فصل: الفصل الرابع من قواعد العقائد في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الفصل الثالث في لوامع الأدلة للعقيدة التي ترجمناها بالقدس

فنقول ‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ميز عصابة السنة بأنواراليقين وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين وجنبهم زيغ الزائغين وضلال الملحدين ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين وسددهم للتأسي بصحبة الأكرمين ويسر لهم اقتفاء آثار السلف الصالحين حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول ‏"‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله ‏"‏ ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأصول وعرفوا أن كلمتي الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان وهي أربعة ويدور كل ركن منها على عشرة أصول الركن الأول في معرفة ذات الله تعالى ومداره على عشرة أصول‏:‏ وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصاً بجهة ولا مستقراً على مكان وأنه يرى وأنه واحد الركن الثاني في صفاته ويشتمل على عشرة أصول‏:‏ وهو العلم بكونه حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً منزهاً عن حلول الحوادث وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة الركن الثالث في أفعاله تعالى ومداره على عشرة أصول‏:‏ وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها متكتسبة للعباد وأنه مرادة لله تعالى وأنه متفضل بالخلق والاختراع وأن له تعالى تكليف ما لا يطاق وأن له إيلام البريء ولا يجب عليه رعاية الأصلح وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثه الأنبياء جائز وأن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة مؤيدة بالمعجزة الركن الرابع في السمعيات ومداره على عشرة أصول‏:‏ وهي إثبات الحشر والنشر وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر والميزان والصراط وخلق الجنة والنار وأحكام الإمامة وأن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم وشروط الإمامة‏.‏

فأما الركن الأول من أركان الإيمان في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى الأصل الأول معرفة وجوده تعالى وأول ما يستضاء به من الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله سبحانه بيان وقد قال تعالى ‏"‏ ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ أفرأيتم ما تمنون أفرأيتم ما تمنون ءأنمت تخلقونه أم نحن الخالقون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ للموقين ‏"‏ فليس يخفي على من معه أدنى مسكة من عقل إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسموات وبدائع فطرة الحيوان والنبات أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصرفة بمقتضى تدبيره‏.‏

ولذلك قال الله تعالى ‏"‏ أفي الله شك فاطر السموات والأرض ‏"‏ ولهذا بعث الأنبياء صلوات الله عليهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ وما أمروا أن يقولوا لنا إله وللعالم إله‏.‏

فإن ذلك كان مجبولاً في فطرة عقولهم من مبدإ نشوهم وفي عنفوان شبابهم‏.‏

ولذلك قال عز وجل ‏"‏ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ‏"‏ فإذاً في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان‏.‏

ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول‏:‏ من بدائة العقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه والعالم حادث فإذاً لا يستغني في حدوثه عن سبب‏.‏

أما قولنا ‏"‏ إن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب ‏"‏ فجلي فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص وأما قولنا ‏"‏ العالم حادث ‏"‏ فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث‏.‏

ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى الأولى‏:‏ قولنا إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار فإن من عقل جسماً لا ساكناً ولا متحركاً كان لمتن الجهل راكباً وعن نهج العقل ناكباً‏.‏

الثانية‏:‏ قولنا إنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض وذلك مشاهدة في جميع الأجسام ما شوهد منها وما لم يشاهد فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارىء منهما حادث لطريانه والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه - على ما سيأتي بيانه وبرهانه في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس - الثالثة‏:‏ قولنا ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال ولأنه لو كان للفلك دورات لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن تكون شفعاً أو وتراً أو شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً ومحال أن يكون شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً‏.‏

فإن ذلك جمع بين النفي والإثبات إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر وفي نفي أحدهما إثبات الآخر‏.‏

ومحال أن يكون شفعاً لأن الشفع يصير وتراً بزيادة واحد‏.‏

وكيف يعوز ما لا نهاية له‏:‏ واحد ومحال أن يكون وتراً إذ الوتر يصير شفعاً بواحد فكيف يعوزها واحد مع أنه لا نهاية لأعدادها‏.‏

ومحال أن يكون لا شفعاً ولا وتراً إذ له نهاية‏.‏

فتحصل من هذا أن العالم لا يخلو عن الحوادث‏.‏

وما لا يخلو عن الحوادث فهو إذن حادث

وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة الأصل الثاني العلم بأن الله تعالى قديم لم يزل أزلي ليس لوجوده أول بل هو أول كل شيء وقبل كل ميت وحي‏.‏

وبرهانه

أنه لو كان حادثاً ولم يكن قديماً لافتقر هو أيضاً إلى محدث وافتقر محدثه إلى محدث وتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية وما تسلسل لم يتحصل أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول وذلك هو المطلوب الذي سميناه صانع العالم ومبدئه وبارئه ومحدثه ومبدعه الأصل الثالث العلم بأنه تعالى مع كونه أزلياً أبدياً ليس لوجوده آخر فهو الأول والآخر والظاهر والباطن لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه أو بمعدم يضاده ولو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه لجاز أن يوجد شيء يتصور عدمه بنفسه فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب‏.‏

وباطل أن ينعدم بمعدم يضاده لأن ذلك المعدم لو كان قديماً لما تصور الوجود معه‏.‏

وقد ظهر بالأصلين السابقين وجوده وقدمه فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده فإن كان الضد المعدم حادثاً كان محالاً إذ ليس الحادث في مضادته

للقديم حتى يقطع وجوده بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع وجوده بل الدفع أهون من القطع والقديم أقوى وأولى من الحادث الأصل الرابع العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيز بل يتعالى ويتقدس عن مناسبة الحيز‏.‏

وبرهانه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيزه ولا يخلو من أن يكون ساكناً فيه أو متحركاً عنه فلا يخلو عن الحركة أو السكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث‏.‏

ولو تصور جوهر متحيز قديم لكان يعقل قدم جواهر العالم فإن سماه مسم جوهراً ولم يرد به المتحيز كان مخطئاً من حيث اللفظ لا من حيث المعنى الأصل الخامس العلم بأنه تعالى ليس بجسم مؤلف من جواهر‏.‏

إذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر وإذا بطل كونه جوهراً مخصوصاً بحيز بطل كونه جسماً لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر فالجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار وهذه سمات الحدوث‏.‏

ولو جاز أن يعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يعتقد الإلهية للشمس والقمر أو لشيء آخر من أقسام الأجسام‏.‏

فإن تجاسر متجاسر على تسميته تعالى جسماً من غير إرادة التأليف من الجواهر كان ذلك غلطاً في الاسم مع الإصابة في نفي معنى الجسم الأصل السادس العلم بأنه تعالى ليس بعرض قائم بجسم أو حال في محل لأن العرض ما يحل في الجسم فكل جسم حادث لا محالة ويكون محدثه موجوداً قبله‏.‏

فكيف يكون حالاً في الجسم وقد كان موجوداً في الأزل وحده وما معه غيره ثم أحدث الأجسام والأعراض بعده ولأنه عالم قادر مريد خالق - كما سيأتي بيانه - وهذه الأوصاف تستحيل على الأعراض بل لا تعقل إلا لموجود قائم بنفسه مستقل بذاته‏.‏

وقد تحصل من هذه الأصول أنه موجود قائم بنفسه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض‏.‏

وأن العالم كله جواهر وأعراض وأجسام فإذا لايشبه شيئاً ولا يشبهه شيء بل هو الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء وأنى يشبه المخلوق خالقه والمقدور مقدره والمصور مصوره‏.‏

