فصل: الركن الأول: الصائد.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.كتاب الضحايا والعقيقة:

.حكم الضحية:

سنة مؤكدة لكل قادر عليها، إلا الحاج بمنى، وليست بواجبة، هذا قول مالك على الحقيقة، وهو الذي حكاه العراقيون عنه. وكذلك الأستاذ أبو بكر لم يحك عنه سواه، وهو نصه في الموطأ والمختصر. قال يحيى بن يحيى: قال مالك: الضحية: سنة، وليست بواجبة.
وقال عبد الله بن عبد الحكم: قلت له: أرأيت الضحية أسنة هي؟
قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بالنحر، وهو لك سنة»، فذكر الحكم والدليل، وهذا كله نص، وقوله في كتاب ابن المواز: هي سنة واجبة، لفظ محتمل، يرد معناه إلى النص المتقدم. والمعنى بذكر الوجوب مع لفظ السنة التأكيد. وقد قال القاضي أبو محمد وغيره: المعني بإطلاق مثل هذا اللفظ أنها سنة مؤكدة. وربما عبر بعض الأصحاب عنها بوجوب السنن.
فأما ما نقل عن ابن القاسم وابن حبيب من تأثيم تاركها، فرأى لهما لا رواية.

.والنظر في أركانها وأحكامها:

.الأول: في الأركان:

وهي ثلاثة.
الأول: الذبيح:
وهو النعم فقط، ولا يجزئ من الضأن ما دون الجذع ولا من المعز ما دون الثني، وكذا من البقر، وهو سن المسنة. ولا يجزئ من الإبل ما دون السنة السادسة.
ويجزئ الذكر والأنثى. وجملة من الصفات تمنع الأجزاء. فلا تجزئ المريضة البين مرضها وفي معناها الجرباء الكثيرة الجرب، دون الجرب اليسير، ولا العرجاء التي تمتنع بالعرج عن اللحاق بالغنم، ولا العوراء، وإن كانت الحدقة باقية. ولا بأس بالبياض في العين ما لم يكن على الناظر، ولا العجفاء التي لا نقي لها، ولا المجنونة جنوناً لازماً، ولا المقطوع من أذنها ما يزيد على الثلث، وفي الثالث خلاف. أما المقطوعة قدراً يسيراً من الأذن، أو المخروقة الأذن أو المشقوقة، فقد ورد النهي عن التضحية بها.
وقال القاضي أبو الحسن: لا يمنع شيء من ذلك الإجزاء. قال الشيخ أبو الطاهر: هذا على القول بقصر العيوب المانعة من الإجزاء، على ما ورد في الحديث من العيوب الأربعة.
ويجزي المنزوع الخصية، والمنكسر القرن إذا كان لا يدمى، والتي لا قرن لها، وفي إجزاء ما سقطت أسنانه، لا لإثغار، خلاف. ويجزئ الفحل، وإن كثر نزواته، والأنثى وإن كثرت ولادتها.
ولا شركة في الدم، فلا تجزئ الشاة عن أكثر من واحد، وكذلك البقرة والبدنة، فلا يجوز أن يشترك جماعة في شاة أو بقرة أو بدنة، فيخرجون الثمن ثم يضحون بها عن جماعتهم.
إلا أن الرجل يجوز له أن يضحي عنه، وعن أهل بيته شاة واحدة، أو بقرة أو بدنة وإن كان الأفضل له أن يضحي عنهم بكبش كبش.
أما السنة: فالأحب الأسمن، والفحل أفضل من الخصي، والأقرن أفضل من الأجم.
وأما الجنسية: فالغنم أفضل من البقر، والبقر أفضل من الإبل.
وقال الشيخ أبو إسحاق: الإبل أفضل من البقر، ثم الضأن أفضل من المعز، وفحول كل جنس أفضل من إناثه.
الركن الثاني: الوقت:
وهو يوم النحر، يومان بعده. وأول الوقت فراغ الإمام من الصلاة والنحر، إن أبرز ذبيحته إلى المصلى، وينبغي له أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتدي به الناس، فيذبحون بعده.
وإن لم يبرزها، ففي نفي إجزاء من ذبح قبله وإثباته قولان لابن القاسم وأبي مصعب.
ومن كان بمكان لا إمام به، تحرى ذبح أقرب الأئمة إليه، ثم إن تحرى فوقع قبله أجزأه.
وقيل: لا يجزئه.
ويتحرى في اليوم الثاني والثالث الوقت الذي يذبح فيه الإمام في اليوم الأول، ولا يتقدم عليه، فلو ذبح بعد الفجر وقبل وقت ذبح الإمام بالأمس أجزأه، قاله أصبغ.
وآخر الوقت غروب الشمس ثالث يوم النحر. ولا يجزئ بالليل. وحكى القاضي أبو الحسن رواية بالإجزاء، ولا يجزئ في اليوم الثالث من أيام التشريق.
الركن الثالث: الذابح:
والأولى أن يتولى الذبح المضحي بنفسه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يمكنه ذلك وكل غيره، ولا ينبغي له أن يوكل مع القدرة، لما قلناه من الاقتداء.
فإن كل كتابياً، لم يجزئه في رواية ابن القاسم؛ إذ ليس من أهل القرية. وروى أشهب: القول بالإجزاء. وإذا صححنا فلينو بنفسه، ولو وكل مسلماً بالتضحية والنية جاز.
وأجزأت إذا نوى بها الذابح عن المالك، فلو نوى بها عن نفسه لأجزأت عن المالك أيضاً، وقال أصبغ: لا تجزئه.

.النظر الثاني: في أحكام الضحايا:

وهي قسمان:
قبل الذبح، وبعده.

.القسم الأول: ما قبل الذبح.

فإذا قال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت. وحكى القاضي أبو الوليد في المذهب قولاً بأنها لا تجب إلا بالذبح، ثم على ملا القولين إن ماتت، فلا شيء عليه. ولو عينها من نذر سابق لزم إبدالها، ولو أتلفها أجنبي فليشتر بقيمته أخرى، وقيل: له أن يصنع بالقيمة ما شاء.
وكذلك لو لم تف القيمة بشاة تصدق بها، أو صرفها فيما شاء على الخلاف المتقدم.
وحيث لا يلزمه شيء بالتلف، فلا يلزم شيء بالتعيب. فإن كان التعيب مانعاً من الصحة خرجت عن الضحية.
ولو قال ابتداء: جعلت هذه أضحية، وهي متعيبة، فهل تصرف إلى مصارف الضحية، أو يعوض بها سليمة؟ فيه الخلاف المتقدم في الهدي.
وكذلك لو قال: لله علي أن أضحي بعرجاء، فهل تلزمه سليمة، أم لا يلزمه إلا العرجاء؟
الخلاف المتقدم.
والضلال كالهلاك، ولكن حيث وجب البدل ووجد ثم وجدها قبل ذبح البدل، ذبحها دونه.
ولو ولدت قبل الذبح، فروى ابن القاسم: يذبح معها.
وقال أشهب: لا يضحى به ولا يحل.
ومن مات قبل ذبح أضحيته فإنها تورث، واستحب ابن القاسم أن تذبح عنه، ولم يره أشهب.

