فصل: فَصْلٌ: نفقة الأبوين والأجداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ: نفقة الأبوين والأجداد:

(وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقولهِ تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا، وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ.
وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهَا بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا لِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودٍ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ وَجُزْءَ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِكُفْرِهِ لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ جُزْئِهِ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) نفقة الأبوين والأجداد:
قولهُ: (وَعَلَى الرَّجُلِ) أَيْ الْمُوسِرِ.
قولهُ: (وَأَجْدَادُهُ) يَدْخُلُ فِيهِ الْجَدُّ لِأَبٍ وَالْجَدُّ لِأُمٍّ وَإِنْ عَلَوْا، وَفِي جَدَّاتِهِ جَدَّاتُهُ لِأَبِيهِ وَجَدَّاتُهُ لِأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ.
وَقولهُ: إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ يُوَافِقُ بِإِطْلَاقِهِ قول السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى نَفَقَتِهِ، بِخِلَافِ قول الْحَلْوَانِيِّ: إنَّهُ لَا يُجْبَرُ إذَا كَانَ الْأَبُ كَسُوبًا لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ الِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ، فَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَسُوبًا يَجِبُ أَنْ يَكْتَسِبَ الِابْنُ وَيُنْفِقَ عَلَى الْأَبِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ مُجَرَّدُ الْفَقْرِ.
قِيلَ: هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى فِي إيكَالِهِ إلَى الْكَدِّ وَالتَّعَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ الْمُحَرَّمِ بِقولهِ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ الْغَنِيَّةِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ لَهُ فَكَانَ كَاسْتِحْقَاقِ الْقَاضِي الْغَنِيِّ.
قولهُ: (نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ) بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} فَفَرَضَ سُبْحَانَهُ مُصَاحَبَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا مَعَ الْجُوعِ وَالْعُرَى وَيَتَقَلَّبَ هُوَ فِي النِّعَمِ إلَى أَنَّ مَحْمَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْحَرْبِيَّيْنِ، فَأَمَّا الْآبَاءُ الْحَرْبِيُّونَ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا لَا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ لِقولهِ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} إلَى قوله: {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَةِ الْأَبَوَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَصَادَقَانِ فِي الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَتَنْفَرِدُ آيَةُ الْمُصَاحَبَةِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَآيَةُ النَّهْيِ فِي غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ فَتَعَارَضَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ فَقُدِّمَتْ آيَةُ النَّهْيِ لِتَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: النَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاَلَّذِينَ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ قِتَالٌ فِي الدِّينِ وَإِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُمَا قِتَالٌ وَلَا مُظَاهَرَةٌ عَلَى إخْرَاجٍ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمُجَرَّدِ جَامِعِ كَوْنِهِمْ حَرْبًا لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ بِمَجْمُوعِ مَنْ تَحَقَّقَ الْقِتَالُ وَالْإِخْرَاجُ مِنْهُ، وَأَيْضًا صَرَّحَ النَّصُّ بِعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ بِقولهِ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا أَيْضًا حَرْبِيُّونَ.
قولهُ: (وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي اللَّفْظِ: أَعْنِي لَفْظَ الْأَبَوَيْنِ الَّذِي هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ فِيمَا إذَا قَالُوا آمَنُونَا عَلَى آبَائِنَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ دُخُولِ الْأَجْدَادِ لِعُمُومِ انْتِظَامِ اللَّفْظِ، فَإِنْ أَرَادَ إلْحَاقَهُمْ بِالْقِيَاسِ فَلَا حَاجَةَ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّلَ بِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ بَلْ يُعَلَّلُ اسْتِحْقَاقُ الْأَبَوَيْنِ النَّفَقَةَ بِتَسَبُّبِهِمْ فِي وُجُودِهِ وَيُلْحَقُ بِهِمْ الْأَجْدَادُ وَيَعْتَبِرُهُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ، وَمِنْ الْعَجَبِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِمْ إيَّاهُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ فِي الْأَمَانِ لِيَدْخُلَ الْأَجْدَادُ مَعَ أَنَّ الْأَمَانَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ.
وَقولهُ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ إلَخْ قِيَامُهُ مَقَامَهُ فِي الْوِرَاثَةِ وَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ وَلَدِ الْوَلَدِ، هَذَا وَلَوْ قَالَ: إنَّهُمْ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَالِدَاتِ كَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ صَاحِبْهُمَا الْوَالِدَانِ لَا الْأَبَوَانِ.
قولهُ: (أَمَّا الزَّوْجَةُ إلَخْ) عُرِفَ مِنْ قولهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا أَنَّهُ حَيْثُ أَضَافَ إيجَابَ النَّفَقَةِ إلَى الْعَقْدِ فَهُوَ إضَافَةٌ إلَى الْعِلَّةِ الْبَعِيدَةِ وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ بِالذَّاتِ هُوَ الِاحْتِبَاسُ الْخَاصُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
قولهُ: (فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ إلَخْ) الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: فَكَمَا يُجْبَرُ عَلَى إنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ كُفْرِهِ وَذِمَّتِهِ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ جُزْئِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ بَلْ أَخَصُّ مِنْهُ وَهُوَ الْجَبْرُ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ يَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى إنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، أَمَّا فَتْوَاهُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ) وَكَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَخِيهِ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةَ بِالْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُوجِبَةٌ لِلصِّلَةِ، وَمَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ آكَدُ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ، فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى أَصْلَ الْعِلَّةِ وَفِي الْأَدْنَى الْعِلَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ) لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُمَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ) إظْهَارٌ لِبَعْضِ صُوَرِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهُوَ قولهُ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ.
وَقولهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ: أَيْ نَفَقَةَ غَيْرِ الْوِلَادِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ: يَعْنِي بِالْقَرَابَةِ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ مُقَيَّدٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قوله تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَالَ سُبْحَانَه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَعَلَّقَهُ بِهِ، وَلَا إرْثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ وَارِثًا بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
قولهُ: (فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى) وَهُوَ دَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ (أَصْلُ الْعِلَّةِ) وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ (وَفِي الْأَدْنَى) وَهُوَ النَّفَقَةُ (الْعِلَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ) بِالتَّوَارُثِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْدَاءٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ: يَعْنِي إنَّمَا شَرَعَ سُبْحَانَهُ إيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ مُقَيَّدًا بِالْإِرْثِ وَشَرَعَ عِتْقَ الْقَرِيبِ إذَا مَلَكَ قَرِيبَهُ الْمَحْرَمَ بِلَا ذَلِكَ الْقَيْدِ لِهَذَا الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ قَطِيعَةٌ وَاسْتِمْرَارُ مِلْكِهِ رَقَبَةَ الْقَرِيبِ فَوْقَهُ فِي الْقَطِيعَةِ فَأَوْجَبَ رَفْعَهَا بِلَا مُؤَكَّدٍ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ فِي الْقَطِيعَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ حِينَئِذٍ إلَّا بِمُؤَكَّدٍ.
وَمَا قِيلَ الضَّابِطُ عِنْدَنَا الرَّحِمُ وَالْمَحْرَمِيَّةُ وَالْإِرْثُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَلَهُمْ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ.
وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ} سِوَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَالْخَالُ كَذَلِكَ لَا مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي صُورَةِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ.
لَا يُقَالُ: هَذَا حِينَئِذٍ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ عَلَى إخْرَاجِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ.
لِأَنَّا نَقول: بَلْ هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ وَهُوَ الْوَارِثُ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّ نَفْيَهُ مُضَافٌ إلَى اللَّفْظِ.
قولهُ: (لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ) يُفِيدُ أَنَّهُ مَلَكَهُمَا (بِالنَّصِّ) وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ مِلْكًا نَاجِزًا فِي مَالِهِ.
قُلْنَا: نَعَمْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا مرفوعا: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةٌ لَكُمْ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهَا» وَمِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ مُؤَوَّلَ أَنَّهُ تَعَالَى وَرَّثَ الْأَبَ مِنْ ابْنِهِ السُّدُسَ مَعَ وَلَدِ وَلَدِهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مِلْكَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مَعَ وُجُودِهِ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَثْلَاثًا عَلَى الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَالْحَقُّ الِاسْتِوَاءُ فِيهَا لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْوِلَادِ وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عُلِّقَ فِيهِ بِالْإِرْثِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْوِلَادِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا تَوَارُثَ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُعْسِرًا وَهُمَا مُوسِرَانِ فَلَا نَفَقَةَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ وَيَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ مَعَ اعْتِبَارِهِ أَوْ لَا فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ بَيْنَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْحَلْوَانِيِّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ زَمِنًا وَكَسْبُ الِابْنِ لَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ الْأَبَ إلَيْهِ كَيْ لَا يَضِيعَ وَلَا يَخْشَى بِذَلِكَ الْهَلَاكَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَهْلَكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِفُّوا

وَفِي الْفَتَاوَى: يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَلَا يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَةِ ابْنِهِ.
وَفِي نَفَقَاتِ الْحَلْوَانِيِّ قَالَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ كَمَا قُلْنَا، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّمَا تَجِبُ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْأَبِ إذَا كَانَ الْأَبُ مَرِيضًا أَوْ بِهِ زَمَانَةٌ يَحْتَاجُ إلَى الْخِدْمَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا فَلَا.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ: فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنَّ الِابْنَ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى نَفَقَةِ خَادِمِهِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقُرْبُ بَعْدَ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ شَقِيقٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ وَإِنْ سَفُلَتْ أَوْ ابْنُ بِنْتٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى بِنْتِ الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ لِأَخِيهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَمَوْلَى عَتَاقَةٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَإِذَا كَانَ لِلْفَقِيهِ وَلَدٌ وَابْنُ ابْنٍ مُوسِرَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ فَعَلَى الْبِنْتِ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِقُرْبِ الْبِنْتِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِمُرَجِّحٍ وَهُمَا وَارِثَانِ.
وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ بِنْتٍ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِرْثُ لِوَلَدِ الِابْنِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ ابْنَانِ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَالْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَوَلَدٌ فَهِيَ عَلَى الْوَلَدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ وَيَتَرَجَّحُ الْوَلَدُ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الِابْنُ هُوَ غَنِيٌّ وَلَيْسَ عَلَيَّ نَفَقَتُهُ وَقَالَ الْأَبُ أَنَا مُعْسِرٌ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ الْقول لِلْأَبِ وَالْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الِابْنِ.

متن الهداية:
(وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا بَالِغًا فَقِيرًا زَمِنًا أَوْ أَعْمَى) لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ، وَالْفَاصِلُ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ} ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْحَاجَةِ وَالصِّغَرِ وَالْأُنُوثَةِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ.
بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا فَتَجِبُ نَفَقَتُهُمَا مَعَ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ.
قَالَ: (وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ وَالْجَبْرَ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) أَيْ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْخَبَرِ لِقَرِينَةٍ لَا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجَارِ وَالْمَجْرُورِ نَائِبَيْنِ عَنْ الْخَبَرِ لِوُجُوبِ تَعَلُّقِهِمَا بِالْكَوْنِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ هُنَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا وَهُوَ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ.
وَجْهُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ فِي قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} لِنَفْيِ الْمُضَارَّةِ لَا لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهَا الشَّرْعِيِّ.
قُلْنَا: نَفْيُهَا لَا يَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ الْإِشَارَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْكَافِ فَإِنَّهَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ.
وَجْهُ قول أَحْمَدَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا بِالْوَارِثِ فَقَيْدُ الْمَحْرَمِيَّةِ زِيَادَةٌ.
قُلْنَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقَاطِعِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ.
أُجِيبَ بِادِّعَاءِ شُهْرَتِهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِمَا فِي النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ طَارِقٍ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقول يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمَّك، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم: «فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذَوِي قَرَابَتِكَ» فَهَذِهِ تُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْإِرْثِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الثَّانِيَ لَا يُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ جَوَابُ قول السَّائِلِ مَنْ أَبَرُّ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ سُؤَالًا عَنْ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ سُؤَالًا عَنْ الْأَفْضَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ هَذَا مُعَارِضًا لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْوَارِثِ بِالنَّصِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقول بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ.
عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يُلْزِمَهُمْ أَنَّ الْوَارِثَ أُرِيدَ بِهِ الْقَرِيبَ عِنْدَ مَنْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ خُصُوصًا عَلَى رَأْيِكُمْ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَرِيبٍ وَارِثٍ لِتَوْرِيثِكُمْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ قولكُمْ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى قَالُوا: إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثَهُ لِابْنِ عَمِّهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ قولنَا: نَقْطَعُ بِأَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ لِوُجُوبِ الْوَصْلِ وَالْقَرَابَةِ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا بِالنُّصُوصِ هِيَ عَلَى الْمَحْرَمِيَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْوَصْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْقَرَائِبِ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ إمَّا عَدَمُ وَصْلٍ أَوْ يُؤَدِّي إلَيْهِ.
قولهُ: (فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ) وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ تَتَحَقَّقُ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ بَعْدَ كَوْنِهِ بَالِغًا.
وَلِهَذَا أَخَذَ فِي الْبَالِغِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْوِلَادِ الزَّمَانَةَ حَيْثُ قَالُوا: وَالِابْنُ الزَّمِنُ الْبَالِغُ، وَيُصَرِّحُ بِمَا قُلْنَا مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ: وَلَا يُجْبَرُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ إلَّا فِي الْوَلَدِ خَاصَّةً أَوْ فِي الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ إذَا مَاتَ الْوَلَدُ فَإِنِّي أُجْبِرُ الْوَلَدَ عَلَى نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا انْتَهَى.
وَهَذَا جَوَابُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ يَشُدُّ قول شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ بِخِلَافِ الْحَلْوَانِيِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
قولهُ: (لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ) بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُفِيدُ عَلَيْهِ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ وُجُودِ الْعِلَّةِ عَلَى قَدْرِ وُجُودِهَا.
مِثَالُهُ إذَا كَانَ لَهُ أَخٌ شَقِيقٌ أَوْ لِأَبٍ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ لِأَبٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْأَخِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُخْتِ الثُّلُثُ لِأَنَّ مِيرَاثَهُمَا مِنْهُ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَا لِأُمٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ كَإِرْثِهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا أَخٌ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أَوْ عَصَبَةٌ أُخْرَى فَالثُّلُثَانِ عَلَى الْعَاصِبِ، وَلَوْ كَانَ أَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالسُّدُسُ عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ الْأَسْدَاسِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ عَلَى أَبَوَيْهِ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ) لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ وَالْحَسَنِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِقولهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} وَصَارَ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فِيهِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ، وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا، وَنَفَقَةُ الْأَخِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْمُوسِرَاتِ أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، غَيْر أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ لَا إحْرَازُهُ، فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثُهُ يُحْرِزُهُ ابْنُ عَمِّهِ (وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ) لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً وَهُوَ يَسْتَحِقُّهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، إذْ الْمَصَالِحُ لَا تَنْتَظِمُ دُونَهَا، وَلَا يَعْمَلُ فِي مِثْلِهَا الْإِعْسَارُ.
ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَجْهُ الْفَرْقِ) أَيْ بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الزَّمِنِ.
قولهُ: (فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ) لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ الْكَامِلَةِ صَارَ كَنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ.
قولهُ: (عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ) بِأَنْ تَكُونَ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُخْرَى لِأَبٍ وَأُخْرَى لِأُمٍّ أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا عَلَى الشَّقِيقَةِ وَخُمُسٌ عَلَى الَّتِي لِأَبٍ وَخُمُسٌ عَلَى الَّتِي لِأُمٍّ لِأَنَّ مِيرَاثَهُنَّ مِنْهُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِنَّ.
قولهُ: (غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الَّذِي أَسْلَفْنَاهُ وَقَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ.
وَإِيضَاحَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَارِثِ غَيْرُ مُرَادَةٍ، فَإِنَّهُ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْإِرْثُ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ وَلَا نَفَقَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَذَّرَتْ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَالْخَالُ كَذَلِكَ فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ خَالٌ وَعَمٌّ أَوْ عَمَّةٌ فَإِنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الْعَمِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ، وَإِحْرَازُ الْعَمِّ الْمِيرَاثَ فِي الْحَالِ لَوْ مَاتَ، فَلَوْ كَانَ الْعَمُّ مُعْسِرًا وَجَبَتْ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالِ أَثْلَاثًا عَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْمُعْسِرُ كَالْمَيِّتِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قولهُ أَهْلِيَّةُ الْمِيرَاثِ لَا إحْرَازُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُحْرِزُ لِلْمِيرَاثِ غَيْرَ مَحْرَمٍ وَمَعَهُ مَحْرَمٌ، أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ مَحْرَمِيَّةُ كُلِّهِمْ وَبَعْضِهِمْ لَا يُحْرَزُ الْمِيرَاثُ فِي الْحَالِ كَالْخَالِ وَالْعَمِّ إذَا اجْتَمَعَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إحْرَازُ الْمِيرَاثِ فِي الْحَالِ وَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ، وَإِذَا اتَّفَقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْإِرْثُ فِي الْحَالِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ وَوَجَبَتْ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ.
قولهُ: (ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ) أَيْ بِنِصَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا بِمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ وَالْأُخْرَى بِمَا يَفْضُلُ عَنْ كَسْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَوْ كَانَ كَسْبُهُ دِرْهَمًا وَيَكْفِيهِ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّانِقَانِ لِلْقَرِيبِ، وَمَحْمَلُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى حَاجَةِ الْإِنْسَانِ إنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَلَا مَالَ لَهُ حَاصِلٌ اُعْتُبِرَ فَضْلُ كَسْبِهِ الْيَوْمِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ كَانَ لَهُ مَالٌ اُعْتُبِرَ نَفَقَةُ شَهْرٍ فَيُنْفِقُ ذَلِكَ الشَّهْرَ، فَإِنْ صَارَ فَقِيرًا ارْتَفَعَتْ نَفَقَتُهُمْ عَنْهُ.
وَمَالَ السَّرَخْسِيُّ إلَى قول مُحَمَّدٍ فِي الْكَسْبِ فَإِنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْمُؤَدِّي بِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ وَتَيْسِيرُ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ كَسْبُهُ يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ: قول مُحَمَّدٍ أَرْفَقُ وَمَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ إلَى قول أَبِي يُوسُفَ قَالَ: لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَنِهَايَةُ الْيَسَارِ لَا حَدَّ لَهَا، وَبِدَايَتُهُ النِّصَابُ فَيَتَقَدَّرُ بِهِ.
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَمَا نَقَلَ أَنَّهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ: وَبِهِ يُفْتَى وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ.
قولهُ: (وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ لَكِنْ لَا كَمَا يَقول أَبُو يُوسُفَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ النُّصُبِ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا كَانَتْ حَقَّ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ تُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ حَقٌّ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الْآدَمِيِّ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُرَاعَى فِيهَا مِنْ التَّيْسِيرِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَدْرُ نِصَابٍ فَاضِلٍ لِتَجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ.
فَإِذَا أَنْفَقَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ سَقَطَتْ، وَإِنْ كَانَ كَسُوبًا يُعْتَبَرُ قول مُحَمَّدٍ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قُضِيَ فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ (وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ فِي نَفَقَتِهِ جَازَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ (وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ) وَفِي قولهِمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ فِي حَالِ حَضْرَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي دَيْنٍ لَهُ سِوَى النَّفَقَةِ، وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَالْأَبُ أَوْلَى لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ، وَبَيْعُ الْمَنْقول مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا، وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ حَالَةَ الصِّغَرِ وَلَا فِي الْحِفْظِ بَعْدَ الْكِبَرِ.
إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَبِ فَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَقَارَ وَالْمَنْقول عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِكَمَالِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ (وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ فِي يَدِ أَبَوَيْهِ وَأَنْفَقَا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا حَقَّهُمَا لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَدْ أَخَذَا جِنْسَ الْحَقِّ (وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْحِفْظِ لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ أَمْرَهُ مُلْزِمٌ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ.
وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قَضَى فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقْضِي لَهُ بِالنَّفَقَةِ عِنْدَ غَيْبَةِ مَنْ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إذَا قَدَرَ بِلَا قَضَاءٍ، فَالْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَالزَّوْجَةُ إذَا قَدَرُوا عَلَى مَالٍ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا احْتَاجُوا.
قولهُ: (وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ) عِنْدَ قولهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَا يُقْضَى بِنَفَقَةٍ فِي مَالِ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ وَهُوَ قولهُ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ.
قولهُ: (وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ) وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ بَيْعُ عَقَارِ الِابْنِ إلَّا إذَا كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا.
قولهُ: (لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ) وَقَرَّرَ فِي النِّهَايَةِ وَجْهَ الْقِيَاسِ بِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَنْقَطِعُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ رَشِيدًا إلَّا فِيمَا يَبِيعُهُ تَحْصِينًا عَلَى الْغَائِبِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَيْدَ الرَّشِيدِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْأَبِ.
نَعَمْ إذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى مَا عُرِفَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْعُقُودَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ فِي جَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ: إنَّ مَنْعَ الْمَالِ لَا يُفِيدُ مَعَ فَكِّ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُهُ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يُبَاشِرَ الْعُقُودَ إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي بَابِ الْحَجْرِ.
قولهُ: (وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي نَفَقَتِهَا) مَعَ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْأَبِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِهِ مَعَ عُمُومِ وِلَايَتِهِ.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) حَاصِلُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ حِفْظِ مَالِ الِابْنِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، وَإِذَا مَلَكَهُ الْوَصِيُّ فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ الْأَبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ، وَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ صَارَ الْحَاصِلُ عِنْدَهُ الثَّمَنَ وَهُوَ جِنْسُ حَقِّهِ فَيَأْخُذُهُ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ بِالْبَيْعِ فَلَيْسَ لِلْأَبِ بَيْعُهُ إلَّا بِمَحْضِ الْوِلَايَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ صِغَرِ الْوَلَدِ أَوْ جُنُونِهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا صِحَّةُ بَيْعِ الْأَبِ لِلْعُرُوضِ عَلَى الْكَبِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّيْنِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فَلَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ، لَكِنْ نَقَلَ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ جَوَازَ بَيْعِ الْأَبَوَيْنِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْبَيْعَ إلَيْهِمَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ يَجْمَعُهُمَا وَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ سَوَاءٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.
أَمَّا بَيْعُهَا بِنَفْسِهَا فَبَعِيدٌ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالْوِلَادِ وَلَا بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَلْ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ.
قولهُ: (فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَ) أَيْ فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ الْغَائِبُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ غَيْرَ الْإِصْلَاحِ.
وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَان يُمْكِنُ اسْتِطْلَاعُ رَأْيِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا.
وَقَالُوا فِي رُفْقَةٍ فِي سَفَرٍ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمْ أَوْ مَاتَ فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِ وَجَهَّزُوهُ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُونَ اسْتِحْسَانًا وَمَاتَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَرَجُوا إلَى الْحَجِّ وَاحِدٌ فَبَاعُوا مَا كَانَ لَهُ مَعَهُمْ.
فَلَمَّا وَصَلُوا سَأَلَهُمْ مُحَمَّدٌ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ، وَكَذَا بَاعَ مُحَمَّدٌ كُتُبَ تِلْمِيذٍ لَهُ مَاتَ وَأَنْفَقَ فِي تَجْهِيزِهِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَتَلَا قوله تعالى: {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} وَقَالُوا فِي عَبْدٍ مَأْذُونٍ مَاتَ مَوْلَاهُ فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ فَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَا عَنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَوْقَافٌ وَلَا مُتَوَلِّيَ لَهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي جَمْعِ رِيعِهَا وَأَنْفَقَ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَحْتَاجُ مِنْ شِرَاءِ الزَّيْتِ وَالْحُصْرِ وَالْحَشِيشِ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا.
قولهُ: (فَظَهَرَ إلَخْ) يَعْنِي إذَا ضَمِنَهُ الْغَائِبُ ظَهَرَ مِلْكُهُ لِمَا دَفَعَهُ لِلْأَبَوَيْنِ حَالَ دَفْعِهِ لَهُمَا فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمِلْكِهِ لَهُمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ بِالنَّفَقَةِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ كِفَايَةً لِلْحَاجَةِ حَتَّى لَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ كَأَمْرِ الْغَائِبِ فَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) هَذَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا إذَا قَصُرَتْ لَا تَسْقُطُ وَمَا دُونَ الشَّهْرِ قَصِيرَةٌ فَلَا تَسْقُطُ.