والأجسام والأعراض كلها من خلقه وصنعه فاستحال القضاء عليها بمماثلته ومشابهته الأصل السابع العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدام أو خلف وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رجلاً والآخر يقابله ويسمى رأساً‏.‏

فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرجل حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحتاً وإن كان في حقنا فوقاً‏.‏

وخلق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يميناً والأخرى شمالاً وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه فحدث اسم القدام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها فالجهات حادثة بحدوث الإنسان ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة بل خلق مستديراً كالكرة لم يكن لهذه الجهات وجود ألبتة‏.‏

فكيف كان في الأزل مختصاً بجهة والجهة حادثة وكيف صار مختصاً بجهة بعد أن لم يكن له أبأن خلق العالم فوقه ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس أو خلق العالم تحته فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصاً بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العرض وقد ظهر استحالة كونه جوهراً أو عرضاً فاستحال كونه مختصاً بالجهة وإن أريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطاً في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذياً له وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدر ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء‏.‏

وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء تنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء الأصل الثامن العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن ‏"‏ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ‏"‏ وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر‏:‏ قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما التأويل كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى ‏"‏ وهو معكم أينما كنتم ‏"‏ إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم وحمل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ على القدرة والقوة وحمل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحجر الأسود يمين الله في أرضه ‏"‏ على التشريف والإكرام لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسماً مماساً للعرش إما مثله أو أكبر منه أو أصغر وذلك محال وما يؤدي إلى المحال فهو محال الأصل التاسع العلم بأنه تعالى مع كونه منزهاً عن الصورة والمقدار مقدساً عن الجهات والأقطار مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى ‏"‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ‏"‏ ولا يرى في الدنيا تصديقاً لقوله عز وجل ‏"‏ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ‏"‏ ولقوله تعالى في خطاب موسى عليه السلام ‏"‏ لن تراني ‏"‏ وليت شعري كيف عرف المعتزل من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية مع كونها محالاً ولعل الجهل بذوي البدع والأهواء من الجهلة الأغبياء أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم وأما وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو أنه غير مؤد إلى المحال فإن الرؤية نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم فإذا جاز تعلق العلم به وليس في جهة جاز تعلق الرؤية به وليس بجهة وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم جاز أن يراه الخلق من غير مقابلة وكما جاز أن يعلم من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك الأصل العاشر العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستند بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناويه‏:‏ وبرهانه قوله تعالى ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏ وبيانه أنه لو كان اثنين وأراد أحدهما أمراً فالثاني إن كان مضطراً إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهوراً عاجزاً ولم يكن إلهاً قادراً وإن كان قادراً على مخالفته ومدافعته كان الثاني قوياً قاهراً والأول ضعيفاً قاصراً ولم يكن إلهاً قادراً

الركن الثاني العلم بصفات الله تعالى ومداره على عشرة أصول الأصل الأول العلم بأن صانع العالم قادر وأنه تعالى في قوله ‏"‏ وهو على كل شيء قدير ‏"‏ صادق لأن العالم محكم في صنعته مرتب في خلقته ومن رأى ثوباً من ديباج حسن النسج والتأليف متناسب التطريز والتطريف ثم توهم صدور نسجه عن ميت لا استطاعة له أو عن إنسان لا قدرة له كان منخلعاً عن غريزة العقل ومنخرطاً في سلك أهل الغباوة والجهل الأصل الثاني العلم بأنه تعالى عالم بجميع الموجودات ومحيط بكل المخلوقات ‏"‏ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ‏"‏ صادق في قوله ‏"‏ وهو بكل شيء عليم ‏"‏ ومرشد إلى صدقه بقوله تعالى ‏"‏ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ‏"‏ أرشدك إلى الاستدلال بالخلق على العلم بأنك لا تستريب في دلالة الخلق اللطيف والصنع المزين بالترتيب ولو في الشيء الحقير الضعيف على علم الصانع بكيفية الترتيب والترصيف فما ذكره الله سبحانه هو المنتهى في الهداية والتعريف الأصل الثالث العلم بكونه عز وجل وحيا فإن من ثبت علمه وقدرته ثبت بالضرورة حياته ولو تصور قادر وعالم فاعل مدبر دون أن يكون حيا لجاز أن يشك في حياة الحيوانات عند ترددها في الحركات والسكنات بل في حياة أرباب الحرف والصناعات وذلك انغماس في غمرة الجهالات والضلالات الأصل الرابع العلم بكونه تعالى مريداً لأفعاله فلا موجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته فهو المبدىء المعيد والفعال لما يريد وكيف لا يكون مريداً وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده وما لا ضد له أمكن أن يصدر منه ذلك بعينه قبله أو بعده‏.‏

والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة فلابد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين‏.‏

ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال إنما وجد في الوقت الذي سبق بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال وجد بغير قدرة لأنه سبق العلم بوجوده فيه الأصل الخامس العلم بأنه تعالى سميع بصير لا يعزب عن رؤيته هواجس الضمير وخفايا الوهم والتفكير ولا يشذ عن سمعه صوت دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء‏:‏ وكيف لا يكون سميعاً بصيراً والسمع والبصر كمال لا محالة وليس بنقص فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أسنى وأتم من الصانع وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته والكمال في خلقه وصنعته أو كيف تستقيم حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أبيه إذ كان يعبد الأصنام جهلاً وغياً فقال له ‏"‏ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ‏"‏ ولو انقلب ذلك عليه في معبوده لأضحت حجته داحضة ودلالته ساقطة ولم يصدق قوله تعالى ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ وكما عقل كونه فاعلاً بلا جارحة وعالماً بلا قلب ودماغ فليعقل كونه بصيراً بلا حدقة وسميعاً بلا اذن إذ لا فرق بينهما الأصل السادس أنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام وهو وصف قائم بذاته ليس بصوت ولا حرف بل لا يشبه كلامه كلام غيره كما لا يشبه وجوده وجود غيره‏.‏

والكلام بالحقيقة كلام النفس وإنما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم‏:‏ إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن لم يعقله عقله ولا نهاه نهاه عن أن يقول‏:‏ لساني حادث ولكن ما يحدث فيه بقدرتي الحادثة قديم فاقطع عن عقلة طمعك وكف عن خطابه لسانك‏.‏

ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبله شيء‏.‏

وأن الباء قبل السين في قولك بسم الله فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديماً فنزه عن الالتفات إليه قلبك فلله سبحانه سر في إبعاد بعض العباد ‏"‏ ومن يضلل الله فما له من هاد ‏"‏ ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام في الدنيا كلاماً ليس بصوت ولا حرف فليستنكر أن يرى في الآخرة موجوداً ليس بجسم ولا لون‏:‏ وإن عقل أن يرى ما ليس بلون ولا جسم ولا قدر ولا كمية وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر‏.‏

وإن عقل أن يكون له علم واحد هو علم بجميع الموجودات فليعقل صفة واحدة للذات هو كلام بجميع ما دل عليه من العبارات‏.‏

وإن عقل كون السموات السبع وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة ومحفوظة في مقدار ذرة من القلب وأن كل ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة من غير أن تحل ذات السموات والأرض والجنة والنار في الحدقة والقلب والورقة فليعقل كون الكلام مقروءاً بالألسنة محفوظاً في القلوب مكتوباً في المصاحف من غير حلول ذات الكلام فيها إذ لو حلت بكتاب الله ذات الكلام في الورق لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق وحلت ذات النار بكتابه اسمها في الورق ولاحترق الأصل السابع أن الكلام القائم بنفسه قديم وكذا جميع صفاته إذ يستحيل أن يكون محلاً للحوادث داخلاً تحت التغير بل يجب للصفات من نعوت القدم ما يجب للذات فلا تعتريه التغيرات ولا تحله الحادثات بل لم يزل في قدمه موصوفاً بمحامد الصفات ولا يزال في أبده كذلك منزهاً عن تغير الحالات لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث‏.‏

