فصل: الفصل الثاني في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الفصل الأول في أنواع الزكاة وأسباب وجوبها

والزكوات باعتبار متعلقاتها ستة أنواع زكاة النعم والنقدين والتجارة وزكاة الركاز والمعادن وزكاة المعشرات وزكاة الفطر النوع الأول زكاة النعم ولا تجب هذه الزكاة وغيرها إلا على حر مسلم‏.‏

ولا يشترط البلوغ بل تجب في مال الصبي والمجنون هذا شرط من عليه‏.‏

وأما المال فشروطه خمسة‏:‏ أن يكون نعماً سائمة باقية حولاً نصاباً كاملاً مملوكاً على الكمال الشرط الأول كونه نعماً فلا زكاة إلا في الإبل والبقر والغنم‏.‏

أما الخيل والبغال والحمير والمتولد من بين الظباء والغنم فلا زكاة فيها الثاني السوم‏:‏ فلا زكاة في معلوفة وإذا أسيمت في وقت وعلفت في وقت تظهر بذلك مؤنتها فلا زكاة فيها الثالث الحول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ‏"‏ ويستثنى من هذا نتاج الحول الرابع كمال الملك والتصرف‏:‏ فتجب الزكاة في الماشية المرهونة لأنه الذي حجر على نفسه فيه ولا تجب في الضال والمغصوب إلا إذا عاد بجميع نمائه فيجب زكاة ما مضى عند عوده ولو كان عليه دين يستغرق ماله فلا زكاة عليه فإنه ليس غنياً به إذ الغنى ما يفضل عن الحاجة‏.‏

الخامس كمال النصاب‏.‏

أما الإبل فلا شيء فيها حتى تبلغ خمساً ففيها جذعة من الضأن والجذعة هي التي تكون في السنة الثانية أو ثنية من المعز وهي التي تكون في السنة الثالثة‏.‏

وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه‏.‏

وفي عشرين أربع شياه‏.‏

وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي التي في السنة الثانية فإن لم يكن في ماله بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي في السنة الثالثة يؤخذ إن كان قادراً على شرائها‏.‏

وفي ست وثلاثين ابنة لبون‏.‏

ثم إذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة وهي التي في السنة الرابعة‏.‏

فإذا صارت إحدى وستين ففيها جذعة وهي التي في السنة الخامسة فإذا صارت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون‏.‏

فإذا صارت إحدى وتسعين ففيها حقتان‏.‏

فإذا صارت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون‏.‏

فإذا صارت مائة وثلاثين فقد استقر الحساب ففي كل خمسي حقة وفي كل أربعين بنت لبون‏.‏

وأما البقر فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع وهو الذي في السنة الثانية‏.‏

ثم في أربعين مسنة وهي التي في السنة الثالثة‏.‏

ثم في ستين تبيعان‏.‏

واستقر الحساب بعد ذلك‏.‏

ففي كل أربعين مسنة‏.‏

وفي كل ثلاثين تبيع‏.‏

وأما الغنم فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز‏.‏

ثم لا شيء فيها حتى تبلغ مائة وعشرين وواحدة ففيها شاتان‏.‏

إلى مائتي شاة وواحدة فيها ثلاث شياه إلى أربعمائة ففيها أربع شياه‏.‏

ثم استقر الحساب في كل مائة شاة‏.‏

وصدقة الخليطين كصدقة المالك الواحد في النصاب فإذا كان بين رجلين أربعون من الغنم ففيها شاة‏.‏

وإن كان بين ثلاثة نفر مائة شاة وعشرون ففيها شاة واحدة‏.‏

على جميعهم‏.‏

وخلطة الجوار كخلطة الشيوع ولكن يشترط أن يريحا معاً ويسقيا معاً ويحلبا معاً ويسرحا معاً ويكون المرعى معاً ويكون إنزاء الفحل معاً‏.‏

وأن يكونا جميعاً من أهل الزكاة ولا حكم للخلطة مع الذمي والمكاتب‏.‏

ومهما نزل

في واجب الإبل عن سن إلى سن فهو جائز ما لم يجاوز بنت مخاض في النزول‏.‏

ولكن تضم إليه جبران السن لسنة واحدة شاتين أو عشرين درهماً‏.‏

ولسنتين أربع شياه أو أربعين درهماً‏.‏

وله أن يصعد في السن ما لم يجاوز الجذعة في الصعود ويأخذ الجبران من الساعين من بيت المال‏.‏

ولا تؤخذ في الزكاة مريضة إذا كان بعض المال صحيحاً ولو واحدة‏.‏

ويؤخذ من الكرائم كريمة ومن اللئام لئيمة‏.‏

ولا يؤخذ من المال الأكولة ولا الماخض ولا الربا ولا الفحل ولا غراء المال‏.‏

زكاة المعشرات فيجب العشر في كل مستنبت مقتات بلغ ثمانمائة من ولا شيء فيما دونها ولا في الفواكه والقطن ولكن في الحبوب التي تقتات وفي التمر والزبيب‏.‏

ويعتبر أن تكون ثمانمائة من تمراً أو زبيباً لا رطباً وعنباً ويخرج من ذلك بعد التجفيف‏.‏

ويكمل مال أحد الخليطين بمال الآخر في خلطة الشيوع كالبستان المشترك بين ورثة لجميعهم ثمانمائة من من زبيب فيجب على جميعهم ثمانون مناً من زبيب بقدر حصصهم‏.‏

ولا يعتبر خلطة الجوار فيه‏.‏

ولا يكمل نصاب الحنطة بالشعير‏.‏

ويكمل نصاب الشعير بالسلت فإنه نوع منه هذا قدر الواجب إن كان يسقى بسيح أو قناة فإن كان يسقى بنضح أو دالية فيجب نصف العشر فإن اجتمعا فالأغلب يعتبر‏.‏

وأما صفة الواجب فالتمر والزبيب اليابس والحب اليابس بعد التنقية‏.‏

ولا يؤخذ عنب ولا رطب إلا إذا حلت بالأشجار آفة وكانت المصلحة في قطعها قبل تمام الإدراك فيؤخذ الرطب فيكال تسعة للمالك وواد للفقير‏.‏

ولا يمنع من هذه القسمة قولنا‏:‏ إن القسمة بيع بل يرخص في مثل هذا للحاجة‏.‏

ووقت الوجوب أن يبدو الصلاح في الثمار وأن يشتد الحب‏.‏

ووقت الأداء بعد الجفاف‏.‏

زكاة النقدين فإذا تم الحول على وزن مائتي درهم بوزن مكة نقرة خالصة ففيها خمسة دراهم وهو ربع العشر وما زاد فبحسابه ولو درهماً‏.‏

ونصاب الذهب عشرون مثقالاً خالصاً بوزن مكة ففيها ربع العشر وما زاد فبحسابه وإن نقص من النصاب حبة فلا زكاة‏.‏

وتجب على من معه دراهم مغشوشة إذا كان فيها هذا المقدار من النقرة الخالصة‏.‏

وتجب الزكاة في التبر وفي الحلي المحظور كأواني الذهب والفضة ومراكب الذهب للرجال‏.‏

ولا تجب في الحلي المباح‏.‏

وتجب في الدين الذي هو على ملىء ولكن تجب عند الاستيفاء وإن كان مؤجلاً فلا تجب إلا عند حلول الأجل‏.‏

النوع الرابع زكاة التجارة وهي كزكاة النقدين وإنما ينعقد الحول من وقت ملك النقد الذي به اشترى البضاعة إن كان النقد نصاباً فإن كان ناقصاً أو اشترى بعرض على نية التجارة فالحول من وقت الشراء‏.‏

وتؤدى الزكاة من نقد البلد وبه يقوم‏.‏

فإن كان ما به الشراء نقداً وكان نصاباً كاملاً كان التقويم به أولى من نقد البلد‏.‏

ومن نوى التجارة من مال قنية فلا ينعقد الحول بمجرد نيته حتى يشتري به شيئاً ومهما قطع نية التجارة قبل تمام الحول سقطت الزكاة‏.‏

والأولى أن تؤدى زكاة تلك السنة وما كان من ربح في السلعة في آخر الحول وجبت الزكاة فيه بحول رأس المال ولم يستأنف له حولاً كما في النتاج‏.‏

وأموال الصيارفة لا ينقطع حولها بالمبادلة الجارية بينهم كسائر التجارات وزكاة ربح مال القراض على العامل وإن كان قبل القسمة هذا هو الأقيس‏.‏

النوع الخامس الركاز والمعدن والركاز مال دفن في الجاهلية ووجد في أرض لم يجر عليها في الإسلام ملك فعلى واجده في الذهب والفضة منه الخمس والحول غير معتبر‏.‏

فالأولى أن لا يعتبر النصاب أيضاً لأن إيجاب الخمس يؤكد شبهه بالغنيمة‏.‏

واعتباره أيضاً ليس ببعيد لأن مصرف الزكاة ولذلك يخصص على الصحيح بالنقدين‏.‏

وأما المعادن فلا زكاة فيما استخرج منها سوى الذهب والفضة ففيها بعد الطحن والتخليص ربع العشر على أصح القولين وعلى هذا يعتبر النصاب‏.‏

وفي الحول قولان وفقي قول‏:‏ يجب الخمس فعلى هذا لا يعتبر‏.‏

وفي النصاب قولان والأشبه - والعلم عند الله تعالى - أن يلحق في قدر الواجب بزكاة التجارة فإنه نوع اكتساب‏.‏

وفي الحول بالمعشرات فلا يعتبر لأنه عين الرفق ويعتبر النصاب كالمعشرات والاحتياط أن يخرج الخمس من القليل والكثير ومن عين النقدين أيضاً خروجاً عن شبهة هذه الاختلافات فإنها ظنون قريبة من التعارض وجزم الفتوى فيها خطر لتعارض الاشتباه‏.‏

النوع السادس في صدقة الفطر وهي واجبة - على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته صاع مما يقتات بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منوان وثلاً من يخرجه من جنس قوته أو من أفضل منه‏.‏

فإن اقتات بالحنطة لم يجز الشعير‏.‏

وإن اقتات حبوباً مختلفة اختار خيرها ومن أيها أخرج أجزأه‏.‏

وقسمتها كقسمة زكاة الأموال فيجب فيها استيعاب الأصناف ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق‏.‏

ويجب على الرجل المسلم فطرة زوجته ومماليكه وأولاده وكل قريب هو في نفقته أعني من تجب عليه نفقته من الآباء والأمهات والأولاد‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أدوا صدقة الفطر عمن تمونون ‏"‏ وتجب صدقة العبد المشترك على الشريكين ولا تجب صدقة العبد الكافر وإن تبرعت الزوجة بالإخراج عن نفسها أجزأها وللزوج الإخراج عنها دون إذنها‏.‏

وإن فضل عنه ما يؤدى عن بعضهم أدى عن بعضهم وأولاهم بالتقديم من كانت نفقته آكد‏.‏

وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة اللد على نفقة الزوجة ونفقتها على نفقة الخادم فهذه أحكام فقهية لابد للغني من معرفتها وقد تعرض له وقائع نادرة خارجة عن هذا فله أن يتكل فيها على الاستفتاء عند نزول الواقعة بعد إحاطته

بهذا المقدار‏.‏

الفصل الثاني في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة

اعلم أنه يجب على مؤدى الزكاة خمسة أمور الأول النية‏:‏ وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض ويسن عليه تعيين الأموال‏.‏

فإن كان له مال غائب فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالماً وإلا فهو نافلة جاز لأنه إن لم يصرح به فكذلك يكون عند إطلاقه‏.‏

ونية الولي تقوم مقام نية المجنون والصبي‏.‏

ونية السلطان تقوم مقام نية المالك الممتنع عن الزكاة ولكن في ظاهر حكم الدنيا - أعني في قطع المطالبة عنه - أما في الآخرة فلا بل تبقى ذمته مشغولة إلى أن يستأنف الزكاة وإذا وكل بأداء الزكاة ونوى عند التوكل أو وكل بالنية كفاه لأن توكيله بالنية نية الثاني البدار عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر‏.‏

ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان‏.‏

ووقت تعجيلها شهر رمضان كله‏.‏

ومن أخر زكاة ماله مع التمكن عصى ولم يسقط عنه بتلف ماله وتمكنه بمصادفة المستحق‏.‏

وإن أخر لعدم المستحق فتلف ماله سقطت الزكاة عنه‏.‏

وتعجيل الزكاة جائز بشرط أن يقع بعد كما النصاب وانعقاد الحول‏.‏

ويجوز تعجيل زكاة حولين‏.‏

ومهما عجل فمات المسكين قبل الحول أو ارتد أو صار غنياً بغير ما عجل إليه أو تلف مال المالك أو مات فالمدفوع ليس بزكاة واسترجاعه غير ممكن إلا إذا قدي الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقباً آخر الأمور وسلامة العاقبة الثالث أن لا يخرج بدلاً باعتبار القيمة بل يخرج المنصوص عليه فلا يجزىء ورق عن ذهب ولا ذهب عن ورق وإن زاد عليه في القيمة‏.‏

ولعل بعض من لا يدرك غرض الشافعي رضي الله عنه يتساهل في ذلك ويلاحظ المقصود من سد الخلة وما أبعده عن التحصيل فإن سد الخلة مقصود وليس هو كل المقصود بل واجبات الشرع ثلاثة أقسام‏:‏ قسم هو تعبد محصن لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه‏.‏

وذلك كرمي الجمرات مثلاً إذ لا حظ للجمرة في وصول الحصى إليها فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعوه إليه فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية إذ العبودية تظهر بأن تكون الحركة لحق أمر المعبود فقط لا لمعنى آخر‏.‏

وأكثر أعمال الحج كذلك ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في إحرامه ‏"‏ لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً ‏"‏ تنبيهاً على أن ذلك إظهار للعبودية بالانقياد لمجرد الأمر وامتثاله كما أمر من غير استئناس العقل منه بما يميل إليه ويحث عليه‏.‏

القسم الثاني‏:‏ من واجبات الشرع ما المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته‏.‏

ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ المستحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع‏.‏

فهذان قسمان لا تركيب فيهما يشترك في دركهما جميع الناس والقسم الثالث‏:‏ هو المركب الذي يقصد منه الأمران جميعاً وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد فيجتمع فيه تعبد رمي الجمار وحظ رد الحقوق فهذا قسم في نفسه معقول فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين ولا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما ولعل الأدق هو الأهم والزكاة من هذا القبيل ولم ينتبه له غير الشافعي رضي الله عنه فحظ الفقير مقصود في سد الخلة وهو جلي سابق إلى الأفهام وحق التعبد في اتباع التفاصيل مقصود للشرع‏.‏

وباعتباره صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج في كونها من مباني الإسلام‏.‏

ولاشك في أن على المكلف تعباً في تمييز أجناس ماله وإخراج حصة كل مال من نوعه وجنسه وصفته‏.‏

ثم توزيعه على الأصناف الثمانية كما سيأتي‏.‏

والتساهل فيه غير قادح في حظ الفقير لكنه قادح في التعبد‏.‏

ويدل على أن التعبد مقصود بتعيين الأنواع أمور ذكرناها في كتب الخلاف من الفقيهات‏.‏

ومن أوضحها أن الشرع أوجب في خمس من الإبل شاة فعدل من الإبل إلى الشاة ولم يعدل إلى النقدين والتقويم وإن قدر أن ذلك لقلة النقود في أيدي العرب بطل بذكره عشرين درهماً في الجبران مع الشاتين فلم يذكر في الجبران قدر النقصان من القيمة ولم قدر بعشرين درهماً وشاتين وإن كانت الثياب والأمتعة كلها في معناها‏.‏

فهذا وأمثاله من التخصيصات يدل على أن الزكاة لم تترك خالية عن التعبدات كما في الحج ولكن جمع بين المعنيين‏.‏

والأذهان الضعيفة تقصر عن درك المركبات فهذا شأن الغلط فيه الرابع أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلد تمتد إلى أموالها وفي النقل تخييب للظنون‏.‏

فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة‏.‏

ثم لابأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة الخامس أن يقسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده فإن استيعاب الأصناف واجب وعليه يدل ظاهر قوله تعالى ‏"‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ‏"‏ الآية فإنه يشبه قول المريض إنما ثلث مالي للفقراء والمساكين وذلك يقتضي التشريك في التمليك‏.‏

والعبادات ينبغي أن يتوقى عن الهجوم فيها على الظواهر‏.‏

وقد عدم من الثمانية صنفان في أكثر البلاد‏:‏ وهم المؤلفة قلوبهم والعاملون على الزكاة‏.‏

ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف‏:‏ الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون - أعني أبناء السبيل - وصنفان يوجدان في بعض البلاد دون البعض‏:‏ وهم الغزاة والمكاتبون‏.‏

فإن وجد خمسة أصناف مثلاً قسم بينهم زكاة ماله بخمسة أقسام متساوية أو متقاربة وعين لكل صنف قسم‏.‏

ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقه إما متساوية أو متفاوتة وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف فإن له أن يقسمه على عشرة وعشرين فينقص نصيب كل واحد‏.‏

وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان فلا ينبغي أن ينقص في كل صنف عن ثلاثة إن وجد‏.‏

ثم لو لم يجب إلا صاع للفطرة ووجد خمسة أصناف فعليه أن يوصله إلى خمسة عشر نفراً‏.‏

ولو نقص منهم واحد مع الإمكان غرم نصيب ذلك الواحد‏.‏

فإن عسر عليه ذلك لقلة الواجب فليتشارك جماعة ممن عليهم الزكاة وليخلط مال نفسه بمالهم وليجمع المستحقين وليسلم إليهم حتى يتساهموا فيه فإن ذلك لابد منه‏.‏

بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف الوظيفة الأولى‏:‏ فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاث معان الأول‏:‏ أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرقومهم ومعشوقهم‏.‏

ولذلك قال الله تعالى ‏"‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ‏"‏ وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون‏.‏

ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا ديناراً ولا درهماً فأبوا أن يتعرضوا الوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال‏:‏ أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع‏.‏

ولهذا تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله وعمر رضي الله عنه بشطر ماله فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما أبقيت لأهلك ‏"‏ فقال‏:‏ مثله وقال لأبي بكر رضي الله عنه ‏"‏ ما أبقيت لأهلك ‏"‏ قال الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بينكما ما بين كلمتيكما ‏"‏ فالصديق وفي بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله‏.‏

القسم الثاني‏:‏ درجتهم دون درجة هذا وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة‏.‏

وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد‏.‏

قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة قال‏:‏ نعم أما سمعت قوله عز وجل ‏"‏ وآتى المال على حبه ذوي القربى ‏"‏ الآية واستدلوا بقوله عز وجل ‏"‏ ومما رزقناهم ينفقون ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ وأنفقوا مما رزقناكم ‏"‏ وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجاً أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة والذي يصح في الفقه من هذا الباب أنه مهما أرهقته حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع مسلم ولكن يحتمل أن يقال ليس على الموسر إلا تسليم ما يزيل الحاجة قرضاً ولا يلزمه بذله بعد أن أسقط الزكاة عن نفسه ويحتمل أن يقال يلزمه بذله في الحال ولا يجوز له الاقتراض أي لا يجوز له تكليف الفقير قبول القرض وهذا مختلف فيه والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى ‏"‏ إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ‏"‏ يحفكم أي يستقص عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال المعنى الثاني‏:‏ التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏ وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكاً وكيفية التقصي منه وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتياداً‏.‏

فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى‏.‏

المعنى الثالث‏:‏ شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال‏.‏

وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله‏.‏

الوظيفة الثانية‏:‏ في وقت الأداء ومن آداب ذوي الدين التعجيل عن وقت الوجوب إظهاراً للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوقه عن الخيرات وعلماً بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له م العصيان لو أخر عن وقت الوجوب‏.‏

ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك ‏"‏ وقل المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ فما أسرع تقلبه والشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر‏.‏

وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه وليعين لزكاتها إن كان يؤديها جميعاً شهراً معلوماً وليجتهد أن يكون من أفضل الأوقات ليكون ذلك سبباً لنماء قربته وتضاعف زكاته‏.‏

وذلك كشهر المحرم فإنه أول السنة وهو من الأشهر الحرم أو رمضان فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود الخلق وكان في رمضان كالريح المرسلة لا يمسك فيه شيئاً ولرمضان فضيلة ليلة القدر وأنه أنزل فيه القرآن‏.‏

وكان مجاهد يقول‏:‏ لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان‏.‏

وذو الحجة أيضاً من الشهور الكثيرة الفضل فإنه شهر حرام وفيه الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات وهي العشر الأول والأيام المعدودات وهي أيام التشريق‏.‏

وأفضل أيام شهر رمضان العشر الأواخر‏.‏

وأفضل أيام ذي الحجة العشر الأول‏.‏

الوظيفة الثالثة‏:‏ الإسرار فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر ‏"‏ وقال بعض العلماء‏.‏

ثلاث من كنوز البر منها إخفاء الصدقة وقد روي أيضاً مسنداً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب رياء وفي الحديث المشهور ‏"‏ سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطت يمينه ‏"‏ وف الخبر ‏"‏ صدقة السر تطفىء غضب الرب ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ‏"‏ وفائدة الإخفاء الخلاص من آفات الرياء والسمعة فقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان والمتحدث بصدقته يطلب السمعة والمعطي في ملأ من الناس يبغي الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منه ‏"‏ وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطي فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يصره في ثوب الفقير وهو نائم‏.‏

وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه‏:‏ كل ذلك توصلاً إلى إطفاء غضب الرب سبحانه واحترازاً من الرياء والسمعة‏.‏

ومهما لم يتمكن إلا بأن يعرفه شخص واحد فتسليمه إلى وكيل ليسلم إلى المسكين والمسكين لا يعرف أولى إذ في معرفة المسكين الرياء والمنة جميعاً وليس في معرفة المتوسط إلا الرياء‏.‏

ومهما كانت الشهرة مقصودة له حبط عمله لأن الزكاة إزالة للبخل وتضعيف لحب المال‏.‏

وحب الجاه أشد استيلاء على النفس من حب المال وكل واحد منهما مهلك في الآخرة ولكن صفة البخل تتقلب في القبر في حكم المثال عقرباً لادغاً وصفة الرياء تقلب في القبر أفعى من الأفاعي وهو مأمور بتضعيفهما أو قتلهما لدفع أذاهما أو تخفيف أذاهما فمهما قصد الرياء والسمعة فكأنه جعل بعض أطراف العقرب مقوياً للحية فبقدر ما ضعف من العقرب زاد في قوة الحية ولو ترك الأمر كما كان لكان الأمر أهون عليه‏.‏

وقوة هذه الصفات التي بها قوتها العمل بمقتضاها وضعف هذه الصفات بمجاهدتها ومخالفتها والعمل بخلاف مقتضاها فأي فائدة في أن يخالف دواعي البخل ويجيب دواعي الرياء فيضعف الأدنى ويقوي الأقوى وستأتي أسرار هذه المعاني في ربع المهلكات‏.‏

الوظيفة الرابعة‏:‏ أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيباً للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل ‏"‏ إن تبدوا الصدقات فنعما هي ‏"‏ وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان وهذا لأن في الإظهار محذوراً ثالثاً سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير ‏"‏ فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه‏.‏

فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به فإنه محظور والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه‏:‏ فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها‏.‏

وبمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ‏"‏ وقد قال الله تعالى ‏"‏ وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ‏"‏ ندب إلى العلانية أيضاً لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص ‏"‏ فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل‏.‏

ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال‏.‏

الوظيفة الخامسة‏:‏ أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى ‏"‏ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ‏"‏ واختلفوا في حقيقة المن والأذى فقيل المن أن يذكرها والأذى أن يظهرها‏:‏ وقال سفيان‏:‏ من من فسدت صدقته فقيل له كيف المن فقال‏:‏ أن يذكره ويتحدث به‏.‏

وقيل‏:‏ المن أن يستخدمه بالعطاء والأذى أن يعيره بالفقر‏.‏

وقيل‏:‏ المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه والأذى أن

ينتهره أو يوبخه بالمسألة‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يقبل الله صدقة منان ‏"‏ وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته‏:‏ ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار وأنه لو يقبله لبقي مرتهناً به فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ‏"‏ فليتحقق أنه مسلم إلى عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى‏.‏

رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل‏.‏

ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه‏.‏

أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه فهو ساع في حق نفسه فلم يمن به على غيره‏.‏

ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه إما ببذل ما له إظهاراً لحب الله تعالى أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد‏.‏

وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسناً إليه ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور فهذه كلها ثمرات المنة ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه‏.‏

وأما الأذى‏:‏ فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف وباطنه وهو منبعه أمران أحدهما‏:‏ كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة‏.‏

والثاني‏:‏ رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه وكلاهما منشؤه الجهل‏.‏

أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفاً فهو شديد الحمق‏.‏

ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكراً لطلب المزيد‏.‏

وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فهو أيضاً جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هم الأخسرون ورب الكعبة فقال أبو ذر‏:‏ من هم قال‏:‏ هم الأكثرون أمولاً ‏"‏ الحديث ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له إذ يكتسب المال بجهده ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه فإن مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسناً فاعلم أن علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالاً عدوا له عليه مثلاً هل كان يزيد استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقعه قبل ذلك‏.‏

فإن قلت فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه فاعلم أن له دواء باطناً ودواء ظاهراً‏:‏ أما الباطن‏:‏ فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول‏.‏

وأما الظاهر‏:‏ فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق - كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب - ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائماً بين يديه يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده‏.‏

وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون يد الفقير هي العليا‏.‏

وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفاً إلى فقير قالتا للرسول‏:‏ احفظ ما يدعو به ثم كانتا تردان عليه مثل قوله وتقولان‏:‏ هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا‏.‏

فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء بمثله‏.‏

وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما‏.‏

وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم‏.‏

ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس للمرء من صلاته إلا

ما عقل منها ‏"‏‏.‏

وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يتقبل الله صدقة من منان ‏"‏ وكقوله عز وجل ‏"‏ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ‏"‏ وأما فتوى الفقيه بوقوعها موقعها وبراءة ذمته عنها دون هذا الشرط فحديث آخر وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة‏.‏

الوظيفة السادسة‏:‏ أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها والعجب من المهلكات وهو محبط للأعمال قال تعالى ‏"‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ‏"‏ ويقال إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل‏.‏

والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل‏.‏

وقيل لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور‏:‏ تصغيره وتعجيله وستره‏.‏

وليس الاستعظام هو المن والأذى فإنه لو صرف ماله إلى عمارة مسجد أو رباط أمكن فيه الاستعظام ولا يمكن فيه المن والأذى بل العجب والاستعظام يجري في جميع العبادات ودواؤه علم وعمل‏.‏

أما العلم‏:‏ فهو أن يعلم أن العشر أو ربع العشر قليل من كثير وأنه قد قنع لنفسه بأخس درجات البذل - كما ذكرنا في فهم الوجوب - فهو جدير بأن يستحي منه فكيف يستعظمه وإن ارتقى إلى الدرجة العليا فبذل كل ماله أو أكثره فليتأمل أنه من أين له المال وإلى ماذا يصرفه فالمال لله عز وجل وله المنة عليه إذ أعطاه ووفقه لبذله فلم يستعظم في حق الله تعالى ما هو عين حق الله سبحانه وإن كان مقامه يقتضي أن ينظر إلى الآخرة وأنه يبذله للثواب فلم يستعظم بذل ما

ينتظر عليه أضعافه وأما العمل‏:‏ فهو أن يعطيه عطاء الخجل من بخله بإمساك بقية ماله عن الله عز وجل فتكون هيئته الانكسار والحياء كهيئة من يطالب برد وديعة فيمسك بعضها ويرد البعض لأن المال كله لله عز وجل وبذل جميعه هو الأحب عند الله سبحانه وإنما لم يأمر به عبده لأنه يشق عليه بسبب بخله كما قال الله عز وجل ‏"‏ فيحفكم تبخلوا ‏"‏‏.‏

الوظيفة السابعة‏:‏ أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً‏.‏

وإذا كان المخرج من شبهة فربما لا يكون ملكاً له مطلقاً فلا يقع الموقع‏.‏

وفي حديث أبان عن أنس بن مالك ‏"‏ طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية ‏"‏ وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو لأهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة فليس بعاقل من يؤثر غيره على نفسه وليس له من ماله إلا ما تصدق به فأبقى أو أكل فأفنى والذي يأكله قضاء وطر ف الحال فليس من العقل قصر النظر على العاجلة وترك الادخار وقد قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ‏"‏ أي لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض فلا تؤثروا به ربكم‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ سبق درهم مائة ألف درهم ‏"‏ وذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه‏.‏

وبذلك ذم الله تعالى قوماً جعلوا لله ما يكرهون فقال تعالى ‏"‏ ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا ‏"‏ وقف بعض القراء على النفي تكذيباً لهم ثم ابتدأ وقال ‏"‏ جرم أن لهم النار ‏"‏ أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار‏.‏

الوظيفة الثامنة‏:‏ أن يطلب لصدقته من تزكو به الصدقة ولا يكتفى بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوص تلك الصفات وهي ستة‏.‏

الأولى‏:‏ أن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدنيا المتجردين لتجارة الآخرة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي ‏"‏‏.‏

وهذا لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكاً في طاعته بإعانتك إياه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أطعمعوا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ أضف بطعامك من تحبه في الله تعالى ‏"‏ وكان بعض العلماء يؤثر بالطعام فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له‏:‏ لو عممت بمعروفك جميع الفقراء لكان أفضل‏.‏

فقال‏:‏ لا هؤلاء قوم هممهم لله سبحانه فإذا طرقتهما فاقة تشتت هم أحدهم فلأن أرد همة واحد إلى الله عز وجل أحب إلي من أن أعطي ألفاً ممن همته الدنيا فذكر هذا الكلام للجنيد فاستحسنه وقال‏:‏ هذا ولي من أولياء الله تعالى وقال ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا ثم حكى أن هذا الرجل اختل حاله وهم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد مالاً وقال‏:‏ اجعله بضاعتك ولا تترك الحانوت فإن التجارة لا تضر مثلك وكان هذا الرجل بقالاً لا يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه‏.‏

الصفة الثانية‏:‏ أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية‏.‏

وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له‏:‏ لو عممت فقال‏:‏ إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل‏.‏

الصفة الثالثة‏:‏ أن يكون صادقاً في تقواه وعلمه بالتوحيد‏.‏

وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد لله سبحانه وهو أن يرى أن النعمة كلها منه‏.‏

وفي وصية لقمان لابنه‏:‏ لا تجعل بينك وبين الله منعماً واعدد نعمة غيره عليك مغرماً‏.‏

ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله تعالى عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى وهو مقهور ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله‏.‏

فمهما قوي الباعث أوجب ذلك جزم الإرادة وانتهاض القدرة ولم يستطع العبد مخالفة الباعث القوي الذي لا تردد فيه والله عز وجل خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها ومسخر القدرة للانتهاض بمقتضى البواعث‏.‏

فمن تيقن هذا لم يكن له نظر إلا إلى مسبب الأسباب‏:‏ وتيقن مثل هذا العبد أنفع للمعطي من ثناء غيره وشكره فذلك حركة لسان يقل في الأكثر جدواه وإعانة مثل هذا العبد الموحد لا تضيع‏.‏

وأما الذي يمدح بالعطاء ويدعو بالخير فسيذم بالمنع ويدعو بالشر عند الإيذاء وأحواله متفاوتة‏.‏

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث معروفاً إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول فلما أخذ قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره‏.‏

ثم قال اللهم إنك لم تنس فلاناً - يعني نفسه - فاجعل فلاناً لا ينساك - يعني بفلان نفسه - فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فسر وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ علمت أنه يقول ذلك ‏"‏ فانظر كيف قصر التفاته على الله وحده ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم لرجل‏:‏ تب فقال أتوب إلى الله وحده ولا أتوب إلى محمد فقال صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله ‏"‏ ولما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ قومي فقبلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعها يا أبا بكر ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ أنها رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك ‏"‏ فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ذلك مع أن الوحي وصل إليها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورؤية الأشياء من غير الله سبحانه وصف الكافرين قال الله تعالى ‏"‏ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ‏"‏ ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث إنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي سره‏.‏

فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه‏.‏

الصفة الرابعة‏:‏ أن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التجمل قال الله تعالى ‏"‏ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ‏"‏ أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم وهذا ينبغي أن يطلب بالتفحص عن أهل الدين في كل محلة ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال‏.‏

الصفة الخامسة‏:‏ أن يكون معيلاً أو محبوساً بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه

معنى قوله عز وجل ‏"‏ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ‏"‏ أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب ‏"‏ لا يستطيعون ضرباً في الأرض ‏"‏ لأنهم مقصوصو الجناح مقيدو الأطراف‏.‏

فبهذه الأسباب كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم - العشرة فما فوقها - وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء على مقدار العيلة وسأل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال كثرة العيال وقلة المال‏.‏

الصفة السادسة‏:‏ أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى‏.‏

قال علي رضي الله عنه‏:‏ لأن أصل أخاً من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهماً ولأن أصله بعشرين درهماً أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم ولأن أصله بمائة درهم أحب إلي من أن أعتق رقبة‏.‏

والأصدقاء وإخوان الخير أيضاً يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب فليراع هذه الدقائق فهذه هي الصفات المطلوبة وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى‏.‏

ومهما اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد فإن أحد أجريه في الحال تطهيره نفسه عن صفة البخل وتأكيد حب الله عز وجل في قلبه واجتهاده في طاعته وهذه الصفات هي التي تقوي في قلبه فتشوقه إلى لقاء الله عز وجل‏.‏

والأجر الثاني ما يعود إليه من فائدة دعوة الآخذ وهمته فإن قلوب الأبرار لها آثار في الحال والمآل فإن أصاب حصل الأجران وإن أخطأ حصل الأول دون الثاني فبهذا يضاعف أجر المصيب في الاجتهاد

الفصل الثالث في القابض وأسباب استحقاقه ووظائف قبضه

بيان أسباب الاستحقاق اعلم أنه لا يستحق الزكاة إلا حر مسلم ليس بهاشمي ولا مطلبي اتصف بصفة من صفات الأصناف الثمانية المذكورين في كتاب الله عز وجل‏.‏

ولا تصرف زكاة إلى كافر ولا إلى عبد ولا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي‏.‏

أما الصبي والمجنون فيجوز الصرف إليهما إذا قبض وليهما فلنذكر صفات الأصناف الثمانية الصنف الأول الفقراء‏:‏ والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة على الكسب فإن كان معه قوت يومه وكسوة حاله فليس بفقير ولكنه مسكين وإن كان معه نصف قوت يومه فهو فقير وإن كان معه قميص وليس معه منديل ولا خف ولا سراويل ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء فهو فقير لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه وما هو عاجز عنه فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ساتر العورة فإن هذا غلو والغالب أنه لا يوجد مثله ولا يخرجه عن الفقر كونه معتاداً للسؤال فلا يجعل السؤال كسباً بخلاف ما لو قدر على كسب فإن ذلك يخرجه عن الفقر فإن قدر على الكسب

بآلة فهو فقير ويجوز أن يشتري له آلة‏.‏

وإن قدر على كسب لا يليق بمروءته وبحال مثله فهو فقير وإن كان متفقهاً ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته وإن كان متعبداً يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ‏"‏ وأراد به السعي في الاكتساب‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ كسب في شبهة خير من مسألة‏.‏

وإن كان مكتفياً بنفقة أبيه أو من تجب عليه نفقته فهذا أهون من الكسب فليس بفقير الصنف الثاني المساكين‏:‏ والمسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف درهم وهو مسكين وقد لا يملك إلا فأساً وحبلاً وهو غني والدويرة التي يسكنها والثوب الذي يستره على قدر حاله لا يسلبه اسم المسكين وكذا أثاث البيت - أعني ما يحتاج إليه - وذلك ما يليق به وكذا كتب الفقه لا تخرجه عن المسكنة وإذا لم يملك إلا الكتب فلا تلزمه صدقة الفطر‏.‏

وحكم الكتاب حكم الثوب وأثاث البيت فإنه محتاج إليه ولكن ينبغي أن يحتاط في قطع الحاجة بالكتاب فالكتاب محتاج إليه لثلاثة أغراض‏:‏ التعليم والاستفادة والتفرج بالمطالعة‏.‏

أما حاجة التفرج فلا تعتبر كاقتناء كتب الأشعار وتواريخ

الأخبار وأمثال ذلك مما لا ينفع في الآخرة ولا يجري في الدنيا إلا مجرى التفرج والاستئناس فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر وتمنع اسم المسكنة‏.‏

وأما حاجة التعليم إن كان لأجل الكسب كالمؤدب والمعلم والمدرس بأجره فهذه آلته فلا تباع في الفطرة كأدوات الخياط وسائر المحترفين وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية فلا تباع ولا يسلبه ذلك اسم المسكين لأنها حاجة مهمة وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتب طب ليعالج بها نفسه أو كتاب وعظ ليطالع فيه ويتعظ به فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهذا مستغنى عنه وإن لم يكن فهو محتاج إليه‏.‏

ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعة الكتاب إلا بعد مدة فينبغي أن يضبط مدة الحاجة‏.‏

والأقرب أن يقال ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغنى عنه فإن من فضل من قوت يومه شيء لزمته الفطرة‏.‏

فإذا قدرنا القوت باليوم فحاجة أثاث البيت وثياب البدن ينبغي أن تقدر بالسنة فلا تباع ثياب الصيف في الشتاء والكتب بالثياب والأثاث أشبه وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة إلى إحداهما‏.‏

فإن قال‏:‏ إحداهما أصح والأخرى أحسن فأنا محتاج إليهما قلنا‏:‏ اكتف بالأصح وبع الأحسن ودع التفرج والترفه‏.‏

وإن كان نسختان من علم واحد إحداهما بسيطة والأخرى وجيزة فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيطة وإن كان قصده التدريس فيحتاج إليهما إذ في كل واحدة فائدة ليست في الأخرى‏.‏

وأمثال هذه الصور لا تنحصر ولم يتعرض له في فن الفقه وإنما أوردناه لعموم البلوى والتنبيه بحسن هذا النظر على غيره‏.‏

فإن استقصاء هذه الصور غير ممكن إذ يتعدى مثل هذا النظر في أثاث البيت في مقدارها وعددها ونوعها وفي ثياب البدن وفي الدار وسعتها وضيقها‏.‏

وليس لهذه الأمور حدود محدودة ولكن الفقيه يجتهد فيها برأيه ويقرب في التحديدات بما يراه ويقتحم فيه خطر الشبهات‏.‏

والمتورع يأخذ فيه بالأحوط ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه‏.‏

والدرجات المتوسطة المشكلة بين الأطراف المتقابلة الجلية كثيرة ولا ينجي منها إلا الاحتياط والله أعلم‏.‏

الصنف الثالث العاملون‏:‏ وهم السعاة الذين يجمعون الزكوات سوى الخليفة والقاضي ويدخل فيه العريف والكاتب والمستوفى والحافظ والنقال ولا يزاد واحد منهم على أجرة المثل فإن فضل شيء من الثمن عن أجر مثلهم رد على بقية الأصناف وإن نقص كمل من مال المصالح الصنف الرابع المؤلفة قلوبهم على الإسلام‏:‏ وهم الأشراف الذين أسلموا وهم مطاعون في قومهم وفي إعطائهم تقريرهم على الإسلام وترغيب نظائرهم وأتباعهم الصنف الخامس المكاتبون‏:‏ فيدفع إلى السيد سهم المكاتب وإن دفع إلى المكاتب جاز ولا يدفع السيد زكاته إلى مكاتب نفسه لأنه يعد عبداً له‏.‏

الصنف السادس الغارمون‏:‏ والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب وإن كان غنياً لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة أو إطفاء فتنة الصنف السابع الغزاة‏:‏ الذين ليس لهم مرسوم في ديوان المرتزقة فيصرف إليهم سهم وإن كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو الصنف الثامن ابن السبيل‏:‏ وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز بها فيعطى إن كان فقيراً وإن كان له مال ببلد آخر أعطي بقدر بلغته‏.‏

فإن قلت‏:‏ فبم تعرف هذه الصفات قلنا‏:‏ أما الفقر والمسكنة فبقول الآخذ ولا يطالب ببينة ولا يحلف بل يجوز اعتماد قوه إذا لم يعلم كذبه‏.‏

وأما الغزو والسفر فهو أمر مستقبل فيعطى بقوله إني غاز فإن لم يف به استرد‏.‏

وأما بقية الأصناف فلا بد فيها من البينة فهذه شروط الاستحقاق‏.‏

وأما مقدار ما يصرف إلى كل واحد فسيأتي‏.‏

بيان وظائف القابض وهي خمسة الأولى أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه ويجعل همومه هماً واحداً‏.‏

فقد تعبد الله عز وجل الخلق بأن يكون همهم واحداً وهو الله سبحانه واليوم الآخر وهو المعنى بقوله تعالى ‏"‏ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ‏"‏ ولكن لما اقتضت الحكمة أن يسلط على العبد الشهوات والحاجات وهي تفرق هما اقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمي المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة‏.‏

فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه - كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى - فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقاً له وعوناً له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله عز وجل فإن استعان به على معصية الله كان كافراً لأنعم الله عز وجل مستحقاً للبعد والمقت من الله سبحانه الثانية أن يشكر المعطي ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره ودعاؤه بحيث لا يخرجه عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه وللطريق حق من حيث جعله الله طريقاً وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من لم يشكر الناس لم يشكر الله ‏"‏ وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى ‏"‏ نعم العبد إنه أواب ‏"‏ إلى غير ذلك‏.‏

وليقل القابض في دعائه طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ‏"‏ ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه‏.‏

فوظيفة المعطي الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام‏.‏

وعلى كل عبد القيام بحقه وذلك لا تناقض فيه إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض‏.‏

والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه‏.‏

وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلاً الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حل تورع عنه ‏"‏ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ‏"‏ ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال‏.‏

فلا يأخذ من أموال الأتراك والجنود وعمال السلاطين ومن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكاً معيناً فله أن يأخذ بقدر الحاجة فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به - على ما سيأتي بيانه في كتاب الحلال والحرام - وذلك إذا عجز عن الحلال فإذا أخذ لم يكن أخذه أخذ زكاة إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق‏.‏

فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين‏.‏

وإن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل‏.‏

وإن أعطى زيادة أبى وامتنع إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به‏.‏

وإن كان مسافراً لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده‏.‏

وإن كان غازياً لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة‏.‏

وتقدير ذلك بالاجتهاد وليس له حد وكذا زاد السفر والورع ترك ما يريبه إلى مالا يريبه‏.‏

وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولاً إلى أثاث بيته وثيابه وكتبه هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته فيمكن أن يبدل بما يكفي ويفضل بعض قيمته وكل ذلك إلى اجتهاده‏.‏

وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مستحق وطرف آخر مقابل يتحقق معه أنه غير مستحق وبينهما أوساط مشتبهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهراً‏.‏

والمحتاج في تقدير الحاجات مقامات في التضييق والتوسيع ولا تحصر مراتبه وميل الورع إلى التضييق وميل المتساهل إلى التوسيع حتى يرى نفسه محتاجاً إلى فنون من التوسع وهو ممقوت في الشرع‏.‏

ثم إذا تحققت حاجته فلا يأخذن مالاً كثيراً بل ما يتمم كفايته من وقت أخذه إلى سنة‏.‏

فهذا أقصى ما يرخص فيه من حيث أن السنة إذا تكررت تكررت أسباب الدخل‏.‏

ومن حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخر لعياله قوت سنة فهذا أقرب ما يحد به حد الفقير والمسكين ولو اقتصر على حاجة شهره أو حاجة يومه فهو أقرب للتقوى‏.‏

ومذاهب العلماء في قدر المأخوذ بحكم الزكاة والصدقة مختلفة فمن مبالغ في التقليل إلى حد أوجب الاقتصار على قدر قوت يومه وليلته وتمسكوا بما روى سهل بن الحنظيلية ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السؤال مع الغنى فسئل عن غناه فقال صلى الله عليه وسلم غداؤه وعشاؤه ‏"‏ وقال آخرون‏:‏ يأخذ إلى حد الغنى‏.‏

حد الغنى نصاب الزكاة إذ لم يوجب الله تعالى الزكاة إلا على الأغنياء فقالوا له أن يأخذ بنفسه ولكل واحد من عياله نصاب زكاة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ حد الغنى خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب لما روى ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من سال وله مال يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خموش فسئل وما غناء قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب ‏"‏ وقيل‏:‏ رواية ليس بقوي وقال قوم‏:‏ أربعون لما رواه عطاء بن يسار منقطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال ‏"‏ وبالغ آخرون في التوسيع فقالوا‏:‏ له أن يأخذ مقداراً ما يشتري به ضيعة فيستغني به طول عمره أو يهيىء بضاعة ليتجر بها ويستغني بها طول عمره لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا أعطيتم فأغنوا حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله ولو عشرة آلاف درهم إلا إذا خرج عن حد الاعتدال‏.‏

ولما شغل أبو طلحة ببستانه عن

الصلاة قال‏:‏ جعلته صدقة‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اجعله في قرابتك فهو خير لك ‏"‏ فأعطاه حسان وأبا قتادة‏.‏

فحائط من نخل لرجلين كثير مغن وأعطى عمر رضي الله عنه أعرابياً ناقة معها ظئر لها فهذا ما حكي فيه فأما التقليل إلى قوت اليوم أو الأوقية فذلك ورد في كراهية السؤال والتردد على الأبواب وذلك مستنكر وله حكم آخر بل التجويز إلى أن يشتري ضيعة فسيتغني بها أقرب إلى الاحتمال وهو أيضاً مائل إلى الإسراف‏.‏

والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر وفيما دونه تضييق‏.‏

وهذه الأمور إذا لم يكن فيها تقدير جزم بالتوقيف فليس للمجتهد إلا الحكم بما يقع له‏.‏

ثم يقال للورع ‏"‏ استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك ‏"‏ كما قاله صلى الله عليه وسلم إذ الإثم حزاز القلوب فإذا وجد القابض في نفسه شيئاً مما يأخذه فليتق الله فيه ولا يترخص تعللاً بالفتوى من علماء الظاهر فإن لفتواهم قيوداً ومطلقات من الضرورات وفيها تخمينات واقتحام شبهات‏.‏

والتوقي من الشبهات من شيم ذوي الدين وعادات السالكين لطريق الآخرة الخامسة أن يسأل صاحب المال عن قدر الواجب عليه فإن كان ما يعطيه فوق الثمن فلا يأخذه منه فإنه لا يستحق مع شريكه إلا الثمن فلينقص من الثمن مقدار ما يصرف إلى اثنين من صنفه‏.‏

وهذا السؤال واجب على أكثر الخلق فإنهم لا يراعون هذه القسمة إما لجهل وإما لتساهل وإنما يجوز ترك السؤال عن مثل هذه الأمور إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم‏.‏

وسيأتي ذكر مظان السؤال ودرجة الاحتمال في الحلال والحرام إن شاء الله تعالى‏.‏

الفصل الرابع في صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها

بيان فضيلة الصدقة من الأخبار‏:‏

قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً إلا كان اللهه آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبغل الثمرة مثل أحد ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء ‏"‏ إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبههم منه بمعروف ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الصدقة تسد سبعين باباً من الشر ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما الذي أعطى من سعة بأفضل أجراً من الذي يقبل من حاجة ‏"‏ ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين فيكون مساوياً للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه‏.‏

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أي الصدقة أفضل قال‏:‏ أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان ‏"‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه ‏"‏ تصدقوا فقال رجل إن عندي ديناراً فقال أنفقه على نفسك فقال‏:‏ إن عندي آخر قال أنفقه على زوجتك قال إن عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال إن عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال إن عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم أنت أبصر به ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تحل الصدقة لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ‏"‏ وقال ‏"‏ ردوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو صدق السائل ما أفلح من رده ‏"‏ وقال عيسى عليه السلام‏.‏

من رد سائلاً خائباً من بيته لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام وكان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يكل خصلتين إلى غيره كان يضع طهوره بالليل ويخمره وكان يناول المسكين بيده ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافاً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من مسلم يكسو مسلماً غلا كان في حفظ الله عز وجل مادامت عليه منه رقعة ‏"‏‏.‏

الآثار‏:‏ قال عروة بن الزبير لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفاً وإن درعها لمرقع وقال مجاهد في قول الله عز وجل ‏"‏ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ‏"‏ فقال‏:‏ وهم يشتهونه وكان عمر رضي الله عنه يقول‏:‏ اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا‏.‏

وقال عمر عبد العزيز‏:‏ الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه‏.‏

وقال ابن أبي الجعد‏:‏ إن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضفعاً وإنها

لتفك لحيى سبعين شيطاناً‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ إن رجلاً عبد الله سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله ثم مر بمسكين فتصدق عليه برغيف فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين

سنة‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة‏.‏

وقال يحيى بن معاذ ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة‏.‏

وقال عبد العزيز بن أبي رواد‏:‏ كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة كتمان المرض وكتمان الصدقة وكتمان المصائب‏.‏

وروى مسنداً وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة أنا أفضلكن‏.‏

وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكر ويقول سمعت الله يقول ‏"‏ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ‏"‏ والله يعلم أني أحب السكر‏.‏

وقال النخعي‏:‏ إذا كان الشيء لله عز وجل لا يسرني أن يكون فيه عيب‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأعطش ما كانوا قط وأعرى ما كانوا قط فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله وقال الحسن‏:‏ لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولكنه ابتلى بعضكم ببعض‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا نرى بأساً بشرب المؤمن من الماء الذي يتصدق به ويسقى في المسجد لأنه إنما جعل للعطشان من كان ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوص ويقال‏:‏ إن الحسن مر به نخاس ومعه جارية فقال للنخاس أترضى في ثمنها الدرهم والدرهمين قال‏:‏ لا قال فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين بالفلس واللقمة‏.‏

بيان إخفاء الصدقة وإظهارها قد اختلف طريق طلاب الإخلاص في ذلك فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل ومال قوم إلى أن الإظهار أفضل ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني والآفات ثم نكشف الغطاء عن الحق فيه‏.‏

أما الإخفاء ففيه خمسة معان الأول أنهه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهراً هتك لستر المروءة وكشف عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف‏.‏

الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أن ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه آخذ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذ زيادة‏.‏

والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى‏.‏

وقال أبو أيوب السختياني‏:‏ إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسداً‏.‏

وقال بعض الزهاد‏:‏ ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين له هذا وعن إبراهيم التيمي‏:‏ أنه رؤي عليه قميص جديد فقال بعض إخوانه من أين لك هذا فقال كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته‏.‏

الثالث إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف والكتمان لا يتم إلا باثنين فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي‏.‏

ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فرده إليه ودفع إليه آخر شيئاً في السر فقبله فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن هذا عمل الأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه وأعطى رجل لبعض الصوفية شيئاً في الملأ فرده فقال له‏:‏ لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك فقال‏:‏ إنك أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ولم تقنع بالله عز وجل فرددت عليك شركك‏.‏

وقبل بعض العارفين في السر شيئاً كان رده في العلانية فقيل له في ذلك فقال عصيت الله بالجهر فلم أك عوناً لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك‏.‏

وقال الثوري‏:‏ لو علمت أن أحدهم لا يذكر صدقة ولا يتحدث بها لقبلت صدقته‏.‏

الرابع أن في إظهار الأخذ ذلاً وامتهاناً وليس للمؤمن أن يذل نفسه‏.‏

كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية ويقول‏:‏ إن في إظهاره إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله فما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله الخامس الاحتراز عن شبهة الشركة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها ‏"‏ وبأن يكون ورقاً أو ذهباً لا يخرج عن كونه هدية قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل ما يهدي الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً ‏"‏ فجعل الورق هدية بانفراده فما يعطى في الملأ مكروه إلا برضا جميعهم ولا يخلو عن شبهة فإذا انفرد سلم من هذه الشبهة‏.‏

أما الإظهار والتحدث به ففيه معان أربعة الأول الإخلاص والصدق والسلامة عن تلبيس الحال والمراءاة والثاني إسقاط الجاه والمنزلة وإظهار العبودية والمسكنة والتبري عن الكبرياء ودعوى الاستغناء وإسقاط النفس من أعين الخلق‏.‏

قال بعض العارفين لتلميذه‏:‏ أظهر الأخذ على كل حال إن كنت آخذ فإنك لا تخلو عن أحد رجلين‏:‏ رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو المراد لأنه أعلم لدينك وأقل لآفات نفسك أو رجل تزداد في قلبه بإظهارك الصدق فذلك الذي يريده أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيد ثوابه‏.‏

الثالث هو أن العارف لا نظر له إلا إلى الله عز وجل والسر والعلانية في حقه واحد فاختلاف الحال شرك في التوحيد‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السر ويرد في العلانية‏.‏

والالتفات إلى الخلق حضروا أم غابوا نقصان في الحال بل ينبغي أن يكون النظر مقصور على الواحد الفرد‏.‏

حكي أن بعض الشيوخ كان كثير الميل إلى واحد من جملة المريدين فشق على الآخرين فأراد أن يظهر لهم فضيلة ذلك المريد فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال‏:‏ لينفرد كل واحد منكم بها وليذبحها حيث لا يراه أحد‏.‏

فانفرد كل واحد وذبح إلا ذلك المريد فإنه رد الدجاجة فسألهم فقالوا‏:‏ فعلنا ما أمرنا به الشيخ فقال الشيخ للمريد‏:‏ مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال ذلك المريد‏.‏

لم أقدر على مكان لا يراني فيه أحد فإن الله يراني في كل موضع فقال الشيخ‏:‏ لهذا أميل إليه لأنه لا يلتفت لغير الله عز وجل‏.‏

الرابع أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى ‏"‏ وأما بنعمة ربك فحدث ‏"‏ والكتمان كفران النعمة وقد ذم الله عز وجل من كتم ما آتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى ‏"‏ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه ‏"‏ وأعطى رجل بعض الصالحين شيئاً في السر فرفع به يده وقال‏:‏ هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل والسر في أمور الآخرة أفضل‏.‏

ولذلك قال بعضهم‏.‏

إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل ‏"‏ والشكر قائم مقام المكافأة حتى قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيراً وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ‏"‏ ولما قال المهاجرون في الشكر ‏"‏ يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال صلى الله عليه وسلم كل ما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافأة ‏"‏‏.‏

فالآن إذا عرفت هذه المعاني فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافاً في المسئلة بل هو اختلاف حال فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكماً بتاً بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات وتختلف النيات باختلاف الأحوال والأشخاص‏.‏

فينبغي أن يكون المخلص مراقباً لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار مع أن له دخلاً في كل واحد منهما‏.‏

فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه لما فيه من في خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس‏.‏

والشيطان بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها‏.‏

ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقي انتهاك الستر أو إعانة المعطي على الإسرار أو صيانة العلم عن الابتذال فكل ذلك مما يحصل بانكشاف صدقة أخيه فإن كان انكشاف أمره أثقل عليه من انكشاف أمر غيره فتقديره الحذر من هذه المعاني أغاليظ وأباطيل من مكر الشيطان وخدعه فإن إذلال العلم محذور من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو‏.‏

والغيبة محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص ومن أحسن من ملاحظة مثل هذا ربما يعجز الشيطان عنه وإلا فلا يزال كثير العمل قليل الحظ‏.‏

وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي واستحثاث له على مثله وإظهاره عند غيره أنه من المبالغين في الشكر حتى يرغبوا في إكرامه وتفقده وهذا داء دفين في الباطن والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه هذا الخبث في معرض السنة ويقول له الشكر من السنة والإخفاء من الرياء ويورد عليه المعاني التي ذكرناها ليحمله على الإظهار وقصده الباطن ما ذكرناه ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها وعادتهم أنهم لا يعطون غلا من يخفي ولا يشكر‏.‏

فإن استوت هذه الأحوال عنده فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة وإلا فهو مغرور‏.‏

ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر فإن كان هو ممن يحب الشكر والنشر فينبغي أن يخفى ولا يشكر لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم‏.‏

وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولا يقصده فعند ذلك يشكره ويظهر صدقته‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي مدح بين يديه ‏"‏ ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح ‏"‏ مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يثني على قوم في وجوههم لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم بل يزيد في رغبتهم في الخير فقال لواحد ‏"‏ إنه سيد أهل الوبر ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم في آخر ‏"‏ إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه ‏"‏ وسمع كلام رجل فأعجبه فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن من البيان لسحراً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا علم أحدكم من أخيه خيراً فليخبره فإنه يزداد رغبة في الخير ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه ‏"‏ وقال الثوري‏:‏ من عرف نفسه لم يضره مدح الناس‏.‏

وقال أيضاً ليوسف بن أسباط‏:‏ إذا أوليتك معروفاً كنت أنا أسر به منك ورأيت ذلك نعمة من الله عز وجل علي فاشكر وإلا فلا تشكر‏.‏

ورقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يراعي قلبه فإن أعمال الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماته له لكثرة التعب وقلة النفع ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه‏:‏ إن تعلم مسألة واحدة منه أفضل من عبادة سنة إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمل وبالجهل به تموت عبادة العمل كله وتتعطل‏.‏

وعلى الجملة فالأخذ في الملأ والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات إلا أن تكمل المعرفة بحيث يستوي السر والعلانية وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يتحدث به ولا يرى‏.‏

نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق‏.‏

بيان الأفضل من أخذ الصدقة أو الزكاة كان إبراهيم الخواص والجنيد وجماعة يرون أن الأخذ من الصدقة أفضل فإن في أخذ الزكاة مزاحمة للمساكين وتضييقاً عليهم ولأنه ربما لا يكمل في أخذه صفة الاستحقاق كما وصف في الكتاب العزيز وأما الصدقة فالأمر فيها أوسع‏.‏

وقال قائلون‏:‏ بأخذ الزكاة دون الصدقة لأنها إعانة على الواجب‏.‏

ولو ترك المساكين كلهم أخذ الزكاة لأثموا‏:‏ ولأن الزكاة لا منة فيها وإنما هو حق واجب لله سبحانه رزقاً لعباده المحتاجين‏.‏

ولأنه أخذ بالحاجة والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعاً‏.‏

وأخذ الصدقة أخذ بالدين فإن الغالب أن المتصدق يعطي من يعتقد فيه خيراً ولأن مرافقة المساكين أدخل في الذل والمسكنة وأبعد من التكبر إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه وهذا تنصيص على ذل الآخذ وحاجته‏.‏

والقول الحق في هذا يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه وما يحضره من النية فإن كان في شبهة من اتصافه بصفة

الاستحقاق فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة‏.‏

فإذا علم أنه مستحق قطعاً إذا حصل عليه دين صرفه إلى خير وليس له وجه في قضائه فهو مستحق قطعاً‏.‏

إذا خير هذا بين الزكاة وبين الصدقة فإذا كان صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذه هو فليأخذ الصدقة فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها ففي ذلك تكثير للخير وتوسيع على المساكين‏.‏

وإن كان المال معرضاً للصدقة ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين فهو مخير والأمر فيهما يتفاوت‏.‏

وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وإذلالها في أغلب الأحوال والله أعلم‏.‏

كمل كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصوم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة والمقربين من أهل السموات والأرضين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