قِيلَ وَكَيْفَ لَا تَصِيرُ الْقَصِيرَةُ دَيْنًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ لَمْ تَصِرْ دَيْنًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ فَائِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا مَضَى سَقَطَ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَدَّمْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ.
قولهُ: (لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ) وَعَنْ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً فَسُرِقَتْ أَوْ هَلَكَتْ كَانَ عَلَيْهِ أُخْرَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ بِمَا سُرِقَ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ تِلْكَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ لَيْسَتْ شَرْعًا لِحَاجَتِهَا بَلْ لِاحْتِبَاسِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَبِالتَّلَفِ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَنْتِفْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ فَلَا تَسْقُطُ) وَإِنْ كَانَ فِي نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي زَكَاةِ الْجَامِعِ أَنَّ دَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ بَعْدَ الْقَضَاءِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَسِوَى نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ: مَحْمَلُهُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ مَا إذَا أَذِنَ الْقَاضِي فِي الِاسْتِدَانَةِ وَاسْتَدَانُوا حَتَّى احْتَاجُوا إلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَدِينُوا بَلْ أَكَلُوا مِنْ الصَّدَقَةِ لَا تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا، وَإِلَى هَذَا مَالَ السَّرَخْسِيُّ وَحَكَمَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَصَرُوهُ وَقَيَّدُوا إطْلَاقَ الْهِدَايَةِ بِهِ، وَقِيلَ: مَحْمَلُهُ مَا إذَا قَصُرَتْ الْمُدَّةُ بِأَنْ تَكُونَ شَهْرًا فَأَقَلَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: نفقة العبد والأمة:

(وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَمَالِيكِ «إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ» (فَإِنْ امْتَنَعَ وَكَانَ لَهُمَا كَسْبٌ اكْتَسَبَا وَأَنْفَقَا) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَبْقَى الْمَمْلُوكُ حَيًّا وَيَبْقَى فِيهِ مِلْكُ الْمَالِكِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا كَسْبٌ) بِأَنْ كَانَ عَبْدًا زَمِنًا أَوْ جَارِيَةً لَا يُؤَاجَرُ مِثْلُهَا (أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى بَيْعِهِمَا) لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي الْبَيْعِ إيفَاءُ حَقِّهِمَا وَإِبْقَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْخُلْفِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ تَأْخِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ إبْطَالًا، وَبِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ» وَفِيهِ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَفِيهِ إضَاعَتُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجْبَرُ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) نفقة العبد والأمة:
قولهُ: (وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ إلَّا الشَّعْبِيُّ، الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قولهُ عَلَى مَا إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَأَنْفَقَ الْآخَرُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَكَذَا النَّخْلُ وَالزَّرْعُ وَالْمُودِعُ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا أَنْفَقَا عَلَى الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ، وَالدَّارُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا كَانَ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا فِي مَرَمَّتِهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِيهَا: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ فِي يَدِهِ أَمَةٌ أَنَّ هَذِهِ حُرَّةٌ قَبِلَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ ادَّعَتْ الْأَمَةُ أَوْ جَحَدَتْ، وَيَضَعُهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَتُفْرَضُ نَفَقَةُ الْأَمَةِ إنْ طَلَبَتْ عَلَى الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ.اهـ.
وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا صَغِيرًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ لِغَيْرِهِ هَذَا عَبْدُك أَوْدَعْته عِنْدِي فَأَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ مَا أَوْدَعَهُ ثُمَّ يَقْضِي بِنَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَالْقول لَهُ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَزَادَ فِيه: «وَمَنْ لَمْ يُلَائِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُمْ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ آخِرُ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْمُرَادُ مِنْ جِنْسِ مَا تَأْكُلُونَ وَتَلْبَسُونَ لَا مِثْلِهِ، فَإِذَا أَلْبَسَهُ مِنْ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَهُوَ يَلْبَسُ مِنْهُمَا الْفَائِقُ كَفَى، بِخِلَافِ إلْبَاسِهِ نَحْوَ الْجُوَالِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَتَوَارَثْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَهُمْ إلَّا الْأَفْرَادُ.
قولهُ: (فَإِنْ امْتَنَعَ وَكَانَ لَهُمَا كَسْبٌ اكْتَسَبَا وَأَنْفَقَا) عَلَى أَنْفُسِهِمَا.
حَتَّى لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ إلَّا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْكَسْبِ، أَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ فَلَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ إذَا أَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ.
قولهُ: (بِأَنْ كَانَ عَبْدًا زَمِنًا) يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِصِنَاعَةٍ لَا يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَحَمْلِ شَيْءٍ وَتَحْوِيلِ شَيْءٍ كَمُعِينِ الْبَنَّاءِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ نَقْلًا مِنْ الْكَافِي فِي نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ثُبُوتُهُ هُنَا أَوْلَى، وَكَذَا إذَا كَانَتْ جَارِيَةً لَا يُؤَاجَرُ مِثْلُهَا بِأَنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُخْشَى مِنْ ذَلِكَ الْفِتْنَةُ أُجْبِرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ أَوْ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ عَيْنًا إنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْكَسْبِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ عَلَى حَقِّهِ بِشَيْءٍ.
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا زَمِنًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهُ وَتَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الصَّغِيرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ عَصَبَةً لَهُ كَابْنِ الْعَمِّ.
قولهُ: (بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إلَخْ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِأَنَّ فِي الْإِجْبَارِ نَوْعَ قَضَاءٍ وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكُونُ آثِمًا مُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنْ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «امْرَأَةٌ دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ. وَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا» وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ»: يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «لَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كَانَ يَنْهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ».
وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا يَعْنِي كَالْأَمْلَاكِ مِنْ الدُّورِ وَالزُّرُوعِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِيهِ دَعْوَى حِسْبَةٍ فَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَلَا بِدَعَ فِيهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ.
وَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَالْقَاضِي يَقول لِلْآبِي إمَّا أَنْ تَبِيعَ نَصِيبَك مِنْ الدَّابَّةِ أَوْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا رِعَايَةً لِجَانِبِ الشَّرِيكِ، ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ.
وَفِي الْمُحِيطِ: يُجْبَرُ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْبَرْ لَتَضَرَّرَ الشَّرِيكُ.
فُرُوعٌ:
وَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ مَالِكًا كَانَ أَوْ لَا.
مِثَالُهُ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ وَخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانِ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْجَارِيَةُ.
وَمِثْلُهُ أَوْصَى بِدَارٍ لِرَجُلٍ وَسُكْنَاهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ السُّكْنَى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ، فَإِنْ انْهَدَمَتْ فَقَالَ صَاحِبُ السُّكْنَى: أَنَا أَبْنِيهَا وَأَسْكُنُهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِهِ، فَصَارَ كَصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَعَ صَاحِبِ السُّفْلِ إذَا انْهَدَمَ السُّفْلُ وَامْتَنَعَ صَاحِبُهُ مِنْ بِنَائِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَهُ وَيَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا غَرِمَ فِيهِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِنَخْلٍ لِوَاحِدٍ وَبِتَمْرِهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ، وَفِي التِّبْنِ وَالْحِنْطَةِ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ فَالنَّفَقَةُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَالتَّخْلِيصُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُمَا.
وَأَقول: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَا يَحْصُلُ لِكُلٍّ مِنْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُ ضَرَرُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قولهِمْ فِي السِّمْسِمِ إذَا أَوْصَى بِدُهْنِهِ لِوَاحِدٍ وَبِشَجَرِهِ لِآخَرَ فَإِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ لَهُ الدُّهْنُ لِعَدِّهِ عَدَمًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُبَاعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالْحِنْطَةِ وَالتِّبْنِ فِي دِيَارِنَا لِأَنَّ الْكَسْبَ يُبَاعُ لِعَلَفِ الْبَقَرِ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَا أَقول فِيمَا عَنْ مُحَمَّدٍ: ذَبَحَ شَاةً فَأَوْصَى بِلَحْمِهَا لِوَاحِدٍ وَبِجِلْدِهَا لِآخَرَ فَالتَّخْلِيصُ عَلَيْهِمَا كَالْحِنْطَةِ وَالتِّبْنِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْحَاصِلِ لَهُمَا، وَقَبْلَ الذَّبْحِ أُجْرَةُ الذَّبْحِ عَلَى صَاحِبِ اللَّحْمِ لَا الْجِلْدِ، وَنَفَقَةُ الْمَبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ قِيلَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ تَابِعَةً لِلْمَلِكِ كَالْمَرْهُونِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ مَا دَامَ فِي يَدِهِ، وَيَجُوزُ وَضْعُ الضَّرِيبَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَلْ إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْعَتَاقِ:

الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةُ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ.
قَالَ: (الْعِتْقُ يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي مِلْكِهِ) شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ، وَالْعَقْلِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْبَالِغُ: أَعْتَقْت وَأَنَا صَبِيٌّ فَالْقول قولهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُعْتِقُ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَجُنُونُهُ كَانَ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْإِسْنَادِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ إذَا احْتَلَمْت لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِقول مُلْزِمٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ».
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْعَتَاقِ:
اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إسْقَاطٌ إلَّا أَنَّهُ إسْقَاطُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالطَّلَاقُ إسْقَاطُ مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَأَمَّا إسْقَاطُ مِلْكِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَيُسَمَّى إبْرَاءً وَإِسْقَاطُ مِلْكِ الْقِصَاصِ يُسَمَّى عَفْوًا فَقَدْ مُيِّزَتْ أَنْوَاعُ الْإِسْقَاطَاتِ بِأَسْمَاءِ لِيُنْسَبَ إلَيْهَا مَعَ اخْتِصَارٍ، وَتَسْرِي إضَافَةً لِلْبَعْضِ إلَى الْكُلِّ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ قولهِمَا وَعَلَى قولهِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ إلَى الْكُلِّ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الْفَسْخَ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الطَّلَاقَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ عَلَى الْعِتْقِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ وَصْلًا لَهُ بِمُقَابَلِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَلِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَحَلِّهِ بِشَرْطِ وُجُودِهِ فَكَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ هُوَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ مِلْكَ الطَّلَاقِ، وَبَيَانُ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ يُبَيِّنُ نَفْسَ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالنَّدْبِ وَالسَّرَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْإِعْتَاقِ مِنْ الْمَحَاسِنِ فَإِنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، فَالْعِتْقُ إزَالَةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَهُوَ إحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ لِأَثَرٍ حُكْمِيٍّ لِمَوْتٍ حُكْمِيٍّ.
فَإِنَّ الْكَافِرَ مَيِّتٌ مَعْنًى.
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ وَلَمْ يُذَقْ حَلَاوَتَهَا الْعُلْيَا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُوحٌ، قَالَ تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، ثُمَّ أَثَرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ سَلْبُ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا تَأَهَّلَ لَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ إنْكَاحِ الْبَنَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَاتِ وَعَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ نِكَاحُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ، وَامْتَنَعَ أَيْضًا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْأَمْوَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ، فَكَانَ الْعِتْقُ إحْيَاءً لَهُ مَعْنًى، وَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَانَ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ الْعِتْقُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ الْإِعْتَاقَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ الَّتِي هِيَ الْهَلَاكُ الْأَكْبَرُ.
قُوبِلَ إحْيَاؤُهُ مَعْنَى بِإِحْيَائِهِ مَعْنًى أَعْظَمَ إحْيَاءً كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَيِّدِ الْأَخْيَارِ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْبَاقُونَ فِي الْعِتْقِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّارِ» وَزَادَ أَبُو دَاوُد «وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ إلَّا كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ يُجْزِي مَكَانَ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ» وَهَذَا يَسْتَقِلُّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ بِعِتْقِ الْمَرْأَتَيْنِ بِخِلَافِ عِتْقِهِ رَجُلًا.
وَالْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ لُغَةً عِبَارَتَانِ عَنْ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ عَتَاقُ الطَّيْرِ لِجَوَارِحِهَا.
وَعَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَفَرَسٌ عَتِيقٌ إذَا كَانَ سَابِقًا وَذَلِكَ عَنْ قُوَّتِهِ، وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ عَنْهُ مِلْكَ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ لِقُوَّةِ سَبْقِهِ، وَلِلْخَمْرِ إذَا تَقَادَمَتْ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَبِاعْتِبَارِ الْقِدَمِ وَالسَّبْقِ جَاءَ بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ:
عَلَيَّ أَلْيَةٌ عَتَقَتْ قَدِيمًا ** وَلَيْسَ لَهَا وَإِنْ طَلَبَتْ مَرَامُ

يَعْنِي قُدِّمَتْ وَأَنَّهَا لَا تُرَامُ بِحِلٍّ، وَبَعْدَهُ:
بِأَنَّ الْغَدْرَ قَدْ عَلِمَتْ مُعَدٌّ ** عَلَيَّ وَجَارَتِي مِنِّي حَرَامُ

الْمَعْنَى أَنَّهُ حَلَفَ مِنْ قَدِيمٍ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ وَلَا يَزْنِي بِجَارَتِهِ، وَكَذَا تَقول عَتَقَتْ إذَا سَبَقَتْ وَذَلِكَ لِفَضْلِ الْقُوَّةِ، وَالْعِتْقُ أَيْضًا يُقَالُ لِلْجَمَالِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَقِيلَ لِقَدَمِهِ فِي الْخَيْرِ.
وَقِيلَ لِعِتْقِهِ مِنْ النَّارِ، وَقِيلَ لِشَرَفِهِ فَإِنَّهُ قُوَّةٌ فِي الْحَسَبِ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ: يَعْنِي الْحَسِيبَ.
وَقِيلَ قَالَتْ أُمُّهُ لَمَّا وَضَعَتْهُ هَذَا عَتِيقٌ مِنْ الْمَوْتِ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ تَرْجِعُ إلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي مَعَانِيهَا، وَقِيلَ هُوَ اسْمُهُ الْعَلَمُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ وَضْعِهِ لَهُ الْجَمَالُ أَوْ تَفَاؤُلًا لَهُ بِالْحَسَبِ الْمُنِيفِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ لُغَةً الْقُوَّةُ فَالْإِعْتَاقُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَالْعِتْقُ فِي الشَّرْعِ: خُلُوصٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ فِي الْآدَمِيِّ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ ثَابِتًا بِالرِّقِّ، وَلَا يَخْفَى ثُبُوتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَعَنْ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْعِتْقُ الْحُرِّيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْمُفَسَّرَ هُوَ بِهَا لُغَةً أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْبَدَنِ أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى آخَرَ، وَلِذَا أَطْلَقُوهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا بِاعْتِبَارِ قُوَّةٍ تَرْجِعُ إلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، إلَّا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ عَلَى الرِّقِّ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُغْرِبِ حَيْثُ قَالَ: الْعِتْقُ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ، فَالْإِعْتَاقُ شَرْعًا إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ وَالتَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْخُلُوصُ، يُقَال طِينٌ حَرٌّ لِلْخَالِصِ عَمَّا يَشُوبُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَرْضٌ حَرَّةٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ.
وَالرِّقُّ فِي اللُّغَةِ الضَّعْفُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ رَقِيقٌ وَصَوْتٌ رَقِيقٌ، وَقَدْ يُقَالُ الْعِتْقُ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ تَجَوُّزٌ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ كَقول مُحَمَّدٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ.
وَسَبَبُهُ الْبَاعِثُ فِي الْوَاجِبِ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ وَفِي غَيْرِهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا سَبَبُهُ الْمُثْبِتُ لَهُ فَقَدْ يَكُونُ دَعْوَى النَّسَبِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْمِلْكِ فِي الْقَرِيبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِقْرَارَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ عَتَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالدُّخُولِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَدَخَلَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا زَوَالُ يَدِهِ عَنْهُ بِأَنْ هَرَبَ مِنْ مَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ نَفْسُهُ رُكْنُ الْإِعْتَاقِ اللَّفْظِيِّ الْإِنْشَائِيِّ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ عَنْهُ وَالْمِلْكُ وَصِفَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ غَالِبًا وَلَا يَلْزَمُ فِي تَحَقُّقِهِ شَرْعًا وُقُوعُهُ عِبَادَةً فَإِنَّهُ يُوجَدُ بِلَا اخْتِيَارٍ وَمِنْ الْكَافِرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً كَالْعِتْقِ لِلشَّيْطَانِ وَالصَّنَمِ وَكَذَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَرْتَدُّ أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْعِتْقِ لِزَيْدٍ.
وَالْقُرْبَةُ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَتَحْصُلُ أَنَّ الْعِتْقَ يُوصَفُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ.
هَذَا وَفِي عِتْقِ الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ مَا لَمْ يَخَفْ مَا ذَكَرْنَا أَجْرٌ لِتَمْكِينِهِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَغْلَى ثَمَنًا مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عِتْقُهُ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ الْمُسْلِمِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَفْضَلُهَا أَغْلَاهَا» بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ فَبَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ.
وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَعْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَمْكِينُ الْمُسْلِمِ مِنْ مَقَاصِدِهِ وَتَفْرِيغِهِ.
وَأَمَّا مَا يُقَالُ فِي عِتْقِ الْكَافِرِ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ رُسُوخُ الِاعْتِقَادَاتِ وَإِلْفُهَا فَلَا يَرْجِعُ عَنْهَا، وَلِذَا نُشَاهِدُ الْأَحْرَارَ بِالْأَصَالَةِ مِنْهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إلَّا ارْتِبَاطًا بِعَقَائِدِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَضَتْ حُرِّيَّتُهُ، نَعَمْ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي اسْتِحْبَابِ عِتْقِهِ تَحْصِيلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَفْرِيغُهُ لِلتَّأَمُّلِ فَيُسَلَّمُ فَهُوَ احْتِمَالٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَلَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ) عَنْ هَذَا قُلْنَا إنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ لِلْعَبْدِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ لِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَكَانَ عُمَرُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَالِهِ، قِيلَ: الْحَدِيثُ خَطَأٌ وَفِعْلُ عُمَرَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، وَلِلْجُمْهُورِ مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا عُمَيْرُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَك عِتْقًا هَنِيًّا فَأَخْبِرْنِي بِمَالِك، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِمَالِهِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا قَالَ الصَّبِيُّ إلَخْ) وَكَذَا إذَا قَالَ الْمَجْنُونُ إذَا أَفَقْت فَهُوَ حُرٌّ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامُهُمَا سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ حَالَ التَّكَلُّمِ الْمُلْزِمِ فَلَمْ يَقَعْ تَعْلِيقًا مُعْتَبَرًا.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ) رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطَّلَاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَقولهُ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْوَكَالَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتِ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُحَرَّرٌ أَوْ قَدْ حَرَّرْتُك أَوْ قَدْ أَعْتَقْتُك فَقَدْ عَتَقَ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِيهِ.
لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النِّيَّةِ وَالْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِخْبَارِ فَقَدْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ الْبَاطِلَ أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ الْعَمَلِ صُدِّقَ دِيَانَةً) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ (وَلَا يَدِينُ قَضَاءً) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ يُعْتَقُ) لِأَنَّهُ نِدَاءٌ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ هَذَا هُوَ حَقِيقَتُهُ فَيَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْوَصْفِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا إذَا سَمَّاهُ حُرًّا ثُمَّ نَادَاهُ يَا حُرُّ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْلَامُ بِاسْمٍ عَلِمَهُ وَهُوَ مَا لَقَّبَهُ بِهِ.
وَلَوْ نَادَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَا آزَادَ وَقَدْ لَقَّبَهُ بِالْحُرِّ قَالُوا يُعْتَقُ، وَكَذَا عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِدَاءٍ بِاسْمٍ عَلِمَهُ فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِيهِ) أَيْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِإِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ الْمَوْلَى وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِتْقُ بِأَيِّ صِيغَةٍ كَانَ فِعْلًا أَوْ وَصْفًا أَوْ مَصْدَرًا، فَالْفِعْلُ نَحْوَ أَعْتَقْتُك وَحَرَّرْتُك وَأَعْتَقَك اللَّهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِالنِّيَّةِ وَالْوَصْفِ نَحْوَ أَنْتَ حُرٌّ مَحْرَمٌ عَتِيقٌ مُعْتَقٌ، وَلَوْ فِي النِّدَاءِ كَيَا حُرُّ يَا عَتِيقُ فَإِنَّهُ هَكَذَا حُرٌّ، وَالْمَوْلَى كَقولهِ هَذَا مَوْلَايَ أَوْ يَا مَوْلَايَ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَالْمَصْدَرُ الْعَتَاقُ عَلَيْك وَعِتْقُك عَلَيَّ.
وَلَوْ زَادَ قولهُ وَاجِبٌ لَمْ يُعْتَقْ لِجَوَازِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ بِكَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتَ عِتْقٌ أَوْ عَتَاقٌ أَوْ حُرِّيَّةٌ عَتَقَ بِالنِّيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ.
فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إصْلَاحِ ضَابِطِ الصَّرِيحِ، ثُمَّ حُكْمُ الصَّرِيحِ أَنْ يَقَعَ بِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ لَا إنْ نَوَى غَيْرَهُ إلَّا فِي الْقَضَاءِ.
أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقَعُ إذَا نَوَى غَيْرَهُ، فَلَوْ قَالَ: نَوَيْت بِالْمَوْلَى النَّاصِرَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ هَازِلًا، فَإِنْ كَانَ هَازِلًا فَإِنَّهُ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ هَزْلًا هَكَذَا يَقْتَضِيهِ مَا صَدَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ كِتَابَ الْعِتْقِ مِنْ الْكَافِي مِنْ قولهِ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْهَزْلِ بِهِ.
وَذَكَرَ يَعْنِي مُحَمَّدًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّرِيحِ فَكُّ الرَّقَبَةِ.
وَدَفَعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْقَائِل: «أَلَيْسَا سَوَاءً؟ فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» وَقولهُ تُصْبِحُ حُرًّا إضَافَةٌ لِلْعِتْقِ وَتَقُومُ حُرًّا وَتَقْعُدُ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرُّ النَّفْسِ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ فِي أَفْعَالِك وَأَخْلَاقِك لَا يُعْتَقُ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةٍ وَقَالَ: أَمَّا أَنَا أَرَى أَنْ يُعْتَقَ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُعْتِقُ بِالنِّيَّةِ، قِيلَ وَالظَّاهِرُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِأَدْنَى تَأَمُّلٍ يَظْهَرُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا النَّقْلِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ صَرِيحٌ وَاسْتُبْعِدَ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا) عَلَى وَجْهٍ يَتَبَادَرُ بِلَا قَرِينَةٍ مَعَ الشُّهْرَةِ فِيهِ وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْوَضْعِ فَوَافَقَ قول الْإِيضَاحِ وَغَيْرَهُ حَيْثُ قَالُوا: الصَّرِيحُ مَا وُضِعَ لَهُ وَالْوَضْعُ يُغْنِي عَنْ النِّيَّةِ.
قولهُ: (فَأَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ، أَمَّا نِيَّةُ عَدَمِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَمُعْتَبَرٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَا سَيُذْكَرُ.
قولهُ: (وَالْوَضْعُ) أَيْ وَضْعُ التَّرْكِيبِ لَا الْمُفْرَدِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَلَا الْمُرَكَّبُ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي وَضْعِ الْمُرَكَّبِ بَلْ التَّرْكِيبَاتُ مَوْضُوعَةٌ وَضْعًا نَوْعِيًّا؛ مَثَلًا وَضْعُ نِسْبَةِ الْفِعْلِ الَّذِي عَيَّنَ الْوَاضِعُ صِيغَتَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُضِيِّ حَدَثِهِ إلَى شَيْءٍ لِيُفِيدَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ النُّطْقِ فَجَعَلَهُ لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وُضِعَ آخَرُ لَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَاجَةَ قَائِمَةٌ إلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ النُّطْقِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهَا، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ وَاللُّغَةُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَكَانَتْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَيْضًا يُثْبِتُونَ هَذَا الْمَعْنَى: أَعْنِي تَحْرِيرَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَقولهُ فَقَدْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الشَّارِعُ وَيُفِيدُهُ قولهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِجَعَلِ الشَّارِعِ تَقْرِيرَهُ، وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ تَقْرِيرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ قَبِيلَهُ.
