فصل: 10 - الحرب الإعلامية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله **


 6 - أسلوب القرآن في عرض رسالة الإسلام

الأمور التي يدعو الإسلام إليها في غاية العظم، فالإسلام لا يأمر أتباعه بأمور تافهة أو ثانوية من حياتهم، بل إنه يفرض على أتباعه أن تكون حياتهم كلها من أجله، وموتهم في سبيله، وسيرهم في الحياة على نهجه‏.‏ باختصار إن الإسلام يطلب من اتباعه أن يبيعوا أنفسهم وأموالهم لله، وأن يصبغوا حياتهم كلها بصبغته وأن يكونوا في قيامهم وقعودهم وتقلبهم ‏(‏أحوالهم المختلفة‏)‏ ملتزمين بشرائعه وأحكامه وآدابه‏.‏

ومن يطلب منك نفسك ومالك لابد وأن يقدم لك عند هذا الطلب عوضاً مكافئاً، وإلا كانت دعوته لك في غير محلها بل إن أي عاقل لا يرضى أن يُطلَب منه شيء من ماله دون عوض نافع له سواء كان عوضا ماديا أو معنويا فالمال لا ينفقه الناس ولا يتخلون عنه عادة إلا في سبيل منافعهم المادية المختلفة أو الشهرة والجاه والذكر، وكلها منافع معنوية، فكيف بمن يأتيك ويقول لك‏:‏ ابذل مالك كله في هذا السبيل ولا تنفقه إلا حيث آمرك بل ولا تكتسبه إلا من حيث أرشدك، ولا تتصرف في شيء من أمورك إلا وفق هذه الشريعة وهذا المنهج‏.‏ لاشك أن من يقول لك ذلك ولا يقدم لك مبررا معقولا ولا جزاء مجزيا فإنك ترفض كلامه وتهجر قوله‏.‏

ولما كانت دعوة الإسلام لا ترضى من أتباعها بجزء من حياتهم، بل تطلب حياتهم كلها وما لهم كله وتصرفاتهم جميعها، وكان صاحب هذه الدعوة هو الله سبحانه وتعالى، وكان القرآن هو كلامه المتضمن دعوته هذه فإن الله قد أحاط دعوته بأسباب الأخذ بها حتى لا يترك لمعترض اعترضاً، ولا لمتكاسل مجالاً، ولا لمراوغ مهرباً، ولا عجب فإن الرب سبحانه هو الحكيم العليم، وكتابه هو الكتاب البلاغي المعجز نظماً ومعنى، ولذلك كان التزام الدعاة إلى الله بأسلوب القرآن في العرض لا أقول ضرورياً ، بل لا إلزام بغيره أصلاً، ولذلك قال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً‏}‏ ، فالجهاد للدعوة إنما يكون بالقرآن عرضاً وتلاوة وشرحاً وتفسيراً، ولذلك كان نهج النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أن يفعل ذلك‏.‏ فيروي مسلم بإسناده عن عمرة بنت عبدالرحمن عن أخت لعمرة قالت‏:‏ ‏"‏أخذت ‏{‏ق - والقرآن المجيد‏}‏ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة‏"‏‏.‏‏.‏ فهذه صحابية لا تحفظ سورة من القرآن إلا من كثرة ترديد النبي لها على المنبر يوم الجمعة، ومعلوم أن خطبة الجمعة كانت أهم عمل ‏(‏إعلامي‏)‏ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي بعدُ إن شاء الله تعالى- ويروي مسلم أيضا بإسناده عن صفوان بن يعلي عن أبيه أنه سمع النبي يقرأ على المنبر‏:‏ ‏{‏ونادوا يا مالك‏}‏‏.‏

 كيف عرض القرآن لدعوة الإسلام

إذا تصفحت القرآن الكريم لتعلم كيف عرض الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإسلام وجدت مصداقا لما حدثناك عنه آنفاً‏.‏

فهذا أول أمر في القرآن قوله تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون‏.‏ الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏.‏ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏

وفي الآيات نرى أن الله دعا الناس إلى عبادته معلنا أنه ربهم، وأنه خالقهم، ومعنى هذا أن من حقه أن يأمر وأن يطاع سبحانه والدليل على ربوبيته وخلقه أنه خلق لهم الأرض حال كونها فراشاً وجعل لهم السماء بناء ومعنى ذلك أنها حافظة لهم من شرور فوقهم وهذه الشرور لم نعلمها على وجهها الصحيح إلا حديثا بعد معرفة ما يسمى بالأشعة الكونية القاتلة، والصواعق والنيازك المحرقة، وأنه أنزل من السماء ماء ليخرج به من الثمرات رزقاً لكم و‏.‏‏.‏ و‏.‏‏.‏

ثم بيَّن سبحانه الغاية من هذه العبادة وهي التقوى والتقوى معناها أن تتقوا عذابه، إذ الواقع والمرتب على التكذيب‏.‏‏.‏ وهذا تهديد وترغيب أيضاً لأن التقوى منزلة في الإيمان والتقرب أيضا ثم قدّم الدليل على صدق هذه الدعوى وهي صدق الرسول الذي جاء بهذا الكلام الذي يتحدى الله به الأولين والآخرين ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏ الآيات‏.‏‏.‏ ثم عقَّب بأن كل محاولة لإثبات كذب الرسول مردها إلى الفشل وأنه لن تأتي الأيام إلا بما يصدَّق دعوته فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ وهذا أبلغ تهديد بالعذاب والنكال لمن لم يقبل هذه الدعوة، ثم بشَّر الطائعين فقال‏:‏ ‏{‏وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات، وهذه البشرى ليست هناك في الأرض بشرى تعادلها لأنها تتضمن الحياة السرمدية في أهنأ مكان وأسعده وأي عاقل لا يتمنى ذلك‏!‏‏!‏ وهكذا مع تفصيل هذا الكلام وتصوره تصورا صحيحا ووزنه وتقديره يجد العاقل نفسه أنه لا فكاك له من قبول هذه الدعوة والإذعان لها والدخول في طريقها، بل يجزم كل متبع لهذه الدعوة -إذا كان مؤمنا بها بحق- أن المجنون وحده هو الذي يرفض هذه الدعوة، وإذا لم يعترف هذا الرافض بسفهه وغروره وضياع عقله في هذه الدنيا فسيأتي وقت ليفعل ذلك وهذا عندما يعاين حقيقة الأخبار التي أخبر بها الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى عن النار وأهلها‏:‏ ‏{‏ تكاد تميّز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏}‏‏.‏

ولا شك أن العاقل يقدَّر ما يسمع، وخاصة إذا كان موجَّها إليه، لا يجد حيلة ولا ذريعة في ترك الإذعان لهذه الدعوة، فكيف إذا انضاف لهذه الدعوة مئات من الآيات البليغة في هذا الصدد لتعالج هذا الموضوع من كل زاوية من زواياه‏.‏

وهذا العرض المعجز المدعَّم بالأدلة المحيطة بجوانب الأمر لا يتوقف على الأمور العامة الشاملة، بل يشمل جميع المواضيع والجزئيات والفرعيات التي يعرض لها القرآن‏.‏ ولن تستطيع أن تقف على هذا وقوفاً كاملا إلا بالدراسة الواعية والتدبر لكتاب الله عز وجل‏.‏ فانظر مثلا إلى الآيات النازلة في شأن الطلاق، أو الميراث، أو الجهاد، أو الصدقة والزكاة، لقد عالج القرآن كل موضوع من المواضيع السابقة‏.‏‏.‏ إنه ليتركك في أمر كالطلاق تفكر ألف مرة قبل أن تقدم عليه، وفي أمر كالميراث تخشى أن تضع منه عودا في غير محله، ويجعلك في الجهاد والصدقة -إذا عقلت- تفضل ما أنفقته على ما بقي في يدك، وتفضل أن تموت الآن قبل الغد في سبيل الله‏.‏

وإذا قرأ المسلم الدارس كتاب الله وعرف ما فيه على هذا النحو، يعجب من العرض السخيف الذي تُعرَض به رسالة الإسلام اليوم على الناس من كثير ممن يتصدرون للدعوة والإرشاد والتوجيه‏.‏

 7 - أ- كيف نقدم الإسلام للناس ‏(‏الإسلام ليس عقيدة منافسة‏)‏

إن من أكبر عوامل الفشل في الرسالة الإعلامية الإسلامية في العصر الحاضر أننا نبشر بالإسلام على أنه عقيدة ودعوة ‏(‏أفضل‏)‏ من غيرها من الدعوات القائمة، وأن الدعوات القائمة الآن لا تحقق الخير للناس كما يحقق الإسلام، وأن الإسلام ‏(‏أفضل‏)‏ من الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية‏.‏‏.‏ وأن‏.‏‏.‏ وأن ، فهذا العرض السخيف مرفوض ممن لا يؤمن بعقيدة الإسلام، لأنهم يرون في الإسلام قيودا يرونها مناقضة لدعوى أن الإسلام يسعدهم، وهم يرون السعادة في اتباع أهوائهم وشهواتهم، ويرون أن ما يصرح به دعاة الإسلام الذين يعرضون الإسلام على هذا النحو ليس هناك في العصر الحاضر ما يؤيِّده ، ويرون أن استدلال الدعاة إلى الإسلام بسعادة القرون السابقة بحكم الإسلام لا ينسحب على العصر الحاضر، لأن وسائل الناس المادية وأفكارهم وعقائدهم قد تغيّرت وتطورت، ونعيب على هذه الدعوة أيضا ما يرون من أحوال المسلمين، حيث يعيشون في الشقاء والجهل والتأخر‏.‏ ولاشك أن دعاة الإسلام المعاصرين لهم ردود على هذه الشبهات، كأن يقال مثلاً وإن الإسلام ليس مطبقا تطبيقاً سليماً في الوقت الحاضر، وإن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن مما لا شك فيه أن هذه الدعوى أيضا حولها شبهات جديدة وهكذا يدور دعاة الإسلام في حلقة ودوامة من الردود والشبهات وتكون الغلبة بالطبع لأعداء هذا الدين لأنهم يملكون وسائل أقوى وأساليب أبلغ وبهذا يجهل الدعاة اليوم القاعدة الأولى من قواعد الإعلام الإسلامي الناجح وهو أن يعرض الإسلام على أنه العقيدة العليا بل العقيدة الواحدة المهتدية وأن غيره هو الضلال‏.‏

يجب أن يُعرَض الإسلام على أنه لا خيار للناس في الأخذ به أو رده إن أرادوا النجاة من عقاب الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وما السعادة الدنيوية إلا ثمرة من ثمرات الإيمان‏.‏‏.‏ ولاختلاف الناس في مفهوم السعادة، فنحن لا نجعلها فيصلا وغاية في قبولهم للإسلام أو رفضه، بل حتى لو شقوا بعد إيمانهم بعذاب الكفار وفتنتهم لهم، وجهادهم المتواصل في سبيل الله، فلا يجوز بتاتا أن يحملهم هذا على التخلي عن الإسلام لسواه‏.‏

باختصار‏:‏ نحن لا نساوم الناس بالسعادة ليدخلوا في هذا الدين، فمقاييس السعادة غير متفق عليها بين البشر، ولكننا نعرض الإسلام في مقابل الهداية والفوز برضوان الله سبحانه وبأنه الطريق الذي لا خيار لأحد في تركه إذا أراد السلامة والنجاة، ولا يمنع هذا أن يبشرهم بالعزة والنصر والحياة الطيبة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان والعمل الصالح، وهذا الذي يجب علينا أن نسلكه إزاء عرض دعوة الإيمان وبيان أصول الإسلام يجب علينا أن نسلكه أيضا في عرض أحكامه وتشريعاته فمن الجهل المطبق أن تعرض تشريعات الإسلام لما تحقق من خير وما يترتب على رفضها من شر‏.‏ فالقول بأن الصلاة تعلم النظام والنظافة وتقوي الأبدان، وأن الصوم يصح الجسم والخمر يضر بالمعدة ولحم الخنزير يحمل الأمراض والجراثيم و‏.‏‏.‏ و‏.‏‏.‏ هذا كله عرض سخيف يرد عليه أعداء الإسلام بأن المنافع التي تتحقق ببعض تعاليم الإسلام نستطيع تحقيقها بغيرها والأضرار التي تتحقق من بعض ما حرم الإسلام نستطيع تفاديها بالإقلال من تعاطيها مثلا، أو باستخدام العقاقير الحديثة والعلوم الحديثة في إصلاحها وتطهيرها‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وبهذا نجد أن طريقة العرض على هذا النحو مردوده وتحتاج إلى أن ندور مع المعارضين في دوامات طويلة من النقاش والردود والاستشهاد بأقوال الأطباء من شرقيين وغربيين، والخبراء الاجتماعيين والنفسيين والعلماء من كل حدب وصوب ويا للأسف لماذا لا نتمسك بكلام رب العالمين‏؟‏ باختصار اتخذ الإسلام عند عرضه لمسائل الإيمان موقفاً محدداً، وهو نقاش الكفار حول وحدانية الله سبحانه وتعالى وتفرّده بالخلق والإيجاد ورتب على هذا وجوب أن يكون هو الإله الواحد المعبود وحده المطاع وحده سبحانه وتعالى، ولذلك مكث رسول الله في مكة ما مكث يدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده وكان النقاش حول هذا الموضوع وحده وما يلازمه من وجوب طاعته وحده وترك كل طاعة تخالف طاعته‏.‏

ولذلك نقول الدعوة إلى التوحيد أولا‏.‏‏.‏ التوحيد بكل معانيه‏:‏ توحيد الربوبية، والألوهية، وتوحيد أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى‏.‏

وأما الدعوة إلى الاتباع والشريعة والأحكام، فهي دعوة خاصة بالمؤمنين، ويجب على المؤمن أن يتعلم أن يقول عند أمر الله ونهيه‏:‏ ‏"‏سمعت وأطعت‏"‏ ، ولا بأس بأن يتعلم المؤمن أثر العبادة والطاعة في نفسه ومجتمعه وأن يستمتع بثمرة ذلك فإن هذا من الخير المعجل للمؤمن في الدنيا‏.‏ فاطمئنان قلب المؤمن بذكر الله سبحانه، وانتهاء الجريمة والقضاء على الشر بتطبيق الحدود الإسلامية، وكون الرخاء والخير منوطان بالطاعة، أقول بيان هذه الثمرات وقرن الدعوة الإسلامية لتطبيق شريعة الله بثمرات ذلك أمر لازم ولابد منه ولكن يجب أن نضع هذا في مواضعه وهو أن هذه الثمرات الدنيوية نتيجة للإيمان، وليس بلازم أن تتحقق في كل جيل فقد يجد بعض الجيل ثمرة الإيمان والطاعة من العز والتمكين والأمن في الدنيا، وقد لا يجدونها لوجود أسباب أخرى من غربة الإسلام مثلا وكثرة أعدائه، وتأخُّر النصر عن القائمين بالدعوة إليه‏.‏ يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه‏:‏ آمنا برسول الله وصدّقناه، فمنا من مات لم يأخذ من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قُتِل يوم أحد، فلم تجد ما نكفِّنه به إلا شمله إن غطينا بها رأسه بانت رجلاه، وإن غطينا بها رجليه بان رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏غطوا بها رأسه وضعوا على جليه من الإذخر‏]‏‏.‏ وهكذا وُجِدَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مات في إبان دعوة الإسلام مجاهدا صابرا فقيرا، لم ينعم بليلة من ليالي الأمن ولا يوم من أيام الرفاهية، وإنما آمن ابتغاء تلك الثمرات العظيمة الأخرى التي تترتب على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وهي الفوز برضوان الله وجنته والهداية إلى طريقه المستقيم‏.‏

باختصار‏:‏ إن الإسلام يعني الحياة والكفر يعني الموت‏.‏‏.‏ إن الإسلام يعني البصر والسمع والعقل، والكفر يعني العمى والصمم وعدم العقل، كما قال سبحانه وتعالى مخبرا عن الكفار يوم القيامة‏:‏ ‏{‏وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فأخبر تعالى أن الكفار لا عقل لهم ولا سمع في رفضهم لهذه الدعوة التي هي دعوة الحق والنور‏.‏

يجب أن يُعرَض الإسلام على الناس على أن الحياة بدونه دم وجهل وحمق وجاهلية، وخروج عن طاعة خالق هذا الكون سبحانه وتعالى‏.‏ وتسخير للإنسان في غير ما خُلق له، فقد خلق ليعبد الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ، وبهذه الإحاطة نقدم الإسلام للناس‏.‏

 7 - ب - كيف نُقرِّب رسالة الإسلام لفهم الناس‏؟‏

تعقيد العلوم الإسلامية حال دون الاستفادة منها استفادة كاملة، وأخرج علماء لا يستوعبون الأهداف العالية للإسلام ورسالته في الأرض، بل ويحصرونه في القضايا الجزئية التي لم يحسنوا غيرها، ولذلك اضطر هؤلاء العلماء إلى الحلول السطحية للمشكلات التي تواجهها الأمة، وذلك أنهم أرادوا أن يحكموا بواسطة الجزء الذي تعلموه على الكل الذي يواجهونه، ولذلك كان الإفتاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يصدر عن علماء المسلمين بوجه عام ضيقاً سطحياً ، ولذلك أصبح الفكر الإسلامي -إلا في الحالات الشاذة- فكراً تابعاً ذليلاً للفكر السياسي والاجتماعي، والاقتصادي السائد‏.‏ وكان من الواجب أن يكون الاجتهاد الإسلامي اجتهاداً رائداً موجِّهاً لسياسة الأمة واقتصادها ونظم الاجتماع فيها‏.‏

ولذلك وجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يكونوا على مستوى حركة الأمة وواقعها، ولا يفترض بالضرورة أن تكون حركة الأمة موافقة للإسلام تماماً ولا أن يكون واقعهاً واقعاً إسلامياً راشداً، وإلا فما مهمة أهل العلم من المسلمين إن كان الناس سيسيِّرون هذا الدين تلقائيا عفوياً‏.‏ هذا لا يتأتى إلا في مجتمع الملائكة، وأما في مجتمع البشر فلا‏.‏

ولا يمكن أن يكون العلماء على مستوى حركة الأمة وواقعها إلا إذا اتسمت بحوثهم وخطبهم ومحاضراتهم بالحكم على الواقع وترشيده، وكانت تصحيحا لحركة الأمة وسير حركتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والتربية والأخلاق، وأما الاكتفاء بهذا الوعظ الأبله، والعيش في أمجاد الماضي ومثالياته -دون نقل هذه المثاليات والنظم والقوانين للعمل والتطبيق في الحاضر- يبدو هذا أمراً تافهاً للغاية‏.‏

وإذا كنا بصدد تسهيل مهمة فهم الإسلام وجعله -كما شاء الله- رسالة شعبية وعقيدة وخلقاً ومنهجاً للناس جميعا، فإنه يتحتّم علينا نفي التعقيد اللفظي والكهانة الدينية‏.‏‏.‏ وخير ما يقال في هذا الصدد هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏وأبغضكم مني وأبعدكم عني مجلساً يوم القيامة المتشدقون والمتفيقهون والمتحذلقون‏]‏‏.‏

فالتشدق هو إدارة الكلام في الأشداق، وملء الفم به تفاصحاً خلق ذميم يعطل الفهم ولا ييسره، وكذلك التفيهق والتحذلق، بل الواجب على دعاة الإسلام وعلمائه أن يكونوا كما أمر الله رسوله‏:‏ ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏}‏‏.‏

ولتسهيل هذه المهمة الإعلامية بالإسلام يجب أن تتبع الخطوات الآتية‏:‏-

أولا‏:‏ فهم الأهداف والحكم العالية من رسالة الإسلام في الأرض، ويعني هذا الإجابة عن الأسئلة الآتية‏:‏

ما الحكمة التي خلقنا الله من أجلها‏؟‏ لماذا فرض الله هذا الدين بالذات‏؟‏ أعني لماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب‏؟‏ ولماذا يجب على الناس أن يكونوا مسلمين‏؟‏ وما ثمرات ذلك‏؟‏ وما مضار النكوص عن تحمُّل هذه الأمانة‏؟‏‏.‏‏.‏ والأجوبة السطحية على هذه الأسئلة لا تعني شيئا، بل لابد من استقراء الكتاب والسنة بفهم الإجابة الموضوعية عليها‏.‏

ثانياً‏:‏ التصور الإسلامي الواضح للحلول لمشاكلنا الجزئية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وشتى شؤون حياتنا، ولا يتأتى هذا التصور بالإجابات العمياء التي تصدر عن فراغ من العلم بالكتاب والسنة، أو فراغ من العلم بواقع الناس، أو رغبة خبيثة في تطويع الإسلام للواقع المنحرف‏.‏‏.‏ بل لابد للإفتاء في هذه القضايا من العلم بالكتاب والسنة، ثم العلم بواقع الناس، ثم النزاهة ومراقبة الله في تطويع الواقع للدين، لا تطويع الدين للواقع‏.‏

ثالثا‏:‏ بث هذا التصور الإسلامي في القضايا الجزئية بأسلوب البناء لا الهدم، أعني بإصلاح فساد المجتمع -ولو جزئياً- بدلا من انتظار انهياره الكامل لإقامة صرح الإسلام من جديد فالذين ينتظرون وصول المسلمين إلى حالة الانهيار الكامل وسقوط السلطات الحاكمة ليؤسِّسوا الخلافة الراشدة غوغائيون لا يفقهون الإسلام ولا يعرفون غاياته‏.‏‏.‏ والمسلم يرحب بالإصلاح الجزئي ويسعى إليه وليس الإصلاح الجزئي هو هدفه النهائي بل هدف المسلم هو الإصلاح الشامل للبشرية كلها إن استطاع وقد دعا الله سبحانه وتعالى الكفار -وهم كفار- إلى كثير من الأوامر والفرعيات، كالتفكر في شأن الرسول وترك تقليد الآباء والأجداد، ورفع الظلم عن المسلمين‏.‏ وعقد رسول الله الموادعات مع اليهود والنصارى والمشركين ولم يكن هذا هو نهاية مراده وأمله فيهم ومعهم ولا نهاية حركته ودعوته معهم أيضا فقد أتى وقت أنهيت فيه هذه العهود وألغيت فيه هذه المواثيق دون خيانة من الرسول -بالطبع- وابتدأ الرسول معهم صفحة جديدة من الجاد والدعوة‏.‏

فالحركة الدائبة للدعاة المسلمين في الإصلاح الجزئي لأي ناحية من نواحي حياتنا العديدة، العبادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الخلقية هو صلب الدعوة وطريقها‏.‏ وأما النظريات ‏(‏الخارجية‏)‏ في بناء هيكلية دينية تعيش في فراغ اجتماعي ولا تتعامل مع المجتمع الذي سموه ‏(‏جاهليا‏)‏ إلا بالانقضاض والحرب فهو فكر مدمر للدعوة والإسلام وإن كنا نفترض الصدق في نيات حامليه ومروِّجيه، إلا أننا نخالفهم الرأي والاجتهاد ونرى أن الإصلاح الجزئي هو خطوة في الطريق للإصلاح الكلي، وقد قلت سابقا إن الإصلاح لا يعني تطويع الإسلام للواقع بل تطويع الواقع للإسلام والإسلام الذي ندعو إليه هو إسلام الكتاب والسنة‏.‏

وإسلام الكتاب والسنة أهم صفاته‏:‏ أنه إسلام رشيد لا يُحابى أحداً ولا يشهد إلا بالحق لأنه من الله والله هو الحكم العدل سبحانه‏.‏

 8 - أ - موقف المسلم من الحرب الإعلامية المضادة للإسلام

منذ صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته والحرب الإعلامية المضادة له ولدعوته لم يهذأ أُوارها، وكان ومازال من أساليب المعارضين لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلقاء الشبهات حول هذا الدين، والبحث عن مطاعن فيه ينفذون من خلالها إلى صد الناس عنه، وتزهيد الناس فيه‏.‏

ولم تخل عقيدة للإسلام ولا شريعة له من اعتراض معترض وطعن طاعن، وتكاد أن تكون المطاعن والشبهات الجديدة ترديدا -ببغاوياً أحياناً- للشبهات والمطاعن القديمة، فقلوب الكافرين متشابهة في كل عصر ومصر، وشيطان الشبهات واحد‏.‏

فقديماً اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون، وأن القرآن الذي أوحي إليه ما هو إلا أساطير سطرها الأولون، وقالوا أيضا بل تعلمها من غلام رومي بمكة، وقالوا بل افتراها واختلقها من عند نفسه، وقد ساعده في هذا الافتراء قوم آخرون لا ندري عنهم، وقالوا بل هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه والمرء وأخيه وأبيه، وقالوا ما أراد بهذا إلا ملكا ورئاسة، وقالوا بل أراد أن يبطل دين الآباء والأجداد، وأن يفرق جماعتنا، ويشيع الفتنة في مجتمعنا، وقالوا بل هو شاعر شأنه شأن زهير والنابغة، فانتظروا موته لتستريحوا كما مات أولئك وأصبحت رواياتهم وشعرهم تاريخا‏.‏

وقالوا أيضا في أصحابه الأقاويل، فقد زعموا أنهم من الأوباش والشذاذ وأهل الجرائم السابقة، وما تجمعوا حوله إلا لأغراض في أنفسهم، ويوم يحين الجد يتفرقون عنه ولا يبق حوله أحد‏.‏ بل قالوا لو كان هذا الدين الذي جاء به محمد خيراً ما سبق هؤلاء إليه، فنحن لمكانتنا وشرفنا أحق بالخير وبالهداية منهم فما هؤلاء في ميزان الله‏؟‏‏.‏‏.‏

وقالوا ما الآخرة التي يدعيها الرسول إلا وهم وخرافة ، فيستحيل عقلاً إعادة الحياة إلى عظام بالية قد أرمت، وضلت في الأرض‏.‏‏.‏ وما الزقوم الذي يهددنا به الرسول إلا تمر يثرب بالزبد، ثم إن أشجار الزقوم هذه التي يدعي محمد أنها تنبت في النار دليل على كذبه، فإن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها‏؟‏ ثم ما هؤلاء الملائكة عند الله إلا بناتاً‏.‏ وإن كان على النار تسعة عشر منهم -كما يدعي محمد- فإننا نستطيع التغلب عليهم ثم نقفل النار فلا يدخلها أحد ممن يهددهم هذا الرسول وأما هذه الجنة فويل لهؤلاء المستضعفين لو فكروا أن يسبقونا إليها، فسندخلها قبلهم ونحرمهم منها‏.‏

وانطلقوا حول النبي لا يسمعون آية من القرآن إلا استهزؤوا بها، ولا تقع حادثة يرونها في صالح إثمهم وفجورهم إلا عيَّروا الرسول بها، فقد عيَّروه بانتصار الفرس -دولة الأوثان- على الروم -دولة النصرانية والإنجيل- وذلك أنهم شبَّهوا أنفسهم بالوثنيين، وشبَّهوا الروم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن سمعوا أن أمته ستسود هللوا وصرخوا وصفروا وأخذوا هذا الكلام دليلا جديدا على جنون الرسول عندهم، وعلى أنه يتكلم بالخرافات والأماني لما يشاهدون من ضعفه وضعف أصحابه وهوانهم واستطاعتهم سحق المؤمنين به لو أرادوا‏!‏‏!‏‏.‏

وما كاد يخبرهم بخبر إسرائه إلى بيت المقدس حتى أعماهم الضحك، وأذهب صوابهم التندُّر والسخرية، ثم حملوا أمر إنقاذ المسلمين والمؤمنين بالرسول من هذا التخليط في نظرهم، فقاموا يناشدون المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم ودين آبائهم وأن يتركوا هذا النبي الذي يهذي ويكذب، فليس أدلَّ على كذبه عندهم من أن يذهب في ليلة واحدة إلى الشام ثم يعود وهم يمكثون شهرا في الذهاب وشهراً في الروحة‏.‏ وجاء ناصحهم إلى أبي بكر يزعم أنه يستنقذه من إفك محمد، فقال لهم ياقوم‏:‏ إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، إنني أصدقه في خبر السماء‏!‏‏!‏ فتحيَّروا من هذا الكذب الصراح في نظرهم - وهذا الإيمان العميق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما حرَّم الله الميتة على المسلمين -وكانت العرب تأكلها- جادلوه بالقدر ، وأن الله هو الذي يميتها، فهل ما يذبحه الله في الليل بسكين من ذهب أقل شأنا وقدرا من الذي تذبحونه أنتم معشر المسلمين‏؟‏‏!‏

وفي المدينة تعرض الإسلام والنبي لحملة أشد، فاليهود أهل الخسة والمكر والدهاء والكذب والبهتان يرمون كل يوم بشبهة، ويقذفون كل نهار بأراجيف، وضعاف الإيمان والمنافقون يسمعون لهؤلاء ويشيعون ما يقولون، البعض بقصد، والآخرون بغير قصد، وأحيانا يتعالى همسهم ويرتفع صوتهم، فيجابهون النبي بالتكذيب ويقولون‏:‏ ‏{‏وما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا‏}‏ وهكذا انطلقت شبهات اليهود والمنافقين حول تحويل القبلة والإفك المفترى على الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وكذلك حول أخبار النبي بنصر الله له وحول الصلاة ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا‏}‏ فما كانوا يسمعون المؤذن حتى يتعالى ضحكهم واستهزاؤهم وكل هذا أين‏؟‏ في المدينة المنورة وحول مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم‏!‏‏!‏‏.‏

ليس هذا فقط بل ما يخرج الرسول في غزوة حتى يقولون لن يعود منها ويشيعون بأنه قتل وفعل به الأعداء ما فعلوا، فيبكي النساء والأطفال في المدينة وضعفاء المسلمين، ولا يقعد هو مرة حتى يقولوا خاف وقعد وأرسل غيره‏!‏‏!‏ ولا يُخلِّف رجلا كعلي بن أبي طالب حتى يقولوا‏:‏ خشي على زوج ابنته وابن عمه لأنه سيقابل الروم‏.‏‏.‏ ولن يعودوا‏.‏‏.‏ ويلحق علي بن أبي طالب النبي باكيا، ويناشده أن يرحمه من أقاويل المنافقين، وأن يأخذه معه إلى تبوك وأن يُخلِّف غيره، فيقول له‏:‏ ‏[‏أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‏؟‏‏!‏ غير أنه لا نبي بعدي‏]‏‏.‏

هذه وتلك بعض من الحروب الإعلامية التي جابهها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، بل إنها نزر يسير منها فكيف بالحرب بعده منذ أبي بكر للآن‏؟‏‏!‏ هذه الحرب المضادة للمسلمين والإسلام لم يهدأ أوارها ولم تطفأ نارها ولن تزال إلى يوم القيامة واليوم حول كل عقيدة عشرات الشبهات وحول كل شريعة آلاف الاعتراضات‏.‏ فالصوم تعطيل للإنتاج، والزكاة نظام بالٍ لا يصلح لمتطلبات العصر ، ولذلك فالضرائب خير منه، والحج لا معنى له‏.‏ بل هو إهدار للجهد والوقت، وقطع يد السارق وحشية، وقتل القاتل ليس عدلا بل هو انتقام والانتقام ينافي العدل‏.‏‏.‏ زعموا إباحة الطلاق مشايعة للظلم، وتعدد الزوجات بدائية وهمجية والرق ينافي الإنسانية، بل يقولون الشريعة لا تصلح جملة لعصر الطائرة والصاروخ‏.‏‏.‏ وصل الناس إلى القمر ومازلتم تصلُّون وتأمرون النساء بالحجاب‏؟‏‏!‏‏!‏ ويتغامز بالمسلمين كل أفاك ويقولون‏:‏ انظروا إلى لحاهم القذرة وثيابهم القصيرة وصلاتهم بالليل‏.‏‏.‏ ثم يقولون‏:‏ أتظنون أنكم بهذا سترجعون فلسطين‏؟‏‏!‏ وستحررون الأقصى‏؟‏‏!‏‏.‏

 ‏(‏ب‏)‏ موقف المسلم من الحرب الإعلامية المضادة للإسلام

لأن الشبهات والاعتراضات حول الإسلام بالغة عنان السماء، مسموعة ومقروءة كل يوم، ولأن هذه الشبهات والاعتراضات تشكل عند بعض الناس عقبة حقيقية تمنعهم من الإذعان للإسلام والإيمان به، والدخول في سلك المؤمنين، كان لابد من رد علمي شامل لأصول هذه الشبهات‏.‏

ولأن كثيرا من مثيري هذه الشبهات والاعتراضات لا يريدون بها إلا إشغالا للمسلمين وإنهاكا لقواهم وإهدارا لإمكانياتهم ورفعتهم، كان الواجب أن يقابل هؤلاء بما أمر الله سبحانه وتعالى، حيث يقول‏:‏ ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏ فأحيانا لا يكون في الوقت فسحة للرد على سخافات السخفاء واعتراضات العُمي البلهاء، وإلقاء حجر في فم كل كلب نابح، وصدق القائل‏:‏

لو كل كلب عوى ألقمته حجرا ** لأصبح الصخر مثقالاً بدينار

أعني أن إشغال الأوقات بالردود على كل جاهل مضيعة للوقت، وهذان المسلكان أو قل الموقفان ضروريان لكل داع‏:‏ -

‏(‏1‏)‏ الرد العلمي الذي يعتمد الدليل والبرهان على شبهات المضللين، واعتراضات المعترضين‏.‏

‏(‏2‏)‏ والصفح الجميل والإعراض بالحسنى عن جهالات الجهلاء وسفاهة السفهاء، وكلا الموقفين ثابتان بالكتاب والسنة‏.‏

فدليل الموقف الأول هو هذا الحشد الهائل من آيات القرآن التي نزلت جميعها ردا على شبهات واعتراضات المشركين واليهود والنصارى، فلم يترك الله سبحانه وتعالى شبهة لهم إلا وكشف زيفها وبطلانها ولا اعتراضا إلا ودمغ القائلين به بالحق الذي لا يبقي معه إلا الإذعان أو الجحود والكفران‏.‏ من هذا على سبيل المثال اتهام النبي بافتراء القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بعشر سور مثله مفتريات‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين‏}‏ أي‏:‏ كيف يسمح الله لمن يكذب عليه ولا يعاقبه بل يتركه يكذب ويفتري عليه‏؟‏‏!‏ وقال أيضا‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون‏}‏ أي ما كنت قارئا ولا كاتبا حتى تنقل مثل هذه الأخبار عن الأمم السابقة، وقال‏:‏ ‏{‏قل لو شاء اله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون‏}‏ أي‏:‏ كيف أمكث فيكم أربعين سنة من عمري لا أنطق بكلمة من هذا ثم ابدأ في الكذب المطلق والافتراء على الله وقول هذه الآيات التي لم يكن عندي علم بشيء منها قط، وقال أيضا‏:‏ ‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ نادينا‏}‏ -أي موسى- حتى تعلم ما دار هناك من حديث وقال‏:‏ ‏{‏وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون‏}‏، وذلك عن إخوة يوسف، وقال‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين‏}‏‏.‏‏.‏ وهذا بعد أن ذكر الله سبحانه ما فعل بقوم نوح‏.‏

وهكذا‏.‏‏.‏ نجد أن الله لم يترك مناسبة إلا ورد فيها على هذا الاعتراض الذي يتوجه إلى صلب رسالة الرسول والتشكيك في أمانته وصدقه، وتحدى المجادلين والمكذبين له أن يأتوا بدليل واحد يثبت دعواهم في كذب الرسل، ولذلك لم يعد أمامهم إلا الإذعان أو الكفر والنكران، ولذلك قال تعالى عن المكذبين‏:‏ ‏{‏ فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏‏.‏

وفي الاعتراض على البعث ناقشهم الله سبحانه وتعالى، وأتاهم بالدليل تلو الدليل لإثبات البعث والنشور، فقال لهم سبحانه وتعالى ما معناه‏:‏ ‏"‏إن البعث الذي تكذبون به لا يختلف عن النشأة الأولى التي تنسبونها إلى الله، وأن الذي تقرون له بخلق السموات والأرض -وهي أكبر من خلقكم- قادر على إعادتكم للحياة مرة ثانية بعد أن تموتوا، وأن إحياء الأرض بعد موتها لا يختلف عن خلق الحياة في الأجساد الميتة، ثم إن الرب سبحانه وتعالى قد أعاد إلى الحياة أناسا وبهائم وطيورا بأعيانها، كقتيل بني إسرائيل، وعزيز وحماره، وطيور إبراهيم، وموتى عيسى ابن مريم، وكل هذا ثابت لكم بالخبر الصادق الذي جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وفي الكتاب الذي تحداكم الله سبحانه وتعالى به‏.‏

وهكذا في كل الشئون العقائدية والإيمانية جادل القرآن أرباب الشبهات ودمغ باطلهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون‏}‏‏.‏

وفي الأوقات التي يضعف فيها المسلمون يتعالى استهزاء الكفار بالإسلام وأهله، ويؤدبنا الله في مثل هذه الأوقات بآداب الإسلام من الصفح الجميل، والتذرع بالصبر، والإعراض عن الجاهلين، والفزع إلى الصلاة، والاستئناس في هذه الفرية بحب الله ومرضاته، وحسن التضرع إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏}‏، وكون الساعة آتية يعني أن كل مستهزىء سيبلغ جزاءه‏.‏ وقال أيضا‏:‏ ‏{‏واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين‏}‏، وكل من لم يعرف ربه وخالقه وخالق هذا الكون، وفيم خلق وإلى أين يسير فهو جاهل، وما أكثر هؤلاء الجهلة في عصرنا الحاضر وإن كانوا أمام الناس يحملون شهادات سموها ‏(‏دكتوراه‏)‏ وهم من أجهل الناس وأكفرهم وذلك بجحودهم لخالقهم سبحانه وتعالى‏:‏ وهل هناك أظلم قلباً، وأعمى فؤاداً ممن لم يعرف خالقه وربه، وهل هناك أشد غباوة وإثما ممن لم يقدم شيئا لآخرته ينجو به من عذاب الله وسخطه‏؟‏‏!‏‏.‏

والشاهد‏:‏ أن مقابلة هؤلاء الجاهلين بالصبر والصفح أحيانا، وبدمغ باطلهم أحيانا أخرى هو المنهج الرباني الذي يجب أن يلتزمه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكل حدث حديث‏.‏

 

9 - عقبتان في سبيل الرسالة الإعلامية الإسلامية

لنجاح أية رسالة إعلامية لابد من اتصافها بالسهولة واليسر فهماً وتطبيقاً، أعني أن المادة الإعلامية المراد نشرها إن لم تكن مادة ميسرة يفهمها عموم الناس على اختلاف ثقافاتهم وذكائهم وقدراتهم العقلية بقيت محصورة أو فاشلة‏.‏‏.‏والرسالة الإسلامية ‏(‏كمادة‏)‏ يراد نشرها وإقناع الناس بها هي في ذاتها ميسرة سهلة فهماً وتطبيقاً‏.‏

ولكن هذه ‏(‏ المادة الإسلامية‏)‏ أو لنسمها العلوم الإسلامية قد تعقدت تعقيدا سيئا للغاية وشوهت تشويها بليغا وبهذا التعقيد والتشويه تعثر الإعلام الإسلامي الذي يبغي نشر الإسلام وتعميم نوره في مشارق الأرض ومغاربها وهذه أهم أسباب هذا التعقيد والتشويه وبعض المظاهر من ذلك‏:‏-