.القسم الثاني: أحكامها بعد الذبح.

ولا خلاف في وجوبها بالذبح، فلا يجوز التصرف فيها، ولا في شيء من أبعاضها بالمعاوضات، بل يتصرف فيها بالإطعام والأكل، والانتفاع.
ولو مات بعد ذبحها، لم تورث ميراث الأموال، ولم تبع في دينه، لكن لورثته فيها من التصرف مثل ما كان له. وهل لهم قسمة اللحم؟ قولان: أجازه مالك في رواية مطرف وابن الماجشون، ورواه عيسى عن ابن القاسم. وفي كتاب محمد: المنع، وخرج القاضي أبو الوليد الخلاف في ذلك على اختلاف قول مالك وأصحابه في القسمة: هل هي تمييز حق أو بيع؟ قال: ويحتمل أن يريد إذا وقعت على وجه كانت بيعاً، فلم تجز في الأضحية. وإذا وقعت على وجه كانت تمييز حق، فجازت فيها.
قال الشيخ أبو الطاهر: وإشارته بهذا إلى أن قسمة التراضي بيع، وقسمة الأسهام مختلف فيها على قولين: هل هي بيع، أو تمييز حق؟.
وإذا تصدق أو وهب شيئاً من الأضحية فهل للمعطى أن يبيعه أم لا؟ روايتان في كتاب ابن حبيب وكتاب ابن المواز. ولا تجوز إجارة جلدها، وأجازها سحنون.
فإذا تعدى فباع شيئاً من الأضحية، نقض بيعه، فإن فات، فقال ابن القاسم: يتصدق بالثمن، ولا ينتفع به، وقال به ابن حبيب، وقال سحنون: يجعل ثمنه إن كان لحماً في طعام، وإن كان جلداً ففي طعام أو ما ينتفع به.
وقال محمد بن عبد الحكم: يصنع به ما شاء من إمساك أو غيره.
ولو غصب شيئاً من أضحيته، أو تعدى عليه، أو تلف عند صانع فضمنه، فهل له أن يغرمهم قيمة ذلك؟ استحب ابن القاسم أن لا يغرم وكأنه رآه بيعاً.
وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: له أخذ القيمة، ويصنع بها ما شاء، وكذلك قيمة الجلد.
واختلف في اختلاط الرؤوس عند الشواء، هل لصاحب الرأس طلب القيمة أم لا؟.
وقال يحيى بن عمر في رجلين أمراًَ رجلاً أن يذبح لهما، فذبح واختلطا بعد الذبح، يجزيان من الأضحية، ويتصدقان بهما، ولا يأكلان منهما شيئاً.
واعترض هذا أبو محمد عبد الحق، وقال: ما أرى المنع من أكلهما، وهي شركة ضرورية في أضحية مات صاحبها.
والأفضل الأكل والتفرقة، فلو اقتصر على أحدهما أجزأ وكره.
وقال ابن المواز: لو اقتصر على الصدقة لكان أفضل. قال ابن حبيب: وليس لما يأكل ويتصدق حد يندب إليه، والاختيار عند الشيخ أبي القاسم أن يأكل الأقل، ويقسم الأكثر. قال: ولو قيل: يأكل الثلث ويقسم الثلثين، لكان حسناً.

.ولنختم الكتاب بباب العقيقة:

وهي كالضحية في أحكامها وأصنافها وصفاتها، وكذلك هي في أجناسها على المشهور.
وقال الشيح أبو إسحاق: لا يعق بشيء من الإبل ولا البقر، وإنما العقيقة بالضأن والمعز. وروي مثله في العتبية.
وأما وقتها فاليوم السابع من ولادة المولود إذا ولد قبل الفجر، ويسقط يوم الولادة إذا ولد بعد الفجر. وروي أنه يحتسب به، ولا يسقط.
ولا يذبح في السابع الثاني أو الثالث، إذا فات الأول. وروى ابن وهب أن الأسابيع الثلاثة في العقيقة كالأيام الثلاثة في الضحايا. وفي مختصر الوقار: يعق عنه في الأسبوع الأول، فإن فات ففي الثاني، فإن أخطأه ذلك فلا عقيقة.
وتذبح ضحى، وقت ذبح الضحايا رواه محمد.
وقال ابن حبيب: لا تذبح العقيقة ليلاً ولا بالسحر، ولا بالعشي، إلا من الضحى إلى الزوال. وفي المبسوط: ومن ذبحها قبل الأوان الذي تذبح الأضحية فيه، لم أرها مجزئة.
ولا يكره كسر عظامها، ويعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة.
والإطعام فيها كما هو في الأضحية، وهو أفضل من الدعوة. قال ابن القاسم: ولا يعجبني أن يجعله صنيعاً يدعو إليه.
وقال ابن حبيب: وحسن أن يوسع بغير شاة العقيقة لإكثار الطعام، ويدعو الناس إليه.
وفي المبسوط: قال مالك: عققت عن ولدي، فذبحت من الليل ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم، وهيأت طعامهم، ثم ذبحت ضحى شاة العقيقة، فأهديت منها للجيران، وأكل منها أهل البيت، وكسروا ما بقي من عظامها، فطبخنا فدعونا إليها الجيران، فأكلوا وأكلنا. قال مالك: فمن وجد سعة، فأحب إلي أن يفعل هذا، ومن لم يجد فليذبح عقيقته، ثم ليأكل وليطعم منها.
وتلطيخ رأس المولود بدم الشاة مكروه، لكن يستحب أن يسمى في السابع، قال ابن حبيب: ويحلق شعره. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وأميطوا عنه الأذى.
وهل يتصدق بوزن شعره ذهباً؟ كرهه مالك مرة وأجازه أخرى.
وتم كتاب الضحايا والعقيقة والحمد لله.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً.

.كتاب الصيد:

وهو مباح، إلا أن يكون القصد به اللهو فيكره، وأجازه محمد بن عبد الحكم.
ثم النظر في طرفين:

.(الطرف) الأول: في أركانه:

وهي أربعة:

.الركن الأول: الصائد.

وأجمعت الأمة على أن كل ذكر بالغ محكوم له الإسلام تصح منه النية، فإن ما اصطاده حلال. ومعنى ذلك أنه إذا مات الصيد بسبب جراح الجوارح أو السلاح التي اصطاده بهما حل أكله.
فأما المرأة وغير البالغ إذا كان مميزاً، فالمشهور أنهما كالبالغ الذكر فيما صاده.
وقال أبو مصعب: لا أحب ذلك.
وأما غير المسلم: فإن كان ليس بكتابي، فلا يحل صيده، أي لا يؤكل إذا مات بآلته، بل ما صاده فلم تدرك ذكاته فإنه ميتة.
وأما الكتابي، ففي أكل ما صاده ثلاثة أقوال: المنع، وهو ظاهر الكتاب. والجواز، وهو قول أشهب وابن وهب. والكراهة، وهي قول مالك في كتاب محمد. قال الشيخ أبو الطاهر: ويحتمل أن يبني ما في الكتاب على ذلك.

.الركن الثاني: الآلة:

وهي صنفان: سلاح وحيوان.
ويشترط في السلاح أن يكون له حد يجرح ولا يرض، فلو كان لحجر حد أصاب به، فإن أيقن أنه إنما قتل بالحد لا بالرض أكل، وإن لم يوقن بذلك، فقد روى ابن حبيب عن ابن القاسم فيمن رمى صيداً بحجر، مثله يذبح، فقطع رأسه وهو ينوي اصطياده: لا يعجبني أكله؛ إذ لعل الحجر قطع رأسه بعرضه. قال القاضي أبو الوليد: وهذا يحتمل أن يكون فيما شك فيه من أمره، فليس له أكله، لأنه لا يتيقن ذكاته. قال: ولو علم أنه أصابه بحده لجاز له أكله.
ويشترط في الحيوان أن يكون معلماً، واختلف في صورة التعليم، فقيل: أن يكون إذا زجر انزجر، وإذا أغري أطاع. وقيل: يضاف إلى هذين أن يكون إذا دعي أطاع. وحكى ابن حبيب: أن ذلك في الكلاب، وأما الطير فلا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت.
قال الشيخ أبو الطاهر: الذي ينبغي أن يقال في هذا: إن كل ما يمكن من التعليم في سباع الوحش وسباع الطير، فإنه مشترط فيهما. قال: والمقصود من ذلك أن ينتقل الحيوان عن خلقه الأصلي حتى يصير مصرفاً بحكم الصائد، فحينئذ يكون آلة له لا صائداً لنفسه. ولا يشترط في صفة التعليم أن يمسك الجارح ولا يأكل منه.
قال الشيخ أبو الطاهر: وحكى أبو تمام قوله عن المذهب باشتراطه في سباع الوحش، وإذا كان معلماً فجرحه أو نَيَّبَه أكل.
وإن فات بنفسه فإن مات دهشاً أو بهراً أو ما أشبه ذلك لم يؤكل، وإن مات من صدم الجارح أو ضرب بسيف فلم يجرحه ومات من ذلك، فقال ابن القاسم: لا يؤكل، وقال أشهب: يؤكل.

.الركن الثالث: المصيد:

أعني: ما يصح اصطياده، وهو كل حيوان مأكول اللحم معجوز عنه في أصل خلقته، احترازاً عن الناد من الأنعام، لأنها في أصل خلقتها متأنسة، فإذا ندت لم تؤكل بما يؤكل به الوحش. وأجاز ابن حبيب ذلك في البقر خاصة، قال: لأن لها أصلاً في التوحش، وألزمه أبو الحسن اللخمي مثل ذلك في الإبل والغنم على قوله: إنها إذا وقعت في مهواة، ولم يوصل إلى نحرها ولا ذبحها، أنها تطعن في جنب أو كتف.
ولو صار المتوحش مقدوراً عليه، لم يؤكل، إلا بما يؤكل به المتأنس. وكذلك لم رمي فأثخن ولم تنفذ مقاتله. وكذلك لو وقع في موضع لا يطيق النجاة منه، أو انحصر في موضع على هذه الصفة، حتى يمكن تناوله من غير مشقة كبيرة.
وينخرط في هذا السلك أن يرسل على الصيد كلباً، ثم كلباً، ثم يمسكه الأول، ثم يقتله الثاني إذا كان إرساله بعد أن أمسكه الأول، فإن كان إرساله قبل أن يمسكه الأول، فالمنصوص أنه يؤكل.
واستقرأ أبو الحسن اللخمي مما تقدم في الواقع في موضع لا نجاة له منه: أنه لا يؤكل.
فرع:
لو رمى صيداً أو أرسل عليه، فمر به إنسان، وهو قادر على ذكاته، فلم يذكه، فأتى صاحبه فوجده فات بنفسه، فالمنصوص ها هنا أنه لا يؤكل، وأن المار به يضمنه لصاحبه.
وأجرى المتأخرون في الضمان ها هنا قولين مأخذهما: أن الترك فعل فيضمن، أو ليس كالفعل فلا ضمان عليه، وخرجوا على هذا عدة فروع، منها: أن يرى إنساناً تستهلك نفسه أو ماله وهو يقدر على خلاصة فلا يفعل.
ومنها أن تكون عنده شهادة لإنسان، فلا يؤديها حتى يؤدي تأخيرها إلى هلاكه أو هلاك ماله، ومنها أن تكون عنده وثيقة بحق ولا يؤدها حتى يتلف الحق أيضاً.
ومنها أن تجب عليه مواساة أحد من المسلمين، فلا يفعل حتى يهلك.
ومنها أن يجرح إنسان جرحاً جائفة أو غيرها، فيمسك آخر عنه ما يخيط به حتى يؤدي إلى هلاكه، ومنها أن يكون لإنسان بجانب آخر زرع، فلا يسقيه بفضل مائة حتى يهلك. ومنها أن يكون له حائط مائل، ولآخر ما يقيمه به من خشب أو حجر، فلا يفعل حتى يقع الحائط، إلى أمثال ذلك مما ينخرط في هذا السلك.
فأما لو قطع إنسان لآخر وثيقة حتى ضاع الحق الذي فيها، فقال الشيخ أبو الطاهر: هذا لا يختلف المذهب في ضمانه، قال: وأصل هذه المسائل وشبهها: هو أن المباشر للتلف يضمن ما باشره.
فإن فعل فعلاً أدى إلى التلف، إن قرب السبب من المسبب، ولم ينصرف الفعل إلا إلى المتلف، فلا يختلف في الضمان.
وإن بعد السبب بعداً كثيراً، فلا ضمان. وإن قرب لكن المقصود من الفعل معنى آخر، أو لم يكن في غاية التقرب، ولا في غاية البعد، ففيه قولان. قال: وكذلك من منع شيئاً بفعل فعله، وكذلك من ترك ما يجب عليه من الفعل، ففي كل ذلك قولان. والخلاف في ذلك كله راجع إلى هذا الأصل.

.الركن الرابع: في صفة الصيد:

وفيه يتسع الكلام، وتحصره ثلاثة فصول:

.الفصل الأول: ما يفعله الصائد:

وليقصد إلى اصطياده والذكاة بفعله أو بإرساله، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان الصائد ممن تصح منه النية كما تقدم، وكان الصيد مباح الأكل.
وإذا كان الحيوان مما يصح فيه القصد إلى الذكاة، فرماه بنية ذلك، وعينه وقصد شيئاً فوجده كما قصد استباحه.
فإن وجد غير ما قصد، لكنه مأكول اللحم على الجملة، كما إذا رمى ما ظنه أيلا فوجده بقرة وحش، ففي استباحته بذلك قولان لأشهب وأصبغ، سببهما أن الخطأ في الصفات هل يسري إلى الخطأ في الموصوف أم لا؟
وإن كان غير مأكول اللحم، فلا خفاء أنه لا يؤثر فيه القصد. ولو أرسل ولم يقصد شيئاً معيناً، وإنما قصد ما يأخذ الجارح، أو ما تقتل الآلة مما في جهة محصورة، كمن أرسل على جماعة يراها ولم ينو واحداً منها، أو رأى بعضها أو لا يرى شيئاً منها، لكنها محصورة بموضع لا تختلط بغيرها في الأغلب، كالغار فيه الصيد يرسل جارحة فيه، وينوي أن يأخذ واحداً مما فيه، فالمشهور من المذهب صحة الإرسال على هذه الصفة.
وقال أشهب: لا يصح إلا على ما يراه معيناً.
وسبب الخلاف: هل يكون تعيين الجملة كافياً عن الأبعاض، أم لا؟
ولو كان الموضع مما لا ينحصر ولا يمنع من دخول غيره فيه، كالمتسع من الأرض والغياض، فأجاز أصبغ الإرسال على ما فيها. ومنع منه ابن القاسم وأشهب، فتنحل من هذا أن أشهب لا يبيح إلا المعين، وابن القاسم يبيح العين والمحصور. وأصبغ يبيح المعين بالجهة، وإن أمكن أن يختلط به غيره، أعني أن يكون غير محصور.
ولا خلاف في المذهب أنه لا يباح الإرسال على كل صيد يقوم بين يديه.
ولو رأى الجارح يضطرب، ولم ير الصائد شيئاًَ فأرسل عليه فأجازه مالك مرة، وكرهه أخرى.
وقال: لعله غير الذي اضطرب عليه، قال الشيخ أبو الطاهر: وقد أبان مالك أن هذه الصورة جارية على أصل ثان: هل يحكم بالغالب فيجوز أكله؛ إذ الغالب أنه إنما أخذ ما اضطرب عليه أو لا يباح إلا مع اليقين؟. قال: ويحتمل أن تبقى الكراهة على حقيقتها، أو تكون بمعنى التحريم.
ومن أفعال الصائد التسمية عند الإرسال، كما يسمى الذابح عند الذبح، فإن ترك التسمية، فحكمه حكم الذابح وسيأتي. ومن أفعاله أيضاً اتباع الصيد بعد الإرسال، فإن رجع أو تراخى، فإن أدركه وذكاه قبل أن تنفذ مقاتله، أكل بالتذكية لا بالصيد. وإن لم يدرك حتى أنفذت مقاتله لم يؤكل، إلا أن يتحقق أنه لو اتبعه لم يدركه إلا منفوذ المقاتل، وهذا ظاهر في السهم.
فأما الجوارح، فإن كل له طريق إلى العلم بذلك أكل، وإلا فلا. ولو توارى عنه الصيد، ثم وجده منفوذ المقاتل، فإن تحقق أنه المقصود أكله. وإن شك فيه لم يأكله، وإن غلب على ظنه أنه هو، فهل يأكله؟ ظاهر المذهب على الخلاف، كما تقدم في مسألة اضطراب الجارح.
ولو بات عنه الصيد، ثم وجده في الغد منفوذ المقاتل، فمذهب الكتاب: إنه لا يؤكل، وسوى بين البازي والكلب والسهم.
وقال ابن الماجشون: عند ابن حبيب يؤكل على كل أحواله، أصابه سهم أو جارح، قال: وإن لم تنفذ مقاتله لم يؤكل، مخافة أن يكون إنما قتله بعض هوام الأرض ودوابها أو أعان على قتله. وأجاز ابن المواز أكل ما أنفذ السهم مقاتله، دون ما قتله الباز والكلب. وحكى أبو الحسن اللخمي قولاً بالكراهة. قال الشيخ أبو الطاهر: ويمكن أن يكون القائل بالكراهة عبر بها عن التحريم.
وإذا تبعه كما أمر، فوجده منفوذ المقاتل، لم يفتقر إلى تذكية، ولو وجده غير منفوذ المقاتل، فلم يكن معه ما يذكيه به حتى قتلته الجوارح أو فات بنفسه، لم يؤكل.
ولو اشتغل بإخراج الآلة، ففات بنفسه، لم يؤكل. إن كانت في موضع يفتقر إلى طول، وإن كانت في يده أو في كمه أو ما في معنى ذلك أكل، لأنه مغلوب عليه.

.الفصل الثاني: في الآلة:

وقد تقدم اشتراط كون الجارح معلماً، وصفة التعليم.
فإن كان غير معلم، لم يؤكل من صيده، إلا ما أدركت ذكاته مجتمع الحياة.
فلو اشترك مع المعلم غيره، فإن تيقن أن المعلم هو المنفرد بالقتل، أكل الصيد.
وإن تيقن غيره، أو شك فيه، لم يؤكل. وإن غلب على الظن أنه القاتل، جرى على الخلاف المتقدم.

