَّتَهُ وَالْمُقِرَّ يُبَرِّئُهَا مِنْهُ وَيَدَّعِي أَنَّ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُنْكِرِ لِدَعْوَاهُ الِاسْتِيلَادَ فَصَارَتْ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ لَمَّا امْتَنَعَ بِإِسْلَامِهَا مَقَاصِدُ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَجَبَ أَنْ تَعْتِقَ بِالسِّعَايَةِ.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) وَعَلِمْت أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَهُ (أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُنْكِرِ نِصْفَ خِدْمَتِهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ) لِأَنَّ الْمُقِرَّ إمَّا صَادِقٌ فَيَكُونُ جَمِيعُ خِدْمَتِهَا لَهُ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ خِدْمَتَهَا، أَوْ كَاذِبٌ فَلَهُ نِصْفُهَا وَالْآخَرُ لِلْمُقِرِّ فَاسْتِحْقَاقُهُ نِصْفَهَا مُتَيَقَّنٌ.
وَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُقِرُّ فَلَا اسْتِخْدَامَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يُبَرِّئُهَا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ.
وَقولهُمَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ.
قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ إقْرَارٌ بِالنَّسَبِ (وَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يُرَدُّ بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ) بِنَفْسِهِ حُكْمًا، نَعَمْ يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِإِقْرَارِهِ فَيَمْتَنِعُ اسْتِخْدَامُهُ وَاسْتِسْعَاؤُهُ وَقَدْ قُلْنَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْرِي قولهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فَيَبْقَى حَقُّهُ عَلَى مَا كَانَ وَعِتْقُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ هَذَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا مِنْ الِانْقِلَابِ، وَحَاصِلُهُ مَنْعُ الِانْقِلَابِ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا) لِأَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَمُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْتَنَى عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
وَجْهُ قولهِمَا أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا، وَهَذَا هُوَ دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ، وَبِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا لَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقَوُّمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا) بِأَنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ (فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا) وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ لِلسَّاكِتِ فِيهِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَعِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ وَهُوَ قول سَائِرِ الْفُقَهَاءِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْتَنَى عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ) ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى: إحْدَاهَا هَذَا: وَالثَّانِيَةُ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَهِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَتَقَ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا لِشَرِيكِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْوَلَدَ فِي النِّصْفِ: يَعْنِي إذَا بَلَغَ حَدًّا يُسْتَسْعَى فِيهِ مِثْلُهُ.
وَمِنْهَا أُمُّ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا تَسْعَى لِلْآخَرِ عِنْدَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَتَسْعَى عِنْدَهُمَا.
وَمِنْهَا لَوْ غَصَبَ أُمَّ الْوَلَدِ غَاصِبٌ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَهُ وَيَضْمَنُ عِنْدَهُمَا.
وَذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ يَضْمَنُهَا عِنْدَهُ بِالْغَصْبِ كَمَا يَضْمَنُ بِهِ الصَّبِيَّ الْحُرَّ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا فِي مَسْبَعَةٍ فَافْتَرَسَهَا سَبْعٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ كَمَا يَضْمَنُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا حَيْثُ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِنْهَا لَوْ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَيَضْمَنُ عِنْدَهُمَا.
وَمِنْهَا أَمَةٌ حُبْلَى بِيعَتْ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ صَحَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُحْبَسُ مَا يَخُصُّهَا مِنْ الثَّمَنِ.
قولهُ: (وَجْهُ قولهِمَا) وَهُوَ قول الْجُمْهُورِ (أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا) وَكَذَا يَمْلِكُ كَسْبَهَا، وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ عَتَقَتْ، وَهَذَا هُوَ دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ وَالْفَائِتُ لَيْسَ إلَّا مُكْنَةُ الْبَيْعِ وَهُوَ لَا يَنْفِي التَّقَوُّمَ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ وَالْآبِقِ وَامْتِنَاعُ سِعَايَتِهَا لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى أَوْ وَرَثَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهَا مَثَلًا لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى حَاجَتِهَا لِدَفْعِ حَاجَتِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسَبُهُ وَمَاؤُهُ وَهَذَا مَانِعٌ يَخُصُّهَا لَا يُوجَدُ فِي الْمُدَبَّرِ فَلِذَا افْتَرَقَا فِي السِّعَايَةِ وَعَدَمِهَا (وَهَذَا) أَيْ الِانْتِفَاعُ الْمُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ (دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَكُونُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِيهَا لِعَدَمِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَا زِيَادَةَ بَعْدَ هَذَا إلَّا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، أَلَا يُرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ سَعَتْ لَهُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقَوُّمِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ الْمُسْلِمِ وَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ، فَإِذَا ثَبَتَ التَّقَوُّمُ فِي إحْدَاهُمَا ثَبَتَ فِي الْأُخْرَى، وَكَذَا وَلَدُ الْمَغْرُورِ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنَّ الْمَغْرُورَ يَضْمَنُ قِيمَةَ وَلَدِهِ مِنْهَا عِنْدَنَا.
وَحَاصِلُهُ دَلِيلَانِ: الْأَوَّلُ قِيَاسٌ عَلَى الْمُدَبَّرِ، وَالثَّانِي إجْمَاعٌ مُرَكَّبٌ.
وَأَيْضًا ثَبَتَتْ مَالِيَّتُهَا فَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا إلَّا بِمُقْتَضٍ وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ الطَّارِئِ بِالِاسْتِيلَادِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ لِثُبُوتِهِ مَعَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ فِيهِ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ مَعَ انْتِفَاءِ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لِثُبُوتِهِمَا فِيهِ.

متن الهداية:
غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا قَالُوا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالسِّعَايَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْفَائِتَ مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ، أَمَّا السِّعَايَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ بَاقِيَانِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ وَهِيَ مُحْرَزَةٌ لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّقَوُّمِ وَالْإِحْرَازُ لِلتَّقَوُّمِ تَابِعٌ، وَلِهَذَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عَمَلُهُ فِي حَقِّ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ فِي إسْقَاطِ التَّقَوُّمِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ فِيهِ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِهِ فَافْتَرَقَا.
وَفِي أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ قَضَيْنَا بِتَكَاتُبِهَا عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَفْتَقِرُ وُجُوبُهُ إلَى التَّقَوُّمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا قَالُوا لِفَوَاتِ) مَنْفَعَتَيْنِ (مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ وَالسِّعَايَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) وَالْبَاقِي مَنْفَعَةٌ مِنْ ثَلَاثٍ فَحِصَّتُهَا ثُلُثُ الْقِيمَةِ (بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ الْفَائِتَ مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ) فَقَطْ لِأَنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَيُسْتَخْدَمُ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ قِنًّا.
وَقولهُ عَلَى مَا قَالُوا يُفِيدُ الْخِلَافَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَسَكَتَ الْآخَرُ.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) الْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ اللَّوَازِمِ إنَّمَا هِيَ لَوَازِمُ الْمِلْكِ بَعْضُهَا أَعَمُّ مِنْهُ يَثْبُتُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْوَطْءِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْوَطْءَ يَثْبُتُ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمَنْكُوحَةِ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالْإِجَارَةُ تَثْبُتُ بِالْإِجَارَةِ وَاللَّازِمُ الْخَاصُّ هُوَ مِلْكُ الْكَسْبِ، وَلَا كَلَامَ فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي التَّقَوُّمِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا بِالْمِلْكِ وَإِنْ ثَبَتَ مَعَهُ، وَالْآدَمِيُّ وَإِنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَصْلِ مَالًا لِأَنَّهُ خُلِقَ لَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ إذَا أُحْرِزَ لِلتَّمَوُّلِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَحْرَزَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ إحْرَازُهُ لَهَا لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّمَوُّلِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ تَمَلُّكِهَا كَانَ لِلتَّمَوُّلِ، لَكِنْ عِنْدَمَا اسْتَوْلَدَهَا تُحَوَّلُ صِفَتُهَا عَنْ الْمَالِيَّةِ إلَى مِلْكٍ مُجَرَّدٍ عَنْهَا فَصَارَتْ مُحْرِزَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَهَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ تَقْبَلُ الْمَنْعَ: أَعْنِي انْتِفَاءَ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْإِحْرَازِ لِلنَّسَبِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الْإِحْرَازِ لِلنَّسَبِ وَانْتِفَاءِ التَّقَوُّمِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُنَافِهِ لَكِنَّهُ تَابِعٌ فَصَارَ الْإِحْرَازُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ كَالْمُنْتَفِي، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثُبُوتُ لَوَازِمِ الِانْتِفَاءِ شَرْعًا وَهُوَ عَدَمُ سِعَايَتِهَا لِغَرِيمٍ أَوْ وَارِثٍ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهَا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، وَإِنَّ مَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَيَاتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَالْمُدَبَّرِ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ خَرَجَ وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ تَعَلَّقَ بِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْحَيَاةِ مَالًا غَيْرَ أَنَّهُ مُوصًى بِهِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا بَطَلَتْ فَسَعَى فِي قِيمَتِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَحَيْثُ ثَبَتَ التَّقَوُّمُ فِي الْمُدَبَّرِ وَرُدَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُتَقَوِّمًا جَازَ بَيْعُهُ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِ الْمُدَبِّرِ مِنْ نَيْلِهِ ثَوَابَ عِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ إلْزَامِ التَّقَوُّمِ بِأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ بِمَنْعِ تَقَوُّمِهَا، وَإِلْزَامِ السِّعَايَةِ فِيهَا لَيْسَ لِذَلِكَ بَلْ لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهَا مُسْلِمَةً مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا وَهُوَ مِلْكٌ صَحِيحٌ فَأُنْزِلَتْ مُكَاتَبَةً عَلَيْهِ عَلَى قِيمَتِهَا.
وَنَقول: لَا يَفْتَقِرُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى التَّقَوُّمِ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمِ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ وَلَوْ سُلِّمَ، فَالْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهَا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورَةِ، أَوْ نَقول: هُوَ يَعْتَقِدُ الْمَالِيَّةَ فِيهَا وَجَوَازَ بَيْعِهَا، وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمْ يُبْتَنَى عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَمَا فِي مَالِيَّةِ الْخَمْرِ، أَوْ أَنَّ مِلْكَهُ لَمَّا احْتَبَسَ عِنْدَهَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، كَالْقِصَاصِ إذَا احْتَبَسَ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ الْآخَرِ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ.
وَبِهَذَا تَمَّ الْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا قولهُ فِي الْكِتَابِ (وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا) أَيْ فِي أُمِّ الْوَلَدِ (مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ) فَغَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ، إذْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا بِمَا ذَكَرْنَا عَدَمُ تَقَوُّمِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ حِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ.
عَدَمُ تَقَوُّمِهَا: يَعْنِي أَنَّ حِكْمَةَ إسْقَاطِ الشَّرْعِ تَقَوُّمَهَا ثُبُوتُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْلَاهَا الْحُرِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْمُصَاهَرَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ تَبِيعُوهُنَّ وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُهُنَّ بِلُحُومِكُمْ وَدِمَاؤُهُنَّ بِدِمَائِكُمْ؟ فَلِثُبُوتِ ذَلِكَ ثَبَتَ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنْ تُنَجَّزَ حُرِّيَّتُهَا لَكِنْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ فِيمَا سِوَاهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّقَوُّمِ لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقَوُّمِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنَجُّزِ الْعِتْقِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَثْبَتَ لَهَا الْوَلَدُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَ فِيمَا سِوَى حَقِيقَةِ الْعِتْقِ مَعْمُولًا بِهِ وَمِنْهُ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّدْبِيرُ أَيْضًا كَذَلِكَ: أَيْ سَبَبٌ فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ لِمَا ذَكَرَ فِي بَابِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَفِيَ تَقَوُّمُ الْمُدَبَّرِ عَلَى وَزْنِ انْتِفَائِهِ بِسَبَبِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَ سَبَبِيَّةِ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ لِضَرُورَةٍ هِيَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ يُوجِبُ بُطْلَانَهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَمَانُ زَوَالِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَأَخَّرُ سَبَبِيَّةُ كَلَامِهِ إلَيْهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ خَاصَّةً لَا فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ بَلْ يَبْقَى فِي حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ عَلَى الْأَصْلِ: يَعْنِي فَتَتَأَخَّرُ سَبَبِيَّتُهُ لِسُقُوطِ التَّقَوُّمِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قول الْمُصَنِّفِ:
وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ إلْزَامُ التَّنَاقُضِ وَذَلِكَ أَنَّ كَلَامَهُ فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ سَبَبَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ، وَسَبَبَ سُقُوطِهِ فِي الْمُدَبَّرِ مُتَأَخِّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا بَيَّنَّا.