فصل: رأي العز بن عبد السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: آراء العلماء في المناسبات




.مدخل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بعد هذا العرض لمذاهب العلماء في (المناسب) لابدّ أن نقف وقفة عند كل اتجاه تناقش الأدلة التي اعتمد عليها في حكمه والاستنتاجات التي توصل إليها بناء على هذه الأدلة.

.رأي الشوكاني:

مع الشوكاني:
عرفنا من استعراض رأي الشوكاني أنه ينكر القول بـ (المناسبة) ويرى من يقول بها متكلفا متعسفا متكلما برأيه فاتحا لأبواب الشك مُوسّعا لدائرة الرّيب، مُضَيّعا وقته فيما لا يفيد.
ويبني الشوكاني رأيه على دليلين:
الأول:
نزول القرآن مفرقا حسب الحوادث المقتضية لنزوله، وكونها متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمرٍ كان حلالا،وتحليل أمر كان حراما..
ثم يقول: وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين.. فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها إلى أن يقول: هذا على فرض أن نزول القرآن مترتبا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفة يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك.. ثم يقول: وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله اله متأخرا، وتأخّر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة..
الثاني:
قياسُه القرآن الكريم على قصائد الشعراء وكلام الخطباء حيث يقول: وقد علم كل مقصر وكامل أن الله تعالى وصف هذا بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلا عن المقامين، فضلا عن المقامات، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا، وكذلك شاعرهم. وإذا ما نظرنا في القسم الأول من الدليل الأول، وهو نزول القرآن منجما على حسب الحوادث المختلفة، وترتيبه على حسب النزول فإننا لا نجد حاجة لناقشة هذه الفكرة لأنها ساقطة بنفسها، ولم يقل بها أحد من العلماء حتى إن الشوكاني نفسه يقول بعد أن يستعرضها: هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على ا لترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفة، يعلم عليما يقينا أنه لم يكن كذلك.
وإذا كان الأمر - كما قال الشوكاني - فلماذا هذا الفرض ولماذا هذا الحكم بناء عليه وهل هناك مجال للافتراضات في الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي ثبتت بطريق التواتر، خاصة وأن جميع القائلين بـ: (المناسبة) إنما يبنونها على أساس أن ترتيب التلاوة غير ترتيب النزول. وإذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني من الدليل الأول، والذي يبني فيه حكمه على أن ترتيب القرآن لم يكن حسب النزول، وإنما تقدم في ترتيبه ما كان متأخرا وتأخر ما كان متقدما فإننا نقول:
إن كلام الشوكاني هنا مبني على أن ترتيب الآيات القرآنية، لم يكن بالتوقيف وإنما كان اجتهاديا برأي الصحابة ونص كلامه: فإن هذا - أي تقديم المتأخر لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخّرا، وتأخّر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة.
ومعلوم أن القول بأن ترتيب الآيات اجتهادي لم يقل به أحد من العلماء وإنما انعقد الإجماع وقامت الأدلة - كما تقدم معنا - على أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه.فالقول بأنه اجتهادي خروج على الإجماع والأدلة المتضافرة،هذا بالإضافة إلى أن الشوكاني لم يذكر لنا دليلا واحدا على رأيه هذا.
وإذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا رُتّبَت الآيات ترتيبا مخالفا لترتيب النزول؟ وهل كان هذا الأمر هكذا جزافا أم لابد وراء ذلك من حكمة؟ وإذا كان لحكمة فما هي هذه الحكمة؟ إن لم تكن الناسبة؟ وإذا كانت الناسبة خافية في بعض الأحيان فليس معنى ذلك أنها غير موجودة، بل معنى ذلك أننا قصرنا في استخراجها وإدراكها كما تخفى علينا كثيرا من الحكم في آيات الله في الآفاق والأنفس، وقد يظهر في عند البعض ما هو خاف عند غيرهم وقد يظهر في زمن ما خفي في زمن آخر، ولا شك أن الإنسان يأخذ من القرآن بقدر ما يعطيه، والمناسبة تكون على وجوه وتدرك حسب أفهام الناس، ولا بد من اختلاف لمدارج الناس في العلم وقوة الاستنباط. فبعض الوجوه يظهر على بعض الناس، وبعضها عل بعض آخر. ويعلق الفراهي على هذه الفكرة في كتابه (دلائل النظام) فيقول:
المنكر للنّظْم - أي المناسبة - لا محيص له من أحد ثلاثة أقوال:
فإما أن يقول بأن السورة ليست إلا آيات جمعت بعد النبي صلى عليه وسلم من غير رعاية ترتيب كما وجدت في أيدي الناس. وإما أن يقول بأنها اختل نظمها، لما أن الآيات التي أخلت بين الكلام المربوط قطعت النّظم، فكلا القولين ظاهر البطلان ومبنيٌ على الجهل الفاحش بجمْع القرآن وترتيبه، ومواقع الآيات المبيّنة والمفصلة بعد النزول الأول.
أما الأول: فلأنّ السّور كانت متلوّة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله النبي بالتّلاوة حسب تلاوة جبريل كما صرح به القرآن. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الناس السورة بالتمام ويسمع منهم فهذا القرآن المجموع في المصاحف ليس إلا على نسق ما جاء به جبريل عليه السلام، وقرأه على النبي في تلاوته الأخيرة، فلو صح ما زعم فَلِمَ أمرَ الله نبيه باتّباع قراءة جبريل؟ ولِمَ كان يأمر بوضع الآيات بمواقعها الخاصة.
أما الثاني: فلأن الآية المدخولة لا تقطع النّظم إذا دخلت في موضع يليق بها، والآيات المدخولة كلها معلومة الربط بما قبلها أو بعدها. وقد قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
وإما أن يقول بأن الله تعالى لم يُرِدْ أن يُنَزّل كلاما منظما كما لم يُرِد أن يجعله شعرا أو سجعا أو غير ذلك مما يراعى فيه المتكلم من البدائع والتكلف إنما هو كلام أُريد به الهداية والحكمة فأنزل حسب ما اقتضت الأحوال من الدلائل والشرائع. وربما اجتمع المقتضيات من وجوه مختلفة، فأنزل مراعيا لتلك الوجوه المتباينة سورة جامعة لمطالب مختلفة، احتيج إليها في زمان نزولها. والأحوال والحوادث، واقتضاءاتها تجمع من علل متباعدة في زمان واحد. فالسورة تجمع هذه الجمل كلها تكون على حِدّتها في غاية الحُسْن والنّظام، وأما مجموع هذه الجمل فلا معنى لالتماس النظام فيه. وقد بيّن ذلك بعض أكابر العلماء فأقول لولا رعاية النظم فيه لما وجدنا الكلام الطّويل مبنيا على أسلوب جامع أو كلمة ناظرة إلى كلمة سابقة بعيدة عنها. مثلا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} قد سبق في أول سورة البقرة ثم جرى الكلام حتى عاد إلى ذكر أهل التقوى، فجاء قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ناظرا إلى ما سبق، والتّأمل في نظم ما بينهما وفي ما بعد ذلك يبيّن أن ذلك ليس بمحض الاتفاق ولذلك أمثلة كثيرة أوضح مما ذكرنا.
أما الدليل الثاني الذي يعتمد عليه الشوكاني في حكمه، وهو قياسه على كلام العرب وقصائدهم وخطبهم لأنه نزل بلغتهم فإننا نقول فيه: إن القرآن الكريم وإن نزل بلغة العرب، فليس يشبه كلامهم من كل وجه ولا يخالفه من كل وجه، فهناك أوجه اتفاق، كما أن هناك أوجه اختلاف فمن أوجه الاختلاف ما قال الجاحظ: سمّى الله تعالى كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم على الجملة، والتفصيل، سمّى جملته قُرآنا ما سمّوا ديوانا وبعضه سورة، كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية. وإذا ما تأملنا قصائد الجاهلية، وجدنا أنها تسير على نظام معيّن حيث ابتداء بالنسيب والبكاء على الأطفال والديار، ثم يصل الشاعر إلى غرضه من الفخر أو المدح أو الرثاء، ولا شك أن المناسبة قائمة بين أجزاء القصيدة وأبياتها.
أما بالنسبة إلى ما ذكره الشوكاني من إنكاره ترتيب القصائد المختلفة الموضوع كمدح والهجاء والرثاء، أو ترتيب الخطب التي قبلت في مناسبات مختلفة، فهذا غير وارد، وذلك لأن كثيرا من القصائد التي وصلتنا على قلتها لم تكن لتنجو من تلاعب رواة الشعر بين تقديم وتأخير، وحذف وتغيير، ولأن العرب كانوا أمة أُمية لا يقرؤون ولا يكتبون، ومن ثم لم يؤلفوا كُبُبا حتى تحتاج إلى ترتيب وتنسيق، وحينما تحولوا إلى أمة علمية بمجيء القرآن ودخولهم في الإسلام، وجدنا الكتب المصنفة المرتبة، ووجدنا المناسبة تجمع أشتات هذه الكتب وموضوعاتها، وهكذا توزعت الكتب واختلفت باختلاف موضوعاتها وفنونها فكتب الفقه وكتب التفسير، وكتب الحديث وكتب التاريخ الخ...
وكل كتاب يبدأ بما يناسب الابتداء، ثم يقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ثم تأتي الخاتمة، وكذلك الشعراء فإنهم لا ينشرون دواوينهم هكذا اعتباطا، وإنما يعمدون إلى القصائد التي يجمعها موضوع واحد، أو مناسبة ما فينشرونها في ديوان واحد تحت عنوان واحد، وليس هذا شأن العرب وحدهم، وإنما هو شأن البشرية كلها في الشرق والغرب، بل إن الشوكاني نفسه، شعر حينما استطرد في كلامه عن المناسبة أنّه خرج عن الموضوع الذي كان فيه وهو تفسيره لسورة البقرة، فاعتذر عن ذلك وقال: إنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام. فهو يريد بذلك أن يبين للقارئ مناسبة هذا الكلام الذي انْجرّ إليه، حتى لا يلام على ذلك، وهذا دليل على أن الإنسان لا يمكن أبدا أن يتخلى عن المناسبة، أو أن يُغفلها في كلامه أو كتابته فإذا كان كلام البشر خلوا من المناسبة فلا شك أنه عيب في الكلام، ونقص في صاحبه فكيف بكلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي لا ريب فيه هدىً للمتقين.
وإليك ما قاله الفراهي في دحض هذه الشبهة:
زعم بعض العلماء أن الكلام المنظم الذي يجري إلى عمود خاص ليس من عادة العرب فإنك ترى في شعرهم اقتضابا بيّنا، فلو جاء القرآن على غير أسلوبهم ثقل عليهم، وهذا زعم باطل، فإن العرب كانوا يتَلَهّوْنَ بالشعر، ولا يعدونه من المعالي وإنما كانوا يعظمون الحكماء ويحبون الخطبات الحكيمة، ولذلك كان الأشراف يأنفون عن قول الشعر وأنْ يُعْرفوا به وإنما يستعملونه نزرا على وجه الحكمة وضرب المثل. ومحض الوزن والنظم لا يُعَد شعرا، وإن للشعر مواضيع من فنون الهزل والإطْراب، فهو على كل حال من لهو الحديث، فمن نظم الأبيات في غير مواضيعه لا يُسَمّى شاعرا إنما هو ناظم. ومن هذا الجانب المعروف من حقيقة الشعر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا».
أي هذا يكون عل الندرة، ولذلك نزه الله تعالى نبيه عن الشعر حيث قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فإن تبيّن لك هذا الفرق بين الشعر والبيان، وأن العرب لم يكن أكثر كلامهم الجزل شعرا، فهل بعد ذلك تجعل القرآن على أسلوب الشعراء وأنه مقتضب البيان كمثله؟ ألا ترى كيف جعل الله ذلك من ذمائم الشعراء وقدمه على الكذب مع ظهور شناعة الكذب فنبّه على أن القول من غير غاية وعمود ونظام أدل على سخافة القائل، فقال تعالى في ذم هؤلاء الشعراء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 225-226].
هل الهيمان في كل واد إلا الجريان في القول من غير مقصد ونظام. وليس للعقل فيه رغبة، ولكن النفس ربما ترغب في الملاهي، والخُلُوِّ عن الفكر فتميل إلى ذلك كما تميل إلى الخمر والغناء وأشغالٍ تغفلها عن الهموم والأفكار وهذا ليس بدواء ولكنه داء..
ثم يبين الدوافع الحقيقية، والأسباب الخفية التي جعلت بعض العلماء ينكرون المناسبة فيقول:
ما أنكر وجود النظم في القرآن من أنكره إلا بخلاف رضاه، ولولا أنه أكره عليه لتحاشى عنه، فإنه لا يرضى عاقل أن يترك بين الناس كلاما له، وهو يعلم أنه مختل النظم، بل لو لاح له بعد زمان شيء من الإخلال راجع فيه النظر، وهذّبه غاية ما يمكنه.
وكذلك لا يهتم به من حَسُن فيه ظنه، وإنما يتهمه إذا عجز عن فهمه ولم يتهم فيه نفسه بالتقصير، فحينئذ ينسب إلى القائل إساءة الصناعة، وذلك إذا كان الكلام من مخلوق.
فأما إذا كان من الخالق - تعالى وتقدس - وهو محفوظ ومرتب على غير ترتيب النزول - وألقاه الملك الأمين إلى نبي كريم، فيصح السان من قوم مشهورين بالفصاحة والبيان، وقد قرأه عليه مرارا.
ولا شك أن حُسْنَ الشيء ونفعه مودعان في تناسب أجزائه، لا سيما الكلام البليغ، ولا سيما إذا تحدى به البلغاء، فعجزوا عن الإتيان بمثله ولو بسورة واحدة. فلا أدري كيف يظن به ظان - وهو من المسلمين المؤمنين بالله وتنزيله - أنه خال عن حسن النظام.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن الذين ذهبوا إلى نفي النظام (أي المناسبة)، لم يذهبوا إليه إلا لأسباب اضطرتهم إليه، فلنذكر بعض تلك الأسباب لتعرف عذرهم، وتبقى على حسن ظنك بهم، ولتخرج من محض التقليد، إلى مطمئن من الحق.
فإن الأذكياء والحكماء لا يذهبون إلى رأي نكرٍ إلا فرارا مما هو أشد نكارة، فمن لم يعرف ذلك إما أساء بهم الظن، وسدّ على نفسه الانتفاع بهم، أو قلّدهم في أمر ظاهر الفساد فعمي وتصامم عن الاستماع لكل دليل واضح. فإن إساءة الظن إلى دلائلك أهون عليه من إساءة الظن بأولئك الأكابر. وإن نقلت من بعض الأكابر ما يوافق الحق اشتبه عليه الأمر، وربما اتبع ما عليه الأكثرون.
فلذلك احتجنا إلى ذكر بعض الأسباب المانعة عن الإيقان بالنظام مع وضوح دلائله، فنقول وبالله التوفيق:
الأول:
وهو أقوى الأسباب: تبرئة كلام الله عن كل عيب وشين. ولا شك أنه ظاهر النظام والترتيب في كثير من المواضع، ولكنهم لو ادعوا أن كله منظم، -والنظم مرعي فيه - لاضطروا في مواضع إلى القول بعدمه وذلك لغموضه ودقته، فتركوا هذا المسلك، ولم يحولوه إلى قصور أفهامهم، فإن منها ما وجدوه خلاف أصول النظم، وتيقنوا أنه لا يمكن فيه تصور نظم ما. كما ترى في آية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فإن هذه الآية واقعة بين ذكر متصل لأمور النساء، ثم بعدها يرجع إلى الذكر الأول، ولولا هذه الآية لكان البيان على غاية الاتصال.
ومن بيّن مناسبة هذه الآية،لم يأت بما يتقبله من رزق شيئا من الإنصاف ويستمع القول فيتبع أحسنه.
ومن الذين يؤمنون بوجود النظام من نسب ذلك إلى عجز فهمه. وذلك هو المسلك الأحوط وقد كشف لنا غطاؤه بعد سنين، فالحمد لله رب العالمين {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
الثاني:
ليس دون الأول، ولكن الأول يتعلق بالمصنفين، والثاني يتعلق بالناظرين في كلامهم.
وهو أكثر من ذهب إلى وجود النظم كالإمام الرازي - رحمه الله - قنع في هذا الأمر الصعب بما هو أوهى من نسج العنكبوت، مع سبقه الظاهر في العلوم النظرية والذكاء.
فمن نظر في كلامه تيقن بأن النظم لو كان كما يدعيه هذا الإمام المتبحر وأمثاله، لما خفي عليه مع خوضه فيه، وإذا لا يأتي هو ولا غيره إلا بكل ضعيف، فلا مطمح فيه لأحد بعد هؤلاء، فإما بقي على قوله بوجود النظم، ولكن يئس من علمه وأغلق بابه، فإن سمع أحدا يدعوه إليه لم يسمعه. وإما صار إلى الرأي الذي ظنه أسلم، وهو أن القرآن إنما نزل منجما مفرقا، فلا يطلب فيه نظام.
الثالث:
إكثار الوجوه في التأويل، وإكثار الجدل وقال وقيل، وذلك بأن النظم إنّما يجري على وحدة، فبحسب ما تكثر الوجوه، يتعذر الاستنباط النظام. فمن نظر في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة تحَيّر، لا يدري ماذا يختار منها؟ وأصبح في حجب من النّظم الذي يجري من كل جملة في وجه واحد كمن سلك طريقا يصادف في كل غلوة طرقا شتّى.
ولما كان ذلك - ولأسباب أُخر شرطنا أن نقنع بوجه واحد صحيح ظاهر ينتظم به الكلام، ولم نجده إلا أحسنها تأويلا، وأبلغها بيانا - وهذا مبسوط في موضعه وإنما ذكرناه هنا من جهة أن إكثار الوجوه من أكبر الحجب على فهم النظام، بل عدم التمسك بالنظام هو أكبر سبب للولوع بكثرة التأويل، فإن النّظم هو الذي يوجهك إلى الوجه الصحيح والسلف رحمهم الله لم يجمعوا وجوها بل كل منهم ذهب إلى أمر في كل علم إذا كثرت الكتب ودون العلم، وسهل الطريق فيحرصون على التبحر ويرفضون الرسوخ والتحقيق في فن واحد، فيحسبون تكثير الأقاويل والمذاهب علما وهم خِلْوٌ عنه كما قيل: طَلَبُ الكل فَوْتُ الكل.
فمن اشتغل بالتفسير وجده بحرا متلاطما من الأقوال، وحفظه هذه الأقاويل يمنعه عن مسلك النظام من جهة نفاد فرصته ومنته، ومن جهة أن النظام قد خفي وضل عنه في شتات الوجوه الكثيرة بل لو رفض هذه الكتب كلها وأخذ طريق السلف رحمهم الله فتدبر القرآن والتمس المطابقة بينه، وبين السنة الثابتة لكان أقرب إلى معرفة النظام وصحيح التأويل.
الرابع:
قريب من الثالث، إنّ تحَزّب الأمة في فرق وشِيع، قد ألجأهم إلى التمسك بما يؤيده من الكتاب فراق لهم تأويله الخاص سواء كان بظاهر القول، أو بإحدى طرق حمل الكلام على بعض المحتملات. ولا يخفى أن غلبة رأي وتوهم، يجعل البعيد قريبا والضعيف قويا، وكذلك يضل كل فريق، فلكل حزب تأويل حسب مذهبه، وحينئذ لا يمكن رعاية النظام فإن الكلام لا بد له من سياق، ولا بد لأجزائه من موقع يخصه. فلو رعوا النظام، ظهر ضعف ما يمليه ويجذبه إلى غير مساقه، كما أنن الكلمة الواحدة ربما تكون مشتركة بين المعاني المتعددة ولكن إذا وضعت في كلام منع موقعها وقرائنها من كثرة الاحتمالات، وتعين منها ما وافق معنى الجملة والتأم به. ومع ذلك ليس كل نظام جديرا بالأخذ بل ما هو أحسن تأويلان فربما يلتئم الكلام ويتسق النظام بتأويل ركيك ساقط، فهذا مما يتح بابا لدخول الأباطيل والهوى، يخالف النظام الصحيح العالي الذي يظهر به رفيع مكان التنزيل، كما وصف الله به كتابه في مواضع لا تحصى.

.رأي العز بن عبد السلام:

مع العز بن عبد السلام:
بالرغم من أن العز بن عبد السلام يصرح بأن المناسبة علم حسن، إلا أنه يشترط أن تكون في أمر متحد مرتبط أوّله بآخره، ولا يقبل بالمناسبة فيما وراء ذلك لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، وما كان كذلك لا يتَأتّى ربط بعضه ببعض ولا شك بأن الأمر المتحد المرتبط أوله بآخر لا يحتاج أن نبحث له عن المناسبة لأنها ظاهرة الفكرة مرتبط أولها بآخرها، فهذا الشرط هو تحصيل حاصل.
أما في ما وراء الأمر المتحد المرتبط أوله بآخره، فنرى أن العز بن عبد السلام لا يقول بالمناسبة، وذلك لاختلاف أسباب النزول، ولا شك بأن هذا الرأي مبني على أن ترتيب الآيات كما هي في المصحف، إنما كان على ترتيب النزول، وهو أمر ظاهر البطلان، بعد ما قدمنا من الأدلة على أن ترتيب الآيات ليس وفق ترتيب النزول، وأنه توقيفي بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم - وهكذا نرى أن هذه الشبهة ساقطة، ولا تنهض أمام الأدلة المتوافرة التي سبقت.
ونستخلص من هذا أن العز بن عبد السلام متوسط في رأيه، فهو يقول بالمناسبة الظاهرة، دون الخفية، وذلك ليهرب أيضا من التكلف الذي رآه عند بعض من خاضوا هذا البحر، ولم يحسنوا فيه السباحة فأوشكوا على الغرق. فهو يرى حسن المناسبة ولكنه يشفق على من يسعى إليها.

.رأي الجمهور:

مع الجمهور:
لا شك أن رأي الجمهور بالقول بالمناسبة يعتمد على أدلة قوية كما قدمنا، غير أن الطريقة التي سلكها أكثرهم في التعرض إلى المناسبة واستكشافها لم تكن تساعدهم دائما على معرفة المناسبة القوية، فيلجئون إلى مناسبات ضعيفة قد تضطرهم إلى شيء من التكلف مما حمل أصحاب الاتجاه الأول على إنكار المناسبة والتشنيع على القائلين بها، وأصحاب الاتجاه الثاني على القول بها في حال دون حال ويبدو أن الطريقة التي كانوا يلجئون إليها في غالب الأحيان، وهي طريقة التحليل حيث لا يتجاوزون الآيتين المتجاورتين، وبالتالي ينحصر البحث في معنى الآيتين ولا يجاوزهما إلى معانٍ أخرى تفهم من مجموع الآيات في السورة الواحدة، ولو أنهم بعد أن سلكوا هذا الطريق التحليلي، عادوا فنظروا إليه نظرة محلية تركيبية، لأمكنهم أن يربطوا بين الآيات كلها ربطا محكما، لا شبهة فيه ولا تكلف، ومن هنا فالطريق الصحيح لإدراك المناسبة لا بد أن يستخدم أولا منطق التحليل، حيث يضع الفرضيات الأولى للمناسبة بين الآيات، ثم يأتي بعد ذلك منطق التركيب الذي يحاول استكشاف الوحدة الكلية الموضوعية التي يقوم عليها بناء السورة فإذا ما أدرك ذلك أمكن تصحيح التكلف والتعسف الذي ينشأ من منطق التحليل، بذلك تبدو المناسبة قوية محكمة لا تحتاج إلى تكلف ولا تعسف. غير أن إدراك الوحدة الموضوعية الكلية ليس بالأمر الميسور، كما أنه ليس ملقىً على قارعة الطريق، وإنما يحتاج إلى بحث ودراسة، وقد تختلف فيه أنظار الباحثين والدارسين ومن ثمّ تختلف المناسبات باختلافهم، فالبقاعي - مثلا - يستنتج موضوع السورة من اسمها، وفي ذلك يقول: وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مُسماّه عنوانه الدّال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ آدم عليه السلام عند العرض على الملائكة عليهم السلام، ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة وأطابق بينه وبين اسمها، وأفسّر كل بسملة بما يوافق السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها.
أما الفراهي فإنه يقول:... ولما كان اسم الشيء عنوانا لمعناه، وقد اشتهر من الأسماء ما لا يخبر عن معناً هاما، فاعلم أن أسماء السور على أربعة وجوه:
الأول:
تسميها بلفظ من أوائلها، فمنه فيما نقله السيوطي سورة الحمد وبراءة، وسورة سبحان، وطه، وحواميم، ويس، واقتربت، والرحمن، وتبارك، وعمّ، والمعصرات، وأرأيت، وسورة تبت، وغير ذلك، وهكذا سمّت اليهود كتب التوراة.
الثاني:
تسميتها بلفظ اختص بها، كالزخرف والشعراء والحديد، والماعون، وغير ذلك، فهذه أسماء لا تنبئ عن مقصود السورة ولكنها كالشّامة والسّمة تتميز بها مسمياتها، وكانت العرب تسمي الرجال والأشياء هكذا، كالملتمس وتأبَطّ شراً، وهكذا المنطقي يميز المعاني بعرض خاص ليس في شيء من حقيقة المعنى.
الثالث:
تسميتها بلفظ يخبر عن بعض المعاني العظيمة كتسمية سورة النور لاشتمالها على آية النور وتسمية سورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة إبراهيم وسورة يونس، وكثير من الأسماء على هذا الأسلوب.
الرابع:
تسمية السورة بما ينبئ عن المقصد الذي تبنيت له السورة، ضمنها تسمية الفاتحة بصورة الصلاة وتسمية براءة بني إسرائيل وسورة محمد بسورة القتال وسورة الإخلاص والمعوذتين، فهذا الوجه الرابع يخبر عن فهم من سمّى السورة به، فلو سموا كل سورة على هذا الوجه لظهر نظام السور لكل متوسم. هذا فإن حصر موضوع السورة في اسمها ربما يؤدي إلى تكلف، إذا كان الاسم من الأنواع الثلاثة التي ذكرها الفراهي، ولا شك أن هذا الخلاف في تعيين موضوع السورة ينعكس على إدراك مناسبات آياتها، ومن ثم يكون اختلاف كبير في وجهات النظر.

.رأي دراز والفراهي:

مع دراز والفراهي:
لا شك أن ما ذهب إليه الدكتور دراز، والمعلم الفراهي، يبدو أنه أقرب للصواب وأدنى من الحكمة، لما قدما من أدلة قوية مقنعة، ولما وضعاه من الأصول والمعالم التي تهدي إلى المناسبة المعقولة، والتي تبعد عن التكلف والتعسف وذلك كما سيأتي معنا فيما بعد، وقد بلغ الأمر عند الفراهي مرتبة اليقين حتى أنه يقول: (وكيف يشك فيه من وجد مَسّ برده، وشم ريح ورده، وتمتع بنسيم عرار نجده، ولكنه من لم يذق فإن ارتاب فلا تثريب عليه) ومع ذلك يبدو أن هذا الاتجاه على أهميته - وبالرغم من الجهود التي بذلها في توضيح رأيه وإقامة الحجج والبراهين المقنعة - لم يستطع أن يعبد الطريق أمام الباحثين فما زالت هناك صعوبات كثيرة وعقبات كبيرة، تحتاج إلى مواصلة الجهد ومعاودة الدرس. إننا نتعاطف مع هذه الفكرة ونشعر شعورا قويا وغامضا بصحتها، ولكن تحقيقها في عالم الواقع ليس بالأمر الهين اليسير ودون ذلك، أشواك ومشتقات حتى يستوي النظام على سوقه، ويرتفع بنيانه على قواعد علمية محددة، وقد لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ من الناس ممن وهبوا حياتهم ووقتهم لمطالعة كتاب الله ودراسته وآتاهم الله فهما وحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.