.الفصل الثالث: في أفعال الجارح:

وليكن انبعاثه بإرسال الصائد لا من نفسه، وليكن في يده، فإن انبعث بإرساله، وهو ليس في يده فهل يؤكل صيده، أم لا؟ ثلاثة أقوال، يخصص في الثالث جواز الأكل بما إذا كان قريباً دون ما إذا كان بعيداً. والتفرقة لابن حبيب، والقولان الأولان في الكتاب.
فإن انبعث بغير إرساله، ثم زجره وأشلاه، فإن لم يلتفت إلى فعله، لم يؤكل إلا أن تدرك ذكاته. وإن رجع إليه ووقف ثم بعثه، فإن رجع إلى يده أكل الصيد، وإن لم يرجع إلى يده جرى على ما تقدم.
ولو كان إنما أغراه وحرضه فاشتد في الطلب بذلك، فمذهب الكتاب أنه لا يؤكل.
وقال أصبغ: يؤكل مطلقاً. وحكى ذلك القاضي أبو الحسن رواية.
وقال ابن الماجشون: إذا زاده ذلك قوة واشتداداً أكل.
ولو بعثه فمر في الطلب، ثم عطف عنه، فإن كان راجعاً بالكلية، لم يؤكل.
وإن كان طالباً لكنه تحير في مواضع الطلب، أكل. ولو مر بمثله فوقف عليه، أو بشيء يأكله فاشتغل به، فهو بمنزلة ترك الطلب.

.الطرف الثاني: في رسم فروع تكمل الغرض من الكتاب:

وهي ستة:
الأول: لا يؤكل ما أبانت الآلة أو الجارح من الصيد إذا كان ذلك في غير مقتل، ولو بقي لم يمت منه.
ولو كان المبان نصفه أو الكثير منه فإنه يؤكل الجميع، إذا قصد بذلك اصطياده.
ولو قطع يسيراً، لكنه لو بقي لم يعش، فإن كان موته من القطع، ففي أكل المقطوع قولان. المشهور: أنه لا يؤكل.
ولو كان إنما يموت، بمعنى غير القطع، كما إذا قطع خطمه، فيموت جوعاً لتعذر الأكل عليه، فلا يؤكل ما قطع منه، إذ لم تحصل ذكاته بالقطع.
الفرع الثاني:
لو رمى صيداً على شاهق فتردى فوجده ميتاً، فإن كان سهمه قد أنفذ مقاتله قبل ترديه، فقد تمت ذكاته، ولا يضره التردي. وإن لم ينفذ لم يجز أكله، لأنه لا يدري من أي ذلك مات، ومثله لو رماه فسقط في ماء.
فلو رماه بسهم مسموم، فروى في الموازية والعتبية أنه لا يؤكل، لعل السم أعان على قتله، قال: وأخاف على من أكله.
الفرع الثالث:
لا يستحق الصيد بالرؤية دون الأخذ، فلو رأى واحد من جماعة صيداً فأخبر به من معه، فبادر غيره فأخذه كان لمن أخذه.
ولو كان الصيد غير قادر على النهوض، ولو تمانعوا أخذه، ولم يترك بعضهم بعضاً، ولو تركوا لقدر كل واحد منهم على أخذه فالصيد لجميعهم.
ولو نصب ناصب في موضع، فطرد غيره الصيد حتى وقع فيما نصب، فإن كان الطارد قادراً على أخذه، ولم ينتفع بالحبالات ولا قصد الانتفاع، فالصيد له، ولا شيء عليه لرب الحبالات.
وإن كان منقطعاً عن الصيد وعلى إياس منه، ولم يقصد إيقاعه في الحبالات، فوقع فيها بنفسه، فهو لربها، ولا شيء عليه للطارد.
وإن قصد الصائد إيقاعه فيها، ولولا هي لأخذه، فهو للطارد، وعليه لربها بقدر ما انتفع.
وإن لم يحصل الصيد إلا بمجموع الطرد والوقوع، وقصد ذلك الطارد، فالصيد بينهما على قدر ما فعله الطارد ومنفعة المنصوب.
الفرع الرابع:
إذا ملك الصيد بالاصطياد فند منه، فصاده غيره بعد أن تأنس عند الأول، وقبل أن يتوحش، فهو للأول قولاً واحداً، فإن صاده قبل أن يتأنس، أو بعد أن توحش. فقال محمد بن عبد الحكم: يكون للأول على كل حال، كسائر أمواله.
وقال في الكتاب: يكون للثاني على كل حال، لأنه عاد إلى ما كان عليه قبل اصطياد الأول له.
وروي أنه يكون للأول إن ند بعد أن تأنس، وإن أخذ بعد أن توحش،فإن ند قبل التأنس كان للثاني، وبه قال ابن الماجشون.
وقيل: إن طال مقامه عن الأول فهو للثاني، وإن لم يطل فهو للأول.
وإذا فرعنا على هذا القول فادعى الصائد آخراً طول المدة، وأنكره الأول، فقولان لابن القاسم وسحنون لتقابل الأصلين؛ إذ أصل الملك للأول، واليد للثاني.
وكذلك لو قال الأول: لم يطل، وقال الثاني: لا أدري، فعول ابن القاسم على اليد، وعول سحنون على أصل الملك.
الفرع الخامس: وهو مرتب.
لو كان ملك الأول له بشراء، فقال ابن المواز: هو كالأول، وقال أبو القاسم بن الكاتب: بل يكون هذا للأول على كل حال قياساً على من أحيا ما دثر مما أحياه غيره بعد أن اشتراه، بخلاف الصورة الأولى، فإنها بمثابة من أحيا ما دثر مما أحياه غيره من غير شراء.
الفرع السادس: في اتخاذ ما يسكنه الصيد.
ولا يمنع أحد أن ينصب أبرجة أو أجباحاً في مواضع بها أبرجة وأجباح لغيره، إلا أن تعلم مضرته بالسابق بأن يحدثها بقرب السابق، ويقصد صيد المملوك فيمنع.
فإن نصبها فحصل فيها حمام أو نحل لغيره، فإن قدر على ردها ردها، وإن لم يقدر على ذلك، فقيل: يكون ما يتولد عنها للسابق، وقال ابن القاسم: لمن صارت إليه ولا شيء عليه فيه. وأشار أبو الحسن اللخمي إلى إجرائها على مسألة ندود الصيد.
وأخذ من القول بالرد إذا عرفت وقدر على ردها قولاً موافقاً لقول محمد بن عبد الحكم المتقدم.
وإذا قلنا: بأن ما يتولد عنها للأول، فينبغي أن يكون عليه بقدر ما ينتفع من أمكنة الثاني.
قال أبو الحسن اللخمي: وإن آوى حمام برج إلى دار رجل، ولم يكن حبسه، وعلم أنه برجي ولم يعلم صاحبه، جاز له ملكه، وإن عرف برجه رده على أصل قول مالك. وإن تعرضه بحبس أو اصطياد، فقال ابن القاسم وأشهب: يرده إن عرف برجه، وإلا تصدق بثمنه. قال: ومحمل قوليهما على أنه طالت إقامته، ولو كان بحدثان ما أخذه ولم يقصه أرسله، وشأنه أنه يعود إلى وكره.
وأما حمام البيوت المملوكة، فهي كالحيوان الداجن من دخل إليه منها شيء فهو كاللقطة.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

.كتاب الذبائح:

وقد تقدم في كتاب الصيد أن الحيوان لا يستباح إلا بذكاة، وأن الذكاة نوعان: ذبح، ونحر في المقدور عليه، وعقر في المعجوز عنه. وقد تقدم الكلام في ذكاة المعجوز عنه، وهذا الكتاب مقصوده النظر في ذكاة المقدور عليه.

.والنظر فيه: في المذكي والمذكى، والمذكى به، وصفة الذكاة.

.النظر الأول: في المذكي.

ولا شك أن المسلم البالغ الذكر تصح ذكاته إذا صحت منه النية؛ إذ لا تصح الذكاة إلا بنية.
ويخرج عن هذا المجنون والسكران الذي لا يميز. والمشهور صحة ذكاة من لا يصلي. وعلى رأي ابن حبيب لا تصح ذكاته. وأما الكافر فإن كان غير كتابي، فلا تصح ذكاته.
وإن كان كتابياً يقر على دينه ليس بمرتد، فإن ذبح لنفسه ما يستحله صحت ذكاته، وإن كان مما لا يستحله، فلا تصح ذكاته، إذا كان مما علمنا تحريمه عليهم بكتابنا، كذي الظفر.
وقال ابن وهب وابن عبد الحكم: تصح ذكاتهم له لنسخ شرعهم بشرعنا.
فأما ما علمنا تحريمه عليهم من الشحوم، ففي كتاب محمد: تحريمه، وحكاه القاضي أبو الحسن عن ابن القاسم وأشهب. وفي المبسوط جوازه.
وقاله ابن نافع. والمشهور من قول ابن القاسم: كراهيته.
وإن كان مما انفردوا بالإخبار عن تحريمه عليهم، كالتي يسمونها الطريفة، ففي إباحتها وكراهيتها قولان في الكتاب. قال ابن القاسم: وأرى أن لا تؤكل.
وكذلك في استباحة ما ذبحوه لمسلم ومنعه، قولان أيضاً، حكاهما الشيخ أبو الطاهر.
وعلل منع الاستباحة بأنا إنما نستبيح طعامهم، وهذا ليس منه.
وقال أيضاً: أجاز أهل المذهب ذبيحة السامرية، وهم صنف من اليهود، وإن أنكروا بعث الأجساد.
قال: ومنعوا ذبائح الصابئين، قالوا: لأنهم بين النصرانية والمجوسية، ثم ذكر أن الذي يتحصل من مذهبهم أنهم غير موحدين يعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة.
ولو ذبح الكتابي لعيده أو لكنيسته، فقال ابن القاسم: كان مالك يكرهه كراهية شديدة من غير أن يحرمه، قال الشيخ أبو الطاهر: وعند ابن حبيب ما يقتضي الجواز.
فإن غاب الكتابي على ذبيحته، فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى، أو شككنا في ذلك، لم نأكل ما غابوا عليه، وإن علمنا أنهم يذكون أكلنا.
قال الشيخ أبو إسحاق: وأكره قديد الروم وجبنهم، وأكره جبن المجوس لما يجعلون فيه من أنافح الميتة.
فرع:
ولا ينبغي للإنسان أن يقصد الشراء من ذبائح اليهود. قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: ينهي المسلمون عن الشراء من جزاري اليهود، وينهي اليهود عن البيع منهم.
فمن اشترى منهم من المسلمين فهو رجل سوء، ولا يفسخ شراؤه، وقد ظلم نفسه، إلا أن يشتري اليهود مثل الطريف وشبهه، مما لا يأكلونه، فيفسخ على كل حال. قال: وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلهذا فسخ الطريف، وإن كان غير محرم على الظاهر من المذهب.
وقد نهى مالك أن يكونوا جزارين.
فأما الصبي والمرأة، ففي الكتاب: يؤكل ما ذبحت المرأة من غير ضرورة، وإن لم يحضرها إلا نصراني، فلتل هي الذبح دونه. ويؤكل ما ذبح الصبي إن أصاب وجه الذبح. وفي كتاب محمد: أكره ذبيحة الصبي والمرأة من غير ضرورة، وتؤكل إن فعلا.
وقال أبو مصعب: لا أحب أكل ذبيحة الغلام، إلا أن يحتلم، ولا ذبيحة المرأة، وإن ذبحا في حال ضرورة، فلا أحب ذلك أيضاً.

.النظر الثاني: في المذكى:

ويجوز للإنسان تذكية سائر الحيوان، وكله يقبل الذكاة، إلا الخنزير، فإنه إذا ذكي صار ميتة.
فأما سائر الحيوان، فيطهر بالذكاة جميع أجزائه من لحمه وعظمه وجلده، سواء قلنا: يؤكل أو لا يؤكل، كالسباع والكلاب والحمر والبغال إذا ذكيت طهرت على كلتا الروايتين: في إباحة أكلها ومنعها، وقال ابن حبيب: لا تطهر بالذبح، بل تصير ميتة.

.النظر الثالث: في الآلة المذكى بها:

وهي كل محدد يمكن به إنفاذ المقاتل، وأنهار الدم بالطعن في لبة ما ينحر، أو فري الأوداج فيما يذبح، فإنه تحصل الذكاة به.
قال في الكتاب: بمروة أو عود أو عظم جاز إن احتاج إلى ذلك، قال: ويكره ذلك من غير حاجة وتؤكل.
قال ابن حبيب: ويذكى بالليطة، وهي قشرة القصب، وبالضرر، وهو حجر له حد كحد السكين.
وروي في المبسوط: كل شيء يصنع من فخار أو عظم أو قرن أو شيء يمر مراً، فإنه جائز. قال ابن حبيب: لا بأس بفلقة العظم ذكياً كان أو غير ذكي. فأما السن والظفر ففيهما ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه لا يجوز الذكاة بالسن ولا بالظفر، متصلاً كان أو منفصلاً. قال القاضي أبو الحسن: وهو الظاهر من قول مالك من رواية ابن المواز عنه.
والمذهب الثاني: جواز الذكاة بهما، متصلين كانا أو منفصلين، وهو الظاهر من رواية ابن وهب في المبسوط. قال القاضي أبو الحسن: وهو الذي نختاره أن السن إذا كان عريضاً محدداً والظفر كذلك يمكن قطع الحلقوم به مرة واحدة، فإنه يصح.
وكذلك سائر العظام متصلة أو منفصلة، سواء كانت مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل.
والمذهب الثالث: أنه تجوز الذكاة بهما منفصلين، ولا تجوز متصلين، قاله ابن حبيب واختار القاضي أبو الوليد الرواية الأولى.
وشرط القاضي أبو الحسن في صفة ما يذكي به أن يفري الأوداج والحلقوم في دفعة واحدة. قال: وما كان من ذلك لا يفريها إلا دفعات، فلا تجوز الذكاة به، وإن كان حديداً.
وقال ابن حبيب، في المنجل المضرس: لا خير في الذكاة به، لأنه يردد ولا إخاله يقطع، كما تقطع الشفرة، إذا رددت به اليد للإجهاز.

.النظر الرابع: في صفة الذكاة:

وهي نوعان كما تقدم: ذبح، ونحر.
فأما ما يختص بالذبح: فكل ما يجوز أكل، ما عدا الإبل والبقر، ويدخل في هذا الطير على اختلاف أنواعه، ومنه النعامة، فإنها تذبح عندنا.
وأما ما يختص بالنحر، فالإبل.
وقال الشيخ أبو بكر: إذا نحر الفيل، فلا بأس بالانتفاع بعظمه وجلده. قال القاضي أبو الوليد: فخصه بالنحر مع قصر عنقه. قال: ووجه ذلك عندي أنه لا عنق له ولا يمكن، لغلظ موضع حلقه في اتصاله بجسمه، أن يذبح، وكان له منحر، فكانت ذكاته فيه. ويجوز في البقر الوجهان، والذبح أفضل.
فرع:
فإن ذبحت الإبل أو نحر غيرها مما ذكاته الذبح، للضرورة، لأنه وقع في مهواة، أو ما في معنى ذلك، جاز ذلك وحل أكلها، فإن لم تكن ضرورة لم تؤكل.
وقال أشهب في مدونته: إذا ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح أكل إذا فعل، وبئس ما صنع. وفرق ابن بكير، فأجاز أكل البعير إذا ذبح، ولم يجز أكل الشاة إذا نحرت.
ومحل النحر: اللبة، ومحل الذبح: الحلق. ويستقبل فيهما جميعاً القبلة. وتنحر الإبل قياماً معقولة، ويجوز غير ذلك.
وأما الذبح فقال محمد: السنة أن تضجع الذبيحة برفق على الجانب الأيسر مستقبلة للقبلة، ورأسها مشرف، ويأخذ الذابح بيده اليسرى جلد حلقها من اللحى الأسفل بالصوف أو غيره، فيمده حتى تتبين البشرة، وموضع السكين في المذبح، حيث تكون الخرزة في الرأس، ثم يسمى الله تعالى ويمر السكين مراً، مجهزاً بغير ترديد، ثم يرفع، ولا ينخع ولا يردد، وقد حد الشفرة قبل ذلك، ولا يضرب بها الأرض، ولا يجعل رجله على عنقها، ولا يجر برجلها، ويقطع الحلقوم والودجين. ولا يعرف مالك المريء. والحلقوم مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب.
فإن لم يستقبل القبلة ساهياً أو لعذر أكلت، ولو تعمد الترك أكلت أيضاً على المشهور.
وقال ابن حبيب: لا تؤكل.
وإن ترك التسمية تهاوناً، لم تؤكل ذبيحته، وإن تركها ناسياً أكلت. حكى الشيخ أبو الطاهر نفي الخلاف في الصورتين. وإن تركها عامداً غير متهاون، فالمشهور أنها لا تؤكل.
وقال أشهب: تؤكل.
ويشترط قطع الودجين والحلقوم، ولا يشترط قطع المريء كما تقدم. وقيل: يشترط.
وهل المشترك قطع الكل، أو النصف فأكثر؟ في ذلك قولان، يأتي بيانهما.
ولو لم يقطع الذابح الخرزة، وهي الغلصمة، بل حازها إلى البدن، حتى لم يبق في الرأس منها ما يستدير، ولم ينقطع من الحلقوم شيء، فحكى القاضي أبو محمد عن المذهب: أنها لا تؤكل، وبه قال سحنون وابن حبيب والشيخ أبو إسحاق. ورواه المحمدان عن ابن القاسم ابن المواز والعتبي. ورواه ابن وضاح عن محمد بن عبد الحكم. ورواه محمد بن عمر عن مالك. ويقال لها: المغلصمة. وحكى العتبي أيضاً عن ابن وهب وغيره: أنها تؤكل. وكذلك روي عن أشهب ومحمد بن عبد الحكم أيضاً وأبي مصعب وموسى بن معاوية. فإن بقى في الرأس ما يستدير جاز الأكل.
ولا يؤكل ما ذبح من القفا. قال محمد: وأما من أراد أن يذبح في الحلقوم فأخطأ فانحرف فإنها تؤكل.
وقال ابن حبيب: لا يؤكل ما ذبح من القفا، ولا في صفحة العنق.
فروع: الأول: في بيان ما يفتقر إلى الذكاة.
والحيوان قسمان: بري وبحري، فأما البري فنوعان:
النوع الأول: ما له نفس سائلة، ويفتقر جميعه إلى الذكاة، وصفتها ما تقدم، وذلك في صغيرها وكبيرها. فمن احتاج إلى ذكاة شيء من هوام الأرض مما له لحم ودم سائل، كالحية والفأرة والحرباء والعظاية وشبهها لدواء أو غيره، فإن كانت مقدوراً عليها ذكيت في الحلق كسائر الذبائح، وإن كانت معجوزاً عنها فتذكى بالعقر،كالصيد، رواه ابن حبيب عن مالك.
وفي مختصر الوقار: ومن احتاج إلى حية، فليذكها ويلقي بطرفيها.
النوع الثاني: ما لا نفس له سائلة.
فأما الجراد منه، فالمشهور من المذهب افتقاره إلى الذكاة.
وقال مطرف: يؤكل بغير ذكاة.
وسبب الخلاف: أن الذكاة لإنهار الدم أو إزهاق الروح بسرعة. واختلف أيهما المقصود الأعظم بها حتى يكون الثاني كالتابع له.
وأما ما عدا الجراد من هذا النوع، فهل المذهب مختلف فيه كاختلافه في الجراد أو هو على قول واحد في افتقاره للذكاة؟ للمتأخرين في ذلك طريقان.
فرع:
إذا قلنا بافتقار هذا النوع إلى الذكاة فما صفتها؟ أما إن قطعت رؤوسه أو شيء منه فأماته قطعه، فهو ذكاة له، فإن رمي في نار أو في ماء حار فهل يكون ذلك ذكاة أم لا؟
قولان: الأول لمالك وابن القاسم. والثاني لأشهب وسحنون. وكذلك لو مات من أي فعل فعله به المكلف قاصداً به الذكاة.
وأما إن وقع بنفسه في ماء حار أو نار، فمات منه، فقال الشيخ أبو الطاهر: ظاهر الروايات أنه لا يؤكل. ثم حكى عن القاضي أبي الحسن: أنه يؤكل. قال: وكأنه طلب أن يتماوت موتاً يكون سبب، بخلاف ما مات حتف أنفه.
وأما القسم الثاني من الحيوان وهو البحري، فنوعان أيضاً:
الأول: ما لا تطول حياته في البر، ولا يختلف المذهب في أنه لا يفتقر إلى ذكاة.
الثاني: ما تطول حياته في البر، فالمشهور أنه كالأول.
وقال ابن نافع: لا يؤكل إلا بذكاة. وفي المدونة عن محمد بن دينار كذلك أيضاً. وفيها من رواية عيسى عن ابن القاسم: أن ما كان مأواه في الماء، فأنه يؤكل بغير ذكاة وإن كان يرعى في البر، وما كان مأواه ومستقره في البر، فإنه لا يؤكل إلا بذكاة، وإن كان يعيش في الماء. قال الشيخ أبو الطاهر: وما أظن هذا التفصيل يخالف المشهور.
وفي الكتاب: في ترس البحر يؤكل بغير ذكاة. وفي مختصر الوقار: تستحب ذكاته؛ لأن له في البر رعياً. وفي كتاب محمد في السلحفاة: ترس صغيرة يكون في البراري هو من صيد البر، ولا يؤكل إلا بذكاة، ولا يؤكل طير الماء إلا بذكاة، بغير خلاف في المذهب.
الفرع الثاني:
أنه قد تقدم اشتراط القاضي أبي الحسن أن يؤتي بالذكاة في فور واحد.
فإن لم يفعل ذلك، بل رفع الآلة قبل الإجهاز، ثم ردها فأجهز، فقال ابن حبيب: إن رجع في فور الذبح قبل أن يذهب ويدع الذبيحة جاز. وإن رجع بعد أن تباعد لم تؤكل، قال سحنون: لا تؤكل وإن رجع مكانه، وتأول بعض المتأخرين على سحنون أنه أراد: إذا رفع يده على أنه قد أتم الذكاة ثم رجع، فإنها لا تؤكل. فأما لو رفع يده كالمختبر، أو ليرجع في فروه، فإنها تؤكل. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: لو عكس هذا الجواب لكان أصوب.
وذكر أنه عرضه على شيخه الشيخ أبي الحسن فصوب قوله.
الفرع الثالث:
لو قطع بعض الحلقوم، فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في الدجاجة أو العصفور أو الحمام إذا أجهز على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثيه، فلا بأس بذلك.
وقاله ابن حبيب، وزاد: وإن لم يقطع منه إلا اليسير فلا يجوز.
وقال سحنون: لا يجوز حتى يقطع جميع الحلقوم والأوداج.
الفرع الرابع:
اشتراط كون المذكى معلوم الحياة.
فأما ما شك فيه هل موته من الذكاة أو من سبب آخر، فلا يؤكل لأنه متردد بين التحليل والتحريم، فإن غلب على الظن كون موته من الذكاة، ففي استباحته بذلك الخلاف الذي تقدم بيانه في كتاب الصيد.
وعليه ينبني الخلاف أيضاً في ذكاته ما أنفذت مقاتله، أو أصيب بما لا يعيش بعده حياة مستمرة.
والمريض المشارف للموت، وكل ما ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم في قوله: {والمنخنقة والموقوذة} إلى قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم}، فقيل: تعمل فيه الذكاة، وقيل: لا تعمل.
وأيضاً فما تضمنته هذه الآية يخرج على تحقيق هذا الاستثناء: هل هو متصل، وهو أصل الاستثناء، فتحصل الاستباحة بالذكاة في جميع ما ذكره في الآية، أو هو منقطع، فيكون معناه: لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه؟
وهذا الخلاف إنما هو في التي لو تركت لم تعش في العادة، فإن شك في حياتها، رجعت إلى ما تقدم.
وإن لم يشك في حياتها لكن أنفذت مقاتلها، فإن كان الذي أصابها في موضع الذكاة، فلا خلاف أن ذكاتها فاتت.
وإن كان في غير موضع الذكاة، فرأى أبو الحسن اللخمي جريان القولين في جواز أكلها.
وأبى ذلك القاضي أبو الوليد، ورأى أن الخلاف مؤتنف فيها، وأن المذهب جميعه أنها تمنع الذكاة، وأن الخلاف إنما هو فيما إذا بلغت حد اليأس مما أصابها، ولم تكن المصيبة في شيء من مقاتلها.
والمقاتل خمسة:
1- انقطاع النخاع.
2- انتشار الدماغ.
3- فري الأوداج.
4- انتقاب المصران.
5- انتشار الحشوة.
ثم إذا ذكيت المريضة، فإن بدا منها بعد الذبح ما يدل على أنه صادفها حية، أكلت.
قالوا: وهو أن تطرف بعينها، أو تركض برجلها، أو تحرك ذنبها، أو يجري نفسها.
وأما إن تحركت حركة يمكن أن تكون اختلاجية، فلا تؤكل. فإن غلب على الظن حياتها، فالقولان كما تقدم.
الفرع الخامس: في ذكاة الجنين، وتحصل بذكاة أمه إذا علم أنه كان حياً، ودليل حياته كمال خلقه ونبات شعره، ولابد منهما، فلا يكفي أحدهما. ولو ألقته قبل الذكاة حياً فلا يؤكل إلا أن يذكي وهو مستقر الحياة، وإن ألقته ميتاً لم يؤكل.
وإن ألقته بعد الذكاة حياً، فإن كانت حياته تبقى حتى تمكن ذكاته، فلم يذك لم يؤكل، وإن بادروا إلى ذكاته ففات بنفسه، فقيل: هو ذكي، وقيل: ليس يذكى.
وهما على ما تقدم إذا غلب على الظن وجود الذكاة، إذ هذا يغلب على الظن موته بذكاة أمه.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً.