فصل: فَصْلٌ: حق السكنى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ: حق السكنى:

(وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنْ تَخْتَارَ ذَلِكَ) لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ كِفَايَتِهَا فَتَجِبُ لَهَا كَالنَّفَقَةِ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِذَا وَجَبَ حَقًّا لَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا، وَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَمِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، إلَّا أَنْ تَخْتَارَ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِانْتِقَاصِ حَقِّهَا (وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا) لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): حق السكنى:
قولهُ: (لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ) وَأَمَّا أَمَتُهُ فَقِيلَ أَيْضًا لَا يُسْكِنُهَا مَعَهَا إلَّا بِرِضَاهَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِخْدَامِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِذَا أَفْرَدَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَضْرَتِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَتِهَا وَلَا بِحَضْرَةِ الضَّرَّةِ.
قولهُ: (مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ) فِي قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فَإِنَّ الْمُرَادَ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسُّكْنَى بِالْمِلْكِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا (وَقولهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا) قِيلَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ فَلَهُ إسْكَانُهُ مَعَهَا.
قولهُ: (وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا) اقْتَصَرَ عَلَى الْغَلْقِ أَفَادَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخَلَاءُ مُشْتَرَكًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَلْقٌ يَخُصُّهُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَسْكَنٍ آخَرَ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ قَدْ زَالَ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ كَوْنَ الْخَلَاءِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأَجَانِبِ، وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ: وَلَوْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبَتْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ إنْ أَخْلَى لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لَهُ مَرَافِقَ وَغَلْقًا عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ بَيْتًا، وَلَوْ شَكَتْ أَنَّهُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ يُؤْذِيهَا إنْ عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ زَجَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَأَلَ مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهَا أَوْ كَانُوا يَمِيلُونَ إلَيْهِ أَسْكَنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ أَخْيَارٍ يَعْتَمِدُ الْقَاضِي عَلَى خَبَرِهِمْ.

متن الهداية:
(وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَالِدَيْهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَهْلَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِلْكُهُ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ (وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ اخْتَارُوا) لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْقَرَارِ وَالدَّوَامِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي اللِّبَاثِ وَتَطْوِيلِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ التَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِمَا فِيهِ) أَيْ الْمَنْعُ مِنْ الْمُكَالَمَةِ (مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ) فِي الصَّحِيحِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»، وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ، قَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» وَالشِّجْنَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَضَمِّهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي بِالشِّجْنَةِ الْوَصْلَةَ.
قولهُ: (وَقِيلَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) ظَاهِرُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ يَتَّصِلُ بِكُلٍّ مِنْ خُرُوجِهَا وَدُخُولِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى: لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَرْبَعِ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالزَّوْجُ يُرِيدُهَا وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى فِرَاشِهِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْغُسْلُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ أَمَّا مَا لَا تُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَفِي زِيَارَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَبُوهَا أَوْ قَرِيبُهَا أَنْ يَجِيءَ إلَيْهَا عَلَى هَذَا الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ انْتَهَى.
وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ مُقَاتِلٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَحْرَمَ مِنْ الزِّيَارَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِأَنْ لَا يَقْدِرَا عَلَى إتْيَانِهَا، فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلَى إتْيَانِهَا لَا تَذْهَبُ وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مَعَ الْأَبِ الْخُرُوجُ وَقَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ فَتُمْنَعُ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَقْلِهِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ، وَالْحَقُّ الْأَخْذُ بِقول أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ الْأَبَوَانِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْت، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي زِيَارَتِهِمَا فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ عَلَى قَدْرٍ مُتَعَارَفٍ، أَمَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ فِي كَثْرَةِ الْخُرُوجِ فَتْحُ بَابِ الْفِتْنَةِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ شَابَّةً وَالزَّوْجُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، بِخِلَافِ خُرُوجِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ، وَلَوْ كَانَ أَبُوهَا زَمِنًا مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهَا وَالزَّوْجُ يَمْنَعُهَا مِنْ تَعَاهُدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُغْضِبَهُ مُسْلِمًا كَانَ الْأَبُ أَوْ كَافِرًا.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: فَإِنْ كَانَتْ قَابِلَةً أَوْ غَسَّالَةً أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لِآخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِيَارَةِ الْأَجَانِبِ وَعِيَادَتِهِمْ وَالْوَلِيمَةِ لَا يَأْذَنُ لَهَا وَلَا تَخْرُجُ وَلَوْ أَذِنَ وَخَرَجَتْ كَانَا عَاصِيَيْنِ وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَتْ لَهَا نَازِلَةٌ إنْ سَأَلَ الزَّوْجُ مَنْ الْعَالِمُ وَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ لَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ السُّؤَالِ يَسَعُهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا نَازِلَةٌ وَلَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ لِتَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً مِنْ مَسَائِلِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ يَحْفَظُ الْمَسَائِلَ وَيُذَاكِرُ مَعَهَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَحْيَانًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهَا نَازِلَةٌ.
وَفِي الْفَتَاوَى فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ: الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَوَائِجِهَا وَتَزُورَ الْأَقَارِبَ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَا تُسَافِرُ مَعَ عَبْدِهَا خَصِيًّا كَانَ أَوْ فَحْلًا، وَكَذَا أَبُوهَا الْمَجُوسِيُّ وَالْمَحْرَمُ غَيْرُ الْمُرَاهِقِ، بِخِلَافِ الْمُرَاهِقِ وَحْدَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَتَا عَشَرَ سَنَةً، وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا لِامْرَأَةٍ، وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَى مَا لَا يَكُونُ دَاعِيَةً إلَى نَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وَقول الْفَقِيهِ: وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ خَالَفَهُ فِيهِ قَاضِي خَانْ.
قَالَ فِي فَصْلِ الْحَمَّامِ مِنْ فَتَاوَاهُ: دُخُولُ الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ.
رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَتَنَوَّرَ»، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَخَلَ حَمَّامَ حِمْصٍ، لَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إنْسَانٌ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ انْتَهَى.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِنَّ مِنْ دُخُولِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤَيِّدُ قول الْفَقِيهِ مِنْهَا فِي النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ» وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَرَدَّ اسْتِثْنَاءَ النُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضَةِ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إلَّا بِالْإِزَارِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» وَفِي سَنَدِهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَكَانَ يُقَوِّي أَمْرَهُ وَيَقول: وَمُقَارِبُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَوَى عَيَّاشٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَيُحْتَجُّ بِهِ: يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ نَعَمْ.

متن الهداية:
(وَإِذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَهُ مَالٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ، وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ حَقَّهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا الْمَرْأَةُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِ الْغَائِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الدَّيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا، أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لَا تُفْرَضُ النَّفَقَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ، وَلَا يُبَاعُ مَالُ الْغَائِبِ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ وَكَذَا عَلَى الْغَائِب، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْضِي عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ.
قَالَ: (وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا بِهَا) نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا اسْتَوْفَتْ النَّفَقَةَ أَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا قَسَمَ بَيْنَ وَرَثَةٍ حُضُورٍ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يَقولوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ حَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْكَفِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا مَعْلُومٌ وَهُوَ الزَّوْجُ وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ.
قَالَ: (وَلَا يَقْضِي بِنَفَقَةٍ فِي مَالٍ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ، أَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمَحَارِمِ فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ لِيَفْرِضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا عَلَى الْغَائِبِ وَيَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَقْضِي فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَصَدَّقَهَا فَقَدْ أَخَذَتْ حَقَّهَا، وَإِنْ جَحَدَ يَحْلِفُ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَوْ الْمَرْأَةُ، وَعَمَلُ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا فَلَمْ يَذْكُرْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ) فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ قولهُ وَبِالنَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِرَافِ قولهُ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ) أَيْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَحَدَهُمَا احْتَاجَ فِي الْقَضَاءِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ إلَى إقْرَارِ مَنْ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ دُونَ الْبَيِّنَةِ.
قولهُ: (وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هُنَا) فَإِنَّهُ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا إلَّا اعْتِرَافُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ، وَلَا سِيَّمَا مُرَكَّبٌ مِنْ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَمَنْفِيِّهَا وَهُوَ سِيَّ وَمَعْنَاهُ الْمَثَلُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بَطْنِ وَادِ هَمُوسُ ** النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ

أَيْ بِمِثْلٍ وَلَا شَبِيهٍ، وَهُوَ وَاحِدُ سِيَّانِ مِنْ قولك هُمَا سِيَّانِ، وَأَصْلُهُ سِوَى قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ أَوْ لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ الْيَاءِ وَسَبْقِ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَإِنْ جَرَرْت مَا بَعْدَ مَا كَزَيْدٍ مَثَلًا فِي قولك أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَهُوَ عَلَى أَنَّ سِيًّا مُضَافٌ إلَى زَيْدٍ وَمَا زَائِدٌ مُقْحَمٌ كَقولهِ:
كُلُّ مَا حَيٍّ وَإِنْ أَمَرُوا ** وَارِدُو الْحَوْضِ الَّذِي وَرَدُوا

وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى أَنَّ سِيًّا يُضَافُ إلَى مَا وَهُوَ مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا مِثْلَ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ، وَجَازَ كَوْنُهُ مُضَافًا مَعَ أَنَّ اسْمَ لَا يَجِبُ كَوْنُهُ نَكِرَةً لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَمِثْلُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ الْأَصْلِ فِي الْجَرِّ، بِالزِّيَادَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَفِي الرَّفْعِ بِحَذْفِ صَدْرِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، وَهُوَ إنَّمَا يُقَاسُ إذَا طَالَتْ الصِّلَةُ.
وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ الْجَرَّ عَلَى الرَّفْعِ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا أَوْسَعُ مِنْ حَذْفِ الْمُبْتَدَأ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ، وَقَدْ يُقَالُ زِيَادَةُ مَا فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَمْنُوعٌ فَتَكَافَآ، وَأَمَّا نَصْبُ مَا بَعْدَ مَا فَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ صَاحِبُ الْغُرَّةِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، وَعَنْ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مُعْطٍ فِي فُصُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى بِلَا سِيَّمَا سِوَى الْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَذَكَرَ بَيْتَ امْرِئِ الْقِيسِ:
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَك مِنْهُنَّ صَالِحٌ ** وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ

بِالْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّصْبَ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ عَلَى الظَّرْفِ، وَقِيلَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ، وَقِيلَ مَجْمُوعُ لَا سِيَّمَا بِمَنْزِلَةِ إلَّا، وَمَعْنَى الْإِخْرَاجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إلَّا فِيهَا هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِإِثْبَاتِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْت أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَقَدْ: أَثْبَتَ لَهُ أَبْلَغَ مِنْ إكْرَامِهِمْ وَقَدْ جَاءَ تَخْفِيفُهَا بِحَذْفِ إحْدَى الْيَاءَيْنِ فَقِيلَ الْأُولَى لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْمُتَحَرِّكِ فَكَانَ حَذْفُهُ أَوْلَى، وَقِيلَ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَامٌ وَالْإِعْلَالُ فِي اللَّامِ أَوْلَى.
قولهُ: (وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ) بِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ (تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ) ضَرُورَةً.
أَوْرَدَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ جَاءَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِمُودِعِ أَوْ بِمَدْيُونٍ لِلْغَائِبِ مُعَرِّفٍ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ النَّظَرَ لِلْغَائِبِ، فَفِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرٌ لَهُ بِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِبْقَاءِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ: أَعْنِي قَرَابَةَ الْوِلَادِ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقول الْغَيْرِ.
قولهُ: (فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ) حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَعِنْدَهُ أَمْوَالٌ غَيْرُ الْأَثْمَانِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَلْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ هُوَ وَيَقْضِي، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَبَسَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ.
قولهُ: (وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ) ثُمَّ إذَا جَاءَ الْغَائِبُ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّفَقَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ الْقَضَاءُ بِالدَّفْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مِنْ مَالِهِ شَرْعًا أَصْلُهُ حَدِيثُ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ فِي بَيْتِهِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ الزَّوْجِيَّةَ أَطْلَقَ الْأَخْذَ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً بَلْ إيفَاءً، وَالْإِيفَاءُ لَا يُمْتَنَعُ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ غَابَ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْقَاضِي الْإِيفَاءَ مِنْهُ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ.
قولهُ: (إلَّا لِهَؤُلَاءِ) وَهُمْ الزَّوْجَةُ وَالْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ، وَيُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ الْكِبَارُ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الْكِبَارُ الزَّمْنَى وَنَحْوَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالصِّغَارِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْكَسْبِ.
قولهُ: (فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ) لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ بِدَلِيلِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ دِيَانَةً، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَقَدْ يُمْتَنَعُ تَمَسُّكًا بِقول مَنْ يَرَى أَنْ لَا تَجِبَ النَّفَقَةُ فَلَا يُعَيَّنُ عَلَيْهِ قول الْوُجُوبِ إلَّا الْقَضَاءُ بِهِ فَيَنْتَفِي تَأْوِيلُهُ وَيَتَقَرَّرُ فِي ذِمَّتِهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ.
وَفِي الْكَافِي: لَوْ أَنْفَقَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودِعُ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ضَمِنَ الْمُودِعُ وَلَا يَبْرَأُ الْمَدْيُونُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَنَظَرَ لِلْغَائِبِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحْفُوظٌ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ.
قولهُ: (وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا) مِنْهَا قول أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا: إذَا جَحَدَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودَعُ الزَّوْجِيَّةَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبٍ فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ السَّبَبِ، كَمَنْ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَهُوَ قولهُمَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْغَائِبِ وَمَنْ عِنْدَهُ الْمَالُ لَيْسَ خَصْمًا فِيهِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَ بِهِ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَتِهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِيَفْرِضَ لَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَيَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قولهِمَا، وَقول زُفَرَ فِي ذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ، وَنَقَلَ مِثْلَ قول زُفَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَوَّى عَمَلَ الْقُضَاةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ.
فُرُوعٌ:
فِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ قَالَتْ: إنَّ زَوْجِي يُطِيلُ الْغَيْبَةَ عَنِّي فَطَلَبَتْ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: آخُذُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمْكُثُ فِي السَّفَرِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَخَذَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْكَفِيلَ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا: لَوْ كَفَلَ بِنَفَقَتِهَا مَا عَاشَتْ أَوْ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ مَا بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَلَى شَهْرٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَفَلَ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا كُلَّ شَهْرٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ.

.(فَصْلٌ): ما للمرأة في عدتها:

(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا رَجْعِيًّا كَانَ أَوْ بَائِنًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَهُ قَائِمٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَوَجْهُ قولهِ مَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْرِضْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِانْعِدَامِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الْآيَةَ.
وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ احْتِبَاسٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالِاحْتِبَاسُ قَائِمٌ فِي حَقِّ حُكْمٍ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْوَلَدُ إذْ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى بِالْإِجْمَاعِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا.
وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَدَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقول امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَرَدَّهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): ما للمرأة في عدتها:
قولهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ. وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةُ إذْ لَا بَيْنُونَةَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ (إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا) فَإِنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدَهُ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَوَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِم: «أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ سَبِيلٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَتْهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ».
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ فِيه: «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» وَرَوَاهُ أَيْضًا وَقَالَ فِيه: «إنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ تَطْلِيقِهَا» وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً هِيَ تَمَامُ الثَّلَاثِ، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ فَسَخِطَتْهَا فَقَالَا: وَاَللَّهِ لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ، قولهُمَا فَقَالَ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ» زَادَ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ قول عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَام: «وَلَا نَفَقَةَ لَكِ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا» وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ نَسَبَهُ إلَى مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا عَلِمْت.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم: «أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ» الْحَدِيثَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَدَمُ طَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ وَعَدَمُ مُعَارِضٍ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَالْمُتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضِدُّ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَمَّا طَعْنُ السَّلَفِ فَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهَا فِيهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ سَنَذْكُرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ الطَّعْنُ بِسَبَبِ كَوْنِ الرَّاوِي امْرَأَةً وَلَا كَوْنِ الرَّاوِي أَعْرَابِيًّا، فَقَدْ قَبِلُوا حَدِيثَ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ، بِخِلَافِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَبِخَبَرِ الدَّجَّالِ حَفِظَتْهُ مَعَ طُولِهِ وَوَعَتْهُ وَأَدَّتْهُ، ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ لَهَا مِنْ الْفِقْهِ مَا أَفَادَ عِلْمًا وَجَلَالَةَ قَدْرٍ؛ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَيْهَا قَبِيصَةَ بْنَ أَبِي ذُؤَيْبٍ يَسْأَلُهَا عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ بِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مِنْ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قول مَرْوَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلَى قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَكَيْفَ تَقولونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟. وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ، فَجَزَمْنَا أَنَّ رَدَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لِخَبَرِهَا لَيْسَ إلَّا لِمَا عَلِمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفًا لَهُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى أَنْ رَوَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا الْخَبَرَ مَعَ أَنَّ عُمَرَ رَدَّهُ، وَصَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ، بِخِلَافِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا. قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقول امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}» فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى.
وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ قول الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا رَفْعٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَائِلُهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ زِيَادَةُ قولهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» وَقُصَارَى مَا هُنَا أَنْ تُعَارَضَ رِوَايَتُهَا بِرِوَايَتِهِ، فَأَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ قَال: «مَا كُنَّا نُغَيِّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ» فَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدِّينُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَيَنْزِلُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ.
وَالثِّقَةُ إذَا شَذَّ لَا يُقْبَلُ مَا شَذَّ فِيهِ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قول مَرْوَانَ: سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ هُمْ الصَّحَابَةُ، فَهَذَا فِي الْمَعْنَى حِكَايَةُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَوَصَفَهُ بِالْعِصْمَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْ إلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَلْبَتَّةَ، فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي إلَى قول فَاطِمَةَ فَقَالَتْ: أَمَا إنَّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ.
فَهَذَا غَايَةُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ نَفَتْ الْخَبَرَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ: أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ إلَى مَنْزِلِهَا وَيَسْتَفْتِينَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَثُرَ وَتَكَرَّرَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى: تَعْنِي فِي قولهَا: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ.
وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ أَحْسِبُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: إنَّمَا أَخْرَجَك هَذَا اللِّسَانُ: يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا وَكَثُرَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ فَأَخْرَجَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ.
وَيُفِيدُ ثُبُوتُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَدْ احْتَجَّ بِهِ وَهُوَ مَعَاصِرُ عَائِشَةَ، وَأَعْظَمُ مُتَتَبِّعٍ لِأَقْوَالِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حِفْظًا وَدِرَاسَةً، وَلَوْلَا أَنَّهُ عَلِمَهُ عَنْهَا مَا قَالَهُ، وَذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَدَفَعْت إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقُلْت: فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلُقَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ كَانَتْ لِسَنَةٍ فَوَضَعَتْ عَلَى يَدِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسُبَ إلَى صَحَابِيَّةٍ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَكَذَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسْتَنَدُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ حَيْثُ قَالَ: خُرُوجُ فَاطِمَةَ إنَّمَا كَانَ عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ.
وَمِمَّنْ رَدَّهُ زَوْجُهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي هُرْمُزَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَقول: كَانَ أُسَامَةُ إذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: يَعْنِي مِنْ انْتِقَالِهَا فِي عِدَّتِهَا رَمَاهَا بِمَا فِي يَدِهِ انْتَهَى.
هَذَا مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَعْرَفَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهَا عَنْهُ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى بَنَى بِهَا، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مِنْهَا، أَوْ لِعِلْمِهِ بِخُصُوصِ سَبَبِ جَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنْ اللَّسَنِ أَوْ خِيفَةَ الْمَكَانِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَمْ يَظْفَرْ الْمُخَرِّجُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَاسْتَغْرَبَهُ وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَالَ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ مِنْ خُرُوجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: «الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ».
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَرْبِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَا ذُكِرَ فِيهِ السَّمَاعُ، أَوْ كَانَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ.
وَحَرْبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَيْضًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالْأَشْبَهُ وَقْفُهُ عَلَى جَابِرٍ، وَهَذَا بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْهِينِ رَفْعِهِ يَرُدُّ قول مَنْ ذَكَرَ أَنَّ جَابِرًا عَلَى قول فَاطِمَةَ، وَقَدْ تَمَّ بِمَا ذَكَرْنَا بَيَانَ الْمُعَارِضِ وَالطَّعْنِ.
وَأَمَّا بَيَانُ الِاضْطِرَابِ فَقَدْ سُمِعْت فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثُمَّ سَافَرَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ.
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ذَهَبَ فِي نَفَرٍ فَسَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سُمِّيَ الزَّوْجُ أَبَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَبَا حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ.
وَمِمَّنْ رَدَّ الْحَدِيثَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ شُرَيْحُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ.
وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْعُذْرُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنَّمَا أَسْقَطَ تِلْكَ السُّكْنَى وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى، قُلْنَا: لَيْسَ عَلَيْنَا أَوَّلًا أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَمَّا رَوَتْ، بَلْ يَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَلِمَرْوِيِّ عُمَرَ فِي تَرْكِهِ كَائِنًا هُوَ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ، إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ حَسَنٌ حَمْلًا لِمَرْوِيِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ.
وَنَقول: فِيهِ أَنَّ عَدَمَ السُّكْنَى كَانَ لِمَا سَمِعَتْ.
وَأَمَّا عَدَمُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى الشَّعِيرِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إلَيْهَا فَطَالَبَتْ هِيَ أَهْلَهُ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ «أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ» الْحَدِيثَ. فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَهَا لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ لَك عَلَى أَهْلِهِ شَيْءٌ فَلَا نَفَقَةَ لَك عَلَى أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ، فَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ الْغَرَضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَتْ تَرْوِي نَفْيَ النَّفَقَةِ مُطْلَقًا فَوَقَعَ إنْكَارُ النَّاسِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مَا نَظَرَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا وَهُوَ قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَبِهِ جَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرَةً لَهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْبَوَائِنِ بِدَلِيلِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ قوله تَعَالَى عَقِيبَه: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَوْ كَانَتْ الْآيَةُ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْ فِي الرَّجْعِيَّاتِ كَانَ التَّقْدِيرُ: أَسْكِنُوا الزَّوْجَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ.
وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِجَعْلِ غَايَةِ إيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا الْوَضْعَ.
فَإِنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا مُطْلَقًا حَمْلًا كَانَتْ أَوْ لَا، وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَا، بِخِلَافِهِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْبَوَائِنِ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ عَدَمِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْحَامِلِ فِي تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ لِطُولِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يَرْجِعُ إلَى الرَّجْعِيَّاتِ مِنْهُنَّ، وَذِكْرُ حُكْمٍ خَاصٍّ بِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ الصَّدْرِ.

متن الهداية:
(وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا) لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَيْسَ لِحَقِّ الزَّوْجِ بَلْ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّ التَّرَبُّصَ عِبَادَةٌ مِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ بِمُرَاعًى فِيهِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَيْضُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا مِلْكَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَابِسَةً نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ كَمَا إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً، بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَلَا يَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ مُرَاعًى فِيهَا) اسْتِيضَاحٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ عِبَادَةٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيُعَارِضُ ذَلِكَ انْقِضَاؤُهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ.
وَأَنْتَ إذَا أَنْعَمْت النَّظَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ ظَهَرَ لَك جَوَابُ هَذَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَأَتْقِنْهُ.
قولهُ: (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ بِمَعْصِيَةٍ) احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا وَعَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ فِيهِمَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إمَّا مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا، فَفِي الْأَوَّلِ لَهَا النَّفَقَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِطَلَاقِهِ أَوْ لِعَانِهِ أَوْ عُنَّتِهِ أَوْجَبِّهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، وَيُشْكِلُ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ لِلْمُلَاعَنَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا بَيْتًا وَلَا قُوتًا عَلَيْهِ أَوْ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِتَقْبِيلِهِ بِنْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ إيلَائِهِ مَعَ عَدَمِ فَيْئِهِ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ إبَائِهِ الْإِسْلَامَ إذَا أَسْلَمَتْ هِيَ، أَوْ ارْتَدَّ هُوَ فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَلَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ بِمَعْصِيَتِهِ لَا تُحْرَمُ هِيَ النَّفَقَةَ وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ تَمْكِينِهَا ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ إبَائِهَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ وَرِدَّتُهَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَابِسَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَتْ كَالنَّاشِزَةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَوَطْءِ ابْنِ الزَّوْجِ لَهَا مُكْرَهَةً تَجِبُ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَهَا أَوْ عُذِرَتْ شَرْعًا فِيهِ، وَلَهَا السُّكْنَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ حَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمَعْصِيَتِهَا، أَمَّا النَّفَقَةُ فَحَقٌّ لَهَا فَتُجَازَى بِسُقُوطِهِ بِمَعْصِيَتِهَا.
قولهُ: (بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَتَقَرَّرَ الْحَقُّ لَهَا فِيهِ قَبْلَ طُرُوُّ الْمَعْصِيَةِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا) مِنْ نَفْسِهَا (فَلَهَا النَّفَقَةُ) مَعْنَاهُ: مَكَّنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا عَمَلَ فِيهَا لِلرِّدَّةِ وَالتَّمْكِينِ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ، وَالْمُمَكَّنَةُ لَا تُحْبَسُ فَلِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا) لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ هُنَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَجِئْ بِسَبَبِهَا فَهِيَ وَتَمْكِينِهَا ابْنِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ سَوَاءٌ فَكَمَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا لَا تَسْقُطُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بِالرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ فِي هَذِهِ الرِّدَّةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَحُبِسَتْ إذْ لَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ، أَوْ إذَا لَحِقَتْ حَتَّى لَوْ لَمْ تَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ تَخْرُجْ بَعْدَ هَذِهِ الرِّدَّةِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَلَوْ حُبِسَتْ أَوْ لَحِقَتْ فَعَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا عَادَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلنَّفَقَةِ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قولهِ وَلَوْ عَادَتْ إلَى بَيْتِهَا مُسْلِمَةً أَوْ مُرْتَدَّةً عَادَتْ نَفَقَتُهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اللِّحَاقِ، يُخَالِفُهُ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ عَادَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَوَفَّقَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ عَلَى مَا إذَا حَكَمَ بِلَحَاقِهَا، وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَعَادَتْ إلَى مَنْزِلِهِ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا الْمُفَوِّتَةُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَا يَعُودُ بِعَوْدِهَا إلَى الْمَنْزِلِ مُسْلِمَةً، وَلَوْ كَانَ تَمْكِينُهَا وَرِدَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي الرَّجْعِيِّ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهَا نَفَقَةٌ يَوْمَ طَلُقَتْ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ طَلُقَتْ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ بَعْدَهُ، فَلَوْ طَلَّقَ الْأَمَةَ بَائِنًا وَكَانَتْ مُبَوَّأَةً مَعَهُ بَيْتًا فَأَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ تَأْخُذُ النَّفَقَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى فَطَلُقَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَتَأْخُذَ نَفَقَتَهَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً يَوْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَعُودُ نَفَقَتُهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً إلَّا أَنَّهَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ فَتَأْخُذَهُ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى لَفْظِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ.
وَلَوْ تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ صَالَحَ الْمُعْتَدَّةَ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ جَازَ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمْتَدَّ الطُّهْرُ بِهَا، وَإِذَا لَمْ تُطَالِبْ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَتْ كَاَلَّتِي فِي الْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً.
وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ زَوْجَةٌ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْهَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ صَحَّ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي الْخُلْعِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَالِاسْتِيفَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ يَجُوزُ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ الْقول قول الْمُطَلَّقَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ يَمِينِهَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ.
وَلَوْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا إلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَهُمَا كُنْت اعْتَقَدْته حَبَلًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ إيَّاهُ وَأَنَا حَائِلٌ لَمْ أَحِضْ وَقَالَ بَلْ ادَّعَيْت الْحَبَلَ كَذِبًا وَظَهَرَ كَذِبُك فَلَا نَفَقَةَ لَك لَا يَلْتَفِتُ الْقَاضِي إلَى قولهِ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ تَدْخُلَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ الْفَضْلِيُّ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِذَلِكَ بَلْ يُوقَفُ حَالُهَا لِاحْتِمَالِ حَبَلِهَا فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَذَا ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ بَعْضُهُمْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إلَّا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ فَرَاغُ رَحِمِهَا هَذَا فِي الْمُحِيطِ اهـ. مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَهُوَ حَسَنٌ.
وَفِيهَا: رَجُلٌ غَابَ فَتَزَوَّجَتْ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَحَضَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ الثَّانِي لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَا عَلَى الثَّانِي مَا دَامَتْ فِي عِدَّةِ الثَّانِي، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي تَجِبُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ.
وَفِي الْفَتَاوَى قَالَ: تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إذَا خَرَجَتْ فَلَا.

.فَصْلٌ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ:

(وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ كَمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ) لِقولهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ (فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا فَلَيْسَ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهَا عَسَاهَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعُذْرٍ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بِإِلْزَامِهَا الْإِرْضَاعَ مَعَ كَرَاهَتِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا تُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى الْإِرْضَاعِ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الضَّيَاعِ.
قَالَ: (وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا) أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَقولهُ عِنْدَهَا مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ:
قولهُ: (وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ) قَيَّدَ بِالصِّغَرِ فَخَرَجَ الْبَالِغُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ الْأَبُ إمَّا غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، وَالْأَوْلَادُ إمَّا صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ، فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَالْأَوْلَادُ كِبَارًا، فَإِمَّا إنَاثٌ أَوْ ذُكُورٌ، فَالْإِنَاثُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُنَّ إلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَالٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُنَّ فِي عَمَلٍ وَلَا خِدْمَةٍ وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ قُدْرَةٌ، وَإِذَا طَلُقَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ، وَالذُّكُورُ إمَّا عَاجِزُونَ عَنْ الْكَسْبِ لِزَمَانَةٍ أَوْ عَمًى أَوْ شَلَلٍ أَوْ ذَهَابِ عَقْلٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْكِرَامِ لَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَهُوَ عَاجِزٌ، وَكَذَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ إذَا كَانُوا لَا يَهْتَدُونَ إلَى الْكَسْبِ نَفَقَتُهُمْ عَلَى آبَائِهِمْ؛ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَرَأَيْت فِي مَوْضِعٍ: هَذَا إذَا كَانَ بِهِمْ رُشْدٌ، وَقولهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الصِّغَارِ، أَمَّا الْكِبَارُ فَعَلَى الظَّاهِرِ كَمَا سَيَأْتِي وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَاجِزِينَ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ.
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَهُمْ صِغَارٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَالٌ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الذَّكَرُ حَدَّ الْكَسْبِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأُنْثَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُبَذِّرًا يُدْفَعُ كَسْبُ الِابْنِ إلَى أَمِينٍ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَإِمَّا حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَجَبَتْ عَلَى الْأَبِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِهِمْ يُنْفِقُ بِإِذْنِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، فَلَوْ أَنْفَقَ بِلَا أَمْرِهِ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَدَ لَكِنْ أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحُكْمِ رُجُوعٌ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ.
الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ فَقِيرًا، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكِبَارًا قَادِرِينَ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ نَفَقَتَهُ هُوَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا أَغْنِيَاءَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ وَهُمْ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ عَاجِزُونَ وَالْأَبُ أَيْضًا عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ، فَالْخَصَّافُ قَالَ: يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ اكْتَسَبَ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الْكَسْبِ حُبِسَ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ وَإِنْ عَلَا فِي دَيْنِ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ سَفُلَ إلَّا فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إتْلَافُ النَّفْسِ وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ عَدَا الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ بِسَيْفٍ بِحَيْثُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِذَا لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِحَاجَتِهِمْ أَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الْكَسْبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ الْقَرِيبُ وَرَجَعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ وَالْجَدُّ أَوْ الْأُمُّ أَوْ الْخَالُ أَوْ الْعَمُّ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّغِيرِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ، وَكَذَا يُجْبَرُ الْأَبْعَدُ إذَا غَابَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ مُوسِرَةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ إلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ فِي الْأَوَّلِ، وَمَا نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَأُمٌّ مُوسِرَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ وَحْدَهُ لِجَعْلِهِ كَالْأَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَفِي نَفَقَاتِ الشَّهِيدِ: خَلَعَ امْرَأَتَهُ وَغَابَ عَنْهَا فَطَالَبَتْ عَمَّهُمْ فَعَلَى الْعَمِّ ثُلُثَا نَفَقَتِهِمْ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةً.
قولهُ: (لِقولهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ رِزْقَ الْوَالِدَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَوْلُودِ لَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ.
وَهُوَ الْوِلَادُ لَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُفِيدُ كَوْنَ مَبْدَإِ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لَهُ، فَإِذَا وَجَبَ نَفَقَةُ غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ فَوُجُوبُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَحِينَ ثَبَتَتْ نَفَقَتُهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى تَبَيَّنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَةِ هِيَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالرَّضَاعِ، حَتَّى إنَّ اللَّبَنَ الَّذِي هُوَ مَئُونَتُهُ إنَّمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا مِنْ غِذَائِهَا، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ إيجَابُ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَتْ النَّفَقَةُ سِوَى إخْرَاجِ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِكِفَايَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ مِنْ نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ شَخْصٍ آخَرَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى.
فِي الْخُلَاصَةِ.
قَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ النَّفَقَةِ فَقَالَ هِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَكَانَ كَنَفْسِهِ.
قولهُ: (وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تُرْضِعَهُ) يَعْنِي فِي الْحُكْمِ إذَا امْتَنَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقَيْدِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ.
قولهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ بَيَانُ الْحُكْمِ قَضَاءً بِمَعْنَى أَنَّهَا إذَا امْطتَنَعَتْ لَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَكَذَا غَسْلُ الثِّيَابِ وَالطَّبْخُ وَالْخَبْزُ وَكَنْسُ الْبَيْتِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ.
قولهُ: (وَذَلِكَ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَقْبَلْ هُوَ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ.
وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ لَا تُجْبَرُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَتَغَذَّى بِالدُّهْنِ وَالشَّرَابِ فَلَا يُؤَدِّي تَرْكُ إجْبَارِهَا إلَى التَّلَفِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ مَالَ الْقُدُورِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، لِأَنَّ قَصْرَ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ الطَّعَامَ عَلَى الدُّهْنِ وَالشَّرَابِ سَبَبُ تَمْرِيضِهِ وَمَوْتِهِ.
قولهُ: (مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا) أَيْ التَّرْبِيَةَ لَهَا بِحَقِّ الْحَضَانَةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِيَارِ الْفَقِيهَيْنِ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالسَّمَرْقَنْدِيّ أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَفِي كَلَامِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا يُفِيدُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ الْمُرْضِعَةَ أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ، بَلْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهَا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ تَحْمِلَ الصَّبِيَّ مَعَهَا إلَيْهِ أَوْ تَقول: أَخْرِجُوهُ فَتَرْضِعَهُ عِنْدَ فِنَاءِ الدَّارِ ثُمَّ تُدْخِلُ الصَّبِيَّ إلَى أُمِّهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِيَانَةً.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} إلَّا أَنَّهَا عُذِرَتْ لِاحْتِمَالِ عَجْزِهَا، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهَا فَكَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ.
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَجْهُ الْأُولَى) لَمَّا كَانَ التَّشْبِيهُ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ وَجْهِ الشَّبَهِ لَمْ يَكْتَفِ بِقولهِ قَبْلَ هَذَا وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قولهِ: وَهَذَا يَعْنِي عَدَمَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِلَّا لَوْ اُعْتُبِرَ عُمُومُ الشَّبَهِ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا فِي الْحُكْمِ وَالْوَجْهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا يَكُونُ تَأْخِيرُ ذِكْرِ وَجْهِهِ لِلْإِيمَاءِ إلَّا أَنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ، وَكَذَا ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْقُدُورِيِّ الْمُعْتَدَّةَ فِي قولهِ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، إذْ مِنْ عَادَتِهِ تَأْخِيرُ وَجْهِ الْقول الْمُخْتَارِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ هُوَ قِيَامُ نَفْسِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَامْتَنَعَ شَهَادَتُهُ لِمُعْتَدَّتِهِ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ بَائِنٍ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْإِرْضَاعِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِإِرْضَاعِ ابْنٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا (وَإِنْ) (انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا) يَعْنِي لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا (جَازَ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ (فَإِنْ قَالَ الْأَبُ لَا أَسْتَأْجِرُهَا وَجَاءَ بِغَيْرِهَا فَرَضِيَتْ الْأُمُّ بِمِثْلِ أَجْرٍ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ فَكَانَ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا (وَإِنْ الْتَمَسَتْ زِيَادَةً لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقولهِ تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أَيْ بِإِلْزَامِهِ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا) اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الضَّرَرِ بِقولهِ تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وَالضَّرَرُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إرْضَاعِهِ إذَا أَلْزَمَتْ وَالْعَجْزُ مُبْطِنٌ فَأُقِيمَ امْتِنَاعُهَا عَنْهُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ الْإِرْضَاعِ مَعَ دَاعِيَةِ حُنُوِّ الْوَالِدَةِ ظَاهِرٌ فِي عَجْزِهَا عَنْهُ، فَلِذَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ أَوْ مُعْتَدَّةٌ عَنْ رَجْعِيٍّ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ الْأَوْجَهُ ظَهَرَ عَدَمُ عَجْزِهَا فَظَهَرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهَا وَلَا أَجْرَ يُسْتَحَقُّ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْوَاجِبِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَالِدَاتِ فِي قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} أَعَمُّ مِنْ الْبَائِنَاتِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَامًّا عَلَى الْمَنْكُوحَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ وَالْبَوَائِنِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَفِيهَا وَبَعْدَهَا، وَالْمَانِعُ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ هُوَ الْوُجُوبُ وَهُوَ عَامٌّ فَيَعُمُّ الْمَنْعُ الْكُلَّ إذَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُنَّ وَذَلِكَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْإِرْضَاعِ بِأَجْرٍ.
وَغَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَهِيَ عَلَى الْأَبِ لَا الْأُمِّ.
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ أَوْجَبَهَا الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ عَلَى الْأُمِّ بَعْدَ أَنْ أَوْجَبَ رِزْقَهُ لَهَا بِإِدْرَارِ الثَّدْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا إلْقَامُهُ ثَدْيَهَا، وَثُبُوتُ هَذَا الْإِيجَابِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهَا مُقَيَّدًا بِإِيجَابِ رِزْقِهَا عَلَيْهِ بِقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فَفِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ بِرِزْقِهَا وَفِيمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَا يَقُومُ بِشَيْءٍ فَتَقُومُ الْأُجْرَةُ مَقَامَهُ.

متن الهداية:
(وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاحْتِبَاسُ فَوَجَبَتْ النَّفَقَةُ.
وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ) وَأَطْلَقَهُ فَعَمَّ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْمَالِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَطْ فَلِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُعْطِي مِنْهُ أَجْرَ رَضَاعِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ الْمُوسِرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِبَاسُ ذَلِكَ لَهُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ إيجَابِ نَفَقَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا مُحْتَبِسَةٌ لِغَرَضِ الْآخَرِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، أَمَّا الْوَلَدُ فَنَفَقَتُهُ لِلْحَاجَةِ، وَبِغِنَاهُ انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُ فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.