فصل: الطبقة الأولى: الفيشداذية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني: ذكر ملوك الفرس:

كانت ملوك الفرس من أعظم ملوك الأرض في قديم الزمان، ودولتهم وترتيبهم لا يماثلهم في ذلك غيرهم، وهم أربع طبقات:
طبقة أولى يقال لهم الفيشداذية، لأنه كان يقال لكل واحد منهم فيشداذ، ومعنى هذه اللفظة أول سيرة العدل. وعدد الفيشداذية تسعة وهم: أو شهنج، وطمهورث، وجمشيذ، وبيوراسف، وهو الضحاك- وأفريذون بن أثقيان، ومنوجهر، وفراسياب، وزو، وكرشاسف. وهذه الطبقة قديمة، وقد نقل عن مدد ملكهم وحروبهم أمور يأباها العقل، ويمجها السمع فأضربنا عنها لذلك، وذكرنا ما يقرب إلى الذهن صحته. وطبقه ثانية يقال لهم الكيانية: وهم الذين في أول أسمائهم لفظة كي وفي لفظة للتنوية، قيل معناها الروحاني، وقيل: الجبار، وعدد الكيانية تسعة أيضاً وهم: كيقباذ وكيكاؤوس، وكيخسرو، وكيلهراسف، وكيبشتاسف، وكي أزدشير بهمن، وخماني بنت أزدشير بهمن، ودارا الأول، ودارا الثاني وهو الذي قتله الإسكندر، واستولى على ملكه.
وطبقة ثالثة وهم بعض ملوك الطوائف ويقال لهذه الطبقة الإشغانية. وعددهم أحد عشر، وهم أشغا بن أشغان وويقال أشك بن أشكان، وسابور بن أشغان، وجور بن أشغان، وبيرن الأشغاني، وجوذرز الأشغاني، ونرسي الأشغاني، وهرمز الأشغاني، وأرادوان الأشغاني، وخسرو الأشغاني، وبلاش الأشغاني، وأردوان الأصغر الأشغاني.
وطبقة رابعة وهم الأكاسرة، لأن كل واحد منهم كان يقال له كسرى، ويقال لهم أيضاً الساسانية، نسبة إلى جدهم ساسان، وملك منهم عدة من النساء بعد الهجرة، واستولى عليهم غيرهم من الفرس، وكان أولهم أزدشير بن بابك، وآخرهم يزد جرد، الذي قتل في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، على ما سنقف على أخبارهم مفصلا إن شاء الله تعالى.

.الطبقة الأولى: الفيشداذية:

من تجارب الأمم وعواقب الهمم لأبي علي أحمد بن مسكويه، قال أوشهنج أول من رتب الملك ونظم الأعمال، ووضع الخراج، ولقبه فيشداذ وتفسيره أول سيرة العدل، وكان ملكه بعد الطوفان بمائتي سنة، كذا ذكر ابن مسكويه. وقال غيره إن أوشهنج ومن ملك بعده إلى الضحاك، كانوا قبل الطوفان، وكذا يقول الفرس ويزعمون أن ملك ملوكهم لم ينقطع، وينكرون الطوفان، ولا يعترفون به.
رجعنا إلى كلام ابن مسكويه قال: وأوشهنج هو الذي بنى مدينتي بابل والسوس، وكان فاضلا محمود السيرة والسياسة، ونزل الهند وتنقل في البلاد، وعقد على رأسه التاج، وجلس على السرير ثم انقضى ملكه ولم يشتهر بعده غير طهمورث.
وطهمورث من ولد أوشهنج وبينه وبينه عدة آباء، وسلك سيرة جده، وهو أول من كتب بالفارسية، وكان على هيئة الديالم ولباسهم، وهلك ثم ملك بعده جمشيذ- بجيم مفتوحة وميم ساكنة وشين مكسورة منقوطة وياء مثناة من تحتها وذال منقوطة.
وهو أخو طهمورث لأبويه وجم والقمر، وشيذهو الشعاع، أي شعاع القمر وكذلك أيضاً يسمون خورشيد أي شعاع الشمس، لأن خور اسم الشمس، وجمشيذ المذكور ملك الأقاليم السبعة، وسلك السيرة الصالحة المتقدمة، وزاد عليها ورتب الناس على طبقات كالحجاب والكتاب، وأمر أن يلازم كل واحد طبقته ولا يتعداها، وأحدث النيروز وجعله عيداً يتنعم الناس فيه.
من الكامل لابن الأثير ووضع لكل أمر من الأمور خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج العدل والعمارة، وعلى خاتم البريد والرسل الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام. انتهى كلام ابن الأثير.
قال ابن مسكويه: ثم إنه بعد ذلك بدل سيرته الصالحة بأن أظهر التكبر والجبروت على وزرائه وقواده، وآثر اللذات، وترك كثيراً من السياسات التي كان يتولاها بنفسه، وعلم بيوراسب باستيحاش الناس من جمشيذ وتنكر خواصه عليه، فقصده، وهرب جمشيذ وتبعه بيوراسب حتى ظفر به وقتله بأن أشره بمئشار.
ثم ملك بيوراسب وكان يقال له الدهاك، ومعناه عشر آفات، فلما عرب قيل الضحاك، ولما ملك ظهر منه شر شديد، وفجور، وملك الأرض كلها، وسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل، وسن العشور والمكوس، واتخذ المغنين والملهيين، وكان على منكبيه سلعتان يحركهما إذا شاء، فادعى أنهما حيتان تهويلا على ضعفاء العقول، وكان يسترهما بثيابه، ولما اشتد على الناس جوره، وظلمه، ظهر بأصبهان رجل يقال له كابي، وكان الضحاك قد قتل له ابنين، فأخذ كابي المذكور عصاً، وعلق بطرفها جراباً ويقال: إنه كان حداداً، وإن الذي علقه نطع، كان يتوقى به النار، وصاح في الناس ودعاهم إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير واستفحل أمره.
وبقي ذلك العلم معظماً عند الفرس، ورصعوه بالجواهر، وسموه درفش كابيان، ولما قوي أمر كابي، قصد بيوراسب فهرب منه. وسأل الناس كابي أن يتملك عليهم، فأبى لكونه ليس من بيت الملك، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جمشيذ، وكان أفريذون بن أثفان من أولاد جمشيذ وكان مستخفياً من الضحاك، فوافى بجماعته إلى كابي، فاستبشر الناس به وولوه الأمر، وصار كابي أحد أعوانه، حتى احتوى أفريذون على منازل بيوراسب وأمواله، وتبعه وأسره بدياوند وقتله.
وكان النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في أواخر أيام الضحاك، ولذلك زعم قوم أنه نمروذ، وأن نمروذ عامل من عماله، وقد اختلف في الضحاك المذكور اختلافاً كثيراً، فيزعم كل من الفرس واليونان والعرب أنه منهم. والفرس يجعلونه قبل الطوفان لأنهم لا يعترفون بالطوفان.
ثم ملك أفريذون بن أثفيان، وهم من ولد جمشيذ قيل إنه التاسع من ولده، وكان إبراهيم الخليل في أول ملك أفريذون، وقد قيل إن أفريذون هو ذو القرنين، المذكور في القرآن ولما ملك أفريذون سار في الناس بأحسن سيرة، ورد جميع ما اغتصبه الضحاك على أصحابه، وكان لأفريذون ثلاثة أولاد، فقسم الأرض بينهم أثلاثاً، أحدهم إيرج وجعل له العراق والهند والحجاز، وجعله صاحب التاج والسرير وفوض إليه الولاية على أخويه.
والثاني: شرم وجعل له الروم وديار مصر والمغرب، والثالث طوج، وجعل له الصين والترك والمشرق جميعه، فلما مات أفريذون وثب طوج وشرم على إيرج فقتلاه واقتسما بلاده وملكا الأرض، ثم نشأ ابن لإيرج يقال له: منوجهر- بميم مفتوحة ونون مضمومة وواو ساكنة وجيم بين الجيم والشين مكسورة وهاء ساكنة وراء مهملة- فحقد المذكور على عميه وجمع العساكر وتغلب على ملك أبيه إيرج. ولما قوي منوجهر المذكور سار نحو الترك وطلب بدم أبيه، فقتل طوج، ثم قتل شرم عميه وأدرك ثأره منهما.
ثم نشأ من ولد طوج بن أفريذون المذكور فراسياب بن طوج، وجمع العسكر وحارب منوجهر بن إيرج وحاصره بطبرستان، ثم اصطلح وضربا بينهما حداً لا يتجاوزه واحد منهما، وهو نهر يلخ، وفي أيام منوجهر ظهر موسى عليه السلام، وذكروا أن فرعون موسى وهو الوليد بن الريان كان عاملا لمنوجهر ومطيعاً له، ثم هلك منوجهر فتغلب فراسياب على مملكة فارس، وأكثر الفساد وخرب البلاد.
ثم ظهر زو بن طهماسب وهو من أولاد منوجهر فتسارع الناس إليه وطرد فراسياب عن مملكة فارس حتى رده إلى بلا الترك بعد حروب كثيرة، وسار زو بأحسن سيرة حتى عمر وأصلح ما كان خربه فراسياب، واستخرج للسواد نهر، وسماه الزاب وبنى على حافته مدينة، وكان لزو وزير يقال له: كرشاسف من أولاد طوج بن أفريذون، وقد حكي أنهما اشتركا في الملك. انتهت الفيشداذية.

.الطبقة الثانية: الكيانية:

ولما هلك كرشاسف ملك بعده كيقباذ بن زو وسلك سيرة أبيه، في الخير وعمارة البلاد، ثم هلك كيقباذ، وملك بعده كيكاؤوس بن كينيه بن كيقباذ المذكور، فتشدد على إعدامه، وقتل خلقاً من عظماء البلاد، وولد له ولد نهاية في الجمال، وكان يفتن بحسنه وسماه سياوش بسين مهملة مكسورة وياء مثناة من تحتها وألف وواو مكسورة وشين منقوطة.
ثم إن أباه كيكاؤوس سلمه إلى رستم الشديد، الذي كان نائباً على سجستان ومملكتها، فربى سياوش كما ينبغي، وأتى به إلى والده وهو نهاية في الأدب والفروسية، ففرح به والده فرحاً عظيماً، وولاه مملكته، وكان لكيكاؤوس زوجة مبدعة في الحسن، فهويت سياوش وأعلمته، فامتنع ولم تزل تراجعه حتى طاوعها، فعشقها وعشقته عشقاً مبرحاً.
وفي الآخر علم كيكاؤوس بذلك، فمنع ولده منْ دخول داره وضرَبَ الزَّوجة وحبسها ثم ترضاها، وأفرجَ عنها، فأرسلتْ مع بعض الخصيان إلى سياوش تقول: إنْ عاهْدتَني أنك تتزوج بي قتلتُ أباك، فعرف الخصي كياؤوسَ بذلك، فأسر بحبسها ومنع سياوش من الدخول إليه.
فسأل سياوش رستماً الذي ربّاه أنْ يشفعَ إلى أبيه أنْ يُرسله إلى حرب فراسياب ملك الترك فأرسلَه مع جيش، فصالحه فراسيابُ على ما أراد، فأرسلَ يُعلم بذلك أباهُ كيكاؤوس، فأنكر عليه وقال: لا بدَّ منَ الحرب.
ولم يمكن سياوش الغدر بفراسياب، ولا الرجوع إلى والده لما ذكر، فهرب سياوشُ إلى فراسياب، فأكرمَهُ وزوّجَهُ ابنته، ثم إنّ أولادَ فراسيابَ أغروا والدهُم بقتل سياوش، وقالوا: لا يكونُ عاقبتُه عليك خيراً، فقتلهُ.
وكانتْ بنت فراسياب حُبْلى منه، فأراد أبوها قتلها، ثم تركها فولدَتْ ابناً. وسمع كيكاؤوس بذلك فقتل زوجتَهُ التي كان هذا الأمر بسببها، وأرسلَ قوماً شطاراً في زي التجار بالمال، وأمرهم بسرقة ابن سياوش وزوجتَه، فسرقوهما وأحضروهما. وكان اسمُ الولدُ المذكورُ كيخسرو، أعني ولد سياوش.
ثم إن كيكاؤوس قررَ المُلكَ لولد ولده كيخسرو ابن المذكور، ثمَ هلكَ كيكاؤوس واستمر ولد ولده كيخسرو المذكًورُ في الملك.
ولمّا مَلكَ كيخسرو وقوي أمرهُ قصدَ جدّهُ أبا أمَّه، وهو فراسيابُ ملكُ الترك طالباً بثار أبيه سياوش، وجرَتْ بينهما حروب كثيرة آخرها أنّ كيخسرو ظفر بفراسياب وأولاده وعسكَره، فقتلهُمُ ونهبَ أموالهُمُ وبلادَهُمُ آخذاً بثأر أبيهٍ سياوش.
ولمّا أدرك كيخسرو ثأره واستقرّ في ملكه تزهّدَ، وخرج عن الدنيا، ولما أصر على ذلك سألهُ وجوهُ الدولة في أن يعينَ للملْكَ من يختار، وكان لهراسفَ حاضراً وهو منْ مَرازبته، فجعلهُ وصيهُ وأقبلَ الناسُ عليهَ، وفقد كيخسرو، وكان مدةَ ملك كيخسَرو ستين سنة، ثم ملك لهراسف ويقالُ: إنَّه ابن أخي كيكاؤوس، فاتخذَ سريراً من ذهب مرصعاً بالجوهر، فكانَ يجلسُ عليه، وبنيتُ له بأرض خراسان مدينةَ بَلخ، وسكنها لقتال الترك وكان في زماَن لهراسف بختَ نصر وجعلهُ لهُراسفُ أصبهبذاً على العراقَ والأهواز وعلى الرّوم من غربيّ دجلة، فأتى دمشقُ وصالحهُ أهلها وصالحهُ بنو إسرائيَلَ بالقدس ثمّ غدروا به، فسار إليهم بخُتَ نصرَ راجعاً، وسبى ذريتَهم وخرب بيت المقدسَ، وهربَ من سلم منهم إلى مصر، فأنفذ بختَ نصر في طلبهم إلى ملك مصْر وقال: هؤلاء عبيدي قد هربوا إليكَ فابعثْ إلي بهم: فقال فرعون مصر: إنما هؤلاء أحرارُ، وامتنعَ من تسليمهم إليه، فسار بختُ نصر إلى مصرَ وقتْل الملك وسبى أهل مصر، ثم سار المذكور إلى الَمغرب حتى بلغ أقاصيهما، وخرب البلاد وسبى، ثم عاد إلى فلسطين والأردن، فسبى وقتل، وحضر مع بخت نصر من بني إسرائيل دانيال النبي، وغيره من أولاد الأنبياء عليهم السلام، وحمل إلى لهراسف من المغرب والشام وبيت المقدس أموالاً عظيمة، وقد اختلف المؤرخون في بخت نصر، هل كان ملكاً مستقلاً بنفسه أم كان نائباً للفرس؟ والأصح عند الأكثر أنه كان نائباً للهراسف المذكور، وسار بالجيوش نيابة عنه، وفتح له البلاد، ثم غزا بخت نصر العرب، وكان في زمن معد بن عدنان، فقصده طوائف من العرب مسالمين، فأحسن إليهم بخت نصر وأنزلهم شاطئ الفرات وبنوا موضع معسكرهم، وسموه الأنبار، واستمروا كذلك مدة حياة بخت نصر.
ومما جرى لبخت نصر رؤياه التي أريها رقد أثبتها اليهود في كتبهم، وكذلك المؤرخون من المسلمين. قالوا: رأى صنماً رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه وقدماه من حديد، وأصابع قدميه بعضها حديد وبعضها خزف، وأن حجراً انقطعت من جبل، من غير يد، قاطعة له، وصكت الصنم، فاندق الحديد والنحاس وغيره، وصار جميع ذلك مثل الغبار، وألوت به ريح عاصفة، ثم صارت الحجر التي صكت الصنم جبلا عظيماً امتلأت منه الأرض كلها.
فقال بخت نصر: لا أصدق تعبير ما رأيته إلا ممن يخبرني بما رأيت، وكتم بخت نصر ذلك، وسأل العلماء والسحرة والكهنة عن ذلك، فلم يطق أحد أن ينبئه بذلك، حتى سأل دانيال، فخبره دانيال بصورة رؤياه كما رآها بخت نصر، ولم يخلط منها بشيء.
ثم عبرها له دانيال، فقال: الرأس ملكك، وأنت بين الملوك بمنزلة رأس الصنم الذهب، والذي يقوم بعدك دونك، بمنزلة الفضة من الذهب، ويكون كل متأخر أقل ممن قبله، مثلما النحاس دون الفضة، والحديد دون النحاس، وأما الأصابع التي بعضها حديد وبعضها خزف، فإن المملكة تصير آخر الوقت مختلطة، مختلفة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، ثم إنّ الله تعالى، يقيم بعد ذلك مملكة لا تبيد إلى آخر الدهر. هذا تعبير رؤياك، فخر بخت نصر ساجداً لدانيال، وأمر له بالخلع وأن يقرب له القرابين.
وقد اختلف في مدة ولاية بخت نصر، والذي اختاره أبو عيسى وأثبته أن بخت نصر تولى أو ملك سبعاً وخمسين سنة، وشهراً وثمانية أيام.
وتفسير بخت نصر بالعربية، عطارد، وهو ينطق، سمي بذلك لتقريبه الحكماء والعلماء، وحبه أهل العلم.
ولما هلك ولي مُلك الفرس بعد بخت نصر، ابنه أولاق سنة واحدة وقتل.
ثم ولي بعده- بلطشاصر سنتين، وبلطشاصر هو ابن ابن بخت نصر، ثم إنه جلس للشراب، واحتفل بلطشاصر في مجلس عمله، وجمع فيه ألف نفس من أصحابه، وجعل فيه من آنية الذهب ما يفوت الحصر، فرأى على ضوء الشمع يد إنسان تكتب على الحائط، فتغير بلطشاصر لذلك، واضطرب ذهنه، واصطكت ركبتاه، فدعا دانيال وقال له: ما رأى، فقال دانيال: إنك لما عظَمت الذهب، والفضْة والنحاس والحديد، وليس فيها ما ينصرك، ولم تعظم الإله، الذي بيده نسمتك، وروحك، وجميع تصاريف أمورك، أرسل كفهُ يداً كتبتَ ما معناه: اكشف واعرى، أي أن مملكتك كشفت وعريت وجعلت لأهل فارس، فقُتل بلطاشاصر في تلك الليلة، وبه انقرضت دولة بني بخت نصر.
ولنرجع إلى سياقة ملك لهراسف، ثم مَلَك بعده ابنه كي بشتاسف، وهو الذي يزعمون أنه باق في كنكدز ولما ملك بشتاسف بنى مدينة- فسا، وظهر في أيامه زرادشت بزاي منقوطة مفتوحة، وراء مهملة، وألف، ودال مضمومة، مهملة وشين منقوطة ساكنة، وتاء مثناه من فوقها. وهو صاحب كتاب المجوس.
وتوقفت بشتاسف عن الدخول في دينه، ثم صدقه ودخل فيه، وجرى بين بشتاسف وبين خرزاسف ملك الترك حروب عظيمة، قتل بينهما فيها خلق كثير، بسبب زرداشت، ودخول بشتاسف في دينه، انتصر فيها بشتاسف على خرزاسف ملك الترك.
ثم إن بشتاسف تنسك، وانقطع للعبادة في جبل يقال له طميذر، ولقراءة كتاب زرادشت، ثم فُقد.
وكان لبشتاسف ولد يقال له إسفنديار، هلك في حياة أبيه، وخلف ولداً يقال له أزدشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف، ولما تزهد بشتاسف وفقد مَلكَ ابن ابنه أزدشير بهمن المذكور وانبسطت يده حتى ملك الأقاليم السبعة، من كتاب أبي عيسى.
وأزدشير بهمن المذكور، اسمه بالعبرانية كورش، ويقال كيرش، وهو الذي أمر بعمارة بيت المقدس بعد أن خربه بخت نصر، فعمره أزدشير وأمر بني إسرائيل بالرجوع إليه، ولا دليل على أنّ أزدشير المذكور هو كورش أقوى من كلام أشعيا النبي عليه السلام، فإنه يقول في الفصل الثاني والعشرين من كتابه، حكاية عن الله تعالى أنا القائل لكورش: داعي الذي يتم جمع محباتي، ويقول لأورشليم عودي مبنية، ولهيكلها كن مزخرفاً، مزيناً، هكذا قال الرب لمسيحه كورش، الذي أخذ بيمينه لتدبير الأمم وتحنى لك ظهور الملوك سائراً، تفتح الأبواب أمامه فلا تغلق، وأسير أنا قدامك، وأسهل لك الوعور، وأكسر أبواب النحاس، وأحبوك بالذخائر التي في الظلمات ولم يكن أحد في ذلك الزمان بهذه الصفة التي ذكرها أشعيا، أعني ملك الأقاليم والحكم على الأمم، وغير ذلك مما ذكره غير أزدشير بهمن، فتعين أن يكون هو كيرش.
وكان أزدشير بهمن كريماً متواضعاً علامته على كتبه بقلمه، من أزدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسايس لأمركم.
وغزا رومية في ألف ألف مقاتل وبقي كذلك إلى أن هلك، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان بهمن متزوجاً بابنته خماني؛ وذلك حلال على دين المجوس، فتوفي بهمن وهي حامل منه بدارا وكانت قد سألت بهمن ن يعقد التاج على ما في بطنها، ويخرج ابنه ساسان بن بهمن من الملك، فأجابها بهمن وأوصى به أكابر دولته، ففعلوا ذلك، وساست خماني الملك بعده أحسن سياسة، وعظم ذلك على ساسان، فلحق بإصطخر، وتزهد وتجرد من حلية الملك واتخذ غنماً وتولى بنفسه رعيها، وساسان المذكور هو أبو الأكاسرة.
ثم وضعت خماني ولداً وسمته دارا وهو ابنها وأخوها، ولما اشتد سلمت الملك إليه وعزلت نفسها، فتولى دارا بن بهمن الملك، فضبطه بشجاعة وحسن سياسة وولد لدارا ابن فسماه دارا باسم نفسه.
ثم هلك دارا وولي الملك ابنه دارا بن دارا، وكان حقوداً ظالماً، فنفر منه قلوب الخاصة والعامة.
وفي زمان دارا المذكور، تملك الإسكندر المشهور ابن فيلبس، فعرف توحش خواطر أصحاب دارا منه، فقصده بجيشه فلحق بالإسكندر المذكور، لما دنا من دارا كثير من أصحاب دارا وأطلعوه على عور دارا وقووه عليه، وطال بينهما القتال إلى أن وثب جماعة من أصحاب دارا عليه فقتلوه، وأتوا إلى الإسكندر فقتلهم عن آخرهم، وصار ملك دارا إلى الإسكندر.
الإسكندر بن فيلبسكان أبوه أحد ملوك اليونان، وكانوا طوائف، فلما مَلك الإسكندر غزاهم واجتمع له ملكهم، ثم غزا دارا ملك الفرس وقتله، ثم غزا الهند، وتناول أطراف الصين، ثم انصرف الإسكندر يريد الإسكندرية.
وهو الذي بناها، فهلك في ناحية السواد وقيل بشهرزور وكان عصره ستاً وثلاثين سنة، فحمل في تابوت ذهب إلى أمه، وكان ملكه نحو ثلاث عشرة سنة.
واجتمع بعد ذلك ملك الروم وكان متفرقاً، وافترق مُلْكُ فارس وكان مجتمعاً، وكان مرض الإسكندر الذي مات به الخوانيق، وقيل اغتيل بالسم. وهذا الإسكندر هو صاحب أرسطاطاليس وتلميذه وأرسطو الذي أشار عليه بعدم قتل الفرس، وأن يولي أكابرهم، ومن يصلح للملك كل واحد برأسه مملكة، ليحصل بينهم التباغض والتشاحن ولا يجتمعوا على أحد، فقبل الإسكندر ذلك منه، وولاهم فصار منهم ملوك الطوائف.
وكان الإسكندر أشقر أزرق وكان اليونان قبله طوائفَ، فأول ما تملك غزاهم، وقتل ملوكهم، واجتمع له جميع مملكة اليونان والروم حسبما ذكرناه، ولما اجتمعت له مملكة المغرب بنى الإسكندرية، وسار يريد الشرق، وقتال دارا، ومر الإسكندر في طريقه على بيت المقدس، وأكرم بني إسرائيل، ثم سار إلى بلاد فارس واستولى على مُلك الفرس، وقتل دارا، وكان منه ما ذكر وقد قيل عنه إنه انصرف من المشرق إلى جهة الَشمال، وبنى السد على يأجوج ومأجوج، والصحيح أن الإسكندر المذكور لم يكن منه ذلك؛ بل ذو القرنين الذي ذكره الله في القرآن، وهو ملك قديم كان على زمن إبراهيم الخليل عليه السلام. قيل إنه أفريذون، وقيل غيره، وقد غلط من ظن أن باني السد هو الإسكندر الرومي وكذلك قد استفاض على السنة الناس، أن لقب الإسكندر المذكور ذو القرنين وهو أيضاً غلط، فإن لفظة ذو لفظة عربية محض، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وكان منهم ذو جدن، وذو كلاع، وذو نواس، وذو شناتر، وذو القرنين، الصعب بن الرايش، واسم الرايش الحارث بن ذي سدد بن عاد بن الماطاط بن سبأ.
وقد قيل إن ذا القرنين الصعب المذكور هو الذي مكّن الله له في الأرض وعظم ملكه، وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج.
ومما نقله ابن سعيد المغربي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن ذي القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: هو منْ حمير، وهذا مما يقوي أنه الصعب المذكور، لأنه كان ملكاً عظيماً، وكان من ولد حمير، ولما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه، فأبى واختار النسك، فانقسمت ممالك الإسكندر بين ملوك الطوائف، وبين ملوك اليونان، على ما سنذكرهم في الفصل الثاني وبين غيرهم.
ملوك الطوائفوكان من أمرهم أن الإسكندر لما غلب على الفرس، وأسر ملوكهم وكبارهم، قتل منهم جماعة، وأراد قتل الباقين عن آخرهم، واستشار أرسطوطاليس في ذلك فقال له: إني لا أرى ذلك بل الرأي أنْ تملك منهم عدة على الفرس، فيقع بينهم التشاحن والتباغض، ولا يجتمعون فتأمن اليونان غائلتهم، ولا يبقى لهم على اليونان دماء كثيرة فمال الإسكندر إلى ذلك وملك من كبار الفرس عشرين ملكاً على لفرس، وهم المسلمون بملوك الطوائف، واستمر بهم الحال على ذلك نحو خمسمائة واثنتي عشرة سنة، حتّى قام أزدشير بن بابك وجمع ملك الفرس، ولم يبق منهم ملك غيره، وكانت عدة ملوك الطوائف تزيد على تسعين ملكاً، ولم يؤرخ في مبتدأ أمرهم أسماؤهم، ولا مُدد ملكهم، فإنهم كانوا ملوكاً صغاراً في الأطراف، وعظم بعد الإسكندر ملك اليونان، فكان الحكم لهم، فلذلك ذكروا بعد الإسكندر في التواريخ دون ملوك الطوائف. وبقي الأمر على ذلك حتى اشتهرت الملوك الأشغانية من بين ملوك الطوائف.