فصل: كتاب آداب تلاوة القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


كتاب آداب تلاوة القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه المرسل صلى الله عليه وسلم وكتابه المنزل ‏"‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ‏"‏ حتى اتسع على أهل الأفكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار‏.‏

واتضح به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم بما فصل فيه من الأحكام‏.‏

وفرق بين الحلال والحرام فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغرور وفيه شفاء لما في الصدور‏.‏

ومن خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله‏.‏

هو حبل الله المتين ونوره المبين والعروة الوثقى والمعتصم الأوفى وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير‏.‏

لا تنقضي عجابئه ولا تتناهى غرائبه لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد هو الذي أرشد الأولين والآخرين ولما سمعه الجن لم يلبثوا أن ولوا إلى قومهم منذرين ‏"‏ فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً ‏"‏ فكل من آمن به فقد وفق ومن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد هدي ومن عمل به فقد فاز وقال تعالى ‏"‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ‏"‏ ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة والظاهرة‏.‏

وذلك لابد من بيانه وتفصيله وتنكشف مقاصده في أربعة أبواب‏:‏ الباب الأول في فضل القرآن وأهله‏.‏

الباث الثاني في آداب التلاوة في الظاهر‏.‏

الباب الثالث في الأعمال الباطنة عند التلاوة‏.‏

الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره بالرأي وغيره‏.‏

الباب الأول في فضل القرآن وأهله وذم المقصرين في تلاوته فضيلة القرآن قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر

ما عظمه الله تعالى ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من شفيع أفضل منزلة عند الله تعالى من القرآن لا نبي ولا ملك ولا غيره ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً ‏"‏ إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألف عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت‏:‏ طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تنطق بهذا ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول الله تبارك وتعالى من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك أسود لا يهولهم فزع ولا ينالهم حساب حتى يفرغ ما بين الناس‏:‏ رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل والخ أم به قوماً وهم به رضوان ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أهل القرآن أهل الله وخاصته ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد فقيل يا رسول الله وما جلاؤهها فقال‏:‏ تلاوة القرآن وذكر الموت ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لله أشد أذناً إلى قارىء القرآن من صاحب القينة إلى قينته ‏"‏ الآثار‏:‏ قال أبو أمامة الباهلي‏:‏ اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلباً هو وعاء للقرآن‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف منه عشر حسنات أما إني لا أقول‏:‏ الحرف ألم ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ كل آية في القرآن درجة في الحنة ومصباح في بيوتكم وقال أيضاً‏:‏ من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ إن البيت الذي يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله عز وجل‏:‏ ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين‏.‏

وقال أحمد ابن حنبل‏:‏ رأيت الله عز وجل في المنام فقلت‏:‏ يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك قال‏:‏ بكلامي يا أحمد قال قلت‏:‏ يا رب بفهم أو بغير فهم قال‏:‏ بفهم وبغير فهم‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ إذا سمع الناس القرآن من الله عز وجل يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قط‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى أحد حاجة ولا إلى الخلفاء فمن دونهم فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه‏.‏

وقال أيضاً حامل القرآن حامل راية الإسلام فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ إذا قرأ الرجل القرآن قبل الملك بين عينيه‏.‏

وقال عمرو بن ميمون‏:‏ من نشر مصحفاً حين يصلي الصبح فقرأ منه مائة ىية رفع الله عز وجل له مثل عمل جميع أهل الدنيا‏.‏

ويروى ‏"‏ أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اقرأ علي القرآن فقرأ عليه ‏"‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ‏"‏ الآية فقال له أعد فأعاد فقال‏:‏ والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمورق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر ‏"‏ وقال الحسن والله ما دون القرآن من غنى ولا بعده من فاقة‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ من قرأ خاتمة سورة الحشر حين يصبح ثم مات من يومه ختم له بطابع الشهداء ومن قرأها حين يمسي ثم مات من ليلته ختم له بطابع الشهداء وقال القاسم بن عبد الرحمن‏:‏ قلت لبعض النساك ما ههنا أحد نستأنس به فمد يده إلى المصحف ووضعه على حجره وقال‏:‏ هذا‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ثلاث في ذم تلاوة الغافلين قال أنس بن مالك‏:‏ رب تال للقرآن والقرآن يلعنه‏.‏

وقال ميسرة‏:‏ الغريب هو القرآن في جوف الفاجر وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ قيل له‏:‏ مالك ولكلامي‏.‏

وقال ابن الرماح‏:‏ ندمت على استظهاري القرآن لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة‏.‏

وقال ابن مسعود ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس يفرطون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون‏.‏

وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً ولا ينبغي له أن يكون جافياً ولا ممارياً ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اقرإ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ‏"‏ وقال بعض السلف‏:‏ إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقيل له‏:‏ وكيف ذلك فقال‏:‏ إذا أحل حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول ‏"‏ ألا لعنة الله على الظالمين ‏"‏ وهو ظالم نفسه ‏"‏ ألا لعنة الله على الكاذبين ‏"‏ وهو منهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار‏.‏

وقال ابن مسعود أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً وقد أسقط العمل به‏.‏

وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما‏:‏ لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها‏.‏

ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره نثر الدقل وقد ورد في التوراة‏:‏ يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك شيء منه وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك الباب الثاني في ظاهر آداب التلاوة وهي عشرة الأول في حال القارىء‏:‏ وهو أن يكون على الوضوء واقعاً عل هيئة الأدب والسكون إما قائماً وإما جالساً مستقبل القبلة مطرقاً رأسه غير متربع ولا متكىء ولا جالس على هيئة التكبر‏.‏

ويكون جلوسه وحده كجلوسه بين يدي أستاذه‏.‏

وأفضل الأحوال أن يقرأ في الصلاة قائماً وأن يكون في المسجد فذلك من أفضل الأعمال‏.‏

فإن قرأ على غير وضوء وكان مضطجعاً في الفراش فله أيضاً فضل ولكنه دون ذلك‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ‏"‏ فأثنى على الكل ولكن قدم القيام في الذكر ثم القعود ثم الذكر مضطجعاً‏.‏

قال علي رضي الله عنه من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ومن قرأه وهو جالس في الصلاة فله بكل حرف خمسون حسنة‏.‏

