فصل: كتاب العلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله أولاً حمداً كثيراً متوالياً وإنك ان يتضاءل دون حق جلاله حمد الحامدين‏.‏

وأصلي واسلم على رسله ثانياً صلاة تستغرق مع سيد البشر سائر المرسلين‏.‏

وأستخيره تعالى ثالثاً فيما انبعث عزمي من تحرير كتاب في إحياء علوم الدين‏.‏

وأنتدب لقطع تعجبك رابعاً أيها العاذل المتغالي في العذل من بين زمرة الجاحدين المسرف في التقريع‏.‏

مقدمة العراقي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحيا علوم الدين فأينعت بعد اضمحلالها وأعيا فهوم الملحدين عن دركها فرجعت بكلالها أحمده وأستكين له من مظالم أنقضت الظهور بأثقالها وأعبده وأستعين به لعصام الأمور وعضالها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة وافية بحصول الدرجات وظلالها واقية من حلول الدركات وأهوالها وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أطلع به فجر الإيمان من ظلمة القلوب وضلالها وأسمع به وقر الآذان وجلا به زين القلوب بصقالها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة لا قاطع لاتصالها‏.‏

وبعد‏:‏ فلما وفق الله تعالى لإكمال الكلام على أحاديث إحياء علوم الدين في سنة إحدى وخمسين تعذر الوقوف على بعض أحاديثه فأخرت تبييضه إلى سنة ستين فظفرت بكثير مما عزب عني علمه ثم شرعت في تبييضه في مصنف متوسط حجمه وأنا مع ذلك متباطىء في إكماله غير متعرض لتركه وإهماله إلى أن ظفرت بأكثر ما كنت لم أقف عليه وتكرر السؤال من جماعة في إكماله فأجبت وبادرت إليه ولكني اختصرته في غاية الاختصار ليسهل تحصيله وحمله في الأسفار فاقتصرت فيه على ذكر طرف الحديث وصحابيه ومخرجه وبيان صحته أو حسنه أو ضعف مخرجه فإن ذلك هو المقصود الأعظم عند أبناء الآخرة بل وعند كثير من المحدثين عند المذاكرة والمناظرة وأبي ما ليس له أصل في كتب الأصول والله أسأل أن ينفع به إنه خير مسئول‏.‏

فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بعزوه إليه وإلا عزوته إلى من خرجه من بقية السنة وحيث كان في أح الستة لم أعزه إلى غيرها إلا لغرض صحيح بأن يكون في كتاب التزم مخرجه الصحة أو يكون أقرب إلى لفظه في الإحياء وحيث كرر المصنف ذكر الحديث فإن كان في باب واحد منه اكتفيت بذكره أول مرة وربما ذكرته فيه ثانياً وثالثاً لغرض أو لذهول عن كونه تقدم وإن كرره في باب آخر ذكرته ونبهت على أنه قد تقدم وربما لم أنبه على تقدمه لذهول عنه وحيث عزوت الحديث لمن خرجه من الأئمة فلا أريد ذلك اللفظ بعينه بل قد يكون بلفظه وقد يكون بمعناه أو باختلاف على قاعدة المستخرجات وحيث لم أجد ذلك الحديث ذكرت ما يغني عنه غالباً وربما لم أذكره‏.‏

وسميته‏:‏ المغني عن حمل الأسفار في الأسفار‏:‏ في تخريج ما في الإحياء من الأخبار جعله الله خالصاً لوجهه الكريم ووسيلة إلى النعيم المقيم‏.‏

والإنكار من بين طبقات المنكرين الغافلين فلقد حل عن لساني عقدة الصمت وطوقني عهدة الكلام وقلادة النطق‏:‏ ما أنت مثابر عليه من العمى عن جلية الحق مع اللجاج في نصرة الباطل وتحسين الجهل والتشغيب على من آثر النزوع قليلاً عن مراسم الخلق ومال ميلاً يسيراً عن ملازمة الرسم إلى العمل بمقتضى العلم طمعاً في نيل ما تعبده الله تعالى به من تزكية النفس وإصلاح القلب وتداركاً لبعض ما فرط من إضاعة العمر يائساً عن تمام حاجتك في الحيرة وانحيازاً عن غمار من قال فيهم صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه ‏"‏ أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله سبحانه بعلمه ‏"‏ ولعمري إنه لا سبب لإصرارك على التكبر إلا الداء الذي عم الجم الغفير بل شمل الجماهير من القصور عن ملاحظة ذروة هذا الأمر والجهل بأن الأمر جد والخطب جد والآخرة مقبلة والدنيا مدبرة والأجل قريب والسفر بعيد والزاد طفيف والخطر عظيم والطريق سد وما سوى الخالص لوجه الله من العلم والعمل عند الناقد البصير رد وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكد‏:‏ فأدله الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام‏.‏

فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه‏:‏ فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً فقد أصبح من بين الخلق مطوياً وصار نسياً منسياً‏.‏

ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً إحياء لعلوم الدين وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين‏.‏

وقد أسسته على أربعة أرباع وهي‏:‏ ربع العبادات وربع العادات وربع المهلكات وربع المنجيات‏.‏

وصدرت الجملة بكتاب العلم لأنه غاية المهم لأكشف أولاً عن العلم الذي تعبد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الأعيان بطلبه إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طلب العلم فريضة على كل مسلم ‏"‏ وأميز فيه العلم النافع من الضار إذ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نعوذ بالله من علم لا ينفع ‏"‏ وأحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب وانخداعهم بلامع السراب واقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب‏.‏

ويشتمل ربع العبادات على عشرة كتب‏:‏ كتاب العلم وكتاب قواعد العقائد وكتاب أسرار الطهارة وكتاب أسرار الصلاة وكتاب أسرار الزكاة وكتاب أسرار الصيام وكتاب أسرار الحج وكتاب آداب تلاوة القرآن وكتاب الأذكار والدعوات وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات‏.‏

وأما ربع العادات فيشتمل على عشرة كتب‏:‏ كتاب آداب الأكل وكتاب آداب النكاح وكتاب أحكام الكسب وكتاب الحلال والحرام وكتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق وكتاب العزلة وكتاب آداب السفر وكتاب السماع والوجد وكتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة‏.‏

وأما ربع المهلكات فيشتمل على عشرة كتب‏:‏ كتاب شرح عجائب القلب وكتاب رياضة النفس وكتاب آفات الشهوتين‏:‏ شهوة البطن وشهوة الفرج وكتاب آفات اللسان وكتاب آفات الغضب والحقد والحسد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال والبخل وكتاب ذم الجاه والرياء وكتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغرور‏.‏

وأما ربع المنجيات فيشتمل على عشرة كتب‏:‏ كتاب التوبة وكتاب الصبر والشكر وكتاب الخوف والرجاء وكتاب الفقر والزهد وكتاب التوحيد والتوكل وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا وكتاب النية والصدق والإخلاص وكتاب المراقبة والمحاسبة وكتاب التفكر وكتاب ذكر الموت‏.‏

فأما ربع العبادات فأذكر فيه من خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل إليه بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطلع عليه وأكثر ذلك مما أهمل في فن الفقهيات‏.‏

وأما ربع العادات فأذكر فيه أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها ودقائق سننها وخفايا وأما ربع المهلكات فأذكر فيه كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطيهر القلب منه وأذكر من كل واحد من تلك الأخلاق حده وحقيقته ثم أذكر سببه الذي منه يتولد ثم الآفات التي عليها تترتب ثم العلامات التي بها تتعرف ثم طرق المعالجة التي بها منها يتخلص كل ذلك مقروناً بشواهد الآيات والأخبار والآثار‏.‏

وأما ربع المنجيات فأذكر فيه كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين وأذكر في كل خصلة حدها وحقيقتها وسببها الذي به تجتلب وثمرتها التي منها تستفاد وعلامتها التي بها تتعرف وفضيلتها التي لأجلها فيها يرغب مع ما ورد فيها من شواهد الشرع والعقل ولقد صنف الناس في بعض هذه المعاني كتباً ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور الأول حل ما عقدوه وكشف ما أجملوه الثاني ترتيب ما بددوه ونظم ما فرقوه الثالث إيجاز ما طولوه وضبط ما قرروه الرابع حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه الخامس تحقيق أمور غامضة اعتاصت على الأفهام لم يتعرض لها في الكتب أصلاً إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد فلا مستنكر أن يتفرد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه أو لا يغفل عن التنبيه ولكن يسهو عن إيراده في الكتب أو لا يسهو ولك يصرفه عن كشف الغطاء عنه صارف فهذه خواص هذا الكتاب مع كونه وإنما حملني على تأسيس هذا الكتاب على أربعة أرباع أمران‏:‏ أحدهما - وهو الباعث الأصلي - أن هذا الترتيب في التحقيق والتفهيم كالضرورة لأن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة وأعني بعلم المكاشفة ما يطلب منه كشف المعلوم فقط وأعني بعلم المعاملة ما يطلب منه مع الكشف العمل به والمقصود من هذا الكتاب علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمع نظر الصديقين وعلم المعاملة طريق إليه ولكن لم يتكلم الأنبياء صلوات الله عليهم مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه‏.‏

وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال علماً منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال - والعلماء ورثة الأنبياء - فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والاقتداء ثم إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر أعني العلم بأعمال الجوارح - وإلى علم باطن - أعني العلم بأعمال القلوب والجاري على الجوارح إما عادة وإما عبادة والوارد على القلوب التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت إما محمود وإما مذموم فبالواجب انقسم هذا العلم إلى شطرين ظاهر وباطن والشطر الظاهر المتعلق بالجوارح انقسم إلى عادة وعبادة والشطر اباطن المتعلق بأحوال القلب وأخلاق النفس انقسم إلى مذموم ومحمود فكان المجموع أربعة أقسام ولا يشذ نظر في علم المعاملة عن هذه الأقسام‏.‏

الباعث الثاني‏.‏

أني رأيت الرغبة من طلبة العلم صادقة في الفقه الذي صلح عند من لا يخاف الله سبحانه وتعالى المتدرع به إلى المباهاة والاستظهار بجاهه ومنزلته في المنافسات وهو مرتب على أربعة أرباع والمتزيي بزي المحبوب محبوب فلم أبعد أن‏.‏

يكون تصوير الكتاب بصورة الفقه تلطفاً في استدراج القلوب ولهذا تلطف بعض من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوضعه على هيئة تقويم النجوم موضوعاً في الجداول والرقوم وسماه تقويم الصحة ليكون أنسهم بذلك الجنس جاذباً لهم إلى المطالعة والتلطف في اجتذاب القلوب ولهذا تلطف بعض من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوضعه على هيئة تقويم النجوم موضوعاً في الجداول والرقوم وسماه تقويم الصحة ليكون أنسهم بذلك الجنس جاذباً لهم إلى المطالعة والتلطف في اجتذاب القلوب إلى العلم الذي يفيد حياة الأبد أهم من التلطف في اجتذابها إلى الطب الذي لا يفيد إلا صحة الجسد فثمرة هذا العلم طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآباد فأين منه الطب الذي يعالج به الأجساد وهي معرضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد فنسأل الله سبحانه التوفيق للرشاد والسداد إنه كريم جواد‏.‏

كتاب العلم

وفيه سبعة أبواب الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم الباب الثاني في فرض العين وفرض الكفاية من العلوم وبيان حد الفقه والكلام من علم الدين وبيان علم الآخرة وعلم الدنيا الباب الثالث فيما تعده العامة من علوم الدين وليس منه وفيه بيان جنس العلم المذموم وقدره الباب الرابع في آفات المناظرة وسبب اشتغال الناس بالخلاف والجدل الباب الخامس في آداب المعلم والمتعلم الباب السادس في آفات العلم والعلماء والعلامات الفارقة بين علماء الدنيا والآخرة الباب السابع في العقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار‏.‏

الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل فضيلة العلم

شواهدها من القرآن قوله عز وجل ‏"‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ‏"‏ فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً وجلاء ونبلاً‏.‏

وقال الله تعالى ‏"‏ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ‏"‏ قال ابن عبس رضي الله عنهما‏:‏ للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به ‏"‏ تنبيهاً على أنه اقتدر بقوة العلم‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ‏"‏ بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ‏"‏ رد حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله‏.‏

وقيل في قوله تعالى ‏"‏ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سواءتكم - يعني العلم - وريشاً - يعني اليقين - ولباس التقوى ‏"‏ يعني الحياء‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فلنقصن عليهم بلعم ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ خلق الإنسان علمه البيان ‏"‏ وإنما ذكر في معرض الامتنان‏.‏

وأما الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏ ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يستغفر للعالم ما في السموات والأرض وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك ‏"‏ وقد نبه بهذا على ثمراته في الدنيا ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خصلتان لا يكونان في منافق‏:‏ حسن سمت وفقه في الدين ‏"‏ ولا تشكن في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته وسيأتي معنى الفقه‏.‏

وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد‏:‏ أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لموت قبيلة أيسر من موت عالم ‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حمل من أمتي أربعين حديثاً لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيهاً عالماً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من تفقه في دين الله عز وجل كفاه الله تعالى ما أهمه ورزقه من حيث لا يحتسب ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام‏:‏ يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ العالم أمين الله سبحانه في الأرض ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس‏:‏ الأمراء والفقهاء ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم وقال صلى الله عليه وسلم في تفضيل العلم على العبادة والشهادة ‏"‏ فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي ‏"‏ فانظر كيف جعل العلم مقارناً لدرجة النبوة وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ولولاه لم تكن عبادة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يشفع يوم القيامة ثلاثة‏:‏ الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ‏"‏ فأعظم بمرتبة هي تلو النبوة وفوق الشه ادة مع ما ورد في فضل الشهادة‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه العمل فيه خير من العلم‏.‏

وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه والعلم فيه خير من العمل ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ‏"‏ وقيل‏:‏ يا رسول الله أي الأعمال أفضل فقال ‏"‏ العلم بالله عز وجل ‏"‏ فقيل‏:‏ أي العلم تريد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ العلم بالله سبحانه ‏"‏ فقيل له‏:‏ نسأل عن العمل وتجيب عن العلم‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يبعث الله سبحانه العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء ثم يقول‏:‏ يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم ‏"‏ نسأل الله حسن الخاتمة‏.‏

وأما الآثار فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل‏:‏ يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم والمال محكوم عليه والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق‏.‏

وقال علي أيضاً رضي الله عنه‏:‏ العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وقال رضي الله عنه نظماً‏:‏ ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرىء ماكان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء وقال أبو الأسود‏:‏ ليس شيء أعز من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه وسئل ابن المبارك‏:‏ من الناس فقال‏:‏ العلماء‏.‏

قيل‏:‏ فمن الملوك قال‏:‏ الزهاد‏.‏

قيل‏:‏ فمن السفلة قال‏:‏ الذين يأكلون الدنيا بالدين ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله وليس ذلك بقوة شخصه فإن الجمل أقوى منه ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه بل لم يخلق إلا للعلم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فاته من أدرك العلم‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظم الله تعالى ‏"‏ وقال فتح الموصلي رحمه الله‏:‏ أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت‏.‏

ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته كما أن غذاء الجسم الطعام ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعاً فإذا

حط الموت عنه أعباء الدنيا أحس بهلاكه وتحسر تحسراً عظيماً ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن خوفه والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا‏.‏

وقال الحسن رحمه الله‏:‏ يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ عليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه موت رواته فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم فإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنها‏:‏ تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها وكذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد بن حنبل رحمه الله‏.‏

وقال الحسن في قوله تعالى ‏"‏ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ‏"‏ إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة وفي الآخرة هي الجنة‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ إن الأشياء تقتنى قال‏:‏ الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك يعني العلم وقيل‏.‏

أراد بغرف السفينة هلاك بدنه بالموت‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ من اتخذ الحكمة لجاماً اتخذه الناس إماماً ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار‏.‏

وقال الشافعي رحمة الله عليه‏:‏ من شرف للعلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ يا أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه فمن طلب باباً من العلم رداه الله عز وجل بردائه فإن أذنب ذنباً استعتبه ثلاث مرات لئلا يسلبه رداءه ذلك وإن تطاول يه ذلك الذنب حتى يموت‏.‏

وقال الأحنف رحمه الله‏:‏ كاد العلماء أن يكونوا أرباباً وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره‏.‏

وقال سالم بن أبي الجعد‏:‏ اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني فقلت بأي شيء أحترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً فلم آذن له‏.‏

وقال الزبير بن أبي بكر‏:‏ كتب إلي أبي بالعراق‏:‏ عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً وإن استغنيت كان لك جمالاً‏.‏

وحكى ذلك في وصايا لقمان لابنه قال‏:‏ يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ إذا مات العالم بكاه الحوت في الماء والطير في الهواء ويفقد وجهه ولا ينسى ذكره‏.‏

وقال الزهري رحمه الله‏:‏ العلم ذكر ولا تحبه إلا ذكران الرجال‏.‏

فضيلة التعلم أما الآيات فقوله تعالى ‏"‏ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ‏"‏ أما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اطلبوا العلم ولو بالصين ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طلب العلم فريضة على كل مسلم ‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ العلم خزائن مفاتيحها السؤال ألا فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة‏.‏

السائل والعالم والمستمع والمحب لهم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه ‏"‏ وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه ‏"‏ حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة ‏"‏ فقيل يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهل ينفع القرآن إلا بالعلم ‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة ‏"‏ وأما الآثار فقال ابن عباس رضي الله عنها ذللت طالباً فعززت مطلوباً‏.‏

وكذلك قال ابن أبي مليكة رحمه الله‏:‏ ما رأيت مثل ابن عباس إذا رأيته رايت أحسن الناس وجهاً‏.‏

وإذا تكلم فأعرب الناس لساناً وإذا أفتى فأكثر الناس علماً‏.‏

وقال ابن المبارك رحمه الله‏:‏ عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الحكماء‏:‏ إني لا أرحم رجالاً كرحمتي لأحد رجلين‏:‏ رجل يطلب العلم ولا يفهم ورجل يفهم العلم ولا يطلبه‏.‏

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك‏.‏

وقال عطاء‏:‏ مجلس علم يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه‏.‏

وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ طلب العلم أفضل من النافلة‏.‏

وقال ابن عبد الحكم رحمه الله‏:‏ كنت عند مالك أقرأ عليه العلم فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي فقال‏:‏ يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية‏.‏

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله‏.‏

فضيلة التعليم أما الآيات فقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ‏"‏ والمراد هوالتعليم والإرشاد‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ‏"‏ وهو إيجاب للتعليم‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وإن فريقاً ليكتمون الحق وهم يعلمون ‏"‏ وهو تحريم للكتمان كما قال تعالى في الشهادة ‏"‏ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما آتى الله عالماً علماً إلا وأخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ويعلمهم الكتاب والحكمة ‏"‏ وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ‏"‏ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من تعلم باباً من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقاً ‏"‏ وقال عيسى صلى الله عليه وسلم‏:‏ من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السموات‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا كان يوم القيامة يقول الله سبحانه للعابدين والمجاهدين‏:‏ ادخلوا الجنة فيقول العلماء بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا فيقول الله عز وجل‏:‏ أنتم عندي كبعض ملائكتي اشفعوا تشفعوا فيشفعون ثم يدخلون الجنة ‏"‏ وهذا إنما يكون بالعلم المتعدى بالتعليم لا العلم اللازم الذي لا يتعدى‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعاً من الناس بعد أن يؤتيهم إياه ولكن يذهب بذهاب العلماء فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى إذا لم يبق إلا رؤساء جهالاً إن سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من علم علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه أو معلماً أو متعلماً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله سبحانه وملائكته وأهل سمواته وأرضه حتى النملة في جحرها حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعلمها ويعمل بها خير له من عبادة سنة ‏"‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه والثاني يعلمون الناس فقال ‏"‏ أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلمون الناس وإنما بعثت معلماً ثم عدل إليهم وجلس معهم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ‏"‏‏.‏

فالأول ذكره مثلاً للمنتفع بعلمه والثاني ذكره مثلاً للنافع والثالث للمحروم منهما وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ علم ينتفع به الحديث ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الدال على الخير كفاعله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الخير ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ على خلفائي رحمة الله ‏"‏ قيل‏:‏ ومن خلفاؤك قال ‏"‏ الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله ‏"‏ وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه‏:‏ من حدث حديثاً فعمل به فله مثل أجر من عمل ذلك العمل‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل‏.‏

وروي أن سفيان الثوري رحمه الله قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان فقال‏:‏ اكروا لي لأخرج من هذا البلد هذا بلد يموت فيه العلم‏.‏

وإنما قال ذلك حرصاً على فضيلة التعليم واستقباء العلم به وقال عطاء رضي الله عنه‏:‏ دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي فقلت‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ ليس أحد يسألني عن شيء‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ العلماء سرج الأزمنة كل واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره‏.‏

وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم‏:‏ أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ إن لهذا العلم ثمناً‏.‏

قيل وما هو قال‏:‏ أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم‏.‏

قيل‏:‏ وكيف ذلك قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره‏.‏

وقيل‏:‏ علم علمك من يجهل وتعلم ممن يعلم ما تجهل فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت‏.‏

وقال معاذ بن جبل في التعليم والتعلم ورأيته أيضاً مرفوعاً ‏"‏ تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على الدين والمصبر على السراء والضراء والوزير عند الأخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدي بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أفعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وكل رطب ويابس لهم يستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى‏.‏

ونور الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد وبه يمجد وبه يتورع وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام وهو إمام والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء‏.‏

نسأل الله تعالى حسن التوفيق‏.‏

في الشواهد العقلية اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيداً حكيم أم لا وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها‏.‏

والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال‏:‏ الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل لأن تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة‏.‏

واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره والمطلوب لغيره‏:‏ الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة‏.‏

والذي يطلب لذاته‏:‏ فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى‏.‏

والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن فإن سلامة الرجل مثلاً مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للشيء بها والتوصل إلى المآرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذاً في نفسه فيكون مطلوباً لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضاً بشرف ثمرته‏!‏ وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها‏:‏ هذه فضيلة العلم مطلقاً ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها‏.‏

وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلباً للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لم اتخذها آلة ومنزلاً لمن يتخذها مستقراً ووطناً وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين‏.‏

وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها أصول لا قوا للعالم دونها وهي أربعة‏:‏ الزراعة وهي للمطعم‏.‏

والحياكة وهي للملبس‏.‏

والبناء وهو للمسكن‏.‏

والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها‏.‏

الثاني ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها‏:‏ كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها‏.‏

الثالث ما هي متممة للأصول ومزينة كالطحن والخبز للزراعة وكالقصارة والخياطة للحياكة وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته فإنها ثلاثة أضرب أيضاً‏:‏ إما أصول كالقلب والكبد والدماغ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين وأشرف هذه الصناعات أصولها وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب‏:‏ الأولى - وهي العليا‏:‏ سياسة الأنبياء عليهم السلام وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً في ظاهرهم وباطنهم‏.‏

والثانية‏:‏ الخلفاء والملوك والسلاطين وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم‏.‏

والثالثة‏:‏ العلماء بالله عز وجل وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء وحكمهم على باطن الخاصة فقط ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع‏.‏

والرابعة‏:‏ الوعاظ وحكمهم على بواطن العوام فقط فأشرف هذه الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة وهو المراد بالتعليم وإنما قلنا إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات لأن شرف الصناعات يعرف بثلاثة أمور‏:‏ إما بالالتفات إلى الغريرزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العقول العقلية على اللغوية‏:‏ إذ تدرك الحكمة بالعقل واللغة بالسمع والعقل أشرف من السمع وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة‏:‏ إذ محل أحدهما الذهب ومحل الآخر جلد الميتة وليس يخفي أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء والعقل أشرف صفات الإنسان كما سيأتي بيانه إذ به تقبل أمانة الله وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه‏.‏

وأما عموم النفع فلا يستراب فيه فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة‏.‏

وأما شرف المحل فكيف يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل فتعليم العلم من وجه‏:‏ عبادة لله تعالى ومن وجه خلافة لله تعالى وهو من أجل خلافة الله فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته‏.‏

فهو كالخازن لأنفس خز ائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى جعلنا الله منهم بكرمه وصلى الله على كل عبد مصطفى‏.‏

الباب الثاني في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما

وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية وبيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حد هو وتفضيل علم الآخرة‏.‏

بيان العلم الذي هو فرض عين‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏"‏ طلب العلم فريضة على كل مسلم ‏"‏ وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اطلبوا العلم ولو بالصين ‏"‏ واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة ولا نطيل بنقل التفصيل ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده فقال المتكلمون‏:‏ هو علم الكلام إذ به يدرك التوحيد ويعلم به ذات الله سبحانه وصفاته وقال الفقهاء‏:‏ هو علم الفقهاء‏:‏ هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة وقال المفسرون والمحدثون‏:‏ هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها‏.‏

وقال المتصوفة‏:‏ المراد به هذا العلم فقال بعضهم‏:‏ هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو علم الباطن وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه‏.‏

وقال أبو طالب المكي‏:‏ هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام وهوقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله ‏"‏ إلى آخر الحديث لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب‏.‏

والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره‏:‏ وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة‏.‏

والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة‏:‏ اعتقاد وفعل وترك فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلاً فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول ‏"‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله ‏"‏ وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزماً من غير اختلاج ريب واضطراب نفس وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان إذ اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل‏.‏

فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعاً لله عز وجل غير عاص له وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضرورياً في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد‏.‏

أما الفعل‏:‏ فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة فإن كان صحيحاً وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم فلا يبعد أن يقال‏:‏ الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت‏.‏

ويحتمل أن يقال‏:‏ وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدد بسببه وجوب تعلم الصوم‏:‏ وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين فإن تجدد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل وكذلك في سائر الأصناف فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكاً حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضاً نفل فعلمه أيضاً نفل فلا يكون تعلمه فرض عين وفي تحريم السكوت عن التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين‏.‏

وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن فذلك أيضاً واجب بحسب ما يقتضيه الحال فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابساً للحرير أو جالساً في الغصب أو ناظراً إلى غير ذي محرم فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابساً له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه‏.‏

وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك‏.‏

فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلاً للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعاً ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يحظر بالطبع وبعضها يحظر بالسماع من أهل البلد فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك حق أيضاً ولكن في حق من يتصدى له فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من علم ربع المهلكات ما يرى نفسه محتاجاً إليه وكيف لا يجب عليه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث مهلكات‏:‏ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ‏"‏ ولا ينفك عنها بشر وبقية ما سنذكره من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب وأخواتها تتبع هذه الثلاث المهلكات وإزالتها فرض عين ولا يمكن إزالتها إلا بمعرةف حدودها ومعرفة أسبابها ومعرةف علاماتها ومعرفة علاجها فإن من لا يعرف الشر يقع فيه والعلاج هو مقابلة السبب بضده وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب وأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان وقد تركها الناس كافة اشتغالاً بما لا يعني‏.‏

ومما ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى‏:‏ الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق وهو من تتمة كلمتي الشهادة فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولاً ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها‏:‏ وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة ومن عصاهما فله النار فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالباً فإذا تبين أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام في قوله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير فقد اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه والله أعلم‏.‏

بيان العلم الذي هو فرض كفاية

اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة‏:‏ فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة‏:‏ أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان‏.‏

وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما‏.‏

وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد‏.‏

وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين‏.‏

فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة‏.‏

فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك‏.‏

فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه‏.‏

فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله‏.‏

وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه‏.‏

ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه‏.‏

وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات‏.‏

وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها‏.‏

وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه‏.‏

أما العلوم الشرعية وهي المقصود بالبيان‏:‏ فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة‏.‏

أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي أربعة أضرب الضرب الأول الأصول‏:‏ وهي أربعة كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله عليه السلام وإجماع الأمة وآثار الصحابة والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة‏.‏

وكذا الأثر فإنه أيضاً يدل على السنة‏.‏

لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن‏.‏

فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم والتمسك بآثارهم وذلك بشرط مخصوص على وجه مخصوص عند م يراه ولا يليق بيانه بهذا الفن الضرب الثاني الفروع‏:‏ وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله عليه السلام ‏"‏ لا يقضي القاضي وهو غضبان ‏"‏ أنه لا يقضي إذا كان خائفاً أو جائعاً أو متألماً بمرض‏.‏

وهذا على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا‏.‏

والثاني‏:‏ ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب‏.‏

والضرب الثالث المقدمات وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضرورياً إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً‏.‏

ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضرورياً الضرب الرابع المتممات‏:‏ وذلك في علم القرآن فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضاً على النقل إذ اللغة بمجردها لا تستقل به وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر‏.‏

وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضاً‏.‏

وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم والعلم بالعدالة في الرواة والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات‏.‏

فإن قلت‏.‏

لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا فاعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم‏.‏

وخلق الدينا زاداً للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنياح فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا‏.‏

والملك والدين توأمان فالدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه‏.‏

وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به فكذلك معرفة طريق السياسة فمعلوم أن الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث ومعرفعة طرق

الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة ويدل على ذلك ما روي مسنداً ‏"‏ لا يفتي الناس إلا ثلاثة‏:‏ أمير أو مأمور أو متكلف ‏"‏ فالأمير هو الإمام وقد كانوا هم المفتون والمأمور نائبه والمتكلف غيرهما‏:‏ وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة‏.‏

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحترزون عن الفتوى حتى كان يحيل كل منهم على صاحبه وكانوا لا يحترزون إذا سئلوا عن علم القرآن وطريق الآخرة‏.‏

وفي بعض الروايات بدل المتكلف‏:‏ المرائي فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمال‏.‏

فإن قلت‏:‏ هذا إن استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات وفصل الخومات فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلا ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بيان الحلال والحرام فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيه من الأعمال التي هي

أعمال الآخرة ثلاثة‏:‏ الإسلام والصلاة والزكاة والحلال والحرام فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر‏.‏

أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان‏.‏

وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال ‏"‏ هلا شققت عن قلبه ‏"‏ للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً بأنه قال ذلك من خوف السيف بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة ولكنه مثير على صاحب السيف فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال وذلك في الدنيا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ‏"‏ وجعل أثر ذلك في الدم والمال‏.‏

وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها وليس ذلك من الفقه وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجاً عن فنه‏.‏

وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولاً بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عنه القتل والتعزير فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه ولو تعرض له لكان خارجاً عن فنه وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهراً حكم بأنه برئت ذمته‏.‏

وحكى أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة فحكى ذلك لأبي حنيفة رحمه الله فقال ذلك من فقهه‏.‏

وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية ومثل هذا هو العلم الضار‏.‏

وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين ولكن الورع له أربع مراتب الأولى الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة‏:‏ وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر الثانية ورع الصالحين‏:‏ وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دع ما يريبك إلى ما يريبك ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإثم حزاز القلوب ‏"‏ الثالثة ورع المتقين وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف مه أداؤه إلى الحرام‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به بأس ‏"‏ وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خيفة م الانجرار إلى الغيبة والتورع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات الرابعة ورع الصديقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله عز وجل وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى‏:‏ وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصة ‏"‏ استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك ‏"‏ والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها بل فيما يقدح في العدالة فقط فإن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر‏.‏

وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول‏:‏ إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به فكيف يظن أنه علم الظهار واللعان والسلم والإجارة والصرف ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات والشرف هو تلك الأعمال‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم سويت بين الفقه والطب إذ الطب أيضاً يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد وذلك يتعلق به أيضاً صلاح الدين وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين فاعلم أن التسوية غير لازمة بل بينهما فرق وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه أحدها أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع والثاني أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة ألبتة لا الصحيح ولا المريض‏.‏

وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون والثالث أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة والمذموم يصدر من المذموم وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب‏.‏

وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضاً شرف علم طريق الآخرة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فصل لي علم طريق الآخرة تفصيلاً يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله‏.‏

فاعلم أنه قسمان‏:‏ علم مكاشفة وعلم معاملة فالقسم الأول علم المكاشفة وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم فقد قال بعض العارفين‏:‏ من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله‏.‏

وقال آخر‏:‏ من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم‏:‏ بدعة أو كبر‏.‏

وقيل‏:‏ من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئاً وينشد على قوله‏:‏ وهو علم الصديقين والمقربين أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمة في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى ‏"‏ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ‏"‏ ومعنى قوله تعالى ‏"‏ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ‏"‏ ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الوكب الدري في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضه يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء‏.‏

وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام‏:‏ وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تنضج له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة‏:‏ العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والافتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها وبالعلم والتعليم وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة وبطريق الأسرار وهذا هو العلم الخفي الذي أراده صلى الله عليه وسلم بقوله ‏"‏ إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً منه فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه ‏"‏ وأما القسم الثاني‏:‏ وهو علم المعاملة فهو علم أحوال القلب‏:‏ أما ما يحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تكتسب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى ومازال حتى يعود من علم الآخرة وأما ما يذم فخوف الفقر وسخط المقدور والغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو وحب الثناء وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع والكبر والرياء والغضب والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهاة والاستكبار عن الحق والخوض فيما لا يعني وحب كثرة الكلام والصلف والتزين للخلق والمداهنة والعجب والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس وزوال الحزن من القلب وخروج الخشية منه وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل وضعف الانتصار للحق واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى والاتكال على الطاعة والمكر والخيانة والمخادعة وطول الأمل والقسوة والفظاظة والفرح بالدنيا والأسف على فواتها والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء والطيش والعجلة وقلة الحياء وقلة الرحمة فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة‏.‏

وأضدادها - وهي الأخلاق المحمودة - منبع الطاعات والقربات فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة‏.‏

ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلالكه في الآخرة ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين وإذا روجع فيه قال‏:‏ اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين بل قدم عليه كثيراً من فروض الكفايات فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه ثم لا نرى أحداً يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب‏:‏ كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب ويسأله‏:‏ كيف يفعل في كذا وكذا فيقال له‏:‏ مثلك يسأل هذا البدوي فيقول‏:‏ إن هذا وفق لما أغفلناه‏.‏

وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما وكانا يسألانه وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم ‏"‏ ولذلك قيل‏:‏ علماء الظاهر زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت‏.‏

وقال الجنيد رحمه الله قال لي السري شيخي يوماً‏:‏ إذا قمت من عندي فمن تجالس قلت‏:‏ المحاسبي فقال‏:‏ نعم خذ من علمه وأدنه ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين ثم لما وليت سمعته يقول‏:‏ جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث‏:‏ أشار إلى أن من حصل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم لم تورد في أقسام العلوم‏:‏ الكلام والفلسفة وتبين أنهما مذمومان أو محمودان فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من لادلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل لمقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة ونجت جماعة لفقهوا لها شبهاً ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة وذلك إلى حد محدود - سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى - وأما الفلسفة فليست علماً برأسها بل هي أربعة أجزاء أحدها الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما - لا لعينهما - كما يصان عصبى عن شاطىء النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر وكما يصان حديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفاً عليه مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتتهم الثاني المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه لحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام أيضاً والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم بل انفردوا بمذاهب‏:‏

بعضها كفر وبعضها بدعة وكما أن الاعتزال ليس علماً برأسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر انفردوا بمذاهب باطلة فكذلك الفلاسفة والرابع الطبيعيات وبعضها مخالف للشرع والدين والحق فهو جهل وليس بعلم حتى نورده في أقسام العلوم وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها وهو شبيه بنظر الأطباء إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه‏.‏

وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها فإذن الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة وإنما حدث ذلك بحدوث البدع كما حدثت حاجة الإنسان إلى استئجار البذرقة في طريق الحج بحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق ولو ترك العرب عدوانهم لم يكن استئجار الحراس من شروط طريق الحج فلذلك لو ترك المبتدع هذيانه لما افتقر إلى الزيادة على ما عهد في عصر الصحابة رضي الله عنهم فليعلم المتكلم حده من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج والمتكلم إذا تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلاً وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام وهي من جملة أعمال ظاهر القلب واللسان وإنما يتميز عن العامي بصنعة المجادلة والحراسة فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم المكاشفة فلا يحصل من علم الكلام بل يكاد أن يكون الكلام حجاباً عليه ومانعاً عنه وإنما الوصول إليه المجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى ‏"‏ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ‏"‏ فإن قلت‏:‏ فقد رددت حد المتكلم إلى حراسة عقيدة العوام عن تشويش المبتدعة كما أن حد البذرقة حراسة أقمشة الحجيج عن نهب العرب ورددت حد الفقيه إلى حفظ القانون الذي به يكف السلطان شر بعض أهل العدوان عن بعض وهاتان رتبتان نازلتان بالإضافة إلى علم الدين وعلماء الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون وهم أفضل الخلق عند الله تعالى فكيف تنزل درجاتهم إلى هذه المنزلة السافلة بالإضافة إلى علم الدين فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدمهم وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولا يشق غبارهم ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها وما فضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثر صيام ولا صلاة ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام ولكن بشيء وقر في صدره كما شهد له سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم فليكن حرصك في طلب ذلك السر فهو الجوهر النفيس والدر المكنون ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواع يطول تفصيلها فلقد قبض رسول

اله صلى الله عليه وسلم عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم كلهم علماء بالله أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلاً ولقد كان ابن عمر رضي الله عنهما منهم وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل‏:‏ اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس وضعها في عنقه إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام م توابع الولاية والسلطنة ولما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود‏:‏ مات تسعة أعشار العلم فقيل له‏:‏ أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة فقال‏:‏ لم أرد علم الفتيا والاحكام إنما أريد العلم بالله تعالى أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعة أعشاره وهو الذي سد باب الكلام والجدل وضرب ضبيعاً بالدرة لما أورد عليه سؤالاً في تعارض آيتين في كتاب الله وهجره وأمر الناس بهجره وأما قولك إن المشهورين من العلماء هم الفقهاء والمتكلمون فاعلم أن ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه وكان شهرة عمر رضي الله عنه بالسياسة وكان فضله بالعلم الذي مات تسعة أعشاره بموته وبقصده التقرب إلى الله عز وجل في ولايته وعدله وشفقته على خلقه وهو أمر باطن في سره فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه والاسم والسمعة والراغب في الشهرة فتكون الشهرة فيما هو المهلك والفضل فيما هو سر لا يطلع عليه أحد فالفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء والقضاة والعلماء وقد انقسموا فمنهم من أراد الله سبحانه بعلمه وفتواه وذبه عن سنة نبيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب وليس كل عمل علماً والطبيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثاباً على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به والسلطان يتوسط بين الخلق لله فيكون مرضياً عند الله سبحانه ومثاباً لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله عز وجل بعلمه‏.‏

وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة‏:‏ علم مجرد وهو علم المكاشفة وعمل مجرد وهو كعدل السلطان مثلاً وضبطه للناس ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعاً فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله وأعمال الله تعالى أوفى حزبهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل‏:‏ خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بيانه في باب علامات علماء الآخرة فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبين لها ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة ولا حاجة إلى ذكرها‏.‏

ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعناً فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق - أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة‏:‏ الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى‏.‏

وكل واحد منهم كان عابداً وزاهداً وعالماً بعلوم الآخرة وفقيهاً في مصالح الخلق في الدنيا ومربداً بفقهه وجه الله تعالى فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التسمير والمبالغة في تفاريع الفقه لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح الدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة قل صلاحها للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة‏.‏

أما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيدل على أنه كان عابداً‏:‏ ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء‏:‏ ثلثا العلم وثلثاً للعبادة وثلثاً للنوم‏.‏

قال الربيع‏:‏ كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة‏.‏

وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة‏.‏

وقال الحسن الكرابيسي‏:‏ بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة آية وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً ‏.‏

فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جده في العبادة إذ طرح الشبع لأجلها ورأس التعبد تقليل الطعام‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه‏.‏

وسئل الشافعي رضي الله عنه عن مسئلة فكست فقيل له‏:‏ ألا تجيب رحمك الله فقال‏:‏ حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطاً على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب‏.‏

وقال أحمد بن يحيى بن الوزير‏:‏ خرج الشافعي رحمه الله تعالى يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي إلينا وقال‏:‏ نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به فإن المستمع شريك القائل وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها‏.‏

وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ كتب حكيم إلى حكيم‏:‏ قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم‏.‏

وأما زهده رضي الله عنه فقد قال الشافعي رحمه الله‏:‏ من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب‏.‏

وقال الحميدي‏:‏ خرج الشافعي رحمه الله إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً عن مكة فكان الناس يأتونه فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها‏.‏

وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً‏.‏

وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين ديناراً‏.‏

وسخاوة الشافعي رحمه الله أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد‏.‏

ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة‏:‏ ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له‏:‏ قد مات فقال‏:‏ إن مات فقد مات أفضل زمانه‏.‏

وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال‏:‏ كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر‏:‏ ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه‏:‏ خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ هذه الآية عليه ‏"‏ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ‏"‏ فرأيت الشافعي رحمه الله وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق جعل يقول‏:‏ أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك‏.‏

قال‏:‏ ثم مشى وانصرفنا فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي‏:‏ يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره فالتفت إلي فقال‏:‏ هل لك من حاجة فقلت‏:‏ نعم تعلمني مما علمك الله شيئاً فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا ومن أشفق على دينه سلم من الردى ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غداً أفلا أزيدك قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان‏:‏ من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى وحافظ على حدود الله تعالى ألا أزيدك قلت بلى فقال‏:‏ كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين ثم مضى فسألت‏:‏ من هذا فقالوا‏:‏ هو الشافعي فانظر إلى سقطوطه مغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه‏!‏ ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما‏.‏

وأما كونه عالماً بأسرار القلب وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة‏:‏ الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب وفي أي ثواب ترغب ومن أي عقاب ترهب وأي عافية تشكر وأي بلاء تذكر فإنك إذا تفكرت في واحد من هذه الخصال صغر في عينك عملك فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب‏!‏ وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏ من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره‏.‏

وقال‏:‏ ما من أحد إلا له محب ومبغض فإذا كان كذلك فكن مع أهل طاعة الله عز وجل وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلاً صالحاً ورعاً وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه وقال للشافعي يوماً‏:‏ أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين فقال الشافعي رحمه الله‏:‏ التمكين درجة الأنبياء ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكاً والتمكين أفضل الدرجات قال الله عز وجل ‏"‏ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ‏"‏ وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن قال الله تعالى ‏"‏ وآتيناه أهله ومثلهم معهم - الآية ‏"‏ فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء وكل ذلك من علوم الآخرة‏.‏

وقيل للشافعي رحمه الله‏:‏ متى يكون الرجل عالماً قال‏:‏ إذا تحقق في علم الدين فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالماً فإنه قيل لجالينوس إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجمعة‏!‏ فقال‏:‏ إنما المقصود منها واحد وإنما يجعل معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل فهذا وأمثاله مما لا يحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة‏.‏

وأما إرادته بالفقه والمناظرة فيه وجه الله تعالى‏:‏ فيدل عليه ما روي عنه قال‏:‏ وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلى شيء منه فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم له وكيف الاسم له وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه مجرد النية فيه لوجه الله تعالى‏.‏

وقال الشافعي رضي الله عنه‏.‏

ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطىء‏.‏

وقال‏:‏ ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحظف وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه‏:‏ وقال‏:‏ ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته فهذه العلامات هي التي تدل على إرادة الله تعالى بالفقه والمناظرة فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط ثم كيف خالفوه فيها أيضاً ولهذا قال أبو ثور رحمه الله‏:‏ ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي رحمه الله تعالى‏.‏

وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه‏:‏ ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله تعالى فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار وما بينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء ولكثرة دعائه له قال له ابنه‏:‏ أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء فقال أحمد‏:‏ يا بني كان الشافعي رحمه الله تعالى كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف وكان أحمد رحمه الله يقول‏:‏ ما مس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه منة‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو فيها للشافعي لما فتح الله عز وجل عليه من العلم ووفقه للسداد فيه‏.‏

ولنقتصر على هذه النبذة من أحواله فإن ذلك خارج عن الحصر وأكثر هذه المناقب نقلناه من الكتاب الذي صنفه الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى في مناقب الشافعي رضي الله عنه وعن جميع المسلمين‏.‏

وأما الإمام مالك رضي الله عنه فإنه كان أيضاً متحلياً بهذه الخصال الخمس فإنه قيل له‏:‏ ما تقول يا مالك في طلب العلم فقال‏:‏ حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه وكان رحمه الله تعالى في تعظيم علم الدين مبالغاً حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مالك‏:‏ العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى‏.‏

وأما إرادته وجه الله تعالى بالعلم فيدل عليه قوله‏:‏ الجدال في الدين ليس بشيء‏.‏

ويدل عليه قول الشافعي رحمه الله‏:‏ إني شهدت مالكاً وقد سئل عن ثمان وأربعين مسئلة فقال في اثنتين وثلاثين منها‏:‏ لا أدري‏.‏

ومن يرد غير وجه الله تعالى بعلمه فلا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب وما أحد أمن علي من مالك‏.‏

وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من يسأله فروى على ملأ من الناس‏:‏ ليس على مستكره طلاق فضربه بالسياط ولم يترك رواية الحديث‏.‏

وقال مالك رحمه الله‏:‏ ما كان رجل صادقاً في حديثه ولا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف‏.‏

وأما زهده في الدنيا فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له‏:‏ هل لك من دار فقال‏:‏ لا ولكن أحدثك ‏"‏ سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول‏:‏ نسب المرء داره ‏"‏ وسأله الرشيد‏:‏ هل لك دار فقال‏:‏ لا فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال‏:‏ اشتر بها داراً فأخذها ولم ينفقها فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك رحمه الله‏:‏ ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن فقال له‏:‏ أما حمل الناس على اموطأ فليس إليه سبيل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند كل أهل مصر علم وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اختلاف أمتي رحمة ‏"‏ وأما الخروج معك فلا سبيل إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المدينة خير لهم لو كانوا

يعلمون ‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ‏"‏ وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهكذا كان زهد مالك في الدنيا‏.‏

ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال‏:‏ وإنما الزهد فراغ القلب عنه ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد‏.‏

ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال‏:‏ رأيت على باب مالك كراعاً من أفراس خراسان ويقال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك رحمه الله‏:‏ ما أحسنه فقال‏:‏ هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت‏:‏ دع لنفسك منها دابة تركبها فقال‏:‏ إني أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة‏.‏

ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقار للدنيا‏:‏ ما روي أنه قال دخلت على هرون الرشيد فقال لي‏:‏ يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبيانك منك الموطأ‏.‏

قال‏:‏ فقلت أعز الله مولانا الأمير إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل والعلم يؤتى ولا يأتي فقال‏:‏ صدقت اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس‏.‏

وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلقد كان أيضاً عابداً زاهداً بالله تعالى خائفاً منه مريداً وجه الله تعالى بعلمه فأما كونه عابداً فيعرف بما روي عن ابن المبارك أنه قال‏:‏ كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة‏.‏

وروى حماد بن أبي سليمان أنه كان يحيي الليل كله‏.‏

وروي أنه كان يحيي نصف الليل فمر يوماً في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي فقال لآخر‏:‏ هذا هو الذي يحي الليل كله فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله وقال‏:‏ أنا أستحيي من الله سبحانه أن أوصف بما ليس في من عبادته‏.‏

وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم قال‏:‏ أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه فأراده أن يكون حاكماً على بيت المال فأبى فضربه عشرين سوطاً‏.‏

فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب‏!‏ قال الحكم بن هشام الثقفي‏:‏ حدثت بالشام حديثاً في أبي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانة وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى‏.‏

وروي أنه ذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك فقال‏:‏ أتذكرون رجلاً عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها‏.‏

وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبي حنيفة‏:‏ قد أمر لك أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بعشرة آلاف درهم‏.‏

قال‏:‏ فما رضي أبو حنيفة قال‏:‏ فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى بالمال فيه صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال فدخل عليه فلم يكلمه فقال بعض من حضر‏:‏ ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة أي هذه عادته‏.‏

فقال‏:‏ ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته وقال لابنه‏:‏ إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن ابن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة‏.‏

قال ابنه‏:‏ ففعلت ذلك فقال الحسن‏:‏ رحمة الله على أبيك فلقد كان شحيحاً على دينه‏.‏

وروي أنه دعي إلى ولاية القضاء فقال‏:‏ أنا لا أصلح لهذا فقيل له‏:‏ لم فقال‏:‏ إن كنت صادقاً فما أصلح لها وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء‏.‏

وأما علمه بطريق الآخرة وطريق أمور الدين ومعرفته بالله عز وجلفيدل عليه شدة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا وقد قال ابن جريج‏:‏ قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى‏.‏

وقال شريك النخعي‏:‏ كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة‏.‏

وأما الإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى فأتباعهما أقل من أتباع هؤلاء وسفيان أقل أتباعاً من أحمد ولكن اشتهارهما بالورع والزهد أظهر وجميع هذا الكتاب مشحون بحكايات أفعالهما وأقوالهما فلا حاجة إلى التفصيل الآن فانظر الآن في غير هؤلاء الأئمة الثلاثة وتأمل أن هذه الأحوال والأقوال والأفعال في الإعراض عن الدنيا والتجرد لله عز وجل هل يثمرها مجرد العلم بفروع الفقه من معرفة السلم والإجارة والظهار والإيلاء واللعان أو يثمرها علم آخر أعلى وأشرف منه وانظر إلى الذين ادعوا الاقتداء بهؤلاء أصدقوا في دعواهم أم لا ‏.‏