فصل: (فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ):

قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِيهِمَا وَالضَّمَانُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ (وَكَذَا رَجُلَانِ بَاعَا عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا بِصَفْقَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَقْبِضَ إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ قَبِلَ الْكُلَّ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ) الضَّمَانُ هُوَ الْكَفَالَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذُكِرَتْ فِيهِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ أَوْرَدَهَا مُتَرْجَمَةً بِذَلِكَ.
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا) اللَّامُ فِي لِرَجُلٍ لَامُ الْمِلْكِ: أَيْ بَاعَ ثَوْبًا هُوَ لِرَجُلٍ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَنْهُ فِي بَيْعِهِ (وَضَمِنَ) الْوَكِيلُ (لَهُ) أَيْ لِلرَّجُلِ الْمَالِكِ (الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعٍ لِرَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ) وَهِيَ الضَّمَانُ (الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ إلَيْهِمَا) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ (فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ) فَيَصِيرُ مُطَالَبًا، وَهَذَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَيْهِمَا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي مَا لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ مَا لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَنِثَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْمَرْأَةِ حَيْثُ يَصِحُّ ضَمَانُهُ الْمَهْرَ لَهَا عَنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَا سَلَفَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ.
(وَلِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ كُلٍّ مِنْ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ) فَلَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَصِحُّ الضَّمَانُ لِاسْتِلْزَامِهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَصَارَ (كَاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَكَذَلِكَ) أَيْ لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ أَيْضًا فِيمَا (إذَا بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا) مَثَلًا بَيْنَهُمَا (صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ) بِأَنْ ضَمِنَ نِصْفَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا (يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ) لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَمَا يَسْتَحِقُّ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، فَمَا يُؤَدِّيهِ الضَّامِنُ لِلشَّرِيكِ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ عَلَى الشَّرِيكِ فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِهِ مَا وَقَعَ الرُّجُوعُ فِيهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَّا الْبَاقِيَ فَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْبَاقِي ثُمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ أَوْ يَبْقَى الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ فَظَهَرَ لُزُومُ بُطْلَانِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ صَحَّ (وَلَوْ كَانَ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ) لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهَا إفْرَازٌ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي عَيْنٍ خَارِجِيَّةٍ، وَالدَّيْنُ وَصْفٌ اعْتِبَارِيٌّ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الثَّانِي وَنُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ يَجُوزُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَيْنِ يَجُوزُ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَحَّ هَذَا يَكُونُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ الْمَضْمُونِ لَهُ.
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا: وَلَكِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُرِيدُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ الضَّمَانِ حَيْثُ صَحَّ، لَكِنْ بَعْدَ مَا صَارَ الْوَجْهُ مُرَدَّدًا بَيْنَ كَوْنِ الضَّمَانِ بِنِصْفٍ شَائِعٍ أَوْ بِنِصْفِ شَرِيكِهِ وَبَطَلَ الْأَوَّلُ بِمَا ذَكَرَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَخْتَارَ الثَّانِيَ وَيَدْفَعَ لَازِمُهُ الْبَاطِلَ بِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ شِرَائِهِ بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ ضَمَانِهَا، أَوْ يَخُصَّ الْبُطْلَانَ بِمَا إذَا أُرِيدَ ضَمَانُ النِّصْفِ شَائِعًا وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، وَقولهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ صَفْقَتَيْنِ) يَعْنِي بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ الشَّرِيكَانِ الْعَبْدَ صَفْقَتَيْنِ بِأَنْ بَاعَ هَذَا نَصِيبَهُ عَلَى حِدَتِهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ نَصِيبَهُ أَوْ بَاعَا مَعًا وَسَمَّيَا لِكُلِّ نَصِيبٍ ثَمَنًا ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا صَحَّ الضَّمَانُ (لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ) بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ، وَلِذَا لَوْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فِيمَا إذَا بَاعَا مَعًا دُونَ الْآخَرِ صَحَّ، وَلَوْ قَبِلَ الْكُلُّ ثُمَّ نَقَدَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مَلَكَ قَبْضَ نَصِيبِهِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا فِي الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَ مَعَ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ لَفْظَةَ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى قولهِمَا فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا سَلَفَ فِي الْبَيْعِ.
قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَلَوْ تَبَرَّعَ يَعْنِي الشَّرِيكُ بِالْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ جَازَ تَبَرُّعُهُ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ فَيَصِحُّ وَجَوَازُ التَّبَرُّعِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ أَسْرَعُ جَوَازًا مِنْ الْكَفَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ. أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ) يُخَالِفُ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ.
وَأَمَّا النَّوَائِبُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأَسَارَى وَغَيْرِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ، وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قِيلَ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا وَالرِّوَايَةُ بِأَوْ، وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ بِقولهِ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ (وَهُوَ يُخَالِفُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ) هُوَ تَمْلِيكُ طَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ مُقَدَّرَةً لَا دَيْنَ ثَابِتَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَالٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ أَتْلَفَهُ أَوْ قَرْضٍ اقْتَرَضَهُ أَوْ مَبِيعٍ عَقَدَ بَيْعَهُ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا مِنْ بُضْعِ امْرَأَةٍ وَهُوَ الْمَهْرُ أَوْ اسْتِئْجَارِ عَيْنٍ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ إيجَابُ إخْرَاجِ مَالٍ ابْتِدَاءً بَدَلًا عَنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقِيٍّ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِي نِصَابٍ مُسْتَهْلَكٍ وَإِنَّمَا لَهَا شَبَهُ الدَّيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الدَّيْنِ وَحِفْظِهِ فَكَانَ كَالْأُجْرَةِ، وَقَدْ قُيِّدَتْ الْكَفَالَةُ بِمَا إذَا كَانَ خَرَاجًا مُوَظَّفًا لِإِخْرَاجِ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ مَا يَجِبُ فِيمَا يَخْرُجُ فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ.
(وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ) لِلْعَامَّةِ (وَأُجْرَةِ الْحَارِسِ) لِلْمَحَلَّةِ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِ مِصْرَ الْخَفِيرُ (وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ) فِي حَقِّ (وَفِدَاءِ الْأَسَارَى) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ (وَغَيْرِهَا) مِمَّا هُوَ بِحَقٍّ (فَالْكَفَالَةُ بِهِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُوسِرٍ بِإِيجَابِ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْزَمْ بَيْتَ الْمَالِ أَوْ لَزِمَهُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ (وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ) الْمُوَظَّفَةِ عَلَى النَّاسِ (فِي زَمَانِنَا) بِبِلَادِ فَارِسٍ عَلَى الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمْ لِلسُّلْطَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا ظُلْمٌ.
فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِهَا، فَقِيلَ: تَصِحُّ إذْ الْعِبْرَةُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وُجُودُ الْمُطَالَبَةِ إمَّا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ، وَيَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الدَّيْنِ يَمْنَعُ صِحَّتَهَا هَاهُنَا، وَمَنْ قَالَ فِي الْمُطَالَبَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَقول بِصِحَّتِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ مَعْنَاهُ أَوْ مُطْلَقًا (وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ) يُرِيدُ فَخْرَ الْإِسْلَامِ، أَمَّا أَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فَأَبَى صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِهَا (وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقِيلَ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا) إذَا قَسَمَهَا الْإِمَامُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى كَوْنِ الرِّوَايَةِ قَسَمَ بِلَا هَاءٍ، لِأَنَّ قِسْمَةً فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى قَسَمَ، قَالَ تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} إذْ لَا مَعْنَى لِضَمَانِ حَقِيقَةِ الْقِسْمَةِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، لَكِنْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْبَغِي كَوْنُ الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ لِيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ بِأَوْ (وَقِيلَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ) مَا هُوَ (مِنْهَا غَيْرُ رَاتِبٍ) فَتَغَايَرَا (وَالْحُكْمُ) يَعْنِي فِي الْقِسْمَيْنِ (مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ الصِّحَّةِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْخِلَافِ فِي الْأُخْرَى، ثُمَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْأَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُسَاوِيَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّائِبَةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا كَانَ فِي ذَاكَ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْجَائِحَةِ وَالْجِهَادِ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَأَكْثَرُ النَّوَائِبِ تُؤْخَذُ ظُلْمًا، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْطَاءَ فَلْيُعْطِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقِيرٍ يَسْتَعِينُ بِهِ الْفَقِيرُ عَلَى الظُّلْمِ وَيَنَالُ الْمُعْطِي الثَّوَابَ.
وَقولهُ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْكَفَالَةَ فِيمَا كَانَ بِحَقٍّ جَائِزٍ وَبِغَيْرِ حَقٍّ فِيهَا خِلَافٌ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ)، فَالْقول قول الْمُدَّعِي، وَمَنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقول قول الضَّامِنِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ.
ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِشَرْطٍ فَكَانَ الْقول قول مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ فَنَوْعٌ مِنْهَا حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي وَالْفَرْقُ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ) الْمُرَادُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ لِرَجُلٍ فَاعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَنْكَرَ الْأَجَلَ الْقول لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَاعْتَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ وَأَنْكَرَ الْأَجَلَ الْقول لِلْكَفِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي فَجَعَلَ الْقول فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِلْمُقِرِّ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ عَلَى رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ حَيْثُ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ فَجَعَلَ الْقول فِيهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَمَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَأَبُو يُوسُفَ قَلَبَهُ سَهْوٌ مِنْ الْكَاتِبِ.
وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّيْنَ نَوْعَانِ: حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ.
فَاعْتِرَافُهُ بِالْمُؤَجَّلِ اعْتِرَافٌ بِنَوْعٍ كَالِاعْتِرَافِ بِحِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ أَوْ جَيِّدَةٍ فَلَا يَلْزَمُ النَّوْعَ الْآخَرَ فَالْقول لِلْمُقِرِّ كَالْكَفِيلِ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَجَلَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَصَارَ الْأَجَلُ كَالْخِيَارِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ الْقول لِلطَّالِبِ فِي إنْكَارِهِ الْخِيَارَ.
وَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالدَّيْنِ أَقَرَّ بِمَا هُوَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بَدَلًا عَنْ قَرْضٍ أَوْ إتْلَافٍ أَوْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِخُرُوجِ مُسْتَحِقِّهِ فِي الْحَالِّ إلَّا بِبَدَلٍ فِي الْحَالِّ، فَكَانَ الْحُلُولُ الْأَصْلَ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ فَكَانَ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ مَعْرُوضًا لِعَارِضٍ لَا نَوْعًا (ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقًّا وَهُوَ تَأْخِيرُهَا) وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ (وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ) عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ بَلْ بِحَقِّ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ شَهْرٍ وَالْمَكْفُولُ لَهُ يَدِّعِيهَا فِي الْحَالِّ وَالْكَفِيلُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقول لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمُطَالَبَةِ يَتَنَوَّعُ إلَى الْتِزَامِهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ وَالدَّرَكِ، فَإِنَّمَا أَقَرَّ بِنَوْعٍ مِنْهُمَا فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لِقِلَّةِ وُجُودِهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَهَذَا مُخَلِّصٌ مِمَّنْ ادَّعَى مَالًا وَهُوَ مُؤَجَّلٌ فِي الْوَاقِعِ.
فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ أَنْكَرَ يَكُونُ كَاذِبًا وَخَافَ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ كَذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْأَجَلِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقول لِلْمُدَّعِي هَذَا الْمَالُ الَّذِي تَدَّعِيهِ مُؤَجَّلٌ أَمْ مُعَجَّلٌ، فَإِنْ قَالَ: مُؤَجَّلٌ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَالَ: مُعَجَّلٌ فَيُنْكِرُ وَهُوَ صَادِقٌ.
وَفِي الْعُيُونِ: مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ إذَا حَلَفَ مَا لَهُ الْيَوْمَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ إنْ كَانَ لَا يَقْصِدُ بِهِ إتْوَاءَ حَقِّهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْكَفِيلِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَى قِيَاسِ قولهِ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتُ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ) وَفَاعِلُ يَأْخُذُ ضَمِيرُ مَنْ وَالْكَفِيلُ مَفْعُولٌ: يَعْنِي لَمْ يُطَالِبْهُ (حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ) أَوْ الْقَضَاءِ بِهِ وَبِالْمَبِيعِ (لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ) أَيْ لَا يَنْفَسِخُ (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَاحْتَرَزَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ رِوَايَةِ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ تَوَجَّهَ عَلَى الْبَائِعِ وَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَبِالضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَاسْتَحَقَّتْ مِنْ يَدِ الثَّانِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُضِيَ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْبَيْعِ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقًا مُبْطِلًا لِلْمِلْكِ رَأْسًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ اسْتِحْقَاقٌ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ فَمَحَلِّيَّتُهُ لِلْمِلْكِ بَاقِيَةٌ وَاحْتِمَالُ إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْبَيْعِ الْقَائِمِ ثَابِتٌ، فَمَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَبْقَى الْمِلْكُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُضِيَ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ لِارْتِفَاعِهِ حِينَئِذٍ.
وَصَحَّحَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُجِيزَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَبَعْدَ قَبْضِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، وَالرُّجُوعُ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ فَسْخًا.
ثُمَّ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُبْطِلِ دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَدَعْوَى الْوَقْفِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَسْجِدًا، وَيُشَارِكُ الِاسْتِحْقَاقُ النَّاقِلُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجْعَلُ الْمُسْتَحِقَّ عَلَيْهِ وَمَنْ تَمَلَّكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ جِهَتِهِ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاعَةِ فِي النَّاقِلِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى كَفِيلِ الدَّرَكِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَأَسْلَفْنَا مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحْقَاقِ جُمْلَةً.