ومن قرأه في غير صلاة وهو على وضوء فخمس وعشرون حسنة‏.‏

ومن قرأه على غير وضوء فعشر حسنات‏.‏

وما كان من القيام بالليل فهو أفضل لأنه أفرغ للقلب قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه‏:‏ إن كثرة السجود بالنهار وإن طول القيام بالليل أفضل الثاني في مقدار القراءة‏:‏ وللقراء عادات مختلفة في الاستكثار والاختصار فمنهم من يختم القرآن في اليوم والليلة مرة وبعضهم مرتين وانتهى بعضهم إلى ثلاث ومنهم من يختم في الشهر مرة وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه ‏"‏ وذلك لأن الزيادة عليه تمنعه الترتيل‏.‏

وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - لما سمعت رجلاً يهذر القرآن هذراً - ‏"‏ إن هذا ما قرأ القرآن ولا سكت ‏"‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يختم القرآن في كل سبع وكذلك كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يختمون القرآن في كل جمعة كعثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم‏.‏

ففي الختم أربع درجات‏:‏ الختم في يوم وليلة وقد كرهه جماعة والختم في كل شهر كل يوم جزء من ثلاثين جزءاً - وكأنه مبالغة في الاقتصار كما أن الأول مبالغة في الاستكثار - وبينهما درجتان

معتدلتان إحداهما في الأسبوع مرة والثانية في الأسبوع مرتين تقريباً من الثلاث‏.‏

والأحب أن يختم ختمة بالليل وختمة بالنهار ويجعل ختمه بالنهار يوم الإثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما ويجعل ختمه بالليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل أول النهار وأول الليل بختمته‏.‏

فإن الملائكة عليهم السلام تصلي عليه إن كانت ختمته ليلاً حتى يصبح وإن كان نهاراً حتى يمسي فتشمل بركتهما جميع الليل والنهار‏.‏

والتفصيل في مقدار القراءة أنه إن كان من العابدين السالكين طريق العمل فلا ينبغي أن ينقص عن ختمتين في الأسبوع‏.‏

وإن كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر أو من المشتغلين بنشر العلم فلابأس أن يقتصر في الأسبوع على مرة‏.‏

وإن كان نافذ الفكر في معاني القرآن فقد يكتفي في الشهر بمرة لكثرة حاجته إلى كثرة الترديد والتأمل الثالث في وجه القسمة‏:‏ أما من ختم في الأسبوع مرة فيقسم القرآن سبعة أحزاب فقد حزب الصحابة رضي الله عنهم القرآن أحزاباً فروي أن عثمان رضي الله عنه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة وليلة السبت بالأنعاغم إلى هود وليلة الأحد بيوسف إلى مريم وليلة الاثنين بطه إلى طسم موسى وفرعون وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن ويختم ليلة الخميس‏.‏

وابن مسعود كان يقسمه أقساماً لا على هذا الترتيب وقيل أحزاب القرآن سبعة فالحزب الأول ثلاث سور والحزب الثاني خمس سور والحزب الثالث سبع سور والرابع تسع سور والخامس إحدى عشرة سورة والسادس ثلاث عشرة سورة والسابع المفصل من ق إلى آخره‏.‏

فهكذا حزبه الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يقرءونه كذلك‏.‏

وفيه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قبل أن تعمل الأخماس والأعشار والأجزاء فما سوى هذا محدث الرابع في الكتابة‏:‏ يستحب تحسين كتابة القرآن وتبيينه ولا يأس بالنقط والعلامات بالحمرة وغيرها فإنها تزيين وتبيين وصد عن الخطأ واللحن لمن يقرؤه‏.‏

وقد كان الحسن وابن سيرين ينكرون الأخماس والعواشر والأجزاء‏.‏

وروي عن الشعبي وإبراهيم كراهية النقط بالحمرة وأخذ الأجرة على ذلك وكانوا يقولون جردوا القرآن‏.‏

والظن بهؤلاء أنهم كرهوا فتح هذا الباب خوفاً من أن يؤدي إلى إحداث زيادات وحسبما للباب وتشوقاً إلى حراسة القرآن عما يطرق إليه تغييراً‏.‏

وإذا لم يؤد إلى محظور واستقر أمر الأمة فيه على ما يحصل به مزيد معرفة فلا بأس به‏.‏

ولا يمع من ذلك كونه محدثاً فكم من محدث حسن كما قيل في إقامة الجماعات في التراويح إنها من محدثات عمر رضي الله عنه وأنها بدعة حسنة‏.‏

إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها‏.‏

وبعضهم كان يقول‏.‏

أقرأ من المصحف في المنقوط ولا أنقطه بنفسي وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير‏:‏ كان القرآن مجرداً في المصاحف فاول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء وقالوا لابأس به فإنه نور له‏.‏

ثم أحدثوا بعده نقطاً كباراً عند منتهى الآي فقالوا‏:‏ لابأس به يعرف به رأس الآية‏.‏

ثم أحدثوا بعد ذلك الخواتم والفواتح‏.‏

قال أبو بكر الهذلي سألت الحسن عن تنقيط المصاحف بالأحمر فقال‏:‏ وما تنقيطها قلت‏:‏ يعربون الكلمة بالعربية قال‏:‏ أما إعراب القرآن فلابأس به وقال خالد الحذاء‏:‏ دخلت على ابن سيرين فرأيته يقرأ في مصحف منقوط وقد كان يكره النقط‏.‏

وقيل‏:‏ إن الحجاج هو الذي أحدث ذلك وأحضر القراء حتى عدوا كلمات القرآن وحروفه وسووا أجزاءه وقسموه إلى ثلاثين جزءاً وإلى أقسام أخر‏.‏

الخامس الترتيل‏:‏ هو المستحب في هيئة القرآن لأنا سنبين أن المقصود من القراءة التفكر والترتيل معين عليه‏.‏

ولذلك نعتت أم سلمة رضي الله عنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذرمة‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً‏.‏

وسئل مجاهد عن رجلين دخلا في الصلاة فكان قيامهما واحداً إلا أن أحدهما قرأ البقرة فقط والآخر القرآن كله فقال‏.‏

هما في الأجر سواء‏.‏

واعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبر فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له في القراءة أيضاً الترتيل والتؤدة لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال السادس البكاء‏:‏ البكاء مستحب مع القراءة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ‏"‏ وقال صالح المري‏:‏ قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا ‏"‏ ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود‏.‏

ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي‏.‏

فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب‏.‏

السابع أن يراعى حق الآيات‏:‏ فإذا مر بآية سجدة سجد وكذلك إذا سمع من غيره سجدة سجد إذا سجد التالي ولا يسجد إلا إذا كان على طهارة‏.‏

وفي القرآن أربع عشرة سجدة‏.‏

وفي الحج سجدتان وليس في ص سجدة وأقله أن يسجد بوضع جبهته على الأرض وأكمله أن يكبر فيسجد ويدعو في سجوده بما يليق بالآية التي قرأها مثل أن يقرأ قوله تعالى ‏"‏ خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ‏"‏ فيقول ‏"‏ اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك أو على أوليائك ‏"‏ وإذا قرأ قوله تعالى ‏"‏ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ‏"‏ فيقول ‏"‏ اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وكذلك كل سجدة ويشترط في هذه السجدة شروط الصلاة من ستر العورة واستقبال القبلة وطهارة الثوب والبدن من الحدث والخبث‏.‏

ومن لم يكن على طهارة عند السماع فإذا تطهر يسجد وقد قيل في كمالها أنه يكبر رافعاً يديه لتحريمه ثم يكبر للهوي للسجود ثم يكبر للارتفاع ثم يسلم‏.‏

وزاد زائدون التشهد ولا أصل لهذا إلا القياس على سجود الصلاة وهو بعيد فإنه ورد الأمر في السجود فليتبع فيه الأمر وتكبيرة الهوى أقرب للبداية وما عدا ذلك ففيه بعد‏.‏

ثم المأموم ينبغي أن يسجد عند سجود الإمام ولا يسجد لتلاوة نفسه إذا كان مأموماً الثامن أن يقول في متبدإ قراءته‏:‏ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ‏"‏ رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ‏"‏ ولنقرأ‏:‏ قل أعوذ برب الناس وسورة الحمد لله وليقل عند فراغه من القراءة‏:‏ صدق الله تعالى وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم انفعنا به وبارك لنا فيه الحمد لله رب العالمين وأستغفر الله الحي القيوم‏.‏

وفي أثناء القراءة إذا مر بآية

تسبيح سبح وكبر وإذا مر بآية دعاء واستغفار دعا واستغفر وإن مر بمرجو سأل وإن مر بمخوف استعاذ‏.‏

يفعل ذاك بلسانه أو بقلبه فيقول‏:‏ سبحان الله نعوذ بالله اللهم ارزقنا اللهم ارحمنا‏.‏

قال حذيفة‏:‏ صليت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فابتدأ سورة البقرة فكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ ولا بآية تنزيه إلا سبح فإذا فرغ قال ما كان يقول صلوات الله وسلامه عند ختم القرآن ‏"‏ اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماماً ونوراً وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يا رب العالمين ‏"‏ التاسع في الجهر بالقراءة‏:‏ ولاشك في أنه لابد أن يجهر به إلى حد يسمع نفسه إذ القراءة عبارة عن تقطيع الصوت بالحروف ولابد من صوت فأقله ما يسمع نفسه فإن لم يسمع نفسه لم تصح صلاته‏.‏

فأما الجهر بحيث يسمع غيره فهو محبوب على وجه ومكروه على وجه آخر‏.‏

ويدل على استحباب الإسرار ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ فضل قراءة السر على قراءة العلانية كفضل صدقة السر على صدقة العلانية ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر به كالمسر بالصدقة ‏"‏ وفي الخبر العام ‏"‏ يفضل عمل السر على عمل العلانية سبعين ضعفاً ‏"‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي ‏"‏ وفي الخبر ‏"‏ لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء ‏"‏ وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز يجهر بالقراءة في صلاته وكان حسن الصوت فقال لغلامه‏:‏ اذهب إلى هذا المصلى فمره أن يخفض صوته فقال الغلام إن المسجد ليس لنا وللرجل فيه نصيب فرفع سعيد صوته وقال‏:‏ يا أيهما المصلي إن كنت تريد الله عز وجل بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً فسكت عمر بن عبد العزيز وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه وانصرف وهو يومئذ أمير المدينة‏.‏

ويدل على استحباب الجهر ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع جماعة من أصحابه يجهرون في صلاة الليل فصوب ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بالقراءة فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون قراءته ويصلون بصلاته ‏"‏ ومر صلى الله عليه وسلم بثلاثة من أصحابه رضي الله عنهم مختلفي الأحوال فمر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يخافت فسأله عن ذلك فقال‏:‏ إن الذي أناجيه

هو يسمعني‏.‏

ومر على عمر رضي الله عنه وهو يجهر فسأله عن ذلك فقال‏:‏ أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان‏.‏

ومر على بلال وهو يقرأ آياً من هذه السورة وآياً من هذه السورة فسأله عن ذلك فقال أخلط الطيب بالطيب‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلكم قد أحسن وأصاب‏.‏

فالوجه في الجمع بين هذه الأحاديث أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصل آخر فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره فالخير المتعدى أفضل من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارىء ويجمع همه إلى الفكر فيه ويصرف إليه سمعه ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ويقلل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه ولأنه قد يراه بطال غافل فينشط بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة ‏"‏ فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل‏.‏

وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم فإن كان في العمل الواحد عشر نيات كان فيه عشر أجور‏.‏

ولهذا نقول قراءة القرآن في المصاحف أفضل إذ يزيد في العمل النظر وتأمل المصحف وحمله فيزيد الأجر بسببه‏.‏

وقد قيل الختمة في المصحف بسبع لأن النظر في المصحف أيضاً عبادة‏.‏

وخرق عثمان رضي الله عنه مصحفين لكثرة قراءته منهما فكان كثير من الصحابة يقرءون في المصاحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف‏.‏

ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في السحر وبين يديه مصحف فقال له الشافعي‏:‏ شغلكم الفكر عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أصبح العاشر تحسين القراءة وترتيلها بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط يغير النظم فذلك سنة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ‏"‏ فقيل أراد به الاستغناء وقيل أراد به الترنم وترديد الألحان به وهو أقرب عند أهل اللغة‏.‏

وروي ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما حبسك قالت‏:‏ يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل ما سمعت أحسن صوتاً منه فقام صلى الله عليه وسلم حتى استمع إليه طويلاً ثم رجع فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله ‏"‏ واستمع صلى الله عليه وسلم أيضاً ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فوقفوا طويلاً ثم قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ‏"‏ اقرأ علي فقال يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيضان ‏"‏ واستمع صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى فقال ‏"‏ لقد أوتي هذا من مزامير آل داود ‏"‏ فبلغ ذلك أبا موسى فقال‏:‏ يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً ورأى هيثم القارىء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قال‏:‏ فقال لي أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك قلت نعم قال جزاك الله خيراً‏.‏

وفي الخبر‏.‏

كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن‏.‏

وقد كان عمر يقول لأبي موسى رضي الله عنهما‏:‏ ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى يكاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول‏:‏ أولسنا في صلاة إشارة إلى قوله عز وجل ‏"‏ ولذكر الله أكبر ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من استمع إلى آية من كتاب الله عز وجل كانت لو نوراً يوم القيامة ‏"‏ وفي الخبر‏:‏ كتب له عشر حسنات‏.‏

ومهما عظم اجر الاستماع وكان التالي هو السبب فيه كان شريكاً في الأجر إلا أن يكون قصده الرياء والتصنع‏.‏

الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة فهم أصل الكلام‏.‏

ثم التعظيم ثم حضور القلب ثم التدبر ثم التفهم ثم التخلي عن موانع الفهم ثم التخصيص ثم التأثر ثم الترقي ثم التبري‏.‏

فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه‏.‏

فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهمام خلقه وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه‏.‏

ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثري ولتلاشي ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره‏.‏

ولولا تبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكاً‏.‏

ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق‏.‏

ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال‏:‏ إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة عليهم السلام لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله عز وجل ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلاً لم يقصر فيه وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء عليهم السلام فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك‏:‏ أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله عز وجل فكيف يطيق الناس حمله فقال الحكيم‏:‏ إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون م تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها‏.‏

وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته‏.‏

فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الذي سمعت به الدواب من الناس‏.‏

ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً والحكمة للصوت نفساً وروحاً‏.‏

فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها‏.‏

والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل‏.‏

وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى‏.‏

ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط‏.‏

فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدى بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ودواء الأسقام الذي من سقي منه لم يسقم‏.‏

فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه‏.‏

الثاني التعظيم للمتكلم‏:‏ فالقارىء عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه تعالى قال ‏"‏ لا يمسه إلا المطهرون ‏"‏ وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً فباطن معناه أيضاً بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير‏.‏

وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب‏.‏

ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشى عليه ويقول‏:‏ هو كلام ربي هو كلام ربي فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله‏.‏

فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعد له وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمى والتعالي‏.‏

فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام الثالث حضور القلب وترك حديث النفس‏:‏ قيل في تفسير ‏"‏ يا يحيى خذ الكتاب بقوة ‏"‏ أي بجد واجتهاد وأخذه بالجد أن يكون متجرداً له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره وقيل لبعضهم‏:‏ إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء فقال أو شيء أحب إلي من القران حتى أحدث به نفسي‏!‏ وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه‏.‏

ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلاً له فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره وهو في متنزه ومتفرج والذي يتفرج في المتنزهات لا يتفكر في غيرها فقد قيل إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات فالميمات ميادين القرآن والراءات بساتين القرآن والحاءات مقاصيره والمسبحات عرائس القرآن والحاميمات ديابيج القرآن والمفصل رياضه والخانات ما سوى ذلك فإذا دخل القارىء الميادين وقطف من البساتين ودخل المقاصير وشهد العرائس ولبس الديابيج وتنزه في الرياض وسكن غرف الخانات استغرقه ذلك وشغله عما سواه فلم يعز قلبه ولم يتفرق فكره‏.‏

الرابع التدبر‏:‏ وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره‏.‏

والمقصود من القراءة التدبر‏.‏

ولذلك سن لأن الترتيل فيه الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن‏.‏

قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها‏.‏

وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام‏.‏

فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإمام بآية أخرى كان مسيئاً مثل من يشتغل بالتعجب من كلمة واحدة مما يناجيه عن فهم بقية كلامه‏.‏

وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهو متفكر بالتعجب من كلمة واحدة ممن يناجيه عن فهم بقية كلامه‏.‏

وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهو متفكر في آية قرأها إمامه فهذا وسواس‏.‏

فقد روي عن عامر بن عبد قيس أنه قال‏:‏ الوسواس يعتريني في الصلاة فقيل‏:‏ في أمر الدنيا فقال‏:‏ لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من ذلك ولكن يشتغل قلبي بموقفي بين يدي ربي عز وجل‏.‏

وأني كيف انصرف فعد ذلك وسواساً وهو كذلك فإنه يشغله عن فهم ما هو فيه والشيطان لا يقدر على مثله إلا بأن يشغله بمهم ديني ولكن يمنعه به عن الأفضل‏.‏

ولما ذكر ذلك للحسن قال إن كنتم صادقين عنه فما اصطنع الله ذلك عندنا‏.‏

ويروى ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة ‏"‏ وإنما رددها صلى الله عليه وسلم لتدبره في معانيها‏.‏

وعن أبي ذر قال ‏"‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي ‏"‏ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ‏"‏ الآية ‏"‏ وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية ‏"‏ أم حسب الذين اجترحوا السيئات ‏"‏ الآية‏.‏

وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية ‏"‏ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ‏"‏ وقال بعضهم‏:‏ إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر‏.‏

وكان بعضهم يقول‏:‏ آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال‏:‏ إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها‏.‏

وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ لي في كل جمعة ختمة وفي كل شهر ختمة وفي كل سنة ختمة ولي ختمه منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد‏.‏

وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه‏.‏

وكان هذا أيضاً يقول‏:‏ أقمت نفسي مقام الأجراء فأنا أعمل مياومة ومجامعة ومشاهرة ومسانهة‏.‏

الخامس التفهم‏:‏ وهو أن يستوضح من كل أية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل‏.‏

وذكر أفعاله‏.‏

وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا وذكر أوامره وزواجره وذكر الجنة والنار‏.‏

أما صفات الله عز وجل فكقوله تعالى ‏"‏ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ‏"‏ وكقوله تعالى ‏"‏ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ‏"‏ فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين‏:‏ وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله ما أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه فليكن حريصاً على طلب ذلك الفهم وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن‏.‏

وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أموراً لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها‏.‏

وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها‏.‏

فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته‏.‏

فينبغي أن يشهد في العقل الفاعل دون الفعل فمن عرف الحق رآه في كل شيء إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله فهو الكل على التحقيق‏.‏

ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه‏.‏

ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل وأن كل شيء هالك إلا وجهه لا أنه سيبطل في ثاني الحال بل هو الآن باطل إن اعتبر ذاته من حيث هو إلا أن يعتبر وجوده من حيث إنه موجود بالله عز وجل وبقدرته فيكون له بطريق التبعية ثبات وبطريق الاستقلال بطلان محض وهذا مبدأ من مبادىء علم المكاشفة‏:‏ ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل ‏"‏ أفرأيتم ما تحرثون - أفرأيتم ما تمنون - أفرأيتم الماء الذي تشربون - أفرأيتم النار التي تورون ‏"‏ فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمنى بل يتأمل في المنى وهو نطفة متشابهة الأجزاء ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد

والقلب وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والجهل والتكذيب والمجادلة كما قال تعالى ‏"‏ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ‏"‏ فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب وهو الصفة التي منها صدرت هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع‏.‏

وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام‏:‏ فإذا سمع منها كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم‏.‏

فليفهم منه صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيئاً‏.‏

وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق‏.‏

وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية‏:‏ وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكل عبد بقدر رزقه فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ‏"‏ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً ‏"‏ ولذلك قال علي رضي الله عنه‏:‏ لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب‏.‏

فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه‏.‏

ومن لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في قوله تعالى ‏"‏ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ‏"‏ والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم‏.‏

وقد قيل‏:‏ لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد ويعرف منه النقصان من المزيد ويستغني بالمولى عن العبيد السادس التخلي عن موانع الفهم فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت ‏"‏ ومعاني القرآن من جملة الملكوت وكل ما غاب عن الحواس ولم يدرك إلا بنور البصيرة فهو من الملكوت‏.‏

وحجب الفهم أربعة أولها‏:‏ أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه‏.‏

فهذا يكون تأمله مقصوراً على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس‏.‏

ثانيها أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة‏.‏

فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفاً على مسموعه فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز منه ويحترز عن مثله‏.‏

ولمثل هذا قالت الصوفية‏:‏ إن العلم حجاب وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم‏.‏

فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب وهذا التقليد قد يكون باطلاً فيكون مانعاً كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكن والاستقرار فإن خطر له مثلاً في القدوس أنه المقدس عن كل ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه‏.‏

‏.‏

ولو استقر في نفسه لانجر إلى كشف ثان وثالث ولتواصل‏.‏

ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل‏.‏

وقد يكون حقاً ويكون أيضاً مانعاً من الفهم والكشف لأن الحق الذي كلف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات وله مبدأ ظاهر وغور باطن وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن - كما ذكرناه في الفرق بين العلم الظاهر والباطن في كتاب قواعد العقائد - ثالثها‏:‏ أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه وهو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون‏.‏

وكلما كانت الشهوات أشد تراكماً كانت معاني الكلام أشد احتجاباً وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلى المعنى فيه‏.‏

فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدإ ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة‏.‏

والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي ‏"‏ قال الفضيل‏:‏ يعني حرموا فهم القرآن‏.‏

وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكير فقال تعالى ‏"‏ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ وما يتذكر إلا من ينيب ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنما يتذكر أولو الألباب ‏"‏ فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب‏.‏

رابعها‏:‏ أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏

وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي في الباب الرابع وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن‏.‏

وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه السابع التخصيص وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمراً أو نهياً قدر أنه المنهي والمأمور وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏

ولذلك قال تعالى ‏"‏ ما نثبت به فؤادك ‏"‏ فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى‏.‏

وكيف لا يقدر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى ‏"‏ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏.‏

كذلك يضرب الله للناس أمثالهم‏.‏

واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏.‏

هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون‏.‏

هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ‏"‏ وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد فهذا القارىء الواحد مقصود فما له ولسائر الناس فليقدر أنه المقصود قال الله تعالى ‏"‏ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ‏"‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله‏.‏

وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه‏.‏

ولذلك قال بعض العلماء‏:‏ هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات‏.‏

وكان مالك بن دينار يقول‏:‏ ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان قال تعالى ‏"‏ هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ‏"‏ الثامن التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره‏.‏

ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجل ‏"‏ وإني لغفار ‏"‏ ثم أتبع ذلك بأربعة شروط ‏"‏ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ‏"‏ ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطاً جامعاً فقال تعالى ‏"‏ إن رحمة الله قريب من المحسنين ‏"‏ فالإحسان يجمع الكل وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره‏.‏

ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن‏.‏

ولذلك قال الحسن‏:‏ والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته‏.‏

وقا وهيب بن الورد نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئاً أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره‏.‏

فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت‏.‏

وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأه يطير من الفرح‏.‏

وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله واستشعاراً لعظمته‏.‏

وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولداً وصاحبة يغض صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم‏.‏

وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها‏.‏

وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ‏"‏ اقرأ علي قال‏:‏ فافتتحت سورة النساء فلما بلغت ‏"‏ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ‏"‏ رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي‏:‏ حسبك الآن ‏"‏ وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية‏.‏

ولقد كان في الخائفين من خر مغشياً عليه عند آيات الوعيد‏.‏

ومنهم من مات في سماع الآيات‏.‏

فمثل هذه الأحوال يخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه‏.‏

فإذا قال ‏"‏ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ‏"‏ ولم يكن خائفاً كان حاكياً‏.‏

وإذا قال ‏"‏ عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ‏"‏ ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكياً‏.‏

وإذا قال ‏"‏ ولنصبرن على ما آذيتمونا ‏"‏ فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة‏.‏

فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى ‏"‏ ألا لعنة الله على الظالمين ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏"‏ وفي قوله عز وجل ‏"‏ وهم في غفلة معرضون ‏"‏ وفي قوله ‏"‏ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ‏"‏ إلى غير ذلك من الآيات وكان داخلاً في معنى قوله عز وجل ‏"‏ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ‏"‏ يعني التلاوة المجردة وقوله عز وجل ‏"‏ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ‏"‏ لأن القرآن هو المبين لتلك الآيات في السموات والأرض ومهما تجاوزها ولم يتأثر بها كان معرضاً عنها‏.‏

ولذلك قيل‏:‏ إن من لم يكن متصفاً بأخلاق القرآن فإذا قرأ القرآن ناداه الله تعالى‏:‏ مالك ولكلامي وأنت معرض عني دع عنك كلامي إن لم تتب إلي‏.‏

ومثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره مثال من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت‏.‏

ولذلك قال يوسف بن أسباط‏:‏ إني لأهم بقراءة القرآن فإذا ذكرت ما فيه خشيت المقت فاعدل إلى التسبيح والاستغفار‏.‏

والمعرض عن العمل به أريد بقوله عز وجل ‏"‏ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ‏"‏ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه - وفي بعضها - فإذا اختلفتم فقوموا عنه ‏"‏ قال الله تعالى ‏"‏ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياتهم زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يسمع القرآن من أحد أشهى ممن يخشى الله عز وجل ‏"‏ يراد لاستجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به وإلا فالمؤنة في تحريك اللسان بحروفه خفيفة‏.‏

ولذلك قال بعض القراء‏:‏ قرأت القرآن على شيخ لي ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني وقال جعلت القرآن علي عملاً اذهب فاقرأ على الله عز وجل‏.‏

فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك‏.‏

وبهذا كان شغل الصحابة رضي الله عنهم في الأحوال والأعمال‏.‏

فمات رسول

الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألفاً من الصحابة لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف في اثنين منهم‏.‏

وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين‏.‏

وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم ولما جاء واحد ليتعلم القرآن فانتهى إلى قوله عز وجل ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ قال‏:‏ يكفي هذا وانصرف‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ انصرف الرجل وهو فقيه‏.‏

وإنما العزيز مثل تلك الحالة التي من الله عز وجل بها على قلب المؤمن عقيب فهم الآية‏.‏

فأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى‏.‏

بل التالي باللسان المعرض عن العمل جدير بأن يكون هو المراد بقوله تعالى ‏"‏ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ‏"‏ وبقوله عز وجل ‏"‏ كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ‏"‏ أي تركتها ولم تنظر إليها

ولم تعبأ بها فإن المقصر في الأمر يقال إنه نسي الأمر وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل وحظ العقل تفسير المعاني وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار‏.‏

فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ‏.‏

التاسع الترقي‏:‏ وأعني به أن يترىق إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه ‏"‏ فدرجات القراءة ثلاث أدناها‏:‏ ان يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفاً بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع

منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال‏.‏

الثانية‏:‏ أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم

والإصغاء والفهم‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يرى في الكلاء المتكلم وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه بل يكون مقصوراً لهم على المتكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره‏.‏

وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين‏.‏

وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال‏:‏ والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون‏.‏

وقال أيضاً وقد سألوه عن حالة حقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه فلما سري عنه قيل له في ذلك فقال‏:‏ مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة ولذة المناجاة‏.‏

ولذلك قال بعض الحكماء‏:‏ كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه ثم رفعت إلى مقام فوقه كنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم به فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه‏.‏

وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما‏:‏ لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن وإنما قالوا ذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام‏.‏

ولذلك قال ثابت البناني‏:‏ كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة‏.‏

وبمشاهدة المتكلم دون ما سواه يكون العبد ممتثلاً لقوله عز وجل ‏"‏ ففروا إلى الله ‏"‏ ولقوله ‏"‏ ولا تجعلو مع الله إلهاً آخر ‏"‏ فمن لم يره في كل شيء فقد رأى غيره وكل ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمن التفاته شيئاً من الشرك الخفي بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل‏.‏

العاشر التبري‏:‏ وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بين الرضا والتزكية‏.‏

فإذا تلا بآيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك بل يشهد الموقنين والصديقين فيها ويتشوف إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً‏.‏

ولذكل كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول‏:‏ اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري فقيل له‏:‏ هذا الظلم فما بال الكفر فتلا قوله عز وجل ‏"‏ إن الإنسان لظلوم كفار ‏"‏ وقيل ليوسف ابن أسباط‏:‏ إذا قرأت القرآن بماذا تدعو فقال‏:‏ بماذا أدعو أستغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة‏.‏

فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه‏.‏

فإن من شهد البعد في القرب لطف به في الخوف حتى يسوقه الخوف إلى درجة أخرى في القرب وراءها‏.‏

ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الذي يفضيه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه‏.‏

ومهما كان مشاهداً نفسه بعين الرضا صارا محجوباً بنفسه فإذا جاوز حدا الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته كشف له سر الملكوت‏.‏

قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه‏:‏ وعد ابن ثوبان أخاً له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد فقال له‏:‏ وعدتني أنك تفطر عندي فأخلفت فقال لولا ميعادي معك ما أخبرتك الذي حبسني عنك‏!‏ إني لما صليت العتمة قلت‏.‏

أوتر قبل أن أجيئك لأني لا آمن ما يحدث من الموت فلما كنت في الدعاء من الوتر رفعت إلى روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت‏.‏

وهذه المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري عن النفس وعدم الالتفات إليها وإلى هواها ثم تخصص هذه المكاشفات بحسب أحوال المكاشف فحيث يتلو آيات الرجاء ويغلب على حاله الاستبشار تنكشف له صورة الجنة فيشاهدها كأنه يراها عياناً وإن غلب عليه الخوف كوشف

بالنار حتى يرى أنواع عذابها‏.‏

وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجو والمخوف وذلك بحسب أوصافه إذ منها الرحمة واللطف والانتقام والبطش‏.‏

فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلب في اختلاف الحالات وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة ويقاربها إذ يستحيل أن يكون حالة المستمع واحداً والمسموع مختلفاً إذ فيه كلام راض وكلام غضبان وكلام منعم وكلام منتقم وكلام جبا متكبر لا يبالي وكلام حنان متعطف لا يهمل‏.‏

الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل لعلك تقول‏:‏ عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية من معانيه فكيف يستحب ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ‏"‏ وعن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير على أهل التصوف من المقصرين المنسوبين إلى التصوف في تأويل كلمات في القرآن على خلاف ما نقل عن ابن عباس وسائر المفسرين وذهبوا إلى أنه كفر فإن صح ما قاله أهل التفسير فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ‏"‏ فاعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه وهو مصيب في الإخبار عن نفسه ولكنه مخطىء في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعاً لأرباب الفهم قال علي رضي الله عنه‏:‏ إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن‏.‏

فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً ‏"‏ ويروى أيضاً عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو من علماء التفسير‏.‏

فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب‏.‏

فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار وقال أبو الدرداء‏.‏

لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏:‏ لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم‏.‏

ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع‏.‏

وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم عشرين مرة ‏"‏ لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها وإلا فترجمتها وتفسيرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن‏.‏

وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر‏.‏

وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته‏:‏ وهذه العلوم لا نهاية لها وفي القرآن إشارة إلى مجامعها‏.‏

والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن‏.‏

ومجرد ظاهره التفسير لا يشير إلى ذلك بل كل ما أشكل فيه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها‏.‏

فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اقرءوا القرآن والتمسوا غرائبه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي كرم الله وجهه ‏"‏ والذي بعثني بالحق نبياً ليفترقن أمتي عن أصل دينها وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة ومضلة يدعون إلى النار فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله عز وجل فإن فيه نبأ من كان قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم وحكم ما بينكم من خالفه من الجبابرة قصمه الله عز وجل ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستقيم ولا تتقضى عجائبه ولا بخلقه كثرة الترديد ‏"‏ الحديث وفي حديث حذيفة ‏"‏ لما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والفرقة بعده قال‏:‏ فقلت يا رسول الله فماذا تأمرني إن أدركت ذلك فقال‏:‏ تعلم كتاب الله واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك قال‏:‏ فأعدت عليه ذلك ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم ثلاثاً‏.‏

تعلم كتاب الله عز وجل واعمل بما فيه ففيه النجاة ‏"‏ وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ من فهم القرآن فسر به جمل العلم أشار به إلى أن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ‏"‏ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ‏"‏ يعني الفهم في القرآن‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏ سمى ما آتاهما علماً وحماً وخصص ما انفرد به سليمان بالتفطن له باسم الفهم وجعله مقدماً على الحكم والعلم‏.‏

فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه‏.‏

فأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من فسر القرآن برأيه ‏"‏ ونهيه عنه صلى الله عليه وسلم وقول أبي بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار في النهي عن تفسير القرآن بالرأي فلا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط والاستقلال بالفهم‏.‏

أو المراد به أمراً آخر‏.‏

وباطل قطعاً أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه لوجوه أحدها أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسنداً إليه وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن‏.‏

فأما ما يقوله ابن عباس وابن مسعود من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل ويقال هو تفسير بالرأي لأنهم لم يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

والثاني أن الصحابة والمفسرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها وسماع جميعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم محال ولو كان الواحد مسموعاً لرد الباقي فتبين على القطع أن كل مفسر قال في المعنى بما ظهر له باستنباطه حتى قالوا في الحروف التي في أوائل السور سبعة أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها فقيل‏:‏ إن ‏"‏ الر ‏"‏ هي حروف من الرحمن وقيل إن الألف الله واللام لطيف والراء رحيم وقيل غير ذلك‏.‏

والجمع بين الكل غير ممكن فكيف يكون الكل مسموعاً والثالث أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دعا لابن عباس رضي الله عنه وقال‏:‏ اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ‏"‏ فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل ومحفوظاً مثله فما معنى تخصيصه بذلك والرابع أنه قال عز وجل ‏"‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ‏"‏ فأثبت لأهل العلم استنباطاً‏.‏

ومعلوم أنه وراء السماع‏.‏

وجملة ما نقلناه من الآثار في فهم القرآن يناقض هذا الخيال فبطل أن يشترط السماع في التأويل وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله‏.‏

وأما النهي فإنه ينزل على أحد وجهين أحدهما‏:‏ أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى‏.‏

وهذا تارة يكون مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك ولكن يلبس به على خصمه‏.‏

وتارة يكون مع الجهل ولكن إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسر برأيه أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه‏.‏

وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه مما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدل بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تسحروا فإن في السحور بركة ‏"‏ ويزعم أن المراد به التسحر بالذكر وهو يعلم أن المراد به الأكل وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله عز وجل ‏"‏ اذهب إلى فرعون إنه طغى ‏"‏ ويشير إلى قلبه ويومىء إلى أنه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع وهو ممنوع‏.‏

وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعاً أنها غير مرادة به‏.‏

فهذه الفنون أحد وجهي المنعب من التفسير بالرأي‏.‏

‏.‏

ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح والرأي يتناول الصحيح والفاسد والموافق للهوى قد يخصص باسم الرأي‏.‏

والوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير‏.‏

فمن لم يحكم بظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسر بالرأي‏.‏

والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ونحن نرمز إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولاً‏.‏

ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر‏.‏

ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب‏.‏

أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك‏.‏

فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لابد منها للفهم‏.‏

وما لابد فيه من السماع فنون كثيرة‏:‏ منها الإيجار بالحذف والإضمار كقوله تعالى ‏"‏ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ‏"‏ معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء ولم يدر أنهم بماذا ظلموا غيرهم أو أنفسهم‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ‏"‏ أي حب العجل فحذف الحب وقوله عز وجل ‏"‏ إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ‏"‏ أي ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى فحذف العذاب وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والموت وكل ذلك جائز في فصيح اللغة‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ واسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ‏"‏ أي أهل العير فالأهل فيهما محذوف مضمر‏.‏

وقوله عز وجل ‏"‏ ثقلت في السموات والأرض ‏"‏ معناه خفيت على أهل السموات والأرض والشيء إذا خفي ثقل فأبدل اللفظ به وأقيم في مقام على وأضمر الأهل وحذف‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ‏"‏ أي شكر رزقكم وقوله عز وجل ‏"‏ آتنا ما وعدتنا على رسلك ‏"‏ أي على ألسنة رسلك فحذف ألسنة وقوله تعالى ‏"‏ إنا أنزلناه في ليلة القدر ‏"‏ أراد القرآن وما سبق له ذكر‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ حتى توارت بالحجاب ‏"‏ أراد الشمس وما سبق لها ذكر‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ‏"‏ أي يقولون ما نعبدهم‏.‏

وقوله عز وجل ‏"‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ‏"‏ معناه لا يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله فإن لم يرد هذا كان مناقضاً لقوله ‏"‏ قل كل من عند الله ‏"‏ وسبق إلى الفهم منه مذهب القدرية‏.‏

ومنها المنقول كقوله تعالى ‏"‏ وطور سينين ‏"‏ أي طور سيناء ‏"‏ سلام على آل ياسين ‏"‏ أي على الياس وقيل إدريس لأن في حرف ابن مسعود ‏"‏ سلام على إدراسين ‏"‏ ومنها المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله عز وجل ‏"‏ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ‏"‏ معناه‏:‏ الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا ومنها المقدم والمؤخر وهو مظنة الغلط كقوله عز وجل ‏"‏ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى ‏"‏ معناه لولا الكلمة وأجل مسمى لكان لزاماً ولولاه لكان نصباً كاللزام وقوله تعالى ‏"‏ ويسألونك كأنك حفي عنها ‏"‏ أي يسألونك عنها كأنك حفي بها وقول عز وجل ‏"‏ لهم مغفرة ورزق كريم كما

أخرجك ربك من بيتك بالحق ‏"‏ فهذا الكلام غير متصل وإنما هو عائد إلى قوله السابق ‏"‏ قل الأنفال لله والرسول - كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ‏"‏ أي فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره ومن هذا النوع قوله عز وجل ‏"‏ حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه ‏"‏ الآية‏.‏

ومنها المبهم وهو اللفظ المشترك بين معان من كلمة أو حرف‏.‏

أما الكلمة فكالشيء والقرين والأمة والروح ونظائرها قال الله تعالى ‏"‏ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ‏"‏ أراد به النفقة مما رزق وقوله عز وجل ‏"‏ وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ‏"‏ أي الأمر بالعدل والاستقامة وقوله عز وجل ‏"‏ فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء ‏"‏ أراد به من صفات الربوبية وهو العلوم التي لا يحل السؤال عنها حتى يبتدىء بها العارف في أوان الاستحقاق‏.‏

وقوله عز وجل ‏"‏ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ‏"‏ أي من غير خالق فربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء‏.‏

وأما القرين فكقوله عز وجل ‏"‏ وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار ‏"‏ أراد به الملك الموكل به وقوله تعالى ‏"‏ قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان ‏"‏ أراد به الشيطان‏.‏

وأما الأمة فتطلق على ثمانية أوجه الأمة‏:‏ الجماعة كقوله تعالى ‏"‏ وجد عليه أمة من الناس يسقون ‏"‏ وأتباع الأنبياء كقولك عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورجل جامع للخير يقتدى به كقوله تعالى ‏"‏ إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله ‏"‏ والأمة‏:‏ الدين كقوله عز وجل ‏"‏ إنا وجدنا آباءنا على أمة ‏"‏ والأمة‏:‏ الحين والزمان كقوله عز وجل ‏"‏ إلى أمة معدودة ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ وادكر بعد أمة ‏"‏ والأمة‏:‏ القامة يقال فلان حسن الأمة أي القامة وأمة‏:‏ رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده ‏"‏ والأمة يقال هذه أمة زيد أي أم زيد‏.‏

والروح أيضاً ورد في القرآن على معان كثيرة فلا نطول بإيرادها‏.‏

وكذلك قد يقع الإبهام في الحروف مثل قوله عز وجل ‏"‏ فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً ‏"‏ فالهاء الأولى‏:‏ كناية عن الحوافر وهي الموريات أي أثرن بالحوافر نقعاً والثانية كناية عن الإغارة وهي المغيرات صبحاً فوسطن به جمعاً جمع المشركون فأغاروا بجمعهم وقوله تعالى ‏"‏ فأنزلنا به الماء ‏"‏ يعني السحاب ‏"‏ فأخرجنا به من كل الثمرات ‏"‏ يعني الماء‏.‏

وأمثال هذا في القرآن لا ينحصر‏.‏

ومنها التدريج في البيان كقوله عز وجل ‏"‏ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ‏"‏ إذ لم يظهر به أنه ليل أو نهار وبان بقوله عز وجل ‏"‏ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ‏"‏ ولم يظهر به أي ليلة فظهر بقوله تعالى ‏"‏ إنا أنزلناه في ليلة القدر ‏"‏ وربما يظن في الظاهر الاختلاف بين هذه الآيات فهذا وأمثاله مما لا يغني فيه إلا النقل والسماع فالقرآن من أوله إلى آخره غير خال عن هذا الجنس لأنه أنزل بلغة العرب فكان مشتملاً على أصناف كلامهم من إيجاز وتطويل وإضمار وحذف وإبدال وتقديم وتأخير ليكون ذلك مفحماً لهم ومعجزاً في حقهم‏.‏

فكل من اكتفى بفهم ظاهر العربية وبادر إلى تفسير القرآن ولم يستظهر بالسماع والنقل في هذه الأمور فهو داخل فيمن فسر القرآن برأيه‏.‏

مثل أن يفهم من الأمة المعنى الأشهر منه فيميل طبعه ورأيه إليه فإذا سمعه في موضع آخر مال برأيه إلى ما سمعه من مشهور معناه وترك تتبع النقل في كثير من معانيه فهذا ما يمكن أن يكون منهياً عنه دون التفهم لأسرار المعاني - كما سبق - فإذا حصل السماع بأمثال هذه الأمور علم ظاهر التفسير وهو ترجمة الألفاظ‏.‏

ولا يكفي ذلك في فهم حقائق المعاني‏.‏

ويدرك الفرق بين حقائق المعاني وظاهر التفسير بمثال‏:‏ وهو أن الله عز وجل قال ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ فظاهره تفسير واضح وحقيقة معناه غامض‏.‏

فإنه إثبات للرمي ونفي له‏.‏

وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمي من وجه ولم يرم من وجه ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله عز وجل‏.‏

وكذلك قال تعالى ‏"‏ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ‏"‏ فإذا كانوا هم المقاتلين كيف يكون الله سبحانه هو المعذب وإن كان الله تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال فحقيقة هذا يستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير وهو أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة الحادثة‏.‏

ويفهم وجه ارتباط القدرة بقدرة الله عز وجل حتى ينكشف - بعد إيضاح أمور كثيرة غامضة - صدق قوله عز وجل - ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدماته ولواحقه لانقضى العمر قبل استيفاء جميع لواحقه وما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك‏.‏

وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب‏.‏

ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه‏.‏

فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل‏.‏

فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا يغني عنه‏.‏

ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وسلم في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ‏"‏ أنه قيل له اسجد واقترب فوجد القرب ف يالسجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان ثم زد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات فقال ‏"‏ أعوذ بك منك ‏"‏ ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله ‏"‏ لا أحصي ثناء عليك ‏"‏ ثم علم أن ذلك قصور فقال ‏"‏ أنت كما أثنيت على نفسك ‏"‏ فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب‏.‏

ثم لها أغوار وراء هذا وهو فهم معنى القرب واختصاصه بالسجود ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة ومنه به‏.‏

وأسرار ذلك كثيرة‏:‏ ولا يدل تفسير ظاهر عليه وليس اللفظ هو مناقضاً لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر والله أعلم‏.‏

تم كتاب‏:‏ آداب التلاوة‏.‏

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين وعلى آل محمد وصحبه وسلم‏.‏

يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب‏:‏ الأذكار والدعوات‏.‏

والله المستعان لا رب سواه‏.‏