وَكَلَامُ الْكَافِي فِي الْعِتْقِ أَيْضًا مِثْلُهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّلَاقِ، وَلَفْظُهُ فِي الْبَيْعِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ مُشْتَبَهًا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى مُتَبَادَرٌ فِي خُصُوصِ الْمَادَّةِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْخِطَابُ لِعَبْدٍ أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَقولهِ هَذَا حُرٌّ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِهِ أَيْضًا، وَالْوَضْعُ يُعْهَدُ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ مُخَاطَبٍ وَمُتَكَلِّمٍ فَلَمْ يَكُنْ وَضْعًا جَدِيدًا فَلْيَكُنْ ثُبُوتُ الْعِتْقِ عِنْدَهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بِهِ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي الْكَافِي هُنَا وَهُوَ وَغَيْرُهُ فِي الطَّلَاقِ.
ثُمَّ هَذَا التَّقْرِيرُ إنَّمَا يَجْرِي فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، أَمَّا فِي النِّدَاءِ فَالتَّحْرِيرُ فِيهِ لَا يَثْبُتُ وَضْعًا بَلْ اقْتِضَاءً عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ.
هَذَا وَيَلْحَقُ بِالصَّرِيحِ قولهُ لِعَبْدِهِ وَهَبْتُك نَفْسَك أَوْ بِعْتُك نَفْسَك مِنْك فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ إزَالَةُ مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَهُ لِآخَرَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِذَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ مُزِيلًا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، أَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك نَفْسَك بِكَذَا فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.
قولهُ: (وَلَا يَدِينُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَنَيْت أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فِي وَقْتٍ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ السَّبْيِ دِينَ، وَإِنْ كَانَ مُوَلَّدًا لَا يَدِينُ كَذَا فِي الْغَايَةِ.
فُرُوعٌ:
فِي الْبَدَائِعِ: دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَأَجَابَهُ آخَرُ فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الْمُجِيبُ.
وَلَوْ قَالَ عَنِيت سَالِمًا عَتَقَا فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يُعْتَقُ الَّذِي عَنَاهُ، وَلَوْ قَالَ يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ عَتَقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هُنَا إلَّا سَالِمٌ، وَفِيهِ قَالَ لِعَبْدٍ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ نَوَى الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَقَعَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ مَا يُفْهَمُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً لِأَنَّهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ تُوضَعْ لِلْمَعْنَى فَصَارَتْ كَالْكِنَايَةِ فَتَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَتَقَ قَضَاءً لِأَنَّهُ إذَا صَارَ حُرًّا فِي شَيْءٍ صَارَ حُرًّا فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ.
قولهُ: (وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ) هَذَا هُوَ حَقِيقَتُهُ تَكَلَّمَ فِي النِّدَاءِ فِي مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا هَذَا وَتَمَامُ عِبَارَتِهِ فِيهِ فَيَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْوَصْفِ فِيهِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ جِهَتِهِ فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ تَصْدِيقًا لَهُ وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ: أَيْ فِي مَسْأَلَةِ يَا ابْنِي.
ثَانِيهَا فِيمَا إذَا لَقِيَهُ حُرًّا ثُمَّ نَادَاهُ يَا آزَادَ أَوْ آزَادَ وَنَادَاهُ يَا حُرُّ أَنَّهُ يُعْتَقُ فَقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِدَاءٍ بِاسْمٍ عَلِمَهُ فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَانِ مَعًا يُفِيدَانِ أَنَّ عِتْقَهُ بِاعْتِبَارِ إخْبَارِهِ عَنْ ثُبُوتِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ فَيَثْبُتُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا إخْبَارَ فِي النِّدَاءِ إلَّا ضِمْنًا، فَإِنَّ قولهُ يَا حُرُّ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى يَا مَنْ اتَّصَفَ بِالْحُرِّيَّةِ فَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ شَرْعًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ ثُبُوتَهَا اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ الضِّمْنِيِّ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي نَقْلَ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّالِثِ وَهُوَ قولهُ يَا ابْنِي، يَا أَخِي حَيْثُ لَا يُعْتَقُ فَزَادَ فِيهِ فِي ثُبُوتِ الْإِعْتَاقِ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْمُنَادَى يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَالْعِتْقِ وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ يُجْعَلُ لِمُجَرَّدِ إعْلَامِهِ بِاسْتِحْضَارِهِ، وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِقَ مِنْ مِائَةٍ كَانَ ابْنًا لَهُ قَبْلَ النِّدَاءِ لَا بِهِ.
فَرْعٌ:
فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ قَالَ لِعَبْدِ غَيْرِهِ يَا حُرُّ اسْقِنِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ يُعْتَقُ، قِيلَ: هَذَا نَقْضٌ لِلْقَاعِدَةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ حَالَ النِّدَاءِ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُعْتَقُ.
قولهُ: (لِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْلَامُ) أَيْ إعْلَامُ الْعَبْدِ بِاسْمٍ عَلِمَهُ لِيَحْضُرَ بِنِدَائِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ عِلْمِيَّتُهُ لَهُ مَعْلُومَةً فَيَكُونُ قَصَدَ غَيْرَهُ، اسْتِحْضَارُ الذَّاتِ هُوَ الِاحْتِمَالُ دُونَ الظَّاهِرِ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُرِيدَهُ فَيُعْتَقُ حِينَئِذٍ.

متن الهداية:
(وَكَذَا لَوْ قَالَ رَأْسُكَ حُرٌّ أَوْ وَجْهُكَ أَوْ رَقَبَتُكَ أَوْ بَدَنُكَ أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَقَعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ) خَصَّ الْأَمَةَ لِأَنَّ قولهُ لِعَبْدِهِ فَرْجُك حُرٌّ فِيهِ خِلَافٌ قِيلَ: يُعْتَقُ كَالْأَمَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فَرْجُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الْعِتْقَ لَا تُعْتَقُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَرْجِ مَعَ الرِّقِّ يَجْتَمِعَانِ، وَفِي لِسَانِكَ حُرٌّ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ يُقَالُ هُوَ لِسَانُ الْقَوْمِ، وَفِي الدَّمِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فَرْجُك حُرٌّ عَنْ الْجِمَاعِ عَتَقَتْ، وَفِي الدُّبُرِ وَالِاسْتِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْبَدَنِ، وَفِي الْعِتْقِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَوْلَى ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِي: ذَكَرُكَ حُرٌّ. لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ هُوَ ذَكَرٌ مِنْ الذُّكُورِ وَفُلَانٌ فَحْلٌ ذَكَرٌ وَهُوَ ذَكَرُهُمْ.
قولهُ: (وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُجْزِي الْإِعْتَاقَ الْآتِيَةَ.
(وَلَوْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَنَوَى بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك، وَيُحْتَمَلُ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُرَادًا إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ: (وَكَذَا كِنَايَاتُ الْعِتْقِ) وَذَلِكَ مِثْلُ قولهِ خَرَجْتِ مِنْ مِلْكِي وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ وَلَا رِقَّ لِي عَلَيْكِ وَقَدْ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ نَفْيَ السَّبِيلِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ وَتَخْلِيَةُ السَّبِيلِ بِالْبَيْعِ أَوْ الْكِتَابَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ بِالْعِتْقِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ، وَكَذَا قولهُ لِأَمَتِهِ قَدْ أَطْلَقْتُك لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قولهِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ قولهِ طَلَّقْتُك عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ قَالَ لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ، وَسُمِّيَ السُّلْطَانُ بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ يَبْقَى الْمِلْكُ دُونَ الْيَدِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ، بِخِلَافِ قولهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنَّ نَفْيَهُ مُطْلَقًا بِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا فَلِهَذَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك) شُرُوعٌ فِي الْكِنَايَاتِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِنْهَا مَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِهِ إذَا نَوَاهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَاهُ، فَالْأَوَّلُ نَحْوَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ خَرَجْتِ مِنْ مِلْكِي لَا رِقَّ لِي عَلَيْك خَلَّيْت سَبِيلَك وَلَا حَقَّ لِي عَلَيْك عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقولهُ لِأَمَتِهِ أَطْلَقْتُك أَوْ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرَّةٌ عَتَقَ فِي الْجَمِيعِ إنْ نَوَى، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ لِلَّهِ أَوْ جَعَلْتُك لِلَّهِ خَالِصًا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ بِحُكْمِ التَّخْلِيقِ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ الْخُلُوصَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْعِتْقِ.
وَالثَّانِي نَحْوَ أَنْ يَقول لِعَبْدِهِ بِنْتَ مِنِّي وَلِأَمَتِهِ بِنْتِ عَنِّي أَوْ حَرُمْت عَلَيَّ أَوْ أَنْتِ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُغْرُبِي أَوْ اسْتَتِرِي أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اذْهَبِي أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِهَا وَإِنْ نَوَاهُ، وَكَذَلِكَ طَلَّقْتُك وَكَذَا سَائِرُ صَرَائِحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ لِمَا سَنَذْكُرُ، وَكَذَا إذَا قَالَ اذْهَبْ أَوْ تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْت مِنْ بِلَادِ اللَّهِ لَا يُعْتَقُ وَإِنْ نَوَى، وَفِي الْمُغْنِي اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت كِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ مِثْلُ الْحُرِّ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُعْتَقُ إذَا نَوَى كَقولهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مِثْلَ امْرَأَةُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا إنْ نَوَى الْإِيلَاءَ.
قولهُ: (لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ) قِيلَ فِيهِ تَسَامُحٌ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَالسَّلْطَنَةُ الْيَدُ، لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ يُفِيدُ أَنَّهُ التَّحَقُّقُ لَا التَّسَاهُلُ وَالتَّجَوُّزُ فَإِنَّهُ قَالَ:
وَسُمِّيَ السُّلْطَانُ بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الْأَصْلِيَّ لِلسُّلْطَانِ هُوَ الْيَدُ وَتَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهِ لِاتِّصَافِهِ بِالْيَدِ كَمَا تُسَمِّي رَجُلًا بِالْفَضْلِ لِاتِّصَافِهِ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْن الْحُجَّةِ لِقول ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحُجَّةُ وَالْيَدُ، فَإِذَا قَالَ لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك فَإِنَّمَا نَفْيُ الْحُجَّةِ وَالْيَدِ وَنَفْيُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ، بِخِلَافِ نَفْيِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ نَفْيُ الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ الْمَسْلُوكُ لَا يُرَادُ حَقِيقَةً هُنَا فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ الْمِلْكِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ يُتَوَصَّلُ بِهِ شَرْعًا إلَى إنْقَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِذَا صَحَّ جَهْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ عَتَقَ إذَا أَرَادَهُ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ فَإِنَّهُ الْيَدُ فَنَفْيُهُ نَفْيُ الْيَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ نَفْيَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ، فَلَوْ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ الْعِتْقِ وَفِيهِ إزَالَةُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ لَثَبَتَ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ مِمَّا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا حُجَّةَ لِي عَلَيْك.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ مَالَ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِالنِّيَّةِ فِي لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ.
وَعَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَنِيَ عُمْرِي وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي الْفَرْقُ بَيْنَ نَفْيِ السُّلْطَانِ وَالسَّبِيلِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِمَامِ لَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا إلَّا وَالْمَحَلُّ مُشْكِلٌ وَهُوَ بِهِ جَدِيرٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الْيَدَ الْمُفَسَّرَ بِهَا السُّلْطَانُ لَيْسَ مُرَادًا بِهَا الْجَارِحَةُ الْمَحْسُوسَةُ بَلْ الْقُدْرَةُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ سُلْطَانٌ: أَيْ يَدٌ يَعْنِي الِاسْتِيلَاءَ.
وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ السُّلْطَانَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْيُهُ نَفْيَ الِاسْتِيلَاءِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ مَا يُرَادُ بِنَفْيِ السَّبِيلِ بَلْ أَوْلَى بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَالْمَانِعُ الَّذِي عَيَّنَهُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعِتْقُ وَهُوَ لُزُومُ أَنْ يَثْبُتَ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ مِمَّا وُضِعَ لَهُ غَيْرُ مَانِعٍ، إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ أَوْسَعَ مِنْ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَجَازَاتِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ فِيهَا يَصِيرُ فَرْدًا مِنْ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، كَذَا هَذَا يَصِيرُ زَوَالُ الْيَدِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِيِّ: أَعْنِي الْعِتْقَ أَوْ زَوَالَ الْمِلْكِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ كَوْنُ نَفْيِ السُّلْطَانِ مِنْ الْكِنَايَاتِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ هَذَا ابْنِي وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ عَتَقَ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا؛ ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ النَّسَبُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ وَيُعْتَقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِهِ بِحَقِيقَتِهِ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ قَالَ هَذَا مَوْلَايَ أَوْ يَا مَوْلَايَ عَتَقَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ يَنْتَظِمُ النَّاصِرَ وَابْنَ الْعَمِّ وَالْمُوَالَاةُ فِي الدِّينِ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْعَتَاقَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ فَصَارَ كَاسْمٍ خَاصٍّ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً وَلِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَانْتَفَى الْأَوَّلُ.
وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ نَوْعُ مَجَازٍ، وَالْكَلَامُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْعَبْدِ تُنَافِي كَوْنَهُ مُعْتَقًا فَتَعَيَّنَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ مَوْلَاتِي لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الْمَوْلَى فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ مُرَادًا الْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ وَبِالنِّدَاءِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُعْتَقُ بِأَنْ قَالَ: يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ فَكَذَا النِّدَاءُ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْإِكْرَامَ بِمَنْزِلَةِ قولهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي.
قُلْنَا: الْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ فَكَانَ إكْرَامًا مَحْضًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ) قِيلَ هَذَا قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا مُعْتَبَرٌ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَذَكَرَ فِي الْيَنَابِيعِ الثَّبَاتُ لَيْسَ بِلَازِمٍ.
وَفِي النِّهَايَةِ رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي الْفَضْلِ أَرَادَ بِقولهِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ بِهِ الْكَرَامَةَ وَالشَّفَقَةَ حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ يُصَدَّقُ.
وَفِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: الثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا الْعِتْقِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُحِيطِ وَجَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُجْتَبَى: هَذَا لَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أُوهِمْت أَوْ أَخْطَأْت يُعْتَقُ وَلَا يُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ يُولَدُ مِثْلُهَا لِمِثْلِهِ هَذِهِ بِنْتِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا.
قَالُوا: هَذَا فِي مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ، أَمَّا مَجْهُولَةُ النَّسَبِ إنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ.
قَالَ فِي الْمُجْتَبَى عُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الثَّبَاتَ شَرْطُ الْفُرْقَةِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ النِّكَاحِ لَا الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الثَّبَاتَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا الْعِتْقِ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ دُونَ الْعِتْقِ عَلَى مَا سَمِعْت مِنْ التَّزَوُّجِ بِمَنْ أَقَرَّ بِبِنْتَيْهَا.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَابْنِ ابْنٍ أَوْ بِعَمٍّ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَنْكَرَهُ الْمَرِيضُ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ لِرَجُلٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَإِنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَرِيضَ جَحَدَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لَازِمًا، ثُمَّ إذَا قَالَ هَذَا ابْنِي هَلْ تَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ؟ قِيلَ لَا سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، وَقِيلَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ حَتَّى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهَذَا أَعْدَلُ.
قولهُ: (إذَا كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ) يَعْنِي إذَا كَانَ مِثْلُهُ فِي السِّنِّ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِمِثْلِ الْمُدَّعِي فِي السِّنِّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ.
وَحَاصِلُهُ إذَا كَانَ سِنُّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ ابْنَهُ لَا الْمُشَاكَلَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَبْيَضَ نَاصِعًا وَالْمَقول لَهُ أَسْوَدُ حَالِكٌ أَوْ بِالْقَلْبِ وَسِنُّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ ابْنَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ قولهُ: (وَإِنْ كَانَ يَنْتَظِمُ النَّاصِرُ) قَالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} وَابْنُ الْعَمِّ كَمَا ذُكِرَ فِي قوله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}.
قولهُ: (فَتَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ شَارِحٌ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعَانٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْمُرَادِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ.
وَقولهُمْ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً مَمْنُوعٌ بَلْ تَحْصُلُ لَهُ النُّصْرَةُ بِهِمْ.
عَلَى أَنَّا نَقول: الصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ، وَالْمُتَكَلِّمُ يُنَادِي أَنَا عَنِيت النَّاصِرَ بِلَفْظِ الْمَوْلَى وَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَهُمْ يَقولونَ: دَلَالَةُ الْحَالِ مِنْ كَلَامِك تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَسْفَلُ وَلَا تُعْتَبَرُ إرَادَةُ النَّاصِرِ وَنَحْوُهُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُكَابَرَةِ.اهـ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قولهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعَانٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْمُرَادِ إنْ أَرَادَ دَائِمًا مَنَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنْكَشِفَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّة لِاقْتِرَانِهِ بِمَا يَنْفِي غَيْرَهُ اقْتِرَانًا ظَاهِرًا كَمَا هُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَمَنْعُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِعَبْدِهِ لَا يُلَائِمُ مَا أَسْنَدَهُ بِهِ مِنْ قولهِ تَحْصُلُ النُّصْرَةُ بِهِمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ لَا يَسْتَدْعِي لِلنَّصْرِ عَبْدَهُ بَلْ بَنِي عَمِّهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ يَنْصُرُونَهُ لَكِنَّهُ يَأْنَفُ مِنْ دُعَائِهِمْ عَادَةً وَنِدَائِهِمْ لِذَلِكَ فَأَيْنَ دُعَاؤُهُ إيَّاهُمْ لِذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِمْ يَنْصُرُونَهُ.
وَأَمَّا قولهُ الصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْكِنَايَةَ فَطَغَى قَلَمُهُ فَنَقول هَذَا الصَّرِيحُ وَهُوَ قولهُ أَرَدْت النَّاصِرَ بِلَفْظِ الْمَوْلَى إنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ قولهِ عَمَّا هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فِي إرَادَتِهِ الْعَتِيقَ فَأَثْبَتَ حُكْمَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا، وَهَذَا الصَّرِيحُ بَعْدَهُ رُجُوعٌ عَنْهُ فَلَا يَقْبَلُهُ الْقَاضِي وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَنَحْنُ نَقول فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ أَرَادَ النَّاصِرَ لَمْ يُعْتَقْ فَأَيْنَ الْمُكَابَرَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِي هَذَا مَوْلَايَ إلَّا بِالنِّيَّةِ: وَأَنَّهُ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ.
قولهُ: (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي) وَهُوَ يَا مَوْلَايَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَبِقولهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِكْرَامُ بِمَنْزِلَةِ قولهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِيِّ أَفَادَ أَنَّهُمَا مِنْ الْكِنَايَاتِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ ذَلِكَ نَاوِيًا لِلْعِتْقِ عَتَقَ وَهَكَذَا فِي يَا سَيِّدُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعْتَقُ بِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَقِيلَ إذَا لَمْ يَنْوِ عَتَقَ فِي يَا سَيِّدِي لَا فِي يَا سَيِّدُ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ) وَهُوَ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سَيِّدًا بِالْعِتْقِ لِسَيِّدِهِ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُتَعَذِّرَةٌ لِفَرْضِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حُرٌّ غَيْرُ عَبْدٍ فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ، وَلَمْ يَلْزَمْ خُصُوصُ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ مَجَازِيًّا آخَرَ هُوَ الْإِكْرَامُ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَقُلْنَا إذَا نَوَى بِيَا سَيِّدِي الْعِتْقُ عَتَقَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صُيِّرَ إلَى الْأَخَفِّ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَامُ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ بِلَا نِيَّةٍ، بِخِلَافِ يَا مَوْلَايَ لِأَنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْأَسْفَلِ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بَعْدَ انْتِفَاءِ الْحَقَائِقِ الْآخَرُ بِالنَّافِي.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ النِّدَاءَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى إلَّا أَنَّهُ إذْ كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْمُنَادَى اسْتِحْضَارًا لَهُ بِالْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ كَمَا فِي قولهِ يَا حُرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِوَصْفٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ دُونَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْخَلَقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ابْنًا لَهُ بِهَذَا النِّدَاءِ فَكَانَ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ.
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَاذًّا أَنَّهُ يُعْتَقُ فِيهِمَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الظَّاهِرِ.
وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ فَإِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوْ يَا بُنَيَّةُ لِأَنَّهُ تَصْغِيرُ الِابْنِ وَالْبِنْتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَالْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ النِّدَاءَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى بِمَطْلُوبِيَّةِ حُضُورِهِ، فَإِنْ كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ تَضَمَّنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَصْدِيقًا لَهُ كَمَا سَلَفَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَجَرَّدَ لِلْإِعْلَامِ وَالْبُنُوَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا مِنْ جِهَةِ الْعِتْقِ إلَّا تَابِعًا لَوْ تَخَلَّقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ وَلَا تَثْبُتُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ، إذْ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ تَصْدِيقًا لَهُ فَيُعْتَقُ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا عَمِّي يَا خَالِي أَوْ يَا أَبِي يَا جَدًّ أَوْ يَا ابْنِي أَوْ لِجَارِيَتِهِ يَا عَمَّتِي يَا خَالَتِي أَوْ يَا أُخْتِي أَوْ لِعَبْدِهِ يَا أَخِي لَا يُعْتَقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَوَجَّهَهُ عَلَى وَجْهٍ يُدْفَعُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّدَاءِ اسْتِحْضَارَ الذَّاتِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُوصَفُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُنَادَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ جُعِلَ مُثَبِّتًا لَهُ مَعَ النِّدَاءِ وَإِلَّا لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا لِذَلِكَ اللَّفْظِ سَوَاءٌ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ أَوْ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ، فَقول الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ إلَى آخِرِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ إذَا خُلِقَ مِنْ مَائِهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنِيَّةٍ إلَّا بِذَلِكَ التَّحْقِيقِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَا بِاللَّفْظِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ لَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِتَصْحِيحِهِ يَجِبُ كَوْنُهُ خَبَرًا صَرِيحًا بِخِلَافِ مَا تَضَمَّنَهُ النِّدَاءُ بِالْوَصْفِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ فِي يَا حُرُّ مُسَاهَلَةٌ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ فَإِنَّ الثَّابِتَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ قَرَّرَ ثُبُوتَهَا اقْتِضَاءً لِلْخَبَرِ الضِّمْنِيِّ أَوْ إثْبَاتُهُ مِنْهُ بِلَفْظِ النِّدَاءِ بِالْوَصْفِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ شَاذَّةٌ فَلَيْسَ وَجْهُهَا إلَّا لُزُومُ الثُّبُوتِ اقْتِضَاءً لِلْخَبَرِ الضِّمْنِيِّ بِتَحَقُّقِ وَصْفِ الْأَبْنِيَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النَّسَبِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لَهُ، وَعَدَمُ الْعِتْقِ إذَا كَانَ مَعْلُومَ النَّسَبِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالُ الْحَقِيقَةِ فَيُرَدُّ فَيَلْغُو كَقولهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالٌ بِحَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبٌ لِحُرِّيَّتِهِ، إمَّا إجْمَاعًا أَوْ صِلَةً لِلْقَرَابَةِ، وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مُسْتَجَازٌ فِي اللُّغَةِ تَجَوُّزًا، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُشَابَهَةُ فِي وَصْفٍ مُلَازِمٍ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْمَجَازِ فَتَعَيَّنَ الْإِلْغَاءُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ قَطَعْت يَدَك فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَالْتِزَامِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَطَأٌ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْأَرْشُ، وَأَنَّهُ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْمَالِ فِي الْوَصْفِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ الْقَطْعِ، وَمَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فَالْقَطْعُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَهُ، أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَخْتَلِفُ ذَاتًا وَحُكْمًا فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهُ.
وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي وَمِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ: هَذَا جَدِّي قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ.
وَقِيلَ: لَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ الْأَبُ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي كَلَامِهِ فَتَعَذَّرَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمُوجِبِ.
بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ لِأَنَّ لَهُمَا مُوجِبًا فِي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَخِي لَا يُعْتَقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَقُ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنَتِي فَقَدْ قِيلَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَلَا يُعْتَبَرُ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَهُمْ أَنْ هَذَا كَلَامٌ مُحَالٌ) أَيْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مُحَالٌ فَيُرَدُّ فَيَلْغُو نَفْسُهُ، وَإِذَا عُدَّ لَغْوًا لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا أَصْلًا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا لَغَا قولهُ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْعِتْقُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمَجَازِ عِنْدَهُمَا تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمَجَازِيَّ لَيْسَ مَحَلًّا، وَعِنْدَهُ لَا بَلْ الشَّرْطُ صِحَّةُ التَّرْكِيبِ لُغَةً بِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَمَنْ سَعِدَ بِانْتِهَاضِ وَجْهِهِ فِي الْمَبْنِيِّ سَعِدَ بِهَذَا الْفَرْعِ وَنَحْوِهِ، وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ كُلَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ وَأَنَّهُ طَرِيقُ الْمَجَازِ، بَلْ يَشْتَرِطَانِ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ: أَيْ الْحَقِيقِيِّ.
فَتَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَنْ تَقول اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَلَفِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُصَارَ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَوْ تَعْيِينِ الْمَجَازِ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْخَلْفِيَّةِ، فَعِنْدَهُمَا الْخَلْفِيَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ: يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يُثْبِتُهُ الْمَجَازُ كَثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِلَفْظِ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي يُثْبِتُهُ نَفْسُ هَذَا اللَّفْظِ إذَا كَانَ حَقِيقَةً وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّكَلُّمِ: يَعْنِي نَفْسَ الْكَلَامِ فَيَكُونُ لَفْظُ هَذَا ابْنِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحُرِّيَّةِ خَلَفًا عَنْ هَذَا ابْنِي مُسْتَعْمَلًا فِي ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ.
وَقِيلَ بَلْ خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ هَذَا حُرٌّ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآخَرِ صَحِيحًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا خِلَافًا سِوَى فِي جِهَةِ الْخَلْفِيَّةِ، وَعَلَى مَا قِيلَ يَكُونُ فِيهَا، وَفِي الْأَصْلِ أَيْضًا أَنَّهُ نَفْسُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْمَجَازُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ اللَّفْظُ الَّذِي يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ قول أَبِي حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ بِحَقِيقَتِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَعَ تَعَذُّرِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ مِنْهُ، أَمَّا فِي هَذَا حُرٌّ فَصَحِيحٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا مَرَّةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ انْتِقَالِ الذِّهْنِ مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى الْمُتَجَوَّزِ فِيهِ لِتَوَقُّفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِهِ وَإِلَّا اسْتَحَالَ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَمَرَّةً بِالْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَا فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ حَيْثُ يَحْنَثُ عَقِيبَ الْيَمِينِ فِي الْأُولَى، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ دُونَ الثَّانِيَةِ، فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ، وَلَمَّا أَمْكَنَ الْبِرُّ فِي الْأُولَى لِتَصَوُّرِ مَسِّ السَّمَاءِ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّ الْخَلَفِ، وَلَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ تَنْعَقِدْ، فَرَأَيْنَا الْخَلَفَ يُعْتَمَدُ قِيَامُهُ مَكَانَ الْأَصْلِ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ فَاعْتِبَارُ الْخَلَفِيَّةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى فَهْمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِيَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَى اللَّازِمِ الْمُرَادِ، وَفَهْمُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ تَحَقُّقِهِ فِي الْخَارِجِ.
وَنُجِيبُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْخَلْفِيَّةَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، وَمَعْنَى خَلْفِيَّةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِآخَرَ هُوَ كَوْنُهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ شَرْعًا بِتَقْدِيرِ تَعَذُّرِ امْتِثَالِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فَرْعُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ، وَتَعَلُّقُ الْخِطَابِ دَائِرٌ مَعَ الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ كَالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَسِّ وَالتَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا خَلَفٌ اسْتَحَالَ أَصْلُهُ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ إذْ ذَاكَ، وَلَمْ تَجِبْ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْبِرِّ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ لُزُومِ إمْكَانِ مَحَلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِخَلَفِهِ، وَلُزُومِ إمْكَانِ مَعْنًى وُضِعَ لَهُ لَفْظٌ لِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ مَجَازًا، وَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ الْأَصْلِيِّ هُوَ وُجُوبُ الْبِرِّ لَا الْبِرُّ نَفْسُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ بِاللَّفْظِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ مَرَّةً فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأُخْرَى فِيمَا لَمْ يُوضَعْ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ سِوَى وُجُودِ مُشْتَرَكٍ يَجُوزُ التَّجَوُّزُ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ شَيْئًا سِوَى إلَى إدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى إدْرَاكِهِ لَيْسَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِتُسْتَعْلَمَ الْعَلَاقَةُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُتَصَوَّرْ لَمْ تُعْلَمْ الْعَلَاقَةُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ أَيْضًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ.
فَاشْتِرَاطُ إمْكَانِ وُجُودِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ اللُّغَةُ تَنْفِيهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَجُوزَ زَيْدٌ أَسَدٌ فَإِنَّهُ وِزَانُ هَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ مِنْهُ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمُرَكَّبِ الْحَقِيقِيِّ مُسْتَحِيلٌ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَسَدًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِهِ بَلْ وَعَلَى بَلَاغَتِهِ.
وَمَا فَرَّقَ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا مُسْتَعَارٌ بِجُمْلَتِهِ، بِخِلَافِ هَذَا أَسَدٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي نِسْبَتِهِ دُونَ الْأَلْفَاظِ مَمْنُوعٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ هَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَتَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ لَهُ وَلِلْكَلَامِ طَرِيقٌ يُتَجَوَّزُ بِهِ فِيهِ تَعَيَّنَ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ إذْ لَا مُزَاحِمَ كَيْ لَا يُلْغِي كَلَامَ الْعَاقِلِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي مَعْنَى عَتَقَ عَلِيٌّ مِنْ حِينَ مَلَكْته اسْتِعْمَالًا لِاسْمِ الْمَلْزُومِ فِي لَازِمِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ عَتَقَ دِيَانَةً قَضَاءً وَإِلَّا فَقَضَاءً، وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، بِخِلَافِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ تُخْلَقَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ فِيهِ إلَى الْمَجَازِ فَلَغَا ضَرُورَةً.
وَقولهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ إلَخْ جَوَابٌ عَنْ مَقِيسٍ آخَرَ لَهُمَا، وَهُوَ إذَا كَانَ قَالَ لِآخَرَ قَطَعْت يَدَك خَطَأً فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْغُو هَذَا الْكَلَامُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ إمْكَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ لَغْوَهُ لَيْسَ لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ لِتَعَذُّرِ كُلٍّ مِنْهُ وَمِنْ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي انْقَطَعَ سَبَبُهُ مَالٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْأَرْشُ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا عَنْ حَقِيقَةِ الْقَطْعِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ اللَّفْظِ تَجَوُّزًا بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ.
وَاَلَّذِي يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَالِ لَيْسَ الْقَطْعُ سَبَبًا لَهُ فَامْتَنَعَ إيجَابُ الْمَالِ مُطْلَقًا فَلَغَا ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ ذَاتُهَا حَاصِلَةً عَنْ لَفْظِ حُرٍّ أَوْ لَفْظِ ابْنِي، فَأَمْكَنَ الْمَجَازِيُّ حِينَ تَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ فَوَجَبَ صَوْنُهُ عَنْ اللَّغْوِ.
وَقولهُ (وَلَوْ قَالَ هَذَا أَبِي إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قِيلَ: إنَّهُ يَلْغُو فَقَالَ بَلْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَقُ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ هَذَا جَدِّي فَأَجَابَ عَنْهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَةِ مَنْ يُعْتَقُ بِمِلْكِهِ.
وَثَانِيًا بِالْفَرْقِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ اتِّفَاقًا.
وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي اللَّفْظِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ هَذَا أَخِي) أَيْ لِعَبْدِهِ (لَا يُعْتَقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَقُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ.
وَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ، فَحَوَالَةُ وَجْهِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَلَى قولهِ: إنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ وَجْهُ هَذِهِ وَهُوَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ سَبَبٌ لِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ، وَحَوَالَةُ الظَّاهِرِ عَلَى قولهِ فِي هَذَا جَدِّي، وَقِيلَ لَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ.
وَنَظِيرُهُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ، وَلَا ذِكْرَ لِمَا بِهِ يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي التَّرْكِيبِ فَلَا يُفِيدُ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ تُقَالُ لِمَا بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَالدِّينِ فَلَا يَتَعَيَّنُ النَّسَبُ إلَّا بِدَلِيلٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ أَبِي أَوْ مِنْ أُمِّي أَوْ مِنْ النَّسَبِ عَتَقَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ تَخْرِيجُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ قَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ التَّعْيِينِ لِثُبُوتِ اسْتِعْمَالِهِ كَثِيرًا فِي مَعْنَى الشَّفَقَةِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَجَازِيَّيْنِ أَوْ يَتَعَيَّنُ هَذَا لِأَنَّهُ أَيْسَرُ كَمَا قَرَرْنَاهُ فِي يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي لَمَّا تَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ إلَّا بِالنِّيَّةِ.
فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفَائِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى وَهِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ هُنَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ هَذَا أَخِي فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِهِ.
وَدَفَعَهُ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُشَارِكِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْقَبِيلَةِ، وَحُكْمُ الْمُشْتَرَكِ التَّوَقُّفُ إلَى الْقَرِينَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ أَبِي وَنَحْوِهِ عَتَقَ، وَبِأَنَّ الْعِتْقَ بِعِلَّةِ الْوِلَادِ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي اللَّفْظِ لِيَكُونَ مَجَازًا عَنْ لَازِمِهِ فَامْتَنَعَ لِعَدَمِ طَرِيقِهِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ مَنْعُ الِاشْتِرَاكِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي النَّسَبِ مَجَازٌ فِي الْبَاقِيَاتِ؛ وَلَوْ دَارَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى وَأَنَّ عِلَّةَ عِتْقِ الْقَرِيبِ عِنْدَنَا الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا خُصُوصَ الْوِلَادِ وَلِذَا يُعْتَقُ فِي هَذَا خَالِي وَعَمِّي وَهِيَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ.
وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا أَخِي بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِكْرَامَ وَالنَّسَبَ، بِخِلَافِ الْعَمِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ لِلْإِكْرَامِ عَادَةً، وَهَذَا يُقَوِّي مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي هَذَا ابْنِي فَلَا يَخْلُصُ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْعِتْقِ فِي هَذَا أَخِي وَهِيَ مَا نَقَلَهَا الْمُصَنِّفُ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا بِنْتِي) وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ هَذَا ابْنِي لَا يُعْتَقُ وَإِنْ كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ عَنْ عِتْقٍ فِي الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ لِجِهَةِ الْبِنْتِيَّةِ حَقِيقَةٌ.
وَالثَّانِي عَنْهُ فِي الْأُنْثَى فَانْتَفَى حَقِيقَتُهُ لِانْتِفَاءِ مَحَلٍّ يَنْزِلُ فِيهِ، وَلَا يَتَجَوَّزُ بِلَفْظِ الِابْنِ فِي الْبِنْتِ وَقَلَبَهُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ لَازِمٍ مَشْهُورٍ وَغَيْرِهِ، وَلِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وَالْآخَرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُضَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى الْبَدِيعِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الْمَجَازُ عَقْلِيًّا فِي نَفْسِ إضَافَةِ الْبِنْتِ، وَكُلٌّ مِنْ لَفْظِ الْإِشَارَةِ وَالْبِنْتِ وَالْيَاءِ حَقِيقَةٌ، فَالتَّجَوُّزُ فِي نِسْبَةِ الْمُرَادِ بِالْإِشَارَةِ بِالْبِنْتِيَّةِ إلَى مُسَمَّى الْيَاءِ عَنْ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَيَانُ تَعَذُّرِ عِتْقِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ وَالْمُسَمَّى مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ، تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى وَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَابِ الْمَهْرِ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ بِقولهِ حَقَقْنَاهُ فِي النِّكَاحِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَعَ الْمُسَمَّى جِنْسَانِ لِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِي الْإِنْسَانِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى: أَعْنِي مُسَمَّى بِنْتٍ وَهُوَ مَعْدُومٌ هُنَا لِأَنَّ الثَّابِتَ ذَكَرٌ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ تَخَمَّرِي وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تُعْتَقْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَقُ إذَا نَوَى، وَكَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَائِرُ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ عَلَى مَا قَالَ مَشَايِخُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مُوَافَقَةً إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ الْعَيْنِ، أَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَ التَّأْبِيدُ مِنْ شَرْطِهِ وَالتَّأْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ وَعَمَلُ اللَّفْظَيْنِ فِي إسْقَاطِ مَا هُوَ حَقُّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ فِيهِ بِالشَّرْطِ، أَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَثْبُتُ سَبَبٌ سَابِقٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا، وَلِهَذَا يَصْلُحُ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَكَذَا عَكْسُهُ.
وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً إثْبَاتُ الْقُوَّةِ وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ أُلْحِقَ بِالْجَمَادَاتِ وَبِالْإِعْتَاقِ يَحْيَا فَيَقْدِرُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَنْكُوحَةُ فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ إلَّا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ مَانِعٌ وَبِالطَّلَاقِ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ فَتَظْهَرُ الْقُوَّةُ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فَوْقَ مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَانَ إسْقَاطُهُ أَقْوَى وَاللَّفْظُ يَصْلُحُ مَجَازًا عَمَّا هُوَ دُونَ حَقِيقَتِهِ لَا عَمَّا هُوَ فَوْقَهُ، فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَانْسَاغَ فِي عَكْسِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَمِيعُ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ) كَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، وَالطَّلَاقُ وَالْكِنَايَةُ؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتْلَةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ بِنْتِ مِنِّي أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَاخْرُجِي وَقُومِي وَاذْهَبِي وَاغْرُبِي وَاخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَتَقَنَّعِي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، أَوْ قَالَ لَهُ طَلَّقْتُك لَا يُعْتَقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ نَوَى، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قولهِ أَطْلَقْتُك وَنَوَى حَيْثُ يُعْتَقُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا نَوَى.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا كَقولنَا، وَالْأُخْرَى كَقولهِ.
قولهُ: (لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ) أَيْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ (مُوَافَقَةً).
قولهُ: (إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ: أَعْنِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ التَّصَرُّفَيْنِ الْوَارِدَيْنِ عَلَيْهِمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ شَرْعًا لَا مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لِتَرَتُّبِ لَازِمِ مِلْكِ الْعَيْنِ شَرْعًا عَلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ التَّأْبِيدِ لَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَانْتِفَاءِ لَازِمِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُ وَهُوَ التَّوْقِيتُ حَتَّى إنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ، إذْ هُوَ لَازِمُ الْمِلْكِ الْمَنْفَعَةُ: أَعْنِي الْإِجَارَةَ، وَيُسْتَفَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِلْكُ الْوَطْءِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّ كُلًّا مِنْ التَّصَرُّفَيْنِ إسْقَاطٌ لَلْمِلْكِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَلَزِمَتْ السِّرَايَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَتَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ وَهِيَ مَعْنَى الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَيْسَ الْعِتْقُ هُوَ الْمُثْبِتُ لَهَا، بَلْ تَثْبُتُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْعِتْقِ وَهُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا، فَإِنَّ هَذِهِ خَصَائِصُ الْآدَمِيَّةِ، فَالْآدَمِيَّةُ مَعَ التَّكْلِيفِ هِيَ السَّبَبُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ بِمَانِعِ الرِّقِّ، وَبِالْعِتْقِ يَزُولُ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمُقْتَضَى كَالزَّوْجَةِ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ، وَالتَّزَوُّجُ امْتَنَعَ بِمَانِعِ الزَّوْجِيَّةِ حِفْظًا لِلنَّسَبِ وَلَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّتَهَا عَنْهُ، ثُمَّ بِالْفُرْقَةِ يَزُولُ الْمَانِعُ لَهَا عَنْهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ كِنَايَةً عَنْ الْعِتْقِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَوَّلِ لِلْمُنَاسَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا نَاسَبَ الشَّيْءُ غَيْرَهُ نَاسَبَهُ الْآخَرُ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ) أَيْ مَا لَا يَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى مُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْمَعْنَى جَائِزِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ لَا يُوجِبُ شَرْعًا ثُبُوتَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ قَالَ اسْقِنِي يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَوْ الطَّلَاقَ لَا يَقَعَانِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ لِأَنَّ مُسَوِّغَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى إمَّا وَضْعُهُ لَهُ أَوْ التَّجَوُّزُ بِهِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ.
وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّ التَّجَوُّزَ لَهُ طُرُقٌ مَخْصُوصَةٌ لُغَةً وَضْعُ وَاضِعِ اللُّغَةِ أَنْوَاعَهَا، وَهَذَا مَا يُقَالُ إنَّ نَوْعَ الْعَلَاقَةِ مَوْضُوعٌ وَوَضْعُ نَفْسِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ وَضْعًا عَامًّا، وَهَذَا مَا يُقَالُ الْمَجَازُ مَوْضُوعٌ وَضْعًا نَوْعِيًّا، وَحَقِيقَةُ الْحَاصِلِ مَعْنَى قولهِ كُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ بَيْنَ مُسَمَّاهُ وَمَعْنًى آخَرَ مُشْتَرَكٌ اعْتَبَرْته فَلِمُتَكَلِّمٍ أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَثُبُوتُ اعْتِبَارِهِ عَنْهُ بِأَنْ يَثْبُتَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ بِاعْتِبَارٍ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَثَبَتَ بِهِ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ النَّوْعِ لِتَحَقُّقِهِ فِي ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ أَوْ نُقِلَ اعْتِبَارُهُ.
وَالثَّابِتُ عَنْهُ فِي عَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ أَنْ يَكُونَ فِي وَصْفٍ خَرَجَ ظَاهِرٌ فِي الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ ثُبُوتُهُ فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمُتَجَوَّزِ بِهِ فَيَصِيرُ الْمُتَجَوَّزُ بِهِ مُشَبَّهًا وَالْمُتَجَوَّزُ عَنْهُ مُشَبَّهًا بِهِ، وَقولهُمْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ وَصْفًا مُخْتَصًّا مُرَادُهُمْ كَوْنُهُ ظَاهِرًا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ لَا حَقِيقَةَ الِاخْتِصَاصِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَتَجَوَّزُ بِاعْتِبَارِهِ إلَى مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ، فَلِلْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بِأَسَدٍ لِلْأَبْخَرِ وَالْمَحْمُومِ مَعَ أَنَّهُمَا وَصْفَانِ مُلَازِمَانِ لِلْأَسَدِ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا، وَلِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقول: الْإِعْتَاقُ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي فَصَّلْنَا فُرُوعَهَا لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ مِلْكِ تِلْكَ الْأُمُورِ قَبْلَهُ.
وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ عَدَمِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضِي لَا إلَى قِيَامِ الْمَانِعِ لِأَنَّ عَدَمَهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُقْتَضِي، وَلَوْ سَلَّمَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُقْتَضِي فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ مَا لَمْ يُثْبِتْ وُجُودَهُ وَلَمْ يُثْبِتْ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ الْآدَمِيَّةُ مَعَ التَّكْلِيفِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ مُجَرَّدُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مِلْكًا، أَمَّا عَقْلًا فَظَاهِرٌ، وَشَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا دَوَرَانُ ذَلِكَ الْمِلْكِ مَعَ الْحُرِّيَّةِ فَلْتَكُنْ هِيَ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ، وَالطَّلَاقُ لِإِزَالَةِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَيَعْمَلُ مِلْكُهَا الْقَائِمُ عَمَلَهُ حَتَّى يَجُوزَ الْخُرُوجُ وَالتَّزَوُّجُ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهَا مُتَحَقِّقُ الثُّبُوتِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا وَشَهَادَتُهَا وَلَمْ يُمْتَنَعْ مِنْهَا سِوَى مَا قُلْنَا لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ إزَالَةِ الْمَانِعِ فِي مَحَلٍّ لِيَعْمَلَ الْمِلْكُ الْقَائِمُ عَمَلَهُ وَبَيْنَ إثْبَاتِ الْمِلْكِ الزَّائِلِ لِمَحَلٍّ لِعَلَاقَةٍ تُجَوِّزُ التَّجَوُّزَ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِالْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ: أَيْ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ ثُبُوتُهَا فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ الْمُشْبِهِ بَلْ هُوَ هُنَا عَكْسُ هَذَا، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُشْتَرَكَ ثُبُوتُهُ فِي الْعِتْقِ أَكْثَرُ وَأَوْفَرُ مِنْهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالتَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي كَوْنَ الطَّلَاقِ هُوَ الْأَكْثَرُ إسْقَاطًا وَأَشْهَرُ بِهِ فَلِذَا جَازَ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ عَنْ الطَّلَاقِ لِوُقُوعِهِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَامْتَنَعَ عَكْسُهُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ حَيْثُ كَانَ سَبَبَ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ فِيهِ لَفْظُ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ، بِخِلَافِ قَلْبِهِ فَإِنَّهُ الْمُسَبَّبُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ إلَّا إنْ اخْتَصَّ وَإِلَّا وُجِدَ الْمُسَبَّبُ دُونَ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ فَلَا تَلَازُمَ فَلَا عَلَاقَةَ، وَمَا قِيلَ لَيْسَ سَبَبًا أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فَأَعْتَقَهَا لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْعِلَّةُ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَلَوْ سَلَّمَ فَالْعِلَّةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ عِنْدَ كَوْنِ الْحُكْمِ مَعْدُومًا قَبْلَهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَوْلَ بَعْدَ الرِّيحِ لَا يُوجِبُ حَدَثًا وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً لِلْحَدَثِ، وَعَلَى مَنْ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ يُوجِبُ حَدَثًا آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَوْجَبَ الْعِتْقَ حُرْمَةً أُخْرَى لِلْمُتْعَةِ، فَعَنْ هَذَا قِيلَ الْكِنَايَاتُ مِنْهَا مَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ كَقولهِ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِنَفْسِك أَوْ مَلَّكْتُكهَا أَوْ وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ أَوْصَيْت لَك بِنَفْسِك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك، فَهَذِهِ كِنَايَاتٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَهَذِهِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْعِتْقِ فَاسْتَغْنَتْ عَنْهَا.
وَمِنْهَا مَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا مَا لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى كَلَفْظِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ كَمَا فِي مَوْلَايَ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا سِوَى الْعِتْقِ انْتَفَتْ إرَادَتُهُ فَتَعَيَّنَ فَأُلْحِقَ بِالصَّرِيحِ، وَالِانْتِفَاءُ الْمَعْنَى الْمُزَاحِمُ هُنَا بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلْعَبْدِ فَتَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَخُصُّ الْوَضْعِيَّ وَإِلَّا فَيُجْعَلَانِ صَرِيحًا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ وَقَدْ اخْتَرْنَاهُ فِي كُتُبِنَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ الْمِثْلَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي عُرْفًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْحُرِّيَّةِ (وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ (وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ (وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ عَتَقَ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ إذْ الرَّأْسُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمَفْهُومُ مِنْ تَرْكِيبِ الِاسْتِثْنَاءِ لُغَةً وَهُوَ خِلَافُ قول الْمَشَايِخِ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي قولهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ إثْبَاتًا مُؤَكَّدًا فَلِوُرُودِهِ بَعْدَ النَّفْيِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْمُجَرَّدِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ، وَلَوْ قَالَ رَأْسُ حُرٍّ عَتَقَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ إذْ الرَّأْسُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِهِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْوِي كَمَا لَوْ قَالَ رَأْسُك حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقولةٌ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ لَوْ قَالَ رَأْسُك حُرٌّ عَتَقَ إذَا نَوَاهُ.
وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ خَاطَ مَمْلُوكُهُ ثَوْبًا فَقَالَ هَذِهِ خِيَاطَةُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ.
وَفِي الْهَارُونِيِّ: لَوْ رَآهَا تَمْشِي فَقَالَ هَذِهِ مِشْيَةُ حُرٍّ أَوْ تَتَكَلَّمُ فَقَالَ هَذَا كَلَامُ حُرٍّ لَمْ تُعْتَقْ، إلَّا أَنْ يَقول أَرَدْت الْعِتْقَ وَهَذَا قول أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قول نَفْسِهِ: يُعْتَقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَسَبُك حُرٌّ أَوْ أَصْلُك حُرٌّ وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَبْيٍ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبَوَاك حُرَّانِ.
وَفِي نَوَادِرِ الْمُعَلَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَوْ قَالَ فَرْجُك حُرٌّ مِنْ الْجِمَاعِ فَهِيَ حُرَّةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَيَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُعْتَقُ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَالَ: اسْتُك حُرٌّ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا ذَكَرُك حُرٌّ وَتَقَدَّمَ.