1 - مادة الإسلام الأساسية ‏(‏الكتاب والسنة‏)‏ في غاية اليسر والسهولة فهما وحفظا وإدراكا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر‏}‏ وحديث النبي قد صيغ بلغة سهلة بليغة يستطيع الفرد العادي أن يفهمه بقليل من الشرح، وهذه المادة فهمها العرب في صدر الإسلام على اختلاف درجات ذكائهم، بل فهمها الأحرار والعبيد والنساء والصبية‏.‏‏.‏ وإذا قارنا بين النبي والفيلسوف علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بفلسفة عقلية يصعب على الفرد العادي تصورها وهضمها كما هو الشأن في كل الفلاسفة الذين لا يفقه كلامهم إلا الخاصة من الناس‏.‏

ولكن الكتاب والسنة قد تناول علومهما المختلفة ‏(‏العقائد‏)‏، والتشريع العملي، والأخلاق والسلوك‏)‏ علماء اتخذوا الدين صناعة وحرفة لا هداية وخلقا، وكان هذا يقتضي أن يجعلوا هذه العلوم ‏(‏كهانة‏)‏ لا يعلمها غيرهم وبذلك تحوَّل كل فرع من هذه الفروع إلى كهانة حقيقية‏.‏ فعلم العقائد والذي سمي بعلم الكلام أصبح مسائل فلسفية عقلية لا يستطيع أن يجاري العامة من الناس أهل هذا العلم في قليل ولا كثير بل يصاب المثقف العادي الذي لم يدرس هذا العلم بالدوار ‏(‏وجع الرأس‏)‏ لو حاول أن يقرأ منه صفحة كاملة، والفقه عُقِّدت قضاياه وطرق استنباطه تعقيدا، بحيث أصبحت مجرد قراءة الفاتحة قراءة سليمة في الصلاة تحتاج معها إلى أن تعرف وتحفظ ثماني عشرة قاعدة قد تفني شهرا من عمرك ولا تستطيع أن تستحضرها، ويسمونها في الفقه شروط قراءة الفاتحة في الصلاة‏!‏‏!‏ وأنا أشهد أننا أمضينا عاماً كاملاً في الجامعة نتعلم فيه آداب قضاء الحاجة والفرق بين النجاسة والطهارة‏!‏‏!‏ فمتى يتفرغ المتخرجون -وهم يحملون شهادات علمية دينية عالية- لدراسة نظام الإسلام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري‏؟‏ أنا واثق أن هؤلاء يجهلون جهلا كاملاً كيف يمكن للإسلام أن يقيم نظامه الحضاري في العصر الراهن‏؟‏‏!‏‏.‏

وأما علوم الأخلاق والسلوك، فقد يظن البعض أن دعاة الإسلام والعلماء الحاليين، إلا من قد فهموه ودعوا إليه -والحق أن المؤلفات الإسلامية في هذا الصدد أيضا- هي في غاية التعقيد، بل والتخريف‏.‏‏.‏ فللأسف إن التصوف الذي جعل واجبه الأول هو السمو الأخلاقي والنفسي قد أتى علماؤه والكاتبون فيه بنظريات مدمرة للأخلاق والقيم بل والحضارة بأسرها وقد ناقشنا هذا في كتاب الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة وسنزيد هذه القضية إيضاحا في جولة جديدة إن شاء الله تعالى‏.‏

وبهذا أصبحت العلوم الإسلامية مجموعة من المعميات والأحاجي التي لا يستطيع الفرد العادي أن يلم إلا بنُتَفٍ يسيرة منها، ولذلك جهل كثير من المسلمين المعنى الشمولي للرسالة الإسلامية الخالدة، وبقي فهمهم محصورا في القضايا الجزئية التي مجَّتها الأسماع لكثرة تردادها في المناسبات والأعياد، والتي لا يُحسِن معظم الدعاة إلى الإسلام غيرها‏.‏

2 - وأما المشكلة الثانية التي تقف عقبة دون فهم الإسلام ونشر رسالته في العالمين ،فهي هذه النظرة الجزئية للإسلام من المتأصلين باسمه والمحسوبين عليه، فهؤلاء العلماء الذين يأخذون رواتبهم من مال الأمة لتفرغهم لنشر الإسلام وتعليم أهله، ينطلقون في دعوتهم من منطلقات ضيقة جدا هي المعرفة المحدودة التي درسوها -على الرغم منهم- في الجامعات حتى نالوا هذه الشهادات -العالية، والعالمية، والدكتوراه‏.‏‏.‏ الخ هذه الألقاب والنعوت‏.‏‏.‏ وهذه المنطلقات الضيقة لا تسعفهم على الإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم في شؤون الحياة، فالإسلام ليس عبادة فقط، والعالم الذي يصعد المنبر يُسأَلُ من الناس في الصلاة والاقتصاد بشتى مشاكله والأخلاق والنظم والقوانين والسياسة، ويخشى إن قال في بعض هذه الأمور لا أدري أن يـتَّهم بالجهل وقلة المعرفة، ويدفعه غروره واعتلاؤه المنبر فوق الناس، وحفاظه على وظيفته وهيبته أن يفتي في كل شيء، ويشمِّر عن ساعده في كل قضية، ومن هنا يأتي بالمضحكات وبالتفسيرات السطحية الضيقة التي تُنسَبْ بالطبع للإسلام وبذلك يضطر المثقف العادي أن يحكم على الإسلام بالتخلف والبعد عن المنطق والواقع، والصحيح أن التخلف والبعد عن المنطق هو في فتوى هؤلاء العلماء وخطبهم لا في الإسلام‏.‏

وقد يزيد الأمر تعقيدا أو الطين بلَّة -كما يقولون- أن يتطوع الشيخ من نفسه لكسب ‏(‏الشعبية والجماهيرية‏)‏ أن يفتي ويخطب في هذه الأمور دون دراية وعلم، وبذلك يأتي بالدواهي العظيمة، وينظر الناس إلى الإسلام نظرة السخرية والامتعاض، والذي يُعقِّد هذه المشكلة أكثر من هذا أيضا أن كثيرا من هؤلاء العلماء والمشايخ لا يقدِّمون حلولهم لمشاكلنا، وآراءهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والدعوة على أنها فهمهم الذي توصلوا إليه لكلام الله وكلام رسوله بل على أنها حكم الله وحكم رسوله، وأن مخالفهم كافر ومارق وماجن‏.‏‏.‏ الخ هذه النعوت التي يسمعها المصلون في كل جمعة تقريبا‏.‏‏.‏ ولو تواضع هؤلاء العلماء وقالوا إنها غاية ما توصلوا إليه من اجتهاد وبحث، ووقفوا من العلم والمعرفة حيث هم فعلا، ولم يفتوا في قضية إلا بعد التحقيق فيها لكان للدعوة الإسلامية اليوم شأن آخر‏.‏

هاتان عقبتان أساسيتان تقفان في سبيل نشر الإسلام أو في سبيل الرسالة الإعلامية الإسلامية وما لم نعمل جميعا على إزالتهما فليس هناك أمل في نجاح رسالة الإسلام العالمية‏.‏

 

10 - الحرب الإعلامية

علمنا أن الإعلام في الإسلام جزء من الجهاد والدعوة، والإعلام يعني التعريف بالإسلام ونشر مبادئه وتعاليمه في العالمين، وتبشير المطيعين لهذه التعاليم بالجنة، وإنذار العاصين لها بالنار‏.‏‏.‏ ومحاربة الأفكار والمبادئ المناوئة للإسلام‏.‏

ونحن نعيش اليوم في عصر أقل ما يوصف به أنه عصر الحروب الإعلامية والصراع البارد لنشر الأفكار والمبادئ، ولقد كان هذا من ثمرات الحرب العالمية الثانية واكتشاف الأسلحة الرهيبة الجديدة‏.‏

لقد عرف العالم منذ وُجِد الإنسان صراع الخير والشر، والحق والباطل، هذا الصراع الذي كان نتيجة لاختلاف البشر وتباين عقائدهم واختلاف مصالحهم، وحب كل منهم -إلا من رحم الله- للعلو في الأرض وتحصيل أكبر قدر من الخير لنفسه ولو على حساب الآخرين، ورغبة كل منهم في إبعاد الشر عن نفسه ولو على رؤوس الآخرين‏.‏

ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى أهل الأرض مبشرين ومنذرين ومعلمين للناس طريق ربهم -تبارك وتعالى- ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وليقيموا العدل فيما بينهم، وقام الصراع بين حق الرسل واتباعهم وباطل المكذِّبين ومن على شاكلتهم وسيظل هكذا إلى قيام الساعة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم‏}‏‏.‏

ولقد حارب البشر بعضهم بعضا أيضا لاستلاب أموالهم، واحتلال أراضيهم واستعبادهم، ولقد وجد أمثال هؤلاء أنفسهم في مأزق خطير بعد اختراع آلات الدمار الحديثة، ولذلك فكّر هؤلاء الشياطين في حروب أخرى يصلون من خلالها إلى مآربهم في استلاب خيرات الآخرين وعلوهم عليه، وكانت هذه الحرب الجديدة هي الحرب الإعلامية‏.‏‏.‏ وهذه الحرب تزداد أهميتها يوماً بعد يوم للأمور الآتية‏:‏

أولا‏:‏ إنها أصبحت بديلا لا مفر منه للحروب التقليدية القديمة فلقد كانت الحروب الساخنة هي الملجأ الذي يلجأ الأقوياء إليه لفرض أفكارهم وعقائدهم أو سلطانهم أو احتلال أراضي الآخرين وسلب الخيرات التي بين أيديهم، ولقد تصارع الأقوياء في الأرض فيما بينهم تسابقا على الفريسة وتسلطا على الآخرين، واليوم وجد الأقوياء من الدول الغاشمة أنفسهم على شفا الهلاك إن استخدموا ما بأيديهم من السلاح الذري وغيره ضد بعضهم بعضا في سبيل الاستعمار والسيطرة، ونشر المبادئ والأفكار والأنظمة‏.‏

ثانياً‏:‏ لقد برز الرأي العام ‏(‏رأي الشعب‏)‏ كقوة سياسية لها أثر في تغيير أنظمة الحكم وتبديل الرئاسات بعد انتشار مبادئ الحريات السياسية والشخصية، وبروز الأحزاب والجمعيات، وغياب العقائد القديمة في أحقية الحاكم بالحكم استنادا إلى التخصيص الإلهي‏.‏

ثالثا‏:‏ لقد توسعت معاني الحرية الشخصية والسياسية في حياتنا الراهنة وتبع ذلك كثرة المذاهب والأفكار والعقائد، ووجد كل مذهب وعقيدة وفكرة نفسه مرغما على إجادة فن الإعلان والدعاية والإعلام ليجد لنفسه مكانا تحت الشمس في هذا العالم، وبذلك أصبحت الحرب الإعلامية من الأفكار والمبادئ قائمة على قدم وساق، ولذلك ازدهرت سوق الإعلام والدعاية‏.‏

رابعاً‏:‏ إن توق الناس ولهفتهم إلى جديد من الاختراعات المادية عوَّدهم التبرُّمَ بالقديم والثورة عليه وهيأ نفوسهم إلى الاحتفال بالجديد دائما وفي غمرة هذه الانقلابات الخلقية تجددت المفاهيم والقيم والعقائد تجُّددَ النماذج الحديثة للمخترعات والسيارات والملابس، وبذلك بات الناس يجددون عقائدهم وأفكارهم تماما كما يغيرون نماذج سياراتهم، وزخرفة بيوتهم، وأزياءهم‏.‏ والحرب بين أنصار القديم والجديد من الأفكار والعقائد والقيم حرب إعلامية‏.‏

خامساً‏:‏ الوسائل الضخمة للإعلام التي يسَّرتها المخترعات الحديثة جعلت للدعاية والإعلام شيئا آخر، فلقد أصبح العالم الآن كقرية صغيرة أمام الموجات التي تنقل ليس الصوت فقط، بل الصوت والصورة، وبذلك تخطت الحروب الإعلامية الحدود السياسية لتدخل إلى عقر دار المخالفين، بل إلى مخادع الزوجات، وهكذا خلقت الآلات الحديثة ‏(‏الراديو، التليفزيون، والصحافة‏)‏ عالما جديدا هو عالم الصراع الفكري والإعلامي‏.‏

والإسلام -كعقيدة ونظام يتصل بحياة الناس صغيرها وكبيرها- يجد اليوم نفسه في صراع رهيب مع هذه الأنظمة والعقائد والأفكار الكثيرة الكثيرة، التي تملأ الأرض شرقا وغربا‏.‏

ومن سوء حظ المسلمين في هذا العصر الرهيب أن أعداءهم قد سبقوا إلى امتلاك هذه الوسائل الرهيبة من وسائل الإعلام، وأجادوا فنونه إجادة خيالية تفوق الوصف، وبذلك يجد دعاة الإسلام أنفسهم اليوم في حرب إعلامية غير متكافئة، حرب قد امتلك فيها الباطل وسائل عظيمة لنشر أفكاره ومحو أفكار الآخرين وعقائدهم، ولم يبق في المسلمين إلا وسائل بدائية لا تقوى حتى على إبقاء ما لدى المسلمين من عقائد وإيمان، هذا فضلا عن أن معظم الدعاة -إن لم يكن كلهم- يجهلون الأساليب الحديثة للإعلام الناجح، فلا هم يملكون الوسيلة الإعلامية القوية المؤثرة، ولا هم يعلمون الأسلوب المثالي للإعلام الناجح، ونحن في هذه الدراسة نريد أن نبيِّن الأساليب الواجب اتباعها للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى علهم يستطيعون مجابهة هذا الإعلام الخبيث الذي يريد استئصال دينهم وعقيدتهم‏.‏