فصل: الباب السابع: طبقات الأطبَّاء الذين كانوا في أول ظهُور الإسْلاَم من أطبَّاء العَرب وَغَيرهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.الباب السابع: طبقات الأطبَّاء الذين كانوا في أول ظهُور الإسْلاَم من أطبَّاء العَرب وَغَيرهم:

الحارث بن كلدة الثقفي كان من الطائف، وسافر في البلاد وتعلم الطب بناحية فارس وتمرن هناك، وعرف الداء والدواء، وكان يضرب بالعود، تعلم ذلك أيضًا بفارس باليمن، وبقي أيام رسول اللَّه صلى الله علية وسلم، وأيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية رضي اللَّه عنهم، وقال له معاوية ما الطب يا حارث؟ فقال الأزم يعني الجوع، ذكر ذلك ابن جلجل، وقال الجوهري في كتاب الصحاح الأزم المسك؛ يقال؛ أزم الرجل من الشيء أمسك عنه، وقال أبو زيد الأزم الذي ضم شفتيه، وفي الحديث أن عمر، رضي اللّه عنه، سأل الحرث بن كلدة ما الدواء؟ فقال الأزم، يعني الحمية، قال وكان طبيب العرب، ويروى عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه، أنه مرض بمكة مرضًا فعاده رسول اللَّه صلى الله علية وسلم، فقال: «ادعوا له الحرث بن كلدة فإنه رجل يتطبب»، فلما عاده الحرث نظر إليه، وقال ليس عليه بأس اتخذوا له فريقة بشيء من تمر عجوة وحلبة يطبخان فتحسّاها فبرئ، وكانت للحرث معالجات كثيرة، ومعرفة بما كانت العرب تعتاده وتحتاج إليه من المداواة، وله كلام مستحسن فيما يتعلق بالطب وغيره، كلام الحرث مع كسرى من ذلك، أنه لما وفد على كسرى أنو شروان أذن له بالدخول عليه، فلما وقف بين يديه منتصبًا قال له من أنت؟ قال أنا الحرث بن كلدة الثقفي، قال فما صناعتك؟ قال الطب، قال أَعربيّ أنت؟ قال نعم من صميمها وبحبوحة دارها قال فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وسوء أغذيتها؟ قال أيها الملك، إذا كانت هذه صفتها، كانت أحوج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها، فإن العاقل يعرف ذلك من نفسه، ويمز موضع دائه، ويحتزر عن الأدواء كلها بحسن سياسته لنفسه، قال كسرى فكيف تعرف ما تورده عليها؟ ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل قال الطفل يناغي فيداوى، والحية ترقى فتحاوى، ثم قال أيها الملك، العقل من قِسَم اللّه تعالى قسمَه بين عباده، كقِسمة الرزق فيهم، فكلٌ من قمسته أصاب، وخص بها قوم وزاد، فمنهم مثر ومعدم، وجاهل وعالم، وعاجز وحازم، وذلك تقدير العزيز العليم، فأعجب كسرى من كلامه، ثم قال فما الذي تحمد من أخلاقها؟ ويعجبك من مذاهبها وسجاياها؟ قال الحرث أيها الملك، لها أنفس سخية، وقلوب جُرية، ولغة فصيحة وألسن بليغة، وأنساب صحيحة، وأحساب شريفة، يمرق من أفواههم الكلام مروق السهم من نبعة الرام، أعذب من هواء الربيع، وألين من سلسبيل المعين مطعمو الطعام في الجدب، وضاربو الهام في الحرب، لا يرام عزهم، ولا يُضام جارهم، ولا يستباح حريمهم، ولا يذل أكرمهم، ولا يقرون بفضل للأنام، إلا للملك الهمام الذي لا يقاس به أحد، ولا يوازيه سوقة ولا ملك، فاستوى كسرى جالساً، وجرى ماء رياضة الحلم في وجهه، لما سمع من محكم كلامه، وقال لجلسائه أني وجدته راجحًا ولقومه مادحاً، وبفضيلتهم ناطقاً، وبما يورده من لفظه صادقاً، وكذا العاقل من أحكمته التجارب، ثم أمره بالجلوس، فجلس، فقال كيف بصرك بالطب؟ قال ناهيك قال فما أصل الطب؟ قال الأزم، قال فما الأزم؟ قال ضبط الشفتين والرفق باليدين قال أصبت، وقال فما الداء الدوي؟ قال إدخال الطعام على الطعام، هو الذي يفني البرية، ويهلك السباع في جوف البرّيّة، قال أصبت، وقال فما الجمرة التي تصطلم منها الأدواء؟ قال هي التخمة، وإن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت، قال صدقت، وقال فما تقول في الحجامة؟ قال في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة والعروق ساكنة، لسرور يفاجئك، وهم يباعدك، قال فما تقول في دخول الحمام؟ قل لا تدخله شبعاناً؛ ولا تغش أهلك سكراناً؛ ولا تقم بالليل عرياناً؟ ولا تقعد على الطعام غضباناً؛ وارفق بنفسك، يكن أرخى لبالك؛ وقلل من طعامك، يكن أهنأ لنومك، قال فما تقول في الدواء؟
قال ما لزمتك الصحة فاجتنبه فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت، قال فما تقول في الشراب؟ قال أطيبه أهنأه، وأرقه امرأه، وأعذبه أشهاده، لا تشربه صرفًا فيورثك صداعاً، وتثير عليك من الأدواء أنواعاً، قال فأي اللحمان أفضل؟ قال الضأن الفتي، والقديد المالح مهلك للآكل، واجتنب لحم الجزور والبقر، قال فما تقول في الفواكه؟ قال كلها في إقبالها وحين أوانها، وأتركها إذا أدبرت وولت وانقضى زمانها، وأفضل الفواكه الرمان والأترج؛ وأفضل الرياحين الورد والبنفسج؛ وأفضل البقول الهندباء والخس، قال فما تقول في شرب الماء؟ قالهو حياة البدن وبه قوامه، ينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم ضرر، أفضله أمرأه، وأرقه أصفاه ومن عظام أنهار البارد الزلال لم يختلط بماء الآجام والآكام ينزل من صرادح المسطان، ويتسلل عن الرضراض وعظام الحصى في الإيفاع، قال فما طعمه؟ قال لا يوهم له طعم إلا أنه مشتق من الحياة، قال فما لونه؟ قال اشتبه على الأبصار لونه لأنه يحكي لون كل شيء يكون فيه، قال أخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟ قال أصله من حيث شرب الماء، يعني رأسه، قال فما هذا النور في العينين؟ مركب من ثلاثة أشياء فالبياض شحم، والسواد ماء، والناظر ريح، قال فعلى كم جبل وطبع هذا البدن؟ قال على أربع طبائع المرة السوداء، وهي باردة يابسة؛ والمرة الصفراء، وهي حارة يابسة، والدم، وهو حار رطب؛ والبلغم، وهو بارد رطب، قال فلم لم يكن من طبع واحد؟ قال لو خلق من طبع واحد لم يأكل ولم يشرب ولم يمرض ولم يهلك، قال فمن طبيعتين، لو كان اقتصر عليهما؟ قال لم يجز، لأنهما ضدان يقتتلان، قال فمن ثلاث؟ قال لم يصلح، موافقان ومخالف، فالأربع هو الاعتدال والقيام، قال فأجمل لي الحار والبارد في أحرف جامعة؟ قال كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مر معتدل، وفي المر حار وبارد، قال فاضل ما عولج به المرة الصفراء؟ قال كل بارد لين؛ قال فالمرة السوداء؟ قال لين؛ قال والبلغم؟ قال كل حار يابس، قال والدم؟ قال إخراجه إذا زاد، وتطفئته إذا سخن بالأشياء الباردة اليابسة؟ قال فالرياح؟ قال بالحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة، قال أفتأمر بالحقنة؟ قال نعم.
قرأت في بعض كتب الحكماء أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الأدواء عنه، والعجب لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد، وأن الجهل كل الجهل من أكل ما قد عرف مضرته، ويؤثر شهوته على راحة بدنه، قال فما الحمية؟ قال الاقتصاد في كل شيء، فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها ويسد مسامها، قال فما تقول في النساء وإتياتهن؟ قال كثرة غشيانهن رديء، وإياك وإتيان المرأة المسنة فإنها كالشن البالي، تجذب قوتك، وتسقم بدنك، ماؤها سم قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك الكل، ولا تعطيك البعض، والشابة ماؤها عذب زلال، وعناقها غنج ودلال، فوها بارد، وريقها عذب، ريحها طيب، وهنها ضيق، تزيدك قوة إلى قوتك، ونشاطًا إلى نشاطك، قال فأيهن القلب اليها أميل، والعين برؤيتها أسر؟ قال إذا أصبتها المديدة القامة العظيمة الهامة؛ واسعة الجبين، اقناة العرنين؛ كحلاء، لعساء؛ صافية الخد عريضة الصدر، مليحة النحر، في خدها رقة، وفي شفتيها لعس، مقرونة الحاجبين، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء فرغاء جعدة، غضة بضة، تخالها في الظلمة بدرًا زاهرًا تبسم عن اقحوان؛ وعن مبسم كالارجوان، كأنها بيضة مكنونة، ألين من الزبد وأحلى من الشهد، وأنزه من الفردوس والخلد، وأزكى ريحًا من الياسمين والورد، تفرح بقربها وتسرك الخلوة معها، قال، فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه، وقال ففي أي الأقات إتياتهن أفضل؟ قال عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أهدى والقلب أشهى والرحم أدفى، فإن أردت الاستمتاع بها نهارًا تَسرح عينُك في جمال وجهها، ويجتني فوك من ثمرات حسنها، ويعي سمعُك من حلاوة لفظها، وتسكن الجوارح كلها إليها، قال كسرى للَّه درك من إعرابي، لقد أعطيت علماً، وخصصت فطنة وفهماً، وأحسن صلته وأمر بتدوين ما نطق به، وقال الواثق باللّه في كتابه المسمى بالبستان إن الحرث بن كلدة مر بقوم وهم في الشمس فقال عليكم الظل فإن الشمس تنهج الثوب، وتنقل الريح، وتشحب اللون، وتهيج الداء الدفين، ومن كلام الحرث البطنة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد، - وقيل هو من كلام عبد الملك بن أبجر، وقد نسب قوم هذا الكلام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأوله «المعدة بيت الداء» وهو أبلغ من لفظ البطنة.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنه، أنه قال من أراد البقاء ولا بقاء، فليجود الغذاء، وليأكل على نقاء، وليشرب على ظمأ، وليقل من شرب الماء؛ ويتمدد بعد الغذاء ويتمشى بعد العشاء، ولا يبيت حتى يعرض نفسه على الخلاء، ودخول الحمام على البطنة من شر الداء، ودخلة إلى الحمام في الصيف خير من عشر في الشتاء، وأكل القديد اليابس في الليل معين على الفناء، ومجامعة العجوز تهدم أعمار الأحياء، وروي بعض هذه الكلمات عن الحرث بن كلدة وفيها من سره النساء ولا نساء، فليكر العشاء، وليباكر الغداء، ليخفف الرداء، وليقل غشيان النساء، - ومعنى فليكر يؤخر؛ والمراد بالرداء الدين، وسمي الدين رداء لقولهم هو في عنقي وفي ذمتي فلما كانت العنق موضع الرداء سمي الدين رداء، وقد روي عن طريق آخر وفيه، وتعجيل العشاء وهو أصح، وروى أبو عوانة عن العشاء، وليخفف الرداء وليقل الجماع، وروى حرب بن محمد قال حدثنا أبي، قال قال الحرث بن كلدة أربعة أشياء تهدم البدن الغشيان على البِطنة، ودخول الحمام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز، وروى داود بن رشيد عن عمرو بن عوف قال لما احتضر الحرث بن كلدة اجتمع إليها الناس فقالوا مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك، فقال لا تزوجوا من النساء إلا شابة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالجن أحد منكم ما احتمَل بدنُه الداء، وعليكم بالنورة في كل شهر، فإنها مذيبة للبلغم مهلك للمرة منبتة للحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على إثر غدائه، وإذا تعشى فليخط أربعين خطوة، ومن كلام الحرث أيضًا قال دافع بالدواء ما وجدت مدفعاً، ولا تشربه إلا من ضرورة فإنه لا يصلح شيئًا إلا أفسد مثله، وقال سليمان بن جلجل أخبرنا الحسن بن الحسين قال أخبرنا سعيد بن الأموي قال، أخبرنا عمي محمد بن سعيد، عن عبد الملك بن عمير قال كان أخوان من ثقيف من بني كنه يتحابان، لم يرقطّ أحسن ألفة منهما، فخرج الأكبر إلى سفر فأوصى الأصغر بامرأته؛ فوقعت عينه عليها يومًا غير معتمد لذلك، فهويها وضني، وقدم أخوه فجاءه بالأطباء، فلم يعرفوا ما به، إلى أن جاءه بالحارث بن كلدة فقال أرى عينين محتجبتين وما أدري ما هذا الوجع وسأجرب، فاسقوه نبيذاً، فلما عمل النبيذ فيه قال:
ألا رفقًا ألا رفقًا قليلًا ** ما أكوننه ألِمَّا بي

إلى الأبيات:
بالخيف أزرهنه

غزالا ما رأيت اليوم ** في دور بني كنه

أسيل الخد مربوب ** وفي منطقة غنه

فقالوا له أنت أطب العرب، ثم قال رددوا النبيذ عليه، فلما عمل فيه قال أيها الجيرة أسلموا وقفوا كي تكلموا وتقضوا لبانة وتحبوا وتنعموا خرجت مزنة من البحر ريا تحمحم هي ما كنَّتي وتزعم أني لها حم قال فطلقها أخوه، ثم قال تزوج بها يا أخي، فقال واللَّه لا تزوجتها، فمات وما تزوجها، وللحرث بن كلدة الثقفي من الكتب كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنوشروان.