فصل: (بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ):

(وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا) لِقولهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا قَالَ: (وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ. وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَالْإِسْلَامُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
وَالْقَذْفُ لُغَةً الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ.
وَفِي الشَّرْعِ: رَمْيٌ بِالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ. وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ. وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ. وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ السَّبْعَ الْكَبَائِرَ نُودِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَدْخُلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» وَذَكَرَ مِنْهَا «قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ».
وَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا) حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِسَائِرِ الْمَعَاصِي غَيْرِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بَلْ التَّعْزِيرُ (وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ) أَيْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا (وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهُودِ) يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ لِيَظْهَرَ بِهِ صِدْقُهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، وَلَا شَيْءَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إلَّا الزِّنَا، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحْصَنِ بِدَلَالَةِ هَذَا النَّصِّ بِالْقَطْعِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ صِفَةُ الْأُنُوثَةِ وَاسْتِقْلَالِ دَفْعِ عَارِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ.
قولهُ: (وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا) بِأَنْ قَالَ زَنَيْت أَوْ يَا زَانِي وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ الْقَاذِفُ (حُرًّا) وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حُدَّ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.
شَرْطُ الْإِحْصَانِ فِي الْمَقْذُوفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا.
وَعَنْ دَاوُد عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّهُ يُحَدُّ قَاذِفُ الْعَبْدِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ بَلْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ بِحَيْثُ يُجَامِعُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهِيَ خِلَافُ الْمُصَحَّحِ عَنْهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُحَدُّ بِقَذْفِ الذِّمِّيَّةِ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ قول الْجُمْهُورِ وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ عَلَيْهِ.
وَقولهُ (بِصَرِيحِ الزِّنَا) يَحْتَرِزُ عَنْ الْقَذْفِ بِالْكِنَايَةِ كَقَائِلِ صَدَقْت لِمَنْ قَالَ يَا زَانِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ كَمَا قُلْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ.
وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ فَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ.
وَلَوْ قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدْت بِهِ حُدَّ.
وَيُحَدُّ بِقولهِ زَنَى فَرْجُك وَبِقولهِ زَنَيْتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا قَطَعَ كَلَامَهُ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ بِخِلَافِهِ مَوْصُولًا.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ أَوْ أَبِي فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يُحَدُّ بِالتَّعْرِيضِ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا بِالتَّعْرِيضِ، وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ صَارَ كَالصَّرِيحِ.
قُلْنَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّارِعُ مِثْلَهُ، فَإِنَّا رَأَيْنَاهُ حَرَّمَ صَرِيحَ خِطْبَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فَقَال: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} وَقَال: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ نَفْيُ اتِّحَادِ حُكْمِهِمَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحَدَّ الْمُحْتَاطَ فِي دَرْئِهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْزَمْ الْحَدُّ لِلَّذِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ إلْزَامَ حَدِّ الْقَذْفِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَدَّعِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، وَوُرُودُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الرِّوَايَاتِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِالِاقْتِضَاءِ وَالثَّابِتُ مُقْتَضِي كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ.
وَالْحَقُّ أَنْ لَا دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ فِي ذَلِكَ لِمَا سَيُذْكَرُ بَلْ حَدُّهُ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ وَارِدٌ لَا يَنْدَفِعُ.
وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ النَّبَطِيِّ أَوْ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُحَدُّ لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِحِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ لِأَنَّ الزِّنَا إدْخَالُ رَجُلٍ ذَكَرَهُ إلَخْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَرَاهِمَ حَيْثُ يُحَدُّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ زَنَيْت وَأَخَذْت الْبَدَلَ إذْ لَا تَصْلُحُ الْمَذْكُورَاتُ لِلْإِدْخَالِ فِي فَرْجِهَا.
وَلَوْ قَالَ هَذَا لِرَجُلٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعُرْفُ فِي جَانِبِهِ أَخْذُ الْمَالِ.
وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَوْ جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا لَا يُحَدُّ لِعَدَمِ الْإِثْمِ وَلِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ، إذْ الْجِمَاعُ الْحَرَامُ يَكُونُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ فِي قولهِ يَا حَرَامْ زَادَهْ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرَامٍ زِنًا، وَلَا بِقولهِ أَشْهَدَنِي رَجُلٌ أَنَّك زَانٍ لِأَنَّهُ حَاكٍ لِقَذْفِ غَيْرِهِ، وَلَا بِقولهِ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى الزُّنَاةِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ فِي مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْعِلْمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، وَسَيَأْتِي خِلَافُهُ فِي فُرُوعٍ نَذْكُرُهَا.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَإِجْمَاعٌ إذَا كَانَ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمُطَالَبَةُ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ ثُمَّ إنَّ نَفْيَهُ عَنْ غَيْرِ الْمَقْذُوفِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَأَوْرَدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْجَوَابُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُطْلَقًا يَتَوَقَّفُ النَّظَرُ فِيهِ عَلَى الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا.
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ قَذْفٌ نَحْوُ الرَّتْقَاءِ وَالْمَجْبُوبِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَعَ صِدْقِ الْقَذْفِ لِلْمُحْصَنَةِ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَكَذَا الْأَخْرَسُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُصَدِّقَهُ لَوْ نَطَقَ.
وَفِي الْأَوَّلَيْنِ كَذِبُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَانْتَفَى إلْحَاقُ الشَّيْنِ إلَّا بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةً لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فَلَا يُحَدُّ كَمَا لَوْ قَذَفَ مَجْبُوبًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ مَحَلٌّ لِلزِّنَا لَا يُحَدُّ، وَكَوْنُ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مَجَازٌ لِمَا عُهِدَ لَهَا مِنْ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا زَانٍ حُدَّ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ (وَيُفَرَّقُ) الضَّرْبُ (عَلَى أَعْضَائِهِ لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا).
قولهُ: (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) إلَّا فِي قول مَالِكٍ (لِأَنَّ سَبَبَهُ) وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا كَذِبًا (غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ) لِجَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا غَيْرَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْبَيَانِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايِنٌ لِلشُّهُودِ أَوْ لِلْمُقِرِّ بِهِ، وَالْمَعْلُومُ لَهُمَا هُنَا نَفْسُ الْقَذْفِ، وَإِيجَابُهُ الْحَدَّ لَيْسَ بِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كَاذِبًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِعَدَمِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، قَالَ تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ بِالشُّهَدَاءِ لِأَنَّ فَائِدَةَ النِّسْبَةِ هُنَاكَ تَحْصُلُ، أَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ فَإِنَّمَا هُوَ تَشْنِيعٌ وَلَقْلَقَةٌ تُقَابَلُ بِمِثْلِهَا بِلَا فَائِدَةٍ (بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا غَيْرَ أَنَّهُ يَنْزِعُ عَنْهُ الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ) أَيْ الثَّوْبَ الْمَحْشُوَّ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْأَلَمِ إلَيْهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ ذُو بِطَانَةٍ غَيْرُ مَحْشُوٍّ لَا يُنْزَعُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَوْقَ قَمِيصٍ يُنْزَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْقَمِيصِ كَالْمَحْشُوِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَيَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ الَّذِي يَصْلُحُ زَاجِرًا.
قولهُ: (وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا إلَخْ) قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ، وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِإِقْرَارِ الْقَاذِفِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَتَقَدَّمَتْ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْقَاذِفُ الْإِحْصَانَ وَعَجَزَ الْمَقْذُوفُ عَنْ الْبَيِّنَةِ لَا يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ لِيُحَدَّ حَدَّ الْأَرِقَّاءِ الْقول قولهُ، وَلَا يُحَدُّ كَالْأَحْرَارِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ حُرٌّ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ، وَهَذَا قَضَاءٌ يَعْلَمُهُ فِيمَا لَيْسَ سَبَبًا لِلْحَدِّ فَيَجُوزُ (أَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ) فَالرَّقِيقُ لَيْسَ مُحْصَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَوْنُهُ مُحْصَنًا بِمَعْنًى آخَرَ كَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْصَنًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي إحْصَانِهِ تُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ فَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَكُونَ مُحْصَنًا بِجَمِيعِ الْمَفْهُومَاتِ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِحْصَانِ إلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي تَحَقُّقِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ كَوْنُهَا زَوْجَةً أَوْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ زَوْجًا، فَإِنَّهُ جَاءَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} أَيْ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْصَانِ الْقَذْفِ بَلْ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْصَانَ أُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فِي قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَسْلَمْنَ، وَهَذَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبِمَعْنَى الْعِفَّةِ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا، قَالَ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْعَفَائِفُ، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَفِيهِ إجْمَاعٌ، إلَّا مَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ مُحْصَنٌ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ وَالْأَصَحُّ عَنْهُ كَقول النَّاسِ وَقول مَالِكٍ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إلْحَاقِ الْعَارِ وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ.
وَالْعَامَّةُ يَمْنَعُونَ كَوْنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُهُمَا عَارٌ بِنِسْبَتِهِمَا إلَى الزِّنَا بَلْ رُبَّمَا يُضْحَكُ مِنْ الْقَائِلِ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ يَا زَانِي، إمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ.
وَإِمَّا لِعَدَمِ خِطَابِهِمَا بِالْحُرُمَاتِ.
وَلَوْ فُرِضَ لُحُوقُ عَارٍ لِمُرَاهِقٍ فَلَيْسَ إلْحَاقًا عَلَى الْكَمَالِ فَيَنْدَرِئُ.
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّنَا الْمُؤَثِّمُ، وَإِلَّا فَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا إذْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، لَكِنَّ الْقَذْفَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا كَانَ بِزِنًا يُؤَثَّمُ صَاحِبُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الزِّنَا مِنْهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ قَاذِفُ مَجْنُونٍ زَنَى حَالَةَ جُنُونِهِ لَكِنْ لَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ حِينَ إفَاقَتِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ.
وَلَوْ لَحِقَهُ عَارٌ آخَرُ فَهُوَ صِدْقٌ.
وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلْفِرْيَةِ لَا لِلصِّدْقِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْعِفَّةِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالزِّنَا وَلَا بِشُبْهَةٍ وَلَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي عُمُرِهِ.
فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً يُرِيدُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ.
وَكَذَا لَوْ وَطِئَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ أَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَوْ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً سَقَطَ إحْصَانُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ.
وَلَوْ مَسَّ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَدَخَلَ بِهَا أَوْ أُمِّهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ.
وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا وَدَخَلَ بِهَا سَقَطَ إحْصَانُهُ انْتَهَى لَفْظُهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بِنْتِ الْمَمْسُوسَةِ بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ نِكَاحَهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْفِي عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً) وَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي، وَعَلَّلَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أُمُّهُ زَانِيَةٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَلَا نِكَاحَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَانَ عَنْ زِنَاهَا مَعَهُ.
قِيلَ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَكُونَ أُمُّهُ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَسْت لِأَبِيك الَّذِي وُلِدْتَ مِنْ مَائِهِ بَلْ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهَذَا مَلْزُومٌ بِأَنَّ الْأُمَّ زَنَتْ مَعَ صَاحِبِ الْمَاءِ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قول الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ أَبِيهِ زَانِيًا لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي فَيَلْزَمُ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ مَعَ أَبِيهِ فَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِ أَبِيهِ زَنَى بِأُمِّهِ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ فَالْوَجْهُ إثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْأَبِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ وَيُنْسَبُ بِخُصُوصِهِ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَإِلَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ، وَجَوَابُهُ مَا سَيَجِيءُ.
وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْحَدِّ فِي هَذِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ قولهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ بِدَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذَنْ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَضَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْأَبِ الْأَبُ الْمَشْهُورُ، فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ) أَيْ حَقِيقَةُ نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ حَالَةُ سَبٍّ وَشَتْمٍ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَى عَدَمِ تَشَبُّهِهِ بِهِ فِي مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَيْسَ نِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا أَمْرًا لَازِمًا لِجَوَازِ نَفْيِهِ عَنْهُ.
وَالْقَصْدُ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، فَثُبُوتُ الْحَدِّ بِهِ بِمَعُونَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا.
وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي مِنْ قول مُحَمَّدٍ: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ حَمَلُوا الْأَثَرَ عَلَى النَّفْيِ حَالَةَ الْغَضَبِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّهُ حَالَةَ عَدَمِهِ لَمْ يَنْفِهِ عَنْ أَبِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ إذْ لَيْسَ قَذْفًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لَوْ كَانَ قَذْفًا أُخْرِجَ مِنْ حُكْمِ الْقَذْفِ.
وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا ابْنِ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ حَدَّهُ فِي قولهِ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ، وَإِذَا نَفَى نَسَبَهُ عَنْ أُمِّهِ فَقَدْ نَفَى وِلَادَتَهَا إيَّاهُ فَقَدْ نَفَى زِنَاهَا بِهِ فَكَيْفَ يُحَدُّ.
هَذَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْصِيلٌ بَلْ يُحَدُّ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا حَلِيلَةَ فُلَانٍ لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يُرِيدُ بِفُلَانٍ جَدَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ) وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ: يَعْنِي جَدَّهُ هُوَ صَادِقٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ مَجَازًا مُتَعَارَفًا وَفِي بَعْضِ أَصْحَابِنَا ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَأَمِيرُ الْحَاجِّ جَدُّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ قولهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ وَمَعْنًى حَقِيقِيٌّ هُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ أَوْ عَدَمِ زِنَاهَا بَلْ بِشُبْهَةٍ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: يُمْكِنُ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَقَدْ حَكَمُوا بِتَحْكِيمِ الْغَضَبِ وَعَدَمِهِ، فَمَعَهُ يُرَادُ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ، وَمَعَ عَدَمِهِ يُرَادُ الْمَجَازِيُّ.
وَقولهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِجَدِّهِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ مُشَابَهَتِهِ لِجَدِّهِ، وَمَعْنَيَانِ حَقِيقِيَّانِ أَحَدُهُمَا نَفْيُ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ وَالْآخَرُ نَفْيُ كَوْنِهِ أَبًا أَعْلَى لَهُ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ: نَفْيُ كَوْنِ أَبِيهِ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ بَلْ زَنَتْ جَدَّتُهُ بِهِ، أَوْ جَاءَتْ بِهِ بِشُبْهَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي يَصِحُّ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِمَ بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ: أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُخْبِرَهُ فِي السِّبَابِ بِأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ بِهِ بِغَيْرِ زِنًا بَلْ بِشُبْهَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ أَيْضًا بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ نَفْيُ نَسَبِ أَبِيهِ عَنْهُ وَقَذْفِ جَدَّتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِخْبَارِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ مِنْ مَاءِ جَدِّك، وَهُوَ مَعَ سَمَاجَتِهِ أَبْعَدُ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لِأَبِيهِ، لِأَنَّ هَذَا كَقولنَا السَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ بِلَا تَفْصِيلٍ، كَمَا أَنَّ فِي تِلْكَ إجْمَاعًا عَلَى ثُبُوتِهِ بِالتَّفْصِيلِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ حُدَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ صَرِيحٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ ابْنَهُ شَرْعًا بِلَا زِنًا عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ سَتَأْتِي فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهَا هُنَا أَنْسَبُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ) فَإِذَا طَالَبَ بِهِ حُدَّ الْقَاذِفُ (وَلَا يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ) وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا مَعْنًى لَهُمَا فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا فَلَا يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلَا لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ يَثْبُتُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ، وَوَلَدُ الِابْنِ وَوَلَدُ الْبِنْتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ أَخٌ وَلَا عَمٌّ وَلَا جَدٌّ أَبُو الْأَبِ وَلَا أُمُّ الْأُمِّ وَلَا عَمَّةٌ وَلَا مَوْلَاهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ لِكُلِّ وَارِثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ، فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ وَيُورَثُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ.اهـ.
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
ثُمَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَرِثَهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي غَيْرُ الْوَارِثِ بِالزَّوْجِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ لَا غَيْرُهُمْ (وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ، وَلِذَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَخِ عِنْدَنَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ.
فَاللَّاحِقُ مِنْ الْعَارِ لِلْإِنْسَانِ كَاللَّاحِقِ لِنَفْسِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، بِخِلَافِ الْأَخِ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرُ عَارِ زِنَا أَخِيهِ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ النَّفْعُ بِانْتِفَاعِ أَخِيهِ، وَلِعِلْمِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ، فَلَيْسَ لِأَخِي الْمَقْذُوفِ وَلَا لِعَمِّهِ وَخَالِهِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ نَفْسِ الْمَشْهُودِ لَهُ (وَلِهَذَا) أَعْنِي لِكَوْنِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلُحُوقِ الْعَارِ غَيْرَ دَائِرٍ مَعَ الْإِرْثِ (يَثْبُتُ لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ) أَوْ الرِّقِّ أَوْ الْكُفْرِ فَلِقَاتِلِ أَبِيهِ أَنْ يُطَالِبَ قَاذِفَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ بِنْتِ الْمَقْذُوفِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) وَيَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ (وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ) حَقُّ الْمُطَالَبَةِ (مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ لِأَنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقولهُ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ هِيَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ نَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي لَفْظِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَلِذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ لَا يَدْخُلُ ابْنُ الْبِنْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ عَنْهُمْ أَوْ لَا يُمْنَعُ عَدَمُ الدُّخُولِ بَلْ يَدْخُلُ كَقول الْخَصَّافِ وَقَدْ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي الْوَقْفِ، وَثَانِيًا بِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْقَذْفِ ثُبُوتُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِرُجُوعِ عَارِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِنْسَانِ إلَى الْآخَرِ، وَثُبُوتُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ تَبَادُرِ وَلَدِ الْبِنْتِ مِنْ قولنَا أَوْلَادُ فُلَانٍ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى مَنْ يُسَمَّى بِهِ.
فَإِذَا لَمْ يَتَبَادَرْ لَا يَشْمَلُهُ الْوَقْفُ وَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ بَنَاتِهِ لِهَذَا.
وَجْهُ قول زُفَرَ إنَّ مَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَقْذُوفِ مَعَهُ وَاعْتَبَرَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ.
وَالْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ مَا يَلْحَقُ الْأَقْرَبَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْأَبْعَدَ بَلْ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِالْجُزْئِيَّةِ لَحِقَهُ مِنْ الْعَارِ مِثْلُ مَا لَحِقَ الْآخَرَ لِاتِّحَادِ الْجِهَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ مَعَ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ الْعَارُ مَقْصُودًا بِالْإِلْحَاقِ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.
وَأَمَّا حَقُّ خُصُومَةِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» فَعُلِمَ تَرَتُّبُهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِهِ حَيْثُ عُلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ ظَهَرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ بِقَذْفِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ إنَّمَا خَالَفَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ فَمَا وَجْهُ مَا فِي قَاضِي خَانَ فَإِذَا قَالَ جَدُّك زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: ذَلِكَ لِلْإِيهَامِ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا مَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا، بِخِلَافِ قولهِ أَنْتَ ابْنُ ابْنِ الزَّانِيَةِ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِجَدِّهِ الْأَدْنَى، فَإِنْ كَانَ أَوْ كَانَتْ مُحْصَنَةً حُدّ.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ) خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقول: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى.
وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَلِابْنِهِ الْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَلِكُلِّ مَنْ قَالَ طَرِيقُهُ لِلْإِرْثِ: يَعْنِي إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الِابْنُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَقْذُوفِ (هُوَ يَقول الْقَذْفُ تَنَاوَلَ الِابْنَ مَعْنًى لَا صُورَةً لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ) وَلَيْسَ الْحَدُّ الْآنَ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ لِأَجْلِ أُمِّهِ إذْ لَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا.
وَإِذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى فَغَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْقَذْفِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لِعَدَمِ إحْصَانِهِ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ الْقَاذِفُ (عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ) هُوَ أُمُّهُ أَوْ أَبُوهُ (فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي) الْمَقْذُوفِ قَصْدًا وَهُوَ (الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ) لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ تَعْيِيرًا كَامِلًا إلَّا إذَا كَانَ مُحْصَنًا (ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ) فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِلشَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ لَا لِلْخِلَافَةِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى (وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ نَفْسَهُ) لِعَدَمِ إحْصَانِهِ فَلَمْ يَقَعْ التَّعْيِيرُ إذْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا عَلَى الْكَمَالِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ لِلتَّعْيِيرِ الْكَامِلِ وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ.
قولهُ: (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ) أَيْ الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ مَوْتِهَا (وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ) وَإِنْ عَلَا (بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ مَوْتِهَا بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ حُرَّةٌ، أَوْ قَالَ لِابْنِهِ أَوْ لِابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ وَهُوَ قول أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِإِطْلَاقِ آية: {فَاجْلِدُوهُمْ} وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا حُدَّ الْأَبُ سَقَطَتْ عَدَالَةُ الِابْنِ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ عُقُوبَةِ أَبِيهِ مَعَ قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَوْ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ بِقولهِ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ (وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ) وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ فَانْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ وَصَارَ الْأَصْلُ لَنَا عُمُومَ الْآيَةِ، أَعْنِي قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فَلِشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِلْأَبِ فِي الْمَسْرُوقِ فَلَا يُرَدُّ عَلَى مَالِكٍ.
نَعَمْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُقَادُ بِهِ لَازِمَةٌ، فَإِنَّ إهْدَارَ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى مَعَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُتَيَقَّنٌ بِسَبَبِهِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فِيهِمَا، وَلِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الْقَطْعِ بِسَبَبِ مَالِ الِابْنِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قولهِ وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ) اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُطَالَبَةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ بِقَذْفِ أُمِّهِ، قِيلَ لِأَنَّ حَقَّ عَبْدِهِ حَقُّهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِسَبَبِ حَقِّ نَفْسِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَ لَهَا) أَيْ لِزَوْجَتِهِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي قَالَ لِوَلَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ (وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْخُصُومَةِ وَظَهَرَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا مَانِعٌ دُونَ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ فِي الْآخَرِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَسْتَحِقُّونَ الْمُطَالَبَةَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْآخَرِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، بِخِلَافِ عَفْوِ أَحَدِ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصَ بِمَنْعِ اسْتِيفَاءِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ وَاحِدٌ لِلْمَيِّتِ مَوْرُوثٌ لِلْوَارِثِينَ، فَبِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْعَفْوِ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ تُجْزِيهِ، أَمَّا هُنَا فَالْحَقُّ فِي الْحَدُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ وِلَايَةٍ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا.
فَرْعٌ:
يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ الْغَائِبِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ، وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَفَا أَوْ أَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَلَا يَخْفَى قُصُورُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ فَمَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ (وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ.
وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ.
وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قول الشَّافِعِيِّ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ) فَيَرِثُ الْوَارِثُ الْبَاقِي فَيُقَامُ لَهُ (وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ) كَالْقِصَاصِ (فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ (هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ ثُمَّ) نَعْلَمُ (أَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّوَاجِرِ كُلِّهَا إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ) إذْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا إنْسَانٌ دُونَ غَيْرِهِ (وَبِكُلٍّ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ (تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ) فَبِاعْتِبَارِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي إقَامَتِهِ وَلَمْ تَبْطُلْ الشَّهَادَةُ بِالتَّقَادُمِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَيُقِيمُهُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ إذَا عَلِمَهُ فِي أَيَّامِ قَضَائِهِ، وَكَذَا لَوْ قَذَفَهُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي حَدَّهُ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ عِنْدَهُ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا اجْتَمَعَا.
وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَبِاعْتِبَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَقْذُوفِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ سُقُوطِهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ وَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَالْعُقُوبَاتِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ التَّالِفِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ وَلَمْ يُمْكِنْ إهْدَارُ مُقْتَضَى إحْدَاهُمَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُمَا فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ الْحَقَّيْنِ (إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًا) بِتَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لَا مُهْدَرًا (وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ) أَيْ لَوْ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لَزِمَ أَنْ لَا يُسْتَوْفَى حَقُّ الشَّرْعِ إلَّا بِالتَّحْكِيمِ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اسْتِيفَائِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَنْصِبُهُ الشَّرْعُ عَلَى إنَابَةِ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، بَلْ الثَّانِي اسْتِنَابَةُ الْإِمَامِ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَفَرَّعَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَعْدَ الْفُرُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا الشَّاهِدَةِ لِكُلٍّ مِنْ ثُبُوتِ الْجِهَتَيْنِ، مِنْهَا الْإِرْثُ فَعِنْدَهُ يُورَثُ.
وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ إنَّمَا يَرِثُ الْعَبْدُ حَقَّ الْعَبْدِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَالًا، أَوْ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِ كَالْكَفَالَةِ، أَوْ فِيمَا يَنْقَلِبُ إلَى الْمَالِ كَالْقِصَاصِ، وَالْحَدُّ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهَا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى اسْتِخْلَافِ الشَّرْعِ وَارِثَ مَنْ جُعِلَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ أَوْ وَصِيَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ الَّتِي جَعَلَهَا شَرْطًا لِظُهُورِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْقَذْفُ وَالْإِحْصَانُ لَوْ عَفَا الْمَقْذُوفُ عَنْ الْقَاذِفِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَيُحَدُّ عِنْدَنَا، وَيَصِحُّ عِنْدَهُ، وَلَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا الْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَّا أَنْ يَقول الْمَقْذُوفُ لَمْ يَقْذِفْنِي أَوْ كَذَبَ شُهُودِي، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ وَقَعَ ثُمَّ سَقَطَ بِقولهِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا إذَا صَدَّقَهُ الْمَقْذُوفُ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَهُوَ قول أَحْمَدَ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، حَتَّى لَوْ قَذَفَ شَخْصًا مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كَانَ فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ حَدٌّ بَيْنَ الْقَذْفَيْنِ.
وَلَوْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فَحُدَّ فَفِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ ادَّعَى آخَرُونَ كُمِّلَ ذَلِكَ الْحَدُّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قول الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ.
قولهُ: (وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ إلَخْ) وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَتَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَالْأَشْهَرُ لِأَنَّهُ قول عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَذَهَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَقول الشَّافِعِيِّ (وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ) الْمُخْتَلَفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا تَوْجِيهُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تُبْنَى عَلَيْهِ وَالْمَعْقول يَشْهَدُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى الضَّرْبِ الْوَاجِبِ أَوْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَزِيدُ الْمَقْذُوفَ فِي قُوَّتِهِ لِحَنَقِهِ فَيَقَعُ مُتْلِفًا؛ وَإِنَّمَا لَا يُورَثُ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ لَيْسَ مَالًا وَلَا بِمَنْزِلَتِهِ فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا هُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي الْعَفْوِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَارِ وَالرِّضَا بِالْعَارِ عَارٌ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَخْرِيجٌ لِبَعْضِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي تَخْرِيجِهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْعَفْوِ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمَقْذُوفِ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ مَمْنُوعٌ، بَلْ فِيهِ صِيَانَةُ أَعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ خُصُوصِ الْقَاذِفِ، وَصِيَانَةُ أَعْرَاضِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِالْعَارِ بَلْ قَدْ لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ، وَكَوْنُهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ لِلتُّهْمَةِ بِسَبَبِ حَنَقِهِ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَعْفُوَ فَلَا يَعْقِلُ ذَلِكَ أَصْلًا، وَمَا ذَكَرْنَا فِي تَرْجِيحِ تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَهُ مِمَّا فِي الْخَبَّازِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقول مُحَمَّدٍ إنْ وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ حَقُّ النَّاسِ فَقَدْ وَقَعَ فِي آخَرَ أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ) فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِالْغَيْرِ وَبِالرُّجُوعِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَيْرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّ الْغَيْرِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ أَلْحَقَ الشَّيْنَ لَا أَثَرَ لَهُ، بَلْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا أَلْحَقَ الشَّيْنَ ثَبَتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فَلَا يُقْبَلُ إبْطَالُهُ، فَإِلْحَاقُ الشَّيْنِ تَأْثِيرُهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَيْسَ غَيْرُ، ثُمَّ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ لَيْسَ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ) أَوْ قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ (لَا يُحَدُّ) وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَدُّ إذَا نَوَى الشَّتْمَ، وَعَنْهُ إذَا قَالَ يَا رُومِيُّ لِعَرَبِيٍّ أَوْ فَارِسِيٍّ أَوْ يَا فَارِسِيُّ لِرُومِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ وَلَيْسَ فِي آبَائِهِ خَيَّاطٌ يُحَدُّ.
قُلْنَا: الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَأَمَّا قَذْفُ أُمِّهِ أَوْ جَدَّةٍ مِنْ جَدَّاتِهِ لِأَبِيهِ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فَلِذَا أَطْلَقُوا نَفْيَ الْحَدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالَةَ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا، وَهَذَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ مِمَّا يُشْتَمُّ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُتَعَارَفْ مِثْلُهُ فِي الْقَذْفِ أَصْلًا يُجْعَلُ فِي الْغَضَبِ شَتْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلِأَنَّ النَّبَطِيَّ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ إلَى الْمَكَانِ عَلَى مَا قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ: النَّبَطُ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا رِيفِيُّ فِي عُرْفِنَا: أَيْ يَا قَرَوِيُّ لَا يُحَدُّ بِهِ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ النَّبَطِيُّ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ (وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِقولهِ تعالى: {نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّا لَهُ.
وَالثَّانِي: لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْخَالُ أَبٌ».
وَالثَّالِثُ: لِلتَّرْبِيَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) وَكَذَا إذَا قَالَ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ وَيَا ابْنَ جَلَا لِأَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ هَذِهِ لِقَصْدِ الْمَدْحِ، فَمَاءُ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ الْأَزْدِيُّ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ فَهُوَ كَمَاءِ السَّمَاءِ عَطَاءً وُجُودًا.
وَمُزَيْقِيَاءُ لُقِّبَ بِهِ ابْنُهُ عَمْرُو لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ كُلَّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا فَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى لُبْسِهِمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ قول الْقَائِلِ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ لِلذَّمِّ بِالسَّرَفِ وَالْإِعْجَابِ، لَكِنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ جُودُهُ، وَقَدْ لُقِّبَ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَيْضًا لِلْحُسْنِ وَالصَّفَاءِ وَبِهِ لُقِّبَتْ أُمُّ ابْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ لِوَلَدِهَا بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَازَمَتْ الْمُلُوكَ مِنْ آلِ نَصْرٍ ** وَبَعْدَهُمْ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ

وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ، وَأَمَّا جَلَا فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ إنْسَانٌ فِي قول سُحَيْمٍ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا ** مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي

وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَمًا لَهُ بَلْ وَصْفٌ حَيْثُ قَالَ جَلَا هُنَا فِعْلُ مَاضٍ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ابْنُ الَّذِي جَلَا: أَيْ أَوْضَحَ وَكَشَفَ.
وَأَمَّا قول الْقَلَّاخِ:
أَنَا الْقَلَّاخُ بْنُ جُنَابِ بْنِ جَلَا

فَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ عَلَمًا لَقَبًا وَكَوْنُهُ وَصْفًا أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي كَشْفِ الشَّدَائِدِ وَإِمَاطَةِ الْمَكَارِهِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ اسْمُهُ مَاءُ السَّمَاءِ: يَعْنِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ يُحَدُّ فِي حَالِ السِّبَابِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِهِ وَإِنْ كَانَ لِلسَّخَاءِ وَالصَّفَاءِ فَيَنْبَغِي فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّفْيِ، لَكِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لِمَا لَمْ يُعْهَدْ اسْتِعْمَالُهُ لِذَلِكَ الْقَصْدِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ التَّهَكُّمُ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي قولهِ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لَمَّا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النَّفْيِ يُحْمَلُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ عَلَى سَبِّهِ بِنَفْيِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ عَنْهُ لَيْسَ غَيْرُ.
قولهُ: (وَإِنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا فَالْأَوَّلُ) وَهُوَ تَسْمِيَةُ الْعَمِّ أَبًا لِقولهِ تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ أَيْ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَالثَّانِي لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْخَالُ أَبٌ») قَالُوا هُوَ غَرِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي كِتَابِ الْفِرْدَوْسِ لِأَبِي شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعا: «الْخَالُ وَالِدُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ» (وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ) وَقِيلَ فِي قوله تعالى: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ:
وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِهِ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صَعِدْتَ الْجَبَلَ) وَالْحَالَةُ حَالَةُ الْغَضَبِ وَسَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ مُرَادٌ لَا يُصَدَّقُ (وَيُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ، قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ:
وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ)

وَالزِّنَا وَإِنْ كَانَ يُهْمَزُ فَيُقَالُ زَنَأَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكِنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ مُرَادًا.
وَقولهُ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ هُوَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ تُرْقِصُ ابْنًا لَهَا:
أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك أَوْ أَشْبِهْ عَمَلِ

تُرِيدُ عَمَلِي.
وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكِلِ

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدْ انْجَدِلْ

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

وَأَمَّا عَلَى قول شَارِحِ إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ لِرَجُلٍ رَأَى ابْنًا لَهُ تُرْقِصُهُ أُمُّهُ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهَا وَقَالَ:
أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك.......أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا ** أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا

تَقْصُرُ عَنْ مِثْلِهِ يَدَاكَا ** وَاَللَّهُ بِالنِّعْمَةِ قَدْ وَالَاكَا

وَالْهِلَّوْفُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً الثَّقِيلُ، وَالْوَكِلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ قولهُ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلَ بِالْجِيمِ، وَقَالَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ جَمَلُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْوَكِلُ الْعِيَالُ عَلَى غَيْرِهِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا) عَلَى مَا أَسْلَفْنَا (لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ) أَيْ اللَّيِّنَ فِي غَيْرِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَقول الْعَجَّاجِ:
وَخِنْدَفٌ هَأْمَةُ هَذَا الْعَالِمِ

وَمِنْهُ قولهُ:
صَبْرًا فَقَدْ هَيَّجْت شَوْقَ الْمُشْتَئِقِ

لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الْكَسْرِ بِالْهَمْزِ، وَأَمَّا نَحْوُ قَطَعَ اللَّهُ أَدِّيهِ: أَيْ يَدَيْهِ، فَالتَّمْثِيلُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَرْفِ اللِّينِ أَوْ الْمُلَيَّنِ حَرْفُ الْعِلَّةِ، لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ الْعِلَّةِ بِقَيْدِ السُّكُونِ وَقَدْ يَهْمِزُونَ فِي الِالْتِقَاءِ عَلَى حَدِّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ يُقَالُ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ، وَقُرِئَ وَلَا الضَّأْلِينَ شَاذًّا وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُقَالُ بِمَعْنَى الْفَاحِشَةِ وَبِمَعْنَى الصُّعُودِ، فَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا، وَهَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ إرَادَةُ قَيْدٍ لِلْغَضَبِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ يَا زَانِي أَوْ زَنَأْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا.
وَقولهُ (وَذِكْرُ الْجَبَلِ بِعَيْنِ الصُّعُودِ مُرَادًا) قُلْنَا إنَّمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى فَيُقَالُ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْنَعُ بَلْ يُقَالُ زَنَأْت فِي الْجَبَلِ بِمَعْنَى صَعِدْت ذَكَرَهُ فِي الْجَمْهَرَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الصُّعُودُ وَهُوَ بِلَفْظَةِ فِي، بَلْ الْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُعَيِّنُ الصُّعُودَ فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ قَدْ تَقَعُ فِي الْجَبَلِ: أَيْ فِي بَعْضِ بُطُونِهِ، وَعَلَى الْجَبَلِ: أَيْ فَوْقَهُ، كَمَا قَدْ تَقَعُ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ إرَادَةِ الْفَاحِشَةِ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ بِحَالِهِ وَتَرَجَّحَ إرَادَةُ الْفَاحِشَةِ بِقَرِينَةِ حَالِ السِّبَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ (وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ) وَالْبَاقِي بِحَالِهِ: أَيْ فِي حَالِ الْغَضَبِ (قِيلَ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا) آنِفًا إنْ ذَكَرَ لَفْظَةَ: عَلَى. تَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُرَادِ الصُّعُودَ.
(وَقِيلَ يُحَدُّ) لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ وَهُوَ الْأَوْجُهُ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ تَقْيِيدِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِحَالَةِ الْغَضَبِ أَنَّ فِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ إذْ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ بَلْ لَا دَاعِيَ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَةِ السَّبِّ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا بَلْ أَنْتَ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) إذَا طَالَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ، وَإِذَا طَالَبَ كُلٌّ الْآخَرَ وَأَثْبَتَ مَا طَلَبَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ إسْقَاطِهِ فَيُحَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ مَثَلًا يَا خَبِيثُ فَقَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ تَكَافَآ وَلَا يُعَزَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ فَتَسَاقَطَا، أَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ قَاذِفًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ، وَلِذَا لَوْ كَانَ الْمُجِيبُ عَبْدًا حُدَّ هُوَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَاذِفٌ بِقولهِ بَلْ أَنْتَ وَالْحُرُّ وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا أَيْضًا، لَكِنْ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْعَبْدِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (إذْ هِيَ) يَعْنِي بَلْ (كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ) يَعْنِي فِي التَّرَاكِيبِ الِاسْتِعْمَالِيَّة (فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ خَبَرِيًّا (مَذْكُورًا فِي الثَّانِي) فَإِذَا قَالَ زَيْدٌ قَامَ أَوْ قَامَ زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو فَقَدْ وَضَعَ عَمْرًا فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ مَوْضِعَ زَيْدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْ الْمُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْ بِالْأَوَّلِ لَفْظَ يَا زَانِي بَلْ هُوَ إعْطَاءُ النَّظِيرِ مَعْنًى: أَيْ هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَيَصِيرُ وَاصِفًا لِلْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ مَعْنًى لِأَنَّ يَا زَانِي فِي مَعْنَى أَدْعُوك وَأَنْتَ زَانٍ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ، وَفِي الْبَدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك.
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ، حُدَّتْ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً) إذَا تَرَافَعَا (وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا إيَّاهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَاللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَبِتَقْدِيمِ حَدِّ الْمَرْأَةِ يَبْطُلُ اللِّعَانُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْدُودَةً، فِي قَذْفٍ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَحْدُودَةِ فِي الْقَذْفِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَبِتَقْدِيمِ اللِّعَانِ لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجْرِي عَلَى الْمُلَاعَنَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَخَاصَمَتْهُ الْأُمُّ فَحُدَّ سَقَطَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ، فَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا لَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَإِذَا خَاصَمَتْ الْأُمُّ بَعْدَهُ حُدَّ لِلْقَذْفِ فَقَدَّمْنَا الْحَدَّ دَرْءًا لِلِّعَانِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ (وَلَوْ) كَانَتْ (قَالَتْ) فِي جَوَابِ قولهِ يَا زَانِيَةً (زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ) فَتَكُونُ قَدْ صَدَقَتْ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ اللِّعَانُ وَقَذَفَتْهُ حَيْثُ نَسَبَتْهُ إلَى الزِّنَا وَلَمْ يُصَدِّقْهَا عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْنَى قولهِ (وَانْعِدَامُهُ مِنْهُ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْهُ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ (وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مِنْ تَمْكِينِي إيَّاكَ بَعْدَ النِّكَاحِ) وَهَذَا كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْعَادَةِ مَجْرَى مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ قولهِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَإِنَّ فِعْلَهَا مَعَهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ زِنًا، كَمَا أَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ سَيِّئَةً وَلَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ لِلْمُشَاكَلَةِ حِينَ ذُكِرَ مَعَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ هَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْذِفْهُ، وَيَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، فَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ، وَالْحُكْمُ بِتَعَيُّنِ أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ بِعَيْنِهِ مُتَعَذِّرٌ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كُلٍّ مِنْ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، وَهَذَا مَعْنَى قولهِ (فَجَاءَ مَا قُلْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ.
وَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ قولهَا مَعْلُومُ الْوُقُوعِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَصْدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ إيَّاهَا بِالْإِغَاظَةِ لَوَجَبَ حَدُّهَا أَلْبَتَّةَ عَيْنًا بِقَذْفِهَا إيَّاهُ.
إذْ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا تَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ تَحْلِفَ الزَّوْجَةُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَلَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ وَيَكْتَفِي بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي وَجْهٍ، وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ دُونَهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْهَا لَيْسَ إقْرَارًا صَحِيحًا بِالزِّنَا.
وَبِقولنَا قَالَ أَحْمَدُ.
وَلَوْ ابْتَدَأَتْ الزَّوْجَةُ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا زَنَيْت بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ (وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ.
فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا، وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ فَإِنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا لِزَوْجَتِهِ فَيُلَاعَنُ) وَإِنْ نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ اللِّعَانِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ الَّذِي كَانَ وَجَبَ بِنَفْيِهِ لِلْوَلَدِ (لِأَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي زِنَا الزَّوْجَةِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي اللِّعَانِ مَا هُوَ إلَّا (حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّهُ قَذَفَهَا (فَإِذَا بَطَلَ) الْحَلِفُ بِبُطْلَانِ (التَّكَاذُبِ صُيِّرَ إلَى الْأَصْلِ) فَيُحَدُّ الرَّجُلُ.
وَقولهُ (وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ) الَّذِي ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَتَفْرِيقِ الْقَاضِي حَدَّهُ الْقَاضِي وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ.
وَقولهُ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوَلَدِ ثُمَّ نَفَاهُ وَمَا إذَا نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ (لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا) فَيَثْبُتُ وَلَا يَنْتَفِي بِمَا بَعْدَهُ (أَوْ لَاحِقًا) فِي الثَّانِيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ بَعْدَ النَّفْيِ.
وَقولهُ (وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ لَيْسَ إلَّا نَفْيَ الْوَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يُنْفَ كَيْفَ يَجِبُ اللِّعَانُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ قَطْعُ النَّسَبِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ أَنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا يُقْطَعُ النَّسَبُ (كَمَا يَصِحُّ بِلَا وَلَدٍ) أَصْلًا بِأَنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَلَا وَلَدَ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا وَلَدَ هُنَاكَ يُقْطَعُ نَسَبُهُ، وَأَمَّا إنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَتِهِ الْآيِسَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي النَّسَبُ فَيَثْبُتُ انْفِكَاكُ اللِّعَانِ عَنْ قَطْعِ النَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ.
قولهُ: (وَإِنْ قَالَ) أَيْ الزَّوْجُ الَّذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ (لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُ) إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ ابْنُهَا (أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ) فَكَانَ نَفْيُ كَوْنِهِ ابْنَهُ لِنَفْيِ وِلَادَتِهَا إيَّاهُ.
وَبِنَفْيِ وِلَادَتِهَا لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلزِّنَا مِنْهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ) وَقْتَ الْقَذْفِ أَوْ مَيِّتٌ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ).
أَمَّا لَوْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ادَّعَى الْوَلَدَ فَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى مَاتَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ فَقَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَاذِفٌ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ قَبْلَ مَوْتِهِ حُدَّ، وَلَا يُحَدُّ الَّذِي قَذَفَهَا قَبْلَ تَكْذِيبِ نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ وَهُوَ يُنْكِرُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيُحَدُّ.
وَمَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ صُورَةِ الزَّوَانِي، وَلَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ فَرَافَعَتْهُ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ وَجْهِ عَدَمِ الْحَدِّ فِي ذَاتِ الْأَوْلَادِ قِيَامُ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا: أَيْ إلَى الْإِمَارَةِ (وَهِيَ) أَيْ الْعِفَّةُ (شَرْطٌ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ قوله: «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَدَّعِيَ وَلَدَهَا لِأَبٍ وَلَا يَرْمِيَ وَلَدَهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ»، وَكَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ يَرِثُ أُمَّهُ وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَمَنْ رَمَاهَا بِهِ جُلِدَ ثَمَانِينَ» أَشْكَلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ جَعَلُوا قَذْفَ الْمُلَاعَنَةِ بِوَلَدٍ كَقَذْفِ الْمُلَاعَنَةِ بِلَا وَلَدٍ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ) بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الزِّنَا وَثُبُوتِ أَمَارَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْدُودَةِ بِالزِّنَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لَا إلَى غَيْرِهَا حَتَّى قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي لَاعَنَتْ بِهِ لَا يُحَدُّ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُحَدَّ الزَّوْجُ لَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُحَدُّ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهَا بِوَجْهٍ.
وَقولهُمْ اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَدَّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَجُعِلَ اللِّعَانُ بَدَلَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الزِّنَا عَلَيْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إثْبَاتِهِ لِيَسْقُطَ إحْصَانُهَا، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَشْتَفِيَ الصَّادِقُ مِنْهُمَا حَيْثُ يَتَضَاعَفُ بِهِ عَلَى الْكَاذِبِ عَذَابُهُ بِأَنْ يُضَافَ إلَى عَذَابِ الزِّنَا عَذَابُ الشَّهَادَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْأَيْمَانِ الْغَمُوسَةِ، أَوْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى عَذَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِنَفْيِ الْوَلَدَ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا قَائِمَةٌ فَأَوْجَبَتْ ذَلِكَ، وَقَدْ أُوِّلَ قولهُمْ بِمَا لَا يَشْرَحُ صَدْرًا وَلَا يَرْفَعُ إصْرًا، فَالْحَقُّ أَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَأْوِيلٍ وَأَمَّا الْجَانِبُ الْآخَرُ فَفِيهِ تَسَاهُلٌ لَا يَرْتَفِعُ، وَوُرُودُ السُّؤَالِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا وُرُودَ لَهُ.

متن الهداية:
فَقَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ (وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَ الْحَدُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ) شَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَحْصُلُ عِنْدَهُ الْإِحْصَانُ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ أُمُورٍ الْعِفَّةُ أَحَدُهَا فَهُوَ جُزْءُ مَفْهُومِ الْإِحْصَانِ بِالْحَقِيقَةِ (وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ) لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ زِنًا كَذَا قِيلَ، وَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى مَا إذَا قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ أَبْهَمَ، أَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِيهِ فَيُحَدُّ، وَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَنْصُوصُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَانِيًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَذَفَ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ أَبْهَمَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ خِلَافًا لِإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَجْهُ قولنَا أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ وَفِي مَعْنَاهُ الْمُحْصَنِينَ وَبِالزِّنَا لَا يَبْقَى الْإِحْصَانُ فَرَمْيُهُ رَمْيُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ مُحَرَّمٌ وَأَذًى بَعْدَ التَّوْبَةِ فَيُعَزَّرُ (وَالْأَصْلُ) فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي لَا يُسْقِطُهُ (أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ) عَلَى قَاذِفِهِ (لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ) فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ كَانَ زَانِيًا فَيُصَدَّقُ قَاذِفُهُ فَلَا يَكُونُ فِرْيَةً وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ (وَإِنْ كَانَ) وَطِئَ وَطْئًا (مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ) قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَيْسَ بِزِنًا إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمُحَرَّمُ (لِعَيْنِهِ) هُوَ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُكْرَهَةِ.
وَأَعْنِي أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا.
فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ الْإِثْمَ.
وَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا كَمَا يَسْقُطُ إحْصَانُ الْمُكْرَهِ الْوَاطِئِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَأَمَةِ غَيْرِهِ (أَوْ مِنْ وَجْهٍ) كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ أَوْ الزَّوْجَةِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ) فِي ثُبُوتِ حَدِّ الْقَاذِفِ لِلْوَاطِئِ فِي الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ (كَوْنَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ) كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا الِابْنُ أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عُقْدَةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ جَمَعَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَوَطِئَ الْأَمَةَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَظَرَ إلَى دَاخِلِ فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ بِحَيْثُ انْتَشَرَ مَعَهُ ذَكَرُهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا حُدَّ قَاذِفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا لِتَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلِاخْتِلَافِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَزْنِيَّةَ أَبِيهِ فَوَطِئَهَا فَيَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يَعْتَبِرُ الْخِلَافَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِأَنْ ثَبَتَتْ بِقِيَاسٍ أَوْ احْتِيَاطٍ كَثُبُوتِهَا بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لِإِقَامَةِ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبِّبِ احْتِيَاطًا فَهِيَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يَنْتَفِي بِهَا الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِزِنَا الْأَبِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ قوله تعالى:
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} فَلَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَكَذَا وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ.
وَقولهُ (أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ) مِثَالُهُ حُرْمَةُ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ لِلْأَبِ بِلَا شُهُودٍ عَلَى الِابْنِ بِنَاءً عَلَى ادِّعَاءِ شُهْرَةِ حَدِيثِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَلِذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَحُرْمَةُ وَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ خَالَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ عَمَّتُهُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ».
قولهُ: (بَيَانُهُ) شُرُوعٌ فِي تَفْرِيعِ فُرُوعٍ أُخْرَى عَلَى الْأَصْلِ (إذَا قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ) فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْمُقَارِنَةِ لِثُبُوتِ الْمُوجِبِ.
بِخِلَافِ رُجُوعِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لَا يُعْمَلُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَارِنْهُ بَلْ وَقَعَ مُتَأَخِّرًا.
وَالْفَرْضُ أَنَّ بِالْإِقْرَارِ تَقَرَّرَ حَقُّ آدَمِيٍّ لَمْ تَعْمَلُ الشُّبْهَةُ اللَّاحِقَةُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ اللَّاحِقَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا تَرْفَعُهُ.
فَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الرُّجُوعُ عَامِلًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) أَوْ رَجُلًا زَنَا فِي نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَالْمُرَادُ قَذْفُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِزِنًا كَانَ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ زَنَى وَهُوَ عَبْدٌ زَنَيْتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ لَا يُحَدُّ، كَمَا لَوْ قَالَ قَذَفْتُك بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ عَلِمْنَا مِنْهُ صَرِيحَ الْقَذْفِ لَمْ يَلْزَمْ حَدُّهُ، لِأَنَّ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ وَلِذَا يُقَامُ الْجَلْدُ عَلَيْهِ حَدًّا، بِخِلَافِ الرَّجْمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا الْعَبْدُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بِحَيْثُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَا، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ إذَا زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا تَحَقَّقَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَكُونُ قَاذِفُهُ صَادِقًا.
وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ الْإِثْمُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قول زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ، وَنَحْنُ نَقول مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ) أَوْ مُزَوَّجَةٌ أَوْ الْمُشْتَرَاةُ شِرَاءً فَاسِدًا (أَوْ أَمَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ) أَوْ مُظَاهِرٌ مِنْهَا أَوْ صَائِمَةٌ صَوْمَ فَرْضٍ وَهُوَ عَالِمٌ بِصَوْمِهَا (أَوْ مُكَاتَبَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ الْفَاسِدَ يُوجِبُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ مِلْكٌ فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِالْوَطْءِ فِيهِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ (لِأَنَّ الْحُرْمَةَ) فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ (مُؤَقَّتَةٌ) مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ فِيهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، لِأَنَّ الزِّنَا مَا كَانَ بِلَا مِلْكٍ قَالَ تعالى: {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قول زُفَرَ، لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ الْعُقْرُ) لَهَا، وَلَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ شَرْعًا مِنْ وَجْهٍ لِمَا لَزِمَهُ وَإِنْ حَرُمَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضِ، وَنَحْنُ نَقول: إنْ قُلْتُمْ إنَّ مِلْكَ الذَّاتِ انْتَفَى مِنْ وَجْهٍ كَالْمُشْتَرَكَةِ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ مِلْكَ الْوَطْءِ انْتَفَى سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْحَدِّ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ، وَوُجُوبُ الْعُقْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِحْصَانِ كَالرَّاهِنِ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ وَهِيَ بِكْرٌ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ.
ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ (وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ) وَقولهُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قول الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقول بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَكَانَتْ مُؤَقَّتَةً، أَمَّا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَلَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ أَصْلًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ لِغَيْرِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ) فِي شَرْطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِحْصَانُ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ، وَبِهِ يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ الْإِحْصَانِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ إلَخْ) يَعْنِي وَلَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ بِأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ (ثُمَّ أَسْلَمَ) فَفُسِخَ نِكَاحُهُمَا فَقَذَفَهُ مُسْلِمٌ فِي حَالِ إسْلَامِهِ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: لَا يُحَدُّ) بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَقولهُمَا قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ (وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ (وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ (فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ.
(وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزِمًا بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ طَمِعَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُوجِبَ أَذَاهُ وَهُوَ الْحَدُّ.
قولهُ: (وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) عِنْدَنَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعِنْدَهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ كَالتَّائِبِ مِنْ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي (وَهِيَ) خِلَافِيَّةٌ (تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَنَا، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْقَذْفِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ (فَإِذَا أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ) لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَلَيْسَتْ فِيهِ تِلْكَ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ أَبَدًا، وَالرِّدَّةُ مَا زَادَتْهُ إلَّا شَرًّا فَبِالْإِسْلَامِ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ شَهَادَةٌ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا قُبِلَتْ مُطْلَقًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَقَدْ رُدَّتْ بِالْقَذْفِ.
قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ أُخْرَى نَافِذَةٌ عَلَى الْكُلِّ لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِتَبَعِيَّتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ فَقَطْ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلرِّقِّ وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرَدُّ شَهَادَتُهُ مَعَ الْجَلْدِ فَيَنْصَرِفُ إلَى رَدِّ مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: إنَّ مُقْتَضَى النَّصِّ عَدَمُ قَبُولِ كُلِّ شَهَادَةٍ لَهُ حَادِثَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَالْحَادِثَةُ شَهَادَةٌ وَاقِعَةٌ فِي الْآبَادِ فَمُقْتَضَى النَّصِّ رَدُّهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا فِي الْوُسْعِ فَحِينَئِذٍ كُلِّفَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ، وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ إنْ كَانَتْ وَإِلَّا فِيمَا يُحْدِثُ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ قَائِمَةٌ فَرُدَّتْ تَحَقَّقَ الِامْتِثَالُ وَتَمَّ، فَلَوْ حَدَثَتْ أُخْرَى فَلَوْ رُدَّتْ كَانَ بِلَا مُقْتَضٍ إذْ الْمُوجَبُ أَخْذُ مُقْتَضَاهُ.
قولهُ: (وَإِنْ ضُرِبَ) يَعْنِي الْكَافِرَ (سَوْطًا فِي) حَدِّ (قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ) أَيْ لِلْحَدِّ (وَالْمَقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ) وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَلَمْ يَكُنْ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِمَا ذَكَرْنَا وَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأُقِيمَ الْبَاقِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْمُقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ كَذَلِكَ الْمُقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً، وَأَيْضًا جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى لَمَّا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْآخَرِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ فَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ، وَالْمُمْكِنُ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ النَّهْيُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى قولهِ صِفَةً لَهُ بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ آخَرُ.
وَأَصْلُ هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْمَبْسُوطِ قَالَ: لَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُضْرَبْ تَمَامَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا، ثُمَّ قَالَ وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّأُ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلشَّهَادَةِ، قَالَ:
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قولهُمَا، وَالثَّانِيَةُ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَدِّ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالثَّالِثَةُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا سَقَطَتْ، قَالَ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ) أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ.
وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ) سَوَاءٌ قَذَفَ وَاحِدًا مِرَارًا أَوْ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ كَقولهِ أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ بِكَلِمَاتٍ كَأَنْ يَقول يَا فُلَانُ أَنْتَ زَانٍ وَفُلَانٌ زَانٍ حَتَّى إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَادَّعَى وَحُدَّ لِذَلِكَ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ فَادَّعَى أَنَّهُ قَذَفَهُ لَا يُقَامُ إذَا كَانَ بِقَذْفٍ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ فَلَا يُحَدُّ ثَانِيًا إلَّا إذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ.
وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَمِعَ مَنْ يَقول لِشَخْصٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَحَدَّهُ حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: يَا لَلْعَجَبِ لِقَاضِي بَلَدِنَا أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: أَخَذَهُ بِدُونِ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ خَاصَمَ وَجَبَ حَدٌّ وَاحِدٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ حَدَّيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَبَّصَ بَيْنَهُمَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يَخِفَّ أَثَرُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
الرَّابِعُ: ضَرَبَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْخَامِسُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَنَّ وَالِدَيْهِ فِي الْأَحْيَاءِ أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ فَالْخُصُومَةُ لَهُمَا وَإِلَّا فَالْخُصُومَةُ لِلِابْنِ.
وَمِنْ فُرُوعِ التَّدَاخُلِ أَنَّهُ لَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ قَذْفًا آخَرَ لَا يُضْرَبُ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطَ الْوَاحِدَ لِلتَّدَاخُلِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ أَيْضًا فِي فُرُوعٍ نَخْتِمُ بِهَا.
وَقولهُ (غَيْرَ مَرَّةٍ) يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ: أَيْ مَنْ زَنَى غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ شَرِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ مَرَّةً فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا سَبَقَ مِنْهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَذْفَ جَمَاعَةٍ بِكَلِمَةٍ فَكَذَلِكَ فِي قول وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ بِزِنًا آخَرَ يَجِبُ لِكُلِّ قَذْفٍ حَدٌّ.
وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ وَلَا تَفْصِيلَ بَلْ لَا تَعَدُّدَ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِقولنَا قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَطَاوُسٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ كَقول الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَاحْتَجَّا بِأَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلِّيَّةِ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ لَا يَتَدَاخَلُ وَلَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَنَا مَا ذَكَرَ مِنْ قولهِ (أَمَّا الْأَوَّلَانِ) وَهُوَ كُلٌّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ (فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ) عَنْ فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ) بِالْحَدِّ الْوَاحِدِ الْمُقَامِ بَعْدَ الزِّنَا الْمُتَعَدِّدِ مِنْهُ وَالشُّرْبِ الْمُتَعَدِّدِ (قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي) وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى يَجِبُ حَدٌّ آخَرُ لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ انْزِجَارِهِ بِالْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ عَلَى دَفْعِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ كَانَ مُقَيَّدًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّكْرَارِ عِنْدَ التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، بَلْ هَذَا ضَرُورِيٌّ فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْإِقَامَةِ فِي قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} الْأَئِمَّةُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ هَذَا الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُمْ فَكَانَ حَاصِلُ النَّصِّ إيجَابَ الْحَدِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُمْ أَعَمَّ مِنْ كَوْنِهِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ أَوْ الْقِلَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ مِنْهُ كَثِيرًا كَانَ مُوجِبًا لِجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا جُلِدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِامْتِثَالُ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا تَرَكَ مُقْتَضَى التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ فِيمَا إذَا قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّةً ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا بِذَلِكَ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يُحِدُّهُ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَهُ بِالْآيَةِ لَا يُخَلِّصُهُ فَإِنَّهُ يُلْجِئُ إلَى تَرْكِ مِثْلِهَا مِنْ آيَةِ حَدِّ الزِّنَا فَيَعُودُ إلَى أَنَّ هَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَكَانَ الْمَبْنِيُّ إثْبَاتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ آدَمِيٍّ، فَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَخْصَرُ وَأَصْوَبُ.
وَقولهُ (وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِمَا) لَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِهِ، بَلْ عَيْنُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ يَجْرِي فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ شُرِعَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْأَعْرَاضِ، فَحَيْثُ أُقِيمَ ثَبَتَتْ شُبْهَةٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْخُصُومَةِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ لَيْسَ غَيْرُ.
قولهُ: (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَشَرِبَ وَسَرَقَ) ثُمَّ أَخَذَ يَعْنِي الْأَسْبَابَ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجِبُ الْحُدُودُ الْمُخْتَلِفَةُ كُلُّهَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ صِيَانَةُ الْعُقول، وَمِنْ حَدِّ الزِّنَا صِيَانَةُ الْأَنْسَابِ، وَمِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ، وَثَبَتَ كُلٌّ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ، فَلَوْ حَدَدْنَا فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ حَدًّا وَاحِدًا عَطَّلْنَا نَصًّا مِنْ النُّصُوصِ عَنْ مُوجِبِهِ.
فُرُوعٌ:
ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ وَالْقَذْفَ وَفَقْءَ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ أَخْرَجَهُ فَحَدَّهُ لِلْقَذْفِ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّهِ، فَإِذَا بَرِئَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ كُلًّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى، وَيَجْعَلُ حَدَّ الشُّرْبِ آخِرَهَا فَإِنَّهُ أَضْعَفُ لِأَنَّهُ بِمَا لَا يُتْلَى، وَتَقَدَّمَ قول عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ» وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ رُبَّمَا يَهْرَبُ فَيَصِيرُ الْإِمَامُ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ رَجَمَهُ، لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا قَتْلُ نَفْسٍ قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْهُ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ لَا يُفِيدُ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لَوْ أَتْلَفَهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ فَيُؤْمَرُ بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا قَوَدٌ وَلَا تَعْزِيرٌ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُقَامَ بِحَضْرَتِهِ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْغَامِدِيَّةِ، أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَاعِزٍ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ فِي الْقَذْفِ إذَا أَنْكَرَهُ.
وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْحُدُودِ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَذْلٌ وَالْبَذْلُ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى سَبَبِهِمَا، وَيَسْتَحْلِفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ بِقَيْدٍ فَيَحْلِفُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِمُوجَبِ الْأَخْذِ وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ ثَبَتَ الْأَخْذُ فَيَضْمَنُ وَلَا يُقْطَعُ، وَإِذَا أَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً بِالْقَذْفِ سَأَلَهُمَا الْقَاضِي عَنْ الْقَذْفِ مَا هُوَ وَعَنْ خُصُوصِ مَا قَالَ لِأَنَّ الرَّمْيَ بِغَيْرِ الزِّنَا قَدْ يَظُنُّونَهُ قَذْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِفْسَارِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى قولهِمْ قَذَفَهُ لَا يُحَدُّ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ قَالَ يَا زَانِي وَهُمْ عُدُولٌ حُدَّ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي عَدَالَتَهُمْ حَبَسَ الْقَاذِفَ حَتَّى يُزَكُّوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ أَعْرَاضٍ فِي النَّاسِ فَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَكْفُلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَلَا تَكَفُّلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَحْبِسُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي قول أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ عِنْدَهُمَا فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَكْفِيلَ بِنَفْسِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ فِي إيفَائِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مُقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ.
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ.
فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُلَازِمُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَا: حَدُّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ مِثْلُ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: هَذَا احْتِيَاطٌ وَالْحُدُودُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا لَا فِي إثْبَاتِهَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقول: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُهُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، فَأَمَّا إذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ نَفْسَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَالْكَفِيلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَأَمَّا إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ أَحَدًا وَلَا يُلَازِمُهُ إلَّا إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ حَبَسَهُ إذَا قَالَ إنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً هَذَا الْمِقْدَارُ اسْتِحْسَانٌ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ.
وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، فَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يُقْضَى بِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ وَإِنْشَائِهِ لَهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: الْقَذْفُ قول قَدْ يُكَرَّرُ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْإِنْشَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ كَانَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ، وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي اللُّغَةِ الَّتِي وَقَعَ الْقَذْفُ بِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّرَاحَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا لَوْ أَشْهَدَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَالْآخَرَ لَسْت لِأَبِيك، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا يُحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ عِنْدَ الْقَاضِي عِنْدِي بَيِّنَةٌ تُصَدِّقُ قولي أُجِّلَ مِقْدَارَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَيُقَالُ لَهُ ابْعَثْ إلَى شُهُودِك.
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِي بِهِمْ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى هَذَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَإِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ قَلِيلٌ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ كَالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُسْتَأْنَى بِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي.
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، وَعُرِفَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعَةٌ، فَلَوْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ حُدَّ هُوَ وَالثَّلَاثَةُ، قَالَ تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} فَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ عَنْ الْقَاذِفِ الْحَدُّ وَعَنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَأَنَّا سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِالزِّنَا، إلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِقْرَارِ إسْقَاطُ الْحَدِّ لَا إقَامَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَوْ كَثُرَتْ الشُّهُودُ، وَلَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ ارْتَدَّ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَذَا إذَا خَرِسَ أَوْ عَتِهَ وَلَكِنْ لَا لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بَلْ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا صَدَّقَهُ، وَلَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ مَا تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ.
(جِنْسٌ آخَرُ) تَقَدَّمَ أَنَّ قولهُ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ الْمَبْسُوطِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ قَالَ: أَنْتِ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَزَنَى مِنِّي لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ أَنْتَ أَزَنَى مِنِّي حُدَّ الرَّجُلُ وَحْدَهُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ مَا رَأَيْت زَانِيَةً خَيْرًا مِنْك لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ فَجَرَ بِكَ أَوْ جَامَعَك حَرَامًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَفُلَانٌ مَعَك يَكُونُ قَاذِفًا لَهُمَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا مَعِيَّةَ حَالَ الزِّنَا فَانْصَرَفَ إلَى مَعِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْحُضُورِ، وَمَنْ قَالَ لَسْت لِأَبَوَيْك لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لَسْت لِإِنْسَانٍ لَسْت لِرَجُلٍ لَيْسَ قَذْفًا.
رَجُلٌ قَذَفَ وَلَدَهُ أَوْ وَلَدَ وَلَدِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ حُدَّ.
قَالَ لِرَجُلٍ قُلْ لِفُلَانٍ يَا زَانِي فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ فُلَانٌ يَقول لَك يَا زَانِي لَا حَدَّ عَلَى الرَّسُولِ وَلَا عَلَى الْمُرْسِلِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ يَا زَانِي حُدَّ الرَّسُولُ خَاصَّةً.
وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً فَصَدَّقَهُ ابْنُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِقَذْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَائِكِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَلَطُّفٌ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ النَّصْرَانِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: رَجُلٌ قَالَ فِي مَيِّتٍ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ وَلَمْ يَزْنِ فَقَالَ أحرجه كُرْده سِتّ لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِشَارَةٍ إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
وَلَوْ قَالَ أَيْنَ حمه كُرْده سِتّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ.
وَلَوْ قَالَ وَلَا أَيْنَ حمه كُرْده است يَكُونُ قَذْفًا، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ فِعْلُ الْكُلِّ.
وَمَعْنَى الثَّانِي فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا.
وَمَعْنَى الثَّالِثِ هُوَ فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا.
وَفِي الْفَتَاوَى: قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ هَذَا هُوَ لِأَحَدِهِمَا فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَذْفِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا.
وَلَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُسْتَثْنَى.
وَمِنْ فُرُوعِ تَدَاخُلِ حَدِّ الْقَذْفِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: عَبْدٌ قَذَفَ حُرًّا فَأَعْتَقَ فَقَذَفَ آخَرَ فَاجْتَمَعَا ضُرِبَ ثَمَانِينَ، وَلَوْ قَذَفَ الْأَوَّلَ فَضُرِبَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْآخَرُ تَمَّمَ لَهُ الثَّمَانِينَ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ وَقَعَ لَهُمَا يَبْقَى الْبَاقِي أَرْبَعِينَ، وَلَوْ قَذَفَ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الثَّانِي تَكُونُ الثَّمَانُونَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يُضْرَبُ ثَمَانِينَ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّ مَا بَقِيَ تَمَامُهُ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْأَحْرَارُ وَهَذَا مَا وَعَدْنَاهُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا رُوسِيَّ يُحَدُّ.
وَلَوْ قَالَ يَا قَحْبَةَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ.