فصل: (فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ):

قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقولهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ: (وَلَا بِبِنْتِهِ) لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا بِبِنْتِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ) لِلْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ):
الْمَحَلِّيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا أُفْرِدَ هَذَا الشَّرْطُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِكَثْرَةِ شُعَبِهِ وَانْتِشَارِ مَسَائِلِهِ. وَانْتِفَاءُ مَحَلِّيَّةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ شَرْعًا بِأَسْبَابٍ:
الْأَوَّلُ: النَّسَبُ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فُرُوعُهُ وَهُمْ بَنَاتُهُ وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ وَأُصُولُهُ وَهُمْ أُمَّهَاتُهُ وَأُمَّهَاتُ أُمَّهَاتِهِ وَآبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَفُرُوعُ أَبَوَيْهِ وَإِنْ نَزَلْنَ، فَتَحْرُمُ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنَاتُ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلْنَ، وَفُرُوعُ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ لِبَطْنٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا تَحْرُمُ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ، وَتَحِلُّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالِ.
الثَّانِي: الْمُصَاهَرَةُ، يَحْرُمُ بِهَا فُرُوعُ نِسَائِهِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَإِنْ نَزَلْنَ، وَأُمَّهَاتُ الزَّوْجَاتِ وَجَدَّاتُهُنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَإِنْ عَلَوْنَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَاتِ، وَتَحْرُمُ مَوْطُوءَاتُ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَلَوْ بِزِنًا وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَتَحْرُمُ مَوْطُوءَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَوْ بِزِنًا، وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ.
الثَّالِثُ: الرَّضَاعُ، يُحَرِّمُ كَالنَّسَبِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ كَالْأَمَةِ مَعَ الْحُرَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا.
الْخَامِسُ: حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْحَامِلِ بِثَابِتِ النَّسَبِ.
السَّادِسُ: عَدَمُ الدِّينِ السَّمَاوِيِّ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُشْرِكَةِ.
السَّابِعُ: التَّنَافِي كَنِكَاحِ السَّيِّدِ أَمَتَهُ وَالسَّيِّدَةِ عَبْدَهَا.
قولهُ: (إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَالْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ، فَعَلَى هَذَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ بِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْأُمَّ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ.
قولهُ: (أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُ الْأُمِّ عَلَى الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَنَاوَلَ النَّصُّ الْجَدَّاتِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأُمَّ مُرَادٌ بِهَا الْأَصْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِإِرَادَتِهِ مَجَازًا فَتَدْخُلُ الْجَدَّاتُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ وَالْمُعَرِّفُ لِإِرَادَةِ ذَلِكَ فِي النَّصِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَتِهِنَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْبِنْتِ عَلَى الْفَرْعِ حَقِيقَةً فَلِذَا اقْتَصَرَ فِي حُرْمَةِ بَنَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَظَاهِرُ بَعْضِ الشُّرُوحِ ثُبُوتُهُ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَا الِاسْتِدْلَال فِي الْبَنَاتِ، فَإِنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبِنْتَ يُرَادُ بِهِ الْفَرْعُ فَيَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عِنْدَ الْبَعْضِ. وَقولهُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُرِيدُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَهُ إذَا كَانَ فِي مَحَلَّيْنِ. وَعَلَى مَا أَسْمَعْنَاك مِنْ التَّقْرِيرِ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا عِنْدَ الْكُلِّ. وَمِنْ الطُّرُقِ فِي تَحْرِيمِ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَوْلَادِ دَلَالَةُ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لِلْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، فَفِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَشِقَّاءَ مِنْهُنَّ أَوْلَادُ الْجَدَّاتِ، فَتَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ وَهُنَّ أَقْرَبُ أَوْلَى، وَفِي الثَّانِي لِأَنَّ بَنَاتَ الْأَوْلَادِ أَقْرَبُ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ.
فَرْعَانِ:
الْأَوَّلُ: لِبِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ حُكْمُ الْبِنْتِ، فَلَوْ لَاعَنَ فَنَفَى الْقَاضِي نَسَبَهَا مِنْ الرَّجُلِ وَأَلْحَقَهَا بِالْأُمِّ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَيَدَّعِيَهَا فَيَثْبُتُ نَسَبُهَا مِنْهُ.
الثَّانِي يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا بِصَرِيحِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ لُغَةً، وَالْخِطَابُ إنَّمَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ فَيَصِيرُ مَنْقولا شَرْعِيًّا.

متن الهداية:
(وَلَا بِأُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أَخِيهِ وَلَا بِعَمَّتِهِ وَلَا بِخَالَتِهِ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْعَمَّاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ) أَيْ الْجِهَةَ الَّتِي وُضِعَ الِاسْمُ مَعَ اعْتِبَارِهَا، فَاسْمُ الْأَخِ مَثَلًا وُضِعَ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهَا إلَى أُخْرَى بِالْمُجَاوَرَةِ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ حُلُولِهَا مَا حَلَّتْهُ مِنْ صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ كَيْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّوْأَمِ وَبِهَذِهِ الْجِهَةِ تَعُمُّ الْمُتَفَرِّقَاتُ فَكَانَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ بِالتَّوَاطُؤِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بَنَاتُ الْأَجْدَادِ وَإِنْ عَلَوْا لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ آبَاءٍ أَعْلَوْنَ وَبَنَاتُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ أُمَّهَاتٍ عَلِييَّاتٍ وَفِي بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ بَنَاتُهُنَّ وَإِنْ سَفَلْنَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) إذَا كَانَ نِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحًا أَمَّا بِالْفَاسِدِ فَلَا تَحْرُمُ الْأُمُّ إلَّا إذَا وَطِئَ بِنْتَهَا وَيَدْخُلُ فِي أُمِّ امْرَأَتِهِ جَدَّاتُهَا.
قولهُ: (مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ) عَلَيْهِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْجُمْهُورُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِصِفَةٍ أَوْ حَالٍ كَمَا فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ قولهُ: {مِنْ نِسَائِكُمْ} حَالٌ مِنْ الرَّبَائِبِ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِهِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَمْتَنِعُ، وَلِهَذَا خَالَفَ فِيهِ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَنَاهِيك بِهِمَا عِلْمًا فَجَعَلَا الدُّخُولَ قَيْدًا فِي حُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِشْرُ الْمَرِيسِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ. وَوَجْهُهُ الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ كَلِمَاتٍ مَنْسُوقَةً انْصَرَفَ إلَى الْكُلِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ شَرْطًا بَلْ صِفَةً، وَلَا يَلْزَمُ وَصْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِوَصْفِ الْمَعْطُوفِ، ثُمَّ يَبْطُلُ جَوَازُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَعْمُولَ عَامِلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أُمَّهَاتٌ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ وَالْمَجْرُورُ بِمِنْ بِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمَوْصُولُ وَهُوَ قولهُ: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صِفَةً لَهُمَا لَزِمَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الصِّفَةِ هُنَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَأَبْطَلَهُ فِي الْكَشَّافِ بِلُزُومِ كَوْنِ مِنْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَخَالِفَيْنِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَيَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ الْمُضَافِ إلَيْهِنَّ أُمَّهَاتٌ وَالِابْتِدَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبَائِبِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ فِيهِمَا. قَالَ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ فِي حَوَاشِيهِ: وَمَا يُقَالُ إنَّ الِابْتِدَاءَ مَعْنًى كُلِّيٌّ صَادِقٌ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي مِنْ فَضَرْبٌ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي إيصَالِ شَيْءٍ فَيَتَنَاوَلُ إيصَالُ الْأُمَّهَاتِ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ وَالِدَاتٌ وَبِالرَّبَائِبِ لِأَنَّهُنَّ مَوْلُودَاتٌ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ جَعْل: {مِنْ نِسَائِكُمْ} مُتَعَلِّقًا بِالْأُمَّهَاتِ وَالرَّبَائِبِ جَمِيعًا حَالًا مِنْهُمَا. وَفَائِدَةُ إيصَالِ الْأُمَّهَاتِ بِالنِّسَاءِ بَعْدَ إضَافَتِهَا إلَيْهَا فِي زِيَادَةِ قَيْدِ الدُّخُولِ، لَكِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى حُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مَدْخُولَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ مَدْخُولَاتٍ يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْ هُنَا جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِرَبَائِبِكُمْ فَقَطْ.اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنْ النِّسَاءِ الْمُضَافِ إلَيْهِنَّ أُمَّهَاتٌ وَمِنْ الرَّبَائِبِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْحَالِ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ مَنْ جَوَّزَهُ بِمُسَوِّغٍ مِنْ كَوْنِ الْمُضَافِ صَالِحًا لِلْعَمَلِ فِي الْحَالِ أَوْ جُزْءًا لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ شِبْهَ الْجُزْءِ فِي صِحَّةِ حَذْفِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ نَحْوُ {مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.

متن الهداية:
(وَلَا بِبِنْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا) لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ (سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَشَرَطَهُ عَلِيٌّ، وَرَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى قول الْجُمْهُورِ لِأَنَّ قَيْدَ الْحَجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ، إذْ الْغَالِبُ كَوْنُ الْبِنْتِ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ زَوْجِ الْأُمِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ هُنَا، وَلَوْلَا هَذَا لَثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَبِالرُّجُوعِ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ فَإِذَا انْتَفَى الْقَيْدُ رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ.
قولهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ قَيْدًا فِي الْحُرْمَةِ اُكْتُفِيَ فِي مَوْضِعِ نَفْيِ الْحُرْمَةِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ لِقولهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَحَيْثُ خَصَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بِالذِّكْرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي إضَافَةِ الْحُرْمَةِ، وَإِلَّا لَقِيلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، أَوْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أَوْ لَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ فِي إضَافَةِ نَفْيِ الْحُكْمِ إلَى نَفْيِ تَمَامِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ أَوْ أَحَدِ جُزْأَيْهَا الدَّائِرِ وَإِنْ صَحَّ إضَافَتُهُ إلَى نَفْيِ جُزْئِهَا الْمُعَيَّنِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَمِرِّ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ. هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الْحُرْمَةِ بَنَاتُ الرَّبِيبَةِ وَالرَّبِيبِ وَإِنْ سَفَلَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهُنَّ، بِخِلَافِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ لِأَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَلِذَا جَازَ التَّزْوِيجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتِهَا، وَجَازَ لِلِابْنِ التَّزَوُّجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الْأَبِ وَبِنْتِهَا.

متن الهداية:
(قَالَ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}) اعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْأَجْدَادِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ اسْتَدَلَّ بِهَا الْمَشَايِخُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ أُرِيدَ مِنْ حُرْمَةِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَا يُطَابِقُهَا مِنْ إرَادَةِ الْوَطْءِ قَصْرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، وَتَصْدُقُ امْرَأَةُ الْأَبِ بِعَقْدِهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ لَفْظِ النِّكَاحِ فِي نِكَاحِ الْآبَاءِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَعُمُّ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ، وَلَك النَّظَرُ فِي تَعْيِينِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ اعْتِبَارَهَا فِي الْمَجَازِيِّ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقول ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْمَوْطُوءَةِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِلَا وَطْءٍ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْحُرْمَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَفْظُ الدَّلِيلِ صَالِحٌ لَهُ كَانَ مُرَادًا مِنْهُ بِلَا شُبْهَةٍ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ تَابِعٌ لِلنَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ عَنْ أَحَدِهِمَا يَكُونُ، وَلَوْ كَانَ عَنْ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ يَخْلُقُ لَهُمْ يَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُرَادٌ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ إذَا احْتَمَلَهُ.

متن الهداية:
(وَلَا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ}) إنْ اُعْتُبِرَ الْحَلِيلَةُ مِنْ حُلُولِ الْفِرَاشِ أَوْ حَلِّ الْإِزَارِ تَنَاوَلَتْ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ شُبْهَةً أَوْ زِنًا فَيَحْرُمُ الْكُلُّ عَلَى الْآبَاءِ وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عِنْدَنَا، كَمَا تَحْرُمُ الْمَزْنِيُّ بِهَا وَمَنْ ذَكَرْنَا لِلْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَلَا تُتَنَاوَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا لِلِابْنِ أَوْ بَنِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا قَبْلَ الْوَطْءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَحْرُمُ عَلَى الْآبَاءِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الْحِلِّ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ، وَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَعَمِّ مِنْ الْحِلِّ وَالْحَلِّ، ثُمَّ يُرَادُ مِنْ الْأَبْنَاءِ الْفُرُوعُ فَتَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ السَّافِلِ عَلَى الْجَدِّ الْأَعْلَى مِنْ النَّسَبِ، وَكَمَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ. وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي الْآيَةِ لِإِسْقَاطِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنَّى. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَنْقول عَنْهُمْ أَنَّ ذِكْرَ الْأَصْلَابِ لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنَّى لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَذْهَبِنَا فَلَا خِلَافَ.

متن الهداية:
(وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا بِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} وَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا حَرُمَ عَلَيْهِ زَوْجَةُ زَوْجِ الظِّئْرِ الَّذِي نَزَلَ لَبَنُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ الظِّئْرِ امْرَأَةُ هَذَا الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَسَنَسْتَوْفِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) لِقولهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا) أَيْ عَقْدًا (وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) وَهَذَانِ تَمْيِيزَانِ لِنِسْبَةٍ إضَافِيَّةٍ، وَالْأَصْلُ بَيْنَ نِكَاحِ أُخْتَيْنِ وَوَطْئِهِمَا مَمْلُوكَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا أُخْتَيْنِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعَةِ حَتَّى قُلْنَا لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ رَضِيعَتَانِ أَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ بِقولهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمَذْكُورَ أَوَّلَ الْآيَةِ أُضِيفَ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ إلَى الْجَمْعِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَقْدًا أَوْ وَطْئًا. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إبَاحَةُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ قَالَ: لِأَنَّهُمَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ أُخْرَى وَهُمَا هَذِهِ وقوله تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَرَجَحَ الْحِلُّ. قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قول الْجُمْهُورِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَالْإِجْمَاعُ اللَّاحِقُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ السَّابِقَ وَإِنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَالْمُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إلَخْ غَرِيبٌ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَال: «إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي» وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجَيَشَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ الضَّحَّاكَ بْنَ فَيْرُوزَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ فَيْرُوزَ الدِّيلِيِّ قَال: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، قَالَ: طَلِّقْ أَيَّهُمَا شِئْتَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَبَّانِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ».

متن الهداية:
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ (وَ) إذَا جَازَ (لَا يَطَأُ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ) لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا، وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِلْجَمْعِ إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَيَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَجْهُ قولهِمْ أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا بِاعْتِرَافِكُمْ فَيَصِيرُ بِالنِّكَاحِ جَامِعًا وَطْئًا حُكْمًا وَهُوَ بَاطِلٌ بِاعْتِرَافِكُمْ لِأَنَّكُمْ عَلَّلْتُمْ عَدَمَ جَوَازِ وَطْءِ الْأَمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَنْكُوحَةَ بِلُزُومِ الْجَمْعِ وَطْئًا حُكْمًا، وَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْأَمَةِ السَّابِقِ قَائِمٌ حَتَّى اُسْتُحِبَّ لَهُ لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، وَمَا قِيلَ حَالَةَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ جَامِعًا وَطْئًا بَلْ بَعْدَ تَمَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فَيَتَعَقَّبُهُ لَيْسَ بِدَافِعٍ، فَإِنَّ صُدُورَهُ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ جَمْعًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ حَيْثُ كَانَ هُوَ حُكْمُهُ، وَهُوَ لَازِمٌ بَاطِلٌ شَرْعًا وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي صَفَحَاتِ كَلَامِهِمْ مَوَاضِعُ عَلَّلُوا الْمَنْعَ فِيهَا بِمِثْلِهِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا اللَّازِمَ بِيَدِهِ إزَالَتُهُ فَلَيْسَ لَازِمًا عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ فَلَا يَضُرُّ بِالصِّحَّةِ وَيُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَهَا لِقِيَامِهِ إذْ ذَاكَ.
قولهُ: (وَلَا يَطَأُ الْأَمَةَ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَطَأُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأَمَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ كَبَيْعِ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ وَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ وَالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ وَالتَّزْوِيجِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ بِالْكِتَابَةِ. وَعَنْهُ: لَوْ مَلَكَ فَرْجَهَا غَيْرُهُ لَا تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ حَتَّى تَحِيضَ الْمَمْلُوكَةُ حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَامِلًا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ حَلَّتْ الْمَنْكُوحَةُ بِمُجَرَّدِ التَّمْلِيكِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَرْقُوقَةِ بِسَبَبٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ وَطْئِهَا قَدْ ثَبَتَتْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ التَّحْرِيمِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَأُجِيبُوا بِأَنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْمَرْقُوقَةِ قَائِمٌ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، فَبِالْوَطْءِ يَكُونُ جَامِعًا وَطْئًا حُكْمًا وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ يَمْنَعُهُ، هَذَا كَلَامُهُمْ وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِمَا وَعَدْنَاهُ آنِفًا، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ إلَّا إذَا دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ لِوُجُودِ الْجَمْعِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُعْتَبَرٌ تَتَرَتَّبُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَرْقُوقَةَ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا) لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَمْ يُوضَعْ لِلْوَطْءِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِدَعْوَى.
فَرْعٌ:
لَوْ اشْتَرَى أُخْتَيْنِ لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهُمَا، فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى حَتَّى يُحَرِّمَ الْمَوْطُوءَةَ بِسَبَبٍ، وَلَوْ وَطِئَهَا أَثِمَ ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى بِسَبَبٍ. وَلَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ رُدَّتْ إلَيْهِ الْمَبِيعَةُ أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ أَوْ طَلُقَتْ الْمَنْكُوحَةُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَحِلَّ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى بِسَبَبٍ كَمَا كَانَ أَوَّلًا.

متن الهداية:
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِلضَّرَرِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَانْعَدَمَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ لِلْجَهْلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا الْأُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ، وَقَيَّدَ بِعُقْدَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَا يَقِينًا وَبِعَدَمِ عِلْمِ الْأَوَّلِيَّةِ، إذْ لَوْ عَلِمَ صَحَّ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ وَبَطَلَ الثَّانِي، وَلَهُ وَطْءُ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ فَتَحْرُمُ الْأُولَى إلَى انْقِضَاءِ عِدَّةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ حَيْثُ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ ذَاتِ الشُّبْهَةِ.
وَفِي الدِّرَايَةِ عَنْ الْكَامِلِ: لَوْ زَنَى بِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ لَا يَقْرَبُ الْأُخْرَى حَتَّى تَحِيضَ الْأُخْرَى حَيْضَةً وَهَذَا مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ) طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يُفَارِقُ الْكُلَّ. وَأُجِيبَ بِإِمْكَانِهِ هُنَاكَ لَا هُنَا لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ مُتَيَقَّنُ الثُّبُوتِ، فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مُعَيَّنَةً مِنْهُنَّ تَمَسُّكًا بِمَا كَانَ مُتَيَقَّنًا وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا، فَدَعْوَاهُ حِينَئِذٍ تَمَسُّكٌ بِمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ.
قولهُ: (وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ) أَيْ تَنْفِيذُ نِكَاحِهِمَا مَعَ جَهْلِ الْمُحَلَّلَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَوْ تَنْفِيذُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا مَعَ تَجْهِيلِهِ بِأَنْ يُنْفِذَ الْأَحَدَ الدَّائِرَ بَيْنَهُمَا (لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ إذْ لَا يَقَعُ إلَّا فِي مُعَيَّنَةِ وَلَا حِلَّ فِي الْمُعَيَّنَةِ (أَوْ لِلضَّرَرِ) عَلَيْهِ بِإِلْزَامِهِ النَّفَقَةَ وَسَائِرَ الْمُوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَلَيْهَا بِصَيْرُورَتِهَا مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلَا مُطَلَّقَةً وَلِتَضَرُّرِ الْأُولَى لَوْ وَقَعَ تَعْيِينُهُ لِغَيْرِهَا وَهِيَ الصَّحِيحَةُ وَالثَّانِيَةُ لِوُقُوعِهَا فِي الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِعَدَمِ قَصْدِ التَّجَانُفِ لِإِثْمٍ، وَلَوْ قَالَ وَلِلضَّرَرِ بِالْوَاوِ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلتَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ (فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَاقٌ حَتَّى يَنْقُصَ مِنْ طَلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا طَلْقَةً لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ لِلْحَالِ أَوْ بَعْدَهُ بِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ بِأَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَاءَ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا. وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّةُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَهُ تَزَوُّجُ الَّتِي لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتَهَا دُونَ الْأُخْرَى كَيْ لَا يَصِيرُ جَامِعًا، وَإِنْ بَعْدَهُ بِإِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَالِ دُونَ الْأُخْرَى فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَمْنَعُ مِنْ تَزَوُّجِ أُخْتِهَا.
قولهُ: (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) الْمُسَمَّى لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعَ تَسَاوِي مَهْرَيْهِمَا جِنْسًا وَقَدْرًا سَوَاءً بَرْهَنَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهَا سَابِقَةٌ أَوْ ادَّعَتْهُ فَقَطْ، أَمَّا لَوْ قَالَتَا لَا نَدْرِي السَّابِقَةَ مِنَّا لَمْ يَقْضِ بِشَيْءٍ فَلَوْ كَانَ التَّفْرِيق بَعْدَ الدُّخُول وَجَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرَهَا كَامِلًا.
وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَقْضِي بِمَهْرٍ كَامِلٍ وَعُقْرٍ كَامِلٍ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا اتَّحَدَ الْمُسَمَّى لَهُمَا قَدْرًا وَجِنْسًا، أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ إيجَابُ عُقْرٍ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِجَعْلِهَا ذَاتَ الْعُقْرِ مِنْ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ فَرْعُ الْحُكْمِ بِأَنَّهَا الْمَوْطُوءَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ حُكْمُ الْوَطْءِ فِيهِ إذَا سُمِّيَ فِيهِ الْعُقْرُ بَلْ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا أَوْ قَدْرًا قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِرُبْعِ مَهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ تَجِبُ مُتْعَةُ وَاحِدَةٍ لَهُمَا بَدَلُ نِصْفِ الْمَهْرِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ثَابِتَةٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ لَا يَجُوزُ جَمْعُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ، وَالتَّقْيِيدُ الْمَذْكُورُ بِقولهِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: أَيْ دَعْوَاهَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ يَصْطَلِحَانِ بِأَنْ يَقولا نِصْفَ الْمَهْرِ لَنَا عَلَيْهِ لَا يَعْدُونَا فَنَصْطَلِحُ عَلَى أَخْذِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ يَنْدَفِعُ بِهِ قول أَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمَا لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ لَهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ عِنْدِي أَلْفٌ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرًا كَامِلًا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ أَقَرَّ بِجَوَازِ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا فَيَجِبُ مَهْرٌ كَامِلٌ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِمَا تَحَقَّقَ عَدَمُ لُزُومِهِ، فَإِنَّ إيجَابَ كَمَالِهِ حُكْمُ الْمَوْتِ أَوْ الدُّخُولِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» وَهَذَا مَشْهُورٌ، يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) تَكْرَارٌ لِغَيْرِ دَاعٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَنْعُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مَنْعَ الْقَلْبِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِمَنْعِ نِكَاحِ ابْنَةِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَيْهِمَا دُونَ إدْخَالِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ لِزِيَادَةِ تَكَرُّمَتِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَيُؤْنِسُهُ حُرْمَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ مَعَ جَوَازِ الْقَلْبِ فَكَانَ التَّكْرَارُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَغَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى قول: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا». انْتَهَى فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قولهُ: (وَهَذَا مَشْهُورٌ) أَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحَيْ مُسْلِمٍ وَابْنِ حَبَّانِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَتَلَقَّاهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ) يَعْنِي بِالزِّيَادَةِ هُنَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ قوله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لَا الزِّيَادَةُ الْمُصْطَلَحَةُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَذْكُورَ مَخْصُوصٌ بِالْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَبَنَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى كَوْنِهِ مَشْهُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ادِّعَاءِ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقِعُهُ النَّسْخُ لَا التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ قوله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نَاسِخٌ لِعُمُومِ قوله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إذْ لَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَ نَسْخُهُ بِالْآيَةِ فَلَزِمَ حِلُّ الْمُشْرِكَاتِ وَهُوَ مُنْتَفٍ أَوْ تَكْرَارُ النَّسْخِ وَحَاصِلُهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ حُرْمَةَ الْمُشْرِكَاتِ ثُمَّ يُنْسَخُ بِالْعَامِّ وَهُوَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيرُ نَاسِخٍ آخَرَ لِأَنَّ الثَّابِتَ الْآنَ الْحُرْمَةُ.

متن الهداية:
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ لِلْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ يَحْرُمُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) ثَنَّى بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْفَرْعِ بِأَصْلٍ كُلِّيٍّ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ كَحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ عَمَّتَيْنِ وَخَالَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أُمَّ الْآخَرِ فَيُولَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنْتٌ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْبِنْتَيْنِ عَمَّةً لِلْأُخْرَى، أَوْ يَتَزَوَّجُ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ بِنْتَ الْآخَرِ وَيُولَدُ لَهُمَا بِنْتَانِ فَكُلٌّ مِنْ الْبِنْتَيْنِ خَالَةٌ لِلْأُخْرَى فَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهُوَ قوله: «فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عِيسَى بْن طَلْحَةَ قَال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى قَرِيبَتِهَا مَخَافَةَ الْقَطِيعَةِ» فَأَوْجَبَ تَعْدِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ إلَى كُلِّ قَرَابَةٍ يُفْرَضُ وَصْلُهَا وَهُوَ مَا تَضَمُّنُهُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ، وَبِهِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيِّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ فِي إبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ غَيْرِ الْأُخْتَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي خُصُوصِ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ» وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي خُصَيْفٍ فَالْوَجْهُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَهَذَا مُؤَيِّدٌ.
قولهُ: (وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ) أَيْ بِمُقْتَضَى آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ (مُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ) عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فِيهِمَا وَفِي الْجَمْعِ الْقَطْعُ فَلَا يَحِلُّ.
وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ مُحَرَّمَةٌ لِلْقَطْعِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي الثَّانِي أَيْ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِلْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَادَةٌ يَقَعُ التَّشَاجُرُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَيُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ فَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ تِلْكَ الْقَرَابَاتُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِنَّ فِي الْآيَةِ أَعْنِي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلَى آخِرِهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا غَيْرُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمُنَافَاةِ الِاحْتِرَامِ الْوَاجِبِ لِلْأُمَّهَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بِالِافْتِرَاشِ فَيُمْكِنُ إدْرَاجُهُ فِي الْقَطِيعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَى إلَيْهِ لِأَكْثَرِيَّةِ الْمُضَارَّةِ بَيْنَ الضَّرَائِرَ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ حُرْمَةِ الْأَقَارِبِ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ (بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلِ) وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَةِ أَخٍ لَهَا مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا عَمَّتُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَةِ أُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا خَالَتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ) لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ابْنَةَ الزَّوْجِ لَوْ قَدَّرْتَهَا ذَكَرًا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ. قُلْنَا: امْرَأَةُ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَذِهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ) يَعْنِي أَنَّ الْمُوجِبَ لِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَكَرًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى هُوَ قِيَامُ الْقَرَابَةِ الْمُفْتَرَضُ وَصْلُهَا أَوْ الرَّضَاعِ الْمُفْتَرَضُ وَصْلُ مُتَعَلَّقِهِ وَاحْتِرَامُهُ، حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ عَمَّةٍ أَوْ خَالَةٍ وَابْنَةِ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ مِنْ الرَّضَاعِ. وَكَذَا كُلُّ مَحْرَمِيَّةٍ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي الرَّبِيبَةِ وَزَوْجَةِ الْأَبِ فَكَانَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قولا لَا بِدَلِيلٍ. وَهَذِهِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّبِيبَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ زَوْجَةِ عَلِيٍّ وَبِنْتِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَازِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ قُثَمَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَامْرَأَةَ عَلِيٍّ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. قَالَ: وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيقَاتُهُ صَحِيحَةٌ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً. ثُمَّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَيَتَزَوَّجَ ابْنَهُ أُمِّهَا أَوْ بِنْتِهَا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ. وَقَدْ تَزَوَّجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِنْتَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلًا فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا) أَيْ وَإِنْ عَلَتْ، فَتَدْخُلُ الْجَدَّاتُ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْأُمَّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً (وَابْنَتُهَا) وَإِنْ سَفَلَتْ، وَكَذَا تَحْرُمُ الْمَزْنِيُّ بِهَا عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَأَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا هَذَا إذَا لَمْ يَفُضَّهَا الزَّانِي، فَإِنْ أَفْضَاهَا لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْحُرُمَاتُ لِعَدَمِ تَيَقُّنِ كَوْنِهِ فِي الْفَرْجِ إلَّا إذَا حَبِلَتْ وَعُلِمَ كَوْنُهُ مِنْهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: أَكْرَهُ لَهُ الْأُمَّ وَالْبِنْتَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: التَّنَزُّهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَكِنْ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهَا. وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ تَنْتَشِرُ بِهَا الْآلَةُ مُحَرَّمًا يَجِبُ الْقول بِالتَّحْرِيمِ إذَا أَفْضَاهَا إنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ انْتَشَرَ مَعَهُ أَوْ زَادَ انْتِشَارُهُ كَمَا فِي غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْوَطْءُ السَّبَبُ لِلْوَلَدِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ لَيْسَ إلَّا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِهَذَا الْوَطْءِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صُورَةِ الْإِفْضَاءِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُهُ فِي الْقَبْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا وَطِئَ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ قِيَاسًا عَلَى الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ وَطْءُ سَبَبٍ لِلْوَلَدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى. بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ كَإِبْرَاهِيمَ وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَلَهُ أَنْ يَقول الْإِمْكَانُ الْعَقْلِيُّ ثَابِتٌ فِيهِمَا وَالْعَادِي مُنْتَفٍ عَنْهُمَا فَتَسَاوَيَا، وَالْقِصَّتَانِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ لَا تُوجِبَانِ الثُّبُوتَ الْعَادِيَ وَلَا تُخْرِجَانِ الْعَادَةَ عَنْ النَّفْيِ. وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ حُرْمَةٌ خِلَافًا لِمَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَوَجْهُهُ مَا تَضَمُّنُهُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ. وَبِقولنَا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ فِي أُخْرَى، وَقولنَا قول عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصَحِّ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَجَابِرٍ وَأُبَيُّ وَعَائِشَةَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَالْبَصْرِيِّ وَالشُّعَبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيَّ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَلَوْ وُلِدَتْ مِنْهُ بِنْتًا بِأَنْ زَنَى بِبِكْرٍ وَأَمْسَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ بِنْتًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْبِنْتُ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ تَصِرْ أُمَّهَاتُهَا أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلَدُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ عَارَضَهُ فِيهِ قوله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ بِنْتُهُ حَقِيقَةً لُغَةً، وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ فِي اسْمِ الْبِنْتِ وَالْوَلَدِ شَرْعًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى حُرْمَةِ الِابْنِ مِنْ الزِّنَا عَلَى أُمِّهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مِمَّا اُعْتُبِرَ فِيهِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ هُوَ الْجَارِي عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ، وَبِحُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ أُخْتُهُ مِنْ الزِّنَا وَبِنْتُ أَخِيهِ وَبِنْتُ أُخْتِهِ أَوْ ابْنُهُ مِنْهُ بِأَنْ زَنَى أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أُخْتُهُ أَوْ ابْنُهُ فَأَوْلَدُوا بِنْتًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالُ وَالْجَدُّ. وَوَجْهُ قولهِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ يَتِمُّ بِأَنْ يُقَالَ هُوَ وَطْءٌ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قِيَاسًا عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ بِنَاءً عَلَى إلْغَاءِ وَصْفِ الْحِلِّ فِي الْمَنَاطِ وَهُوَ يَعْتَبِرُهُ فَهَذَا مُنْشَأُ الِافْتِرَاقِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ إلْغَاءَهُ شَرْعًا بِأَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ الِابْنِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَأَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءِ وَوَطْءَ الْمُحْرِمِ وَالصَّائِمِ كُلُّهُ حَرَامٌ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْمَذْكُورَةُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ ذَاتُ الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِكَوْنِهِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا. وَمَا رَوَاهُ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامَ» غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، أَرَأَيْت لَوْ بَالَ أَوْ صَبَّ خَمْرًا فِي مَاءٍ قَلِيلٍ مَمْلُوكٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا مَعَ أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فَيَجِبُ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَحْرُمُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَرَامًا، وَحِينَئِذٍ نَقول بِمُوجِبِهِ إذَا لَمْ نَقُلْ بِإِثْبَاتِ الزِّنَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ زِنًا بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَطْئًا، هَذَا لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُضَعَّفٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِي عَلَى مَا طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِالْكَذِبِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: فِي إسْنَادِهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ ضُعِّفَ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالَفَهُ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ، إمَّا لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ أَوْ مَجَازٌ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةٍ قوله تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} وَإِنَّمَا الْفَاحِشَةُ الْوَطْءُ لَا نَفْسُ الْعَقْدِ. وَيُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا بَلْ نَفْسُ لَفْظِهِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ إذَا ذُكِرَ لِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ: أَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِنَّ لَهُمْ بَعْدَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ قَبِيحًا قَبِيحٌ، وَقَدَّمْنَا لِلْمُصَنِّفِ اعْتِبَارَ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لِلْأَبِ. وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَأَنْكِحُ ابْنَتَهَا؟ قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحَ امْرَأَةً تَطَّلِعُ مِنْ ابْنَتِهَا عَلَى مَا تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ حَكِيمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَغْمِزُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: لَا يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الرِّجَالُ ثِقَاتٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْقولاتِ تَكَافَأَتْ، وَقولهُ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ مَغْلَطَةٌ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ لَيْسَتْ التَّحْرِيمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ، وَلِذَا اتَّسَعَ الْحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُصَاهَرَةِ، فَحَقِيقَةُ النِّعْمَةِ هِيَ الْمُصَاهَرَةُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُصَيِّرُ الْأَجْنَبِيُّ قَرِيبًا وَعَضُدًا وَسَاعِدًا يُهِمُّهُ مَا أَهَمَّكَ وَلَا مُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا، فَالصِّهْرُ زَوْجُ الْبِنْتِ مَثَلًا لَا مَنْ زَنَى بِبِنْتِ الْإِنْسَانِ فَانْتَفَى الصِّهْرِيَّةُ. وَفَائِدَتُهَا أَيْضًا إذْ الْإِنْسَانُ يَنْفِرُ عَنْ الزَّانِي بِبِنْتِهِ فَلَا يَتَعَرَّفُ بِهِ بَلْ يُعَادِيه فَأَنَّى يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَالْمَرْجِعُ الْقِيَاسُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ إلْغَاءَ وَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى كَوْنِهِ وَطْئًا، وَظَهَرَ أَنَّ حَدِيثَ الْجُزْئِيَّةِ وَإِضَافَةَ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَمَامِ الدَّلِيلِ، إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِحِكْمَةِ الْعِلَّةِ: يَعْنِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِهَذَا الْوَطْءِ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ الْمُضَافِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلًا، وَهُوَ إنْ انْفَصَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَاطٍ مَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاخْتِلَاطَ لَا يَحْتَاجُ تَحَقُّقُهُ إلَى الْوَلَدِ وَإِلَّا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ بِوَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ فَتَضَمَّنَتْ جُزْأَهُ (وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» (إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ) وَإِلَّا لَاسْتَلْزَمَ الْبَقَاءُ مُتَزَوِّجًا حَرَجًا عَظِيمًا تَضِيقُ عَنْهُ الْأَمْوَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِذَا تَضَمَّنَتْ جُزْأَهُ صَارَتْ أُمَّهَاتُهَا كَأُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتُهَا كَبَنَاتِهِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ كَمَا تَحْرُمُ أُمَّهَاتُهُ وَبَنَاتُهُ حَقِيقَةً. أَوْ نَقول وَهُوَ الْأَوْجُهُ: إنَّ بِالِانْفِصَالِ لَا تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَهِيَ الْمَدَارُ. وَعِنْدَ عَدَمِ الْعُلُوقِ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْمَظِنَّةِ خَالِيَةً عَنْ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلُ كَالْمِلْكِ الْمُرَفِّهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَحْرُمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسُّهُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إلَى ذَكَرِهِ عَنْ شَهْوَةٍ. لَهُ أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ اتِّكَائِهَا، وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ بِالْإِنْزَالِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ) أَيْ بِدُونِ حَائِلٍ أَوْ بِحَائِلٍ رَقِيقٍ تَصِلُ مَعَهُ حَرَارَةُ الْبَدَنِ إلَى الْيَدِ. وَقِيلَ الْمَدَارُ وُجُودُ الْحَجْمِ، وَفِي مَسِّ الشَّعْرِ رِوَايَتَانِ، وَنُقِلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَمَسُّهُ امْرَأَةً كَذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا، فَلَوْ مَسَّ عَجُوزًا بِشَهْوَةٍ أَوْ جَامَعَهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى، قَالَ ابْنُ الْفَضْلِ: بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ مُشْتَهَاةٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَبِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا لَا بِلَا تَفْصِيلٍ، وَبِنْتُ ثَمَانٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ سِتٍّ إنْ كَانَتْ عَبْلَةً كَانَتْ مُشْتَهَاةً وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَا يَشْتَرِطُ فِي الذَّكَرِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ زَوْجَةَ أَبِيهِ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا مَا وَعُدْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ بَيْنَ كَوْنِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مُخْطِئًا، حَتَّى لَوْ أَيْقَظَ زَوْجَتَهُ لِيُجَامِعَهَا فَوَصَلَتْ يَدُهُ إلَى بِنْتِهِ مِنْهَا فَقَرَصَهَا بِشَهْوَةٍ وَهِيَ مِمَّنْ تُشْتَهَى يَظُنُّ أَنَّهَا أُمُّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَلَك أَنْ تُصَوِّرَهَا مِنْ جَانِبِهَا بِأَنْ أَيْقَظَتْهُ هِيَ كَذَلِكَ فَقَرَصَتْ ابْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا وَقولهُ بِشَهْوَةٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيُفِيدُ اشْتِرَاطَ الشَّهْوَةِ حَالَ الْمَسِّ، فَلَوْ مَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى عَنْ ذَلِكَ الْمَسِّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادُ انْتِشَارًا هُوَ قول السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَشْتَرِطُوا سِوَى أَنْ يَمِيلَ قَلْبَهُ إلَيْهَا وَيَشْتَهِي جِمَاعَهَا، وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مَا لَوْ انْتَشَرَ فَطَلَبَ امْرَأَتَهُ فَأَوْلَجَ بَيْنَ فَخْذَيْ بِنْتِهَا خَطَأً لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأُمُّ مَا لَمْ يَزْدَدْ الِانْتِشَارُ. ثُمَّ هَذَا الْحَدُّ فِي حَقِّ الشَّابِّ أَمَّا الشَّيْخُ وَالْعِنِّينُ فَحَدُّهَا تَحَرُّكُ قَلْبِهِ أَوْ زِيَادَةُ تَحَرُّكِهِ إنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا لَا مُجَرَّدَ مَيَلَانِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِيمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ أَصْلًا كَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ، حَتَّى لَوْ مَسَّ وَأَقَرَّ أَنَّهُ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ لَا يُفْتِي بِالْحُرْمَةِ عَلَى هَذَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا تَحَرُّكُ الْآلَةِ. ثُمَّ وُجُودُ الشَّهْوَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَافٍ وَلَمْ يَحُدُّوا الْحَدَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ وَأَقَلُّهُ تَحَرُّكُ الْقَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ. هَذَا وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِمَسِّهَا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُصَدِّقَهَا أَوْ يَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ صِدْقُهَا. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي مَسِّهِ إيَّاهَا: لَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَاهُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمَا صِدْقُهُ. ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي مَا يُفِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: امْرَأَةٌ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا وَقَالَتْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ، إنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ صَدَّقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ إنْ تَعَمَّدَ الْفَسَادَ. وَلَوْ وَطِئَهَا الِابْنُ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِهَذَا الْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ بِشَهْوَةٍ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّقْبِيلِ وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ وَلَمْ يَكُنْ انْتِشَارٌ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ وَالْمُنْتَقَى يُصَدَّقُ.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا يُصَدَّقُ لَوْ قَبَّلَهَا عَلَى الْفَمِ. قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْإِمَامُ خَالِي.
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: يُصَدَّقُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، حَتَّى رَأَيْته أَفْتَى فِي الْمَرْأَةِ إذَا أَخَذَتْ ذَكَرَ الْخَتَنِ فِي الْخُصُومَةِ فَقَالَتْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ أَنَّهَا تُصَدَّقُ.اهـ. وَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا، فَإِنَّ وُقُوعَهُ فِي حَالَةِ الْخُصُومَةِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الشَّهْوَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَّلَهَا مُنْتَشِرًا فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى عَدَمِ الشَّهْوَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالنَّظَرِ وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ صُدِّقَ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ إذَا قَالَ بِلَا شَهْوَةٍ لَا يُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ فِيمَا أَعْلَمُ، وَفِي التَّقْبِيلِ إذَا أَنْكَرَ الشَّهْوَةَ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ شَهْوَةٍ غَالِبًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ بِالِانْتِشَارِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ يُقْبَلُ، وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ فَيُصَدَّقُ أَوْ عَلَى الْفَمِ فَلَا، وَالْأَرْجَحُ هَذَا إلَّا أَنَّ الْخَدَّ يَتَرَاءَى إلْحَاقُهُ بِالْفَمِ، وَيُحْمَلُ مَا فِي الْجَامِعِ فِي بَابِ قَبُولِ مَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا الْمُدَّعِيَ تَزَوَّجَ أُمَّهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ عَلَى أَنَّ قولهُ بِشَهْوَةٍ قَيْدٌ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْقُبْلَةِ عَلَى الْفَمِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي اللَّمْسِ فَقَطْ إنْ أُرِيدَ غَيْرُ الْفَمِ وَنَحْوِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّعْوَى إذَا وَافَقَتْ الظَّاهِرَ قُبِلَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ فَيُرَاعَى الظُّهُورُ.
وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ فَقَالَ وَطِئْتُهَا لَا تَحِلُّ لِابْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ تَحِلُّ لِابْنِهِ إنْ كَذَّبَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَحْرُمُ) قِيلَ عَلَيْهِ إنَّ ثُبُوتَ خِلَافِهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسَّ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ هُنَا مَفْرُوضٌ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ كَانَ لَا تَفَاوُتَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْمَسِّ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَثُبُوتُ خِلَافِهِ فِي الْمَسِّ الْحَلَالِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالسَّابِقَةِ. وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ كَوْنِ الْمَمْسُوسِ أَمَتَهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ حَيْثُ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمَرْأَةِ الْمَنْظُورِ إلَيْهَا: يَعْنِي الَّتِي فِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ الْأَمَةُ: يَعْنِي أَمَتَهُ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَنْكُوحَةُ أَوْ الْأَجْنَبِيَّةُ أَوْ الْأَمَةُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ أُمَّ الْمَنْكُوحَةِ حَرُمَتْ بِالْعَقْدِ وَبِنْتَهَا بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ، لَا أَنَّ حُرْمَتَهُمَا جَمِيعًا بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ فَلَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمَنْكُوحَةِ إلَّا فَائِدَةُ التَّحْرِيمِ فِي الرَّبِيبَةِ دُونَ الْأُمِّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
قولهُ: (وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: النَّظَرُ إلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ مُحَرِّمٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشَّقِّ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْفَرْجِ، وَالدَّاخِلُ فَرْجٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْخَارِجُ فَرْجٌ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ الْخَارِجِ مُتَعَذِّرٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ اهـ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الثَّانِي وَيَقول فِي الْأَوَّلِ: قَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي فَصْلِ الْغُسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ مَا إذَا نَقَلَ نَظِيرَهُ إلَى هُنَا كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَارِجِ وَهُوَ قولهُ: وَلَنَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ الْغُسْلُ مِنْ وَجْهٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ نَفْسَ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِالْمَسِّ ثُبُوتُهُ بِالِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاحْتِيَاطِ.
فُرُوعٌ:
النَّظَرُ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ إلَى الْفَرْجِ مُحَرِّمٌ، بِخِلَافِ النَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَاءِ فَنَظَرَ فِيهِ فَرَأَى فَرْجَهَا فِيهِ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الشَّطِّ فَنَظَّرَ فِي الْمَاءِ فَرَأَى فَرْجَهَا لَا يُحَرِّمُ، كَأَنَّ الْعِلَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الْمِرْآةِ مِثَالُهُ لَا هُوَ، وَبِهَذَا عَلَّلُوا الْحِنْثَ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِ فُلَانٍ فَنَظَرَهُ فِي الْمِرْآةِ أَوْ الْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْرِيمُ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ بِنَاءً عَلَى نُفُوذِ الْبَصَرِ مِنْهُ فَيَرَى نَفْسَ الْمَرْئِيِّ، بِخِلَافِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ، وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْإِبْصَارِ مِنْ الْمِرْآةِ وَمِنْ الْمَاءِ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَإِلَّا لَرَآهُ بِعَيْنِهِ بَلْ بِانْطِبَاعٍ مِثْلُ الصُّورَةِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَاءِ لِأَنَّ الْبَصَرَ يَنْفُذُ فِيهِ إذَا كَانَ صَافِيًا فَيَرَى نَفْسَ مَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى سَمَكَةً رَآهَا فِي مَاءٍ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ بِلَا حِيلَةٍ وَتَحْقِيقُ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَرْئِيِّ فِيهِ فِي فَنٍّ آخَرَ. ثُمَّ شَرْطُ الْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ أَوْ الْمَسِّ أَنْ لَا يُنْزِلَ، فَإِنْ أَنْزَلَ قَالَ الْأُوزْجَنْدِيُّ وَغَيْرُهُ: تَثْبُتُ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَالْإِنْزَالُ لَا يُوجِبُ رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ. وَالْمُخْتَارُ لَا تَثْبُتُ كَقول الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْبَزْدَوِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ حَالَ الْمَسِّ إلَى ظُهُورِ عَاقِبَتِهِ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ حَرُمَتْ وَإِلَّا لَا، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاضِحٌ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنَّ إقَامَةَ السَّبَبِ إذَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالْمُسَبِّبِ، إنَّمَا تَكُونُ لِخَفَاءِ الْمُسَبِّبِ، وَإِلَّا فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِغَيْرِ الْمَنَاطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَالْأُولَى ادِّعَاءُ كَوْنِ الْمَنَاطِ شَرْعًا نَفْسُ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَحَلِّ الْوَلَدِ بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمَسِّ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْغَايَةِ السَّمْعَانِيَّةِ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا» وَفِي الْحَدِيثِ «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ جَرَّدَ جَارِيَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ بَعْضُ بَنِيهِ فَقَالَ: أَمَّا إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَك. وَهَذَا إنْ تَمَّ كَانَ دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ فِي كَوْنِ النَّظَرِ إلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ كَافِيًا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: بِيعُوا جَارِيَتِي هَذِهِ، أَمَّا إنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إلَّا مَا يُحَرِّمُهَا عَلَى وَلَدِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَةً طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ يَجُوزُ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ يَجِبُ الْحَدُّ. وَلَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ وَالْقَاطِعُ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ جَامِعًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا) وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ جَازَ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تُزَوَّجُ أَرْبَعٌ سِوَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ بَائِنٍ، وَبِقولهِ قَالَ مَالِكٌ، وَبِقولنَا قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ قول عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ مَذْهَبُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي رُجُوعَ زَيْدٍ عَنْ هَذَا الْقول، وَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ. حُكِيَ أَنَّ مَرْوَانَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي هَذَا فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَخَالَفَهُمْ زَيْدٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قولهِمْ.
وَقَالَ عُبَيْدَةُ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ. ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، وَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَاسَ الْبَائِنَ عَلَى الثَّانِي بِجَامِعِ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ. وَيَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِهِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ حُدَّ. وَقِسْنَا عَلَى الْأَوَّلِ بِجَامِعِ قِيَامِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ انْقِطَاعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى قولنَا النِّكَاحُ قَائِمٌ حَالَ قِيَامِ الْعِصْمَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَضْلًا عَنْ حَالَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إلَّا قِيَامَ أَحْكَامِهِ، لِأَنَّ لَفْظَ تَزَوَّجْت وَزَوَّجْت تَلَاشَى بِمُجَرَّدِ انْقِضَائِهِ، فَقِيَامُهُ بَعْدَهُ لَيْسَ إلَّا قِيَامُ حُكْمِهِ الرَّاجِعِ إلَى الِاخْتِصَاصِ اسْتِمْتَاعًا وَإِمْسَاكًا، وَقَدْ بَقِيَ الْإِمْسَاكُ وَالْفِرَاشُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ حَالَ قِيَامِ عِدَّةِ الْبَائِنِ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ حَرُمَ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا مِنْ وَجْهٍ فَتَحْرُمُ مُطْلَقًا إلْحَاقًا بِالرَّجْعِيِّ أَوْ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا جِهَتَا تَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ مَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ. وَيَخُصُّ تَزَوُّجَ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ دَلَالَةُ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ فِيهِ بِالْقَطِيعَةِ وَهِيَ هُنَا أَظْهَرُ وَأَلْزَمُ، فَإِنَّ مُوَاصَلَةَ أُخْتِهَا فِي حَالِ حَبْسِهَا بِلَا اسْتِمْتَاعٍ أَغْيَظُ لَهَا مِنْ مُوَاصَلَتِهَا مَعَ مُشَارَكَتِهَا فِي الْمُتْعَةِ. وَالْفَرْعُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ. فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي عِدَّةِ الثَّلَاثِ لَيْسَ زِنَا مُسْتَعْقَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً فِي عَدَمِ الْحَدِّ، وَإِنْ سَلَّمَ كَمَا فِي عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ فَغَايَةُ مَا يُفِيدُ انْقِطَاعُ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَدْ قُلْنَا بِهِ عَلَى مَا سَتَسْمَعُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ أَثَرَ النِّكَاحِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ يَقُومُ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ تَحْرُمُ الْأُخْتُ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ تَحْرُمُ مُطْلَقًا.
وَفِي الْمُجْتَبَى جَوَازُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ يُؤَدِّي إلَى جَمْعِ مَائِهِ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ لِجَوَازِ الْعُلُوقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَيَثْبُتُ فِي الْمُعْتَدَّةِ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْحَدِيثِ.اهـ. يَعْنِي قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» وَمِثْلُهُ لَوْ عُلِّقَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ دَخَلَ بِأُخْتِهَا بَعْدَهُ يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ أَيْضًا.
فُرُوعٌ:
الْأَوَّلُ: إذَا أَخْبَرَ الْمُطَلِّقُ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ فَإِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْمُدَّةُ أَوْ لَا، لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قولهَا وَلَا قولهُ إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمَا هُوَ مُحْتَمِلٌ مِنْ إسْقَاطِ سَقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ.
وَفِي الْأَوَّلِ يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا سَوَاءً سَكَتَتْ الْمُخْبَرُ عَنْهَا أَوْ صَدَّقَتْهُ أَوْ كَذَّبَتْهُ أَوْ كَانَتْ غَائِبَةً.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا كَذَّبَتْهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ وَقَدْ قَبِلَ تَكْذِيبَهَا حَتَّى اسْتَمَرَّتْ نَفَقَتُهَا وَثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا أَتَتْ بِهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالنَّفَقَةِ الْقول بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانُ النِّكَاحِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحْتَمِلٌ فَيَجِبُ قَبُولُهُ فِي الْحَالِ وَتَكْذِيبُهَا لَا يَنْفَعُ إلَّا فِي حَقِّهَا فَقُلْنَا بِبَقَاءِ النَّفَقَةِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأُخْتِ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالنَّفَقَةِ الْحُكْمُ شَرْعًا بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَالْفِرَاشِ كَالْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِنَسَبِهِ الْحُكْمَ بِإِسْنَادِ الْعُلُوقِ فَيُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ هُنَا إنْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُخْرَى. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأُولَى دُونَ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَكَذَّبَتْهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَأَمَّا الْبَائِنُ وَهُوَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْأُولَى وَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ الزَّوْجُ بِهَا.
وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ لَمَّا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَرِيضِ وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ لَمْ يُقْبَلْ قولهُ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا كَمَا فِي نَفَقَتِهَا وَهُنَا وَضْعُهَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا حَقَّ لَهَا فِي مَالِهِ فَكَانَ قولهُ مَقْبُولًا فِي إبْطَالِ إرْثِهَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ بِقولهِ ذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ يَعْنِي الطَّلَاقَ صَارَ بَائِنًا، فَكَأَنَّهُ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَلَوْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ. وَقِيلَ هَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ جَعْلُ الرَّجْعِيِّ بَائِنًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَمَتَى كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُولَى فَلَا مِيرَاثَ لِلثَّانِيَةِ. الثَّانِي: لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتَهَا وَيَحِلُّ أَرْبَعٌ سِوَاهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَحِلُّ الْأُخْتُ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى تَزَوُّجِ الْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ لَمْ تَمْنَعْ فَكَيْفَ بِالْعِدَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَثَرُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بِضَعْفِ الْفِرَاشِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَقُوَّتِهِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَزَوُّجِهَا قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ، فَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ مُسْتَلْحِقًا نَسَبَ وَلَدَيْ أُخْتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الْأَرْبَعِ سِوَاهَا، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ فُرُشِ الْخَمْسِ وَلَا بَأْسَ بِهِ. الثَّالِثُ: لِزَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَمَا إذَا مَاتَتْ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِ لِلتَّبَايُنِ، فَإِنْ عَادَتْ مُسْلِمَةً فَإِمَّا بَعْدَ تَزَوُّجِ الْأُخْتِ أَوْ قَبْلَهُ؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُخْتِ لِعَدَمِ عَوْدِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَعُودُ الْعِدَّةُ، وَفِي إبْطَالِ نِكَاحِ أُخْتِهَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ سُقُوطِهَا لَا تَعُودُ بِلَا سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْتِ وَعَوْدُهَا مُسْلِمَةً يَصِيرُ شَرْعًا لِحَاقُهَا كَالْغَيْبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا مَالُهَا فَتَعُودُ مُعْتَدَّةً.

متن الهداية:
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ) وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَهَا (وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) وَإِنْ لَمْ تَمْلِكْ سِوَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَحُكِيَ غَيْرَهُ فِيهِ خِلَافَ الظَّاهِرِيَّةِ.
قولهُ: (لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شَرَعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحِينَ) أَيْ فِي الْمِلْكِ مِنْهَا مَا تَخْتَصُّ هِيَ بِمِلْكِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْعَزْلِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ هُوَ بِمِلْكِهِ كَوُجُوبِ التَّمْكِينِ وَالْقَرَارِ فِي الْمَنْزِلِ وَالتَّحَصُّنِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْمِلْكُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا كَالِاسْتِمْتَاعِ مُجَامَعَةً وَمُبَاشَرَةً وَالْوَلَدِ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ (وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ) فَقَدْ نَافَتْ لَازِمُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَمُنَافِي اللَّازِمِ مُنَافٍ لِلْمَلْزُومِ. وَلَا وَجْهَ إذَا تَأَمَّلَتْ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ لِلسُّؤَالِ الْقَائِلِ يَجُوزُ كَوْنُهَا مَمْلُوكَةً مِنْ وَجْهِ الرِّقِّ مَالِكَةً مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ لَازِمَ النِّكَاحِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ عَلَى الْخُلُوصِ وَالرِّقُّ يَمْنَعُهُ مِنْ غَيْرِ النَّفَقَةِ فَنَافَاهُ. وَلَوْ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فَسَدَ النِّكَاحُ وَيَسْقُطُ الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ دَايَنَ عَبْدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ سَقَطَ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيْ الْعَفَائِفُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَأْكُلَ ذَبِيحَتَهُمْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ. وَتُكْرَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحَرْبِيَّةُ إجْمَاعًا لِانْفِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ مِنْ إمْكَانِ التَّعَلُّقِ الْمُسْتَدْعِي لِلْمُقَامِ مَعَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَلَى الرِّقِّ بِأَنْ تُسْبَى وَهِيَ حُبْلَى فَيُولَدُ رَقِيقًا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَالْكِتَابِيُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ. وَالسَّامِرِيَّةُ مِنْ الْيَهُودِ. أَمَّا مَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَنَا. ثُمَّ قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى: قَالُوا هَذَا يَعْنِي الْحِلَّ إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا الْمَسِيحَ إلَهًا، أَمَّا إذَا اعْتَقَدُوهُ فَلَا.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَيَجِبُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ وَأَنَّ عُزَيْرًا إلَهٌ. وَلَا يَتَزَوَّجُوا نِسَاءَهُمْ. وَقِيلَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلَائِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْأَكْلُ وَالتَّزَوُّجُ اهـ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي رَضَاعِ مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي الذَّبِيحَةِ قَالَ: ذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ حَلَالٌ مُطْلَقًا سَوَاءً قَالَ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ أَوْ لَا وَمُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ هُنَا. وَالدَّلِيلُ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَسَّرَهُ بِالْعَفَائِفِ احْتِرَازًا عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا لِانْدِرَاجِهَا فِي الْمُشْرِكَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى أَنْ قَال: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قُلْنَا: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْقَرَضُوا لَا كُلُّهُمْ، وَيَهُودُ دِيَارِنَا يُصَرِّحُونَ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّوْحِيدِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ أَرَ إلَّا مَنْ يُصَرِّحُ بِالِابْنِيَّةِ قَبَّحَهُمْ اللَّهُ، لَكِنَّ هَذَا يُوجِبُ نُصْرَةُ الْمَذْهَبِ الْمُفَصِّلِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ حِلَّهُمْ فَيَقول مُطْلَقُ لَفْظِ الْمُشْرِكِ إذَا ذُكِرَ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ صَحَّ لُغَةً فِي طَائِفَةٍ بَلْ وَطَوَائِفَ، وَأَطْلَقَ لَفْظُ الْفِعْلِ: أَعْنِي يُشْرِكُونَ عَلَى فِعْلِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَاءَى بِعَمَلِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَعْمَلْ إلَّا لِأَجَلٍ زِيدَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ لُغَةً، وَلَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّارِعِ لَفْظَ الْمُشْرِكِ إرَادَتُهُ لِمَا عَهِدَ مِنْ إرَادَتِهِ بِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا يَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيٍّ وَلَا كِتَابٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُمْ عَلَيْهِ فِي قوله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} وَنَصَّصَ عَلَى حِلِّهِمْ لِقولهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ. وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْمُسْلِمَاتِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى، أُحِلَّ لَكُمْ الْمُسْلِمَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَإِنْ كُنَّ قَدْ انْقَرَضْنَ فَلَا فَائِدَةَ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْخِطَابُ بِحَلِّ الْأَمْوَاتِ لِلْمُخَاطَبِينَ الْأَحْيَاءِ، وَإِنْ كُنَّ أَحْيَاءً وَدَخَلْنَ فِي دِينِ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحِلُّ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمَاتِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، بَلْ وَيَدْخُلُ فِي الْمُحْصَنَاتِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ} ثُمَّ يَصِيرُ الْمَعْنَى فِيهِ وَالْمُسْلِمَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَهُوَ بَعِيدٌ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِ بِالْعَفَائِفِ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهِ حَثَّ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّخَيُّرِ لِنُطْفَتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِفَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْنَ فَهُوَ عَيْنُ الدَّلِيلِ حَيْثُ أُبِيحَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ الْبَاقِيَاتِ عَلَى مِلَّتِهِنَّ، وَلَوْ سَلَّمَ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ، أَعْنِي {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نُسِخَتْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُثَلِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَبَقِيَ مَنْ سِوَاهُمْ تَحْتَ الْمَنْعِ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ كُلَّهَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ قَطُّ، عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُحْصَنَاتِ بِالْمُسْلِمَاتِ لَيْسَ مِنْ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ تَفْسِيرُ إرَادَةٍ لَا لُغَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ تَزَوُّجُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ وَخِطْبَةُ بَعْضِهِمْ، فَمِنْ الْمُتَزَوِّجِينَ حُذَيْفَةُ وَطَلْحَةُ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالُوا نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ غَضَبُهُ لِخُلْطَةِ الْكَافِرَةِ بِالْمُؤْمِنِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ فِي صِغَرِهِ أَلْزَمُ لِأُمِّهِ، وَمِثْلُهُ قول مَالِكٍ تَصِيرُ تَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يُقَبِّلُ وَيُضَاجِعُ لَا لِعَدَمِ الْحِلِّ؛ أَلَا تَرَى إلَى قولهِمْ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يُتَصَوَّرْ طَلَاقٌ حَقِيقَةً وَلَا وَقْفٌ إلَى زَمَنِهِ. وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ هِنْدًا بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَكَانَتْ تَنَصَّرَتْ وَدَيْرُهَا بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَتْ قَدْ عَمِيَتْ فَأَبَتْ وَقَالَتْ: أَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ؟ وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ تَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَتَقول تَزَوَّجْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: صَدَقْت، وَأَنْشَأَ يَقول:
أَدْرَكَتْ مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا ** لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ

فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ ذِهْنَهُ ** إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ

وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيُكْرِمُهَا وَيَسْأَلُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ فِي أَبْيَاتٍ:
فَبَيْنَمَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا ** إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا ** تُقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرِّفُ

قولهَا نَتَنَصَّفُ: أَيْ نُسْتَخْدَمُ، وَالْمُنَصَّفُ الْخَادِمُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَلَا جُرْمَ أَنْ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى تَفْسِيرِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ، ثُمَّ لَيْسَتْ الْعِفَّةُ شَرْطًا بَلْ هُوَ لِلْعَادَةِ أَوْ لِنَدْبٍ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا غَيْرَهُنَّ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا. وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى حِلِّ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهَا.

متن الهداية:
وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» قَالَ: (وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ) عَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ، وَنُقِلَ الْجَوَازُ عَنْ دَاوُد وَأَبِي ثَوْرٍ، وَنَقَلَهُ إِسْحَاقُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَوَاقَعَ مَلِكُهُمْ أُخْتَهُ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَأُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ فَنَسُوهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّا نَعْنِي بِالْمَجُوسِ عَبَدَةَ النَّارِ، فَكَوْنُهُمْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوَّلًا لَا أَثَرَ لَهُ. فَإِنَّ الْحَاصِلَ أَنَّهُمْ الْآنَ دَاخِلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَبِهَذَا يُسْتَغْنَى عَنْ مَنْعِ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ قوله تَعَالَى: {إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} مِنْ غَيْرِ تَعْقِيبٍ بِإِنْكَارٍ، وَعَدَّهُمْ الْمَجُوسَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَبِالرَّفْعِ وَالنِّسْيَانِ أُخْرِجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِهِمْ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ». قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ مُرْسَلٌ، وَمَعَ إرْسَالِهِ فِيهِ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مِمَّنْ سَاءَ حِفْظُهُ بِالْقَضَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقٍ لَيْسَ فِيهَا قَيْسٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَال: «بِأَنْ لَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ وَلَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ».
وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيه: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ».اهـ. وَسَيَأْتِي بَاقِي مَا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، وَيَدْخُلُ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالصُّوَرِ الَّتِي اسْتَحْسَنُوهَا وَالْمُعَطِّلَةُ وَالزَّنَادِقَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَالْإِبَاحِيَّةُ.
وَفِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: وَكُلُّ مَذْهَبٍ يَكْفُرُ بِهِ مُعْتَقِدُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا.
وَقَالَ الرُّسْتُغْفَنِيُّ: لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِاعْتِزَالِ وَالْفَضْلِيُّ وَلَا مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَمُقْتَضَاهُ مَنْعُ مُنَاكَحَةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَكَذَا، قِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ يَتَزَوَّجُ بِنْتَهمْ وَلَا يُزَوِّجُهُمْ بِنْتَه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا يُرِيدُ إيمَانَ الْمُوَافَاةِ صَرَّحُوا بِهِ: يَعْنُونَ الَّذِي يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ نَفْسِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ اسْتِصْحَابِهِ إلَيْهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ قوله تَعَالَى: {وَلَا تَقولنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قولهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْطًا لَا كَمَا يُقَالُ إنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّكِ، وَكَيْفَ كَانَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كُفْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَنَا خِلَافُ الْأُولَى، لِأَنَّ تَعْوِيدَ النَّفْسِ بِالْجَزْمِ فِي مِثْلِهِ لِيَصِيرَ مَلَكَةً خَيْرٌ مِنْ إدْخَالِ أَدَاةِ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا عِنْدَ الْمُوَافَاةِ أَوْ لَا. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ حِلُّ مُنَاكَحَتِهِمْ لِأَنَّ الْحَقَّ عَدَمُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ وَقَعَ إلْزَامًا فِي الْمَبَاحِثِ، بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ الْقَوَاطِعَ الْمَعْلُومَةَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ مِثْلُ الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَقول: وَكَذَا الْقول بِالْإِيجَابِ بِالذَّاتِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ.
فَرْعٌ:
تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ بِمَعْنَى تَزَوَّجَ الْيَهُودِيُّ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً وَالْمَجُوسِيُّ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ، فَتَجُوزُ مُنَاكَحَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَجَازَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَطْءَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِوُرُودِ الْإِطْلَاقِ فِي سَبَايَا الْعَرَبِ كَأَوْطَاسٍ وَغَيْرِهَا وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْعُ ذَلِكَ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْوَطْءُ أَوْ كُلٌّ مِنْهُ وَمِنْ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ خَاصٌّ فِي الضَّمِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَسْلَمْنَ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ) لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقول فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا حِلُّ ذَبِيحَتِهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) وَإِنْ عَظَّمُوا الْكَوَاكِبَ كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِ الْكَعْبَةَ، بِهَذَا فَسَّرَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَبَنَى عَلَيْهِ الْحِلَّ، وَفَسَّرَاهُمْ بِعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ فَبَنَيَا عَلَيْهِ الْحُرْمَةَ، وَقِيلَ فِيهِمْ الطَّائِفَتَانِ، وَقِيلَ فِيهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَوْ اُتُّفِقَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ اُتُّفِقَ عَلَى الْحُكْمِ فِيهِمْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بِمَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا حَالَةَ الْإِحْرَامِ) وَفِيهِ خِلَافُ الثَّلَاثَةِ (وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ مَوْلَاتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) تَمَسَّكُوا بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعَتْ أَبِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» زَادَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ وَلَا يَخْطُبُ وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِه: «وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ» وَمُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ أَبَا غَطَفَانَ الْمُرِّيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ. وَلَنَا مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي: «وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ» وَلَهُ أَيْضًا عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ سَنَدُهُ بِهِ قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» وَمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَم: «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ هَذَا فَإِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ. وَحَدِيثُ يَزِيدَ لَمْ يُخْرِجُهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا النَّسَائِيّ، وَأَيْضًا لَا يُقَاوَمُ بِابْنِ عَبَّاسٍ حِفْظًا وَإِتْقَانًا، وَلِذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِلزُّهْرِيِّ: وَمَا يُدْرِي ابْنَ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيٌّ كَذَا وَكَذَا لِشَيْءٍ قَالَهُ أَتَجْعَلُهُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا» لَمْ يُخَرَّجْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ وَإِنْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ سِوَى حَدِيثٍ حَسَنٍ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ عَنْ مَطَرٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ» فَمُنْكَرٌ عَنْهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ بَعْدَمَا اُشْتُهِرَ إلَى أَنْ كَانَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَقِينَ عَنْهُ فِي خِلَافِهِ. وَلِذَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ عَارَضَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ طَرِيقًا «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَفِي لَفْظٍ «وَهُمَا مُحْرِمَانِ» وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَمَا أُوِّلَ بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ أَرْضَ نَجْدٍ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ أَرْضَ الْحَرَمِ بَعِيدٌ. وَمِمَّا يُبْعِدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ» وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثَيْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَى مِنْهُمَا سَنَدًا، فَإِنْ رَجَّحْنَا بِاعْتِبَارِهِ كَانَ التَّرْجِيحُ مَعَنَا، وَيَعْضُدُهُ مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ نِسَائِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ: وَنَقْلَةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ.اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إنَّمَا أَرَادَتْ نِكَاحَ مَيْمُونَةَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُسَمِّهَا، وَبِقُوَّةِ ضَبْطِ الرُّوَاةِ وَفِقْهِهِمْ فَإِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ لَيْسُوا كَمَنْ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِقْهًا وَضَبْطًا كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِنْ تَرَكْنَاهَا تَتَسَاقَطُ لِلتَّعَارُضِ وَصِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ فَهُوَ مَعَنَا لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنْ شِرَاءِ الْأُمَّةِ لِلتَّسَرِّي وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ حَرُمَ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الْوَطْءِ وَأَثَرُهُ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ لَا فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَبَطَلَ عَقْدُ الْمَنْكُوحَةِ سَابِقًا لِطُرُوِّ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْعَقْدِ يَسْتَوِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ كَالطَّارِئِ عَلَى الْعَقْدِ، وَإِنْ رَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ الْمَتْن كَانَ مَعَنَا لِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَافِيَةٌ وَرِوَايَةَ يَزِيدَ مُثْبِتَةٌ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمُثْبِتَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْحِلُّ الطَّارِئُ عَلَى الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، وَالنَّافِي هُوَ الْمُبْقِيهَا لِأَنَّهُ يَنْفِي طُرُوُّ طَارِئٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِلِّ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ لَهُ كَيْفِيَّاتٌ خَاصَّةٌ مِنْ التَّجَرُّدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فَكَانَ نَفْيًا مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ فَيُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ فَيُرَجِّحُ بِخَارِجٍ وَهُوَ زِيَادَةُ قُوَّةِ السَّنَدِ وَفِقْهُ الرَّاوِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِلِّ اللَّاحِقِ، وَأَمَّا عَلَى إرَادَةِ الْحِلِّ السَّابِقِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرِي؛ فَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَيَزِيدُ نَافٍ، فَيُرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَاتِ الْمَتْنِ لِتَرَجُّحِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، وَلَوْ عَارَضَهُ بِأَنْ كَانَ نَفْيُ يَزِيدَ مِمَّا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ لِأَنَّ حَالَةَ الْحِلِّ تُعْرَفُ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْحَلَالِ فَالتَّرْجِيحُ بِمَا قُلْنَا مِنْ قُوَّةِ السَّنَدِ وَفِقْهِ الرَّاوِي لَا بِذَاتِ الْمَتْنِ. وَإِنْ وُفِّقْنَا لِدَفْعِ التَّعَارُضِ فَيُحْمَلُ لَفْظُ التَّزَوُّجِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْأَصَمِّ عَلَى الْبِنَاءِ بِهَا مَجَازًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ الْعَادِيَةِ، وَيُحْمَلُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ» إمَّا عَلَى نَهْيِ التَّحْرِيمِ وَالنِّكَاحِ لِلْوَطْءِ. وَالْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ: أَيْ لَا تُمَكِّنُ الْمُحْرِمَةُ مِنْ الْوَطْءِ زَوْجَهَا. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُضَعِّفُ هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ الْإِنْكَاحُ لَا النِّكَاحُ. وَأَمَّا اسْتِبْعَادُهُ بِاخْتِلَالِهِ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ بِوَاقِعٍ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ دُخُولُ لَا النَّاهِيَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ لِلْغَائِبِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ، وَعَلَى النَّفْيِ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَفِيهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، أَوْ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شَغْلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلُ قَلْبِهِ عَنْ الْإِحْسَانِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خِطْبَةِ وَمُرَاوَدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ وَهَذَا مَحْمَلُ قوله: «وَلَا يَخْطُبُ» وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَ الْمَكْرُوهَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَنُوطَ بِهِ الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَلَا بُعْدَ فِي اخْتِلَافِ حُكْمٍ فِي حَقِّنَا وَحَقِّهِ لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فِينَا وَفِيهِ، كَالْوِصَالِ نَهَانَا عَنْهُ وَفَعَلَهُ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِالْمُسْلِمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ. وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي، وَفِيهِ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْوَصْفَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً إلَخْ) قَيْدُ الْحُرِّ غَيْرُ مُفِيد لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ فَكَانَ الصَّوَابُ إبْدَالُهُ بِالْمُسْلِمِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ كَقولهِ، وَعَنْهُمَا كَقولنَا. لَهُ قوله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ اُسْتُفِيدَ مِنْهَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ: عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَعَدَمُ جَوَازِ النِّكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا حِينَ لَا ضَرُورَةَ مِنْ خَشْيَةِ الْعَنَتِ لِقولهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فَاسْتَنْبَطْنَا مِنْ قَصْرِ الْحِلِّ عَلَى الضَّرُورَةِ مَعْنًى مُنَاسِبًا وَهُوَ مَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنْ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمًا. وَعَدَمُ جَوَازِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي قولهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} وَأَيْضًا إذَا لَمْ تَجُزْ الْأَمَةُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ فَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمُسْلِمَةِ. وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فِي الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَعِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِهِ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى مِنْ قوله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، وَلَمْ يَنْتَهِضْ مَا ذَكَرُوا حُجَّةً مُخْرِجَةً. أَمَّا أَوَّلًا فَالْمَفْهُومَانِ: أَعْنِي مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لَيْسَا بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَبِتَقْدِيرِ الْحُجِّيَّةِ مُقْتَضَى الْمَفْهُومَيْنِ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَيْدِ الْمُبِيحِ. وَعَدَمُ الْإِبَاحَةِ أَعَمُّ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى أَخَصَّ بِخُصُوصِهِ فَيَجُوزُ ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَعِنْدَ وُجُودِ طُولِ الْحُرَّةِ، كَمَا يَجُوزُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى السَّوَاءِ وَالْكَرَاهَةِ أَقَلُّ فَتَعَيَّنَتْ فَقُلْنَا بِهَا، وَبِالْكَرَاهَةِ صَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ. وَأَمَّا تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحِلِّ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ بِتَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ لِتَثْبُتَ الْحُرْمَةُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ شَتَّى أَوْ لِتَعْيِينِ أَحَدِ فَرْدَيْ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ مُرَادًا بِالْأَعَمِّ، فَإِنْ عَنَوْا أَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ مَوْصُوفٍ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ سَلَّمْنَا اسْتِلْزَامَهُ لِلْحُرْمَةِ، وَلَكِنَّ وُجُودَ الْوَصْفِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَيْسَ هُنَا مُتَّصِفٌ بَحْرِيَّة عُرِّضَ لِلرِّقِّ بَلْ الْوَصْفَانِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ يُقَارِنَانِ وُجُودَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أُمِّهِ، إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَحُرٌّ أَوْ رَقِيقَةً فَرَقِيقٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ تَعْرِيضَ الْوَلَدِ الَّذِي سَيُوجَدُ لَأَنْ يُقَارِنَهُ الرِّقُّ فِي الْوُجُودِ لَا إرْقَاقُهُ سَلَّمْنَا وُجُودَهُ وَمَنَعْنَا تَأْثِيرَهُ فِي الْحُرْمَةِ بَلْ فِي الْكَرَاهَةِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْوَلَدُ أَصْلًا بِنِكَاحِ الْآيِسَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَهُ رَقِيقًا بَعْدَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْلَى، إذْ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ التَّنَاسُلِ إنَّمَا هُوَ تَكْثِيرُ الْمُقِرِّينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْوَلَدِ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ ذَلِكَ كَمَالٌ يَرْجِعُ أَكْثَرُهُ إلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَقَدْ جَازَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَكَوْنُ الْعَبْدِ أَبًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ رِقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا، وَالْمَانِعُ إنَّمَا يَعْقِلُ كَوْنُهُ ذَاتَ الرِّقِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْصِ الَّذِي جَعَلُوهُ مُحَرَّمًا لَا مَعَ قَيْدِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لَوْ صَحَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلُ: أَعْنِي تَعْلِيلَ الْحُرْمَةِ بِالتَّعْرِيضِ لِلرِّقِّ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ طُولِ الْحُرَّةِ شَرْطٌ أَنْ لَا تَكُونَ جَارِيَةَ ابْنِهِ: أَيْ مِلْكَ الِابْنِ، قَالَ فِي خُلَاصَتِهِمْ: لَوْ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ فَنَزَلَ مِلْكُ وَلَدِهِ مَنْزِلَةَ مِلْكِهِ، وَعِنْدَنَا لَا مِلْكَ لِلْأَبِ مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا وَإِلَّا لَحَرُمَتْ عَلَى الِابْنِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إذْ لَا مُنَصِّفَ فِي حَقِّهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ») أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَال: «وَتُتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَا تُتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَفِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِسَنَدِهِ إلَى الْحَسَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ. قَالَ: وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ». قَالَ: وَهَذَا مُرْسَلٌ الْحَسَنُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا مُرْسَلًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقول: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ». وَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَا تُتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّة. وَعَنْ مَكْحُولٍ نَحْوَهُ. فَهَذِهِ آثَارٌ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تُقَوِّي الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ لَوْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، ثُمَّ اُعْتُضِدَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ إضَافَتِهِمْ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ أَضَافُوهُ إلَى مَفْهُومِ قوله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَلَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا. وَقولهُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إجَازَةِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ) يَعْنِي حُجَّةً جَبْرًا لِأَنَّا أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهِ بَلْ وُجُوبُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ بَعْدَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، وَلِأَنَّهُ يَرَى حُجِّيَّتَهُ إذَا اقْتَرَنَ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا يَرَى حُجِّيَّتَهُ إذَا أَفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُنَا كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ: يَعْنِي تَعَدُّدَ الْمَخْرَجِ نَظَرَ إلَى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.اهـ. وَبِهِ يَخُصُّ قوله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إذْ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إخْرَاجَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ عَلَى مَا قَالُوا وَالْمَجُوسِيَّاتُ مُشْرِكَاتٌ وَالنَّاسِخُ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ بِهِ ظَنِّيًّا فَلَا يَخُصُّ بَعْدَهُ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسٍ. وَمَا قِيلَ إنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ قوله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجَمْعَ لِيَتَحَقَّقَ إخْرَاجُهُ لِأَنَّهُ مِمَّا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ قَال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أَيْ مَا وَرَاءَ الْمَذْكُورَاتِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَشْمَلُ الْعَبْدَ فَإِخْرَاجُهُ يَسْتَدْعِي ثَبْتًا وَلَمْ يُثْبِتْ إذْ إضَافَةُ إخْرَاجِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الَّتِي ادَّعَوْا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وَجْهٌ لَمَّا عُلِمَتْ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا يَجِبُ اسْتِوَاءُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيهَا، لِأَنَّ الْمَعْقول تَأْثِيرُ ذَاتِ الرِّقِّ فِي الْمَنْعِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَوُجُودِ الطَّوْلِ.
قولهُ: (وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ) مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول بِحُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ إذَا صَحَّ طَرِيقُهُ إلَى التَّابِعِيِّ، لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِإِغَاظَةِ الْحُرَّةِ بِإِدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ انْتَفَى مَا لِأَجْلِهِ الْمَنْعُ فَيَجُوزُ وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ مَعْنًى يُخَصَّصُ النَّصَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا وَلَا مُومًى إلَيْهِ كَانَ تَقْدِيمًا لِلْقِيَاسِ عَلَى لَفْظِ النَّصِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا بَلْ الْعِبْرَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَاهُ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ جَوَازِ ذَلِكَ فَتَعْلِيلُهُ بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَهُوَ تَنْصِيفُ النِّعْمَةِ بِالرِّقِّ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسْمُ أَوْلَى، فَيَكُونُ الْمَنْعُ بِاعْتِبَارِ التَّعْلِيلِ بِهِ لِلتَّنْصِيفِ فِي أَحْوَالِ نِكَاحِ الْأَمَةِ. بَيَانُهُ أَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ فِي النِّكَاحِ نِعْمَةٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ لَمَا لَمْ يُمْكِنْ تَنْصِيفُ نَفْسِ الْحِلِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بَلْ نِصْفُ الْحِلِّ أَيْضًا وَهُوَ تَنْصِيفُ الْقَسْمِ إذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ لَيْلَتِهَا لَأَمْكَنَ، فَيَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَدِيثِ لِإِرَادَةِ تَنْصِيفِ الْأَحْوَالِ جَرْيًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مَنُوطًا بِالرِّقِّ، وَذَلِكَ أَنَّ لِنِكَاحِهَا حَالَتَيْ انْضِمَامٍ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ سَابِقَةٍ وَانْفِرَادٍ عَنْهُ، فَالتَّنْصِيفُ إذَا كَانَ إمْكَانُ الْحَالَتَيْنِ قَائِمًا بِتَصْحِيحِ نِكَاحِهَا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَتَصْحِيحُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ فِي الْحَالَتَيْنِ حَالَةُ الِانْفِرَادِ وَالِانْضِمَامِ إلَى أَمَةٍ سَابِقَةٍ ثُمَّ عَيَّنَ الشَّرْعُ لِلْمَنْعِ حَالَةَ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ لِمَا فِي اعْتِبَارِ نَقْصِهَا عَنْ الْحُرَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ. وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ لِزِيَادَةِ غَيْظِ الْحُرَّةِ زِيَادَةً مُعْتَبَرَةً دَخَلَا أَيْضًا، أَمَّا أَصْلُ غَيْظِهَا فَلَا أَثَرَ لَهُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِإِدْخَالِ الْحُرَّةِ أَيْضًا عَلَى الْأَمَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مِنْ الْأَصْلِ مَا يُورِدُ مِنْ أَنَّ الِانْضِمَامَ يُصَدَّقُ عَلَى مَا إذَا أَدْخَلَ الْحُرَّةَ أَيْضًا عَلَى الْأَمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُفْسِدَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِإِدْخَالِ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الِانْضِمَامَ يَقُومُ بِالْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّهُ الْمُنْضَمُّ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَقَدِّمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَنْعَ إدْخَالِ الْأَمَةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَتَعْلِيلُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَثْبُتُ لِنَسْلِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ طُولِ الْحُرَّةِ قَبْلَ نِكَاحِهَا فَلَا يَثْبُتُ لِلنَّسْلِ ذَلِكَ. هَذَا وَأَمَّا حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ فَيَجْتَمِعُ فِي الْأَمَةِ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ فَتَحْرُمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ لِلْقِيَاسِ، وَيُسْتَدْعَى أَصْلًا يَلْحَقُ بِهِ مَنْصُوصًا أَوْ مَجْمَعًا عَلَيْهِ فَيُمْكِنُ جَعْلُهُ هُنَا تَنْصِيفَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ.

متن الهداية:
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَزَوُّجٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يُدْخِلَ غَيْرَهَا فِي قَسْمِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ إلَخْ) وَكَذَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ قُيِّدَ بِالْبَائِنِ لِأَنَّ فِي عِدَّةِ الرُّجْعَى لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ اتِّفَاقًا، وَقولهُمَا قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ الْجَمْعُ لِيَمْتَنِعَ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ كَالْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَإِلَّا حَرُمَ إدْخَالُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا بَلْ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ. لَا يُقَالُ: تَزَوَّجَ عَلَيْهَا إذَا تَزَوَّجَ وَهِيَ مُبَانَةٌ مُعْتَدَّةٌ، وَلِذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَتَزَوَّجَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ عَنْ بَائِنٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ وَبِاعْتِبَارِهَا يُعَدُّ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ بِالتَّزَوُّجِ فِيهَا مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ حَرَامًا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْحُرُمَاتِ كَالْحَقِيقَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَقِيلَ إنَّمَا هُوَ قولهُمَا لَا قولهُ، وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَنْعُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِقِيَامِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِيَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ فِيهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَلِفِهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا هُوَ أَنْ لَا يُدْخِلَ عَلَيْهَا شَرِيكَةً فِي الْقَسْمِ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ أَنْ لَا يُسَمَّى مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِبَانَة إلَّا إذَا كَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ حَالُ قِيَامِ الْعِصْمَةِ.

متن الهداية:
(وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لِقولهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا إذْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ يَنْتَظِمُهَا اسْمُ النِّسَاءِ كَمَا فِي الظِّهَارِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ) أَيْ جَمْعًا وَتَفْرِيقًا، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَخَّرَ الْحَرَائِرَ.
قولهُ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الْجَوَارِي فَلَهُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ.
وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَلْفُ جَارِيَةٍ، أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَلَامَهُ رَجُلٌ آخَرُ يَخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرَ. وَقَالُوا: إذَا تَرَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كَيْ لَا يُدْخِلَ الْغَمَّ عَلَى زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ كَانَ مَأْجُورًا. وَأَجَازَ الرَّوَافِضُ تِسْعًا مِنْ الْحَرَائِرِ. وَنُقِلَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَجَازَ الْخَوَارِجُ ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إبَاحَةُ أَيِّ عَدَدٍ شَاءَ بِلَا حَصْرٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْعَدَدَ الْمُحَلَّلَ بِمَثْنًى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعٌ. وَجْهُ الثَّانِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ مَثْنًى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْدُولٌ عَنْ عَدَدٍ مُكَرَّرٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ. وَكَأَنَّ وَجْهَ الثَّالِثِ الْعُمُومَاتُ مِنْ نَحْوِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَلَفْظُ مَثْنًى إلَى آخِرِهِ تَعْدَادٌ عُرْفِيٌّ لَهُ لَا قَيْدٌ، كَمَا يُقَالُ خُذْ مِنْ الْبَحْرِ مَا شِئْت قِرْبَةً وَقِرْبَتَيْنِ وَثَلَاثًا. وَيَخُصُّ الْأَوَّلِينَ تَزَوُّجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَنَّ آيَةَ الْإِحْلَالِ هَاهُنَا وَهِيَ قوله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} لَمْ تُسَقْ إلَّا لِبَيَانِ الْعَدَدِ الْمُحَلَّلِ لَا لِبَيَانِ نَفْسِ الْحِلِّ، لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنْ غَيْرِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا كِتَابًا وَسُنَّةً فَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا مُعَقِّبًا بِالْعَدَدِ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ قَصْرِ الْحِلِّ عَلَيْهِ، أَوْ هِيَ لِبَيَانِ الْحِلِّ الْمُقَيَّدِ بِالْعَدَدِ لَا مُطْلَقًا، كَيْف وَهُوَ حَالٌ مِمَّا طَابَ فَيَكُونُ قَيْدًا فِي الْعَامِلِ وَهُوَ الْإِحْلَالُ الْمَفْهُومُ مِنْ فَانْكِحُوا، ثُمَّ إنَّ مَثْنًى مَعْدُولٌ عَنْ عَدَدٍ مُكَرَّرٍ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ هُوَ اثْنَانِ اثْنَانِ هَكَذَا إلَى مَا لَا يَقِفُ، وَكَذَا ثُلَاثُ فِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ، وَمِثْلُهُ رُبَاعُ فِي أَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ، فَمُؤَدَّى التَّرْكِيبِ عَلَى هَذَا مَا طَابَ لَكُمْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ جَمْعًا فِي الْعَقْدِ أَوْ عَلَى التَّفْرِيقِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا جَمْعًا أَوْ تَفْرِيقًا وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا كَذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ قَيْدٌ فِي الْحِلِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَانْتَهَى الْحِلُّ إلَى أَرْبَعٍ مُخَيَّرٌ فِيهِنَّ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ. وَأَمَّا حِلُّ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحِلِّ النِّكَاحُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُتَصَوَّرُ بِالْوَاحِدَةِ. فَحَاصِلُ الْحَالِ أَنَّ حِلَّ الْوَاحِدَةِ كَانَ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ حِلِّ الزَّائِدِ عَلَيْهَا إلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ مَعَ بَيَانِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ يَتِمُّ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ. أَوْ نَقول: عُرِفَ حِلُّ الْوَاحِدَةِ لِقولهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فَكَانَ الْعَدَدُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مُحَلِّلًا عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْجَوْرِ، ثُمَّ أَفَادَ أَنَّ عِنْدَ خَوْفِهِ بِقَصْرِ الْحِلِّ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَعْطِفْ بِأَوْ فَيُقَالُ أَوْ ثُلَاثُ أَوْ رُبَاعُ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ بِأَوْ لَكَانَ الْإِحْلَالُ مُقْتَصِرًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُحَصِّلُوا هَذِهِ الْأَعْدَادَ إنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّثْنِيَةِ وَإِنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّثْلِيثِ وَإِنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّرْبِيعِ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ صِحَّةُ التِّسْعِ وَالثَّمَانِي عَشَرَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» وَمِثْلُهُ وَقَعَ لِفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَقَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ. وَالْمُرَادُ مِنْ قولهِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ: يَعْنِي التَّنْصِيصَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، فَكَانَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ أَوْ الْحُضُورِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَدَدُ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَدَدٌ لَا يَمْنَعُهَا كَمَا فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» حَيْثُ أَلْحَقَ بِهَا الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ وَالْعِتْقَ لِوُقُوعِهِ حَالًا قَيْدًا فِي الْإِحْلَالِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَدَدٌ لَا يُمْنَعُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ تَمْتَنِعُ مَعَهُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ كَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ لَا وَلَا نَحْوَ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي قوله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الْآيَةُ، وَقَدْ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ النَّقْصُ فَقَطْ كَمَا فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ لِذَاتِ الْعَدَدِ بَلْ لِخَوَارِجَ كَمَنْعِ الزِّيَادَةِ هُنَا لِتَقْيِيدِ الْحِلِّ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُطْلَبُ السَّبَبُ.
قولهُ: (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَاهُ) وَهُوَ عُمُومُ {مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} مُقْتَصِرًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقولهُ إذْ الْأَمَةُ وَالْمَنْكُوحَةُ يُرِيدُ بِالْمَنْكُوحَةِ الْحُرَّةُ، وَإِلَّا فَالْمَنْكُوحَةُ لَا تُنَافِي الْأَمَةَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْأَمَةِ لَيْسَ إلَّا الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى الصِّفَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال بِجَوَازِ تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِتَنَاوُلِ اسْمِ النِّسَاءِ ذَلِكَ. وَعَلَى مَا قَالَ مِنْ وَجْهِ التَّنَاوُلِ يَلْزَمُ نِكَاحُ الْمَنْكُوحَةِ وَالْمَنْكُوحَةُ لَا تُنْكَحُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ الْمَنْكُوحَةَ أَصْلًا، وَالْعِنَايَةُ بِهِ أَنْ يُرَادَ الْمَنْكُوحَةُ بِالْقُوَّةِ: أَيْ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا يَنْتَظِمَهَا إلَخْ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ حَتَّى مَلَّكَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ) لِأَنَّ السَّبْيَ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمَسْبِيِّ وَزَوْجَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَصْلُ النِّكَاحِ بِالْإِذْنِ فَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهِ لَمْ يَمْلِكْهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ الْمَالَ فَلَمَّا مَلَكَهُ سَاوَى الْحُرَّ فِيهِ. وَجَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ السَّبْيَ أَحَدُ أَسْبَابِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَمَحَلُّهُ الْمَالُ لَا النِّكَاحُ فَلِذَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ. وَجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ إذَا تَحَقَّقَ مَا يُوجِبُهُ كَالْأَمَةِ تَمْلِكُ طَلَبَ أَصْلِ الْوَطْءِ مِنْ زَوْجِهَا وَيَنْتَصِفُ قَسْمُهَا.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصَّفٌ) تَوْضِيحُ مُرَادِهِ أَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى إنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُطَالَبَةَ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ نَصَّفَ الرِّقُّ الْمَرْأَةَ مَا لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِلِّ حَتَّى إذَا كَانَتْ تَحْتَ الرَّجُلِ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ يَكُونُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ، فَلَمَّا نَصَّفَ رِقُّهَا مَالَهَا وَجَبَ أَنْ يُنَصِّفَ رِقُّهُ مَالَهُ وَلِلْحُرِّ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ وَلِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ. بَقِيَ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ لِقولهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} نَظَرًا إلَى عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إطْلَاقِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَمَةِ نَظَرًا إلَى الْعُمُومِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ الْأَحْرَارُ بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا هُمْ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ فَلَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ الْأَحْرَارُ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ إحْدَى الْأَرْبَعِ طَلَاقًا بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ نَظِيرُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ. قَالَ: (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ (وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ. وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ كَيْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا) مِنْ غَيْرِهِ (جَازَ النِّكَاحُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَقول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقولنَا وَقول الْآخَرِينَ وَزُفَرَ كَقول أَبِي يُوسُفَ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْحَبَلُ مِنْ زِنًا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ مُحَالًا إلَى النَّوَازِلِ. قَالَ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ زِنًا مِنْهُ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَيَحِلُّ وَطْؤُهَا عِنْدَ الْكُلِّ. وَإِذَا جَازَ فِي الْخِلَافِيَّةِ عِنْدَهُمَا وَلَا يَطَؤُهَا هَلْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؟ ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَقِيلَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَإِنْ وَجَبَتْ مِنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عِنْدَنَا لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ مِنْ الدُّخُولِ مِنْ جِهَتِهَا، بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ عُذْرَهَا سَمَاوِيٌّ وَهَذَا يُضَافُ إلَى فِعْلِهَا الزِّنَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَقول أَبِي يُوسُفَ، وَكَمَا لَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا لَا يُبَاحُ دَوَاعِيه، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَأَنَّهُ يَقِيسُهُ عَلَى الَّتِي زَنَتْ حَيْثُ جَازَ تَزَوُّجُهَا وَحَلَّ وَطْؤُهَا فِي الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ الْعُلُوقِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ مِنْ الزِّنَا لَا يَمْنَعُ الْوَطْءُ وَإِلَّا لَمَنَعَ مَعَ تَجْوِيزِهِ فِي مَقَامِ الِاحْتِيَاطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُحَقَّقِ وَالْمَوْهُومِ فِي الشُّغْلِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ شَرْعًا لِوُرُودِ عُمُومِ النَّهْيِ فِي الْمُحَقَّقِ، وَهُوَ مَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» يَعْنِي إتْيَانَ الْحَبَالَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قولهُ: (أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي ثَابِتَ النَّسَبِ. حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا عَلَى الْحَامِلِ بِثَابِتِ النَّسَبِ فِي حُكْمٍ هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا فَعَيْنُ عِلَّةِ الْأَصْلِ كَوْنُ حَمْلِهَا مُحْتَرَمًا فَيَمْنَعُ وُرُودَ الْمِلْكِ عَلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ وَأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ فَيَمْنَعُ الْمِلْكَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعُمُومِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَحِينَ عُلِمَ أَنَّهُ يَرِدُ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ عَلَى مَا قِيلَ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ احْتَاجَ إلَى مَنْعِ عِلَّتِهِ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِي الْأَصْلِ احْتِرَامُ الْحَمْلِ بَلْ احْتِرَامُ صَاحِبِ الْمَاءِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ إذْ لَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِي تَعْيِينِ الْعِلَّةِ فَيَقول الِامْتِنَاعُ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ فَيُصَانُ عَنْ سَقْيِهِ بِمَاءٍ حَرَامٍ، وَقَدْ يُزَادُ أَيْضًا فَيُقَالُ: فَيُصَانُ عَنْ سَقْيِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْوَطْءُ لِحُرْمَةِ السَّقْيِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ لَا يَصِحُّ، وَهِيَ زِيَادَةٌ تُوجِبُ النَّقْصَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَحِلِّ الْوَطْءِ وَلَمْ نَقُلْ بِهِ فَيُقَالُ: إنْ قُلْت لَا يَتَرَتَّبُ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ أَوْ فِي الْحَالِ فَقَطْ مَنَعْنَا اقْتِضَاءَهُ الْبُطْلَانَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْفَعُ التَّعْلِيلَ بِحُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّهِ لَجَازَ بِأَمْرِهِ، فَالْأَوْلَى تَعْلِيلُ الْمَنْعِ فِي الْأَصْلِ بِلُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ السَّبَبُ فِي امْتِنَاعِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا الدَّفْعَ مُغَالَطَةٌ خُيِّلَ أَنَّ حُرْمَتَهُ وَحَقَّهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعْنَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى حُرْمَتِهِ أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَنْعُ الْعَقْدِ عَلَى مَحَلِّ مَائِهِ مَا دَامَ قَائِمًا، وَحُرْمَتُهُ لَا تَسْقُطُ بِإِذْنِهِ فِي الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ الْحَامِلِ وَالْمُهَاجِرَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَلَا، فَالْمُطَّرِدُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنْسَبُ بِالتَّعْلِيلِ بِحُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ نَضْرَةُ بْنُ أَكْتَمَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فِي سِتْرِهَا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ حُبْلَى، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَكَ، وَفَرَّقَ بَيْنَنَا. وَقَالَ: إذَا وَضَعَتْ فَحُدُّوهَا» وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا لِقوله: «وَفَرَّقَ بَيْنَنَا» إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَبْدَانِ فَقَطْ بِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا إلَى أَنْ تَلِدَ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْمَنْسُوخَاتِ جَعْلَ الْوَلَدِ عَبْدًا، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إرَادَةِ أَنَّهُ يَصِيرُ يَخْدُمُك، وَهُوَ يُوَافِقُ حَمْلَ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ مُجَرَّدِ الْمُخَالَطَةِ وَهُوَ أَوْلَى لِاسْتِبْعَادِ إرَادَةِ جَعْلِ الْوَلَدِ عَبْدًا يَبِيعُهُ الزَّوْجُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي الشَّرْعِ فَيُجْعَلُ هَذَا قَرِينَةُ إرَادَةِ التَّفْرِيقِ عَنْ الْمُخَالَطَةِ لَا فِي الْعَقْدِ. وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فِيهِ إذَا كَانَ مَعَ أُمُّهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ (وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ لَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) وَذَكَر الْفَاسِدَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا) لِثُبُوتِ حَدِّ الْفِرَاشِ وَهُوَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْ الرَّجُلِ إذَا أَتَتْ بِهِ، فَلَوْ صَحَّ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ فِرَاشًا لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا وَهِيَ حَائِلٌ كَمَا لَا يَجُوزُ وَهِيَ حَامِلٌ. فَأَجَابَ بِأَنَّ فِرَاشَهَا غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ، وَيَتَأَكَّدُ بِاتِّصَالِ الْحَبَلِ بِهَا مِنْهُ، فَإِنَّ الْحَبَلَ مَانِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَا الْفِرَاشُ فَيَقَعُ التَّأَكُّدُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمَنْعِ، بِخِلَافِ حَالَةِ عَدَمِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَأَكُّدِهِ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ وَلَدِهَا بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَانِعَ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ الْمُتَأَكِّدُ مِنْهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَهُوَ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ أَوْ بِالْحَبَلِ. قَالُوا: الْفُرُشُ ثَلَاثَةٌ: قَوِيٌّ وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ فَلَا يَنْتَفِي وَلَدُهَا إلَّا بِاللِّعَانِ. وَمُتَوَسِّطٌ وَهُوَ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ. وَضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إلَّا بِدَعْوَةٍ وَهُوَ فِرَاشُ الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِصَرِيحِهِ أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ أَصْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَعَلَّلَهُ بِعَدَمِ صِدْقِ حَدِّ الْفِرَاشِ عَلَيْهَا بِقولهِ (فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ) فَيَلْزَمُ إمَّا انْحِصَارُهُ فِي الْفِرَاشِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْفُرُشِ الثَّلَاثَةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَنْكُوحَةِ؛ فَأُمُّ الْوَلَدِ الْحَائِلِ فِرَاشٌ ضَعِيفٌ فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا، وَالْحَامِلُ مُتَوَسِّطٌ لِنَوْعٍ مِنْ التَّأَكُّدِ فَيَمْتَنِعُ، وَحُكْمُهُ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَالْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْفِرَاشُ الْقَوِيُّ وَهُوَ الْأَوْجُهُ. وَأَوْرَدَ إذَا كَانَ وَلَدُهَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ نَفْيًا دَلَالَةً، فَإِنَّ النَّسَبَ كَمَا يَنْتَفِي بِالصَّرِيحِ يَنْتَفِي بِالدَّلَالَةِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ جَاءَتْ بِأَوْلَادٍ ثَلَاثَةٍ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَكْبَرَهُمْ حَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَنْتَفِي نَسَبُ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ اقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّفْيَ دَلَالَةٌ إنَّمَا يَعْمَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحٌ بِخِلَافِهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ. إذْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَمْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ نَفْيًا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ (فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلَ بِمَاءِ الْمَوْلَى فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا. بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَازِ بِنَفْيِ جِنْسِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ التَّزْوِيجِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِهَا بِعَيْنِهَا فَلِذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ وُجُودَ الْفِرَاشِ مُطْلَقًا يَمْنَعُ وَإِلَّا لَمَنَعَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ الْحَائِلِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِرَاشٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْقَوِيُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالتَّأَكُّدِ لَا مُطْلَقَ الْفِرَاشِ، ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ الْفِرَاشِ بِنَفْيِ حَدِّهِ بِقولهِ لِأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا) أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لَا الْحَتْمِ، وَلَيْسَ اسْتِبْرَاءُ الْمَوْلَى مَذْكُورًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَصَرَّحَ الْوَلْوَالِجِيُّ بِالِاسْتِحْبَابِ.
قولهُ: (وَإِذَا جَازَ) يَعْنِي جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِ اسْتِبْرَاءٍ مِنْ الْمَوْلَى، فَإِنَّ خِلَافَ مُحَمَّدٍ فِي اسْتِبْرَاءِ الزَّوْجِ إنَّمَا هُوَ فِيهِ، وَلِذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قول مُحَمَّدٍ: لَا أُحِبُّ لَهُ: أَيْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهُ اُحْتُمِلَ الشَّغْلُ بِمَاءِ الْمَوْلَى. هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، فَلَوْ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا جَازَ وَطْءُ الزَّوْجِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ اتِّفَاقًا. وَقَدْ وَفَّقَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ نَفَى الِاسْتِحْبَابَ وَهُمَا أَثْبَتَا جَوَازَ النِّكَاحِ بِدُونِهِ فَلَا مُعَارَضَةَ فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَلَا نِزَاعَ، فَإِنَّ لَفْظَهُ فِي الْجَامِعِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا قَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ لَهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا.اهـ. وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الْمَوْلَى أَصْلًا، وَفِيهِ تَصْرِيحُ مُحَمَّدٍ بِالِاسْتِحْبَابِ لِلزَّوْجِ. قِيلَ قولهُ تَفْسِيرٌ لِقول أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ قولهُ خَاصَّةً وَهُوَ ظَاهِرُ السَّوْقِ. وَصَرِيحُ قول الْمُصَنِّفِ لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا يُخَالِفُهُ. ثُمَّ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ لِمُحَمَّدِ إنَّمَا مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّ أَصْلَ قِيَاسِهِ الشِّرَاءُ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِالْقِيَاسِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ فَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ لَا الِاسْتِحْبَابَ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قولهُ أَحَبُّ إلَيَّ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ، وَدَلِيلُهُ يُوجِبُ أَنَّ مُرَادَهُ الْوُجُوبُ، فَاعْتِبَارُهُ أَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا لَا يُطَابِقُ الدَّعْوَى أَبْعَدُ مِنْ إطْلَاقِ أُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا فِي وَاجِبٍ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الْمُتَقَدِّمُونَ: أَكْرَهُ كَذَا فِي التَّحْرِيمِ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ وَأُحِبُّ مُقَابِلُهُ، فَجَازَ أَنْ يُطْلِقَ فِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ. ثُمَّ لَوْ أَوْرَدَ عَلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّوَهُّمَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلنَّدْبِ كَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَقِيبَ النَّوْمِ لِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْفُرُوجِ، أَمَّا فِيهَا فَالْمَعْهُودُ شَرْعًا جَعْلُهُ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ، وَمِنْهُ نَفْسُ أَصْلِ هَذَا الْقِيَاسِ، فَإِنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي التَّحْقِيقِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا تَوَهُّمُ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ الْحَلَالِ. وَاعْتِبَارُ اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ عِلَّةٌ إنَّمَا هُوَ لِضَبْطِهِ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَال مِنْ عِنْدِ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ.
قولهُ: (وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ) أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَابِتٌ فِي الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا؛ وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: جَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ طَرْدٌ لَا نَقْضٌ، فَإِنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ ثَابِتٌ فِي الصُّورَتَيْنِ بِالْمُقْتَضَى وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ هُنَاكَ حَرُمَ لِوُجُودِ الشَّغْلِ حَقِيقَةً كَيْ لَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَدُلَّ جَوَازُ النِّكَاحِ هُنَاكَ عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ لِلْحَمْلِ، أَمَّا هُنَا لَا حَمْلَ حَقِيقَةً، فَلَوْ كَانَ إنَّمَا كَانَ حُكْمًا وَشَرْعًا فَكَانَ جَوَازُ النِّكَاحِ شَرْعًا أَمَارَةُ الْفَرَاغِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ حُكْمًا. وَجَوَابُ شَارِحِ الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ بِتَخْصِيصِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ مُرَادَنَا أَنَّهُ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ عَنْ حِمْلٍ ثَابِتِ النَّسَبِ. أَوْ نَقول: هُوَ دَلِيلُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ لَا فِيمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ جَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ إذَا تَأَمَّلَتْ وَهُوَ الْأَوْلَى: أَعْنِي كَوْنَهُ دَلِيلَ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ وَمَحَلُّ النِّزَاعِ مُحْتَمِلٌ، وَمَعَ الْحُكْمِ بِالْفَرَاغِ لَا يَثْبُتُ تَوَهُّمُ الشَّغْلِ شَرْعًا فَلَا مُوجِبَ لِاسْتِحْبَابِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّ صِحَّتَهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى دَلِيلِ اعْتِبَارِهَا أَمَارَةُ الْفَرَاغِ عَنْهُ لِأَنَّ حَاصِلَهُ ادِّعَاءُ وَضْعٍ شَرْعِيٍّ، وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا عُرِفَ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّحَّةِ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِهَا دَلِيلُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْمُتَحَقِّقِ فَلَا. وَاخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ. هَذَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ لِلتَّزَوُّجِ بَعْدَ كُلِّ وَطْءٍ وَلَوْ زِنًا.

متن الهداية:
(وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِمَا قُلْنَاهُ عَنْهُ، وَقِيلَ يَكْفِي حَيْضَةً.
قولهُ: (وَالْمَعْنَى) أَيْ فِي حِلِّ وَطْءِ الزَّانِيَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ عَقِيبَ الْعِلْمِ بِزِنَاهَا عِنْدَهُمَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَهُ (مَا ذَكَرْنَا) لَهُمَا مِنْ أَنَّ الصِّحَّةَ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ فَلَا مُوجِبَ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَطْءُ يُوجِبُ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ فَتُسْتَبْرَأُ كَالْمُشْتَرَاةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَقول لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ. قُلْنَا: ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قولهِمْ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ وَهُوَ أَنْ يَقول لِامْرَأَةٍ) خَالِيَةٌ مِنْ الْمَوَانِعِ (أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مُدَّةِ) عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا أَوْ يَقول أَيَّامًا أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَك أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَيَّامًا (بِكَذَا مِنْ الْمَالِ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ أَنْ يُذْكَرَ الْمُوَقَّتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجُ وَفِي الْمُتْعَةِ أَتَمَتَّعُ أَوْ أَسْتَمْتِعُ.اهـ. يَعْنِي مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ مُتْعَةٍ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ فِي الْمُتْعَةِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ، وَفِي الْمُوَقَّتِ الشُّهُودُ وَتَعْيِينُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَؤُلَاءِ عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي أَبَاحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَرَّمَهُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَادَّةُ: م ت ع. لِلْقَطْعِ مِنْ الْآثَارِ بِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْمَأْذُونَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطِبَهَا بِلَفْظِ أَتَمَتَّعُ وَنَحْوُهُ لِمَا عُرِفَ مَنْ أَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَالَ تَمَتَّعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ فَلَيْسَ مَفْهُومُهُ قولوا أَتَمَتَّعُ بِك بَلْ أَوْجِدُوا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْمَشْهُورُ أَنْ يُوجَدَ عَقْدًا عَلَى امْرَأَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ الْقَرَارِ لِلْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ بَلْ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَنْتَهِي الْعَقْدُ بِانْتِهَائِهَا أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِمَعْنَى بَقَاءِ الْعَقْدِ مَا دُمْت مَعَك إلَى أَنْ أَنْصَرِفَ عَنْك فَلَا عَقْدَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَقْدٌ مُوَقَّتٌ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بِمَادَّةِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ أَيْضًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَأُحْضِرَ الشُّهُودُ وَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُفِيدُ التَّوَاضُعَ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَاشَرَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِلَفْظِ تَمَتَّعْت بِك وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ جَائِزٌ) نِسْبَتُهُ إلَى مَالِكٍ غَلَطٌ. وَقولهُ (لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ النَّسْخُ) هَذَا مُتَمَسِّكُ مَنْ يَقول بِهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) هَذِهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَتْ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً فِيهَا فَإِنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَحْذُوفٌ: أَيْ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ: أَيْ لَمَّا عُرِفَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عُلِمَ أَنَّهُ نُسِخَ بِدَلِيلِ النَّسْخِ أَوْ هِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ: أَيْ لِمَا ثَبَتَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عُلِمَ مَعَهُ النَّسْخُ. وَأَمَّا دَلِيلُ النَّسْخِ بِعَيْنِهِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ» وَالتَّوْفِيقُ أَنَّهَا نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ: الْمُتْعَةُ، وَلُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالتَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّاسِخِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ أَبَاحَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبِانْقِضَائِهَا تَنْتَهِي الْإِبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الدَّهْرِ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ فِيهَا الْعُزُوبَةُ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا». وَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حِينَ صَدَرَتْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلِذَا قَالَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا. وَهُوَ يُشْبِهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا فَقَالَتْ: مَا تُعْطِينِي؟ فَقُلْتُ رِدَائِي وَقَالَ صَاحِبِي رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي وَكُنْتُ أَنَا أَشَبَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَتْ إلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا، وَإِذَا نَظَرَتْ إلَيَّ أَعْجَبْتُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ تَكْفِينِي، فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهِنَّ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا» فَهَذَا مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَقَامَتْ ثَلَاثًا لَا أَنَّهَا تَعَلَّقَتْ مُقَيَّدَةً بِالثَّلَاثِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّاسِخِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ. وَأَمَّا ظَاهِرُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُعْطِي الْإِجْمَاعَ فَمَا أَخْرَجَهُ الْحَازِمِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى جَابِرٍ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إذَا كُنَّا عِنْدَ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ جَاءَتْ نِسْوَةٌ فَذَكَرْنَا تَمَتُّعَنَا مِنْهُنَّ وَهُنَّ يَظْعَنَّ فِي رِحَالِنَا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَيْهِنَّ وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسْوَةٌ تَمَتَّعْنَا مِنْهُنَّ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ وَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَامَ فِينَا خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، فَتَوَادَعْنَا يَوْمَئِذٍ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَلَمْ نَعُدْ وَلَا نَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا» وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ رُجُوعُهُ بَعْدَمَا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ إبَاحَتِهَا، فَمَا ذَكَرَ مِنْ رُجُوعِهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: إنَّك رَجُلٌ تَائِه: «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم: «أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُلَيِّنُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ». وَهَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي رُجُوعِهِ بَلْ فِي قول عَلِيٍّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَامَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: إنَّ نَاسًا أَعْمَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ فَنَادَاهُ فَقَالَ: إنَّك لَجِلْفٌ جَافٌّ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ إمَامِ الْمُتَّقِينَ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَرِّبْ نَفْسَك، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَهَا لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكِ» الْحَدِيثُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الرَّجُلُ الْمُعَرَّضُ بِهِ وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ كَفَّ بَصَرَهُ، فَلِذَا قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ عَلِيٍّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَمِرُّ الْقول عَلَى جَوَازِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى قول عَلِيٍّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَأْنَهُ، حَتَّى إذَا نَزَلَتْ الْآية: {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ.اهـ. فَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ أَوْ حَكَاهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَهَا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَالْعَنَتِ فِي الْأَسْفَارِ.
أَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَّابِيِّ إلَى الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاك الرُّكْبَانُ وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْت قَالُوا:
قَدْ قُلْت لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مُحْبَسُهُ ** يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ

هَلْ لَك فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةً ** تَكُونُ مَثْوَاك حَتَّى يَصْدُرَ النَّاسُ

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا بِهَذَا أَفْتَيْت وَمَا هِيَ إلَّا كَالْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا تَحِلُّ إلَّا لِلْمُضْطَرِّ.اهـ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَازِمِيُّ: إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ أَبَاحَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَوْطَانُهُمْ، وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِحَسْبِ الضَّرُورَاتِ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ فِي آخَرِ سِنِيهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا طَائِفَةً مِنْ الشِّيعَةِ.

متن الهداية:
(وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ) مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ التَّأْقِيتَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ وُجِدَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ زُفَرُ هُوَ جَائِزٌ) يَعْنِي النِّكَاحَ الْمُوَقَّتَ هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بَلْ تَبْطُلُ هِيَ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ، فَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ نَوَاهَا صَحَّ، وَلَا بَأْسَ بِتَزَوُّجِ النَّهَارِيَّاتِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةِ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) وَلِذَا لَوْ قَالَ جَعَلْتُكَ وَكِيلًا بَعْدَ مَوْتِي انْعَقَدَ وَصِيَّةً، أَوْ جَعَلَتْك وَصِيًّا فِي حَيَاتِي انْعَقَدَ وَكَالَةً، وَلَوْ أَعْطَى الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ الرِّبْحَ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا أَوْ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً: وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ يَكُونُ الْمُوَقَّتُ مِنْ نَفْسِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِ إبْدَاءِ النَّاسِخِ فِي دَفْعِ قول زُفَرَ. هَذَا وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَتَرَجَّحَ قولهُ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّتُ مُتْعَةً وَهُوَ مَنْسُوخٌ، لَكِنْ نَقول: الْمَنْسُوخُ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي الْعَقْدُ فِيهِ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَيَتَلَاشَى، وَأَنَا لَا أَقول بِهِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَقول يَنْعَقِدُ مُؤَبَّدًا وَيَلْغُو شَرْطَ التَّوْقِيتِ، فَحَقِيقَةُ إلْغَاءِ شَرْطِ التَّوْقِيتِ هُوَ أَثَرُ النَّسْخِ. وَأَقْرَبُ نَظِيرٍ إلَى هَذَا نِكَاحُ الشِّغَارِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلَانِ كُلَّ مُوَلِّيَةِ الْآخَرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلٍّ مَهْرًا لِمُوَلِّيَةِ الْآخَرِ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقُلْنَا: إذَا عَقَدَ كَذَلِكَ صَحَّ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَلْزَمْنَا النَّهْيُ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِهِ كَذَلِكَ مُوجِبًا لِلْبُضْعَيْنِ مَهْرَيْنِ بَلْ عَلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَلْزَمْنَا النَّهْيُ، فَقول زُفَرَ مِثْلُ هَذَا سَوَاءً. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَأَصْلٌ مُنْضَمٌّ إلَى أُصُولٍ شَتَّى مِمَّا اُشْتُرِطَ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَكَوْنُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا عُقِدَ مُؤَبَّدًا وَلِذَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَا يَنْتَهِي النِّكَاحُ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرُّ إلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا يَنْدَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّ أَثَرَ التَّوْقِيتِ فِي إبْطَالِهِ مُوَقَّتًا لَا فِي إبْطَالِهِ مُطْلَقًا. فَإِنْ قُلْت: فَلَوْ عَقَدَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ وَأَرَادَ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ الْمُؤَبَّدَ هَلْ يَنْعَقِدُ أَوْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ هَلْ يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ؟ فَالْجَوَابُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ النِّكَاحَ وَحَضَرَهُ الشُّهُودُ، وَلَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ تَوْقِيتٌ بَلْ التَّأْبِيدُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَجَازًا عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ كَالْإِحْلَالِ. قَالَ: فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ.اهـ. يَعْنِي انْتَفَى طَرِيقُ الْمَجَازِ الَّذِي بَيِّنَاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ) نَفْيٌ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا إذَا سَمَّيَا مُدَّةً لَا يَعِيشَانِ إلَيْهَا صَحَّ لِتَأْبِيدِهِ مَعْنًى. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا تَأْبِيدًا مَعْنًى بَلْ تَوْقِيتٌ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَالْمُبْطِلُ هُوَ التَّوْقِيتُ، وَقولهُ لِأَنَّهُ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُوَقَّتَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ. هَذَا وَإِذَا انْسَاقَ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بَلْ يَبْطُلُ هُوَ نَاسَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْكَلَامُ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوْ هِيَ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ كَالْهَزْلِ لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلسَّبَبِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ أَبَدًا وَشَارِطَ الْخِيَارِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ. فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ الْهَزْلُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ لِلْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» وَقَدْ أَسْلَفْنَا تَخْرِيجَهُ فَشَرْطُ الْخِيَارِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَهُ، وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ حِينِ صُدُورِ الْعَقْدِ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَبْطُلُ. وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَحَقِيقَتُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي مَوْضِعٍ يَثْبُتُ كَالْبَيْعِ، بَلْ إذَا اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِلَا اشْتِرَاطٍ وَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِلَا رُؤْيَةٍ إجْمَاعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِيهِ، وَلَوْ فُرِضَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الْفَسْخِ إذَا رَآهَا كَانَ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَبْطُلُ، وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ إذَا وُجِدَ مَعِيبًا بِبَرَصٍ أَوْ جُذَامٍ أَوْ رَتْقٍ أَوْ قَرْنٍ أَوْ عَفَلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ فَالِجٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيًّا كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سِوَى عَيْبِ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ الْقَرْنُ وَالرَّتْقُ وَالْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ. وَلِمُحَمَّدٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُطِيقُ الْمَقَامَ مَعَهُ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ. لَنَا مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا «الْحَقِي بِأَهْلِكِ» وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، بَلْ لَا يَبْعُدُ عَدُّهُ مِنْ صَرَائِحِهِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَعُرِفَ أَنَّهُ لَا فَسْخَ عَنْ عَيْبٍ وَحُجَّتُنَا أَيْضًا قول ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ عَنْ عَيْبٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا وَجَدَ بِامْرَأَتِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ، وَحَمْلُهُ عَلَى خِيَارِ الطَّلَاقِ بَعِيدٌ فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِ إثْبَاتِ عُمَرَ إيَّاهُ، وَقول مُحَمَّدٍ أَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّخَلُّصِ بِالطَّلَاقِ وَمَا أَفَادَتْهُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ إنَّمَا هُوَ فِي تَخَلُّصِ الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّخَلُّصِ وَمَأْمُورَةٌ بِالْفِرَارِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَوِيلُ الذَّيْلِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْظَارًا لَسْنَا بِصَدَدِهَا إذْ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْكِتَابِ بَلْ الْمَقْصُودُ تَتْمِيمُ الْفَائِدَةِ بِالْفُرُوعِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ السَّلَامَةَ مِنْ تِلْكَ الْعُيُوبِ أَوْ مِنْ الْعَمَى وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ أَوْ شَرَطَ صِفَةَ الْجَمَالِ فَوَجَدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَمِنْ هَذَا وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطٍ أَنَّهَا بِكْرٌ فَإِذَا هِيَ ثَيِّبٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ، بَلْ إنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا صَحَّ نِكَاحُ الَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأُخْرَى) لِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي إحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فِيهِ، ثَمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا تَحِلُّ لَهُ) لِرَضَاعٍ أَوْ قَرَابَةٍ مُحَرَّمَةٍ (صَحَّ نِكَاحُ الْمُحَلَّلَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْمُحَرَّمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ) حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ فَيُبْطِلُهُ، وَهُنَا الْمُبْطِلُ يَخُصُّ الْمُحَرَّمَةِ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
قولهُ: (ثُمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا) كَأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى أَلْفًا وَمَهْرُ مِثْلِ الْمُحَرَّمَةِ أَلْفَانِ وَالْمُحَلَّلَةِ أَلْفٌ فَيَلْزَمُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ لِلَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا وَيَسْقُطُ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ فَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ وَالْأَلْفُ كُلُّهَا لِلْمُحَلَّلَةِ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فَهُوَ قولهُمَا أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ صَحَّ نِكَاحُهُمَا انْقَسَمَتْ الْأَلْفُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا اتِّفَاقًا.
قولهُ: (وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ) مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْصِدُ بِهِ الْإِحَالَةَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ لِتَتْمِيمِ مُتَعَلِّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُ. وَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ لَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْمُسَمَّى قُوبِلَ بِالْبُضْعَيْنِ وَلَمْ يُسَلَّمَا، وَكُلُّ مَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ وَلَمْ يُسَلَّمَا فَاللَّازِمُ حِصَّةُ السَّالِمِ. بَيَانُ تَقَرُّرِ الْكُبْرَى شَرْعًا مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ. فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ أَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى بَلْ مَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَةَ دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُ وَلِذَا لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ عِنْدَهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهَا انْقِسَامُ الْبَدَلِ. وَلَهُ مَنْعُ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى بَلْ الْمَضْمُومُ إلَى الْمُحَلَّلَةِ إمَّا مُحِلٌّ أَوْ لَا، فَفِي الْأَوَّلِ يَنْقَسِمُ وَفِي الثَّانِي لَا، كَمَا لَوْ ضَمَّ جِدَارًا أَوْ حِمَارًا فَإِنَّ الْكُلَّ فِيهِ لِلْمُحِلِّ وَالضَّمُّ لَغْوٌ وَضَمُّ الْمُحَرَّمَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ الْحِلُّ، فَالْمُحَرَّمَةُ لَيْسَتْ بِمُحِلٍّ فَلَمْ تَدْخُلْ وَالْمُدَبَّرُ مَالٌ فَهُوَ مُحِلٌّ، وَلِذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ نَفَذَ فَيَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ نَفْسَهُ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ عِنْدَهُ فِي وَطْءِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مِنْ حُكْمِ صُورَةِ الْعَقْدِ، وَسَنُبَيِّنُ وَجْهَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِهِ وَالِانْقِسَامُ مِنْ حُكْمِ الِانْعِقَادِ. وَالِانْقِسَامُ فِي الْمُخَاطَبَتَيْنِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الْإِيجَابِ لِلْمَحَلِّيَّةِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ أَجَابَتَا صَحَّ نِكَاحُهُمَا مَعًا وَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا. هَذَا وَقَدْ ادَّعَى أَنَّ مَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ قول أَبِي حَنِيفَةَ، فَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ فَرَّعَ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ، وَدَفَعَ بِأَنَّهُ قولهُمَا لَا قولهُ فِي الْأَصَحِّ، وَقولهُ يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْمَنْعُ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ لِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ وَرِضَاهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى لَا بِدُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ. فَأَمَّا الِانْقِسَامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَبِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ، فَاَلَّتِي تَحِلُّ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِذَلِكَ فَالْكُلُّ لَهَا. وَقَدْ يُورِدُ أَيْضًا عَلَى قولهِ إنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ أَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ يَقْتَضِي أَجْنَبِيَّتَهَا عَنْهُ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ فَرْعُ الدُّخُولِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْعُذْرِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ دَرْءُ الْحَدِّ وَهُوَ صُورَةُ الْعَقْدِ. وَيُورِدُ عَلَى قولهِمَا أَيْضًا كَيْفَ وَجَبَ لَهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ بِالدُّخُولِ وَهُوَ حُكْمُ دُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ ثُمَّ يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَلَا مَخْلَصَ إلَّا بِتَخْصِيصِهِمَا الدَّعْوَى فَيَجِبُ الْحَدُّ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْحِلِّ وَالْمَهْرُ لِلِانْقِسَامِ بِالدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَجَعَلَهَا الْقَاضِي امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَهَا وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَأَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَفِي قولهِ الْآخَرِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ، وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ نَفَذَ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا فَلَا إمْكَانَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةً) لَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ إنْشَاءُ الْعَقْدِ فِيهِ، فَلَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَوْ هِيَ ادَّعَتْ النِّكَاحَ أَوْ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَذِبًا وَبَرْهَنَا زُورًا فَقَضَى بِالنِّكَاحِ أَوْ الطَّلَاقِ نَفَذَ ظَاهِرًا، فَتُطَالِبُ الْمَرْأَةُ فِي الْحُكْمِ بِالْقَسْمِ وَالْوَطْءِ وَالنَّفَقَةِ، وَبَاطِنًا فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَلَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ. وَقولنَا إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقَاضِي إنْشَاؤُهُ يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْقَاضِي عَلَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ فِيهِ. أَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَفِي نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِهِمَا بَاطِنًا رِوَايَتَانِ إذَا ادَّعَيَا كَذِبًا. وَجْهُ الْمَانِعَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا عِوَضٍ، وَقول أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قول أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قولهِ الْآخَرُ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا ادَّعَى كَذِبًا، وَإِذَا كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ يُطَلِّقُهَا وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَكَمَا لَا تَحِلُّ لِلثَّانِي لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا إذَا ادَّعَتْ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَذِبًا فَقَضَى بِهِ وَتَزَوَّجَتْ آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحِلُّ لِلثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ عَلَى الْغَيْرِ أَحْيَانًا، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ وَأُخْتِهَا، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي دَعْوَى الْفَسْخِ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ كَذِبًا وَبَرْهَنَ زُورًا فَفَسَخَ الْقَاضِي يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيَحِلُّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى بَيْعَ الْأَمَةِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ بَاعَهَا فَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ حَلَّتْ لَهُ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ وَالنَّسَبِ. وَجْهُ تَمَسُّكِهِمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ. وَأَيْضًا الْقَضَاءُ إمَّا إمْضَاءٌ لِعَقْدٍ سَابِقٍ أَوْ إنْشَاءٍ لَا يَصِحُّ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ سَابِقٍ، وَلَا الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ وَلَا شُهُودٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ الْقَضَاءُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَلِمَ كَذِبَ الشُّهُودِ لَا يُنَفِّذُ، وَلَمَّا لَمْ يَسْتَلْزِمْ مَا ذَكَرَ النَّفَاذَ بَاطِنًا إذْ الْقَدْرُ الَّذِي تُوجِبُهُ الْحُجَّةُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفَاذَ بَاطِنًا إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ زَادَ قولهُ (وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ يَنْفُذُ) فَأَفَادَ اخْتِيَارُ أَحَدِ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِمَا وَهُوَ أَنَّهُ إنْشَاءٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْإِنْشَاءُ اقْتِضَاءً لِلْقَضَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ جَوَابُهُمَا عَمَّا أَبْطَلَا بِهِ هَذَا الشِّقُّ مِنْ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشُّهُودِ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضِمْنِيًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلضِّمْنِيَّاتِ مَا يُشْتَرَطُ لَهَا إذَا كَانَتْ قَصْدِيَّاتٍ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ شَرَطُوا حُضُورَ الشُّهُودِ الْقَضَاءَ لِلنَّفَاذِ بَاطِنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَوْجُهُ، وَلَوْ أَنَّهُمَا أَبْطَلَا هَذَا الشِّقَّ بِعَدَمِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَنْدَفِعْ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ الْمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ احْتِيَاجِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ إلَى تَقْدِيمِ الْإِنْشَاءِ إلَّا إذَا افْتَقَرَتْ صِحَّتُهُ إلَى نَفَاذِهِ بَاطِنًا وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ لِثُبُوتِهِ مَعَ انْتِفَائِهِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ حَيْثُ يَصِحُّ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا زَادَ قولهُ (قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا تَنْقَطِعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا بِتَنْفِيذِهِ بَاطِنًا، إذْ لَوْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ تَكَرَّرَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي طَلَبِهَا الْوَطْءَ أَوْ طَلَبِهِ مَعَ امْتِنَاعِ الْآخَرِ لِعِلْمِهِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْإِنْشَاءِ فَكَأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ زَوَّجْتُكهَا وَقَضَيْت بِذَلِكَ كَقولك هُوَ حُرٌّ فِي جَوَابِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّين أَنَّ بَعْضَ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَغَارِبَةِ مَنَعَ الْحَصْرَ وَقَالَ يُمْكِنُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، قَالَ فَأَجَبْته مَا تُرِيدُ بِالطَّلَاقِ، الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ أَوْ غَيْرُهُ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِ، وَالْمَشْرُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْمَطْلُوبَ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. قَالَ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ: لَيْسَ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ، إذْ لَهُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ، وَكَوْنُهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا صَحِيحًا لَا يَضُرُّ، إذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ الْوَاجِبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّنْفِيذِ بَاطِنًا لِيَجِبَ التَّنْفِيذُ بَاطِنًا بَلْ تَحَقَّقَ طَرِيقٌ آخَرُ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَجِبْ التَّنْفِيذُ بَاطِنًا حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجَبٌ سِوَى انْحِصَارِ طَرِيقِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيهِ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ. وَالْحَقُّ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِلتَّنْفِيذِ بَاطِنًا فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَا فِيمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ لِمَا ذَكَرَ، فَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ صُوَرِ الْمُدَّعِي وَهُوَ النَّفَاذُ بَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ فَقَضَى عَلِيٌّ بِذَلِكَ. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْهُ بُدٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ: شَاهِدَاك زَوْجَاك، يَخُصُّ مَا إذَا انْحَصَرَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فِي التَّنْفِيذِ بَاطِنًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ بَاطِنًا لَأَجَابَهَا فِيمَا طَلَبَتْ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهَا. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُنَازَعَةِ فِي قولهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ اللَّجَاجُ الْمُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ لَا فَتَنَاوَلَ مَا إذَا لَجَّ الْأَوَّلُ فِي طَلَبِهَا بَاطِنًا بِأَنْ يَأْتِيَهَا لِقَصْدِ جِمَاعِهَا كَرْهًا أَوْ بِاسْتِرْضَائِهَا وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْحِلِّ الْبَاطِنِ.
وَفِي هَذَا بَعْدَ كَوْنِهِ مُنْشَأَ مَفْسَدَةِ التَّقَاتُلِ وَالسَّفْكِ لِكَوْنِهِ عُرْضَةً لَهُ بِاطِّلَاعِ الزَّوْجِ عَلَيْهِ قُبْحُ اجْتِمَاعِ زَوْجَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ أَحَدِهِمَا سِرًّا وَالْآخَرِ جَهْرًا، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَنْبُو عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَلَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَعَمِّيَّةِ إلَّا بِالْحُكْمِ بِالنَّفَاذِ بَاطِنًا وَثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِفَسْخِ الْقَاضِي فَعَمَّ الصُّوَرَ ثُمَّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَإِثْبَاتُهَا بِالطَّرِيقِ الْبَاطِلِ إثْمٌ يَا لَهُ مِنْ إثْمٍ غَيْرَ أَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِلٍّ، وَقول أَبِي حَنِيفَةَ أَوْجَهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ ادَّعَى فَسْخَ بَيْعِهَا كَذِبًا وَبَرْهَنَ فَقَضَى بِهِ حَلَّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بِالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إتْلَافٌ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِأَمْرَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا وَذَلِكَ مَا يَسْلَمُ لَهُ فِيهِ دِينُهُ.
قولهُ: (بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْمُطْلَقَةُ عَنْ تَعْيِينِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ ادَّعَى الْمِلْكَ فِي هَذَا الشَّيْءِ وَلَمْ يُعَيِّنْ سَبَبًا، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِهِ قَضَاءٌ بِالْيَدِ لَيْسَ غَيْرُ لِتَزَاحُمِ الْأَسْبَابِ: أَيْ تَعَدُّدِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ إذْ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِخُصُوصِهِ، بِخِلَافِ مَا عُيِّنَ السَّبَبُ فِيهِ وَوَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.