وإنما ثبت نعت الحدوث للأجسام من حيث تعرضها للتغير وتقلب الأوصاف فكيف يكون خالقها مشاركاً لها في قبول التغير وينبني على هذا أن كلامه قديم قائم بذاته وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده وعقل وخلق الله علماً متعلقاً بما في قلب أبيه من الطلب صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده له فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل ‏"‏ اخلع نعليك ‏"‏ بذات الله ومصير موسى عليه السلام مخاطباً به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب وسمع لذلك الكلام القديم الأصل الثامن أن علمه قديم فلم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته‏.‏

ومهما حدثت المخلوقات لم يحدث له علم بها بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي إذ لو خلق لنا علم به بقدوم زيد عند طلوع الشمس ودام ذلك العلم تقديراً حتى طلعت الشمس لكان قدوم زيد عند طلوع الشمس معلوماً لنا بذلك العلم من غير تجدد علم آخر‏.‏

فهكذا ينبغي أن يفهم قدم علم الله تعالى الأصل التاسع أن إرادته قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي إذ لو كانت حادثة لصار محل الحوادث ولو حدثت في غير ذاته لم يكن هو مريداً لها كما لا تكون أنت متحركاً بحركة ليست في ذاتك وكيفما قدرت فيفتقر حدوثها إلى إرادة أخرى وكذلك الإرادة الأخرى تفتقر إلى أخرى ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية ولو جاز أن يحدث إرادة بغير إرادة لجاز أن يحدث العالم بغير إرادة الأصل العاشر أن الله تعالى عالم بعلم حي بحياة قادر بقدرة ومريد بإرادة ومتكلم بكلام وسميع بسمع وبصير ببصر وله هذه الأوصاف من هذه الصفات القديمة‏.‏

وقول القائل‏:‏ عالم بلا علم كقوله‏:‏ غني بلا مال وعلم بلا عالم وعالم بلا معلوم فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة كالقتل والمقتول والقاتل وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل كذلك لا يتصور عالم بلا علم ولا علم بلا معلوم ولا معلوم بلا عالم بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل لا ينفك بعض منها عن البعض فمن جوز انفكاك العلام عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم وانفكاك العلم عن العالم إذ لا فرق بين هذه الأوصاف‏.‏

الركن الثالث العلم بأفعال الله تعالى الأصل الأول العلم بأن كل حادث في العالم فهو فعله وخلقه واختراعه لا خالق له سواه ولا محدث له إلا إياه‏.‏

خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فجميع أفعاله عبادة مخلوقة له ومتعلقة بقدرته تصديقاً له في قوله تعالى ‏"‏ الله خالق كل شيء ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ والله خلقكم وما تعملون ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ‏"‏ أمر العباد بالحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم لعلمه بموارد أفعالهم‏.‏

واستدل على العلم بالخلق وكيف لا يكون خالقاً لفعل العبد وقدرته تامة لا قصور فيها وهي متعلقة بحركة أبدان العباد والحركات متماثلة وتعلق القدرة بها لذاتها فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها أو كيف يكون الحيوان مستبداً بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها من الاكتساب هيهات هيهات‏!‏ ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسموات الأصل الثاني أن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً وخلق الاختيار والمختار جميعاً‏.‏

فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له‏.‏

وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسباً ‏"‏ وكيف تكون جبراً محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها وإذا يطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعليق يعبر عنه بالاكتساب‏.‏

وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع

حاصلاً بها وهي عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها الأصل الثالث أن فعل العبد وإن كان كسباً للعبد فلا يخرج عن كونه مراداً لله سبحانه‏.‏

فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته‏.‏

ومنه الشر والخير والنفع والضر والإسلام والكفر والعرفان والنكر والفوز والخسران والغواية والرشد والطاعة والعصيان والشرك والإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ‏"‏ لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ‏"‏ ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة ‏"‏ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ‏"‏ وقول الله عز وجل ‏"‏ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ‏"‏ ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرئام إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيفي يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته‏.‏

والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علواً كبيراً‏.‏

ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة لله صح أنها مرادة له‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد قلنا‏:‏ الأمر غير الإرادة‏.‏

ولذلك إذا ضرب السيد عبده فعاتبه السلطان عليه فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذبه السلطان - فأراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه - فقال له‏:‏ أسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان فهو يأمره بما لا يريد امتثاله ولو لم يكن آمراً لما كان عذره عند السلطان ممهداً ولو كان مريداً لامتثاله لكان مريداً لهلاك نفسه وهو محال الأصل الرابع أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجباً عليه‏.‏

وقالت المعتزلة وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة العباد وهو محال إذ هو الموجب والآمر والناهي وكيف يتهدف لإيجاب أو يتعرض للزوم وخطاب والمراد بالواجب أحد أمرين‏:‏ إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل كما يقال يجب على العبد أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة بالنار أو ضرر عاجل‏:‏ كما يقال يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت‏.‏

وإما أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى محال كما يقال وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال وهو أن يصير العلم جهلاً فإن أراد الخصم بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأول فقد عرضه للضرر وإن أراد به المعنى الثاني فهو مسلم إذ بعد سبق العلم لابد من وجود المعلوم وإن أراد به معنى ثالثاً فهو غير مفهوم‏.‏

وقوله ‏"‏ يجب لمصلحة عباده ‏"‏ كلام فاسد فإنه إذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب في حقه معنى‏.‏

ثم إن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب الأصل الخامس أنه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه - خلافاً للمعتزلة - ولو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا ‏"‏ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ‏"‏ ولأن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل لا يصدقه ثم أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله وكان من جملة أقواله أنه لا يصدقه فكيف يصدقه في أنه لا يصدقه وهل هذا إلا محال وجوده الأصل السادس أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لا حق خلافاً للمعتزلة - لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً‏:‏ ويدل على جواز ذلك وجوده فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام ويجب ذلك على الله سبحانه فقول‏:‏ من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل إذ يقال وصف الثواب والحشر بكونه واجباً عليه إن كان المراد به أن يتضرر بتركه فهو محال وإن أريد به غيره فقد سبق أنه غير مفهوم إذ خرج عن المعاني المذكورة للواجب الأصل السابع أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بل لا يعقل في حقه الوجوب فإنه ‏"‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ‏"‏ وليت شعري بما يجيب المعتزلي في قوله ‏"‏ إن الأصلح واجب عليه ‏"‏ في مسألة نعرضها عليه‏:‏ وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين فإن الله سبحانه يزيد في درجات البالغ ويفضله على الصبي لأنه تعب بالإيمان والطاعات بعد البلوغ ويجب عليه ذلك - عند المعتزلي - فلو قال الصبي‏:‏ يا رب لم رفعت منزلته علي فيقول‏:‏ لأنه بلغ واجتهد في الطاعات ويقول الصبي‏:‏ أنت أمتني في الصبا فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد ‏"‏ فقد عدلت عن العدل في التفضل عليه بطول العمر له دوني فلم فضلته فيقول الله تعالى‏:‏ لأني علمت أنك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا - هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل - وعند هذا ينادى الكفار من دركات لظى ويقولون‏:‏ يا رب أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم فبماذا يجاب عن ذلك وهل يجب عند هذا إلا القطع بأن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن بميزان أهل الاعتزال‏.‏

فإن قيل‏:‏ مهما قدر على رعاية الأصلح للعباد ثم سلط عليهم أسباب العذاب كان ذلك قبحاً لا يليق بالحكمة قلنا‏:‏ القبح ما لا يوافق الغرض حتى إنه قد يكون الشيء قبيحاً عند شخص حسناً عند غيره إذا وافق غرض أحدهما دون الآخر حتى يستقبح قتل الشخص أولياؤه ويستحسنه أعداؤه‏.‏

فإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال إذ لا غرض له فلا يتصور منه قبح كما لا يتصور منه ظلم إذ لا يتصور منه التصرف في ملك الغير‏.‏

وإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم إن ذلك عليه محال وهل هذا إلا مجرد تشه يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار ثم الحكيم معناه العالم بحقائق الأشياء القادر على إحكام فعلها على وفق إرادته وهذا من أين يوجب رعاية الأصلح وأما الحكيم منا يراعي الأصلح نظراً لنفسه ليستفيد به في الدنيا ثناه وفي الآخرة ثواباً أو يدفع به عن نفسه آفة‏.‏

وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى الأصل الثامن أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل - خلافاً للمعتزلة - لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة وهو محال فإن العقل لا يوجب العبث وإما أن يوجبها لفائدة وغرض وذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود وذلك محل في حقه تعالى فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد بل الكفر والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد وهو أيضاً محال لأنه لا غرض له في الحال بل يتعب به وينصرف عن

الشهوات لسببه وليس في المآل إلا الثواب والعقاب‏.‏

ومن أين يعلم أن الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان إذ ليس له إلى أحدهما ميل ولا به لأحدهما اختصاص وإنما عرف تمييز ذلك بالشرع ولقد زل من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق حيث يفرق بين الشكر والكفران لما له من الارتياح والاهتزاز والتلذذ بأحدهما دون الآخر‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه فإذا قال المكلف للنبي‏:‏ إن العقل ليس يوجب على النظر والشرع لا يثبت عندي إلا بالنظر ولست أقدم على النظر أدى ذلك إلى إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا‏:‏ هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعاً ضارياً فإن لم تبرح عن المكان قتلك وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي فيقول الواقف لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك ولا ضرر فيه على الهادي المرشد فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ إن وراءكم الموت ودونه السباع الضارية والنيران المحرقة إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلا هلكتم فمن التفت عرف واحترز ونجا ومن لم يلتفت وأصر هلك وتردى ولا ضرر على إن هلك الناس كلهم أجمعون وإنما على البلاغ المبين ‏"‏ فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت‏.‏

والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل‏.‏

والطبع يستحث على الحذر من الضرر ومعنى كون الشيء واجباً أن في تركه ضرراً ومعنى كون الشرع موجباً أنه معرف للضرر المتوقع فإن العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت عند اتباع الشهوات فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتاً إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة الأصل التاسع أنه ليس يستحيل بعثه الأنبياء عليهم السلام - خلافاً للبراهمة - حيث قالوا‏:‏ لا فائدة في بعثتهم إذ في العقل مندوحة عنهم لأن العقل لا يهدي إلى الأفعال المنجية في الآخرة كما لا يهدي إلى الأدوية المفيدة للصحة فحاجة الخلق إلى الأنبياء كحاجتهم إلى الأطباء ولكن يعرف صدق الطبيب بالتجربة ويعرف صدق النبي بالمعجزة‏.‏

الأصل العاشر أن الله سبحانه قد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين وناسخاً لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين وأيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وإنطاق العجماء وما تفجر من بين أصابعه من الماء‏.‏

ومن آياته الظاهرة التي تحدى بها - مع كافة العرب - القرآن العظيم فإنهم مع تمييزهم بالفصاحة والبلاغة تهدفوا لسبه ونهيه وقتله وإخراجه - كما أخبر الله عز وجل - عنهم ولم يقدروا على معارضته بمثل القرآن إذ لم يكن في قدرة البشر الجمع بين جزالة القرآن ونظمه هذا مع ما فيه من أخبار الأولين مع كونه أمياً غير ممارس للكتب والإنباء عن الغيب في أمور تحقق صدقه فيها في الاستقبال كقوله تعالى ‏"‏ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين ‏"‏ وكقوله ‏"‏ ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ‏"‏ ووجه دلالة المعجزة على صدق الرسل أن كل ما عجز عنه البشر لم يكن إلا فعلاً لله تعالى‏.‏

فمهما كان مقروناً بتحدي النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة قوله ‏"‏ صدقت ‏"‏ وذلك مثل القائل بين يدي الملك المدعي على رعيته أنه رسول الملك إليهم فإنه مهما قال لذلك إن كنت صادقاً فقم على سريرك ثلاثاً واقعد - على خلاف عادتك - ففعل الملك ذلك حصل للحاضرين علم ضروري بأن ذلك نازل منزلة قوله ‏"‏ صدقت ‏"‏ الركن الرابع في السمعيات وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه ومداره على عشرة أصول الأصل الأول الحشر والنشر وقد ورد بهما الشرع وهو حق والتصديق بهما واجب لأنه في العقل ممكن ومعناه الإعادة بعد الإفناء وذلك مقدور لله تعالى كابتدا الإنشاء قال الله تعالى ‏"‏ قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ‏"‏ فاستدل بالابتداء على الإعادة وقال عز وجل ‏"‏ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ‏"‏ والإعادة ابتداء ثان فهو ممكن كالابتداء الأول الأصل الثاني سؤال منكر ونكير وقد وردت به الأخبار فيجب التصديق به لأنه ممكن إذ ليس يستدعي إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب وذلك ممكن في نفسه ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له فإن النائم ساكن بظاهره ويدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء فإذا لم يخلق لهم السمع والرؤية لم يدركوه الأصل الثالث عذاب القبر وقد ورد الشرع به قال الله تعالى ‏"‏ النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ واشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح الاستعاذة من عذاب القبر وهو ممكن فيجب التصديق به ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وحواصل الطيور فإن المدرك لألم العذاب من الحيوان أجزاء

مخصوصة يقدر الله تعالى على إعادة الإدراك إليها الأصل الرابع الميزان وهو حق قال الله تعالى ‏"‏ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن

خفت موازينه ‏"‏ الآية ووجهها أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزناً بحسب درجات الأعمال عند الله تعالى فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب الأصل الخامس الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف قال الله تعالى ‏"‏ فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون ‏"‏ وهذا ممكن فيجب التصديق به فإن القادر على أن يطير الطير في الهواء قادر على أن يسير الإنسان على الصراط الأصل السادس أن الجنة والنار مخلوقتان قال الله تعالى ‏"‏ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ‏"‏ فقوله تعالى ‏"‏ أعدت ‏"‏ دليل على أنها مخلوقة فيجب إجراؤه على الظاهر إذ لا استحالة فيه ولا يقال لا فائدة في خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الله تعالى ‏"‏ لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ‏"‏ الأصل السابع أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ولم يكن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمام أصلاً إذ لو كن لكان أولى بالظهور من نصبه آحاد الولاة والأمراء على الجنود في البلاد ولم يخف ذلك فكيف خفي هذا وإن ظهر فكيف اندرس حتى لم ينقل إلينا فلم يكن أبو بكر إماماً إلا بالاختيار والبيعة وأما تقدير النص على غيره فهو نسبة للصحابة كلهم إلى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرق الإجماع وذلك مما لا يستجرىء على اختراعه إلا الروافض واعتاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة والثناء عليهم كما أثنى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة إذ ظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها فرأى التأخير أصوب وظن معاوية أن تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة ويعرض الدماء للسفك‏.‏

وقد قال أفاضل العلماء‏:‏ كل مجتهد مصيب‏.‏

وقال قائلون‏:‏ المصيب واحد ولم يذهب إلى تخطئة على ذو تحصيل أصلاً الأصل الثامن أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على تربيتهم في الخلافة إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف‏.‏

الأصل التاسع أن شرائط الإمامة بعد الإسلام والتكليف خمسة‏:‏ الذكورة والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الأئمة من قريش ‏"‏ وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق الأصل العاشر أنه لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق حكمنا بانعقاد إمامته لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال‏.‏

ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة فهذه الأركان الأربعة الحاوية للأصول الأربعين هي قواعد العقائد فمن اعتقدها كان موافقاً لأهل السنة ومبايناً لرهط البدعة‏.‏

فالله تعالى يسددنا بتوفيقه ويهدينا إلى الحق وتحقيقه بمنه وسعة جوده وفضله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وكل عبد مصطفى‏.‏

الفصل الرابع من قواعد العقائد في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال

وما يتطرق إليه من الزبادة والنقصان ووجه استثناء السلف فيه وفيه ثلاث مسائل مسألة اختلفوا في أن الإسلام هو الإيمان أو غيره وإن كان غيره فهل هو منفصل عنه يوجد دونه أو مرتبط به يلازمه فقيل إنهما شيء واحد وقيل إنهما شيئان لا يتواصلان وقيل إنهما شيئان ولكن يرتبط أحدهما بالآخر‏.‏

وقد أورد أبو طالب المكي في هذا كلاماً شديد الاضطراب كثير التطويل فلنهجم الآن على التصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له فنقول في هذا ثلاثة مباحث‏:‏ بحث عن موجب اللفظين في اللغة وبحث عن المراد بهما في إطلاق الشعر وبحث عن حكمهما في الدنيا والآخرة والبحث الأول لغوي والثاني تفسيري والثالث فقهي شرعي‏.‏

البحث الأول‏:‏ في موجب اللغة والحق فيه أن الإيمان عبارة عن التصديق قال الله تعالى ‏"‏ وما أنت بمؤمن لنا ‏"‏ أي بمصدق والإسلام عبارة عن التسليم والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد وللتصديق محل خاص وهو القلب واللسان ترجمان‏.‏

وأما التسليم فإنه عام في القلب واللسان والجوارح فإن كل تصديق بالقلب فهو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح‏.‏

فموجب اللغة أن الإسلام أعم والإيمان أخص فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام فإذن كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديقاً‏.‏

البحث الثاني‏:‏ عن إطلاق الشرع والحق فيه أن الشرع قد ورد باستعمالهما على سبيل الترادف والتوارد وورد على سبيل الاختلاف وورد على سبيل التداخل أما الترادف ففي قوله تعالى ‏"‏ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ‏"‏ ولم يكن بالاتفاق إلا بيت واحد وقال تعالى ‏"‏ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بني الإسلام على خمس ‏"‏ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة عن الإيمان فأجاب بهذه الخمس وأما الاختلاف فقوله تعالى ‏"‏ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ‏"‏ ومعناه استسلمنا في الظاهر فأراد بالإيمان ههنا التصديق بالقلب فقط وبالإسلام الاستسلام ظاهراً باللسان والجوارح وفي حديث جبرائيل عليه السلام لما سأله عن الإيمان فقال ‏"‏ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره فقال‏:‏ فما الإسلام فأجاب بذكر الخصال الخمس ‏"‏ فعبر بالإسلام عن تسليم الظاهر بالقول والعمل‏.‏

وفي الحديث عن سعد أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أعطى رجلاً عطاء ولم يعط الآخر فقال له سعد‏:‏ يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلم فأعاد عليه فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأما التداخل فما روى أيضاً أنه سئل ‏"‏ فقيل أي الأعمال أفضل فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإسلام فقال‏:‏ أي الإسلام أفضل فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإيمان ‏"‏ وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل وهو أوفق الاستعمالات في اللغة لأن الإيمان عمل من الأعمال وهو أفضلها والإسلام هو تسليم إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح وأفضلها الذي بالقلب وهو التصديق الذي يسمى إيماناً والاستعمال لهما على سبيل الاختلاف وعلى سبيل التداخل وعلى سبيل الترادف كله غير خارج عن طريق التجوز في اللغة‏.‏

أما الاختلاف فهو أن يجعل الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب فقط وهو موافق للغة والإسلام عبارة عن التسليم ظاهراً وهو أيضاً موافق للغة فإن التسليم ببعض محال التسليم ينطلق عليه اسم التسليم فليس من شرط حصول الإسلام عموم المعنى لكل محل يمكن أن يوجد المعنى فيه فإن من لمس غيره ببعض بدنه يسمى لامساً وإن لم يستغرق جميع بدنه فإطلاق اسم الإسلام على التسليم الظاهر عند عدم تسليم الباطن مطابق للسان وعلى هذا الوجه جرى قوله تعالى ‏"‏ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد أو مسلم لأنه فضل أحدهما على الآخر ويريد بالاختلاف تفاضل المسميين‏.‏

وأما التداخل فموافق أيضاً للغة في خصوص الإيمان وهو أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعاً والإيمان عبارة عن بعض ما دخل في الإسلام وهو التصديق بالقلب وهو الذي عنيناه بالتداخل وهو موافق للغة في خصوص الإيمان وعموم الإسلام للكل وعلى هذا خرج قوله الإيمان في جواب قول السائل أي الإسلام أفضل لأنه جعل الإيمان خصوصاً من الإسلام فأدخله فيه وأما استعماله فيه على سبيل الترادف بأن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعاً فإن كل ذلك تسليم وكذا الإيمان ويكون التصرف في الإيمان على الخصوص بتعميمه وإدخال الظاهر في معناه وهو جائز لأن تسليم الظاهر بالقول والعمل ثمرة تصديق الباطن ونتيجته وقد يطلق اسم الشجر ويراد به الشجر مع ثمره على سبيل التسامح فيصير بهذا القدر من التعيمم مرادفاً لاسم الإسلام ومطابقاً له فلا يزيد عليه ولا ينقص وعليه خرج قوله ‏"‏ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ‏"‏ البحث الثالث‏:‏ عن الحكم الشرعي‏.‏

والإسلام والإيمان حكمان أخروي ودنيوي‏.‏

أما الأخروي فهو الإخراج من النار ومنع التخليد إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ‏"‏ وقد اختلفوا في أن هذا الحكم على ماذا يترتب وعبروا عنه بأن الإيمان ماذا هو فمن قائل إنه مجرد العقد ومن قائل يقول إنه عقد بالقلب وشهادة باللسان ومن قائل يزيد ثالثاً وهو العمل بالأركان ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول من جمع بين هذه الثلاثة فلا خلاف في أن مستقره الجنة وهذه درجة‏.‏

الدرجة الثانية‏:‏ أن يوجد اثنان وبعض الثالث - وهو القول والعقد وبعض الأعمال - ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر فعند هذا قالت المعتزلة‏:‏ خرج بهذا عن الإيمان ولم يدخل في الكفر بل اسمه فاسق وهو على منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار وهذا باطل كما سنذكره الدرجة الثالثة‏:‏ أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح وقد اختلفوا في حكمه فقال أبو طالب المكي‏:‏ العمل بالجوارح من الإيمان ولا يتم دونه وادعى الإجماع فيه واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه كقوله تعالى ‏"‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‏"‏ إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان لا من نفس الإيمان وإلا فيكون العمل في حكم المعاد والعجب أنه ادعى الإجماع في هذا وهو مع ذلك ينقل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يكفر أحد إلا بعد جحوده لما أقر به ‏"‏ وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر والقائل بهذا قائل بنفس مذهب المعتزلة إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه ومات في الحال فهل هو في الجنة فلابد أن يقول نعم وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل فنزيد ونقول لو بقي حياً حتى دخل عليه وقت صلاة واحدة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار فإن قال نعم فهو مراد المعتزلة وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان ولا شرطاً في وجوده ولا في استحقاق الجنة به وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فنقول فما ضبط تلك المدة وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان وهذا لا يمكن التحكم بتقديره ولم يصر إليه صائر أصلاً‏.‏

الدرجة الرابعة‏:‏ أن يوجد التصديق بالقلب قبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال ومات فهل نقول مات مؤمناً بينه وبين الله تعالى‏:‏ وهذا مما اختلف فيه ومن شرط القول لتمام الإيمان يقول هذا مات قبل الإيمان وهو فاسد إذ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ‏"‏ وهذا قلبه طافح بالإيمان فكيف يخلد في النار ولم يشترط في حديث جبريل عليه السلام للإيمان إلا التصديق بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر كما سبق‏.‏

الدرجة الخامسة‏:‏ أن يصدق بالقلب ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة وعلم وجوبها ولكنه لم ينطق بها فيحتمل أن يجعل امتناعه عن النطق كامتناعه عن الصلاة ونقول هو مؤمن غير مخلد في النار والإيمان هو التصديق المحض واللسان ترجمان الإيمان فلا بد أن يكون الإيمان موجوداً بتمامه قبل اللسان حتى يترجمه اللسان وهذا هو الأظهر إذ لا مستند إلا اتباع موجب الألفاظ ووضع اللسان أن الإيمان هو عبارة عن التصديق بالقلب‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة ‏"‏ ولا ينعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا ينعدم بالسكوت عن الفعل الواجب وقال قائلون‏:‏ القول ركن إذ ليس كلمتا الشهادة إخباراً عن القلب بل هو إنشاء عقد آخر وابتداء شهادة والتزام والأول أظهر وقد غلا في هذا طائفة المرجئة فقالوا هذا لا يدخل النار أصلاً وقالوا إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار وسنبطل ذلك عليهم‏.‏

الدرجة السادسة أن يقول بلسانه ‏"‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله ‏"‏ ولكن لم يصدق بقلبه فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار وأنه مخلد في النار ولا نشك في أنه في حكم الدنيا للذي يتعلق بالأئمة والولاة من المسلمين لأن قلبه لا يطلع عليه وعلينا أن نظن به أنه ما قاله بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه وإنما نشك في أمر ثالث وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى وذلك بأن يموت له في الحال قريب مسلم ثم يصدق بعد ذلك بقلبه ثم يستفتي ويقول كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت والميراث الآن في يدي فهل يحل لي بيني وبين الله تعالى أو نكح مسلمة ثم صدق بقلبه هل تلزمه إعادة النكاح هذا محل نظر فيحتمل أن يقال أحكام الدنيا منوطة بالقول الظاهر ظاهراً وباطناً ويحتمل أن يقال تناط بالظاهر في حق غيره لأن باطنه غير ظاهر لغيره وباطنه ظاهر له في نفسه بينه وبين الله تعالى والأظهر والعلم عند الله تعالى أنه لا يحل له ذلك الميراث ويلزمه إعادة النكاح ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه لا يحضر جنازة من يموت من المنافقين وعمر رضي الله عنه كان يراعي ذلك منه فلا يحضر إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه والصلاة فعل ظاهر في الدنيا وإن كانت من العبادات‏.‏

والتوقي عن الحرام أيضاً من جملة ما يجب لله كالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طلب الحلال فريضة بعد فريضة ‏"‏ وليس هذا مناقضاً لقولنا إن الإرث حكم الإسلام وهو الاستسلام بل الاستسلام التام هو ما يشمل الظاهر والباطن وهذه مباحث فقهية ظنية تبنى على ظواهر الألفاظ والعمومات والأقيسة فلا ينبغي أن يظن القاصر في العلوم أن المطلوب فيه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع فما أفلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما شبهة المعتزلة والمرجئة وما حجة بطلان قولهم فأقول شبهتهم عمومات القرآن أما المرجئة فقالوا لا يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي لقوله عز وجل ‏"‏ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً ‏"‏ ولقوله سبحانه وتعالى ‏"‏ والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون ‏"‏ الآية ولقوله تعالى ‏"‏ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها - إلى قوله - فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ‏"‏ فقوله ‏"‏ كلما ألقي فيها فوج ‏"‏ عام فينبغي أن يكون من ألقي في النار مكذباً ولقوله تعالى ‏"‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ وهذا حصر وإثبات ونفي ولقوله تعالى ‏"‏ من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ‏"‏ فالإيمان رأس الحسنات ولقوله تعالى ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ‏"‏ ولا حجة لهم في ذلك فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات أريد به الإيمان مع العمل إذ بينا أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو الموافقة بالقلب والقول والعمل ودليل هذا التأويل أخبار كثيرة في معاقبة العاصين ومقادير العقاب وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ‏"‏ فكيف يخرج إذا لم يدخل ومن القرآن قوله تعالى ‏"‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام وقوله تعالى ‏"‏ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها ‏"‏ وتخصيصه بالكفر تحكم وقوله تعالى ‏"‏ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ‏"‏ فهذه العمومات في معارضة عموماتهم ولابد من تسليط التخصص والتأويل على الجانبين لأن الأخبار مصرحة بأن العصاة يعذبون بل قوله تعالى ‏"‏ وإن منكم إلا واردها ‏"‏ كالصريح في أن ذلك لابد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه وقوله تعالى ‏"‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ أراد به من جماعة مخصوصين أو أراد بالأشقى شخصاً معيناً أيضاً وقوله تعالى ‏"‏ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ‏"‏ أي فوج من الكفار وتخصيص العمومات قريب‏.‏

ومن هذه الآية وقع للأشعري وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم وأن هذه الألفاظ يتوقف فيها إلى ظهور قرينة تدل على معناها‏.‏

وأما المعتزلة فشبهتهم قوله تعالى ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ‏"‏ ثم قال ‏"‏ ثم ننجي الذين اتقوا ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ‏"‏ وكل آية ذكر الله عز وجل العمل الصالح فيها مقروناً بالإيمان وقوله تعالى ‏"‏ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها ‏"‏ وهذه العمومات أيضاً مخصوصة بدليل قوله تعالى ‏"‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ فينبغي فينبغي أن تبقى له مشيئة في مغفرة ما سوى الشرك‏.‏

وكذلك قوله عليه السلام ‏"‏ يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏"‏ فكيف يضيع أجر أصل الإيمان وجميع الطاعات بمعصية واحدة وقوله تعالى ‏"‏ ومن يقتل مؤمناً متعمداً ‏"‏ أي لإيمانه وقد ورد على مثل هذا السبب‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون العمل‏.‏

وقد اشتهر عن السلف قولهم‏:‏ الإيمان عقد وقول وعمل فما معناه قلنا‏.‏

لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان لأنه مكمل له ومتمم كما يقال الرأس واليدان من الإنسان ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنساناً بعدم الرأس ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة وإن كانت لا تبطل بفقدهها فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه وبقية الطاعات‏.‏

كالأطراف بعضها أعلى من بعض وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا ولكن معناه غير مؤمن حقاً إيماناً تاماً كاملاً كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية مسألة فإن قلت‏:‏ فقد اتفق السلف على أن الإيمان يزيد وينقص - يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية - فإذا كان التصديق هو الإيمان فلا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فأقول‏:‏ السلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول فما ذكروه حق وإنما الشأن في فهمه وفيه دليل على أن العمل ليس من أجزاء الإيمان وأركان وجوده بل هو مزيد عليه يزيد به والزائد موجود والناقص موجود والشيء لا يزيد بذاته فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه بل يقال يزيد بلحيته وسمنه ولا يجوز أن يقال الصلاة تزيد بالركوع والسجود بل تزيد بالآداب والسنن فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ثم بعد الوجود يختلف حاله بالزيادة والنقصان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فالإشكال قائم في أن التصديق كيف يزيد وينقص وهو خصلة واحدة فأقول‏:‏ إذا تركنا المداهنة ولم نكترث بتشغيب من تشغب وكشفنا الغطاء ارتفع الإشكال فنقول‏:‏ الإيمان اسم مشترك يطلق من ثلاثة أوجه الأول‏:‏ أنه يطلق للتصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد من غير كشف وانشراح صدور وهو إيمان العوام بل إيمان الخلق كلهم إلا الخواص وهذا الاعتقاد عقدة عن القلب تارة تشتد وتقوى وتارة تضعف وتسترخي كالعقدة على الخيط مثلاً‏.‏

ولا تستبعد هذا واعتبره باليهودي وصلابته في عقيدته التي لا يمكن نزوعه عنها بتخويف وتحذير ولا بتخييل ووعظ ولا تحقيق وبرهان وكذلك النصراني والمبتدعة وفيهم من يمكن تشكيكه بأدنى كلام ويمكن استنزاله عن اعتقاده بأدنى استمالة أو تخويف مع أنه غير شاك في عقده كالأول ولكنهما متفاوتان في شدة التصميم‏.‏

وهذا موجود في الاعتقاد الحق أيضاً والعمل يؤثر في نماء هذا التصميم وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار ولذلك قال الله تعالى ‏"‏ فزادتهم إيماناً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى في بعض الأخبار ‏"‏ الإيمان يزيد وينقص ‏"‏ وذلك بتأثير الطاعات في القلب وهذا لا يدركه إلا من راقب أحوال نفسه في أوقات المواظبة على العبادة والتجرد لها بحضور القلب مع أوقات الفتور وإدراك التفاوت في السكون إلى عقائد الإيمان في هذه الأحوال حتى يزيد عقده استعصاء على من يريد حله بالتشكيك بل من يعتقد في اليتيم معنى الرحمة إذا عمل بموجب اعتقاده فمسح رأسه وتلطف به أدرك من باطنه تأكيد الرحمة وتضاعفها بسبب العمل‏:‏ وكذلك معتقد التواضع إذا عمل بموجبه عملاً مقبلاً أو ساجداً لغيره أحس من قلبه بالتواضع عند إقدامه على الخدمة‏.‏

وهكذا جميع صفات القلب تصدر منها أعمال الجوارح ثم يعود أثر الأعمال عليها فيؤكدها ويزيدها وسيأتي هذا في ربع المنجيات والمهلكات عند بيان وجه تعلق الباطن بالظاهر والأعمال بالعقائد والقلوب فإن ذلك من جنس تعلق الملك بالملكوت وأعني بالملك عالم الشهادة المدرك بالحواس وبالملكوت عالم الغيب المدرك بنور البصيرة والقلب من عالم الملكوت والأعضاء وأعمالها من عالم الملك‏.‏

ولطف الارتباط ودقته بين العالمين انتهى إلى حد ظن بعض الناس اتحاد أحدهما بالآخر وظن آخرون أنه لا عالم إلا عالم الشهادة وهو هذه الأجسام المحسوسة‏.‏

ومن أدرك الأمرين وأدرك تعددهما ثم ارتباطهما عبر عنه فقال‏:‏

رق الزجاج ورقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر ولنرجع إلى المقصود فإن هذا العلم خارج عن علم المعاملة ولكن بين العلمين أيضاً اتصال وارتباط فلذلك ترى علوم المكاشفة تتسلق كل ساعة على علوم المعاملة إلى أن تنكشف عنها بالتكليف فهذا وجه زيادة الإيمان بالطاعة بموجب هذا الإطلاق ولهذا قال علي كرم الله وجهه‏:‏

إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه فذلك هو الختم وتلا قوله تعالى ‏"‏ كلا بل ران على قلوبهم ‏"‏ الآية‏.‏

الإطلاق الثاني‏:‏ أن يراد به التصديق والعمل جميعاً كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإيمان بضع وسبعون باباً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ وإذا دخل العمل في مقتضى لفظ الإيمان لم تخف زيادته ونقصانه وهل يؤثر ذلك في زيادة الإيمان الذي هو مجرد التصديق هذا فيه نظر وقد أشرنا إلى أنه يؤثر فيه‏.‏

الإطلاق الثالث‏:‏ أن يراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة وهذا أبعد الأقسام عن قبول الزيادة ولكني أقول الأمر اليقيني الذي لا شك فيه تختلف طمأنينة النفس إليه فليس طمأنينة النفس إلى أن الاثنين أكثر من

الواحد كطمأنينتها إلى أن العالم مصنوع حادث وإن كان شك في واحد منهما فإن اليقينيات تختلف في درجات الإيضاح ودرجات طمأنينة النفس إليها وقد تعرضنا لهذا في فصل اليقين من كتاب العلم في باب علامات علماء الآخرة فلا حاجة إلى الإعادة‏.‏

وقد ظهر في جميع الإطلاقات على ما قالوه من زيادة الإيمان ونقصانه حق وكيف وفي الأخبار ‏"‏ أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ‏"‏ وفي بعض المواضع في خبر آخر ‏"‏ مثقال دينار ‏"‏ فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت مسألة فإن قلت‏:‏ ما وجه السلف ‏"‏ أنا مؤمن إن شاء الله ‏"‏ والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه‏.‏

فقال سفيان الثوري رحمه الله من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة فكيف يكون كاذباً وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان مؤمناً في نفسه كان مؤمناً عند الله كما أن من كان طويلاً وسخياً في نفسه وعلم ذلك كان كذلك عند الله وكذا من كان مسروراً أو حزيناً أو سميعاً أو بصيراً ولو قيل للإنسان هل أنت حيوان‏:‏ لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله‏.‏

ولما قال سفيان ذلك قيل له فماذا تقول قال‏:‏ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا وبين أن يقول أنا مؤمن وقيل للحسن‏:‏ أمؤمن أنت فقال إن شاء الله فقيل له‏:‏ لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان فقال أخاف أن أقول نعم فيقول الله سبحانه كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة‏.‏

وكان يقول‏:‏ ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا قبلت لك عملاً فأنا أعمل في غير معمل‏.‏

وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ إذا قيل لك أمؤمن أنت فقل لا إله إلا الله وقال مرة‏:‏ قل أنا لا أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة‏.‏

وقيل لعلقمة‏:‏ أمؤمن أنت قال‏:‏ أرجو إن شاء الله‏.‏

وقال الثوري‏:‏ نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى فما معنى هذه الاستثناءات فالجواب‏:‏ أن هذا الاستثناء صحيح وله أربعة أوجه وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله ووجهان لا يستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله ووجهان لا يستندان إلى الشك‏.‏

الوجه الأول - الذي لا يستند إلى معارضة الشك‏:‏ الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى ‏"‏ فلا تزكوا أنفسكم ‏"‏ وقال ‏"‏ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ انظر كيف يفترون على الله الكذب ‏"‏ وقيل لحكيم‏:‏ ما الصدق القبيح‏:‏ فقال‏:‏ ثناء المرء على نفسه‏.‏

والإيمان من أعلى صفات المجد والجزم تزكية مطلقة وصيغة الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه أو مفسر فيقول‏:‏ نعم إن شاء الله لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ومعناه التضعيف لللازم من لوازم الخبر وهو التزكية‏.‏

وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ‏"‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ‏"‏ ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه بل قال تعالى ‏"‏ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين ‏"‏ وكان الله سبحانه عالماً بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما كان يخبر عنه معلوماً كان أو مشكوكاً حتى قال صلى الله عليه وسلم لما دخل المقابر ‏"‏ السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ‏"‏ واللحوق بهم غير مشكوك فيه ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به‏.‏

وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني فإذا قيل لك إن فلاناً يموت سريعاً فتقول إن شاء الله فيفهم منه رغبتك لا تشكك وإذا قيل لك فلان سيزول مرضه ويصح فتقول إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر‏:‏ الوجه الثالث‏:‏ مستنده الشك ومعناه أنا مؤمن حقاً إن شاء الله إذ قال الله تعالى لقوم مخصوصين بأعيانهم ‏"‏ أولئك هم المؤمنون حقاً ‏"‏ فانقسموا إلى قسمين ويرجع هذا إلى الشك في كمال الإيمان لا في أصله وكل إنسان شاك في كمال إيمانه وذلك ليس بكفر والشك في كمال الإيمان حق من وجهين أحدهما‏:‏ من حيث إن النفاق يزيل كمال الإيمان وهو خفي لا تتحقق البراءة منه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يكمل بأعمال الطاعات ولا يدري وجودها على الكمال‏:‏ أما العمل فقد قال الله تعالى ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ‏"‏ فيكون الشك في هذا الصدق وكذلك قال الله تعالى ‏"‏ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ‏"‏ فشرط عشرين وصفاً كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد‏.‏

ثم قال تعالى ‏"‏ أولئك الذين صدقوا ‏"‏ وقد قال تعالى ‏"‏ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ‏"‏ الآية وقد قال تعالى ‏"‏ هم درجات عند الله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإيمان عريان ولباسه التقوى ‏"‏ الحديث وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإيمان بضع وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق ‏"‏ فهذا ما يدل على ارتباط كمال الإيمان بالأعمال وأما ارتباطه بالبراءة عن النفاق والشرك الخفي فقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن‏:‏ من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر ‏"‏ وفي بعض الروايات ‏"‏ وإذا عاهد غدر ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ القلوب أربعة‏:‏ قلب أجرد وفيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء العذب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلب عليه حكم له بها ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ غلبت عليه ذهبت به ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها ‏"‏ وفي حديث ‏"‏ الشرك أخفى في أمتى من دبيب النمل على الصفا ‏"‏ وقال حذيفة رضي الله عنه ‏"‏ كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً إلى أن يموت وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات ‏"‏ وقال بعض العلماء‏:‏ أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه وهذا النفاق يضاد صدق الإيمان وكماله وهو خفي وأبعد الناس منه من يتخوفه وأقربهم منه من يرى أنه بريء منه‏.‏

فقد قيل للحسن البصري‏:‏ يقولون أن لا نفاق اليوم فقال يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق‏.‏

وقال هو أو غيره‏:‏ لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنها وسمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يتعرض للحجاج فقال‏:‏ أرأيت لو كان حاضراً يسمع أكنت تتكلم فيه فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كان ذا لسانين في الدنيا جعله الله ذا لسانين في الآخرة ‏"‏ وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم ‏"‏ شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه ‏"‏ وقيل للحسن‏:‏ إن قوماً ما يقولون إنا لا نخاف النفاق فقال‏:‏ والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهباً‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب والسر والعلانية والمدخل والمخرج‏.‏

وقال رجل لحذيفة رضي الله عنه‏:‏ إني أخاف أن أكون منافقاً فقال‏:‏ لو كنت منافقاً ما خفت النفاق إن المنافق من أمن النفاق‏.‏

وقال ابن أبي مليكة‏:‏ أدركت ثلاثن ومائة - وفي رواية خمسين ومائة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخافون النفاق‏.‏

وروي ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً وأكثروا الثناء عليه فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء وقد علق نعله بيده وبين عينيه أثر السجود فقالوا‏:‏ يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرى على وجهه سفعة من الشيطان فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك فقال‏:‏ اللهم نعم ‏"‏ فقال صلى الله عليه وسلم في دعائه ‏"‏ اللهم إني أستغفرك لما علمت ولما لم أعلم فقيل له‏:‏ أتخاف يا رسول الله فقال‏:‏ وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‏!‏ وقد قال سبحانه ‏"‏ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ‏"‏ قيل في التفسير‏:‏ عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات فكانت في كفة السيئات‏.‏

وقال سري السقطي‏:‏ لو أن إنساناً دخل بستاناً فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الطيور فخاطبه كل طير منها بلغة فقال‏:‏ السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في يديها فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ سمعت من بعض الأمراء شيئاً فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت‏.‏

وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله‏.‏

فالنفاق نفاقان أحدهما‏:‏ يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ويسلك في زمرة المخلدين في النار‏.‏

والثاني‏:‏ يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه‏.‏

وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية والأمن من مكر الله والعجب وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ وهو أيضاً مستند إلى الشك وذلك من خوف الخاتمة فإنه لا يدري أيسلم له الإيمان عند الموت أم لا فإن ختم له بالكفر حبط عمله السابق لأنه موقوف على سلامة الآخر ولو سئل الصائم ضحوة النهار عن صحة صومه فقال‏:‏ أنا صائم قطعاً فلو أفطر في أثناء نهاره بعد ذلك لتبين كذبه إذ كانت الصحة موقوفة على التمام إلى غروب الشمس من آخر النهار‏.‏

وكما أن النهار ميقات تمام الصوم فالعمر ميقات تمام صحة الإيمان ووصفه بالصحة قبل آخره بناء على الاستصحاب وهو مشكوك فيه والعاقبة مخوفة ولأجلها كان بكاء أكثر الخائفين لأجل أنها ثمرة القضية السابقة والمشيئة الأزلية التي لا تظهر إلا بظهور المقضي به ولا مطلع عليه لأحد من البشر فخوف الخاتمة كخوف السابقة وربما يظهر في الحال ما سبقت الكلمة بنقيضه فمن الذي يدري أنه من الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل في معنى قوله تعالى ‏"‏ وجاءت سكرة الموت بالحق ‏"‏ أي بالسابقة يعني أظهرتها‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إنما يوزن من الأعمال خواتيمها‏.‏

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه‏.‏

وقيل من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك‏.‏

وقيل هي عقوبات دعوى الولاية والكرامة بالافتراء‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار وقال بعضهم‏:‏ لو عرفت واحداً بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد‏.‏

وفي الحديث ‏"‏ من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل ‏"‏ وقيل في قوله تعالى ‏"‏ وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً ‏"‏ صدقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك وقد قال تعالى ‏"‏ ولله عاقبة الأمور ‏"‏ فمهما كان

الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجباً لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة كما أن الصوم عبارة عما يبرىء الذمة‏.‏

وما فسد قبل الغروب لا يبرىء الذمة فيخرج عن كونه صوماً فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس فيقول نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول إذ يمنع منا لقبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله فيحسن الشك فيه‏.‏

فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان وهي آخر ما نختم به ‏"‏ كتاب قواعد العقائد ‏"‏ تم الكتاب بحمد الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى