فصل: النظر الثاني في إثبات الدم بالشهادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.(الركن) الأول: في مظنتها:

وهو قتل الحر المسلم في محل اللوث إذا لم يثبت القتل ببينة ولا بإقرار من مدعى عليه. فلا قسامة في الأطراف والعبيد والكفارة.
واللوث: هو أمارة يغلب معها على الظن صدق مدعي القتل كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل. وفي شهادة من لا تعرف عدالته، أو العدل يرى المقتول يتشحط في دمه والمتهم نحوه، أو قربه عليه آثار القتل، خلاف، تفصيله: أن محمد بن عبد الحكم قال: يوجب القسامة ما يدل على قتل القاتل بأمر بين مثل أن يرى يجره ميتًا، أو يرى خارجًا متلطخًا بالدم من منزل يوجد فيه القتيل وليس معه غيره، فمثل هذا يوجب القسامة. ومثل أن يعدو عليه في سوق عامر فيقتله فيشهد بذل من حضر.
قال الشيخ أبو محمد: يريد وإن لم يعرفوا، إن تظاهرت ذلك كاللوث تكون معه القسامة. قاله من أرضى. وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث شدون شهادة المرأة الواحدة.
وروى محمد أيضًا عن أشهب عن مالك: أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. قال محمد: ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن العبد والصبي والذمي ليس بلوث.
وذكر القاضي أبو محمد في معونته: أن من أصحابنا من يجعل شهادة العبيد والصبيان لوثًا.
وقال القاضي أبو الوليد: اللوث عند مالك هو الشاهد العدل في معاينة القتل.
وقال القاضي أبو بكر: اختلف في اللوث اختلافاً كثيرًا، فمشهور المذهب أنه الشاهد العدل.
وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم.
وروى ابن حبيب عن مطرف قال: سألت مالكاً عن اللوث؟ فقال: اللوث اللطخ البين مثل اللفيف، من السواد والنساء والصبيان يحضرون ذلك، ومثل الرجلين أو النفر يشهدون على ذلك وهم غير عدول، فتكون القسامة معهم. قال مطرف: فقلنا لمالك: فالشاهد العدل؟ فقال: وذلك لوث. وهو أعلى اللوث وأحقه وأبينه.
قال ابن حبيب: قال لي مطرف: وقد كان بعض أصحاب مالك روى عنه أنه قال: لا يكون لوثًا إلا الشاهد العدل، وإنما ذلك وهم ممن روى ذلك، فاحذر هذا القول لا تقبله، فإني ظننت أنه قد انتهى إليك، وإنما قال له ابن أبي حازم يومًا، ونحن جميعًا معه، يا أبا عبد الله ترى الشاهد العدل لوثا؟ فقال: نعم. فحمله بعض من سمعه معنا أن تفسير اللوث الشاهد العدل لوثاً؟، فقال: نعم. فحمله بعض من سمعه معنا أن تفسر اللوث الشاهد العدل، وإنما معناه أن لوث أيضًا، وهو أبين اللوث وأظهره، وإنما اللوث بعينه اللطخ البين، والشاهد الواحد من اللوث والنفر غير الجائر الشهادة من اللوث، والسواد والصبيان والنساء إذا حضروا ذلك أيضًا من اللوث. وقد قيل بذلك عندنا بالمدينة. واللوث هو الالتباس من الأمر واختلاطه، ألا ترى أنك تقول: قد التاث هذا الأمر فاعرف هذا، وإياك أن تقبل غيره.
وقول المقتول في العمد: دمي عند فلان، لوث يوجب القسامة، إذا كان بالغاً مسلماً حرًا. ولا يشبه ذلك الدعوى بالمال أو غيره، لأن أهل هذا أصل قائم بنفسه. ومن يتحقق مصيره للآخرة وأشرف على الموت فلا يتهم في إراقة دم مسلم ظلمًا، وغلبة الظن في هذا تنزل منزلة غلبة الظن في الشاهد، وكيف لا والغالب من أحوال الناس عند الموت التوبة والاستغفار والندم على التفريط ورد المظالم، فكيف يتزود من دنياه قتل النفس المحرمة، هذا خلاف الظاهر وغير المعتاد.
واحتج أصحابنا أيضًا بقصة بقرة بني إسرائيل، واعترض عليهم بأن ذلك شرع من قبلنا، وبأنه آية نبي. فأجابوا عن الأول بأنه غير المذهب. وعن الثاني بأن موضع الحجة غير موضع الآية.
وفي كونه لوثاً في الخطأ روايتان، قال الإمام أبو عبد الله: والأصح عندنا أنه يقسم مع دعواه في الخطأ.
ولو شهد شاهدان بالضرب أو الجرح ثم مات المجروح أو المضروب بعد أيام، وقد أكل وشرب كان ذلك لوثًا، يقسم معه لمن ضربه أو جرحه مات.
فرع:
فإن لم يقم على الضرب أو الجرح إلا شاهدًا واحدًا فقال ابن القاسم: يقسم معه.
وقال غيره: لا يقسم على ذلك حتى يثبت أصل الجرح أو الضرب، ثم يقسم الورثة أنه مات من ذلك.
وإذا انفصلت قبيلتان عن قتيل لا يدرون من قتله، فالعقل على الذين نازعوه ونازعوا أصحابه، فتضمن كل فرقة من أصيب من الفرقة الأخرى، فإن كان من غيرها فعقله عليهما ولا قسامة في ذلك ولا قود في هذا. قال أشهب: وهذا إذا لم يثبت دمه عند أحد بعينه.
قال ابن القاسم: قول مالك: لا قسامة في هذا المعنى بدعوى الأولياء أن فلانًا قتله. وأما لو قال الميت: فلان قتلني، أو قام شاهد عدل أن فلانًا قتله، لكانت فيه القسامة وقاله أشهب. قال: وكذلك لو أقام شاهدين بأن فلانًا قتله بين الصفين لقتل به.
فرع:
فحيث شهد شاهد عدل على رؤية القتل، وقلنا: يقسم معه، فقال محمد: إنما يقسم مع شهادته إذ ثبت معانية القتيل فشهد بموته وجهل قاتله، كقصة عبد الله بن سهل. قال ابن الماجشون: لأن الموت يفوت، والجسد لا يفوت.
وقال أصبغ: ينبغي أن لا يعجل السلطان فيه بالقسامة حتى يكشف، فلعل شيئا أثبت من هذا، فإذا بلغ أقصى الاستيناء قضى بالقسامة مع الشاهد وبموته.
قال ابن القاسم: وإن شهد شاهدان أن فلانًا جرحه، ثم مات بعد أيام من تلك الجراحة ففيه القسامة
وقال سحنون في المستخرجة عن ابن القاسم: لا قسامة فيمن قتل بين الصفين وإن شهد على قتله شاهد أو على إقراره. قال محمد: رجع ابن القاسم عن هذا إلى أنه يقتل بالقسامة من ادعى عليه المقتول، قال: وهو قول مالك وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ.
فرع:
قال القاضي أبو محمد هذا كله إذا كان القتل من غير تأويل دين، فإن كان بخلاف ذلك فلا قسامة ولا دية ولا قود.
وأما مسقطات اللوث فأربعة:
الأول: أن يتعذر إظهاره عند القاضي، فلو ظهر عنده في جمع، بأن تشهد البينة بأنه قتل ودخل في هؤلاء الجمع ولم يعرفوه منهم بعينه، فللمدعي أن يستحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا ويغرمون الدية بلا قسامة من الأولياء. ومن نكل منهم كان العقل عليه.
وقال سحنون: لا شيء عليهم وشهادة البينة أنهم رأوه دخل فيهم ولا يعرفونه بعينه باطل.
الثاني: إذا ظهر اللوث في أصل القتل دون وصفه كما لو قال: دمي عند فلان، ولم يقل: عمدًا ولا خطأ، فإن اجتمع الأولياء على عمد، أو خطأ على إحدى الروايتين، أقسموا عليه واستحقوا ما يجب فيه، وإن اختلفوا فقال بعضهم: عمدًا، وقال بعضهم: خطأ، ثبت حكم الخطأ. ولو قال أحدهم: قتله عمدًا وقال غيرهم: لا علم لنا، بمن قتله، أو نكلوا على اليمين، سقط حقهم من القسامة وردت على المدعى عليه، ولو قال بعضهم: قتله خطأ، وقال بعضهم: لا علم لنا، بمن قتله، أو نكلوا عن اليمين، حلف مدعو الخطأ، واستحقوا أنصباءهم من الدية، ولا شيء للآخرين.
وقال الشيخ أبو بكر: القياس ألا يقسموا.
الثالث: دعوى الورثة خلاف ما قال الميت من عمد أو خطأ يسقط حقهم من القاسمة والدم والدية، ولا يقبل رجوعهم إلى قوله. قاله أشهب.
وقال ابن القاسم: إذا ادعوا خلافه فليس لهم أن يقسموا إلا على قوله، ولم يره.
الرابع: أن يدعي الجاني كونه غائبًا، ويقيم البينة على ذلك فيسقط أثر اللوث.

.الركن الثاني: في كيفية القسامة:

وهي أن يحلف الوارث، إن كان واحدًا، في الخطأ خمسين يميناً متوالية. وإن كانوا جماعة وزعت عليهم الأيمان على قدر مواريثهم، وجبر كسر اليمين بإكمالها على من عليه أكثرها، أو على جميع المشتركين فيها إن تساوت أنصباؤهم منها، وقيل: يجبر على الجميع وإن اختلف أنصباؤهم منها. فإن نكل بعضهم أو كان غائبًا فلا يأخذ الحاضر حصته ما لم يتم خمسين يمينًا. ثم من حضر من الغيب حلف حصته من الأيمان لو اجتمع الجميع وأخذ حصته من الدية، ومن نكل منهم سقط حقه.
وأما العمد فلا يحلف فيه أقل من رجلين. قال ابن القاسم: وكأنها من ناحية الشهادة.
ولا مدخل للنساء في العمد بوجه، بل تحلف العصبة، فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينًا واحدة، فإن اقتصروا على رجلين منهم فحلفا خمسين يمينًا فهل يجزيهم ذلك أو لا يجزيهم ويعدون ناكلين إن لم يحلف كل واحد منهم يمينًا؟ قولان لابن القاسم وعبد الملك.
قال محمد: وقول ابن القاسم صواب، لأن أيمان بعضهم تنوب عن البعض.
وإن زاد عددهم على الخمسين حلف منهم خمسون. وحكى القاضي أبو محمد رواية بأنهم يحلفون جميعهم. وإن نقص عددهم عن الخمسين ردت عليهم الأيمان حتى تكمل خمسين.
وإن كان الولي واحدًا استعان ببعض عصبته، ويجتزي في المعنيين بالواحد. ثم نكول المعينين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الولد والإخوة رواية واحدة. وفي غيرهم من العصبات روايتان: إحداهما مثل هذه، والأخرى أن الباقين يحلفون ويستحقون الدم. ثم حيث قلنا بسقوط القود في إحدى الصورتين فيحلف من بقي ويستحق نصيبه من الدية. وروي ترد الأيمان على المدعى عليه، فإن نكل لزمته الدية في ماله.
وقال محمد: قد اتفقوا على أن هذا يحبس إلى أن يحلف. وروي إن طال حبسه خلي.

.الركن الثالث: في حكم القسامة:

وهو القود في العمد والدية في الخطأ. فإن كان المقسم عليهم جماعة لم يقتل منهم بالقسامة إلا واحد. قال عبد الملك: لانا لا ندري أقتله الكل أو البعض، والمتحقق منهم واحد والزائد عليه مشكوك فيه فترك. وقتل المتحقق.
وقال المغيرة: تقتل به الجماعة.
وإذا فرعنا على المشهور فلا يقسم إلا على واحد بعينه ويقتل.
وقال أشهب: لهم أن يقسموا على الجماعة، ثم يقتلوا واحدًا منهم يختارونه، ثم يضرب كل واحد ممن بقي مائه سوط ويحبس سنة كما قدمنا.
وإذا فرعنا على الأول فروى ابن القاسم أنهم يقولون في القسامة: لمات من ضربه، ولا يقولون من ضربهم.

.الركن الرابع: في من يحلف:

وهو في العمد من له حق القصاص من الأولياء الرجال المكلفين. وأما في الخطأ فيحلف جميع المكلفين من الورثة، رجالاً كانوا أو نساء، ويحلفون على قدر مواريثهم كما سبق. ومهما قتل من لا وارث له فلا قسامة إذ تحليف بيت المال غير ممكن. ولا قسامة إلا بورثة نسب أو ولاء. ولا يقسم من القبيلة إلا من التقى معه إلى نسب ثابت ببينة. ولا يقسم المولي الأسفل، ولكن ترد الأميان على المدعى عليه فيحلف خمسين، فإن حلف ضرب مائة وحبس سنة، وإن نكل سجن أبدًا حتى يحلف أو يموت.
فرع:
قال ابن القاسم في ابن الملاعنة يقول: دمي عند فلان، فإن كانت أمه معتقة أو أعتق أبوها أو جدها أقسم مواليها في العمد.
قال أشهب: وعصبتها. وأما في الخطأ فليقسم ورثته بقدر مواريثهم من رجال ونساء، ويستكمل من حضر منهم خمسين يمينًا، وأما إن كانت من العرب فلا قسامة فيه. قال محمد: لان العرب خؤولته ولا ولاية للخؤولة، وكذلك من لا ولاة له ولا موالي، لأن ماله لبيت المال.

.النظر الثاني في إثبات الدم بالشهادة:

ولا يثبت القتل الموجب للقصاص برجل وامرأتين، ويثبت بذلك موجب الدية، ويشترط ألا تتضمن الشهادة بالدم جرا ولا دفعًا، فلو شهد على جر الموروث لم يقبل، كما تقدم في الشهادات. وإذا شهد بعض الورثة بعفو بعضهم سقط القصاص بإقراره، وإن كان فاسقا لا من حيث أنها شهادة.
ولو اختلف قول الشاهدين في صفة القتل فقال أحدهما: ذبحه وقال الآخر: إنه حرقه، والمشهود عليه منكر للشاهدين، فإن قام الأولياء بالشهادتين بطل الدم، وإن قاموا بأحدهما أقسموا معه، واقتصوا، وسقطت شهادة الآخر لاجتماع الأولياء والقاتل على تكذيبه، وإن اعترف القاتل بالذبح وقام الأولياء بشاهد التحريق فإن كان هو الأعدل أقمسوا معه وحرقوه على القول بالقصاص بالتحريق، وإن كان الآخر أعدل حلف معه القاتل وقتل ذبحًا بغير تحريق.

.كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات:

وهي سبع: البغي، والردة، والزنى، والقذف، والسرقة، الحرابة، والشرب.

.الجناية الأولى: البغي:

والنظر في صفات البغاة وأحكامهم:
أما الصفات: فقال القاضي أبو بكر: بناء (ب غ ي) في لسان العرب للطلب، قال الله تبارك وتعالى: {ذلك ما كنا نبغ}، ووقع التعبير بها ههنا عمن يبغي ما لا ينبغي، على عادة اللغة في تخصيص الأهم ببعض متعلقاته. وهو في الذي يخرج على الإمام يبتغي خلعه، أو يمتنع من الدخول في طاعته، أو يمنع حقًا وجب عليه بتأويل. قال: وقد قاتل الصديق رضي الله عنه البغاة وهم مانعو الزكاة بالتأويل قاتل علي رضي الله عنه من البغاة، طائفة أبت الدخول في بيعته وهم أهل الشام، وطائفة خلعته وهم أهل النهروان.
أما أحكام البغاة: فإن ولوا قاضيًا أو أخذوا زكاة أو أقاموا حقًا، فقال مطرف وابن الماجشون: ينفذ ذلك كله. قال ابن القاسم: لا يجوز ذلك بحال. وروي عن أصبغ القولان. وما أتلفوه في الفتنة فلا ضمان فيه من نفس ولا مال، هذا إن كانوا خرجوا على تأويل.
وأما أهل العصبية: وأهل خلاف لسلطانهم بغيًا بغير تأويل، فيؤخذون بالقصاص ورد المال قائمًا كان أو فائتًا.
وأما كيفية قتال البغاة: ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه: إذا خرجوا بغيًا ورغبة عن حكم الإسلام، فإن الإمام يدعوهم أولاً إلى الرجوع إلى الحق، فإن فعلوا قبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا قاتلهم وحل له سفك دمائهم، حتى يقهرهم. فإن تحققت الهزيمة عليهم وظهر الإمام عليهم ظهورًا بينًا وبئس من عودتهم، فلا يقتل منهزمهم، ولا يذفف على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم فلا بأس بقتل منهزمهم وجريحهم، ولا بأس أن يقتل الرجل في قتالهم أخاه وقرابته مبارزة، وغير مبارزة وجده لأبيه وأمه، فأما الأب وحده فلا أحب قتله على العمد مبارزة أو غيرها. وكذلك الأب الكافر مثل الخارجي.
وقال أصبغ: يقتل فيها أباه وأخاه. قالا: ولا تصاب أموالهم ولا حريمهم، وإذا أصيب منهم أسير فلا يقتل، بل يؤدب ويسجن حتى يتوب. وإن ثبت عليه أنه قتل أحدًا قتل به إن كانوا أهل عصبية بغير تأويل. وإن كان خروجهم بتأويل فلا قصاص عليهم.
وأما ما أصيب من سلاحهم وكراعهم فقال ابن حبيب: إن كانت لهم فئة قائمة استعان به الإمام ومن معه على قتالهم إن احتاجوا إليه، فإذا زالت الحرب رده إلى أهله. وما سوى الكراع والسلاح فيوقف حتى يرد إلى أهله ولا يستعان بشيء منه. وإن لم تكن لهم فئة قائمة رد ذلك كله من كراع وسلاح وغيره إليهم وإلى أهليهم عند الأمن منهم لا قبله.
وإذا امتنع أهل البغي، من كانوا أهل بصائر وتأويل أو أهل عصبية، من الإمام العدل، فله فيهم من رمي المجانيق وقطع المير والماء عنهم، وإرساله عليهم ليغرقهم، مثل ما له في الكفار، وإن كان فيهم النساء والذرية. ولا يرميهم بالنار إلا أن لا يكون فيهم نساء ولا ذرية فله ذلك، إلا أن يكون فيهم من لا يرى رأيهم ويكره بغيهم، أو خيف أن يكون فيهم فلا يفعل فيهم شيء مما ذكرناه.
وإذا استعان أهل التأويل بأهل الذمة ردوا إلى ذمتهم، ووضع عنهم مثل ما وضع عن المتأولين الذين هم معهم.
وإن كان المستعينون بأهل الذمة أهل عصبية وخلاف للإمام العدل فهو نقض لعهدهم موجب لاستحلالهم.
وإن كان السلطان غير عادل وخافوا جوره واستعانوا بأهل الذمة، فليس ذلك نقضًا لعهد أهل الذمة.
فرعان:
الفرع الأول إذا قاتل النساء مع البغاة بالسلاح فلأهل العدل قتلهن في القتال، فإن لم يكن قتالهن إلا بالتحريض ورمي الحجارة فلا يقتلن، إلا أن يكن قد قتلن أحدًا بذلك فيقتلن. ولو أسرن وقد كن يقاتلن قتال الرجال لم يقتلن إلا أن يكن قد قتلن فيقتلن. قال الشيخ أبو محمد: يريد في غير أهل التأويل.
الفرع الثاني:
إذا سأل أهل البغي الإمام العدل تأخيرهم أيامًا أو شهرًا حتى ينظروا في أمرهم، وبذلوا له على ذلك شيئا، لم يحل له أن يأخذ شيئا منهم، وله أن يؤخرهم إلى المدة التي سألوها ما لم يكونوا يقاتلون فيها أحدًا، أو يفسدون فلا يؤخرهم حينئذ.

.الجناية الثانية: الردة:

والنظر في حقيقتها وحكمها.
الطرف الأول: في الحقيقة، والردة عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، وفي غير البالغ خلاف وتفصيل تقدم بيانه في كتاب اللقيط.
وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، إما بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه. ولا ينبغي أن تقبل الشهادة على الردة مطلقًا دون تفصيل، لاختلاف المذاهب في التفكير.
وإذا أظهر الأسير في دار الحرب التنصر ولم يدر أمكره هو أم طائع، والتبس ذلك علينا بعد البحث عن حقيقة أمره، فهو محمول على الطوع حتى يثبت الإكراه، ولو ثبت إكراهه لم يكن مرتدًا، كما أنه لو ثبت اختياره التنصير من غير إجبار لكان مرتدًا.
فرع:
روى ابن القاسم فيمن أسلم ثم ارتد عن قرب، وقال: إنما كان إسلامه عن ضيق ضيق عليه: إن عرف أنه عن ضيق ناله أو مخالفة أو شبهة، فعسى أن يعذر.
وقاله ابن القاسم.
وقال أشهب: لا عذر له ويقتل، وإن علم أن ذلك عن ضيق كما قال.
وقال أصبغ: قول مالك أحب إلي، إلا أن يقيم على الإسلام بعد ذهاب الخوف، فهذا يقتل.وقاله ابن وهب وابن القاسم إذا كان على ضيق أو عذاب أو غرم أو خوف. قال أصبغ: وذلك إذا صح ذلك، وكان زمان يشبه ذلك في جوره.
وقال محمد في النصراني يصحب القوم في سفر فيظهر الإسلام ويتوضأ ويصلي وربما قدموه،فلما أمن أخبرهم وقال: أصنع ذلك تحصنًا بالإسلام لئلا يؤخذ ما معي أو تؤخذ ثيابي ونحو ذلك، فذلك له إن أشبه ما قال، ويعيدون ما صولا خلفه في الوقت وبعده. وروى يحيي بن يحيي عن ابن القاسم عن مالك مثله.
وقال سحنون: إن كان في موضع يخاف على نفسه فدرأ عن نفسه وماله فلا شيء عليه، ويعيد القوم صلاتهم. وإن كان في موضع هو فيه آمن فليعرض عليه الإسلام، فإن أسلم لم يكن على القوم إعادة. وإن لم يسلم قتل ويعيدون.
الطرف الثاني: في الحكم: وذلك يظهر في نفس المرتد وولده وماله وزوجته وجنايته. والجناية عليه أما نفسه فتهدر إن لم يتب، فإن تاب عصمها. وتوبته رجوعه وتغير حاله عما كان عليه، وذلك يعرف من المتظاهر بكفره برجوعه عن التظاهر الذي كان عيه بأن يظهر من الإيمان ضد ما كان يظهر من الكفر فيعرف تغير حاله عما كان عليه.
وأما الزنديق الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر أي كفر كان، إذا ظهرنا عليه وهو في حال زندقته يبدي لنا أنه مؤمن فادعى التوبة عما كان عليه والرجوع عنه، فلا يرجع إلى مجرد دعواه إذ لم يظهر صدقه ورجوعه عما كان عليه بما أبداه من دعوى الرجوع عنه، لأنه بما أبداه لم يخرج عن عادته ومذهبه، فإن التقية عند الخوف عين الزندقة. ولذلك نقول: لم تظهر توبته وتعرف فتقبل ولا نقلو: لا تقبل توبته، وإلى هذا أشار مالك رضي الله عنه بقوله: إن توبته لا تعرف نعم لو ظهرت لنا توبته لقبلناها، كما لو جاء تائبًا قبل أن يطلع على ما كان عليه إذا ظهرت التوبة بقوله، كما ظهر الكفر بقوله. ومن قال من أصحابنا: لا تقبل توبته إذا جاء تائبًا قبل الظهور عليه، فقوله شاذ بعيد عن المذهب.
فرع:
اختلف في الساحر إذا طلع عليه، فقيل: لا يقبل منه ما يدعيه من التوبة التي لا يعرف صدقه في دعواها إلا أن يأتي تائبًا منه قبل أن يطلع عليه، وهذا اختيار القاضي أبي محمد.
وقال ابن عبد الحكم وأصبغ ومحمد: هو كالزنديق إن أظهر سحره قبلت توبته وإن كان مستتراً به قتل ولم يستتب.
قال عبد الحكم وأصبغ: فإن كان لسحره مظهرًا فقتل إذ لم يتب، فماله لبيت المال، ولا يصلى عليه. وإن استسر بسحره فماله بعد القتل لورثته من المسلمين، ولا أمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم.
ثم عرض التوبة على المرتد واجب، والنص أنه يمهل ثلاثة أيام، وفي كون الإمهال واجبًا أو مستحبًا روايتان. قال مالك: وما علمت في استتابته تجويعًا ولا تعطيشًا، وأرى أن يقات من الطعام بما لا يضره، ولا عقوبة عليه إذا تاب.
وروى ذلك أشهب في العتبية وكتاب محمد. ولا فرق قدمنا بين أن يكون المرتد حرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، ارتد عن إسلام أصلي أو طارئ.
وأما ولد المرتد، فلا يلحق به في الردة إذا كان صغيرًا، إذ تبعية الولد لأبيه إنما تكون في دين يقر عليه، فإن قتل الأب على الكفر بقي الولد مسلمًا، فإن أظهر خلاف الإسلام أجبر على الإسلام. فإن غفل عنه حتى بلغ ففي إجباره على الإسلام. فإن غفل عنه حتى بلغ ففي إجباره على الإسلام خلاف إذا ولد قبل الردة، ثم في كونه بالسيف أو بالسوط خلاف أيضًا، وإن ولد بعدها أجبر إن بلغ. وقيل: إن بلغ ترك، ولا يكون كمن ارتد.
فرع:
قال: قال ابن حبيب في قوم ارتدوا وتناسلوا، ثم ظهر بهم أنهم وذراريهم لهم حكم المرتد، يستتاب الأكابر منهم، فإن تابوا وإلا قتلوا. وكذلك من بلغ من ذراريهم، ولا يرقون ولا يحل استرقاقهم بالسبي، وكل ما ولد للمرتد بعد ردته فلهم حكم المرتد، فلا يسترق تناسل منهم، ويجبر الصغار على الإسلام، ويستتاب من بلغ، فإن لم يتب قتل. قال ابن حبيب: وكذلك ذكر لي من كاشفته من أصحاب مالك.
وأما مال المرتد فيوقف، فإن عاد أخذه. وروى الشيخ أبو إسحاق: أن ماله لا يعود إليه، بل يكون فيئًا وإن عاد إلى الإسلام.
وقال بها ابن نافع.
فأما إن مات أو قتل على ردته فماله فيئ، إلا أن يكون عبدًا فماله لسيده. وأما حكم زوجة المرتد فقد تقدم في كتاب النكاح.
وأما حكم جنايته ففي كتاب محمد قال في المرتد: إذا قتل مسلمًا أو ذميًا عمدًا أو خطأ لم أجد لمالك فيه ما يتضح لي، واضطرب فيه أصحابه، فيجعله ابن القاسم مرة كالمسلم إن رجع، ومرة كالنصراني، ثم قال: أحب إلي إذا رجع أن يكون كأنه فعل ذلك وهو مسلم.
وكذلك فيما جرح أو جنى على عبد، أوس سرق أو قذف، فليقم عليه إن تاب ما يقام على المسلم إذا فعله، وتحمل عاقلته من الخطأ الثلث فأكثر، ويقتص منه الحر في جراح العمد، ويحد في قذفه، ويقطع إن سرق. وأما إن لم يتب فليقتل ولا يقام عليه من ذلك إلا الفرية. ولو قتل حرًا عمدًا في ردته وهرب إلى بلد الحرب، لم يكن لولاة المقتول في ماله شيء، ولا ينفق على ولده وعياله منه، بل يوقف، فإن مات فهو فيئ، وإن تاب ثم مات كان لورثته، وإن كان القتيل عبدًا أو ذميًا أخذ ذلك من ماله. وأشهب يرى لولاة المسلم أخذ الدية من ماله إن شاءوا عفوًا على القصاص وإن شاءوا صبروا حتى يقتلوه.
وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه إن قتل مسلمًا خطأ فديته في بيت المال، لأن ميراثه للمسلمين. وإن قتل نصرانيًا أو جرحه اقتص منه في القتل والجراح.
وإذا جرح مسلمًا لم يقتص منه، وإن قتله قتل به. قال محمد: والذي آخذ به أنه إن قتل مسلمًا عمدًا لم أعجل بالقصاص حتى أستتيبه، فإن لم يتب وقتل سقط عنه ذلك، إلا الفرية، وإن تاب اقتص منه. وإن قتل عبدًا أو نصرانيًا عمدًا، فذلك في ماله، قتل أو تاب.
وقال ابن حبيب: قال أصبغ: إذا قتل المرتد في ارتداده أو جرح أحدًا، عبدًا أو حرًا، مسلمًا أو نصرانيًا، أو افترى أو زنى أو سرق، أو شرب خمرًا، فإنه إن قتل فالقتل يأتي على ذلك كله، إلا الفرية فليحد للمقذوف ثم يقتل. وقتله الخطأ وجراحاته الخطأ في بيت المال إن قتل على ردته، وإن رجع إلى الإسلام سقط عنه ما كان من حد، وأخذ بالسرقة والفرية، وإن قتل عمدًا قتل ويقتص منه في الجراح العمد، ويحمل على عاقلته الخطأ في النفس.
ولو جرح عبدًا أو نصرانيًا أو قتله، لم يقتص منه في عمد، وغرم ديته أو ثمنه في مال.
وأما حكم الجناية عليه، فإن قتل عمدًا، فقال ابن القاسم: ديته في مال القاتل دية أهل الدين الذي ارتد إليه.
وقال سحنون: لا قصاص ولا دية على عاقلته إلا الأدب فيما افتات على الإمام.
وقاله أشهب.
وقال أشهب في كتاب ابن سحنون: إذا قتله رجل فلا قصاص عليه ولا دية، ولو قطع يده ثم عاد إلى الإسلام فدية يده له دية الدين الذي كان ارتد إليه من مجوسي أو كتابي.
قال ابن القاسم: وإذا جرح عمدًا أو خطأ فعقل جراحاته للمسلمين إن قتل، وله إن تاب، وعمد من جرحه كالخطأ لا يقاد منه. ولو جرحه عبد أو نصراني فلا قود له، لأنه ليس على دين يقر عليه، وفيه العقل.

.كتاب حد الزنا:

الجناية الثالثة: الزنى:
وهي جريمة موجبة للعقوبة.
والنظر في طرفين:

.(الطرف) الأول: في الموجب والموجب:

والضابط أن انتهاك حرمة الفرج المحترم بالوطء المحرم في غير ملك، إذا انتفت عنه الشبهة، سبب لوجود الحد.
والحد نوعان: رجم وجلد. ثم الجلد ضربان: منفرد بنفسه، ومضموم إلى غيره، وهو تغريب عام.
فأما الرجم، فعلى الزاني المحصن، وعلى اللائط وإن لم يكن محصنًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا». وفي بعض طرقه إسقاط هذه الزيادة. فهو دال بنصه أو بعمومه. رواه الشيخ أبو إسحاق من طرق عديدة متفقة ومختلفة، وعموم اللفظ يقتضي رجمهما وإن كانا عبدين أو كافرين، وهو المشهور.
وقال أشهب: يجلد العبدان خمسين خمسين، ويؤدب الكافران.
وأما الجلد فعلى غير المحصن. والمنفرد بنفسه منه ما كان على المرأة أو العبد.
وأما المضموم إلى التغريب، ففي حق الحر الذكر.
وفي الرابطة قيود لابد من كشفها بعد بيان الإحصان، وهو عبارة عن خمس خصال: التكليف، والحرية، والإسلام، والتزويج الصحيح، والوطء المباح فيه. والذي يخصه على الحقيقة ثلاثة: الحرية، والتزويج، والوطء، وما عدا ذلك مشترط في أصل الزنى.
وأما الوطء بالشبهة أو في النكاح الفاسد فلا يحصن. ويشترط وقوع الإصابة بعد الحرية. ولا يشترط حصول الإحصان في الواطئين، بل إن كان المحصن أحدهما رجم وجلد الآخر كما لا يشترط بلوغ الموطوءة في حد الواطئ، بل يحد إذا كان يوطأ مثلها، وإن كنا لا نجد الموطوءة حتى يكون الواطئ بالغًا. وانتفاء الإحصان يسقط الرجم. وانتفاء الحرية يسقط شطر الجلد، وأصل التغريب، نظرًا للسيد ثم في التغريب مسائل.
إحداها: أن يبعد به فينفى من مصر إلى مثل شعب وإلى مثل أسوان وإلى ذويها، ومن المدينة إلى مثل فدك وخيبر، وكراؤه في ذلك عليه في ماله، فإن لم يكن له مال فمن بيت المال.
الثانية: أنه يسجن في البلد الذي يغرب إليه سنة، ويكتب إلى والي البلد أن يسجنه، ويؤرخ لسجنه لتكمل له السنة من يوم دخوله السجن.
الثالثة: لو عاد المُغَرَّبُ أَخْرَجْنَاهُ ثَانِيَةً.
ولنعد إلى قيود الرابطة. أما قولنا: انتهاك حرمة الفرج، فيتناول اللواط، وقد تقدم بيان موجبه، والغلام المملوك كغير المملوك على القطع. وأما إتيان الأجنبية في دبرها فروى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه زنى وليس بلواط.
وقال محمد، فيرجم المحصن منهما، ويجلد من لم يحصن، وإن كان الرجل غرب.
وقال القاضي أبو الحسن: حكم ذلك حكم اللواط، يرجمان جميعًا، أحصنا أو لم يحصنه.
اختلف في عقوبة المتفاعلتين من النساء، فقال ابن القاسم في العتبية: ليس في عقوبتهما حد محدود، وذلك إلى اجتهاد الإمام.
وقال أصبغ: تجلدان خمسين خمسين.
وقولنا في الرابطة: المحترم، يشمل فرج الميتة فيحد واطئها ولا يدخل فيه فرج البهيمة، فلا يحد واطئها، لكن يعزر.
وفي كتاب الشيخ أبي إسحاق: عليه الحد.
قال الأستاذ أبو بكر: ولا يختلف مذهب مالك أن البهيمة لا تقتل ولا تذبح، وأنها إن كانت مما يؤكل فذبحت أكلت. وقولنا: بالوطء المحرم، احترزنا به عن الوطء الحلال. وقولنا: في غير ملك، احترزنا به عن وطء الحائض والمحرمة والصائمة في الملك. وقولنا: لا شبهة فيه، احترزنا به عن شبهة في المحل أو الفاعل أو الطريق.
أما شبهة المحل بأن تكون مملوكة. وإن كانت محرمة بسبب رضاع أن نسب، أو شركة أو عدة، أو تزويج، فلا حد عليه في وطئها. وأما في الفاعل فإن يظن أنها مملوكته أو زوجته.
وأما في الطريق بأن يختلف العلماء في إباحته كنكاح بلا ولي أو بغير شهود إذا استفاض واشتهر، فإن جميع ذلك يدرأ الحد.
واختلف في درء الحد عن الواطئ في نكاح المتعة، ومذهب الكتاب أنه يدرأ عنه الحد.
وأما من نكح خامسة، أو أخته من رضاع أو نسب، أو غير الأخت من ذوات المحارم، أو طلق امرأته ثلاثًا ثم تزوجها قبل زوج، أو طلقها قبل البناء واحدة، ثم وطئها بغير نكاح، أو طلقها بعد البناء ثلاثًا، ثم وطئها في العدة، أو أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة منه، فإن يحد في جميع ذلك، ولا يلحق به الولد إلا أن يدعي الجهالة بتحريمهن عليه، ومثله يجهل ذلك.
قال أصبغ: مثل الأغتم، ومن يجيئ من بلاد السودان وشبهه، فلا حد عليه.
وأما من نكح امرأة في عدتها، أو دخل بها في العدة، أو نكحها على عمتها أو خالتها، فوطئها أو وطئ بملك اليمين من ذوات محارمه من لا يعتق عليه إذا ملكه، فلا يحد، وإن كان علامًا بتحريم ذلك أدب. وكذلك إن وطئ أم ولده بعد أن ارتدت.
قال محمد: وإن وطئ من يعتق عليه بالملك حد، إلا أن يعذر بجهل.
وروى علي بن زياد فيمن نكح في العدة ووطئ فيها ولم يعذر بجهل: أنه يحد.
وقال أبو إسحاق التونسي: إذا كان التحريم من القرآن لسبب ولم تحرم ليعنها، وقد تحل يومًا ما، ففي الحد قولان، وكذلك في الخامسة لأنها تحل له إن طلق إحدى الأربع، وليست بمحرمة العين.
واختلف فيمن ادعى الجهل بتحريم الزنى، وهو ممن يظن به ذلك هل يحد أو يدرأ عنه الحد؟ على قولين، لابن القاسم وأصبغ.
ومن أحلت له أمة فوطئها لم يحد، لأن شبهة الإذن فيها كالبيع. وتقوم على الواطئ حملت أو لم تحمل، شاء محلها أو أبى. وإن كان الواطئ عالمًا بالتحريم أدب.
ومن استأجر امرأة للزنى، لم يكن عقد الإجارة دارئًا عنه الحد، بل يحد.
ولا يسقط الحد عن أحد الزانين بجنون الآخر. وكذلك إكار أحدهما لا يسقط الحد الآخر، ولا كون الزاني يستحق على الزانية القصاص، وكذلك كونها حربية أو من المغنم. وإن كان له فيها نصيب لا يسقط الحد عن ابن القاسم.
وقال أشهب: لا يحد.
وقال عبد الملك: لا حد على من زنى بحربية.
وفي كون الإكراه على الزنى دارئًا خلاف. قال القاضي أبو بكر: لا حد عليه، وحكى بعض الأصحاب وجوب الحد.
وقال القاضي أبو الحسن: عندي أنه ينظر في حاله، فإن انتشر قضيبه حين أولج فعليه الحد سواء أكرهه سلطان أو غيره. وإن لم ينتشر قضيبه فلا حد عليه. والمكرهة على التمكين لا حد عليها.
فرع:
قال ابن القاسم فيمن أصابته مسغبة فباع امرأته، وأقرت له بالرق، ووطئها المبتاع: إنهما يعذران بالجوع، ولا تحد.
وقال ابن وهب: إن طاوعته وأقرت أن المشتري أصابها طائعة، فعليها الحد.
هذا بيان موجب الحد، وليظهر للقاضي بجميع قيوده.
والأسباب التي بها يثبت الزنى ثلاثة، وهي: الإقرار، والبينة، وظهور الحمل.
فأما الإقرار، فتكفي منه مرة يقيم عليها، فإن رجع عنه إلى شبهة أو أمر يعذر به قبل، وإن أكذب نفسه، ففي القبول منه روايتان.
وأما البيئة فشهادة أربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين، لا تراخي بين أوقات إقامتهم الشهادة، على معاينة الزنى الواحد، ورؤية فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وما جرى مجرى ذلك. فإن قصر عددهم في الابتداء، أو يتوقف أحدهم عن الشهادة، أو برجوعه بعد إقامتها وقبل الحكم بها، لم يحد المشهود عليه، وحد الشهود كلهم، وإن كان ذلك بعد إقامة جميعهم الشهادة حد الرابع وحده.
ولو شهد أربعة بزنى شخص فرجم، ثم ألفي مجبوبًا لم يحد الشهود لأنهم إنما قذفوا محبوبًا، وعليهم الدية في أموالهم مع وجيع الأدب وطول السجن.
ولو شهد أربعة على زناها، فشهد أربع نسوة على أنها عذراء، لم يسقط الحد عنها.
ولو شهد أربعة على أنه زنى، وعين كل واحد زاوية أخرى من البيت غير التي عين الآخر، فلا حد إذ لم يتفقوا على قول واحد.
ولو شهد اثنان على أنه زنى بها مكرهة، واثنان على أنه زنى بها طائعة لم يجب عليها الحد.
وأما الحمل فإن يظهر بحرة أو أمة ولا يعلم لها زوج ولا سيد الأمة مقر بوطئها بل منكر، والحرة مقيمة ليست بغريبة، فإنها تحد، ولا يقبل قولها، إن قالت: غصبت أو استكرهت، إلا أن تظهر أمارة على ذلك بأن يرى بها أثر دم، أو يشاهد منها استغاثة أو صياح، أو ما أشبه ذلك مما يعلم منه في الظاهر صدقها.
واعتبار ظهور الحمل على الوجه المذكور سببًا لوجوب الحد، هو مذهب أمراء المؤمنين الثلاثة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
وقال عمر: الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إن ترجم، فقال له علي: ليس ذلك عليها، واستدل بقوله تعالى: {وحمله وفصله ثلاثون شهرًا}، فحكم عثمان برجمها بظهور الحمل.
واعتذر علي رضي الله عنه عن توجه الرجم عليها بإمكان كون الحمل من فراش النكاح، فبين أن دراءة الحد للإمكان المذكور لا لقصور في السبب.

.الطرف الثاني: في كيفية الاستيفاء ومتعاطيه:

أما الكيفية: فلا يقتل بالسيف، بل ينكل بالرجم بالحجارة، ولا يقتل بصخرة كبيرة في دفعة واحدة، كما لا يعذب بالتطويل عليه بحصيات خفيفة، بل بما بين ذلك.
قال الشيخ أبو إسحاق: يرجم بأكبر حجر يقدر الرامي على حمله، قال ويتقي الوجه. ولا يؤخر الرجم لمرض الزاني. ويؤخر الجلد إلى البرء، وينتظر بالحامل وضع الحمل. ثم المعتبر ظهوره إن كان من الزنى، فأما إن كان الزوج مرسلاً عليها فإنها تستبرأ ثم ترجم، لان طالب النطفة قائم.
ولا يقام الحد في فرط الحر والبرد، بل يؤخر إلى اعتدال الهواء، وهذا التأخير واجب إذا غلب على ظن المستوفي هلاكه عند إقامة الحد. وروي أنه إنما يؤخر في البرد خاصة دون الحر.
وأما مستوفي الحد فهو الإمام في حق الأحرار، والسيد في حق الرقيق فقيم حد الزنى على عبده وأمته بالبينة أو الإقرار أو ظهور الحمل. وفي حده لهما بالرؤية روايتان.
قال في المختصر الكبير: وإنما يحد السيد أمته إذا كانت غير ذات زوج أو كان زوجها عبده. قال أبو إسحاق التونسي: وكذلك العبد إذا له زوجة حرة أو أمة لغير سيده، فلا يقيم الحد عليها حينئذ إلا الإمام لحق الزوجين.
قال الشيخ أبو محمد عقب هذه المسألة: وكل من فيه بقية رق من كتابة أو تدبير أو أمية أم ولد أو من بعضه حر، فحدهم حد العبيد في جميع الحدود. ولا يقيم السيد على عبده حر السرقة، لكن إن شهد هو وأجنبي عليه بالسرقة عند الإمام قطعه. وإذا كان للسيد إقامة الحد، فأولى أن يكون له التعزير. وليس له استيفاء القصاص من عبده لعبد له آخر له أو لأجنبي، ولا يقتص منه إلا عند الحاكم إذا ثبت الحق عنده.
فرع:
كل من قتل حدًا أو لترك صلاة، غسل وكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين.

.كتاب حد القذف:

الجناية الرابعة: القذف:
وفيه بابان:

.الباب الأول: في ألفاظه، وموجبها:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في الألفاظ:

وهي ثلاثة: التصريح. والنفي. والتعريض.
الأول: اللفظ الصريح، وهو مثل أن يقول: زنيت أو لطت، أو يا زان ويا لائط، وكذلك كل لفظ يدل على الزنى واللواط صريحًا.
الثاني: النفي، كقوله: لست لأبيك، أو لست ابن فلان، يعني أباه أو جده، أو أنت ابن فلان، يعني غيرهما. وفي معنى ذلك الكناية، كقوله للعربي: يا نبطي، أو يا بربري، أو يا ورمي، أو لفارسي يا رومي، أو لرومي يا فارسي، أو يقول: يا ابن الخياط، ولم يكن من آبائه من هذه صفته. ففي جميع ذلك الحد. ولا يشترط في توجه الحد على النافي أن يكون أبو المنفي عن أبيه ممن يحد قاذفهما، بل لو كان عبدين أو كافرين لوجب الحد للمنفي لا لهما، نعم يشترط أن يكون المنفي ممن يحد قاذفة.
ومن قال لرجل: لا أب لك، ففي كتاب محمد: لا شيء عليه،إلا أن يريد النفي، وهذا مما يقوله الناس على الرضا، وأما من قاله على المشاتمة والغضب، فذلك شديد، وليحلف ما أراد نفيه.
الثالث: التعريض، وأما أنا فلست بزان، فو تعريض،وحكمه حكم الصريح إذا فهم منه القذف أو النفي. ثم فيه مسائل:
إحداها: لو قال لامرأة: زنيت بك، فهذا إقرار وقذف. ولو قال لها: يا زانية، فقالت: بك زنيت، فعليها حد الفرية والزنى، إلا أن ترجع عن الزنى فتحد للقذف فقط، ولا يحد الرجل لأنها صدقته.
وقاله مالك.
قال محمد: قال أشهب: إلا أن تقول: ما قلت ذلك إلا مجاوبة، ولم أرد قذفًا ولا إقرارًا، فلا حد عليها، ويحد الرجل.
وقال أصبغ: يحد كل واحد منهما لصاحبه وإن نزعت، لأن ردها عليه ليس إقراراً بالزنى وهو وجوب، تقول: إنك كنت زنيت فبك.
الثانية: لو قال لرجل: يا زان، فقال: أنت أزنى مني، حدًا جميعًا حد القذف.
وقال أصبغ: قوله: أزنى مني، إقرار منه بالزنى، ومحمله محمل الرد لما قال له، ولو قال لغيره: أنت أزنى الناس، كان قاذفًا.
الثالثة: إذا قال للرجل: يا زانية، بإثبات الهاء، فهو قاذف. كما لو قال للمرأة: يا زان، بإسقاطها، قاله القاضي أبو الحسن.
الرابعة: لو قال: زنى فرجك، فهو قذف، وكذلك لو قال: زنت عينك أو يدك، فإن يحد عند ابن القاسم، ورآه من التعريض.
وقال أشهب: لا يحد.
الخامسة: إذا قال الأب لابنه في منازعة: أشهدكم أنه ليس بابني، فطلبت الأم أو ولدها من غيره الحد وقد كان فارقها فعفاه ولده، فقال مالك: يحلف ما أراد قذفًا، وما قاله إلى بمعنى أنه لو كان ولدي لم ينصع ما صنع، ثم لا شيء عليه.
فأما الجد والعم والخال. فروى ابن القاسم في العتبية، يحدون له في الفرية إن طلب ذلك وأما إن شتموه فلا شيء عليهم، إذا كان على وجه الأدب، ولم ير الأخ مثلهم.
ومن قذف ولده بالزنى فقام بطلب حده، فله ذلك.
وقال أصبغ: لا يحد الأب لولده.
وإذا فرعنا على المشهور فحده، فإن ذلك يسقط عدالته، رواه محمد، قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: فلا تقل لهما أف، وهذا يضربه.
ومن نفى ولد الملاعنة عن أبيه في مشاتمة حد، وإن كان على وجه الخبر لم يحد، ويحد قاذفها هي، لاعنت عن غير ولد أو عن ولد، والولد الذي لاعنت منه معها أو ليس معها.
فروع متتالية: من قذف مجهولاً فلا حد عليه، قال محمد في رجل قال لجماعة: أحجكم زان، أو ابن زانية، لا يحد، إذ لا يعرف من أراد. وإن قام به جميعهم فقد قيل: لا حد عليه. وإن قام به أحدهم فادعى أنه أراده لم يقبل منه إلا ببيان أنه أراده. ولو عرف من أراده لم يكن للإمام أن يحده إلا بعد أن يقوم به، لأن من شرط وجوب حد القذف أن يقوم به وليه.
وفي العتبية والواضحة عن ابن القاسم فيمن قال لرجل: يا زوج الزانية وتحته امرأتان، فعفت إحداهما وقامت الأخرى تطلبه، يحلف ما أراد إلا التي عفت ويبرأ، فإن نكل حد، وهذا لأن عفو المقذوف قبل القيام لازم له وجائز عليه.
ورأى القاضي أبو الوليد أنه يحتمل أن يفرق بين المسألتين، بأن الجماعة كانوا كثيرًا فخرجوا بكثرتهم عن حد التعيين، وأن الاثنين وما قرب من ذلك في حد المعين. قال: ويحتمل أن يكون اختلافًا من القولين.
وإذا بنينا على هذا الاحتمال فيجريان في كل مسألة منهما بالنقل والتخريج.
ومن قال لرجل: ما لك أصل ولا فصل، فروي في العتبية: لا حد في هذا.
وقال أصبغ: عليه الحد. وقيل: إلا أن يكون من العرب، فعليه الحد.
ومن قال: يا ابن منزلة الركبان، ففي لواضحة: يحد. وكذلك من قال: يا ابن ذات الراية.
ومن قال لابن أمة أو كتابية: يا ابن الزانية، فلا حد عليه. ولو قال يا ابن زنية، لحد. والفرق بينهما أن لفظ الثاني نفى له من نسبه وإضافته إلى فعل لا يلحق الولد فيه، وقوله الأول قذف لأمه لا نفي لنسبه.
وذكر القاضي أبو عبد الله بن هارون المالكي البصري أن من قال لرجل: يا نغل، فإنه يحد، لأنه قذف، قال: ولو قال الرجل لنفسه: أنا نغل، فإنه يحد، لأنه قذف أمه وكذلك لو نسب إلى بَطْنِ أو نسبٍ أو عشيرة غير بطنه ونسبه وعشيرته فإن قذف أمه.
قال الشيخ أبو إسحاق: لو قال مولى لعربي: أنا خير منك، حد. وكذلك لو كانا ابني عم قاله أحدهما لصاحبه. قال: وفي هاتين المسألتين اختلاف، وبهذا أقول.
ولو قال لرجل: أنا أفتري عليك، أو أنا أقذفك، فلا حد عليه، ويحلف ما أراد الفاحشة.
ومن قال لرجل: أنت ابن فلان، فنسبه إلى غير أبيه أو غير جده، فقال ابن القاسم: عليه الحد، وإن لم يقله على سباب ولا غضب، إلا أن يقوله على وجه الإحسان.
وقال أشهب: لا يحد، إلا أن يقوله على وجه السباب، لأنه قد يقوله وهو يرى أنه كذلك. ولو نسبه إلى جده في مشاتمة لم يحد عند ابن القاسم.
وقال أشهب: يحد. قال محمد: قول ابن القاسم أحب إلي، إلا أن يعرف أنه أراد القذف، مثل أن يتهم الجد بأمه ونحوه، وإلا لم يحد، فقد ينسب إليه لشبهه له في خلق أو طبع.
ولو نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه فعليه الحد عند ابن القاسم.
وقال أشهب: لا حد عليه إلا أن يقوله في مشتمة.
وقاله أصبغ ومحمد.
قال أصبغ: وقد سمى الله عز وجل العم أبًا في كتابه الكريم فقال: {إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}.
هذا بيان ألفاظ القذف، ونعني به موجب الحد. أما التعزيز فيجب بأكثر من هذه الكلمات.

.الفصل الثاني: في موجب القذف إذا صدر من مكلف:

وهو التعزير. إذا قذف محصنًا فموجبه ثمانون جلدة، وهو الحد الكامل. ويتنصف على الرقيق. والمحصن هو المكلف المسلم الحر العفيف عما رمي به. ولا يشترط البلوغ في حق الأنثى، بل المطبقة للوطء كالبالغ في ذلك.
قال الأستاذ أبو بكر: ومعنى العفاف هو ألا يكون معروفًا بالقيان ومواضع الفساد والزنى، فلو قذف معروفا بالظلم والغضب والسرقة وشرب الخمر وأكل الربا والقذف لحد له، إذا كان غير معروف بما ذكرنا ولم يثبت عليه ما رمي به، فإن ثبت أو كان معروفًا بذلك لم يحد قاذفه. ثم يسقط الإحصان المذكور بكل وطء موجب للحد.
أما الحرام الذي لا يوجب الحد كوطء المملوكة المحرمة بالرضاع، أو الجارية المشتركة، أو جارية الابن، أو المنكوحة لحر، أو لعبد له أو لغيره، فلا يسقط الإحصان. وكذلك الوطء بالشبهة. والوطء في الصبا، ووطء الحائط والمحرمة الصائمة لا يسقط. ويسقط إحصان المقذوف بالزنى الطارئ بعد القذف، ومتى سقط الإحصان بالزنى لم يعد بالعدالة بعده.
وروى ابن الماجشون فيمن قذف من حد في الزنى بعد أن حسنت توبته لم يحد.
ولو مات المقذوف قبل استيفاء الحد قام ورثته مقامه. وكذلك لو قذف موروثه بعد موته لكان للوارث القيام بالحد.