فصل: كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ:

عَقَّبَ بِهِ الذَّبَائِحَ لِأَنَّهَا كَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ إذْ بِهَا تُعْرَفُ التَّضْحِيَةُ أَيْ الذَّبْحِ فِي أَيَّامِ الْأَضْحَى وَهِيَ أَفَعُولَةٌ وَكَانَ أَصْلُهُ أُضْحُويَةَ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَتْ الْحَاءُ لِثَبَاتِ الْيَاءِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَضَاحِيِّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ أُضْحِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِهَا وَضَحِيَّةٌ بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ وَيُجْمَعُ عَلَى ضَحَايَا كَهَدِيَّةِ عَلَى هَدَايَا وَضَحَاةٍ وَجَمْعُهُ أَضْحَى كَأَرْطَاةَ وَأَرْطَى.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَضْحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَفِي الشَّرْعِ هِيَ ذَبْحُ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَشَرَائِطُهَا الْإِسْلَامُ وَالْيَسَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَتَجِبُ عَلَى الْأُنْثَى وَسَبَبُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَرُكْنُهَا ذَبْحُ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا وَحُكْمُهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْوُصُولِ إلَى الثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى (هِيَ) أَيْ الْأُضْحِيَّةُ (وَاجِبَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (وَقِيلَ هُوَ) أَيْ كَوْنُهَا سُنَّةً (قَوْلُهُمَا) يَعْنِي ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» هَذَا وَعِيدٌ يَلْحَقُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَوَجْهُ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ شَاةً فَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا» إذْ التَّعْلِيقُ بِالْإِدَارَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِرَادَةِ الْقَصْدُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ لِأَنَّهُ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ مَنْ قَصَدَ مِنْهُمْ أَنْ يُضَحِّيَ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» لَمْ يُرِدْ التَّخْيِيرَ هُنَاكَ فَكَذَا هُنَا.
(وَإِنَّمَا تَجِبُ) التَّضْحِيَةُ دُونَ الْأُضْحِيَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ قَالَ: ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ وَمَجَازٌ وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الْوُجُوبُ الْعَمَلِيُّ لَا الِاعْتِقَادِيُّ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهَا كَمَا فِي الْمِنَحِ (عَلَى حُرٍّ) فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ (مُسْلِمٍ) فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ (مُقِيمٍ) فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُشْتَرَطُ الْإِقَامَةُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُقِيمُ بِالْمِصْرِ وَالْقَوِيُّ وَالْبَوَادِي (مُوسِرٍ)؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ وَهُوَ الْغَنِيُّ دُونَ الْفَقِيرِ وَمِقْدَارُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَقَوْلُهُ (عَنْ نَفْسِهِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ (لَا عَنْ طِفْلِهِ) أَيْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً مَحْضَةً فَلَا تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ (وَقِيلَ) أَيْ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ الْإِمَامِ (تَجِبُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الطِّفْلِ (أَيْضًا) أَيْ كَنَفْسِهِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً مَالِيَّةً وَالطِّفْلُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ (وَقِيلَ يُضَحِّي عَنْهُ) أَيْ عَنْ الطِّفْلِ (أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ) إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ (فَيُطْعِمُ) الطِّفْلَ (مِنْهَا مَا أَمْكَنَ) الْإِطْعَامُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ (وَيَسْتَبْدِلُ بِالْبَاقِي مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ) كَالثَّوْبِ وَالْخُفِّ فَلَا يَسْتَبْدِلُ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْخُبْزِ وَالْإِدَامِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ إرَاقَةُ الدَّمِ فَالتَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ تَبَرُّعٌ وَهُوَ لَا يَجْرِي فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُطْعِمَ الطِّفْلَ وَيَدَّخِرَ لَهُ وَيَسْتَبْدِلَ الْبَاقِي بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الطِّفْلُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا اعْتِبَارًا بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ وَفِي الْهِدَايَةِ وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَالْخِلَافُ فِي هَذَا كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِهِ الصَّغِيرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِمَا قَرَّرْنَاهُ قُبَيْلَهُ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ يَأْكُلُ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعُ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ.
(وَهِيَ) أَيْ الْأُضْحِيَّةُ (شَاةٌ) تَجُوزُ مِنْ فَرْدٍ فَقَطْ (أَوْ بَدَنَةٌ) تَجُوزُ مِنْ وَاحِدٍ أَيْضًا (أَوْ سُبْعٌ) بِضَمِّ السِّينِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِنْ السَّبْعِ (بَدَنَةٌ) بَيَانٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْبَدَنَةُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَةُ لَا تَتَجَزَّأُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ أَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ أَوْ سُبْعَ بَدَنَةٍ فَقَالَ (بِأَنْ اشْتَرَكَ) الْمُضَحِّي (مَعَ سِتَّةِ فِي بَقَرَةٍ أَوْ بَعِيرٍ وَكُلُّ) وَاحِدٍ مِنْهُمْ (يُرِيدُ الْقُرْبَةَ وَهُوَ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ (مِنْ أَهْلِهَا) أَيْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ بِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ (وَلَمْ يَنْقُصْ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ سُبْعِ) ثُمَّ فَرَّعَهُ فَقَالَ (فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ بِنَصِيبِهِ اللَّحْمَ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ نَصِيبُهُ) أَيْ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ (أَقَلُّ مِنْ سُبْعٍ لَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) لِمَا مَرَّ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْبَةِ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا وَبَقَرَةً فَضَحَّيَاهَا يَوْمَ الْعِيدِ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ السُّبْعِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ لِانْعِدَامِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْبَعْضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ الْبَدَنَةُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهَا (وَيَجُوزُ اشْتِرَاكُ أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ وَلَوْ) كَانَتْ الْبَدَنَةُ بَيْنَ (اثْنَيْنِ) نِصْفَيْنِ فِي الْأَصَحِّ قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَتَجُوزُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَنْ دُونِهِ أَوْلَى وَلَا تَجُوزُ عَنْ الثَّمَانِيَةِ لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهِ (وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا) أَيْ إذَا جَازَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيُقَسَّمُ اللَّحْمُ (وَزْنًا) بَيْنَ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ (لَا جُزَافًا) لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَا يَجُوزُ جُزَافًا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ وَالْوَزْنِ وَلَا يَجُوزُ التَّحْلِيلُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ لَا تَجُوزُ (إلَّا إذَا خُلِطَ) وَضُمَّ (بِهِ) أَيْ بِاللَّحْمِ (مِنْ أَكَارِعِهِ أَوْ جِلْدِهِ) أَيْ يَكُونُ فِي كُلِّ جَانِبٍ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ وَمِنْ الْأَكَارِعِ أَوْ يَكُونُ فِي كُلِّ جَانِبٍ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ وَبَعْضِ الْجِلْدِ أَوْ يَكُونُ فِي جَانِبٍ لَحْمٌ وَأَكَارِعُ وَفِي آخَرَ لَحْمٌ وَجِلْدٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الدُّرَرِ.
(وَلَوْ شَرَى بَدَنَةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةً جَازَ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرُ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً وَلَا يَجِدُ الشَّرِيكَ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذَا (وَالِاشْتِرَاكُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَحَبُّ) إذْ بِهِ يَبْعُدُ عَنْ الْخِلَافِ وَيَسْلَمُ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ كَرَاهَةَ الِاشْتِرَاكِ بَعْدَهُ.
(وَأَوَّلُ وَقْتِهَا) أَيْ أَوَّلُ وَقْتِ تَضْحِيَةِ الْأُضْحِيَّةِ (بَعْدَ فَجْرِ النَّحْرِ، وَ) لَكِنْ (لَا تُذْبَحُ فِي الْمِصْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلِيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ» وَهَذَا الشَّرْطُ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَيَذْبَحُ غَيْرُ الْمِصْرِيِّ كَأَهْلِ الْقُرَى قَبْلَ الصَّلَاةِ وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ أَنَّ وَقْتَ التَّضْحِيَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الَّذِي لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِيدِ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَفِي حَقِّ الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ الْوَاجِبَةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَهْلُ الْمِصْرِ لَا يَذْبَحُونَ قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَحَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَوْ مَضَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مَعَ خُطْبَتَيْنِ (وَآخِرُهُ) أَيْ آخِرُ وَقْتِهَا (قُبَيْلَ غُرُوبِ) الشَّمْسِ فِي (الْيَوْمِ الثَّالِثِ) عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةُ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ قَالُوهُ سَمَاعًا؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَهْتَدِي إلَى الْمُقَادِرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ» قُلْنَا إذَا كَانَ فِي الْأَخْبَارِ تَعَارُضٌ فَالْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي السَّوَادِ وَالْمُضَحِّي فِي الْمِصْرِ يَجُوزُ مِنْ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ وَعَلَى عَكْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَحِيلَةُ الْمِصْرِيِّ إذَا أَرَادَ التَّعْجِيلَ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا إلَى خَارِجِ الْمِصْرِ فَيُضَحِّي بِهَا كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ اعْتِبَارٌ بِالزَّكَاةِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْمُعْتَبَرُ هِيَ الصَّلَاةُ دُونَ الْخُطْبَةِ (وَاعْتُبِرَ آخِرُهُ) أَيْ آخِرُ وَقْتِهَا (لِلْفَقِيرِ وَضِدِّهِ وَالْوِلَادَةِ وَالْمَوْتِ) فَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ فَقِيرًا فِي آخَرهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَفِي الْعَكْسِ تَجِبُ وَإِنْ وُلِدَ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ فِيهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ يُعَادُ الصَّلَاةُ دُونَ التَّضْحِيَةِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ يَوْمُ الْعِيدِ عِنْدَ الْإِمَامِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيدَ ثُمَّ ضَحَّوْا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُمْ الصَّلَاةُ وَالتَّضْحِيَةُ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْبَلَدِ فِتْنَةٌ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا وَالٍ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ الْعِيدَ فَضَحَّوْا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُمْ كَمَا فِي الْمِنَحِ (وَأَوَّلُهَا) أَيْ أَوَّلُ أَيَّامِ النَّحْرِ (أَفْضَلُهَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
(وَكُرِهَ الذَّبْحُ لَيْلًا) وَإِنْ جَازَ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.
وَفِي الْمِنَحِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ وَمَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأُولَى إذْ احْتِمَالُ الْغَلَطِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى الْحَرَامِ كَنِسْبَةِ الْوَاجِبِ إلَى الْفَرْضِ (فَإِنْ فَاتَ وَقْتُهَا قَبْلَ ذَبْحِهَا) أَيْ وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ عَيَّنَ شَاةً فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ (لَزِمَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الْمَنْذُورَةِ حَيَّةٌ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمُوجِبُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا.
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا يَقَعُ عَلَى الشَّاةِ وَلَا يَأْكُلُ النَّاذِرُ مِنْهَا وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَهُ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهَا التَّصَدُّقُ وَلَيْسَ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَدَقَتِهِ.
(وَكَذَا) أَيْ لَزِمَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الْمَنْذُورَةِ حَيَّةً (مَا شَرَاهَا فَقِيرٌ لِلتَّضْحِيَةِ)؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا شَرَاهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ (وَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا شِرَاءً) أَيْ الشَّاةِ (أَوَّلًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ.
(وَإِنَّمَا يُجْزِئُ فِيهَا) أَيْ فِي الْأُضْحِيَّةِ (الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ) الْجَذَعُ شَاةٌ تَمَّتْ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ» وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ مِنْ الْمَعْزِ لِسَنَةٍ وَمِنْ الضَّأْنِ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ (وَالثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ الْجَمِيعِ) وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَحَوْلَيْنِ مِنْ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَحَوْلٍ مِنْ الشَّاةِ وَالْمَعْزِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ يَتْبَعُ الْأُمَّ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ فَيَجُوزُ بِالْبَغْلِ الَّذِي أُمُّهُ بَقَرَةٌ وَبِالظَّبْيِ الَّذِي أُمُّهُ شَاةٌ (وَتَجُوزُ الْجَمَّاءُ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا بِالْخِلْقَةِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَكَذَا مَكْسُورُ الْقَرْنِ بَلْ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا (وَالْخَصِيُّ) وَعَنْ الْإِمَامِ إنَّ الْخَصِيَّ أَوْلَى لِأَنَّ لَحْمَهُ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ (وَالثَّوْلَاءُ) وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ السَّوْمِ وَالرَّعْيِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ وَإِنْ مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ إذْ يَخِلُّ الْمَقْصُودُ (وَالْجَرْبَاءُ السَّمِينَةُ) وَلَمْ يَتْلَفْ جِلْدُهَا؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ وَلَا نُقْصَانَ فِي اللَّحْمِ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالسَّمِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ إذَا كَانَ فِي اللَّحْمِ انْتَقَصَ (لَا) تَجُوزُ (الْعُمْيَانُ) وَهِيَ الذَّاهِبَةُ الْعَيْنَيْنِ (وَالْعَوْرَاءُ) وَهِيَ الذَّاهِبَةُ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ (وَالْعَجْفَاءُ) أَيْ الْمَهْزُولَةُ (الَّتِي لَا تُنْقِي) أَيْ يَبْلُغُ عَجْفُهَا إلَى حَدٍّ لَا يَكُونُ فِي عَظْمِهَا مُخٌّ (وَالْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى الْمَنْسَكِ) أَيْ الْمَذْبَحِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُنَّ (وَلَا) لَا تَجُوزُ (مَقْطُوعَةُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ) لِنُقْصَانِهَا (وَذَاهِبَةُ أَكْثَرِ الْعَيْنِ أَوْ) أَكْثَرِ (الْأُذُنِ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ» (أَوْ أَكْثَرِ الذَّنَبِ)؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ فَصَارَ كَالْأُذُنِ (أَوْ) أَكْثَرُ (الْأَلْيَةِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ الذَّهَابَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ أَنْ يَبْقَى الْأَكْثَرُ مِنْ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَالذَّنَبِ وَنَحْوِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا.
وَفِي الْمِنَحِ وَاخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (وَفِي ذَهَابِ النِّصْفِ رِوَايَتَانِ) عَنْ الْإِمَامِ وَكَذَا عَنْهُمَا لِمَا فِي الْهِدَايَةِ وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا رِوَايَتَانِ عَنْهُمَا كَمَا فِي انْكِشَافِ الْعُضْوِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (وَتَجُوزُ إنْ ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النِّصْفِ (وَقِيلَ إنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ) قَالَ ابْنُ الشَّيْخِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ وَلِذَا تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ (وَقِيلَ إنْ ذَهَبَ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ وَصِيَّةِ «الثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الرُّبُعُ وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ مَانِعٍ لَهَا إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ الْعَيْنِ أَنْ تُشَدَّ الْعَيْنُ الْمَعْلُولَةُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جَائِعَةً فَيُقَرَّبُ إلَيْهَا الْعَلَفُ فَيَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَان رَأَتْ الْعَلَفَ ثُمَّ تُشَدُّ الْعَيْنُ الصَّحِيحَةُ وَيُقَرَّبُ الْعَلَفُ فَيَنْظُرَ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ فَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَقَدْ ذَهَبَ الثُّلُثُ وَهَكَذَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلَا يَجْمَعُ مَا ذَهَبَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّازِيّ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ إنَّهُ يَجْمَعُ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَيْنِيِّ وَلَا يَجُوزُ الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا وَلَا السَّكَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَجُوزُ وَلَا الْجَلَّالَةُ وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَلَا تَأْكُلُ غَيْرَهَا وَلَا الْجَدَّاءُ وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ ضَرْعُهَا وَلَا الْمُصَرَّمَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرْضِعَ فَصِيلَهَا وَلَا الْجِدَاءُ وَهِيَ الَّتِي يَبِسَ ضَرْعُهَا.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ قَائِمَةً وَقْتَ الشِّرَاءِ وَلَوْ اشْتَرَاهَا سَلِيمَةً ثُمَّ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ مَانِعٍ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَجْزِيهِ بِهَذِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَتَعَيَّنُ بِهِ وَعَلَى الْفَقِيرِ بِشِرَائِهِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِهِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا إذَا مَاتَتْ الْمُشْتَرَاةُ لِلتَّضْحِيَةِ عَلَى مُوسِرٍ تَجِبُ مَكَانَهَا أُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ وَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ ظَهَرَتْ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى الْمُوسِرِ ذَبْحُ إحْدَاهُمَا وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا (وَلَا يَضُرُّ تَعْيِيبُهَا مِنْ اضْطِرَابِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ) وَفِي الْهِدَايَةِ وَلَوْ أَضْجَعَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَانْكَسَرَ رِجْلُهَا فَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ حَالَةَ الذَّبْحِ وَمُقَدَّمَاتِهِ مُلْحَقُ الذَّبْحِ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ اعْتِبَارًا أَوْ حُكْمًا وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَانْفَلَتَتْ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْ فَوْرِهِ وَكَذَا بَعْدَ فَوْرِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ.
(وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ سَبْعَةٍ) الَّذِينَ شَارِكُوا فِي الْبَدَنَةِ (وَقَالَ وَرَثَتُهُ) وَهُمْ كِبَارٌ (اذْبَحُوهَا) أَيْ الْبَدَنَةَ (عَنْكُمْ وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمَيِّتِ (صَحَّ) ذَبْحُهَا اسْتِحْسَانًا عَنْ الْجَمِيعِ لِوُجُودِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ مِنْ الْكُلِّ وَالتَّضْحِيَةِ عَنْ الْغَيْرِ عُرِفَتْ قُرْبَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ (وَكَذَا) وَصَحَّ (لَوْ ذَبَحَ بَدَنَةً عَنْ أُضْحِيَّةٍ وَمُتْعَةٍ وَقِرَانٍ) مَعَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ قُرْبَتِهِمْ عِنْدَنَا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ.
وَفِي التَّنْوِيرِ وَإِنْ كَانَ شَرِيكُ السِّتَّةِ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُرِيدَ اللَّحْمِ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ (وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمُ مَنْ شَاءَ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادُّخِرُوا» وَالنُّصُوصُ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ (وَنُدِبَ أَنْ لَا تَنْقُصَ الصَّدَقَةُ عَنْ الثُّلُثِ)؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثٌ الْأَكْلُ وَالْإِدْخَالُ وَالتَّصَدُّقُ وَهَذَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ التَّصَدُّقِ بِمَا فَوْقَهُ كَالنِّصْفِ مَثَلًا (وَتَرْكُهُ) أَيْ وَنَدْبُ تَرْكِ التَّصَدُّقِ (لِذِي عِيَالٍ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْعِيَالِ.
(وَ) نُدِبَ (أَنْ يَذْبَحَ بِيَدِهِ إنْ أَحْسَنَ) الذَّبْحَ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً (وَإِلَّا) أَيْ إنْ لَمْ يُحْسِنْهُ (يَأْمُرُ غَيْرَهُ) بِالذَّبْحِ كَيْ لَا يَجْعَلَهَا مَيْتَةً (وَيَحْضُرُهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «قَوْمِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ».
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا كِتَابِيٌّ)؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَوْ أَمَرَهُ فَذَبَحَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّبْحِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِيِّ.
(وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا) لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا (أَوْ يَعْمَلُهُ آلَةً كَجِرَابٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ فَرْوٍ) لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ (أَوْ يَشْتَرِي بِهِ) أَيْ بِالْجِلْدِ (مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ) أَيْ بَقَاءِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ اسْتِحْسَانًا (كَغِرْبَالِ وَنَحْوِهِ)؛ لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ (لَا مَا يُسْتَهْلَكُ) أَيْ لَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ (كَخَلٍّ وَشَبَهِهِ) وَلَا يَبِيعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِيُنْفِقَ الدَّرَاهِمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَالْمَعْنَى إنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ وَاللَّحْمُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ فِي الصَّحِيحِ حَتَّى لَا يَبِيعَهُ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ (فَإِنْ بَدَّلَ اللَّحْمَ أَوْ الْجِلْدَ بِهِ) أَيْ بِمَا يَنْتَفِعُ بِالِاسْتِهْلَاكِ جَازَ وَ (يَتَصَدَّقُ بِهِ) لِانْتِقَالِ الْقُرْبَةِ إلَى الْبَدَلِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» يُفِيدُ كَرَاهَةَ الْبَيْعِ أَمَّا الْبَيْعُ جَائِزٌ لِقِيَامِ الْمِلْك وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ بَيْعُ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ جِلْدِهَا أَوْ لَحْمِهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَفِي التَّنْوِيرِ وَلَا يُعْطَى أَجْرُ الْجَزَّارِ مِنْهَا.
وَيُكْرَهُ جَزُّ صُوفِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ لِيُنْتَفَعَ بِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ وَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا قَبْلَهُ.
(وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ) اسْتِحْسَانًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ وَلَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرُ لِأَنَّهُ ذَبْحُ شَاةِ غَيْرٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ أُضْحِيَّةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فَصَارَ مُسْتَغْنِيًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إقَامَتِهَا لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا لِيَذْبَحَهَا وَإِنْ كَانَ تَفُوتُهُ الْمُبَاشَرَةُ وَحُضُورُهَا لَكِنْ يَحْصُلُ لَهُ تَعْجِيلُ الْبِرِّ وَحُصُولُ مَقْصُودِهِ بِالتَّضْحِيَةِ بِمَا عَيَّنَهُ فَيَرْضَى بِهِ ظَاهِرًا.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ وَلَوْ ذَبَحَ الرَّاعِي وَالْأَجْنَبِيُّ شَاةً لَا يُرْجَى حَيَاتُهَا لَا يَضْمَنُ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَضْمَنُ.
(وَلَوْ غَلِطَ اثْنَانِ فَذَبَحَ كُلٌّ شَاةَ الْآخَرِ صَحَّ وَلَا ضَمَانَ) اسْتِحْسَانًا وَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ لِمَا مَرَّ قُبَيْلَهُ (وَيَتَحَالَّانِ) يَعْنِي يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّتَهُ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً يُحَلِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْرِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ الْكُلَّ فِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَا لَهُ أَنْ يَحِلَّ لَهُ فِي الِانْتِهَاءِ (وَإِنْ تَشَاحَّا) أَيْ تَنَازَعَا بِأَنَّ أُضْحِيَّتِي أَعْظَمُ وَأَسْمَنُ وَلَمْ يَرْضَيَا (ضَمَّنَ كُلُّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ)؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ لِصَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ ضَمَّنَهُ (وَتَصَدَّقَ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ.
(وَصَحَّتْ التَّضْحِيَةُ بِشَاةِ الْغَصْبِ دُونَ شَاةِ الْوَدِيعَةِ وَضَمِنَهَا)؛ لِأَنَّ فِي الْغَصْبِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ وَارِدَةً عَلَى مِلْكِهِ وَلَكِنْ يَأْثَمُ خِلَافًا لِزُفَرَ وَفِي الْوَدِيعَةِ يَصِيرُ غَاصِبًا بِالذَّبْحِ فَيَقَعُ الذَّبْحُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ فَكَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَارِدَةً عَلَى غَيْرِ الْمِلْكِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ يَصِيرُ غَاصِبًا بِمُقَدَّمَاتِ الذَّبْحِ كَالْإِضْجَاعِ وَشَدِّ الرِّجْلِ فَيَكُونُ غَاصِبًا قَبْلَ الذَّبْحِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرَرِ حَقِيقَةُ الْغَصْبِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ فِي الْإِضْجَاعِ وَشَدِّ الرِّجْلِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ انْتَهَى لَكِنَّ الظَّاهِرَ تَحَقُّقُ إزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِالْإِضْجَاعِ وَشَدُّ الرِّجْلِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَدِيعَةِ وَلَا مِنْ شَاءِ الْمُودِعِ تَأَمَّلْ.

.كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ:

أَوْرَدَ الْكَرَاهِيَةَ بَعْدَ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ تُرَدُّ فِيهِ إلَى الْكَرَاهِيَةِ أَلَا يُرَى أَنَّ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ لَيَالِيِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَفِي التَّصَرُّفِ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ كَمَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي إقَامَةِ غَيْرِهِ مُقَامَهُ كَيْفَ تَحَقَّقَتْ الْكَرَاهَةُ فَنَاسَبَ ذِكْرُ الْكَرَاهِيَةِ بَعْدَهَا وَهِيَ ضِدُّ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا فِي اللُّغَةِ وَإِنَّمَا لَقَّبَهُ بِهَا وَفِيهِ غَيْرُ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمَكْرُوهِ أَهَمُّ لِوُجُودِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَلَقَّبَهُ الْقُدُورِيُّ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةُ الْإِطْلَاقُ وَفِيهِ بَيَانُ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَمَا مَنَعَهُ وَلَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَقَبَّحَهُ وَبَعْضُهُمْ بِكِتَابِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِهِ أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ وَالزُّهْدُ وَالْوَرَعُ تَرَكَهَا.
وَفِي الشَّرْعِ (الْمَكْرُوهُ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ) عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ وَتَغْلِيبِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ تَرْكُهُ وَتَكَلَّمُوا فِي الْمَكْرُوهِ وَالصَّحِيحِ مَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ كَمَا فِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كُلُّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ) مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ (وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ) أَيْ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ فِي كُتُبِهِ (لِعَدَمِ) الدَّلِيلِ (الْقَاطِعِ) بَلْ كَتَبَ بِالْكَرَاهَةِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ كَمَا فِي الْحَرَامِ فَالْحَرَامُ مَا مُنِعَ عَنْهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَتَرْكُهُ فَرْضٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَكْرُوهُ مَا مُنِعَ بِظَنِّيٍّ وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ كَأَكْلِ الضَّبِّ فَنِسْبَةُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ كَنِسْبَةِ الْوَاجِبِ إلَى الْفَرْضِ قَالَ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ فِي بَحْثِ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ طَلَبًا لِفِعْلِ يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ فَوُجُوبٌ أَوْ لِفِعْلٍ يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ خَاصَّةً لِلثَّوَابِ فَنُدِبَ وَخَاصَّةً يُفِيدُ أَنَّ التَّرْكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ لِتَرْكٍ يَصِيرُ فِعْلُهُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ فَتَحْرِيمٌ أَوْ لِتَرْكٍ يَصِيرُ تَرْكُهُ خَاصَّةً لِلثَّوَابِ فَكَرَاهَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبًا فَإِنْ كَانَ تَخْيِيرًا فَإِبَاحَةٌ وَإِلَّا فَوَضْعِيٌّ وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ حُدُودُهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ فَمَشَايِخُنَا تَارَةً يُقَيِّدُونَهَا وَتَارَةً يُطْلِقُونَهَا فَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ فَلَا كَلَامَ فِيهَا وَالْمُطْلَقَةُ فَتُجْعَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ.

.فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ:

أَيْ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَكْلِ (مِنْهُ) أَيْ بَعْضِ الْأَكْلِ وَكَذَا الشُّرْبُ (فَرْضٌ وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ) وَفِي تَرْكِهِ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ فَإِنْ هَلَكَ فَقَدْ عَصَى وَبِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤْجِرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى اللُّقْمَةُ يَرْفَعُهَا الْعَبْدُ إلَى فِيهِ».
(وَ) بَعْضُهُ (مَنْدُوبٌ وَهُوَ مَا زَادَ) عَلَى مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ (لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ) لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ طَاعَةٌ وَسُئِلَ أَبُو ذَرٍّ عَنْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ وَأَكْلُ الْخَبْزِ.
(وَ) بَعْضُهُ (مُبَاحٌ) أَيْ لَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا وِزْرَ (وَهُوَ مَا زَادَ) مُنْتَهِيًا (إلَى الشِّبَعِ لِزِيَادَةِ قُوَّةِ الْبَدَنِ) وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ لَوْ أَكَلَ لِلسَّمْنِ كُرِهَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مُقَاتِلٍ وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا خُبْزًا مَكْسُورًا فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ لِلسِّمَنِ وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ رُزِقَ بَطْنًا عَظِيمًا خِلْقَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَمَّدَ السِّمَنَ وَلَوْ أَكَلَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ثُمَّ تَقَيَّأَ فَوَجَدَ نَافِعًا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ عِلَاجٌ.
(وَ) بَعْضُهُ (حَرَامٌ وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشِّبَعِ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ وَأَمْرَاضٌ لِلنَّفْسِ وَلِأَنَّهُ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا خَيْرَ فِي الشِّبَعِ وَلَا فِي الْجُوعِ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» (إلَّا لِقَصْدِ التَّقْوَى عَلَى صَوْمِ الْغَدِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً (أَوْ لِئَلَّا يَسْتَحِيَ الضَّيْفُ)؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ وَالضَّيْفُ لَمْ يَشْبَعْ رُبَّمَا يَسْتَحْيِ فَلَا يَأْكُلُ حَيَاءً أَوْ خَجَلًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ مَعَهُ فَوْقَ الشِّبَعِ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّنْ أَسَاءَ الْقِرَى وَهُوَ مَذْمُومٌ عَقْلًا وَشَرْعًا (وَلَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ نَفْسَك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا» وَلَيْسَ مِنْ الرِّفْقِ أَنْ تُجِيعَهَا وَتُذِيبَهَا وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا مَا يُفْضِي إلَيْهِ وَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ أَوْ صَامَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ)؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَقَاءَ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالْمَيْتَةُ حَالَ الْمَخْمَصَةِ إمَّا حَلَالٌ أَوْ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ فَلَا يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إذَا تَعَيَّنَ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالتَّابِعِينَ وَإِذَا كَانَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمَيْتَةِ فَمَا ظَنُّك لِتَرْكِ الذَّبِيحَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَلَالَاتِ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ خَافَ الْمَوْتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا وَمَعَ رَفِيقِهِ طَعَامٌ أَوْ مَاءٌ أَخَذَ بِالْقِيمَةِ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ أَوْ عَطَشَهُ فَإِنْ امْتَنَعَ قَاتَلَ بِلَا سِلَاحٍ وَإِنَّ الرَّفِيقَ يَخَافُ الْمَوْتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا أَيْضًا تَرَكَ لَهُ الْبَعْضَ (بِخِلَافِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّدَاوِي حَتَّى مَاتَ) فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ لَا يَقِينَ أَنَّ هَذَا الدَّوَاءَ يَشْفِيهِ وَلَعَلَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَلَا بَأْسَ بِالتَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ) لِئَلَّا تَنْقُصَ دَرَجَتُهُ.
(وَاِتِّخَاذُ) أَلْوَانِ (الْأَطْعِمَةِ سَرَفٌ) دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا}.
(وَكَذَا) سَرَفٌ (وَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ) وَفِي الْمُحِيطِ مِنْ الْإِسْرَافِ الْإِكْثَارُ فِي أَلْوَانِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ إلَّا إذَا قَصَدَ قُوَّةَ الطَّاعَةِ أَوْ دَعْوَةَ الْأَضْيَافِ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ حَتَّى يَأْتُوا عَلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يَأْكُلَ وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ جَوَانِبَهُ وَتَرْكُ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ مِنْ الْمَائِدَةِ بَلْ يَرْفَعُهَا وَيَأْكُلُهَا قَبْلَ غَيْرِهَا وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَارًّا وَلَا يَشُمُّ وَيُكْرَهُ أَكْلُ التِّرْيَاقَ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ لُحُومِ الْحَيَّاتِ وَكَذَا مُعَالَجَةُ الْجِرَاحَةِ بِعَظْمِ إنْسَانٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِأَنَّهَا مُحَرَّمٌ الِانْتِفَاعُ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَضْعُ الْعَجِينِ عَلَى الْجُرْحِ إنْ عُلِمَ فِيهِ شِفَاءٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَلِلَّذِي يَرْعُفُ وَلَا يَرْقَأُ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَلَوْ بِالْبَوْلِ أَوْ عَلَى جِلْدِ مَيْتَةِ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً.
(وَمَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ بِالْخُبْزِ وَوَضْعُ الْمَمْلَحَةِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخُبْزِ (مَكْرُوهٌ) لَا الْمِلْحُ وَكَذَا وَضْعُ الْخُبْزِ تَحْتَ الْقَصْعَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهَانَةَ الْخُبْزِ وَقَدْ أَمِرْنَا بِإِكْرَامِهِ وَفِي الزَّاهِدِيِّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ وَضْعِ الْقَصْعَةِ عَلَى الْخُبْزِ وَمَسْحِ الْيَدِ بِالْخُبْزِ وَأَكْلِهِ بَعْدَهُ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَلَا يُعَلَّقُ الْخُبْزُ بِالْخُوَانِ بَلْ يُوضَعُ بِحَيْثُ لَا يُعَلَّقُ وَلَا يُكْرَهُ قَطْعُ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ.
(وَسُنَّةُ الْأَكْلِ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِهِ وَالْحَمْدَلَةُ فِي آخِرِهِ) فَإِنْ نَسِيَ الْبَسْمَلَةَ فَلْيَقُلْ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ وَهُوَ شُكْرُ الْمُؤْمِنِ إذَا رُزِقَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إذَا قُدِّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدَ اللَّهَ فِي آخِرِهِ».
(وَغَسْلُ الْيَدِ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الطَّعَامِ (وَبَعْدَهُ) قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ» وَالْوُضُوءُ هُنَا غَسْلُ الْيَدِ (وَيَبْدَأُ بِالشُّبَّانِ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الْأَكْلِ لِئَلَّا يَنْظُرَ إلَيْهِمْ الشُّيُوخُ (وَبِالشُّيُوخِ بَعْدَهُ) وَهُوَ أَدَبٌ لِمَا فِيهِ إكْرَامٌ لَهُمْ فَلَا يُمْسَحُ يَدٌ قَبْلَ الطَّعَامِ بِالْكُلِّيَّةِ.
(وَلَا يَحِلُّ شُرْبُ لَبَنِ الْأَتَانِ) بِالْفَتْحِ هِيَ أُنْثَى الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِ اللَّبَنِ مُتَوَلِّدًا مِنْ لَحْمٍ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ وَلَا يَأْكُلُ الْجَلَّالَةَ وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ أَكْلِهَا وَشُرْبِ لَبَنِهَا».
وَفِي التَّنْوِيرِ وَلَوْ سَقَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ خَمْرًا فَذُبِحَ مِنْ سَاعَةٍ حَلَّ أَكْلُهُ وَيُكْرَهُ.
(وَلَا) يَحِلُّ (بَوْلُ إبِلٍ) لِلِاخْتِلَافِ إذْ عِنْدَ الْإِمَامِ حَرَامٌ لِكَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْبَوْلِ حُرْمَةٌ وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شِفَاءَ الْعُرَنِيِّينَ بِالْوَحْيِ فَالشِّفَاءُ فِي غَيْرِهِمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ التَّدَاوِي بِشُرْبِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ مَرِضُوا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَلْحَقُوا الْمَرْعَى وَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا» وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ مُطْلَقًا إذْ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَا يَحِلُّ بِهِ التَّدَاوِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا وُضِعَ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ».
(وَ) لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُ (إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَنْ شَرِبَ مِنْهُ «إنَّمَا تُجَرْجَرُ فِي بَطْنِهِ نَارُ جَهَنَّمَ» قِيلَ يُجَرْجَرُ بِمَعْنَى يُلْقَى فَيَكُونُ نَارَ جَهَنَّمَ مَفْعُولًا وَقِيلَ بِمَعْنَى يُصَوِّتُ مِنْ جَرْجَرَ الْجَمَلُ إذَا ازْدَادَ صَوْتُهُ فِي حَنْجَرَتِهِ فَيَكُونُ نَارٌ فَاعِلًا فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَذَا فِي التَّطَيُّبِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَيَسْتَوِي الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَكَذَا الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالِ بِمِيلِهِمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ الْإِدْهَانُ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخَذَ الدُّهْنَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ.
وَفِي التَّسْهِيلِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ ثُمَّ أَكَلَهُ مِنْ الْمِلْعَقَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ وَكَذَا لَوْ أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتَى بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لِئَلَّا يَنْفَتِحَ بَابُ اسْتِعْمَالِهَا لَكِنْ فِي الدُّرَرِ تَفْصِيلٌ فَلْيُطَالَعْ.
(وَحَلَّ اسْتِعْمَالُ إنَاءِ عَقِيقٍ وَبِلَّوْرٍ وَزُجَاجٍ وَرَصَاصٍ) عِنْدَنَا لِعَدَمِ التَّفَاخُرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآنِيَةِ عَادَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ لِحُصُولِ التَّفَاخُرِ كَالْحَجَرَيْنِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ وَلَئِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً بِالتَّفَاخُرِ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُشْنَانُ فِي مَعْنَاهُمَا فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ بِهِمَا وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي مِنْ الصُّفْرِ.
وَفِي التَّبْيِينِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ بَلْ عَيْنُهُ.

.فَصْلٌ فِي الْكَسْبِ:

وَفِي الِاخْتِيَارِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ حَسَنٍ يَقُولُ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَيْ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ» وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ وَكَانَ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِقُوَّةِ بَدَنِهِ وَقُوَّةِ بَدَنِهِ بِالْقُوتِ عَادَةً وَخِلْقَةً وَتَحْصِيلُ الْقُوتِ بِالْكَسْبِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الطَّهَارَةِ إلَى آلَةِ الِاسْتِقَاءِ وَالْآنِيَةِ وَفِي الصَّلَاةِ إلَى مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ عَادَةً بِالِاكْتِسَابِ، وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يَكْتَسِبُونَ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلٍ جَمَاعَةٍ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَتَمَامُهُ فِيهِ إنْ شِئْت فَلْيُرَاجَعْ.
وَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ حُكِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ قَالَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ إذَا صَحَّتْ النِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَكَذَا الِاشْتِغَالُ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ إذَا صَحَّتْ النِّيَّةُ وَهُوَ أَقْسَامٌ: فَرْضٌ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمُسْتَحَبٌّ وَقُرْبَةٌ كَتَعَلُّمِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَعْلِيمِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمُبَاحٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِلزِّينَةِ وَالْكَمَالِ، وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ التَّعَلُّمُ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْإِمَامُ تَعَلُّمَ الْكَلَامِ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيهِ وَرَاءَ قَدْرِ الْحَاجَةِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ لِمَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَالزِّيَادَةُ حَرَامٌ وَالْحِيلَةُ وَالتَّمْوِيهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ إنْ تَكَلَّمَ مُسْتَرْشِدًا مُنْصِفًا بِلَا تَعَنُّتٍ لَا يُكْرَهُ وَكَذَا إنْ غَيْرَ مُسْتَرْشِدٍ لَكِنَّهُ مُنْصِفٌ غَيْرُ مُتَعَنِّتٍ فَإِنْ أَرَادَ بِالْمُنَاظَرَةِ طَرْحَ الْمُتَعَنِّتِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَحْتَالُ كُلَّ الْحِيلَةِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ التَّعَنُّتَ، وَالتَّعَنُّتُ لِدَفْعِ التَّعَنُّتِ مَشْرُوعٌ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَتَعَلُّمُ الْمَنْطِقِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَفِي قُوتِ الْقُلُوبِ جَعَلَ الْجُهَّالُ أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ عُلَمَاءَ انْتَهَى.
وَالتَّعْلِيمُ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَرْضٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُجِيبُ غَيْرُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
(أَفْضَلُهُ) أَيْ الْكَسْبِ (الْجِهَادُ) لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حُصُولِ الْكَسْبِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ (ثُمَّ التِّجَارَةُ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَثَّ عَلَيْهَا فَقَالَ «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» (ثُمَّ الْحِرَاثَةُ) وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ثُمَّ الصِّنَاعَةُ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّضَ عَلَيْهَا فَقَالَ «الْحِرْفَةُ أَمَانٌ مِنْ الْفَقْرِ» لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ فِي الْإِبَاحَةِ عَلَى السَّوَاءِ هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَمِنْهُ) أَيْ وَبَعْضُ الْكَسْبُ (فَرْضٌ وَهُوَ) أَيْ الْكَسْبُ (قَدْرُ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ خُصُوصًا إلَى قَضَاءِ الدِّينِ وَنَفَقَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَسِعَهُ وَإِنْ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً» كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ (لِيُوَاسِيَ بِهِ) أَيْ بِالزَّائِدِ (فَقِيرًا أَوْ يَصِلَ بِهِ قَرِيبًا) فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «النَّاسُ عِيَالُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَأَحَبُّهُمْ إلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ».
(وَمُبَاحٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ لِلتَّجَمُّلِ) وَالتَّنَعُّمِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ طَلَبَ مِنْ الدُّنْيَا حَلَالًا مُتَعَفِّفًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَحَرَامٌ وَهُوَ الْجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالْبَطَرِ وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (كَانَ مِنْ حِلٍّ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مُفَاخِرًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».
(وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ) وَلَا يَتَكَلَّفُ لِتَحْصِيلِ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِمْ وَلَا يَمْنَعُهُمْ جَمِيعًا بَلْ يَكُونُ وَسَطًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} «وَلَا يَسْتَدِيمُ الشِّبَعُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا» (وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ لَزِمَهُ) أَيْ مِنْ الْكَسْبِ لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْكَسْبِ (لَزِمَهُ السُّؤَالُ)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ لَكِنْ لَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «السُّؤَالُ آخَرُ كَسْبِ الْعَبْدِ» (فَإِنْ تَرَكَهُ) أَيْ السُّؤَالَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ (حَتَّى مَاتَ) مِنْ جُوعِهِ (أَثِمَ) لِأَنَّهُ أَلْقَى نَفْسَهُ إلَى التَّهْلُكَةِ فَإِنَّ السُّؤَالَ يُوَصِّلُهُ إلَى مَا تَقُومُ بِهِ نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْكَسْبِ وَلَا ذُلَّ فِي السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
(وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ السُّؤَالِ الْكَسْبِ (يُفْرَضُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ) أَيْ بِعَجْزِهِ (أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ) صَوْنًا لَهُ عَنْ الْهَلَاكِ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ وَإِذَا أَطْعَمَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ (وَيُكْرَهُ إعْطَاءُ سُؤَالِ) جَمْعُ سَائِلٍ كَنُصَّارٍ جَمْعُ نَاصِرٍ (الْمَسْجِدِ) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقُمْ مَنْ يُبْغِضُ اللَّهُ فَيَقُومُ سُؤَالُ الْمَسْجِدِ (وَقِيلَ إنْ كَانَ) أَيْ السَّائِلُ فِي الْمَسْجِدِ (لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ مُصَلٍّ لَا يُكْرَهُ) إعْطَاؤُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ.
(وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمْ الْحُرْمَةُ (إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ مِنْ حِلٍّ) بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ تِجَارَةٍ أَوْ زَرْعٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ غَالِبُ مَالِ الْمُهْدِي إنْ حَلَالًا لَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّتِهِ وَأَكْلِ مَالِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لَا يَخْلُو عَنْ حَرَامٍ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ وَإِنْ غَالَبَ مَالَهُ الْحَرَامُ لَا يَقْبَلُهَا وَلَا يَأْكُلُ إلَّا إذَا قَالَ إنَّهُ حَلَالٌ أُورِثْتُهُ وَاسْتَقْرَضْتُهُ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ أَخَذَ مُورِثُهُ رِشْوَةً أَوْ ظُلْمًا إنْ عَلِمَ وَارِثُهُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ لَهُ أَخَذَهُ حُكْمًا لَا دِيَانَةً فَيَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ الْخُصَمَاءِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ يَأْخُذُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِمَالٍ مُطْلَقٍ ثُمَّ يَنْقُدُهُ مِنْ أَيِّ مَالٍ شَاءَ كَذَا رَوَاهُ الثَّانِي عَنْ الْإِمَامِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِطَعَامِ الظُّلْمَةِ يَتَحَرَّى إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ حِلُّهُ قَبِلَ وَأَكَلَ وَإِلَّا لَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «اسْتَفْتِ قَلْبَك» الْحَدِيثَ وَجَوَابُ الْإِمَامِ فِيمَنْ بِهِ وَرَعٌ وَصَفَاءُ قَلْبٍ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُدْرِكُ بِالْفِرَاسَةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ السُّلْطَانُ إذَا قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ إنْ اشْتَرَاهُ يَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شَيْئًا مَغْصُوبًا بِعَيْنِهِ يُبَاحُ أَكْلُهُ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ غَصَبَ لَحْمًا فَطَبَخَهُ أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ لَحْمًا فَطَبَخَهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَكْلُهُ حَرَامٌ قَبْلَ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُهَا.
(وَلَا تُكْرَهُ إجَارَةُ بَيْتٍ بِالسَّوَادِ) أَيْ بِالْقَرْيَةِ (لِيُتَّخَذَ بَيْتَ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ يُبَاعَ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِيُتَّخَذَ أَيْ لِيُبَاعَ (فِيهِ الْخَمْرُ) عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَارِدَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا مَعْصِيَتُهُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ فِعْلُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ فَقَطْعُ نِسْبَتُهُ مِنْهُ كَبَيْعِ الْجَارِيَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا أَوْ يَأْتِيهَا مِنْ دُبُرِهَا أَوْ بَيْعُ الْغُلَامِ مِنْ اللُّوطِيِّ كَمَا فِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْغُلَامِ مِنْ اللُّوطِيِّ وَالْمَنْقُولُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّهُ يُكْرَهُ (وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ) أَنْ يُؤَجِّرَ بَيْتًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ قَالُوا إنَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُخْتَصٌّ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ أَغْلَبَ أَهْلِهَا ذِمِّيٌّ وَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إجَارَةِ الْبَيْتِ لِيَتَّخِذَهُ مَعْبَدًا وَمَفْسَقًا فِي الْأَصَحِّ كَمَا لَا يُمَكَّنُونَ فِي الْأَمْصَارِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ مِنْ الْحُكَّامِ فِيمَا تَغْلِبُ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ وَعَنْ هَذَا قَالَ (وَيُكْرَهُ فِي الْمِصْرِ إجْمَاعًا وَكَذَا فِي سَوَادٍ غَالِبُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ) لِمَا مَرَّ أَنَّ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ.
(وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا بِأَجْرٍ طَابَ لَهُ) عِنْدَ الْإِمَامِ (وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ) لَهُ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَعَنْ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا وَعَدَّ مِنْهَا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ» وَلَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا لَا فِي حَمْلِهَا مَعَ الْحَمْلِ يُحْمَلُ عَلَى الْإِرَاقَةِ أَوْ التَّخْلِيلِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولُ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا آجَرَ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الْخَمْرَ أَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَرْعَى الْخَنَازِيرَ وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الزُّنَّارِ مِنْ النَّصَارَى وَالْقَلَنْسُوَةِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ وَلَوْ أَنَّ إسْكَافًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ خُفًّا عَلَى زِيِّ الْمَجُوسِيِّ أَوْ الْفَسَقَةِ أَوْ خَيَّاطًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا عَلَى زِيِّ الْفُسَّاقِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
(وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لَكِنْ جَوَّزَ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ لِلضَّرُورَةِ اسْتِحْسَانًا كَمَا مَرَّ فِي الْمَأْذُونِ (وَكُرِهَ قَبُولُ كِسْوَتِهِ ثَوْبًا وَإِهْدَائِهِ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ كَالدَّرَاهِمِ وَالثَّبَاتِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ.
(وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَرْدِ وَلَوْ) وَصْلِيَّةٌ كَانَ (أُنْثَى أَوْ عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا كَقَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ الْفَرْدِ (شَرَيْت اللَّحْمَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ فَيَحِلُّ أَوْ) شَرَيْته (مِنْ مَجُوسِيٍّ فَيَحْرُمُ) هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ عِبَارَةِ الْكَنْزِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ شَارِحَهُ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ هَذَا سَهْوٌ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ خَاصَّةً لِلضَّرُورَةِ انْتَهَى لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى السَّهْوِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ قَالَ الْعَيْنِيُّ أَرَادَ بِالْحِلِّ الْحِلَّ الضِّمْنِيَّ وَبِالْحُرْمَةِ الْحُرْمَةَ الضِّمْنِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ حَاصِلَ مَسْأَلَةٍ فِي الْهِدَايَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا أَوْ خَادِمًا فَاشْتَرَى لَحْمًا فَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ وَسِعَهُ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ تُعْتَقَدُ فِيهِ حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى قَبُولِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ ذَبِيحَةً غَيْرَ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ وَمُرَادُ الشَّيْخِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ هُوَ هَذَا أَعْنِي لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ فَافْهَمْ قَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهَا يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيمَا بَيْنَ أَجْنَاسِ النَّاسِ فَلَوْ شَرَطْنَا شَرْطًا زَائِدًا أَدَّى إلَى الْحَرَجِ فَقَبِلَ قَوْلَهُ مُطْلَقًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ فِي بَيْعِ كَذَا فَيَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَكَذَا فِي الْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا إذَا غَلَبَ عَلَى الرَّأْيِ صِدْقُهُ أَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَذِبُهُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
(وَ) يُقْبَلُ (قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالصَّبِيِّ فِي الْهَدِيَّةِ) بِأَنْ قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ أَوْ الصَّبِيُّ هَذِهِ هَدِيَّةٌ أَهْدَاهَا سَيِّدِي أَوْ أَبِي يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ (وَ) يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي (الْأَذَانِ) بِأَنْ قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ أَوْ الصَّبِيُّ الْمُمَيَّزُ أَذِنَ لِي مَوْلَايَ أَوْ الْوَلِيُّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ وَيَرَى مُعَامَلَتَهُ مَعَ الْغَيْرِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مِنْهُ وَإِلَّا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فِي اسْتِحْضَارِ الشُّهُودِ إلَى مَوَاضِعِ الْعُقُودِ.
(وَشَرْطُ الْعَدْلِ فِي الدِّيَانَاتِ) لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعًا فَلَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهَا (كَالْخَبَرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ) وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَ (إنْ أَخْبَرَ بِهَا مُسْلِمٌ عَدْلٌ وَلَوْ) وَصْلِيَّةٌ كَانَ (أُنْثَى أَوْ عَبْدًا) لَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِ (وَيَتَحَرَّى فِي الْفَاسِقِ) بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ.
(وَ) فِي خَبَرِ (الْمَبْتُورِ ثُمَّ يَعْمَلُ بِغَالِبِ رَأْيِهِ) إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ يَتَيَمَّمُ وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ كَذِبُهُ يَتَوَضَّأُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْكَذِبِ (وَلَوْ أَرَاقَ) الْمَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ فَاسِقٌ أَوْ مَسْتُورٌ (فَتَيَمَّمَ عِنْدَ غَلَبَةِ صِدْقِهِ وَتَوَضَّأَ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَرَاقَ وَالْمَعْنَى لَوْ لَمْ يُرِقْ الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ (عِنْدَ غَلَبَةِ كَذِبِهِ كَانَ أَحْوَطَ) كَمَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْجَوْهَرَةِ وَهَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ أَمَّا فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَتَيَمَّمُ بَعْدَ الْوُضُوءِ.

.فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهَةِ ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ قَدَّمَ اللُّبْسَ لِكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ (الْكِسْوَةُ مِنْهَا فَرْضٌ وَهُوَ) أَيْ مَا هُوَ فَرْضٌ (مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ ضَرَرَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أَيْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَخِلْقَتُهُ لَا تَتَحَمَّلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ بِالْكِسْوَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَكَانَ فَرْضًا كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ (وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْكَتَّانِ) وَهُوَ الْمَأْثُورُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْخُيَلَاءِ (بَيْنَ النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ) لِئَلَّا يَحْتَقِرَ فِي الدَّنِيءِ وَيَأْخُذَهُ الْخُيَلَاءُ فِي النَّفِيسِ وَعَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّهْرَتَيْنِ» وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ وَمَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا (وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزَّائِدُ) عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ.
وَفِي الْمِنَحِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الزِّينَةِ فِي الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَالْعِمَامَةِ وَالْقَمِيصِ الرَّقِيقِ وَنَحْوِهَا (لِأَخْذِ الزِّينَةِ) الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ} الْآيَةَ (وَإِظْهَارُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) خُصُوصًا إذَا كَانَ ذَا عِلْمٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَفِي الْقُنْيَةِ الْعِمَامَةُ الطَّوِيلَةُ وَلُبْسُ الثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ حَسَنٌ فِي حَقِّ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى دُونَ سَائِرِ النَّاسِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ لِلصَّلَاةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «صَلَاةٌ مَعَ عِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ عِمَامَةٍ» وَرُوِيَ «مَنْ صَلَّى وَجَيْبُهُ مَشْدُودٌ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ صَلَّى سَبْعِينَ صَلَاةً وَجَيْبُهُ مَكْشُوفٌ» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ» (وَمُبَاحٌ وَهُوَ الثَّوْبُ الْجَمِيلُ لِلتَّزَيُّنِ) فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْكِبْرِ وَكَذَا جَمْعُ الْمَالِ إذَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ» وَرُبَّمَا قَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَ يَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى بِلَادِكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ فَالسَّرَخْسِيُّ يَلْبَسُ الْغَسِيلَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَيَلْبَسُ الْأَحْسَنَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُؤْذِيَ الْمُحْتَاجِينَ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَفِي الْقُنْيَةِ وَعَنْ النَّخَعِيِّ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فِي ثِيَابٍ حَسَنَةٍ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ نَحْنُ نَعْرِفُ حَقِيقَةً أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْآنَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ (وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ اللُّبْسُ لِلتَّكَبُّرِ) وَالْخُيَلَاءِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ «كُلْ وَالْبَسْ وَاشْرَبْ مِنْ غَيْرِ مَخِيلَةٍ».
(وَيُسْتَحَبُّ) الثَّوْبُ (الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الثِّيَابَ الْبِيضَ وَإِنَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ» وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِسَ الْجُبَّةَ السَّوْدَاءَ وَالْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ» وَلَا بَأْسَ بِالْأَزْرَقِ وَفِي الشِّرْعَةِ وَلُبْسُ الْأَخْضَرِ سُنَّةٌ.
(وَيُكْرَهُ) الثَّوْبُ (الْأَحْمَرُ وَالْمُعَصْفَرُ) لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ وَالْمُعَصْفَرِ».
وَفِي الْمِنَحِ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو الْمَكَارِمِ فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَأْسَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ لَكِنْ صَرَّحَ صَاحِبُ تُحْفَةِ الْمُلُوكِ بِالْحُرْمَةِ فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
(وَالسُّنَّةُ إرْخَاءُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) هَكَذَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (قَدْرَ شِبْرٍ وَقِيلَ إلَى وَسَطِ الظُّهْرِ وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ وَإِذَا أَرَادَ تَجْدِيدَ لَفِّهَا نَقَضَهَا كَمَا لَفَّهَا) وَلَا يُلْقِيهَا عَلَى الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً هَكَذَا نَقَلَ مَنْ فَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ.
(وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَلَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ) وَلَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَنِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَقَالَ إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَإِنَّمَا جَازَ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ وَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ» وَيُرْوَى حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَعَنْ هَذَا قَالَ (الْأَقْدَرُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ) مَضْمُومَةٌ فَلَا يَحْرُمُ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَحِلُّ.
وَفِي الْقُنْيَةِ مِنْ أَصَابِعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَذَلِكَ قَيْسُ شِبْرِنَا يُرَخَّصُ فِيهِ.
وَفِي الْمِنَحِ الْقَلِيلُ مِنْ الْحَرِيرِ عَفْوٌ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعِ يَعْنِي مَضْمُونَةً وَذَلِكَ (كَالْعَلَمِ)؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَعَلَيْهَا الْأَعْلَامُ وَالطِّرَازُ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْبَعِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ جُبَّةً مَكْفُوفَةً بِالْحَرِيرِ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبِسَ فَرْوَةً أَطْرَافُهَا مِنْ الدِّيبَاجِ» وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَبَعٌ كَمَا فِي السِّرَاجِ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ الْعَلَمُ حَلَالٌ مُطْلَقًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا انْتَهَى هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ التَّقْيِيدِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعَ وَفِيهِ رُخْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَشْرَافِ وَالْعُظَمَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي طَرَفِ الْقَلَنْسُوَةِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ دُونَهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَفِي الْمُجْتَبِي وَإِنَّمَا رَخَّصَ الْإِمَامُ فِي الْعَلَمِ فِي عَرْضِ الثَّوْبِ قُلْت وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ فِي طُولِهِ يُكْرَهُ وَبِهِ جَزَمَ مَوْلَى خُسْرو وَلَكِنَّ إطْلَاقَ الْهِدَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ مُخَالِفٌ.
وَفِي الْقُنْيَةِ نَقْلًا عَنْ بُرْهَانِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ أَنَّ عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِجِلْدِهِ حَتَّى لَوْ لَبِسَهُ فَوْقَ قَمِيصٍ مِنْ غَزْلٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ فَكَيْفَ إذَا لَبِسَهُ فَوْقَ قَبَاءٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ مَحْشُوًّا وَكَانَتْ جُبَّةً مِنْ حَرِيرٍ بِطَانَتُهَا لَيْسَ بِحَرِيرٍ وَلَوْ لَبِسَهَا فَوْقَ قَمِيصٍ غَزْلِيٍّ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَفِي هَذَا رُخْصَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مَوْضِعٍ عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَكِنْ طَلَبْتُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الْإِمَامِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى هَذَا ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنْ الْحَلْوَانِيِّ قَالَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ إذَا كَانَ يَمَسُّ الْجِلْدَ وَمَا لَا فَلَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ حَرِيرٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَمَا تَرَى إلَى مَا يَلِي الْجَسَدِ وَكَانَ تَحْتَهُ ثَوْبٌ مِنْ قُطْنٍ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكُلَّ حَرَامٌ.
وَفِي الْجَامِعِ لِلْبَزْدَوِيِّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَبَاحَ لُبْسَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ لِلرِّجَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ انْتَهَى قَالَ عَبْدُ الْبَرِّ فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْقُنْيَةِ قُلْت وَفِي حِفْظِي مِنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ مَا لَفْظُهُ قَالَ الْإِمَامُ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَقَلَنْسُوَةِ الثَّعَالِبِ انْتَهَى وَهَذَا مُطْلَقٌ وَفِيهِ زِيَادَةُ مُحَمَّدٍ مَعَ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
وَفِي التَّنْوِيرِ وَالثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ بِذَهَبٍ يَحِلُّ إذَا كَانَ هَذَا الْمِقْدَارُ وَإِلَّا لَا وَلَا بَأْسَ بِتِكَّةِ دِيبَاجٍ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّهَا كَالْبَيْتِ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِمِلْأَةٍ حَرِيرٍ يُوضَعُ فِي مَهْدِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلُبْسٍ.
وَفِي الْقُنْيَةِ تُكْرَهُ التِّكَّةُ الْمَعْمُولَةُ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ هُوَ الصَّحِيحُ وَكَذَا الْقَلَنْسُوَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ الْعِمَامَةِ وَالْكِيسُ الَّذِي يُعَلَّقُ لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالذَّخِيرَةِ وَشَرْحِ الْقُدُورِيِّ لَا تُكْرَهُ التِّكَّةُ مِنْ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُكْرَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي عُصْبَةِ الْجِرَاحَةِ بِالْحَرِيرِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ الْقَمِيصِ وَزِرُّهُ مِنْ الْحَرِيرِ وَهُوَ كَالْعَلَمِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ كَرِهَتْهُ وَأَكْرَهُ تِكَّةَ الْحَرِيرِ لِأَنَّهَا تُلْبَسُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَاللُّبْسُ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ تَبَعًا فِي اللُّبْسِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ اللُّبْسُ الْحَرِيرُ كَمَا فِي الْمُحِيطِ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشُدَّ خِمَارًا أَسْوَدَ مِنْ الْحَرِيرِ عَلَى الْعَيْنِ الرَّامِدَةِ أَوْ النَّاظِرَةِ إلَى الثَّلْجِ وَكَذَا لَوْ صَلَّى عَلَى سَجَّادَةٍ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ لَمْ يُكْرَهْ فَإِنَّ الْحَرَامَ هُوَ اللُّبْسُ أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِسَائِرِ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
(وَلَا بَأْسَ) لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (بِتَوَسُّدِهِ) أَيْ بِاِتِّخَاذِ الْحَرِيرِ وِسَادَةً (وَافْتِرَاشِهِ) أَيْ اتِّخَاذِهِ فِرَاشًا وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ وَكَذَا سِتْرُ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الْبَابِ عِنْدَ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا) لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ، وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَهَذَا الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَصَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمُجْمَعِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْخِلَافَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ وَقَدْ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا» مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلُ مِنْ اللُّبْسِ وَهُوَ التَّوَسُّدُ وَالِافْتِرَاشُ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ كَامِلٍ بَلْ اسْتِعْمَالٌ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِهَانِ فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّزْيِينِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مِنْ اللُّبْسِ الَّذِي هُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَيْهِ فَلَمْ يَحْرُمُ بَلْ كَانَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِلُّبْسِ وَأُنْمُوذَجًا وَتَرْغِيبًا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ لَا يُفْسِدُ وَكَذَا الْكَثِيرُ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ كَمَا فِي الْمَطْلَبِ وَغَيْرِهِ.
(وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سَدَاهُ) بِالْفَتْحِ أَيْ مَا سَدَى مِنْ الثَّوْبِ بِالْفَارِسِيَّةِ تان وتار (إبْرَيْسَمٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَحَرَكَاتِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَرَبِيٍّ أَوْ مُعَرَّبٍ (وَلُحْمَتُهُ) مَا أُدْخِلَ بَيْنَ السَّدَى (غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ الْإِبْرَيْسَمِ سَوَاءٌ كَانَ مَغْلُوبًا أَوْ غَالِبًا أَوْ مُسَاوِيًا لِلْحَرِيرِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ يَعْنِي فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَ هَذَا وَلِأَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللَّحْمَةِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِكَوْنِهَا عِلَّةً قَرِيبَةً فَيُضَافُ الْحُكْمُ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةُ إلَيْهَا دُونَ السَّدَى فَيَكُونُ الْعِبْرَةُ لِمَا يَظْهَرُ دُونَ مَا يَخْفَى وَقِيلَ لَا يَلْبَسُ إلَّا إذَا غَلَبَ اللُّحْمَةُ عَلَى الْحَرِيرِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ (وَعَكْسُهُ) أَيْ مَا لُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمٌ وَسَدَاهُ غَيْرُهُ (لَا يُلْبَسُ إلَّا فِي الْحَرْبِ) لَا فِي غَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ لِلضَّرُورَةِ.
(وَيُكْرَهُ لُبْسُ خَالِصِهِ) أَيْ الْحَرِيرِ فِيهَا أَيْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا) فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رَخَّصَ لُبْسَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنْهُ أَدْفَعُ لِمَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ وَلَهُ إطْلَاقُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْخَالِصِ مِنْهُ.
وَفِي الْمِنَحِ هَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ صَفِيقًا يَحْصُلُ بِهِ اتِّقَاءُ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ أَمَّا إذَا كَانَ رَقِيقًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الِاتِّقَاءُ فَإِنَّ لُبْسَهُ لَا يَحِلُّ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْفِرَاءِ كُلِّهَا مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ وَالذَّكِيَّةِ وَكَذَلِكَ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَاللِّبَدِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ طَاهِرَةٌ مُبَاحَةٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَكْرَهُ ثَوْبَ الْقَزِّ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرْوِ وَالظِّهَارَةِ وَلَا أَرَى بِحَشْوِ الْقَزِّ بَأْسًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَلْبُوسٌ وَالْحَشْوَ غَيْرُ مَلْبُوسٍ.
(وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا) يَجُوزُ (لِلرِّجَالِ) أَمَّا بِالذَّهَبِ فَلِمَا رَوَيْنَا وَأَمَّا بِالْفِضَّةِ فَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الذَّهَبِ فِي التَّزَيُّنِ وَوُقُوعُ التَّفَاخُرِ بِهَا (إلَّا الْخَاتَمَ) عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ الرِّجَالِ أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ فَصَّانِ أَوْ أَكْثَرُ فَحَرَامٌ (وَالْمِنْطَقَةَ وَحِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ)؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّمُوذَجِ وَالْفِضَّةُ أَغْنَتْ عَنْ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقَدْ وَرَدَ آثَارٌ فِي جَوَازِ التَّخَتُّمِ بِالْفِضَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثُمَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إلَى أَنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ فَأَنْفَقَ مَالًا عَظِيمًا فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ وَقَالُوا إنْ قَصَدَ بِالتَّخَتُّمِ التَّجَبُّرَ فَمَكْرُوهٌ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ سُنَّ أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ عَلَى قَدْرِ مِثْقَالٍ أَوْ دُونِهِ.
(وَ) إلَّا (مِسْمَارَ الذَّهَبِ فِي ثَقْبِ الْفَصِّ)؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ وَلَا يُعَدُّ لَابِسًا لَهُ (وَ) إلَّا (كِتَابَةَ الثَّوْبِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ)؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلثَّوْبِ وَلَا حُكْمَ لَهُ وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ.
(وَ) إلَّا (شَدَّ السِّنِّ بِالْفِضَّةِ وَلَا يَجُوزُ بِالذَّهَبِ) عِنْدَ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا) وَفِي الْهِدَايَةِ وَلَا يَشُدُّ الْأَسْنَانَ بِالذَّهَبِ وَيَشُدُّ بِالْفِضَّةِ وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِالذَّهَبِ أَيْضًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلِهَذَا قَالَ فِي التَّبْيِينِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْفِضَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجُوزُ بِالذَّهَبِ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي السِّنِّ وَالْمَرْوِيُّ فِي الْأَنْفِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِغْنَاءِ فِي السِّنِّ أَلَا يَرَى التَّخَتُّمَ لِأَجْلِ الْخَتْمِ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْأَدْنَى لَا يُصَارُ إلَى الْأَعْلَى وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَنْفِ فَكَذَا هُنَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَصَّ عَرْفَجَةَ بِذَلِكَ كَمَا خَصَّ الزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بِلُبْسِ الْحَرِيرِ لِأَجْلِ الْحَكَّةِ فِي جِسْمِهِمَا.
(وَلَا يَتَخَتَّمُ بِحَجَرٍ وَلَا صُفْرٍ وَلَا حَدِيدٍ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ التَّخَتُّمِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ» (وَقِيلَ يُبَاحُ بِالْحَجَرِ الْيَشْبِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ إذَا لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَفِي الدُّرَرِ نَقْلًا عَنْ السَّرَخْسِيِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ كَالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «كَانَ يَتَخَتَّمُ بِالْعَقِيقِ وَقَالَ تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» وَفِي الْخَانِيَّةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَهَبٍ وَلَا حَدِيدٍ وَلَا صُفْرٍ بَلْ هُوَ حَجَرٌ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَلْيُطَالَعْ.
وَفِي الْمِنَحِ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْعَقِيقِ لَمَّا ثَبَتَ حَلَّ سَائِرُ الْأَحْجَارِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَجَرٍ وَحَجَرٍ لَكِنْ يَجُوزُ التَّخَتُّمُ إنْ كَانَتْ الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالْفَصُّ مِنْ الْحَجَرِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَقِيقٍ أَوْ زَبَرْجَدٍ أَوْ فَيْرُوزَجِ أَوْ غَيْرِهَا لِكَوْنِهِ تَابِعًا وَلِأَنَّ الْقِوَامَ بِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْفَصِّ وَيُجْعَلُ الْفَصُّ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لِلزِّينَةِ فِي حَقِّهَا وَيَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي الْيُسْرَى لَا فِي الْيُمْنَى وَلَا فِي غَيْرِ خِنْصَرِهِ الْيُسْرَى مِنْ أَصَابِعِهِ وَسَوَّى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ وَهُوَ الْحَقُّ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ.
(وَتَرْكُ التَّخَتُّمِ أَفْضَلُ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي) لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَفِي الْمِنَحِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ لَهُمَا بَلْ الْحُكْمُ فِي كُلِّ ذِي حَاجَةٍ كَذَلِكَ فَلَوْ قِيلَ وَتَرْكُ التَّخَتُّمِ أَفْضَلُ لِغَيْرِ ذِي حَاجَةٍ إلَيْهِ لِيَدْخُلَ فِيهِ الْمُبَاشِرُ وَمُتَوَلِّي الْأَوْقَافِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْخَتْمِ لِضَبْطِ الْمَالِ كَانَ أَعَمَّ فَائِدَةً كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى لَكِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي جَرَيَانَ الْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الشَّيْءِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ خُصُوصًا فِي أَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ تَدَبَّرْ.
(وَيَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنْ إنَاءٍ مُفَضَّضٍ وَالْجُلُوسُ عَلَى سَرِيرٍ مُفَضَّضٍ بِشَرْطِ اتِّقَاءِ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ) بِأَنْ لَا يَكُونَ الْفِضَّةُ فِي مَوْضِعِ الْفَمِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقِيلَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفَمِ وَالْيَدِ.
وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ هَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ (وَيُكْرَهُ) ذَلِكَ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) مُطْلَقًا (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةٍ مَعَ الْإِمَامِ.
وَفِي رِوَايَةٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّقْفِ وَالْمَسْجِدِ وَحَلْقَةِ الْمِرْآةِ أَيْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا كَمَا لَوْ جَعَلَهُ فِي نَصْلِ سَيْفٍ وَسِكِّينٍ أَوْ قَبْضَتِهِمَا أَوْ فِي لِجَامٍ أَوْ رِكَابٍ وَلَمْ يَضَعْ يَدَهُ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ وَفِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ وَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي لَا يَخْلُصُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ فَلَا عِبْرَةَ لِبَقَائِهِ لَوْنًا لَهُمَا إنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلٌ جَمِيعَ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِلْإِمَامِ أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ وَلَا تُعْتَبَرُ بِالتَّوَابِعِ فَلَا يُكْرَهُ كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ.
(وَيُكْرَهُ إلْبَاسُ الصَّبِيِّ ذَهَبًا أَوْ حَرِيرًا) لِئَلَّا يَعْتَادَهُ وَالْإِثْمُ عَلَى الْمُلْبِسِ كَالْخَمْرِ فَإِنْ سَقْيَهَا الصَّبِيَّ حَرَامٌ كَشُرْبِهَا وَكَذَا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالتَّنْوِيرُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الصَّبِيِّ اللُّؤْلُؤَ وَكَذَا الْبَالِغُ (وَيُكْرَهُ حَمْلُ خِرْقَةٍ لِمَسْحِ الْعَرَقِ أَوْ الْمُخَاطِ أَوْ) مَاءِ (الْوُضُوءِ إنْ لِلتَّكَبُّرِ وَإِنْ لِلْحَاجَةِ فَلَا هُوَ الصَّحِيحُ)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِحَاجَةٍ لَا يُكْرَهُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا (وَالرَّتَمُ) وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى الْأُصْبُعِ لِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ (لَا بَأْسَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبَثٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عِنْدَ النِّسْيَانِ أَمَّا شَدُّ الْخُيُوطِ وَالسَّلَاسِلِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِكَوْنِهِ عَبَثًا مَحْضًا أَوْ حَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا فُعِلَ عَلَى وَجْهِ التَّجَبُّرِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ وَمَا فَعَلَهُ لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ لَا يُكْرَهُ وَهُمَا نَظِيرُ التَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ وَالِاتِّكَاءِ.