فصل: (فَصْلٌ): فِي يَمِينِ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ):

قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَبَّهْ كَانَ إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ):
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ مِنْ الْكَلَامِ كَالْأَكْلِ وَالسُّكْنَى وَتَوَابِعِهِمَا شَرَعَ فِي الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إيصَالِ مَا فِي نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدِهِ.
وَبَدَأَ بِالْكَلَامِ الْأَعَمِّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا لِتَقَدُّمِ الْأَعَمِّ عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ) لِقُرْبِ مَكَانِهِ مِنْهُ (إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ: أَيْ لِغَفْلَتِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُصُولِ صَوْتِهِ إلَى صِمَاخِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ فَأُدِيرَ عَلَى مَظِنَّةِ ذَلِكَ فَحُكِمَ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُصْغَيَا سَالِمًا وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ حَنِثَ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ، فَإِنَّهُ فِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ، وَفِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ.
قَالَ: وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُنَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَبِهْ بِكَلَامِهِ صَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَيِّزَ حُرُوفَهُ، وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ لَاغِيًا لَا مُتَكَلِّمًا مُنَادِيًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ، بِخِلَافِ الْأَصَمِّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْلَا الصَّمَمُ سَمِعَ، لَا يُقَالُ: يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَيِّتِ.
لِأَنَّا نَقول: يَمِينُهُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى الْحَيِّ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ هُوَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ إظْهَارُ الْمُقَاطَعَةِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ وَالْبَعِيدِ الَّذِي لَا شُعُورَ لَهُ بِنِدَائِهِ وَكَلَامِهِ، لَكِنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا نَادَى الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِالْأَمَانِ مِنْ مَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِشُغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ أَمَانٌ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ الْحِنْثُ وَإِنْ لَمْ يُوقِظْهُ انْتَهَى.
وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الْأَمَانَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ.
وَقِيلَ يُحْكَمُ فِيهَا بِالْخِلَافِ، فَعِنْدَهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَجْعَلَ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ، وَالْمُرَادُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا مَرَّ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى مَاءٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ مَا فِيهَا مِنْ الِاسْتِبْعَادِ لِلْمَشَايِخِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا حَقِيقَةً وَإِلَى جَانِبِهِ حَفِيرَةُ مَاءٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ فَكَيْف بِالنَّائِمِ حَتَّى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّاعِسِ، وَأُضِيفَ إلَى هَذِهِ مَسَائِلُ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ جُعِلَ فِيهَا النَّائِمُ كَالْمُسْتَيْقِظِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بِكَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ بَعْدَ الْيَمِينِ مُنْقَطِعٌ عَنْهَا لَا مُتَّصِلٌ، فَلَوْ قَالَ مَوْصُولًا إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ اُخْرُجِي أَوْ قُومِي أَوْ شَتَمَهَا أَوْ زَجَرَهَا مُتَّصِلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بِالْيَمِينِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ فَاذْهَبِي أَوْ اذْهَبِي لَا تَطْلُقُ، وَلَوْ قَالَ اذْهَبِي طَلُقَتْ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ الْيَمِينِ.
وَأَمَّا مَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ أَوْ غَدًا حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ الْيَوْمَ بِقولهِ أَوْ غَدًا فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُقَالُ إلَّا كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ كُلٌّ عَلَى الْآخَرِ مَعًا لَا يَحْنَثُ وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً.
وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ وَقَالَتْ هِيَ لَهُ كَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ إذَا كَلَّمَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهَا، وَلَا تَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْتِدَائِهَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ لَا أَنْ لَا يَقْصِدَهُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَضَاءً أَيْضًا.
أَمَّا لَوْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ صُدِّقَ قَضَاءً عِنْدَنَا، وَلَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ إمَامًا قِيلَ إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأُولَى وَاقِعَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ.
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِهَا لِأَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ بِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَصَحُّ مَا فِي الشَّافِي أَنَّهُ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ.
وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ إمَامًا يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا لِأَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ يُخْرِجُ الْمُقْتَدِي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَلَوْ دَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ حَنِثَ.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَيَّسَتْ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ كَيْ ترحنث، وَبِهِ أَخَذَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوْ نَادَاهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَبَّيْكَ أَوْ لَبَّى حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمُهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ فَقَالَ وَقَدْ مَرَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَا حَائِطَ اسْمَعْ افْعَلْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَسَمِعَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَفَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَنَاوَلَ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَقَالَهَا حَنِثَ.
وَلَوْ جَاءَ كَافِرٌ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَبَيَّنَ الْإِسْلَامَ مُسْمِعًا لَهُ وَلَمْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَفِي الْمُحِيطِ.
لَوْ سَبَّحَ الْحَالِفُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ مُقْتَدٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَخَارِجُ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ.
وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقولهِ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ وَلَا الْكِتَابَةِ، وَالْإِخْبَارُ وَالْإِقْرَارُ وَالْبِشَارَةُ تَكُونُ بِالْكِتَابَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ، وَالْإِيمَاءِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا.
فَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: أَيْ فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ كَوْنَهُ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِشَارَةِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُحَدِّثُهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يُشَافِهَهُ، وَكَذَا لَا يُكَلِّمُهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْمُشَافَهَةِ.
وَلَوْ قَالَ لَا أُبَشِّرُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَنِثَ.
وَفِي قولهِ إنْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَنَحْوَهُ يَحْنَثُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
وَلَوْ قَالَ بِقُدُومِهِ وَنَحْوِهِ فَعَلَى الصِّدْقِ خَاصَّةً، وَكَذَا إنْ أَعْلَمْتنِي، وَكَذَا الْبِشَارَةُ وَمِثْلُهُ إنْ كَتَبْت إلَيَّ أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَكَتَبَ قَبْلَ قُدُومِهِ فَوَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ حَنِثَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِهِ أَوْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ إنْ كَتَبْت إلَيَّ بِقُدُومِهِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْتُبَ بِقُدُومِهِ الْوَاقِعَ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ؟ فَقُلْت نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَ مِثْلُك.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنَ التَّلَفُّظِ بِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلًّا مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَإِنْ ذُكِرَ خِلَافُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا.
قُلْنَا: الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ) أَيْ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ (أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَالَ ظَاهِرُ قولهِمْ يَحْنَثُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِرِضَا فُلَانٍ فَرَضِيَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ حَتَّى كَلَّمَهُ لَا يَحْنَثُ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الرِّضَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ، نَعَمْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا ظَاهِرًا لَكِنَّ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ بِالرِّضَا فَلَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا، وَمَا نُوقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ يَصِحُّ الْإِذْنُ حَتَّى إذَا عَلِمَ يَصِيرُ مَأْذُونًا.
دُفِعَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَقْصُودِ الْمَوْرِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: حَتَّى إذَا عَلِمَ صَارَ مَأْذُونًا فَعَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ حُكْمُ الْإِذْنِ.
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الشَّامِلِ فِي قِسْمِ الْمَبْسُوطِ: أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَلِمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَثْبُتُ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ فَسَقَطَ تَكَلُّفُ جَوَابِهِ.
وَقولهُ عَلَى مَا مَرَّ: يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ قولهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ إلَخ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَتَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ دَخْلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ وَأَنَّهُ مُنَكِّرٌ فَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ) أَيْ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ (مِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِهِ وَهُوَ غَيْظُهُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحَلِفِ يُوجِبُ تَرْكَ الْكَلَامِ مِنْ الْآنِ، وَنَظِيرُهُ إذَا أَجَّرَهُ شَهْرًا لِأَنَّ الْعُقُودَ تُرَادُ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ الْقَائِمَةِ فِي الْحَالِ ظَاهِرًا، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ مِنْ الْحَالِ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ بِجَهَالَةِ ابْتِدَائِهَا وَكَذَا آجَالُ الدُّيُونِ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فِي قولهِ كَفَلْت لَك بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ؛ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا لِبَيَانِ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ لِانْتِهَائِهَا، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْتِهَاءِ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ بَعْدَ الشَّهْرِ وَأَلْحَقَاهَا بِآجَالِ الدُّيُونِ فَجَعَلَاهَا لِبَيَانِ ابْتِدَائِهَا فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ قَبْلَ الشَّهْرِ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّرْفِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا فَإِنَّهُ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ شَهْرًا شَائِعًا يُعَيِّنُهُ الْحَلِفُ وَلَا مُوجِبَ لِصَرْفِهِ إلَى الْحَالِ وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ تَتَأَبَّدُ فَكَانَ ذِكْرُ الشَّهْرِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ مَا يَلِي يَمِينُهُ دَاخِلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ حَيْثُ لَمْ يَعْطِفْ قولهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ بِالْوَاوِ، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَرَّرَهُ وَجْهَيْنِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ وَحْدَهَا تَسْتَقِلُّ بِصَرْفِ الِابْتِدَاءِ إلَى مَا يَلِي الْحَلِفَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَا قَبْلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ تَأَبَّدَ مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الشَّهْرِ لَا دَلَالَةَ لَهُ سِوَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الْخَاصَّةِ ثُمَّ الزَّائِدُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ بِالْأَصْلِ لَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْي، وَلَوْ فُرِضَ لَهُ دَلَالَةً عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ ذَلِكَ الزَّائِدِ هُوَ مَا يَلِي شَهْرًا ابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْحَالِ فَلِذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ قولهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ هُوَ الْمُعَيَّنُ لِابْتِدَائِهَا فَكَانَ وَجْهًا وَاحِدًا، إلَّا أَنَّك عَلِمْت مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ لُزُومِ التَّأْبِيدِ وَالْإِخْرَاجِ.
وَأَمَّا مَا فَرَّعَ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْإِخْرَاجِ مِمَّا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنْ قولهِ إنْ تَرَكْت الصَّوْمَ شَهْرًا أَوْ كَلَامَهُ شَهْرًا تَنَاوَلَ شَهْرًا مِنْ حِينِ حَلَفَ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ وَالْكَلَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ فَذَكَرَ الْوَقْتَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ، وَكَذَا إنْ لَمْ أُسَاكِنْهُ فَالْكُلُّ مُشْكِلٌ بَلْ لَوْ تَرَكَ الصَّوْمَ شَهْرًا فِي عُمْرِهِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْهُ مُتَّصِلًا بِالْحَلِفِ وَهُوَ تَحْمِيلُ اللَّفْظِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ.
نَعَمْ إنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ عُرْفٌ يَصْرِفُهُ إلَى الْوَصْلِ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا فَلَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَحْنَثُ. وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ حَنِثَ) وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ.
وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بَلْ قَارِئًا وَمُسَبِّحًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ، وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ) إذَا فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ وَخَارِجِهَا يَحْنَثُ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ.
وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَيْ الْقُرْآنَ وَالذَّكَرَ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ.
وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» فَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّمَا نَفَى عَنْهَا كَلَامَ النَّاسِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَوَابُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَفِي الْعُرْفِ الْمُتَأَخِّرِ لَا يُسَمَّى التَّسْبِيحُ وَالْقُرْآنُ أَيْضًا وَمَا مَعَهُ كَلَامًا حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ سَبَّحَ طُولَ يَوْمِهِ أَوْ قَرَأَ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْيَوْمَ بِكَلِمَةٍ اخْتَارَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَاخْتِيرَ لِلْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ: أَيْ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ.
وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلَّمَا تَكَلَّمْت بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَتْ بِلَا عَطْفٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اللَّهُ أَكْبَرُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَدِّدٌ بِالِاسْتِئْنَافِ كُلٌّ بِخِلَافِ الْمَعْطُوفِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ الْكَلَامِ عُرْفًا لَا فِيمَا قُيِّدَ بِقَيْدٍ أَصْلًا.
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُومٌ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ** وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ».

وَعُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَأَمْرَأَتْهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ (وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا حَنِثَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِهِ: لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ؛ قِيلَ فِي وَجْهِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ كَالضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ صُورَةٌ وَمَعْنَى، وَالْكَلَامُ الثَّانِي يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ مُفَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ مِثْلًا.
وَمَا قِيلَ الْكَلَامُ يَتَنَوَّعُ إلَى خَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ مُمْتَدٌّ، فَقَدْ يُقَالُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ إذْ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ عَلَى هَذَا مُمْتَدٌّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ لَيْسَ إلَّا الْأَلْفَاظُ مُفِيدَةً مَعْنًى كَيْفَمَا كَانَ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُفَادُ مِنْ نَوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْقولانِ، وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ الطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ يُقَالُ كَلَّمْته يَوْمًا، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَظْرُوفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي قولهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الطَّلَاقِ وَاخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ فِيهِ.
وَأَنَّ الْأَوْلَى الِاعْتِبَارُ بِالْعَامِلِ الْمُعْتَبَرِ وَاقِعًا فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَعْنَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الظَّرْفُ وَعَدَمُهُ لِجَعْلِ الْيَوْمِ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، بِخِلَافِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا إلَّا لِتَعْيِينِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَا قُصِدَ إلَى إثْبَاتِ مَعْنَاهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ وَلَا غَدًا وَلَا بَعْدَ غَدٍّ فَكَلَّمَهُ لَيْلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَمْ يَدْخُلْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التَّتِمَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّرْكِيبِ كَمَا ذَكَرْنَا بَلْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ فِيهِ النَّهَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِدَلَالَةِ إعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغَدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍّ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ كَقولهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ذِكْرُ كَلِمَةِ: فِي. فِي كُلِّ يَوْمٍ لِتَجْدِيدِ الْكَلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّجْدِيدُ لَوْ أُرِيدَ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ.
قولهُ: (وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً) أَيْ بِلَفْظِ الْيَوْمِ (دِينَ) أَيْ صُدِّقَ (فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ) أَيْ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ كَثِيرًا فَيَقْبَلُهُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ (وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ.
وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ (وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِهِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَمَا نَافِيَةٌ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْيَوْمِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قول الْقَائِلِ:
وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ** لَيَالِي لَاقَيْنَا جِذَامًا وَحِمْيَرَا

سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سُقِينَا بِمِثْلِهَا ** وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا

وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تَكُنْ لَيْلًا.
أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ اللَّيَالِيَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَنْتَظِمُ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُفْرَدُ: يَعْنِي ذِكْرَ اللَّيَالِيِ يَنْتَظِمُ النُّهُرَ الَّتِي بِإِزَائِهَا، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يَنْتَظِمُ اللَّيَالِي الَّتِي بِإِزَائِهَا.
قَالَ تعالى: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِي الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَةِ لَا يَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ وَلَا بِالْقَلْبِ.
وَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّاعِرَ قَصَدَ أَنَّ الْمُلَاقَاةَ كَانَتْ مُسْتَوْعِبَةً لِلَّيَالِيِ تَتْبَعُهَا أَيَّامٌ بِقَدْرِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْوَقْتُ لَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاقِعَ قَدْ يَكُونُ أَنَّ الْحَرْبَ دَامَتْ بَيْنَهُمْ أَيَّامًا وَلَيَالِيهَا، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ، فَأَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ بِالْوَاقِعِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُفِيدُهُ وَلَا دَخْلَ لِذَلِكَ فِي خُصُوصِ عُرِفَ.
(قولهِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ غَايَةٌ) أَيْ لِأَنَّ الْقُدُومَ وَالْإِذْنَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ الْمُثْبَتِ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ لِلْمَنْعِ مِنْهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ بِهِ وَبِالْقَلْبِ؛ فَقولهُ إنْ كَلَّمْته حَتَّى يَقْدَمَ بِمَعْنَى لَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى يَقْدَمَ وَإِنْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَإِذَا كَانَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْكَلَامِ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ مَا بَقِيَ عَدَمُ الْإِذْنِ الْوَاقِعِ غَايَةً فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِالْكَلَامِ حَالَ عَدَمِهِ وَيَنْتَهِي بَعْدَ الْغَايَةِ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ: الْكَلَامُ بَعْدَ مَجِيئِهِ وَإِذْنِهِ، أَمَّا أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ فَظَاهِرٌ، وَإِمَّا أَنَّ إلَّا أَنْ غَايَةٌ فَلِأَنَّ بِهِ يَنْتَهِي مَنْعُ الْكَلَامِ فَشَابَهَتْ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لِمَنْعِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَهَا، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَيْ إلَى مَوْتِهِمْ.
وَقِيلَ هِيَ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى حَالِهَا وَفِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ عَلَى مَعْنَى: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِ فُلَانٍ أَوْ إذْنِهِ وَإِلَّا حَالَ قُدُومِهِ أَوْ إذْنِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ وَأَنْ يَأْذَنَ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ إلَّا إذْنُهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الْكَلَامِ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَوْقَاتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَهُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّ إلَّا أَنْ شَرْطٌ لَا غَايَةٌ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قولهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْغَايَةِ فِيمَا يُحْتَمَلُ التَّأْقِيتُ وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ: يَعْنِي فَتَكُونُ فِيهِ لِلشَّرْطِ.اهـ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ هُنَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَلِمَا كَانَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْتَرِضَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ مُثْبَتٌ فَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْقُدُومَ شَرْطُ الطَّلَاقِ لَا عَدَمُهُ.
وَجَّهَهُ شَارِحٌ آخَرُ فَقَالَ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَا عَلَى أَنْ قَدِمَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُدُومَ رَافِعًا لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْقُدُومُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرٌّ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ فَيَرْتَفِعُ فَيَكُونُ قُدُومُهُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ قَبْلَهُ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَالَ قُدُومِ فُلَانٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقولنَا إنْ لَمْ يَقْدَمْ، فَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ارْتِفَاعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالْقُدُومِ وَأَمْكَنَ وُقُوعُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدُومِ اُعْتُبِرَ الْمُمْكِنُ فَجُعِلَ عَدَمُ الْقُدُومِ شَرْطًا وَهُوَ حَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ أَوْ يَأْذَنَ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ كَقولهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقُك فَأَنْتِ طَالِقٌ.
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا الْمَجَازِ: يَعْنِي الْغَايَةَ لَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ: يَعْنِي الشَّرْطَ لِأَنَّ فِي هَذَا إجْرَاءُ الْمَجَازِ فِي مُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقُدُومِ، لِأَنَّا نَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُومِ مَجَازًا عَنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدُومِ وَإِجْرَاءِ الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ.
قولهُ: (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي) الْمَنْعُ مِنْهُ (بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ) الْإِذْنُ وَلَا الْقُدُومُ (بَعْدَ مَوْتِ مَنْ إلَيْهِ الْإِذْنُ وَالْقُدُومُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ) فَلَمْ يَبْقَ الْبِرُّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ تَصَوُّرِهِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ إذْ بِهِمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْبِرِّ إذْ يُتَمَكَّنُ مِنْ الْكَلَامِ بِلَا حِنْثٍ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ، فَأَيُّ وَقْتٍ كَلَّمَهُ فِيهِ يَحْنَثُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ فُلَانٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَقْدَمَ وَيَأْذَنَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْمُعَادَةَ غَيْرُ الْحَيَاةِ الْمَحْلُوفِ عَلَى إذْنِهِ فِيهَا وَقُدُومِهِ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ حَالَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّ تِلْكَ عَرَضٌ تَلَاشِي لَا يُمْكِنُ إعَادَتُهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ أُعِيدَتْ الرُّوحُ فَإِنَّ الْحَيَاةَ غَيْرُ الرُّوحِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلرُّوحِ فِيمَا لَهُ رُوحٌ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَهُمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ وَاقِعٍ فِي مَحَلٍّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ، إمَّا إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ نِسْبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ، قَالَ هَذَا فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَالْمَرْأَةِ وَالصِّدِّيقِ.
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ مَقْصُودَانِ بِالْهِجْرَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ.
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ (وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهَا أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ، وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا) وَهُوَ قول زُفَرَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلُغِيَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَالدَّاعِي الْمَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ، مَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا لَهُ بِعَيْنِهِ) إنَّمَا أَرَادَ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْعُبُودِيَّةِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ إلَخْ.
اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى هِجْرَانِ مَحَلِّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ كَلَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارِهِ أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ أَوْ لَا يَرْكَبُ فَرَسَهُ أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ مَعْرِفَةٌ لِعَيْنِ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى هَجْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ مِلْكٍ كَعَبْدِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلِكِ كَزَوْجَتِهِ وَصَدِيقِهِ، فَالْإِضَافَةُ مُطْلَقًا تُفِيدُ النِّسْبَةَ وَالنِّسْبَةُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا نِسْبَةُ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُ إضَافَةِ النِّسْبَةِ تُقَابِلُ إضَافَةَ الْمَلِكِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ تَقَابُلٌ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِخُصُوصِ عُرْفٍ اصْطِلَاحِيٍّ وَهُوَ مَحْمَلُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ لِلْمُصَنِّفِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مُطْلَقًا لِلتَّعْرِيفِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُقْرِنَ بِهِ لَفْظَ الْإِشَارَةِ كَقولهِ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ زَوْجَتَهُ هَذِهِ أَوْ لَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِشَارَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ الدَّاعِي فِي الْيَمِينِ كَرَاهَتُهُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِلَّا لَعَرَّفَهُ بِاسْمِ الْعَلَمِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْإِضَافَةِ أَنَّ عَرَضَ اشْتِرَاكِ مِثْلِ لَا أُكَلِّمُ رَاشِدًا عَبْدَ فُلَانٍ لِيُزِيلَ الِاشْتِرَاكَ الْعَارِضَ فِي اسْمِ رَاشِدٍ أَوْ فُلَانَةَ زَوْجَةَ فُلَانٍ كَذَلِكَ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَهْجُرَ بَعْضَهَا لِذَاتِهِ أَيْضًا كَالزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَحِينَئِذٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى هَجْرِ الْمُضَافِ حَالَ قِيَامِ الْإِضَافَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِأَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْيَمِينِ وَدَامَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ انْقَطَعَتْ ثُمَّ وُجِدَتْ بِأَنْ بَاعَ وَطَلَّقَ ثُمَّ اسْتَرَدَّ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْيَمِينِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَكَلَّمَهُ حَنِثَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ فَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ النِّسْبَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي عَنْهَا صُحِّحَتْ الْإِضَافَةُ بِأَنْ بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ وَدَارَهُ وَثَوْبَهُ وَدَابَّته وَعَادَى صَدِيقَهُ وَطَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَكَلَّمَ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ دَخَلَ الدَّارَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ وَالْحَالُ أَنَّهَا زَائِلَةٌ عِنْدَهُ وَهَذَا الْأَصْلُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي الْمَمْلُوكِ عَلَى الْإِضَافَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عَلَى الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَعَادَى صَدِيقَهُ وَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً وَصَدِيقًا فَكَلَّمَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَلَّمَ الْمَتْرُوكَةَ حَنِثَ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ.
وَوَجْهُهُ مَا جَوَّزْنَاهُ فِي أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ بِالْهَجْرِ لِأَنْفُسِهَا لَا لِغَيْرِهِمَا، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمُجَرَّدِ تَعْرِيفِ الذَّاتِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا أَوْ وُجُودُهَا وَقْتَ الْفِعْلِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ أَيْ الْهَجْرُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوْجَةُ فُلَانٍ هَذِهِ وَنَحْوهَا مِمَّا إضَافَتُهُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ فَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا كَمَا سَيُذْكَرُ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ.
لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَجْرَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ، وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ جَوَازُ كَوْنِ هَجْرِهِ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْنَثُ وَعَلَى الثَّانِي لَا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قولهِ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مَحَلٍّ مَنْسُوبٍ إلَى الْغَيْرِ بِالْمِلْكِ يُرَاعَى لِلْحِنْثِ وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالنِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ إذَا لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْغَيْرِ لَا بِالْمِلْكِ يُرَاعَى وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتَ الْفِعْلِ.
ثُمَّ وَجَّهَ الْفَرْقَ بِأَنَّ فِي إضَافَةِ الْمِلْك الْحَامِلِ عَلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمَالِكِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَادَى لَعَيْنِهَا.
وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ مَعْنًى فِيهِمْ لِأَنَّ الْأَذَى يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْأَذَى.
أُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِهَذَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْعَبْدَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ كَالْحِمَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْهُ أَذًى إنَّمَا يُقْصَدُ هِجْرَانُ سَيِّدِهِ بِهِجْرَانِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَعْنِي هَذَا الْأَصْلَ لَا يَصِحُّ إلَّا لِمُحَمَّدٍ فَقَطْ، فَإِطْلَاقُ جَعْلِهِ أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ يُوهِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ الْأَصْلُ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ.
هَذَا، وَرُوِيَ أَنَّ هِشَامًا أَخْبَرَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: لَا يَحْنَثُ هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ الْإِشَارَةَ، فَأَمَّا إنْ عَيَّنَهُ فَذَكَرَ الْإِشَارَةَ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَارُهُ هَذِهِ أَوْ امْرَأَتُهُ هَذِهِ أَوْ صَدِيقُهُ هَذَا فَبَاعَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ وَطَلَّقَ وَعَادَى فَكَلَّمَهُ وَدَخَلَ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْمَمْلُوكِ مِنْ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَحَنِثَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَحْنَثُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ لِلتَّعْرِيفِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ التَّعْرِيفِ الْآخَرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا وَسُقُوطُ الْأُخْرَى وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى خُصُوصِ الْعَيْنِ فَلَزِمَ الْحِنْثُ بِتَرْكِ هِجْرَانِهَا بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا قَبْلَهُ، وَهُمَا يَقولانِ إنَّ هِجْرَانَ الْمُضَافِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَيْسَ لِذَاتِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فَتَقَيَّدَ بِبَقَاءِ النِّسْبَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ وَعَدَمِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِمَّا يُعَادَى لِنَفْسِهِ كَمَا يُعَادَى لِغَيْرِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ اسْتَوَى الْحَالُ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ وَمَعَ زِيَادَةِ الْإِشَارَةِ تَرَجَّحَ كَوْنُ هَجْرِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْحِنْثُ بِدَوَامِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ إضَافَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الدَّاعِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ يَجُوزُ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمُضَافِ حَيْثُ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُعَادَى لِنَفْسِهِ، وَقولهُ لَغَتْ الْإِضَافَةَ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ لَهَا فَائِدَةً وَهِيَ إفَادَةُ أَنَّ الْهِجْرَانَ مَنُوطٌ بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ لِغَيْظٍ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهَا لِفَائِدَتِهِ.
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْعِزِّ قول مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ سَاقِطَ الْمَنْزِلَةِ قَدْ يُقْصَدُ بِالْهِجْرَانِ وَالْحَالِفُ لَوْ أَرَادَ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِشَارَةِ، فَلَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ بِقولهِ هَذَا عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ قَصْدُهُ بِالْهِجْرَانِ، وَقَالَ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ أَظْهَرُ لِظُهُورِ صِحَّةِ قَصْدِهِ بِالْهِجْرَانِ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ انْتَهَى.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كُلَّ فَائِدَةٍ؛ فَفَائِدَةُ الْإِشَارَةِ التَّعْرِيفُ، وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ بَيَانُ مَنَاطِ الْهَجْرِ.
قَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَتَيْنِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُعَرِّفُ الشَّخْصَ الْمَحْلُوفَ عَلَى هَجْرِهِ كَمَا تُفِيدُ الْآخَرَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ كَمَا تُفِيدُ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهَا التَّخْصِيصُ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْإِضَافَةِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ انْعَقَدَتْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَهُ، وَفِي قولهِ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ عَبْدٍ آخَرَ لِفُلَانٍ وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ هَجْرِ الْعَبْدِ نِسْبَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَكِنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِفِعْلِ عَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَتُعْطِيَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ لِفَقْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَدْخُلَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ أَوْ لَا يَدْخُلَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَعَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الثَّانِي وَنَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَرُوِيَ شُذُوذًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي دَارِ فُلَانٍ هَذِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يَحْنَثُ بِالدَّارِ الْمُتَجَدِّدِ مِلْكِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهَا عَادَةً فَإِنَّهَا آخِرُ مَا يُبَاعُ وَأَوَّلُ مَا يُشْتَرَى عَادَةً فَتَقَيَّدَتْ الْيَمِينُ بِالْقَائِمَةِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّ الدَّارَ قَدْ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى مِرَارًا فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ فِي الْكُلِّ بِالْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْهُ قَالَ: إذَا قَالَ دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ، بِخِلَافِ قولهِ دَارًا لِفُلَانٍ لِأَنَّ قولهُ دَارَ فُلَانٍ تَمَامُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ وَإِلَّا كَانَ مُجْمَلًا فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ يَمِينِهِ.
وَفِي قولهِ دَارًا لِفُلَانٍ الْكَلَامُ تَامٌّ بِلَا ذِكْرِ فُلَانٍ فَكَانَ ذِكْرُ فُلَانٍ تَقْيِيدًا لِلْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى، ثُمَّ فِي الْحَلِفِ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ فُلَانٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُ غَيْرِهِ.
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِالْبِنْتِ الَّتِي تُولَدُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مُشْكَلٌ فَإِنَّهَا إضَافَةُ نِسْبَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَى الْمَوْجُودَةِ حَالَ التَّزَوُّجِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّفَارِيقِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ تَزَوَّجْت بِنْتَ فُلَانٍ أَوْ أَمَتَهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا التَّعْرِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخًا حَنِثَ) لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَى التَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى صَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِعَيْنِهِ وَالطَّيْلَسَانُ مُعَرَّبُ تَيْلَسَانَ أَبْدَلُوا التَّاءَ طَاءً مِنْ لِبَاسِ الْعَجَمِ مُدَوَّرٌ أَسْوَدُ لُحْمَتُهُ وَسُدَاهُ صُوفٌ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا حَنِثَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ) وَلَا تَتَقَيَّدُ بِشَبِيبَتِهِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ مَعَ أَنَّ الصِّفَةَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ.
فَأَجَابَ بِقولهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَخْ: يَعْنِي أَنَّ الصِّفَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْحَاضِرِ إذَا كَانَتْ دَاعِيَةً وَصِفَةُ الرُّطْبِيَّةِ مِمَّا تَدْعُو بَعْضَ النَّاسِ إلَى الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ فَتُقَيَّدُ بِهِ، بِخِلَافِ الشَّبِيهِ هُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْوَجِيزِ لِبُرْهَانِ الدِّينِ مَحْمُودِ الْبُخَارِيِّ: حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَبِيًّا أَوْ غُلَامًا أَوْ شَابًّا أَوْ كَهْلًا فَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ.
أَمَّا اللُّغَةُ قَالُوا الصَّبِيُّ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى تِسْعَ عَشَرَةَ، وَمِنْ تِسْعَ عَشَرَةَ شَابٌّ إلَى أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَمِنْ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَهْلًا إلَى إحْدَى وَخَمْسِينَ، وَمِنْ إحْدَى وَخَمْسِينَ شَيْخٌ إلَى آخَرِ عُمُرِهِ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْغُلَامُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْبُلُوغِ مَعْلُومٌ، فَإِذَا بَلَغَ صَارَ شَابًّا وَفَتًى.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ الْكُهُولَةَ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ فَهُوَ شَيْخٌ.
قَالَ الْقُدُورِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الشَّابُّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الشَّمْطُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى آخَرِ عُمْرِهِ، وَالشَّيْخُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ.
وَكَانَ يَقول قَبْلَ هَذَا: الْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، وَالشَّيْخُ مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى مِائَةٍ، وَهُنَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى وَانْتِشَارٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا بِهِ الْإِفْتَاءُ.

.(فَصْلٌ): فِي يَمِينِ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا:

قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِوُجُودِ الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا.
لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي يَمِينِ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا):
لَمَّا كَانَ مَا فِيهِ كَالتَّبَعِ لِمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَهُ بِالْفَصْلِ (وَقولهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينُ أَوْ الزَّمَانُ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي النَّفْيِ) كَلَا أُكَلِّمُهُ الْحِينَ أَوْ حِينًا (وَالْإِثْبَاتِ) نَحْوُ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ أَوْ زَمَانًا، كُلُّ هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ نَوَى مِقْدَارًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْحِينِ وَالزَّمَانِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَفِي الْقَلِيلِ قول نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ** مِنْ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ

تَبَادَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا ** تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ

يُرِيدُ أَنَّ السُّمَّ تَارَةً يَخِفُّ أَلَمُهُ وَتَارَةً يَشْتَدُّ، وَأَمَّا فِي الْكَثِيرِ فَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَأَمَّا فِي الْمُتَوَسِّطِ فَقولهُ تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ كَذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ مُعَيَّنَةَ لِلْحَالِفِ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا لَمْ يَحْلِفْ لِتَحَقُّقِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ عَادَةً بِلَا يَمِينٍ.
وَالْمَدِيدُ هُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ عَادَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبَدِ، فَمُرِيدُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ مَنْ يَقول لَا أُكَلِّمُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مُقَيَّدًا بِهَا، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْحِينِ وَمَا مَعَهُ تَأَبَّدَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَنْ يَرِدَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ الزَّمَانِ وَلَا الْأَبَدِ وَلَا الْأَرْبَعِينَ فَيُحَكَّمُ الْوَسَطُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالشَّافِعِيُّ يَصْرِفُهُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ سَاعَةٌ وَعَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَإِلَّا تَرَكَ ذِكْرُهُ وَيَحْصُلُ بِلَا حَلِفٍ، وَالزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ زَمَانٍ كَمَا يُقَالُ مُنْذُ حِينٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِأَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، بَلْ إنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَدِيدِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ أَخُو الْحِينِ فِي الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِ الْمُدَّةِ فَيُصْرَفُ إلَى مَا سُمِعَ مُتَوَسِّطًا.
ثُمَّ قِيلَ: هَذَا إنْ تَمَّ فِي زَمَانِ الْمُنَكَّرِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَرَّفِ، بَلْ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ كَالدَّهْرِ وَالْعُمْرِ وَلِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الزَّمَانَ إلَّا سَنَةً صَحَّ، وَعَهْدِيَّةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَكَوْنُ الزَّمَانِ مِثْلُهُ إنْ أُرِيدَ فِي الْوَضْعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لِخُصُوصِ مُدَّةٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اُسْتُعْمِلَ فِيهَا وَسَطًا، وَإِنْ أُرِيد فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ زَمَانًا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ شَاءَ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ.
قولهُ: (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) يَعْنِي الْمُنَكَّرَ يَنْصَرِفُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مِقْدَارٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا فَرْقَ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قولهِ دَهْرًا وَالدَّهْرُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالِاتِّفَاقِ يُصْرَفُ إلَى الْأَبَدِ، وَإِنَّمَا تَوَقُّفُهُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَاتِهِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَدِيدُ وَالْقَصِيرُ وَالْوَسَطُ، فَلَمْ يَدْرِ بِمَاذَا يُقَدِّرُ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ فِيهِ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ تَوْقِيتٌ فِيهِ زَائِدٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَ التَّوَقُّفُ.
وَقِيلَ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ»
فَإِذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الدَّهْرَ اُحْتُمِلَ أَنَّ الْيَمِينَ مُؤَبَّدَةٌ، وَالْمَعْنَى وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ وَاَللَّهِ، فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ حَرْفَ الْقَسَمِ يُحْذَفُ وَيَنْصِبُ الِاسْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ وَهُوَ الْأَبَدُ، وَقول الشَّاعِرِ:
هَلْ الدَّهْرُ إلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا ** وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا

فَالنَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ: أَيْ كُلُّ طُلُوعٍ وَكُلُّ غُرُوبٍ إلَخْ، وَعُرِفَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ مِثْلُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ فِي الْمُعَرَّفِ أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُعَرَّفُ مِنْهُ لَا الْمُنَكَّرُ، وَتَوَقُّفُهُ دَلِيلُ فِقْهِهِ وَدِينِهِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ نَفْسِهِ، رَحِمَنَا اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ نَظَمَ جُمْلَةَ مَا تَوَقَّفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
مَنْ قَالَ لَا أَدْرِي لِمَا لَمْ يَدْرِهِ ** فَقَدْ اقْتَدَى فِي الْفِقْهِ بِالنُّعْمَانِ

فِي الدَّهْرِ وَالْخُنْثَى كَذَاك جَوَابُهُ ** وَمَحَلُّ أَطْفَالٍ وَوَقْتُ خِتَانِ

وَالْمُرَادُ بِالْأَطْفَالِ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْجَنَائِزِ.
فَرْعٌ:
إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ.
وَاخْتَلَفَ جَوَابُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الْمُنَكَّرِ نَحْوُ عُمْرًا، فَمَرَّةً قَالَ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عُمْرٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَرَّةً قَالَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَيُتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا.
وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ (وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ قَالَ وَأَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُك دُهُورًا أَوْ أَزْمِنَةً أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ أَوْ جُمَعًا أَوْ أَيَّامًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجُمَعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ كَالْمُعَرَّفِ.
قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ أَصَحُّ.
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنَّفُ بِقولهِ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُنَكَّرٍ فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجُمَعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْهُ، لَكِنْ لَا مُعَيِّنَ لِلزَّائِدِ فَلَزِمَ الْمُتَيَقَّنُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبِيدًا وَلَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمُثُلِ الْمَذْكُورَةِ تُوجِبُ عَدَمَ تَوَقُّفِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ قولهُ الدُّهُورُ لِثَلَاثَةٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا هُوَ، نَعَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ عَاقِلٍ نَفْيُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَكَانِ الْجَمْعِ.
وَمِنْ فُرُوعِ الْمُنَكَّرِ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا إنْ حَلَفَ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ الطُّلُوعِ إلَى الْغُرُوبِ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ وَقْتِ حَلِفِهِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَدْخُلُ اللَّيْلُ فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ الْيَوْمُ وَقَعَ عَلَى بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ دَخَلَ اللَّيْلُ سَوَاءٌ حَلَفَ بَعْدَ الطُّلُوعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالْجَوَابُ فِي اللَّيْلِ مِثْلُهُ فِي الْيَوْمِ.
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَكَذَلِكَ الْجُمَعُ وَالشُّهُورُ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورُ وَالْأَزْمِنَةُ لِلتَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْدُودَاتِ، فَفِي غَيْرِ الْأَزْمِنَةِ ظَاهِرٌ، وَفِي الْأَزْمِنَةِ يَلْزَمُهُ خَمْسُ سِنِينَ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ.
وَقَالَا: فِي الْأَيَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَفِي الشُّهُورِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَفِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْأَبَدُ.
وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ إذَا أَمْكَنَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَتْ إلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ فَانْصَرَفَتْ الْأَيَّامُ إلَيْهَا، وَفِي الشُّهُورِ شُهُورُ السَّنَةِ فَيَنْصَرِفُ التَّعْرِيفُ إلَيْهَا، وَلَا عَهْدَ فِي خُصُوصٍ فِيمَا سِوَاهُمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ وَذَلِكَ هُوَ جَمِيعُ الْعُمُرِ أَوْ هِيَ لِلْعَهْدِ فِيهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَ إلَّا الْعُمُرُ وَهُوَ قول الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ: أَيْ دُونَ الْعُمُرِ، وَحَاصِلُهُ اسْتِغْرَاقُ سِنِي الْعُمُرِ وَجُمَعِهِ.
وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا عُهِدَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ لَفْظُ الْجُمَعِ عَلَى الْيَقِينِ وَذَلِكَ عَشْرَةٌ، وَعَهْدِيَّتُهُ كَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ مُمَيِّزُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَكُونُ لَفْظُ أَيَّامٍ مُرَادًا بِهَا الثَّلَاثَةُ بِيَقِينٍ، وَكَذَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةٍ، فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا قُطِعَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَكَانَ مَعْهُودًا مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} وَ{إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ يَقِينًا مَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنَّهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مُرَادًا مَرَّةً لَا يَصِيرُ مَعْهُودًا مِنْ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يُصْرَفُ إلَيْهِ مَتَى ذُكِرَ بِلَا مُعَيِّنٍ وَكَانَ الْمَعْهُودُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْجَمْعِ يَقِينًا مُسْتَمِرًّا لَيْسَ إلَّا الْعَشَرَةُ فِيمَا دُونَهَا، وَالْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا عُهِدَ شَائِعًا إرَادَتُهُ بِهِ قَطْعًا فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقَعْ مُمَيِّزًا لِعَدَدٍ نَحْوُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْأَيَّامِ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّامِ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ أَنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْعَهْدُ حُمِلَ عَلَيْهِ دُونَ الْجِنْسِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِيمَا يُرَادُ بِالْجَمْعِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةٍ.
وَالْفَرْضُ أَنَّ الْحَالِفَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرِّ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ أَقْصَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ مَعْهُودًا أَيْضًا لِأَنَّهُ كَمَا عُهِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُمَيَّزًا فِي الْعَشَرَةِ عُهِدَ فِيمَا دُونَهَا لِاسْتِغْرَاقِ اللَّامِ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الَّذِي حُكِمَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ وَلَا قَرِينَةٌ تَعَيَّنَ غَيْرُ الِاسْتِغْرَاقِ مِنْ الْمَرَاتِبِ حَتَّى صُرِفَ إلَى الْجِنْسِ الصَّالِحِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ الْمَرَاتِبِ الَّتِي أَوَّلُهَا ثَلَاثَةٌ وَأَقْصَاهَا عَشَرَةٌ وَلَا مُعَيِّنَ كَانَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْمَعْهُودِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعِزِّ مِنْ قولهِ: وَهَذَا أَيْ كَوْنُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِهِ الْعَشَرَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ يُسَمَّى الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ بِلَا رَيْبٍ، وَذَكَرَ شَاهِدُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا}.
وَ{إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} قَالَ: وَلَيْسَ فِي قول الْحَالِفِ لَا أُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ اسْمُ الْعَدَدِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ انْدَفَعَ لِأَنَّك عَلِمَتْ أَنَّ الْقَصْدَ تَعْيِينُ مَا عُهِدَ مُرَادًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْجَمْعِ الْخَاصِّ عِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَكَوْنُ لَفْظٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا كَثِيرًا لَا يُوجِبُ نَفْيَ عَهْدِيَّتِهِ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مُشَاحَّتُهُ الْخَبَّازِيَّ حَيْثُ قَالَ الْخَبَّازِيُّ اسْمُ الْجَمْعِ لِلْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا إلَى الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ حَالَتَيْ الْإِطْلَاقِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ، وَلَمَّا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْعَدَدِ وَالِاسْمِ مَتَى كَانَ لِلشَّيْءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَانَ أَثْبَتَ مِمَّا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ دَفَعَ كَلَامَهُ هَذَا بِقولهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَاسْمِ الْجَمْعِ فَلِهَذَا قَالَ إنَّهُ لِلْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا حَقِيقَةً فِي حَالَيْنِ وَلِمَا فَوْقَهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ أَنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ كَمَا فِي رَهْطٍ وَذَوْدٍ وَنَفَرٍ إلَى آخَرِ مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قول الْخَبَّازِيِّ اسْمُ الْجَمْعِ بَيَانِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى الِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ جَمِيعِ أَهْلِ الْفُنُونِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى نَاظِرٍ فِي الْعِلْمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِ الْخَبَّازِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا أَثْبَتُ مِنْهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَادُ بِهِ فِي حَالَتَيْنِ وَالثَّانِي فِي حَالَةٍ، يَعْنِي فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لَازِمًا، وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبْدَإِ التَّقْرِيرِ شَرْحٌ لَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يُرَجِّحَ قولهُمَا فِي الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ بِأَنَّ عَهْدَهُمَا أَعْهَدُ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدِيَّةَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَادَّةٍ خَاصَّةٍ: يَعْنِي الْجَمْعَ مُطْلَقًا عَهْدٌ لِلْعَشَرَةِ، فَإِذَا عَرَضَ فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ مِنْ الْجَمْعِ كَالْأَيَّامِ عَهْدِيَّةَ عَدَدٍ غَيْرِهِ كَانَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْهُودِ أَوْلَى، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ صَرْفُ خُصُوصِ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ إلَيْهِمَا أَوْلَى، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْجُمُوعِ كَالسِّنِينَ وَالْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي مَادَّتَيْهِمَا عَدَدٌ آخَرُ فَيُصْرَفُ إلَى مَا اسْتَقَرَّ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ إرَادَةِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ فَإِنَّ السَّبْعَةَ الْمَعْهُودَةَ نَفْسُ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِيَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ، وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ أَيَّامٍ إذَا أُطْلِقَ عَلَى عَهْدٍ مِنْهُ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ لِلسَّبْعَةِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ كَثْرَةُ إطْلَاقِ لَفْظِ أَيَّامٍ وَشُهُورٍ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ إلَى آخِرِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، بَلْ الْأَزْمِنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَكَرِّرَةٌ وَغَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ وَغَيْرُ بَالِغَةٍ السَّبْعَةِ بِحَسَبِ الْمُرَادَاتِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ، فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِ انْصِرَافِ اللَّامِ إلَى الْعَهْدِ عَلَى تَقَدُّمِ الْعَهْدِ عَنْ لَفْظِ النَّكِرَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى عَنْ اللَّفْظِ أَوْ لَا عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا صَارَ الْمَعْنَى مَعْهُودًا بِأَيِّ طَرِيقِ فَرْضٍ ثُمَّ أُطْلِقَ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ انْصَرَفَ إلَيْهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْمُحَقِّقُونَ الْعَهْدَ إلَى ذِكْرِي وَعِلْمِي وَمَثَّلَ لِلثَّانِي بِقولهِ تعالى: {إذْ هُمَا فِي الْغَارِ} فَإِنَّ ذَاتَ الْغَارِ هِيَ الْمَعْهُودَةُ لَا مِنْ لَفْظٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلْ مِنْ وُجُودٍ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ جَعْلُ مَا سَمَّاهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ عَهْدٌ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَنَظِيرُ هَذَا قولنَا الْعَامُّ يَخُصُّ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْعَهْدَ لَيْسَتْ إلَّا عَمَلًا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا ثُمَّ يُطْلَقُ اللَّفْظُ الَّذِي يَعُمُّهَا وَغَيْرُهَا فَيُقَيَّدُ بِهَا لِعَهْدِيَّتِهَا عَمَلًا لَا لَفْظًا وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ.
وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَيَّامِ) عَلَى الْيَقِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ) وَقَدْ يُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَمُقْتَضَاهُ إنْ نُظِرَ إلَى الْكَثْرَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْكَثْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُخْتَلِفٌ، فَرُبَّمَا يُقَالُ فِي السَّبْعَةِ كَثِيرَةٌ وَرُبَّمَا يُقَالُ قَلِيلَةٌ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ وَالْعِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ بِاعْتِبَارَاتٍ وَنِسَبٍ لَمْ تَنْضَبِطْ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا نِيَّةَ لِلْقَائِلِ فِي مِقْدَارِ الْكَثِيرِ، فَفَرَّعَ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: أَمَّا بِلِسَانِنَا فَلَا يَجِيءُ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَلْ يُصْرَفُ إلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اكرخدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي إذَا خَدَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يُعْتَقُ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةً روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ انْتِهَاءِ الْأَيَّامِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ:
قَالَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَآخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَجُمَعٌ وَسُنُونَ مُنَكَّرٌ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا وَيَوْمُهَا، وَإِنْ نَوَى السَّاعَةَ الَّتِي أَهَلَّ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى خَامِسَ عَشَرِهِ، وَإِنْ قَالَ آخِرُ الشَّهْرِ فَمِنْ سَادِسَ عَشَرِهِ إلَى آخِرِهِ، أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ فَاللَّيْلَةُ الْأُولَى وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ لِلْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ سَلْخُ الشَّهْرِ فَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ، وَإِنْ قَالَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلِّهِ، وَعِنْدَ طُلُوعُ الشَّمْسِ لَهُ مِنْ حِينَ تَبْدُو إلَى أَنْ تَبْيَضَّ، وَإِنْ قَالَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ فَمِنْ حِينَ تَبْيَضُّ إلَى أَنْ تَزُولَ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ بَرَّ، وَإِنْ قَالَ الْمَسَاءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاءَ مَسَاءَانِ، وَلَوْ قَالَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الشِّتَاءَ وَالرَّبِيعَ وَالصَّيْفَ وَالْخَرِيفَ فَهُوَ عَلَى حِسَابِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالشِّتَاءُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ، وَالصَّيْفُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: الْخَرِيفُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَالرَّبِيعُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فِي مَعْرِفَةِ الصَّيْفِ، إنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى قول النَّاسِ، فَإِذَا قَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَهُوَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَفِي الْوَاقِعَاتِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلَدٍ لَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مُسْتَمِرًّا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَأَوَّلُ الشِّتَاءِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ فِيهِ الْحَشْوَ وَالْفَرْوَ، وَآخِرُهُ مَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ فِيهِ عَنْهُمَا، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إذَا اسْتَثْقَلَ ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَاسْتَخَفَّ ثِيَابَ الصَّيْفِ، وَالرَّبِيعُ مِنْ آخَرِ الشِّتَاءِ إلَى أَوَّلِ الصَّيْفِ، وَالْخَرِيفُ مِنْ آخِرِ الصَّيْفِ إلَى أَوَّلِ الشِّتَاءِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَيْسَرُ لِلنَّاسِ.
وَقِيلَ إذَا كَانَ عَلَى الْأَشْجَارِ أَوْرَاقٌ وَثِمَارٌ فَهُوَ صَيْفٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَخَرِيفٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ فَالشِّتَاءُ، وَإِذَا خَرَجَتْ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَالرَّبِيعُ وَهُوَ إذَا خَرَجَتْ الْأَزْهَارُ.
وَلَوْ قَالَ إلَى وُقُوعِ الثَّلْجِ أَرَادَ وَقْتَ وُقُوعِهِ فَعَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَذَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى حَقِيقَةَ وُقُوعِهِ فَعَلَى حَقِيقَةِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَنْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ مَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا لَا يَسْتَبِينُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
وَلَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَالِفِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ فِي بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ لَا يَقَعُ بِهَا ثَلْجٌ تَأَبَّدَتْ الْيَمِينُ.
وَلَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ ذَكَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَعَلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ هُمَا حَتَّى يَجِيءَ مِثْلُهُ مِنْ رَمَضَانَ الْقَابِلِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَمْضِي كُلَّ رَمَضَانَ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكُلِّ لَكِنَّهُ يَقول تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ لَكِنْ لَا تُعْرَفُ.