وَقولهُ (وَمَوْضِعُهُ) أَيْ الِاسْتِحْقَاقِ (أَوَائِلُ الزِّيَادَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ) يُرِيدُ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِبَابِ الْمَأْذُونِ، وَاحْتَرَزَ بِالْأَصْلِ عَنْ تَرْتِيبِهَا الْكَائِنِ الْآنَ فَإِنَّهُ تَرْتِيبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّعْفَرَانِيِّ تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ غَيَّرَ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ إلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ بِالزِّيَادَاتِ لِأَنَّ أُصُولَ أَبْوَابِهِ مِنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ فَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَابَ مِنْ كَلَامِ أَبِي يُوسُفَ أَصْلًا ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ تَفْرِيعًا تَتْمِيمًا لَهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ قَدْ تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا، بِخِلَافِ الدَّرَكِ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا، وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ أَوْ قِيمَتِهِ فَصَحَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةُ) الْمُرَادِ فَإِنَّهَا (تُقَالُ لِلصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ) وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: هُوَ كِتَابُ الشِّرَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مِلْكَهُ، وَفِي بِلَادِنَا يُقَالُ لِخَاصٍّ مِنْهُ وَهُوَ مَكْتُوبُ شِرَاءِ الْجَوَارِي، وَتُقَالُ لِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ مِنْ الْعَهْدِ كَالْعُقْدَةِ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ، وَتُقَالُ عَلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ لِأَنَّهَا ثَمَرَاتُهُ وَعَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهِيَ فِي الْحَدِيثِ «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» أَيْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْمَفَاهِيمُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا قَبْلَ الْبَيَانِ (بِخِلَافِ) ضَمَانِ (الدَّرَكِ فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا) فَلَا تَعَذُّرَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ هُوَ ضَمَانُ الدَّرَكِ (وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ) إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ (أَوْ) تَسْلِيمُ (قِيمَتِهِ) وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْخَلَاصِ وَالدَّرَكِ وَالْعُهْدَةِ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَعْنِي فَيَكُونُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَهُمَا تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ، فَتَمَّتْ الْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةً: ضَمَانُ الدَّرَكِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَضَمَانُ الْعُهْدَةِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَضَمَانُ الْخَلَاصِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ كَانَا يَكْتُبَانِ فِي الشُّرُوطِ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ.
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ الثَّمَنِ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَبْقَى الضَّمَانُ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ.
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إذَا ذُكِرَ ضَمَانُ الْخَلَاصِ مُطْلَقًا، أَمَّا إذَا قَالَ: خَلَاصُ الْمَبِيعِ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى إرَادَتِهِ فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.

.(بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ):

(وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَبِحَقِّ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ، ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَفِي الزِّيَادَةِ لَا مُعَارَضَةَ فَيَقَعُ عَنْ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ):
لَمَّا نَزَلَ هَذَا مِمَّا قَبْلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ.
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ بِأَنْ اشْتَرَيَا مَعًا عَبْدًا بِأَلْفٍ) أَوْ اقْتَرَضَا مَعًا (وَكَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزَّائِدِ لِـ) وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَ) مَا عَلَيْهِ (بِحَقِّ الْكَفَالَةِ) لِقُوَّةِ الْأَوَّلِ وَضَعْفِ الثَّانِي (لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ) عَلَيْهِ.
(وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ) بِلَا دَيْنٍ (ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ) فَوَجَبَ صَرْفُ الْمُؤَدِّي عَنْ الْأَقْوَى تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى الْأَضْعَفِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالْعَادَةِ.
لَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَلَى قول مَنْ يَجْعَلُ الدَّيْنَ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ يَكُونُ الْمُؤَدِّي بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ قول طَائِفَةٍ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِهَذَا إلَّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِنِيَّتِهِ أَوْ بِلَفْظِهِ إلَى أَحَدِهِمَا.
لِأَنَّا نَقول: الْحُكْمُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لَيْسَ بِقُوَّةِ الْكَائِنِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ كَفَلَ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ.
وَأَيْضًا لَوْ اشْتَرَى الْمَرِيضُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ، وَلَوْ كَفَلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يُصْرَفُ بِنِيَّتِهِ.
قُلْنَا: التَّعْيِينُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ وَهَذَا دَيْنٌ وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِقَرْضٍ مَثَلًا وَنِصْفُهُ بِبَيْعٍ وَعَيْنٍ صَحَّ إذْ فِي الْجِنْسَيْنِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُفِيدٌ.
ثَانِيهِمَا (أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ) لِلْكَفَالَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ (فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ) بِعَيْنِ مَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ الْمُؤَدِّي (لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ) يَعْنِي كَفِيلَهُ بِأَمْرِهِ (كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ)، وَلَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ يَرْجِعُ فَكَذَا بِنَائِبِهِ، لَكِنْ إذَا جَعَلَهُ كُلَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَنَقول بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَا رَجَعَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَّا بِنِصْفِ مَا رَجَعَ بِهِ صَاحِبُهُ.
بَيَانُهُ أَدَّى الْأَوَّلُ مِائَتَيْنِ يَرْجِعُ بِنِصْفِهَا لِأَنَّهُ فِي إحْدَى الْمِائَتَيْنِ أَصِيلٌ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَقْدِرْ صَاحِبُهُ أَنْ يَرْجِعَ بِكِلْتَيْهِمَا إلَّا إذَا اعْتَبَرَ نَفْسَهُ مُؤَدِّيًا كُلَّهَا عَنْ صَاحِبِهِ الْمُؤَدِّي حَقِيقَةً وَإِلَّا لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِنِصْفِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا حَقِيقَةً بِنَفْسِهِ انْصَرَفَ مِنْهَا خَمْسُونَ إلَى مَا عَلَيْهِ أَصَالَةً وَخَمْسُونَ إلَى مَا عَلَيْهِ كَفَالَةً، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَالَةِ (فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ) وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ صَاحِبِهِ وَإِلَّا تَغَيَّرَ حُكْمُ الشَّرْعِ، إذْ الْوُقُوعُ عَنْ صَاحِبِهِ حُكْمُهُ جَوَازُ الرُّجُوعِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلدَّوْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الدَّوْرِ فَإِنَّهُ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ الْمُؤَدِّي لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى رُجُوعِ صَاحِبِهِ، بَلْ إذَا رَجَعَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ بَلْ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ الْآخَرُ اسْتَفَادَهُ أَوْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ، كَذَا الْأَوَّلُ فَاللَّازِمُ فِي الْحَقِيقَةِ التَّسَلْسُلُ فِي الرُّجُوعَاتِ بَيْنَهُمَا فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ بَاطِلٌ لِأَنَّ رُجُوعَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَوِّغَهُ شَرْعًا اعْتِبَارُ الْمُؤَدِّي عَنْهُ أَنَّهُ أَدَّى بِنَفْسِهِ وَاحْتَسَبَهُ عَنْ الْمُؤَدِّي؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ بَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ الْمُؤَدِّيَ عَنْهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِمِثْلِ مَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ، وَهُوَ نَقِيضُ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُؤَدِّيَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِمِثْلِ مَا أَدَّى، وَكَيْفَ يَكُونُ أَدَاءُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ سَبَبًا لَأَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِمِثْلٍ آخَرَ، هَذَا مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ وَمُوجِبُهَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ كَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ، وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يَنْتَقِضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ (وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ) بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ) مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهَا مَعَ الدَّيْنِ أَوْ لَا (فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ) وَمُوجِبُهُمَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِمَا كَفَلَ بِهِ (كَمَا تَصِحُّ عَنْ الْأَصِيلِ) بِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَيْهِ (وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) لِلْمُحَالِ بِمَا أُحِيلَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى آخَرَ (وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةُ) مَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَا عَنْ الْكَفِيلِ الْآخَرِ (فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ) لِيَقَعَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً (بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) وَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ مَا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْيُونِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ الْآخَرِ.
(فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ جَمِيعِ مَا أَدَّى وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ هَذَا الِاسْتِوَاءُ) لِلِاسْتِوَاءِ فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ (وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا) وَهُوَ الْمُؤَدِّي (بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَنَقَضَهُ بِرُجُوعِ غَيْرِ الْمُؤَدِّي بِلَا مُوجِبٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) لَا اسْتِوَاءَ فِيهِ فِي الْعِلَّةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا عِلَّتُهُ أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَلَمْ يَسْتَوِيَا فَلَمْ يَسْتَوِ مُوجِبُهَا فَلِذَا لَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَهَذَا الْفَرْقُ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ الثَّانِي صَحِيحًا لَمْ يَقَعْ فَرْقٌ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ مُسَوِّغَ رُجُوعِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ اعْتِبَارُ نَفْسِهِ أَدَّى مَا أَدَّاهُ عَنْهُ الْمُؤَدِّي، وَاحْتِسَابُهُ بِهِ عَنْ الْمُؤَدِّي وَهَذَا مُمْكِنٌ هُنَا بِعَيْنِهِ بِأَنْ يَقول هَذَا الَّذِي تَرْجِعُ عَلَيَّ بِهِ بِسَبَبِ أَنَّك أَدَّيْته عَنِّي هُوَ كَأَدَائِي بِنَفْسِي فَكَأَنِّي أَنَا الَّذِي أَدَّيْته وَاحْتَسَبْته عَنْك فَأَنَا أَرْجِعُ عَلَيْك بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي بُطْلَانِ هَذَا فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ (ثُمَّ يَرْجِعَانِ) يَعْنِي الْكَفِيلَيْنِ الْمُتَكَافِلَيْنِ (عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ الْكَفِيلُ الْمُؤَدِّي بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِأَمْرِهِ) ثُمَّ أَدَّاهُ (وَلَوْ أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ).

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّرِكَةِ (وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ) لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهُمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي) كِتَابِ (الشَّرِكَةِ) مِنْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ تَنْعَقِدُ عَلَى وَكَالَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَكَفَالَةِ كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى (وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ) الْمَدْيُونَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَيُجْعَلَ كَفِيلًا بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ قَالَ: (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا جَازَ الْعِتْقُ) لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ الْمَالُ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَمَا بَقِيَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا.
وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ، وَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ، وَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا كَاتَبْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ إلَى عَامٍ (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ) وَهُوَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا شَرَطَ فِيهِ كَفَالَةَ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْكِتَابَةُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ لَهُ وَجْهٌ يَصِحُّ بِهِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَعِتْقَ الْآخَرِ مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ كَمَا فِي الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَعِتْقَ الْآخَرِ مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ فَيُطَالِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ لَا الْكَفَالَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَالُ مُقَابَلٌ بِهِمَا فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ كِتَابَتُهُمَا لِأَنَّ عِتْقَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِمَالٍ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْمُصَحَّحِ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ حَتَّى إنَّ مَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا) حَتَّى إنَّ الْمَوْلَى (أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا جَازَ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ) وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يَبْقَ وَسِيلَةً لِحُصُولِ عِتْقِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ (فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِعِتْقِهِمَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ) وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ تَشَوُّفُ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ (فَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ، الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الرَّقِيقِ ضَامِنًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ مَاتَ شُهُودُ النِّكَاحِ (فَإِنْ أَخَذَ الَّذِي عَتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ) عَلَى الَّذِي عَتَقَ (لِأَنَّهُ) رُبَّمَا (أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ).

.(بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ):

(وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَمْ يُسَمِّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ حَالٌّ) لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ لِعُسْرَتِهِ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ، فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مُفْلِسٍ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخَّرٍ، ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ):
أُخِّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَأَخُّرِهِ بِالرَّدِّ بِالرِّقِّ.
قولهُ: (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا) مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ (لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ) كَأَنْ أَقَرَّ بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانٌ أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ مَحْجُورٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ، وَكَذَا إذَا أَوْدَعَ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ لِلْمَالِ مُعَايَنًا مَعْلُومًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ الْعَبْدِ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرِطَ فِي الْكَفَالَةِ تَأْجِيلًا (وَ) هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقولهِ (لَمْ يَذْكُرْ حُلُولًا وَلَا غَيْرَهُ لَزِمَ) الْكَفِيلَ (حَالًّا لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَى الْعَبْدِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ) وَعَدَمِ الْأَجَلِ، وَكَيْفَ وَالْعِتْقُ لَا يَصْلُحُ أَجَلًا لِجَهَالَةِ وَقْتِ وُقُوعِهِ وَقَدْ لَا يَقَعُ أَصْلًا (وَ) إنَّمَا (لَا يُطَالَبُ بِهِ لِعُسْرَتِهِ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ) أَيْ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ.
(وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ) فَالْمَانِعُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِي الْأَصِيلِ مُنْتَفٍ مِنْ الْكَفِيلِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْكَفَالَةُ الْمُطْلَقَةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ فَيُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَالِ (فَصَارَ كَمَا لَوْ كَفَلَ عَنْ مُفْلِسٍ أَوْ غَائِبٍ) يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِّ مَعَ أَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَلْزَمُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ فِي حُلُولِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ وَجْهِ تَأْخِيرِ الدَّيْنِ إلَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَعَدَمُ رِضَا الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ لَوْ ثَمَّ لَزِمَ تَأْخِيرُ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ لِعُسْرَتِهِ وَعَدَمِ رِضَا الْمَوْلَى، بَلْ الْوَجْهُ عَدَمُ نَفَاذِ تَصَرُّفِ غَيْرِ الْمَوْلَى فِي حَقِّهِ بِمَا يَضُرُّهُ: أَعْنِي تَصَرُّفَ الْمُقْرِضِ وَالْبَائِعِ لِلْعَبْدِ وَلَمْ يَرْضَ بِإِيدَاعِ الْمُودِعِ عِنْدَ عَبْدِهِ وَلَا بِتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ، وَعَدَمِ نَفَاذِ قول الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إذَا كَانَ يُكَذِّبُهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدُهُمَا فَيَنْفُذُ فِي حَقِّهِ دَفْعًا لِضَرَرٍ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الدَّيْنُ فِي الْحَالِ فَيُؤْخَذُ مِنْ كَسْبِهِ إنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ وَالِاتِّبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى، هَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي قول مُحَمَّدٍ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي لَا يَجِبُ حَتَّى يَعْتِقَ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخِّرٍ) صَحِيحٍ، وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْعِتْقِ إذَا أَدَّى لِأَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُؤَخَّرٍ إلَى الْعِتْقِ فَيُطَالَبُ السَّيِّدُ بِتَسْلِيمِ رَقَبَتِهِ أَوْ الْقَضَاءِ عَنْهُ، وَبَحَثَ أَهْلُ الدَّرْسِ هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الرُّجُوعِ الْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ السَّيِّدِ؟ وَقَوِيَ عِنْدِي كَوْنُ الْمُعْتَبَرِ أَمْرَ السَّيِّدِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حُرًّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا فِي الْعَبْدِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ دَعْوَى الرَّقَبَةِ وَهِيَ قولهُ.
قَالَ: (فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّهَا عَلَى وَجْهٍ يَخْلُفُهَا قِيمَتُهَا، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
(فَلَوْ كَانَ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ رَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى وَجْهٍ يُخَلِّفُهَا قِيمَتَهَا (وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ) فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَغْصُوبِ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِرَدِّ عَيْنِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقِيمَتِهِ.
فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ هُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ فَمَاتَ يَجِبُ ضَمَانُهُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ فِيهِ هُوَ الْعَبْدُ، وَكَذَا عَنْ الْحُرِّ فَمَاتَ الْحُرُّ مُفْلِسًا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَنْ كَفَلَ عَنْ الْمُفْلِسِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّاهُ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْهُ فَأَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ) وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ بِالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، أَمَّا كَفَالَتُهُ عَنْ الْعَبْدِ فَتَصِحُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
لَهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ.
وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ، فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّى أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَدَّى بَعْدَ عِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ) بِشَيْءٍ (وَ) نُقِلَ (عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ) فِي شَرْحِ الْجَامِعِ (أَنَّهُ يَرْجِعُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي ضَمَانَ الْعَبْدِ عَنْ سَيِّدِهِ (أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ) وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّبَرُّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فَلِذَا لَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ، غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ لَهُ بِهَا فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِيهِ فَتَصِحُّ حَتَّى تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِي دَيْنِ الْكَفَالَةِ إذَا كَفَلَ لِغَيْرِ السَّيِّدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ مَالِيَّتَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا فَلَا يَعْمَلُ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ لِمَوْلَاهُ الْحَقَّ فِي مَالِيَّتِهِ فَيَعْمَلُ إذْنُهُ لَهُ فِي أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَتْ صَحِيحَةً لِمَا بَيَّنَّا.
أَمَّا كَفَالَةُ السَّيِّدِ عَنْ الْعَبْدِ فَصَحِيحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا.
فَإِنْ قِيلَ: دَيْنُ الْعَبْدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُقْضَى مِنْ مَالِيَّتِهِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمَوْلَى بِالْمُطَالَبَةِ مَعَ الدَّيْنِ أَوَّلًا مَعَهُ لِيُقْضَى مِنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكْفُلْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنًا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ لِيُبَاعَ، وَقَدْ لَا يَفِي ثَمَنَهُ بِالدَّيْنِ فَلَا يَصِلُ لِلْغُرَمَاءِ إلَى تَمَامِ الدَّيْنِ وَبِالْكَفَالَةِ يَصِلُونَ (لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَبْدَهُ) وَلَا يَسْتَوْجِبُ وَاحِدٌ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ (قَدْ زَالَ) بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ (وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ) مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا (غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ) بِمَا قُلْنَا إنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ (فَأَجَازَ فَأَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ) لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَإِنْ تَحَقَّقَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَقَعُ لَازِمًا لَا يَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ.
وَهَذِهِ الْكَفَالَةُ حِينَ وَقَعَتْ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْآخَرِ دَيْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَدْيُونًا فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ، وَإِذَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ فَلَوْ انْقَلَبَتْ مُوجِبَةً كَانَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَلَيْسَ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا تَقَعُ لَازِمَةً، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الرَّهْنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِمَ لَا يَرْجِعُ هُنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِيجَابَ الدَّيْنِ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَافٍ وَقْتَ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ لِحُرِّيَّتِهِمَا إذْ ذَاكَ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى، أَمَّا هُنَا فَزَمَانُ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ وَهُوَ زَمَانُ الْكَفَالَةِ كَانَ عَبْدًا فِيهِ.

متن الهداية:
(وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادُ، وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ) وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِمَالٍ آخَرَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ (لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ (ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي) وَهُوَ عَبْدِيَّتُهُ لِلسَّيِّدِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الدَّيْنِ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لِتَحْقِيقِ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَّزَ نَفْسُهُ سَقَطَ) هَذَا الدَّيْنُ (وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ) أَيْ إثْبَاتُ هَذَا الدَّيْنِ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْكَفِيلِ) وَهُوَ كَوْنُهُ إذَا عَجَزَ الْكَفِيلُ نَفْسُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ (وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا) فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ (يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادَ) وَلَوْ أَثْبَتَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لَمْ يَتَّحِدْ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا (وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ) لِلْعِلَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّ لَهُ أَحْكَامَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ وَيُنَصِّفُ حَدَّهُ.
وَقَسْمُهَا دُونَ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ دَيْنُ السِّعَايَةِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ لِلْمُكَاتَبِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى السَّيِّدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَجَائِزَةٌ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ التَّاجِرُ إذَا أَدَانَ مَوْلَاهُ دَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَهُ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا السَّيِّدِ فَكَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ صَحَّتْ.

.كِتَابُ الْحَوَالَةِ:

الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْحَوَالَةِ):
الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ الْتِزَامِ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلتَّوَثُّقِ، إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بَرَاءَةً مُقَيَّدَةً عَلَى مَا سَتَعْلَمُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُهُ فَكَانَتْ كَالْمُرَكَّبِ مَعَ الْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ فَأَخَّرَ الْحَوَالَةَ عَنْهَا.
وَأَيْضًا أَثَرُ الْكَفَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ السُّقُوطِ بِهِ الثُّبُوتُ وَأَثَرُ الْحَوَالَةِ أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَالْحَوَالَةُ اسْمٌ مِنْ الْإِحَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَحَلْت زَيْدًا بِمَا لَهُ عَلَى عَمْرٍو فَاحْتَالَ أَيْ قَبِلَ فَأَنَا مُحِيلٌ وَزَيْدٌ مُحَالٌ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ وَالْمَالُ مُحْتَالٌ بِهِ وَالرَّجُلُ مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ عَلَيْهِ.
فَتَقْدِيرُ الْأَصْلِ فِي مُحْتَالٍ الْوَاقِعِ فَاعِلًا مُحْتَوِلٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَفِي الْوَاقِعِ مَفْعُولًا مُحْتَوَلٌ بِالْفَتْحِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي مُخْتَارِ الْفَاعِلِ مُخْتِيرٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَبِفَتْحِهَا فِي مُخْتَارٍ الْمَفْعُولِ، وَإِمَّا صِلَةٌ لَهُ مَعَ الْمُحْتَالِ الْفَاعِلِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا، بَلْ الصِّلَةُ مَعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ عَلَيْهِ فَهُمَا مُحْتَالٌ وَمُحْتَالٌ عَلَيْهِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِعَدَمِ الصِّلَةِ وَبِصِلَةٍ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمُغْرِبِ تَرْكِيبُ الْحَوَالَةِ يَدُلُّ عَلَى الزَّوَالِ وَالنَّقْلِ، وَمِنْهُ التَّحْوِيلُ وَهُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، وَيُقَالُ لِلْمُحْتَالِ حَوِيلُ أَيْضًا، فَالْمُحِيلُ هُوَ الْمَدْيُونُ وَالْمُحَالُ وَالْمُحْتَالُ رَبُّ الدَّيْنِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَ ذَلِكَ الدَّيْن لِلْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالُ بِهِ نَفْسُ الدَّيْنِ.
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ إلَى ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهَا ضَمٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا نَقْلٌ فَلَا يُطَالَبُ الْمَدْيُونُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الدَّيْنَ أَيْضًا يَنْتَقِلُ أَوَّلًا وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَوْ أُرِيدَ التَّعْرِيفُ عَلَى قول النَّاقِلِينَ بِخُصُوصِهِمْ قِيلَ نَقْلُ الدَّيْنِ أَوْ وَقول النَّافِينَ قِيلَ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا بِلَفْظِ أُحِيلَ مَعَ لَفْظِ يَتْبَعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ» قِيلَ: وَقَدْ يُرْوَى فَإِذَا أُحِيلَ بِالْفَاءِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ لِلْمُلَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَنِيُّ ظُلْمًا، فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الظُّلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ لِلْوُجُوبِ، وَالْحَقُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ هُوَ دَلِيلُ جَوَازِ نَقْلِ الدَّيْنِ شَرْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأَمْلِيَاءِ عِنْدَهُ مِنْ اللَّدَدِ فِي الْخُصُومَةِ وَالتَّعْسِيرِ مَا تَكْثُرُ بِهِ الْخُصُومَةُ وَالْمُضَارَّةُ، فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ هَذَا لَا يَطْلُبُ الشَّارِعُ اتِّبَاعَهُ بَلْ عَدَمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْخُصُومَاتِ وَالظُّلْمِ، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْمُلَاءَةُ وَحُسْنُ الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى الْمَدْيُونِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَمُبَاحٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إضَافَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى النَّصِّ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ لِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْأَقْرَبِ أُضْمِرَ مَعَهُ الْقَيْدُ وَإِلَّا فَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهَا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ النَّقْلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ نَقْلٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْيَانِ، بَلْ الْمُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ فَكَانَتْ نَقْلَ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا) أَيْ بِالْحَوَالَةِ (وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ) فِي حُسْنِ الْقَضَاءِ وَالْمَطْلِ (فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ) وَإِلَّا لَزِمَ الضَّرَرُ بِإِلْزَامِهِ إتْبَاعَ مَنْ لَا يُوفِيهِ (وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ) الَّذِي (يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ إلَّا بِالْتِزَامِهِ) وَلَوْ كَانَ مَدْيُونًا لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ بَيْنِ سَهْلٍ مُيَسِّرٍ وَصَعْبٍ مُعَسِّرٍ (وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِلَا رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ) أَيْ الْمُحِيلُ (لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ) عَاجِلًا بِانْدِفَاعِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ فِي الْحَالِّ وَآجِلًا بِعَدَمِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِأَمْرِهِ) وَحَيْثُ تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلَ فِي الْأَوْضَحِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُدُورِيِّ بِمَا إذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ، فَإِنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ حِينَئِذٍ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ نَفْسِهِ: أَعْنِي نَفْسَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ، كَذَا فِي الْخَبَّازِيَّةِ.
وَاشْتِرَاطُ رِضَا الْمُحِيلِ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، قَالُوا لِأَنَّ الْمُحِيلَ إيفَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجِهَاتِ قَهْرًا.
وَنَقْلُ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ رِضَا الْمُحِيلِ لَا خِلَافَ فِيهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَقول رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لَك عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَلْفٌ فَاحْتَلْ بِهَا عَلَيَّ فَرَضِيَ الطَّالِبُ وَأَجَازَ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا.
هَذَا وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ فِي غَيْبَةِ الْمُحْتَالِ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَالَةِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ رَجُلٌ الْحَوَالَةَ لِلْغَائِبِ فَتَتَوَقَّفُ إجَازَتُهُ إذَا بَلَغَهُ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ صَحَّتْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ) هَذَا قول طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقول طَائِفَةٍ أُخْرَى: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ) مِنْ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا، فَالنَّظَرُ فِي خِلَافِ الْمَشَايِخِ أَوَّلًا حَتَّى يَثْبُتَ الْمَذْهَبُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي خِلَافِ زُفَرَ، فَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ اسْتَدَلُّوا بِمَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ؛ وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحِيلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ الْمُحْتَالُ مَالَهُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَالِ الْمُحْتَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلُ بِقَبْضِ مَالِ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ صَارَ الْمُحِيلُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَتَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ بِقَبْضِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ وَلَوْ وُهِبَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا فِي الْكَفِيلِ إلَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلَّا الْتَقَيَا قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ وَالْهِبَةُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَرْجِعُ.
وَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وُهِبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ، وَجَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لَا الدَّيْنُ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا حَالَ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِيَةُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا تَحَوَّلَتْ الْمُطَالَبَةُ لَيْسَ غَيْرُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصٌّ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ، بَلْ ذَكَرَ أَحْكَامًا مُتَشَابِهَةً وَاعْتَبَرَ الْحَوَالَةَ فِي بَعْضِهَا تَأْجِيلًا وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَا الدَّيْنَ، وَاعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إبْرَاءً وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ وَالدَّيْنَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ يُوجِبُ نَقْلَ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ، إذْ الْحَوَالَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ النَّقْلِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى يُوجِبُ تَحْوِيلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَأْجِيلٌ مَعْنًى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأْجِيلِ، فَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَاعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ فِي بَعْضِهَا، نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَمِّيَّةِ خُصُوصِ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَكَان، وَسَيُجِيبُ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهَا فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ هَذِهِ.
إذَا عُرِفَ الْمَذْهَبُ حِينَئِذٍ جِئْنَا إلَى خِلَافِ زُفَرَ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْكَفَالَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ فِيهَا دَيْنٌ وَلَا مُطَالَبَةٌ بَلْ تَحَقَّقَ فِيهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَالِ أَدُخِلَ فِي مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذْ يَصِيرُ لَهُ مُكْنَةُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا فَكَذَا هَذَا.
(وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ) فَوَجَبَ نَقْلُ الدَّيْنِ (وَالدَّيْنُ إذَا انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ) لُغَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ فَوَجَبَ فِيهَا اعْتِبَارُ ضَمِّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ (لِأَنَّ الْأَحْكَامَ) يَعْنِي الْعُقُودَ (الشَّرْعِيَّةَ) الْمُسَمَّاةَ بِأَسْمَاءٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ فَائِدَةُ اخْتِصَاصِهَا بِأَسْمَائِهَا.
قولهُ: (عَقْدُ تَوَثُّقٍ) وَالتَّوَثُّقُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا.
قُلْنَا بَلْ التَّوَثُّقُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ذَلِكَ بَلْ يَصْدُقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَيْسَرِ فِي الْقَضَاءِ فَيُكْتَفَى بِهِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي مُسَمَّى لَفْظِ الْحَوَالَةِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّوَثُّقِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ بِبَقَاءِ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ.
أَمَّا الطَّائِفَةُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْقَائِلُونَ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ فَلَا، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: الْحَوَالَةُ تُنَبِّئُ عَنْ النَّقْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ.
قَالُوا: سَلَّمْنَا، وَاعْتِبَارُ نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ كَافٍ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى النَّقْلِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى نَقْلِ الدَّيْنِ كَمَا قُلْت.
لِزُفَرَ إنَّ تَحْقِيقَ التَّوَثُّقِ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْإِمْلَا إلَخْ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى كُلٍّ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّوَثُّقُ.
وَقولهُ يُجْبَرُ إلَخْ جَوَابُ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ وَهُوَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ بِعَدَمِ نَقْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ الْمُحْتَالَ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ قَبْلَ نَقْدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أُجْبِرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُحِيلِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا مَحْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَوْدُ الدَّيْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ مُمْكِنًا مَخُوفًا قَدْ يُتَوَقَّعُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فَلَا لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دَافِعٌ عَنْ نَفْسِهِ الْمُطَالَبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ سَبَبِهَا، فَهَذَا الْجَوَابُ يَدْفَعُ هَذَا الْوَارِدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَقْضٌ لِزُفَرَ وَدَلِيلٌ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ، وَقَدْ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ بِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وَلَا نَقْلَ أَصْلًا بِمَا إذَا وَقَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى النَّقْلِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إذْ ذَاكَ عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِيهَا نَقْلُ الدَّيْنِ أَيْضًا بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَبْقَى عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ شَيْءٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّ أَصْلَ الْجَوَابِ سَاقِطٌ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُحِيلِ بِأَدَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نَقْلُ الدَّيْنِ بَلْ انْتِفَاؤُهُ مِنْ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلَهُ بَلْ نَقْلُهُ تَحَوُّلُهُ مِنْ مُحَالٍ إلَى مَحَلِّ ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ حَوَالَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَوَالَةِ إنْ كَانَ فِعْلُ الْمُحِيلِ الْإِحَالَةَ أَوْ الْحَاصِلُ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَالنَّقْلُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَتِهَا وَلِهَذَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَوَالَةِ وَسَمَّوْهُ حَمَالَةً، وَحُكْمُهَا شَطْرُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ اللُّزُومُ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ دُونَ الشَّطْرِ الْآخَرِ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّيْنِ عَنْ الْمَدْيُونِ فَلَمْ تَكُنْ حَوَالَةً وَإِلَّا اسْتَعْقَبَتْ تَمَامَ حُكْمِهَا وَهَذَا مَا وُعِدْنَاهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقَّهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ.
قَالَ: (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ (وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يُتْوَى حَقُّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ) بِمَوْتٍ أَوْ إفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قول أَحْمَدَ وَاللَّيْثِ وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَعَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بَعْدَ الْعِلْمِ وَهُوَ قول مَالِكٍ، لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِسَبَبِهِ كَالْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ غَرَّهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ بِهِ (لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ) الْحَاصِلَةَ بِالِانْتِقَالِ (حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ) وَلَا سَبَبَ فَلَا عَوْدَ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ لَهُ أَبْعَدَك اللَّهُ فَمَنَعَ رُجُوعَهُ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقَةً بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ مَعْنًى بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، وَهَذَا الْقَيْدُ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْوُجُوبِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الذِّمَمَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ فِي إحْسَانِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ، فَالْمَقْصُودُ التَّوَصُّلُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ، وَإِلَّا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَشْرُوطُ عَادَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى عَيْنٍ فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ يَعُودُ.
يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَالَ: يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ لَا تَوَى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ.
وَلَفْظُ الْأَسْرَارِ قَالَ: إذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ شُرَيْحٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ، فَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ أَوْ لَمْ يَثْبُتَا فَقَدْ تَكَافَآ.
هَذَا وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَوْدِ فَقِيلَ بِفَسْخِ الْحَوَالَةِ أَيْ بِفَسْخِهَا الْمُحْتَالَ وَيُعَادُ الدَّيْنُ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَقِيلَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ كَالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ عَنْ إفْلَاسٍ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ.
وَفِي الْجُحُودِ يُفْسَخُ وَيُعَادُ، وَفِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسَيْنِ لَا يَرْجِعُ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِعْسَارِ وَلِهَذَا كُلَّمَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ أَخَذَهُ كَمَا فِي الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا مَاتَا مُفْلِسَيْنِ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَثْبُتُ حَالَةَ حَيَاةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ.
قَالُوا: مَالُ الْحَوَالَةِ جُعِلَ كَالْمَقْبُوضِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ لَأَدَّى إلَى الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَالْمَقْبُوضِ لَمْ تَجُزْ الْحَوَالَةُ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ مُفْلِسًا لَا يَكُونُ الْمُحْتَالُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَا يَرْجِعُ.
قُلْنَا: لَيْسَ كَالْمَقْبُوضِ وَإِلَّا لَجَازَ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
وَقولهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْمُعَاوَضَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَالْقَرْضِ.
وَأَمَّا الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَحُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَجَازَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا أَحَالَ بِهِمَا فَلَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ قَبْضًا لَكَانَ هَذَا افْتِرَاقًا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُحْتَالِ لَا يَصِيرُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ.
قَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: وَلَوْ أَنَّ الْمُحَالَ أَخَّرَ الْحَوِيلَ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ يُقْسَمُ دَيْنُهُ عَلَى الْحَوِيلِ بَيْنَ الْمُحَالِ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ هَذَا مَالُ الْمُحِيلِ وَلَمْ يَصِرْ بِالْحَوَالَةِ مِلْكًا لِلْمُحَالِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمُحَالُ أَخَصَّ بِهِ مَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَتَعَلَّقُ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَوْ وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ آخَرُ كَانَ رَقَبَتُهُ ثَمَّ وَكَسْبُهُ بَيْنَ الْكُلِّ بِالْحِصَصِ انْتَهَى.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالتَّوَى بَيْنَ التَّوَى بِقولهِ (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِكُلٍّ مِنْ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ) لِلْمُحْتَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ، فَقولهُ (لَهُ) يَعْنِي كُلًّا مِنْ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ (أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لَا مَالَ لَهُ مُعَيَّنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلَ عَنْهُ بِدَيْنِ الْمُحْتَالِ، وَعِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِإِفْلَاسِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي يَصِحُّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ مَالٍ لَهُ فَلَا يَعُودُ بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي عَلَى الْمُحِيلِ.
وَالتَّوَى التَّلَفُ، يُقَالُ مِنْهُ تَوِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ يَتْوَى وَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ.
وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ فَفِي الشَّافِي وَالْمَبْسُوطِ: الْقول لِلطَّالِبِ مَعَ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَزَعَمَ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَالْقول لَهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَفِي شَرْحِ النَّاصِحِيِّ: الْقول لِلْمُحِيلِ مَعَ الْيَمِينِ لِإِنْكَارِهِ عَوْدَ الدَّيْنِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قولهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقول لِلْمُنْكِرِ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ) إنَّمَا (أُحِلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قولهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ قَضَاؤُهُ دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقول لِلْمُنْكِرِ) وَلَا يُقَالُ: قَبُولُ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ.
لِأَنَّا نَقول: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِمَّا عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَالْمُطْلَقَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ فَوَكَالَةٌ بِالْأَدَاءِ مِنْ وَجْهِ الْقَبْضِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقول قول الْمُحِيلِ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقول قولهُ مَعَ يَمِينِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك، فَالْقول قول الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُحِيلِ (الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ) فَالْقول لَهُ لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ الْقول لِلطَّالِبِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ ظَاهِرًا، فَمَا قَالَهُ الْمُحِيلُ تَوْكِيلٌ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قول أَحْمَدَ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقول قولهُ مَعَ يَمِينِهِ) جَوَابٌ عَنْهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمَنْعُ كَوْنِهَا بِالدَّيْنِ أَظْهَرُ فَالْحَوَالَةُ مُتَوَاطِئٌ فِيهِمَا وَإِلَّا فَادِّعَاؤُهُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا يَخُصُّ قولهُمَا فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حِينَ اسْتَبْعَدَ التَّوَاطُؤَ وَتَقْدِيمَ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ فَحَمَلَهَا عَلَى مَا إذَا اسْتَوْفَى الْمُحْتَالُ الْأَلْفَ الْمُحَالَ بِهَا وَقَدْ كَانَ الْمُحِيلُ بَاعَ مَتَاعًا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ فَيَقول الْمُحْتَالُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَكُنْت وَكِيلًا فِي بَيْعِهِ عَنِّي وَالْمَقْبُوضُ مَالِيٌّ وَيَقول الْمُحِيلُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَإِنَّمَا بِعْتُهُ لِنَفْسِي فَالْقول لِلْمُحِيلِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْيَدِ كَانَ لِلْمُحِيلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ انْتَهَى.
وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِنَحْوِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَجْوِيزِ كَوْنِ لَفْظِ أَحَلْتُك بِأَلْفٍ يُرَادُ بِهِ أَلْفٌ لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَطْعِ بِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ دَلَالَتِهِ، مِثْلُ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ضَرَرُ شَغْلِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ اللَّفْظِ، وَمِنْهُ نَحْوُ قولهِ اتَّزِنْهَا فِي جَوَابِ لِي عَلَيْك أَلْفٌ لِلتَّيَقُّنِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي اتَّزِنْهَا عَلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ قولهِ أَحَلْتُك.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ.
بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ) لِتَيَسُّرِ مَا يُقْضَى بِهِ وَحُضُورِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ (فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُودِعُ (لِتَقَيُّدِهَا بِهَا) أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هَلَكَتْ (فَإِنَّهُ) أَيْ الرَّجُلُ (مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً) بِعَيْنِ (مَغْصُوبٍ) عَرْضٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ الْمُحَالُ بِهِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَا يَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ رَدَّ الْمِثْلَ أَوْ الْقِيمَةَ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يَبْرَأُ (لِأَنَّ) لَهُ خُلْفًا وَ (الْفَوَاتُ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتٍ) فَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً بِخُلْفِهِ فَيُرَدُّ خُلْفُهُ عَلَى الْمُحْتَالِ (وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا) بِأَنْ يُحِيلَهُ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْمُقَيَّدَةُ بِالتَّفْصِيلِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنِ أَمَانَةٍ، وَبِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَبِدَيْنٍ خَاصٍّ (وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَعْنِي الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ (أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ) بِذَلِكَ الْعَيْنِ وَلَا بِذَلِكَ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمَّا قُيِّدَتْ بِهَا (تَعَلَّقَ حَقُّ الطَّالِبِ بِهِ) وَهُوَ اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ (عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ) وَأَخْذُ الْمُحِيلِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ فَلَا يَجُوزُ؛ فَلَوْ دَفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْعَيْنَ أَوْ الدَّيْنَ إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَهُ لِلطَّالِبِ فَإِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ الرَّهْنَ أَحَدٌ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ.
وَلَمَّا كَانَ تَشْبِيهُ الْمُصَنِّفِ بِالرَّهْنِ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ غَيْرُ دَيْنِ الْمُحْتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي أُحِيلَ بِهِ أَوْ الْعَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْمُحْتَالُ (أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ) فِيهِ (بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ) لِلْمُحِيلِ (حَقُّ الْمُطَالَبَةِ) بِمَا أَحَالَ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ (فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَ) الْوَاقِعُ (أَنَّهَا حَقُّ الْمُحْتَالِ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ، وَتُرِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْمُحَالِ بِهِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا، وَالْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْمُحْتَالِ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ الدَّيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِ بِالرَّهْنِ الْمُعَيَّنِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ يَدٌ ثَابِتَةٌ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ لَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَالُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَلَوْ قُسِّمَ ذَلِكَ الدَّيْنُ أَوْ الْعَيْنُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَأَخَذَ الْمُحْتَالُ حِصَّتَهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ بِذَلِكَ الْمُقْسَمِ.
هَذَا وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ، وَلَوْ وَهَبَ الْمُحْتَالُ دَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ لَهُ وَوَرِثَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، وَكَذَا الْإِرْثُ، فَمَلَكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْهِبَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ أَدَّى لَا يَرْجِعُ الْمُحِيلُ عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ ضَمَانِهِ لِلْمُحْتَالِ دَيْنُهُ وَهُوَ الشَّاغِلُ لِدَيْنِ الْمُحِيلِ فَبَقِيَ دَيْنُ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِلَا شَاغِلٍ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَقولهُ (بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ) يَتَّصِلُ بِقولهِ لَا يَمْلِكُ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالدَّيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قِسْمَانِ، مُقَيَّدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمُطْلَقَةٌ.
وَهِيَ أَنْ يَقول الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ أَحَلْتُك بِالْأَلْفِ الَّتِي لَك عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ لِيُؤَدِّيَهَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحَالَ كَذَلِكَ وَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ أَوْ مَغْصُوبَةٌ أَوْ دَيْنٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنُ (لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحْتَالِ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ لِوُقُوعِهَا مُطْلَقَةً عَنْهُ (بَلْ بِذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ (فَيَأْخُذُ دَيْنَهُ أَوْ عَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ) وَمَا عَلَيْهِ يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَدِيعَةِ.
وَمِنْ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَتَنْقَسِمُ الْمُطْلَقَةُ إلَى حَالَّةٍ وَمُؤَجَّلَةٍ.
فَالْحَالَّةُ أَنْ يُحِيلَ الطَّالِبُ بِأَلْفٍ وَهِيَ عَلَى الْمُحِيلِ حَالَّةٌ فَتَكُونُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَالَّةً لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَتَحَوَّلُ بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ، وَلَكِنْ لَهُ إذَا لُوزِمَ أَنْ يُلَازِمَهُ، وَإِذَا حُبِسَ أَنْ يَحْبِسَهُ.
وَالْمُطْلَقَةُ الْمُؤَجَّلَةُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ إلَى سَنَةٍ فَأَحَالَ الطَّالِبُ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ؛ وَلَوْ حَصَلَتْ الْحَوَالَةُ مُبْهَمَةً لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ، وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ مُؤَجَّلَةً كَمَا فِي الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، فَلَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ لَمْ يَحِلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حُلُولَ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَجَلِ، وَلَوْ حَلَّ عَلَيْهِ إنَّمَا يَحِلُّ بِنَاءً عَلَى حُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِيءٌ عَنْ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَالْمُحِيلُ حَيٌّ حَلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ سَقَطَ حُكْمًا لِلْحَوَالَةِ وَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَيُنْتَقَضُ مَا فِي ضِمْنِهَا وَهُوَ سُقُوطُ الْأَجَلِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَدْيُونُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ عَبْدًا مِنْ الطَّالِبِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ عَادَ الْأَجَلُ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَجَلِ كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَقَدْ اُنْتُقِضَ كَذَا هُنَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ) جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ تَعْرِيبُ سُفْتَهَ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُحْكَمُ، سُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ.
وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي بَلْدَةٍ إلَى مُسَافِرٍ قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ أَوْ وَكِيلِهِ مَثَلًا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى لِيَسْتَفِيدَ بِهِ أَمْرَ خَطَرِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا، رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ حَمْزَةَ، أَنْبَأَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ عُمَارَةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا» وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: مَتْرُوكٌ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْجَهْمِ فِي جُزْئِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَوَّارٍ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «السُّفْتَجَاتُ حَرَامٌ» وَأَعَلَّهُ بِعَمْرِو بْنِ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ.
وَأَحْسَنُ مَا هُنَا مَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَغَيْرِهَا: إنْ كَانَ السَّفْتَجُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا جَازَ.
وَصُورَةُ الشَّرْطِ مَا فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَكَتَبَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ اُكْتُبْ لِي سَفْتَجَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنْ أُعْطِيَك هُنَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ.
وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: سَفَاتِجُ التُّجَّارِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنْ يُقْرِضَ مُطْلَقًا ثُمَّ يَكْتُبَ السُّفْتَجَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ بِأَحْسَنَ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا قَالُوا: إنَّمَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِذَلِكَ فَلَا.
وَاَلَّذِي يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِي ظِلِّ جِدَارِ غَرِيمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ انْتِفَاعًا بِمِلْكِهِ، كَيْفَ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلَا مُتَعَارَفًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.